رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

الاستدامة لحياة أفضل في مشيرب قلب الدوحة

تقليل 80 % من المخلفات في مواقع أعمال المشروع يشكّل مشروع مشيرب قلب الدوحة نموذجاً ساطعاً لمفهوم الابتكار الذي تسعى قطر إلى تطبيقه وفقاً للرؤية الوطنية 2030؛ خاصة فيما يتعلق بجوانب الاستدامة، بهدف الارتقاء بأسلوب حياة الناس في قطر وتحسين الطريقة التي يعملون ويعيشون بها وبدون التفريط في التراث والثقافة القطريّة. إن الاستدامة تعني قدرة البشر على الحفاظ على نوعية الحياة التي نعيشها على المدى الطويل، وهو الأمر الذي يعتمد في الأصل على استمرارية الموارد الطبيعية وعلى دورة منظومة العالم الطبيعي. ولا شك أن الاستدامة تتطلب جهداً جماعياً والتزاماً من الأفراد والمجتمعات والحكومات، وهو الأمر الذي يحتاج إلى العديد من السياسات والتطبيقات، حيث إنها أمر يتوغل في العديد من القطاعات مثل الزراعة والطاقة والهندسة وبناء القرى والبلدان والمدن، وتعديل الأساليب الاستهلاكية للأفراد والشركات، فالاستدامة مبدأ يجب أن نتبعه في حياتنا بشكل عام. لذلك كان شعارنا في مشيرب العقارية ونحن نعمل على تصميم وإعادة إحياء حي وسط المدينة هو أن الاستدامة أسلوب حياة، والناظر بتمعن يجدها جزءا لا يتجزأ من نسيج مشيرب قلب الدوحة. الاستدامة في التصميم والتنفيذ: كان اختيار الشركات ذات الممارسات المستدامة أمراً رئيسياً لإتمام أعمال الإنشاءات بأقل أثر بيئي ممكن، وقد نجحنا بالفعل في تقليل حوالي 80% من المخلفات في مواقع الأعمال، كما تم استخدام مواد معاد تدويرها من قطر والمنطقة. الاستدامة في المكان: حرصنا على تصميم الشوارع وتوقيع المباني بطريقة تضمن تقليل استهلاك الطاقة تلقائياً. فمثلاً، يوجد تدرج في أطوال المباني لتلقي بظلالها على بعضها البعض، ولتظلل الشوارع التي صممت أيضا على شكل شبكة متصلة بسكك وممرات ومناطق عبور للمشاة لتشجع مرتادي الحي على المشي بدلاً من استخدام السيارات. ويساعد في ذلك أيضاً أننا وفرنا بدائل للتنقل مثل "ترام مشيرب" الذي يربط المنطقة كلها، وخصصنا طرقا للدراجات الهوائية وأماكن لصفها في كل أنحاء الحي. كما يجد كل من يعمل أو يسكن أو يزور مشيرب كافة الخدمات المدنية والتجارية والترفيهية على مقربة منهم. ومن الأمور الأخرى التي عملنا عليها لاستدامة المكان توفير مناطق خضراء حول مشيرب قلب الدوحة، فالحدائق والأشجار تقلل من نسبة الرطوبة بصورة طبيعية مما يقلل الإحساس بالحرارة ويلطف الجو ويشجع على الحركة بدون سيارات، واستخدمنا في ذلك أيضاً نباتات طبيعية من المنطقة قادرة على التكيف مع الطقس المحلي وأنظمة ري عالية الكفاءة تستعمل المياه المعاد تدويرها من المباني لري النباتات. استدامة المباني: حصلت مباني مشيرب قلب الدوحة على شهادة الريادة في الحفاظ على البيئة العالمية LEED إما فئة ذهبية أو بلاتينية، فكل المباني تقلل من استهلاك الطاقة في التبريد وفي استهلاك المياه، بدءاً من لون المباني الفاتح، والذي يقلل من اجتذاب الحرارة، والعزل الحراري الفعال للحوائط والنوافذ، وحتى أنظمة الكهرباء الموفرة، وأنظمة استرجاع المياه المكثفة من أجهزة التكييف وتجميع مياه الأمطار في صهاريج لاستخدامها في التنظيف وفي الري، كما توجد نظم لتجميع وإعادة تدوير المخلفات من كل مبنى، وألواح شمسية توفر نسبة كبيرة من احتياجات المباني من الكهرباء. إن مشيرب قلب الدوحة هي ثمرة ثلاث سنوات من الأبحاث التي شاركت فيها كبرى الدور الهندسيّة وبيوت الخبرة العالميّة، و10 سنوات من العمل لتصميم وتنفيذ مجتمع متكامل، يجمع بين أفضل المفاهيم الهندسية التي سادت في قطر قديماً، وبين حداثة الحاضر لضمان أسلوب حياة أفضل للجميع في قطر، كما أنها قد أصبحت بالفعل معياراً تقاس به نماذج تطوير المدن والأحياء المستدامة في العالم.

1634

| 13 أكتوبر 2019

سيف الله المسلول.. خالد بن الوليد

لو أن هناك رجلا وُلد على صهوة الخيل، ونشأ في ساحة الحرب، لكان ذلك الرجل هو خالد بن الوليد ، إنه الرجل الذي شهد زُهاء مائة زحف في جاهليته وإسلامه، كما قال هو نفسُه، كان يخوضها بقوته وإقدامه، ويخوضها أيضا بدهائه وحيلته، فقد أوتي رأيا سديدا، وفكرا ثاقبا، نتيجة عقله الحكيم المدبِّر الذي يحسن سياسة الحروب، ويجيد قيادة الجيوش، كان رجلا منذ عنفوان شبابه، وريعان أيامه، لا يعرف الراحة، ولا يحب لها طعما ولا يطيق لها وجها، بل كان يجد راحة نفسه في ميادين المصاولة، وساحات المبارزة، فهو جسور مقدام لا يهاب شيئا حتى الموت، فكيف يهاب شيئا دونه، وهو هادم كل شيء، حتى كأن قلبَ خالد قد قتل معنى الخوف فيه، ولم يعد يستطيب إلا تجشم المشاق، واقتحام الصعاب، وهو صاحب هذا القول المشهور الذي صار مثلا مأثورا أُخذ عنه: عند الصباح، يَحْمَدُ القومُ السُّرى. كان قبل إسلامه يقاتل مع قومه قريش ضد المسلمين قتالا شديدا، دفاعا عما نشأ عليه من معتقدات موروثة باطلة، تشبث بها الآباء أخذا عن آبائهم الأولين، والتزموها اتباعا لهم على آثارهم، ومحاكاة لأفعالهم، وإن رأوا فيها خطأ ودَخَلا، وظنوا بطلانها، وأنها مجافية عن الحق، لا تغني عنهم شيئا، ولا تؤتي لهم نفعا، إلا أن الحرص عليها آتٍ من كونها مواريث ماضي الأجداد القديم التليد، وهم بأسلافهم يقتدون. ولكن رجلا كخالد بن الوليد له عقل وبصيرة لا بد له في يوم من أن ينظر الحق، ويتبين الصواب، فيهتدي من ثم إلى جادة الطريق، وإن امتد الزمن وطال، فإن ذا البصر، لا يعمى عن النور، ولو تغشاه الظلام، وذا البصيرة لا يخفى عنه الحق، ولو خدعته الأيام.قرر خالد بن الوليد، في ذات يوم الخروج من مكة إلى المدينة مهاجرا إلى رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ليعلن إسلامه، وقبل خروجه لقي صاحبا أراد مثل ما يريد، وهو عثمان بن طلحة، فخرجا معا، وانطلقا سَحَرا، وفي أثناء سيرهما في الطريق، تقابلا مع عمرو بن العاص، الذي كان يريد الإسلام أيضا، والذهاب إلى المدينة، فاصطحبوا جميعا، حتى بلغوا غايتهم، في شهر صفر من السنة الثامنة للهجرة، وقصدوا رسول الله، الذي سُر لمقدمهم، وقال حينما رآهم: (إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها). واستقبلهم بوجهٍ طليق كما هي سنته المأثورة عنه، وأسلموا وشهدوا بالشهادتين، وفي ذلك الموقف أثنى النبي على خالد، فقال:(قد كنت أرى لك عقلا، رجوتُ ألا يسلمك إلا إلى الخير)، فقال خالد: يا رسول الله، استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صد عن سبيل الله. فقال رسول الله:(إن الإسلام يجبُّ ما قبله).منذ ذلك اليوم الذي أسلم فيه خالد، تشوقت نفسه إلى الجهاد في سبيل الدين، من أجل الذود عنه، ورفع لوائه ونشره عاليا في أفق السماء، حيث اعتاد وتمرس، حيث صهيل الخيول، وصليل السيوف، تعترك في ظلام القَتام، هنالك في ميدانه المبرَّز فيه، ميدان ساحة الحرب، وسط طليعة الجند، واتفق في تلك السنة الثامنة، أن جهز رسول الله، جيشا بلغ عدده ثلاثة آلاف مقاتل، وأمرهم بالسير إلى (مؤتة)، من بلاد الشام، للقِصاص ممن قتلوا الحارث بن عمير رسوله إلى أمير بُصرى، وأمّر على هذا الجيش، زيد بن حارثة، وقال:(إن أصيب فالإمارة لجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فلعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتضِ المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم)، أما خالد بن الوليد، فقد كان في تلك المعركة جنديا في صفوف المقاتلين.توجه المسلمون إلى حيث أمرهم رسول الله، فواجهتهم هناك جموع الروم المحتشدة في جيش عرمرم، زاد عدده عن مائتيْ ألف جندي، وتقابل الجمعان، ودار القتال، واحتدم النزال، ولنصغِ إلى رسول الله، الذي أخبر المسلمين في المدينة أنباء المعركة في مؤتة بوحي من السماء، فقال لهم:(أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد)، وذرفت عينا رسول الله بكاءً على أصحابه الشهداء، وسكت قليلا، ثم قال:(اللهم إنه سيف من سيوفك أنت تنصره). الله أكبر، أجل هذا هو لقب خالد بن الوليد، الذي اشتهر به، واقترن باسمه في دواوين التاريخ، حتى عُرف بسيف الله المسلول.بعد استشهاد أولئك القادة الأمراء الثلاثة، اصطلح الجنود على خالد بن الوليد، وعقدوا لواء الجيش بيمينه، ولننظر كيف استطاع خالد بدهائه وعبقريته إنقاذ جيش المسلمين، والنجاة به من موت محتوم، ومصير مشؤوم، نتيجة الكثرة الهائلة لجيش الروم، إذ رأى خالد، أن الذي ينفعهم في مأزقهم هذا هو تدبير مكيدة وحيلة، تقومان مقام الإمداد والعتاد، وكذلك كانت الحرب منذ القِدم خُدعة، ولقد قيل: رب حيلة أنفع من قبيلة. فقام بتغيير نظام الجيش، فجعل المقدمة ساقة، والساقة مقدمة، وفعل مثل هذا التبديل بين الميمنة والميسرة، مما جعل العدو يعتقد أن المسلمين قد جاءهم مدد وغوث، ثم أمر خالد الجيش بالتراجع إلى الوراء رويدا رويدا، فأرهب ذلك الروم، إذ توهموا أن المسلمين يحاولون استدراجهم إلى الصحراء، إلى حيث يكمنون لهم في بقعتهم، التي يعرفونها جيدا. هنالك تزعزعت نفوسهم، ورجعوا القهقرى مخافة المغامرة، والانجرار إلى الخداع، ومن ثم السقوط في المكيدة، وبذلك تمكن خالد من أن يبقي على الجيش، ويفلت من هلاك محقق بهذا الانسحاب المخطط المدبر، الذي بدا كأنه ليس انسحاب المهزومين، ثم عاد الجيش إلى المدينة، وفي تلك المعركة دُقّ وتكسّر في يد خالد تسعة أسياف، ولم يبق في يده إلا صفيحة يمانية، ذلك هو فعل سيف الله في السيوف.لم يهدأ خالد من بعدُ وما استقر سيفه في غمده، فبعد وفاة النبي، استمر في حماسته من أجل الإسلام، بل إنه ازداد حماسة وصرامة، في قتال المرتدين، ثم في قتال الفرس والروم، وكان لا يوجه ضربة لعدو إلا قصمه، ولا يدخل حربا إلا أيده الله بنصره، فكان ذلك مدعاة لافتتان الناس بشخصه، وذهابهم فيه كل مذهب، حتى ظنوا أن النصر يأتي من عنده لا من عند الله سبحانه، وأن في يده سيفا لا كسائر السيوف، بل سيف أُنزل عليه من السماء. في عهد خليفة رسول الله، أبي بكر الصديق، أرسله لمقاتلة الروم، وأمّره على جيش عظيم، حارب في واقعة اليرموك العظيمة، التي حدثت فيها أورع البطولات، وأعظم التضحيات، وفيها وقع هذا الحادث لخالد بن الوليد، الذي امتحن فيه أيَّ امتحان، فتصدى له بأبدع مثال.بينما كان خالد يدير رحى القتال، ويصدر أوامره للجيش، في أيام القتال الشديدة الضارية، على أرض اليرموك، إذ فوجئ بكتاب قادم من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فيه نَعْي خليفة رسول الله، وفيه أمر بتنحية خالد بن الوليد، عن إمرة الجيش، وتقليد أبي عبيدة بن الجراح، قيادة الجيش، يا له من نبأ عظيم! فما كان من خالد إلا أن استجاب لهذا الأمر، وانقاد له وأطاع، وتقبله بصدر رحيب، وخلق متين، ولم تفتر همته، ولم تتغير نفسه، وما خمدت جذوة إخلاصه لأمته وأميره، فهو لا يعنيه أن يكون قائدا، أو جنديا في صفوف المسلمين، ما دام يقاتل في سبيل دين، فكلٌّ في ذلك سواء.كان ذلك الأمر من عمر بن الخطاب، صدّا للناس، وحجزا عن مبالغتهم وغلوهم في مآثر خالد ومناقبه، المفتونين بها. ولكن... ولكن لله درك يا خالد.أما آن لهذا الفارس الهُمام المقدام أن يستريح بعد إتعاب الأعداء، وإرهاق الخصوم؟ بلى. لقد كان خالد بن الوليد، يمنّي نفسه بنيل الشهادة في الموطن الذي خُلق له، وعاش فيه جلَّ حياته، في ساحة الحرب، إلا أن المقادير شاءت أن ينال الشهادة لا قتلا في الميدان، بل موتا على الفراش، وأن يَقْضي شهيدا، وإن لم يقتل، ألم يأتِ في الحديث:(من سأل الله الشهادة بحق، بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)، غير أن خالداً توجع وتحسر على عدم موته مقاتلا والسيف في يده، وقال قولته الشهيرة الموجِعة المبكية، عند دنو أجله:(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية سهم، ثم هأنذا أموت على فراشي حَتْف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء).فلا نامت أعين الجبناء يا خالد، فلا نامت أعين الجبناء، ولو شئتُ لرددتها مرات ومرات، ولكن نمْ يا خالد هانئا مطمئنا، قرير العين، ولينم كذلك أمثالك من الرجال المخلصين الكرماء، في عالم الخلود، وجنان الفردوس، بإذن الله الكريم. عجزت النساء أن يلدن مثل خالد هكذا أُغمد سيف الله في الثرى، ولو كان للأرض قلب وضمير، ما رضيت إلا أن يكون مسلولاً منشورا، تباهى به كواكب السماء ونجومها، ذلك خالد بن الوليد، رضي الله عنه، الذي قال في نعيه عمر بن الخطاب:(عجزت النساء أن يلدن مثل خالد).

9191

| 05 يوليو 2016

أمين الأمة.. أبو عبيدة عامر بن الجراح

قدم المدينة المنورة ذات يوم، وفد من نصارى نجران، وأتَوْا مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، وهو جالس مع نفر من أصحابه، فلما استقروا في مجلسهم، جعل رسول الله، يعرض عليهم الإسلام، ويدعوهم إلى الإيمان، ولكن القوم أبَوْا إلا أن يقيموا على دينهم، وقبل أن يهموا بالانصراف من عنده، ليرجعوا إلى ديارهم، سألوه أن يبعث معهم رجلا من أصحابه ليحكم بينهم، ويَفصل في أمور قد اختلفوا فيها، وتنازعوا عليهما، فقال لهم رسول الله: (لأبعثنّ إليكم رجلا، أمينا حَقَّ أمين، حق أمين- قالها ثلاثا- فائتوني العشيّة). سمع الصحابة ممن كان في المجلس هذه المقالة، فودّ كل منهم أن يكون هو الأمين الذي يعنيه رسول الله، والذي سيبعثه مع وفد نجران، واستشرفت نفوسهم لهذا الثناء والتزكية:(حقَّ أمين، حق أمين)، من النبي الكريم، فإن ذلك عز وفخر لمن يظفر به ويناله، حتى إن عمر بن الخطاب، الفاروق- وكان حاضرا- قال: (ما أحببت الإمارة قط، حبي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها)، فراح عمر إلى صلاة الظهر مبكرا، فلما صلى بهم رسول الله، سلّم ثم أخذ ينظر عن يمينه وعن يساره، وهنا طفق عمر يتطاول، ويمدُّ عنقه حتى يراه رسول الله، الذي لم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه، وقال: (اخرج معهم فاقضِ بينهم بالحق، فيما اختلفوا فيه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح). هنالك غبط عمر أبا عبيدة، وجعل ينظر إليه بإعجاب وإكبار، ومن يومئذ عظم في عينه، وأحبه حبا كبيرا، كما سنعرف فيما يأتي معنا.استمر أبو عبيدة بن الجراح أمينا على الأمة، يحمل أمانتها، بعد وفاة رسول الله، مثلما كان من قبل، يعمل مخلصا في عمله، ويجاهد متفانيا في جهاده، لا تفتر همته، يبذل في سبيل أمته كل ما تستطيعه يده، وتقوى عليه نفسه، محملا نفسه ما يطيق، وما لا يطيق، من أجل نصر دين الله، ورفع راية الإسلام، ومن أجل كرامة الأمة، ذلك هو فعل أبو عبيدة، وتلك هي روحه الطاهرة، فأكرِمْ به، وأعظِمْ من أمين، خليق بالأمانة جدير بها.رأى عمر في خلافته أن يولي أبا عبيدة قيادة جيوش المسلمين في بلاد الشام، فسار الأمين بالجيش نحو الشام لملاقاة الأخطار التي تواجه مصير الإسلام هناك من أعدائه المتربصين بالمسلمين، وهناك أثبت بطولة وبسالة، فحقق الانتصارات التي ضربت قوى الروم وقضت عليها، وتقدم يمضي من انتصار إلى انتصار، وينتقل من نجاح إلى نجاح، حتى فتح الله على يده ديار الشام وحررها من اضطهاد الرومان، فشاع فيها نور الإيمان، فكان أهلها من ثم يعرفون له بلاءه هذا، وعرفوا من قبل منزلته الجليلة في الإسلام، منذ أن بعث الله رسوله، كما عرفوا أيضا مكانته عند أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، الذي ألقى إليه قيادة جيوش المسلمين، مفضلا إياه على من سواه من كبار القادة، وأبطال الحروب، عرف أهل الشام كل ذلك، فراحوا يطلقون عليه لقب (أمير الأمراء).ما كاد يعلم أبو عبيدة بما يقوله الناس عنه من حديث المديح والتبجيل، وما إلى ذلك من الافتتان بشخصه، حتى وقف على جموعهم يقول لهم، وهو المؤمن التقي، والقائد المتواضع:(يا أيها الناس، إني مسلم من قريش، وما منكم من أحد، أحمرَ ولا أسود يفضلني بتقوى إلا وددت أني في إهابه). أجل، ذلك هو المعنى الذي يعلمه الأمين أبو عبيدة، حق العلم، وأخذ يعلمه الناس، من أن التقوى هي رأس الدين، وأصل المرء، وميزان التفاضل، بها يكرم العبد عند ربه.في يوم من الأيام، زار أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، الشام فعلم الناس بمجيئه فأقبلوا يستقبلونه مرحبين به فرحين بزيارته، فرأوه يقلب بصره كأنما يبحث عن شيء، وإنه لكذلك، حتى سألهم: أين أخي؟ أين هو؟ فعجب الناس، وتساءلوا فيما بينهم: ألي أمير المؤمنين أخ معنا؟!. والله إنا لا نعلم أن له أخا ههنا، فتُرى من يعني، فلم يجدوا بدا من سؤاله: من أخوك يا أمير المؤمنين؟. فأجابهم عمر: أخي أبو عبيدة، عامر بن الجراح، فما لبث أن رآه آتيا يشق طريقه بين زحام الناس، فأقبل عمر عليه، واعتنقه باشتياق بالغ، وفرح شديد، ثم صحبه أبو عبيدة إلى داره، وما تُرى هي داره؟ وما تحويه من متاع وأثاث؟. تعالَوْا فلننظر؟دخل عمر الدار، فلم ير فيها شيئا مما يقتنيه الناس، ويعيشون به، لم يجد سوى أدوات القتال والجهاد، من سيف وتُرس ونحو ذلك، وشيء زهيد مما يُتبلّغ به في المعيشة، حصيرٌ بالٍ، وقُربة ماء خلِقة، ساعتئذٍ سأل عمر: يا أبا عبيدة، ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس؟. فقال: يا أمير المؤمنين، هذا يبلغني المَقيل. فقال عمر بتوجع: غيرتنا الدنيا كلنا، غيرك يا أبا عبيدة. وازداد عمر هنا محبة لأبي عبيدة، فوق محبته الأولى.عاد عمر إلى المدينة، ثم بعد فترة من الزمن، ترامت إلى سمعه أنباء الوباء الذي دهى الناس في الشام، ذلك الطاعون الوبيل، الذي اجتاحهم، فحصد أرواحهم، وفتك بخلق كثير، فراعت عمر تلك الأنباء، فكتب رسالة إلى أبي عبيدة، قال فيها:(إني بَدَت لي إليك حاجة لا غنى لي عنك فيها، فإذا أتاك كتابي ليلا، فإني أعزم عليك ألا تصبح حتى تركب إليّ، وإن أتاك نهارا، فإني أعزم عليك ألا تمسي حتى تركب إليّ)، أراد عمر رضي الله عنه، استبقاءه للأمة، فهو أمينها، وهكذا يعرف الرجالُ أقدار الرجال، فلا يُجحد ذو فضلٍ فضلَه. بلغ كتاب عمر هذا أبا عبيدة، فقال:(قد علمت حاجة أمير المؤمنين إلي، فهو يريد أن يستبقي من ليس بباقٍ)، وكتب إليه:(يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين، ولا أجد بنفسي رغبة عن الذي يصيبهم، ولا أريد فراقهم حتى يقضي الله فيّ وفيهم أمره، فإذا أتاك كتابي هذا، فحلِلني من عزمك، وائذن لي بالبقاء).لما قرأ عمر كتابه هذا، بكى وفاضت دموعه، فقال مَن عنده، حين رأوا حالته هذه: أمات أبو عبيدة، يا أمير المؤمنين؟. فقال عمر: لا، ولكن الموت منه قريب. ولقد صدق ظن عمر، وما كذب حدسه، إذ أصيب أبو عبيدة بالطاعون، وشاء الله أن يموت به، فتوفي رضي الله عنه، في أرض (عمواس)، سنة ثماني عشرة للهجرة، وله من العمر ثمان وخمسون سنة، وقام معاذ بن جبل في أهل الشام، قام النَّعِيُّ فأسمعا، ونعى الكريمَ الأروعا، فقال:(أيها الناس، إنكم فُجِعتم برجل، ما أزعم والله أني رأيت من عباد الله قط، أقل حقدا، ولا أبرَّ صدرا، ولا أبعد غائلة، ولا أشد حياءً، ولا أنصح للعامة منه، فترحموا عليه).. لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته جاء الناعي المدينة بهذا النبأ الأليم، ونعى للمسلمين، أمين الأمة، فبكَوْا وحزنوا، أشدَّ البكاء والحزن.وكان مبلغ النَعْي عظيما على أقواهم إيمانا، وأحزمهم نفسا، على عمر بن الخطاب، الذي بكى أخاه العزيز الكريم عليه، ولنا أن ندرك قدر أبي عبيدة عنده، فيما روي عنه أنه قال: (لو كنت متمنيا، ما تمنيت إلا بيتا مملوءاً برجال من أمثال أبي عبيدة). وما نسي عمر أبا عبيدة، بل ذكره حتى في أشق ساعة في الحياة، وهو يجود بأنفاسه، فقال: (لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته، فإن سألني ربي عنه قلت: سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: هو أمين هذه الأمة).

7905

| 04 يوليو 2016

حَبْر الأمة وتَرجمان القرآن عبد الله بن عباس

قبل الهجرة النبوية بنحو ثلاث سنين، جاء العباس بن عبد المطلب، يسعى إلى رسول الله، عليه الصلاة والسلام، فرحا مبتهجا، وهو يحمل بيديه طفله الصغير، فتناوله النبي الكريم بسرور بالغ، وأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، وسماه عبد الله، ثم دعا للعباس وولده. ذلك هو أول يوم في حياة عبد الله بن العباس، الصحابي الذي لا يذكر اسمه، إلا ويذكر تفسير كتاب الله العزيز، حتى لقب بتَرجمان القرآن، وهو الصحابي العالم الذي عُرف بغزارة العلم، وسعة المعرفة، والإحاطة بمختلف العلوم، فنال لقب (حَبْر الأمة). لقد اجتمع لابن عباس من المحامد والفضائل الكثير في نفسه وفي عقله منذ صغره، فلم يكن في ناشئة الفتيان يومئذ أحدٌ في مثل خلقه وأدبه، وذكائه وفطنته، وحذقه في كل الأمور، مما أهله أن يظفر بدعاء رسول الله له، فقال وهو يمسح رأسه:(اللهم فقّه في الدين، وعلمه التأويل)، هذه هي الدعوة التي مثلت محور تفوق ونجاح ابن عباس، في مسيرة حياته الموفقة بجلائل الأعمال، وفرائد الأقوال.كان ابن عباس شديد القرب من رسول الله، لقرابته له، ولمحبته التعلم، وفي مجلسٍ جمع النبي بصحابته يوماً، حدث هذا الموقف الذي يدل على فطانة ابن عباس، ولباقته وفصاحته، على حداثة سنه، وهو أن رسول الله، أُتي بقدح فشرب منه، وكان عن يمينه عبد الله بن عباس، وهو يومئذ غلام، وعن يساره كبار الصحابة، فقال له رسول الله: يا غلام، أتأذن لي أن أعطي الأشياخ؟ قال: ما كنت لأوثرَ بنصيبي منك أحدا، يا رسول الله. فأعطاه إياه.من أبرز صفات ابن عباس، التي بوّأته مكانا عليا في العلم، الهمة والاجتهاد والحرص على طلب ما ينفع، فيحدثنا هو نفسُه أنه لما قُبض النبي عليه الصلاة والسلام — وكان سن ابن عباس إذ ذاك ثلاث عشرة سنة — قال لفتى من الأنصار: هلمَّ فلنسأل أصحاب رسول الله، فإنهم اليوم كثير. قال: يا عجبا لك يا بن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله من فيهم؟. فترك هذا الفتى ذلك، وأقبل ابن عباس يسأل الصحابة، وهنا يقول هو: إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي إليه وهو قائل — أي نائم وقت القيلولة — فأتوسد ردائي على بابه، يَسفي الريح علي التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول: يا بن عم رسول الله، ما جاء بك، هلا أرسلت إليّ فآتيك. فأقول: لا، أنت أحق بأن أسعى إليك. ثم يسأله ويتعلم منه، ويأخذ عنه، فلا عجب أن صار عالما، وهو الذي سئل مرة: أنّى أصبت هذا العلم؟ فأجاب: بلسان سؤول، وقلب عقول. أما ذلك الفتى الأنصاري الذي قَعَدت به نفسه، وضعفت همته، فعاش حتى رأى ابن عباس والناس يجتمعون حوله يسألونه، ويستمعون له، فقال: هذا الفتى كان أعقل مني. فعرف تقصيره وتفريطه في طلب ما فيه خيره وصلاحه، في زمن كان خليقا به، وبكل من هو في مثل عمره، أن يجتهد وينصب بمثابرة ومصابرة، ليجني من بعدُ، الفوائد والأرباح، في عاقبة أمره في دنياه وآخرته، ذلك لأن القاعدة النافعة المرتبطة بحياة الإنسان: أن ليس يغني عن الإنسان إلا سعيه، وما يقدم لنفسه.لقد بلغت منزلة ابن عباس، أن كان الخليفتان عمر وعثمان، رضي الله عنهما، يدعوانه فيشير عليهما مع أهل بدر، وخاصة أمير المؤمنين عمر، كان يدنيه ويقربه، فيتحدث ومعه كبار الصحابة، ولا يجاوز عمر قوله، حتى قال عبد الرحمن بن عوف لعمر: إن لنا أبناءً مثلَه. فقال عمر: إنه من حيثُ تَعْلَمُ. وسأل عمر مرة ابن عباس عن هذه الآية:(إذا جاء نصر الله والفتح)، ليُريَ الصحابة مبلغه في العلم، بعد أن سأل الصحابة عنها، فلم يعلموا منها إلا ظاهرها، فأجاب وهو الذي عنده علم تأويل الكتاب ببركة دعاء الرسول: أجَلُ رسول الله، أعلمه إياه، أنْ إذا جاء فتح مكة، فذاك علامة أجلك. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم.وبمناسبة قربه هذا من أمير المؤمنين، أوصاه أبوه العباس فقال: أيْ بني، إني أرى أمير المؤمنين يدعوك ويقربك، ويستشيرك مع أصحاب رسول الله، فاحفظ عني ثلاث خصال: اتقِ الله، لا يجربنّ عليك كذبة، ولا تفشين له سرا، ولا تغتابنّ عنده أحدا.بلغ عبد الله بن العباس، في علمه وخلقه شأوا بعيدا، قلما يتحصل ويدرك عند الناس، عن سعة علمه قال عطاء بن أبي رباح:(ما رأيت قط مجلسا أكرم من مجلس ابن عباس، ولا أكثر فقها ولا أعظم هيبة، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، وكلهم يصدر عن وادٍ واسع)، فليس عجبا إذن أن يلقب بحَبر الأمة.أما عن خلقه وأدب نفسه فقد كان في ذلك عظيما جليلا، مثلما هو كذلك في علمه، ولا بِدع في هذا، فالخلق هو زينة العلم، بل هو الثمرة اليانعة الناضرة من حصاده، ولا يكون ذو العلم عالما، إلا إذا كان ذا خلق كريم، يصور أدب النفس، التي زكاها العلم وهذبها، فصارت نفسا زكية نبيلة، ولا بد حتما من اقترانهما معا، الخلق والعلم، بحيث يكون الخلق نتيجة للعلم، يظهر أثرها في المتعلم، فتتجلى متمثلة في سلوكه وتعامله، وإلا فيا لخيبة صاحب العلم، ويا لضيعة طلب العلم.نأخذ بعض الشواهد على مكارم وفضائل خلق ابن عباس، مما روي عنه من أقوال، من ذلك قوله في محبة الخير للغير جميعا، بعيدا عن شح الأثرة، وغل الحسد، وضيق الفكر، وهو من خير وأفضل الأقوال في الدلالة على النفس الطيبة السمحة الخيّرة، قال:(إني لآتي على الآية من كتاب الله، فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به، وما لي عنده قضية، وإني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا، فأفرح به، وما لي بتلك الأرض سائمة).وقال أيضا مما يدل على أدب النفس وسماحتها: لو قال لي فرعون: بارك الله فيك. لقلت وفيك. ومن أقواله ونصائحه الثمينة الغالية: لا تتكلم فيما لا يَعنيك، ولا تُمارِ سفيها ولا حليما، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به. جاهد في ميدان السيف عاش ابن عباس طول حياته ناشرا للعلم، ناصرا للقرآن، داعيا إلى الخير، ناهيا عن الشر، ينفع الناس كافة بعلمه ونصحه حيثما حل وارتحل، ولقد جاهد في ميدان السيف، كما جاهد في ميدان العلم، إذ كان من المجاهدين في عهد رسول الله، وعهد خلفائه في الكثير من المشاهد، ينصر الحق في مواطنه، حتى توفاه الله، وقد كُفّ بصره في أُخريات أيامه فقال في ذلك وهو صابر راضٍ هذين البيتين الرائعين:إنْ يأخذِ اللهُ من عينيّ نورَهما ففي لساني وسمعي منهما نورُقلبي ذكي وعقلي غيرُ ذي دَخَلٍ وفي فمي صارمٌ كالسيف مأثورُوتوفي رضي الله عنه، بالطائف سنة ثمان وستين من الهجرة، وعمره إحدى وسبعين سنة.

22030

| 03 يوليو 2016

الزاهد الصادق.. أبو ذر الغِفاري

قرعت الأنباء أُذني أبي ذر الغفاري، بظهور رجل بمكة، يزعم أنه نبي، ويدعو إلى عبادة الله وحدَه، وعدم الإشراك به، وقد كان أبو ذر رجلا ممن أنفوا التعبد للأوثان في الجاهلية، واعتقدوا بوجود الله العظيم، خالق كل شيء سبحانه، فلم يكد يسمع بتلك الأنباء حتى أراد أن يعلم ما هو خبر ذلك الرجل النبي، وما هي دعوته.. وأراد أن يستوثق من حقيقة الأمر، ويكون على بينة منه، فطلب إلى أخيه أُنيس أن يذهب إلى مكة ليأتيه بالخبر اليقين، ولا يبطئن ولا يشعرن به أحداً، فقال أنيس لأخيه أبي ذر: لبيك يا أخي. وانطلق صَوْب مكة ليعلمَ له خبر محمد عليه الصلاة والسلام، حتى بلغها ومكث فيها قليلا، يستقصي الأخبار، وما لبث أن عاد مسرعا إلى أخيه، فلما رآه أبو ذر قال: ما عندك؟ قال: والله لقد رأيت رجلا، يأمر بالخير، وينهى عن الشر، ويدعو إلى مكارم الأخلاق. ولكن أبا ذر قال: لم تشفني من الخبر. فرأى أن يذهب هو بنفسه إلى مكة، وأعد راحلته، واحتمل قطع البيد، ومشقة الرحيل إلى أن قدم مكة، ودخلها وأراد في نفسه ألا يعلم أحد سبب مقدمه، فأخفى حاجته، ولم يأخذ في السؤال عن رسول الله، حتى يبدو له الأمر بنفسه ويظهر له، وكان أبو ذر في أثناء إقامته يشرب من ماء زمزم، لا يدخل جوفه شيء سواه فكان فيه كل الغَناء، وجعل يجلس في المسجد الحرام، فمر به يوما علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقال له: كأن الرجلَ غريب. قال: نعم. فاستدعاه علي من ثم إلى منزله وأضافه ثلاثة أيام، لا يسأل أحدهما صاحبه عن شيء، وفي اليوم الثالث قال علي لأبي ذر: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: إنْ كتمت علي أخبرتك. قال علي: فإني أفعل. فأنشأ أبو ذر يقول: بلغنا أنه قد خرج ههنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليعرف خبره، فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. قال علي: أمَا إنك قد رَشَدت، هذا وجهي إليه فاتبعني، ادخل حيث أدخل، وإني إن رأيت أحداً أخافه عليك، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامضِ أنت.فمضى علي ومعه أبو ذر، حتى دخلا على النبي عليه الصلاة والسلام، فطلب أبو ذر منه أن يعرض عليه الإسلام، فعرضه وما أبطأ أن أسلم أبو ذر، ثم قال له رسول الله "يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل"، قال: والذي بعثك بالحق، لأصرخنّ بها بين أظهرهم، فجاء إلى الكعبة وحولها قريش، فقال بأعلى صوته: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فقال القوم: قوموا إلى هذا الصابئ، فقاموا إليه وأوسعوه ضربا، وكان قريبا من هذا المشهد، العباس عم النبي، فأقبل وأدرك أبا ذر، قائلا لقريش ليكفوا عن ضربه: ويلكم، تقتلون رجلا من غِفار، ومتجركم وممركم على غفار. فأقلعوا عنه وتركوه، وفي الغد عاد أبو ذر إلى مثل ما قال بالأمس، فكان من قريش مثل فعلهم الأول، وكان من العباس أيضا، مثل فعله أول مرة.ذلك هو أبو ذر، رضي الله عنه، منذ أن أسلم، لا يخشى ولا يبالي شيئا أبدا في سبيل الجهر بالحق والصدق، وإن كان فيه ذهاب نفسه، فاستحق لذلك، أن يقول فيه رسول الله "ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء أصدقَ لهجةً من أبي ذر".عاد أبو ذر من بعدُ إلى قومه وبلده، كما أمره النبي، وجعل هناك يدعو عشيرته، وأبناء غفار جميعا إلى ما تدعو إليه مبادئ الإسلام وأصوله، من مكارم الأخلاق والفضائل مما يرتكز عليه الدين، حتى أخذ نور الإسلام ينتشر وينير العقول، فأسلم الكثير منهم رجالا ونساء، ثم انتقل أبو ذر إلى قبيلة (أسلم)، المجاورة لهم، وكان أن رددوا صدى نداء الإسلام بأفئدتهم وأسلموا كما أسلمت غفار.في يوم من الأيام بعد واقعة الخندق، أزمع أبو ذر الهجرة إلى المدينة، بعد أن ظهر فيها أمر الإسلام، وصار للمسلمين دولة وكيان، منفذا وصية رسول الله له يوم إسلامه، وسار معه من أسلم من قبيلتي غفار وأسلم، وقدموا جميعا في جمع غفير على النبي، فلما رأى عليه الصلاة والسلام، أبا ذر، روي أنه وَهِمَ في اسمه فقال: أنت أبو نملة. فقال له: أنا أبو ذر، يا رسول الله. فقال: نعم، أبو ذر. ولعل النبي أحب مداعبته فيما قاله، والذَّر معروف أنه صغار النمل. ثم ألقى رسول الله نظرة على وفود غفار وأسلم، مملوءة بالرحمة والعطف لهم، والرضا والشكر لله، وقال داعيا لهم "غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله". ولقد كانت أيضا لرسول الله نظرةٌ ملهَمة بوحي السماء توجه بها إلى أبي ذر، استشف من خلالها طبيعة نفس أبي ذر، وعلم الصفة التي ستحكم حياته في الإسلام ويحيا عليها إلى أن يلقى وجه ربه الكريم، ألا وهي صفة الزهد، فكان أن قال عليه الصلاة والسلام "أبو ذر في أمتي، على زهد عيسى بن مريم"، ولقد تحقق هذا القول، وصَدُق أيَّ صدق في حياة أبي ذر، فلم تلهه الدنيا بزينتها وزخارفها، ولم تفتنه بمظاهرها ومباهجها، فيتغير من ثم ويغتر، بل عاش حياته في حدود معنى الزهد، داعيا إلى فكرته، معلنا الحرب المستعرة على طغيان حب المادة والمال، وتطاول معاني الترف والثراء. كان يرى أن خير الناس هم الزاهدون، وأن يوم فقر الإنسان الحقيقي، هو يوم يوضع في القبر، كما يرى أن كثرة المال تستلزم وتستوجب شدة الحساب، فمن أقواله: ذو الدرهمين أشد حسابا من ذي الدرهم. وكان عنده أن في الأموال ثلاثةَ شركاء، هم كما قال: القدر: لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شرها، من هلاك أو موت. والوارث: ينتظر أن تضع رأسك، ثم يستاقها وأنت ذميم. وأنت الثالث: فإن استطعت ألا تكون أعجز الثلاثة، فلا تكونن، فإن الله عز وجل يقول (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون). يرحم الله أبا ذر لما دنا أجله كان إلى جواره زوجه وهي تبكي بكاءً شديداً على زوجها الذي يموت وليس عنده كفن يسعه، فقال مهونا عليها «لا تبكي، فإني سمعت رسول الله، ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه، يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض، تشهده عصابة من المؤمنين، وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، ولم يبقَ منهم غيري، وهأنذا بالفلاة أموت، فراقبي الطريق فستطلع علينا عصابة من المؤمنين»، ثم فاضت روحه إلى الله، وسمت إلى عليين. فأطلت زوجه على الطريق مترقبة قدوم أحد، فما لبثت طويلا أن رأت قافلة آتية من بعيد تشق غبار الفلاة، حتى وقفت عندها، وكانت تلك القافلة تضم نفرا من المؤمنين، منهم عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، الذي رأى امرأة وبجوارها جثمان مسجى، فأقبل ليرى ما شأنها، ثم نظر وجه الميْت، فإذا به يرى صاحبه وصديقه أبا ذر، فأجهش بالبكاء بدمع غزير وطفق يقبله، وتذكر مقولة سمعها يوما مع الصحابة، من رسول الله، في أبي ذر، وهي قوله عليه الصلاة والسلام «يرحم الله أبا ذر، يمشي وحدَه، ويموت وحدَه، ويبعث وحده».أبعد هذا الحديث قول يقال في حق أبي ذر، رضي الله عنه، أكبر منه وأعظم، هيهات هيهات، حقا إنه لرجل نسيج وَحْدِه.

6869

| 02 يوليو 2016

امرأة من طراز فريد قصة «أم سُليم»

لو كان النساء كأم سليم بنت ملحان الأنصارية، لفضلت النساء على الرجال، إي وربي إن هذا لحق، سنعلم صدقه وصحته بعد حين يسير، فيما سنعرض من ومضات باهرات لسيرتها، وقصة حياتها التي عاشتها، ضاربة أروع الأمثال، بما كان لها من خلال، وما بذلته من فِعال، حتى أصبحت نموذجا بديعا صالحا للرجال قبل النساء. اشتهرت بكنيتها أم سليم، التي غلبت عليها حتى نسي الناس اسمها أو كادوا، فقيل إن اسمها (سهلة)، وقيل غير ذلك، فقد اختلفوا فيه كثيرا، وكان لها لقب عرفت به أيضا هو الرُّميصاء، أسلمت في المدينة، وأخذت مكانها في طليعة صفوف المسلمات السابقات إلى الإسلام، وكانت متزوجة قبل إسلامها من مالك بن النضر، والد ابنها الحبيب العزيز أنس، ولكن زوجها مالك، أبى الإسلام، وصد عنه، وغضب حين أسلمت هي، فراح يعنفها ويعيب عليها إسلامها، قائلا: أصبوت؟. فكانت تقول: ما صبوت، ولكني آمنت بهذا النبي الكريم. فلم يزدها ذلك إلا تمسكا بدينها وحفاظا عليه، أمام عنف زوجها، وبغضه لدينها، الذي رأها يوما تلقن ولدها أنسا، وهو طفل صغير، الشهادتين، فصرخ في وجهها: لا تعلميه هذا الكلام، ولا تفسدي على ابني. فتقول هي: إني لا أفسده، بل أدعوه لسعادته وصلاحه. ثم تركها زوجها هذا وفارقها، وخرج في حاجة له إلى الشام، حيث هلك هنالك ولقي حتفه.بعد وفاة زوجها عنها، تقدم لخطبتها أبو طلحة الأنصاري، وجاء إليها يكلمها في ذلك، وكان لمّا يسلمْ بعد، فقالت له: يا أبا طلحة، ما مثلك يرد، ولكنك مشرك، وأنا مسلمة، فإني أدعوك إلى الإسلام، ولا أريد منك صَداقا غيره، فإن تسلمْ، فذاك مهري، ولا أسألك سواه شيئا. فتفكر أبو طلحة، وكان ذا نفس كريمة، وبصيرة سديدة، فلم يعجل ويستجب لطلبها، دونما اعتقاد ولا يقين، ولكن لحاجة في نفسه، فيكون كاذبا، يعامل بالزيف والخداع، بل قال لها: دعيني حتى أنظرَ في أمري. ثم إنه جاءها ولم يلبث طويلا، وقال: من لي بذلك الذي دعوتني إليه؟. قالت: لك بذلك رسول الله. فانطلق أبو طلحة يريد النبي عليه الصلاة والسلام، فجاءه وهو جالس في أصحابه، فلما رأه رسول الله قال:( جاءكم أبو طلحة غُرة الإسلام بين عينيه)، فأخبر رسول الله، بما قالت أم سليم، فتزوجها على ذلك.وهكذا كان الإسلام مهر أم سليم، الذي رضيت به وطابت نفسها، فما عرف الناس ولا تاريخهم، مهرا، أُصدِقَت امرأة مثلَه، ولا رأوا مهرا أكرم ولا أعظم منه.كان حب الله ورسوله والدين الذي جاء به، هو المسيطر على قلبها، والحاكم على عقلها، فمن ثم تجلى ذلك الحب صافيا بهيا على كافة أعمالها ومجريات حياتها، فابتغت أن تعيش في فيء مجتمعها المنعم بظلال الإسلام عاملة باذلة، بل مضحية فدائية، ذلك هو مقتضى حب أم سليم الصادق الذي سكن أعماق نفسها، أمسكت في يوم بيد ابنها أنس، وهو غلام في العاشرة من عمره، ومضت به إلى رسول الله، ووهبته له خادما، وقالت: خُوَيْدمك أنس. فتقبله رسول الله، وفرح به، ثم سألته الدعاء لولدها، بقلب الأم الحنون، التي تحرص على الخير لابنها، وتريد نفعه، وتسعى في صلاحه وفلاحه، فما كان من النبي الكريم، إلا أن دعا له فقال:(اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته)، واستجاب الله دعوة نبيه، فقال أنس بن مالك، بعد أن امتد به العمر، حتى كان آخر من مات من الصحابة:(فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولَدَ ولدي ليتعادُّون على نحو المائة اليوم).عاشت أم سليم امرأة صالحة حسنت التَّبَعُّل لزوجها أبي طلحة الأنصاري، حتى كان منها هذا الموقف بل هذه المحمدة، مما تعجب منه النفوس، وتدهش منه العقول، فقد ولد لهما ابن، وكان أبو طلحة يحبه محبة شديدة، وأصيب هذا الصبي بمرض عضال، ألزمه الفراش، حتى تعبت من أجله نفس أبي طلحة، وتغير حاله، وكان الصبي يُداوى ويعالج، ولكن ما نفع فيه طب ولا فاد دواء، ففاضت روحه إلى بارئها، وأبو طلحة خارج الدار، يباشر عمله، فقالت أم سليم لأهل بيتها: لا يَنعينّ إلى أبي طلحة أحدٌ ابنه، حتى أكون أنا التي أنعاه له. فهيأت الصبي وسجّته، ووضعته في جانب البيت، ثم جاء أبو طلحة، وسأل كعادته عن حال ابنه، فقالت أم سليم: ما كان منذ اشتكى أسكن منه الساعة، وأرجو أن يكون قد استراح. وصدقت إذ الموت غاية راحة الحي، فاطمأن أبو طلحة وحسب أن ولده قد تحسنت حالته، ويوشك أن يبرأ من علته، ثم قربت له عشاءه، فأكل وشرب، ثم قام إلى فراشه لينام، وقامت هي فتطيبت وتصنعت له أحسن ما كانت تصنع له في غير هذه الليلة، وأقبلت عليه، فكان منه ما يكون من الرجل إلى أهله، وبات في ليلته هانئا، فلما أصبحا أنبأته بالخبر فقالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوما أعاروا قوما عارية لهم، فسألوهم إياها، أكان لهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فإن الله عز وجل، كان أعارك ابنك عارية، ثم قبضه إليه، فاحتسب واصبر. عَقَلت الصدمة لسان أبي طلحة، فما قَوِي على النطق، إلا أنه ملك أمره، فاسترجع وحمد الله، الذي لا يحمد على مكروهٍ سواه.هكذا صنعت أم سليم وما ملأت الدنيا بكاء وعويلا لا يغني عنها شيئا، وما جعلت بيتها مبعث نكد، ولا مصدر صُراخ، أتطيق مثل ذلك النساء؟! سبحان الله خالق أم سليم، إن ما فعلته حقا لشيء عجاب، وإنه ليدل على صبر نفس، وإيمان قلب، وحكمة عقل. ثم إن أبا طلحة غدا إلى رسول الله، فأخبره بما كان في ليلته، فقال عليه الصلاة والسلام: (بارك الله لكما في ليلتكما)، وقد كان ذلك، فرُزقا فيما بعد ولداً زكيّا رضيا.بقي من جوانب حياة أم سليم، جانب جهادها مع رسول الله، في المشاهد والمعارك، فقد كانت تخرج للجهاد تسقي العطشى، وتداوي الجرحى، كما فعلت ذلك يوم أحد، ولها في يوم حنين موقف ثبتت فيه حول النبي ثبات الصناديد، حينما تراجع المسلمون عنه على إثر مباغتة العدو لهم في واديهم، الذي كَمَنوا فيه، فلما رأت ذلك اتجهت نحو النبي مسرعة الخطى، وقد حزمت خنجرا في وسطها، وكانت يومئذ حاملا، حتى بلغت رسول الله وقالت بشدة وانفعال: يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين يفرون عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل. فسُر بها الرسول وابتسم وقال: (إن الله قد كفى وأحسن، يا أم سليم). تستحق أن تحظى عند رسول الله نفس كنفس أم سُليم لا شك أنها تستحق أن تحظى عند رسول الله، وتجازى قربا وتقديرا ومحبة، لذلك كان عليه الصلاة والسلام، يكثر من زيارتها والدخول عندها في بيتها، وكانت هي رضي الله عنها، تُتحفه في كل زيارة بالشيء تصنعه له، وكان أعظم جزاء من النبي لها، هو تبشيرها بما لها عند الله في الآخرة، من بشرى دخول جنة عدن، فقال:(رأيتني دخلت الجنة، فإذا أنا بالرميصاء، امرأة أبي طلحة).

49539

| 01 يوليو 2016

ذات الرأي الحصيف «أم سلمة المخزومية»

في بيت شريف النسب، عظيم الحسب، منتمٍ إلى بني مخزوم من قريش، ولدت أم المؤمنين، أم سلمة، هند بنت أبي أمية، وكان والدُها سهيلُ بن المغيرة، سيدا في قومه، وأحد أجواد قريش بل العرب جميعا، اشتهر بالجود والندى، وعُرف في الناس بلقب (زاد الرَّكْب)، والركب هم جماعة المسافرين، لأنه كان زاد من لا زاد له في السفر، يغني من معه في ترحاله، ويكفيهم كلفة الطعام والشراب، ويحتمل عنهم احتياجاتهم في أسفارهم، حتى كأنه موكَّل بهم وكفيل، فلا يعوزهم شيء في صحبته، بفضل سخاء يديه. نشأت هند في ذلك البيت، مزدانة بجمالها وعقلها وحصافة رأيها، فكثر خطابها الطارقين على أبيها، في طلب مصاهرته، وكان من أولئك عبد الله بن عبد الأسد القرشي، وهو من قومهم بني مخزوم، الذي جاء يخطب إليهم ابنتهم هند، وكان كُفْئاً لها، يوافق أحدهما الآخر، فقبلوا به وتم الزواج بينهما، وعاشا معا حياة سعيدة مطمئنة، زادتها بهجة وفرحة أن رزقهما الله ولدهما سلمة. في أثناء تلك الأيام بمكة كان وحي السماء قد نزل على قلب خير خلق الله، على قلب محمد عليه الصلاة والسلام، لتشرق في حياة الناس أجمعين، شمس ساطعة برسالة الإسلام، تبعث أنوارَها مبددة ظلمات الأرض، هادية نفوس من يمشون عليها ضالين حائرين، فبدأت صفحة جديدة في حياة أهل مكة منذ أن أخذ رسول الله، يدعو الناس، ويبلغهم رسالة ربهم بالدين، فاستجاب له أول الأمر نفر قليل، أخذ يزداد رويدا رويدا، حتى كان من الداخلين في الإسلام مبكرا، أبو سلمة، وأسلمت بإسلامه أم سلمه، وازدادا في ذلك وفاقا وألفة، وحين جعل المسلمون المستضعفون في مكة يهاجرون إلى الحبشة، أزمع أبو سلمة الهجرة إليها، فصحِبَتْه امرأته المخلصة أم سلمة، متجشمة المشقة والعناء، وهناك في الحبشة مكثا ولبثا مدة من الزمن، حتى بدا لهما العودة إلى أرض الوطن، وقد نازع الشوق نفسيهما إلى مكة، وإلى القرب من قرة عيونهم رسول الله، فرجعا تلبية لنداء الحب، وإجابة لهتاف الحنين، والحال في مكة من الشدة والبأساء، مثلما كان عليه من قبل، ولكن المسلمين صابرون محتسبون، مع نبيهم الكريم، حتى أذن الله لنبيه بالهجرة إلى يثرب حيث الأنصار الذين استقبلوا من هاجر إليهم، وآثروهم على أنفسهم، محبة ونصرة لدين الله. وهنا نُشرت لأم سلمة صحيفة من صحائف كتاب حياتها، تحكي سطورُ مَتْنِها، قصة هجرتها التي قاست فيها نوائب الدهر ودواهيه الهائلة العاتية، إذ لاقت في سبيل هجرتها محنة شديدة، وكُربة عصيبة، فابتليت أشد الابتلاء، وقد روت هي نفسها ما وقع عليها، وما تعرضت له يوم نوت وزوجَها أبا سلمة، الخروج إلى المدينة المنورة، وهو أنه لما أجمع أبو سلمة الهجرة إلى المدينة رَحَل بعيرا له وحملها وحمل معها ابنهما سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه رجال بني المغيرة، عشيرة أم سلمة، قاموا إليه وقالوا: هذه نفسُك غَلَبْتَنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه، علامَ نتركك تسير بها في البلاد؟ ونزعوا خِطام البعير من يده، وأخذوا أم سلمة عنوة، فغضب عندئذ بنو عبد الأسد قوم أبي سلمة، وأهوَوْا إلى ولدهما وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبها. فتجاذبوا بُنيها سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به رهط أبيه، وحبس بنو المغيرة أم سلمة عندهم، ومضى أبو سلمة حتى لحق بالمدينة، وهكذا فُرق بينها وبين زوجها وابنها، وكذلك يفعل الظالمون قُساة القلوب.كانت أم سلمة تخرج كل غداة وتجلس (بالأبطح) وهو مكان في ضاحية مكة، لا يعلم بحالها إلا الله، ولا تزال تبكي حتى تمسي، كذلك كل يوم إلى أن مضت سنة أو قريب منها، فمر بها رجل من بني عمها بني المغيرة، فرأى ما بها فرحمها ورق لها وقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وابنها. وما زال بهم حتى قالوا لها: الحقي زوجك إن شئت. ورد بنو عبد الأسد عليها ابنها، فرحلت بعيرها ووضعت ابنها سلمة في حجرها، ثم خرجت تريد زوجها بالمدينة، وما معها أحدٌ من خلق الله، حتى إذا كانت (بالتنعيم)، على فرسخين من مكة، لقيت عثمان بن طلحة، وكان يومئذ على الشرك، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ قالت: أريد زوجي بالمدينة. فقال: هل معك أحد؟ قالت: لا ولله، إلا الله وابني هذا؟ فقال عثمان: والله مالكِ من مَتْرَك. وأخذ بخطام البعير، وانطلق معها يقودها.جمع الله شمل أم سلمة بزوجها وابنها بعد تفرق، وطول نَوَى، وهدأت النفوس بعد أن زعزعها البَيْن، وقلقلها الفراق، فنعموا جميعا، وسعدوا بالقرب من رسول الله، وبجوار إخوانهم المسلمين المهاجرين والأنصار، ويوم صاح منادي الجهاد للذود عن الإسلام، كان أبو سلمة من المجاهدين، فخرج في بدر ثم في أحد، اليوم الذي جاهد فيه وتفانى حتى أصيب إصابة بليغة، ولكنها لم تودِ بحياته، فقد عولج حتى تعافى منها قليلا، غير أن جرحه عاوده فيما بعد، وألح عليه، فمات على أثره، ألم بأم سلمة من الحزن والأسى على موت زوجها، ما كاد يفطر قلبها، لشدة ما كانت تحبه، بيد أنها صبرت واعتصمت بربها واسترجعت، وقد كانت رضي الله عنها، سمعت مرة رسول الله يقول:(ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أُجُرني في مصيبتي، وأَخْلِفْ لي خيرا منها، إلا أَجَرَه الله في مصيبته، وأخلَف له خيرا منها)، فقالت أم سلمة هذا الدعاء، ولكنها رجعت إلى نفسها، وقالت: ومن خير من أبي سلمة. قالت ذلك وقد أكبرت أن تكون زوجا لرجل غيره، ولو كان أبا بكر الصديق الذي تقدم لخطبتها فرفضته، وكذلك فعل عمر بن الخطاب فرفضته أيضا، ثم بعث إليها النبي يخطبها، فيا لَحكمة وتدبير القدر، الذي جعلها ترفض أبا بكر وعمر، لتكون زوجَ خير البشر، محمدٍ رسول الله، فيستجاب لها ذلك الدعاء على أحسن مرام.حينئذ تغيرت نفسها، وتشتت أحزانها، إلا أنها استعظمت الأمر، واستصغرت حالها، فاعتذرت للنبي قائلة إنها مسنة وغيورة، وذات عيال، فأجابها بقوله:(أمّا أنك مسنة، فأنا أكبر منك، وأما الغَيْرة فيذهبها الله عنك، وأما العيال فإلى الله ورسوله)، وتم الزواج وكان وليها ابنها سلمة، ونالت بذلك شرف أن تكون أما للمؤمنين، وهي خليقة بهذا الشرف، وجديرة بالمنزلة العالية، إذ كان لها عقل سديد، ورأي حصيف، حتى إن النبي الكريم، أفاد منها، وذلك في يوم الحديبية، بعد أن عقد الصلح مع قريش، وأمر أصحابه أن يقوموا فينحروا ويحلقوا، فلم يقم منهم رجل، حتى بعد أن كرر أمره ذلك ثلاث مرات، فدخل على أم سلمة في الخيمة، وذكر لها ما حدث قائلا: هلك الناس، أمرتهم فلم يمتثلوا. فهونت عليه الأمر، وأشارت عليه بقولها: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فقام عليه الصلاة والسلام، وفعل ما قالت، وما إن رأه الصحابة أنه قد نحر وحلق، حتى تسابقوا عجلين، فنحروا ثم حلقوا اقتداءً به. وهكذا نجّت أم سلمة الأمة من بلاء عظيم. فعل الخير عاشت أم سلمة، بعد وفاة رسول الله، سنينَ طويلة، قضتها في فعل الخير، وبذل النصح، حتى رجعت روحها إلى ربها، راضية مرضية، وقد كَبُر سنها، وصلى عليها أبو هريرة، ودفنت بالبقيع، عليها رضوان الله.

3113

| 30 يونيو 2016

ذو الجناحين «جعفر الطيار»

هل يحتاج رجل مثل جعفر بن أبي طالب، إلى تعريف؟ وهو الحسيب النسيب، ابن أبي طالب، عم رسول الله، عليه الصلاة والسلام، وشقيق علي بن أبي طالب، ذلك هو من حيث نسبه الشريف، النامي في فروع آل هاشم، خير العرب قاطبة، أما من حيث مآثره في الإسلام، وسيرته الحسنة في تاريخه المجيد، الناصع الصفحات، فلنقترب من جعفر أكثر، ولنزدد عنه علما وخُبرا، لتتضح وتتجلى لنا ملامح شخصيته، ومحاسن سيرته، وفضائل خليقته. نطق جعفر بالشهادتين، فكان واحدا من المسلمين الأولين السابقين، الذين بادروا بالانضواء تحت راية الإسلام، وسارعوا في إجابة دعوة نبيه، وصبروا على دينهم، وواجهوا في سبيله، أشد البلايا، وأشنع الرزايا، التي صب عليهم حميمها ولهيبها، أعداء الدين ومناوئوه في مكة، حتى أذن رسول الله لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، ورضي لهم هذه الهجرة، فكان في ركب من هاجر إلى هناك، جعفر الذي خرج من مكة، ونزح عنها برفقة زوجه، أسماء بنت عميس، إلى تلك البلدة، على شَحَط الدار، وتنائي المَزار.حطّ المسلمون المهاجرون، أمتعتهم في أرض الحبشة، وعاشوا في حمى ملكها العادل، النجاشي، بسلام وأمان، لا يكدر صفو عيشهم شيء، ولا ينغص عليهم حياتهم، منغص من نكد الدنيا، سوى ما كانوا يجدونه من حزن وأرق، كلما تذكروا حال النبي في مكة، ومن بقي معه من المسلمين. ولكن هل تُرى تركتهم قريش وشأنهم في الحبشة، ووَقفوا مكائدهم وشرورهم، التي اعتادوا ممارستها وهم في مكة، ولم تطاردهم وتلاحقهم إلى حيث ذهبوا؟ كلا، لقد استمرت قريش في ظلمها وعتوها، وإلقاء عِصيّها وحبالها، فقد عزّ عليها أن يفر أولئك المسلمون، من قبضتها، ويجدوا ملجأ آمنا يؤويهم، ينعمون فيه بالحرية والأمن، وأحست في ذلك ما يجرح جبروتها، ويطعن هيبتها، فأرسلت من ثم على أثَرهم رجلين، واختارت أن يكون عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، وكانا لم يسلما بعد، وحمّلتهما قريش الكثير من الهدايا الثمينة والمستطرفة، ليقدمانها إلى النجاشي، وإلى رجال الدين من القسيسين والأساقفة، بين يدي طلبهم الذي جدّوا فيه، وهو إخراج أولئك الذين جاءوا إليهم لائذين مستجيرين. بدأ رسولا قريش أولا بمقابلة رهبان الكنيسة، وتحدثا إليهم بما قدما من أجله، وقاما بإتحافهم بما جلبا من هدايا، لاستمالتهم حتى يقفوا معهما، ويقولوا برأيهما بإقصاء المسلمين من أرضهم، أمام ملكهم النجاشي، ثم سعى رسولا قريش إلى لقاء الملك، وفي يوم جلس فيه النجاشي مجلسه، على عرش حكمه، اجتمع الخصوم عنده، المسلمون في ناحية، ورسولا قريش في الناحية المقابلة، في حضور القساوسة وغيرهم من رجال الحاشية.هنالك قام عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، واستأذنا النجاشي في الحديث، فأذن لهما، فبثا ما في صدورهما من فكر زعماء قريش وسادتهم، فقال أحدهما للنجاشي:(أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك، غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم، أشراف قومهم، من آبائهم وأعمامهم، وعشائرهم، لتردهم إليهم)، حينئذ اندفع رهبان الكنيسة بقولهم مؤيدين ما قيل: صدقا، أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم. ولكن النجاشي رجل له عقل وحكمة، ونفس طيبة كريمة، فلم يسمع من طرف واحد فقط، وإن كان لذلك الطرف من طرفي القضية مناصرون كثيرون، فيقعَ في الظلم والجور والخطأ، ويضل في رأيه، ثم يتعسف في حكمه، فإنه التفت نحو المسلمين، سائلا إياهم ليعلم جليّة أمرهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا دين أحد من هذه الملل؟.يومئذ تجلى جانب من الجوانب الرائعة المتألقة لنفس جعفر، الذي انبرى بشجاعة وثبات، ووقف يتصدى لما قيل، وأنشأ يناضل عن المسلمين والإسلام، فكفَّ ووفَّى، إذ بيّن بجلاء ووضوح حقيقة الدين، وأساس دعوته، القائمة دعائمها على أصول مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال، مما أُمر به المسلمون، والقائمة أيضا على ما نهوا عنه مما يخالف الخلق الكريم، فيوقع النفس الإنسانية في حضيض الرذائل، ويهوي بها في درك الفواحش، ذلك الذي إن غاب عن المسلم، فقد جهل دينه، وبعُد عنه، وإن زعم أنه من المسلمين. قال جعفر ردا على سؤال النجاشي:(أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه...فأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم...فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله). فما كان من النجاشي إلا أن قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. وتوجه بنظره وقوله إلى المسلمين قائلا: اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي. ورد إلى رسولي قريش هداياها، فعادا إلى قومهما بالخيبة والخزي، ولم ينالوا شيئا، وأقام المسلمون في الحبشة بخير دار، مع خير جار. ظل جعفر في مهجره ذاك يتعبد الله تعالى، ويدعو إلى الدين بعمله قبل قوله، هو ومع الذين هاجروا، إلى أن قدموا على رسول الله بُعيد فتح خيبر، في السنة السابعة للهجرة، ففرح بمقدمهم فرحا كبيرا، وسُرَّ سرورا بالغا، وخاصة حينما رأى ابن عمه جعفر، فأقبل نحوه وعانقه، وهو يقول:(لا أدري بأيهما أنا أُسرَّ، بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر)، هكذا قال عليه الصلاة والسلام، قولا مسجوعا بادي الحلاوة، ظاهر الطلاوة، مرحبا ومحييا بقدوم جعفر، بعد طول غياب.منذ أن قدم جعفر المدينة ونعِم بقربه من النبي، وقربه أيضا من إخوانه الصحابة، تاقت نفسه إلى نصر الدين، والذِّياد عنه بالجهاد في سبيل الله، خصوصا بعدما علم ما بذله المسلمون، من تضحيات جسام، وبطولات عظام، في المشاهد والمعارك، أيام كان في الحبشة، وصدَّق الله نفس جعفر المخلصة التواقة إلى ما يرضيه سبحانه، ففي جمادى الأولى، من السنة الثامنة للهجرة، أعد رسول الله جيشا لمقاتلة الروم المعتدين، وجعل عليه ثلاثة أمراءَ قوّاد أولهم زيد بن حارثة، وثانيهم جعفر بن أي طالب، وثالثهم عبد الله بن رواحة، بحيث إذا قتل الأول أخذ الثاني منه الراية، وفق ذلك الترتيب. انطلق الجيش من المدينة، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء بقرية مؤتة من أرض الشام، التقى الجيشان، واحتدم بينهما الصراع، وقاتل القائد الأول زيد بن حارثة، حتى قتل، فأخذ الراية جعفر، وتقدم بها نحو صفوف جنود الروم، الذين كانوا من كثرتهم كأمواج البحر المتلاطمة، فأعمل فيهم سيفه، يضرب ويقتل منهم، حتى ضُربت يمينه فقطعت، فحمل الراية بشماله، فأصابوها أيضا، فحضن الراية بعضديه، وضمها إلى صدره، حتى لا تسقط، ولم يزل رافعا إياها حتى قتل وما ترك الراية تصيب التراب، وحينئذ تقدم القائد الثالث، عبد الله بن رواحة، وتناول الراية من جثمان الشهيد. نفس جعفر علم النبي بالوحي أنباء أصحابه، فبكى عليهم وقال في جعفر: (رأيت جعفراً، يطير في الجنة مع الملائكة بجناحين)، ومن هنا عُرف جعفر بلقبه الشهير: (جعفر الطيار)، وعُرف أيضا بذي الجناحين، ثم قام رسول الله إلى بيت ابن عمه، ودعا أطفاله الصغار، فاحتضنهم وقبلهم، وعيناه تذرفان.بقي جانب من نفس جعفر الكريمة الشريفة، لا بد لنا من تبيانه، وهو بره بالفقراء والمساكين، وحبه لهم وعطفه عليهم، حتى لقب بأبي المساكين، وشهد له بذلك أبو هريرة، إذ قال:(كان خير الناس للمساكين، جعفر بن أبي طالب). رضي الله عنه، وهنيئا وطوبى له هذا الجزاء والثواب والثناء.

5319

| 29 يونيو 2016

رجل آمن مرتين.. عبد الله بن سلام

قيل إن الحق ثقيل مَرِيء، والباطل خفيف وبيء. ألا ما أصدق هذا القول الحكيم، وما أشد دلالته على صواب الحقيقة الغائبة عن كثير من أولي الألباب، أجل، إن الحق ثقيل على نفس الإنسان، باهظ حمله، يقتضي تحمله تجشم المشاق، والصبر على الصعاب، لما يترتب على الصدع بالحق، والأخذ به من نتائجَ وتبعاتٍ، لا تخالف أهواء متحمل الحق ورغباته فحسب، بل قد يجد من جرائها السوء والأذى والشر من أعداء الحق، الكارهين له، ممن يهوون الباطل وينصرونه، مع علمهم أو جهلهم أنه باطل، إما لمرض في قلوبهم، أو كبر في نفوسهم، أو عمىً في بصائرهم، ولكن العاقبة لا جَرَم أنها للحق، ولمناصريه، وإن قلّ الأنصار والأعوان، أو عُدموا، ذلك وعد الله الذي لا ريب فيه ولا مراء، وإن طال الزمن أو قصر، في الآجل أو العاجل. أما الباطل فخداع وغرور، يزينه الوهم والخيال للنفوس، فتراه خفيف المحمل، سهل المأخذ، وما علمت أن فيه شرا مستطيرا، وبلاء وبيلا، ليس لعاقبته هذه من بد. ولْننظرْ صورةً لذلك من قصة حياة رجل كان حبْرا من أحبار اليهود، وسيدا من سادتهم، الذين كانوا في يثرب، إلا أنه أسلم، وآمن برسول الله محمد، عليه الصلاة والسلام، منذ أول ما قدم المدينة، ذلك الرجل هو الحصين بن سلام، أو عبد الله، بدلا من الحصين، كما سماه رسول الله، فكان أن ظفر من ربه بأجرين؛ لأنه رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، ثم آمن بمحمد خاتم النبيين، كما نص على ذلك القرآن والحديث، ففي القرآن قال الله تعالى (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين. أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون).ولقد روى هو نفسُه حادثة إسلامه، فكان مما رواه وقاله، أنه لما سمع بظهور رسول الله، أخذ يسأل ويتحرى عن اسمه ونسبه وصفاته ومكانه، وكل ما له من شؤون وأحوال، ويطابق بينها وبين ما هو مسطور عندهم في الكتب، حتى استيقن من نبوته، وتثبت من صدق دعوته، ثم إنه كتم ذلك عن اليهود، وعَقَل لسانه عن التكلم فيه، إلى أن كان اليوم الذي خرج فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، من مكة مهاجراً إلى المدينة، فلما بلغها ونزل بقُباء، أقبل رجل وجعل ينادي في الناس، معلنا قدومه، وكان عبد الله بن سلام، ساعتئذٍ في رأس نخلة له يعمل فيها، وكانت عمته خالدة بنت الحارث، جالسة تحت النخلة، فما إن سمع ابن سلام الخبر حتى هتف: الله أكبر... الله أكبر. فقالت له عمته، حين سمعت تكبيره: خيبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما فعلت شيئا فوق ذلك. فقال لها: أيْ عمة، إنه والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، وقد بُعث بما بعث به. فسألت قائلة: أهو النبي الذي كنتم تخبروننا أنه يبعث مصداقا لما قبله، ومتمما لرسالات ربه؟ قال: نعم. قالت: فذاك إذن. ثم مضى عبد الله بن سلام، من فوره إلى رسول الله، فرأى الناس يزدحمون ببابه، فزاحمهم حتى صار قريبا منه، فكان أول ما سمعه منه قوله "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"، فجعل ابن سلام، يتفرس في وجه النبي، وصورته ويتملّى منه، فأيقن من ثم أن وجهه ليس بوجه كذاب، وسبحان من آتى المؤمن الصادق فِراسة ينظر بها بنورٍ من الله، فيستشف حقائق الأمور. ثم دنا منه حتى اقترب وقال: إني سائلك عن ثلاثٍ لا يعلمهن إلا نبي، قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعامٍ يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزعُ الولد إلى أبيه؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله "خبرني بهن آنفا جبريل، أمّا أول أشراط الساعة، فنار تَحشرُ الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كَبِد الحوت، وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غَشِي المرأة فسبقها ماؤه، كان الشبه له، وإن سبقت كان الشبه لها"، حينئذ شهد ابن سلام بشهادة الحق، فقال له رسول الله: ما اسمك؟ قال: الحصين بن سلام. قال: بل عبد الله بن سلام. قال: نعم عبد الله، والذي بعثك بالحق ما أحب أن لي به اسما آخرَ بعد اليوم. انصرف ابن سلام من عند رسول الله، إلى بيته ودعا زوجه وأولاده وأهل بيته إلى الإسلام، فأسلموا جميعا وما أبطؤوا، لمعرفتهم بقدر علمه، وحكمة عقله، وأسلمت معهم عمته خالدة، وكانت امرأة عجوزاً كبيرة السن، ثم قال لهم: اكتموا إسلامي وإسلامكم عن اليهود، حتى آذن لكم. فأجابوه إلى ذلك. ثم رجع إلى النبي، وقال له: "يا رسول الله، إن اليهود قوم بهتان وباطل، وإني أحب أن تدعو وجوههم وكبراءهم إليك، وأن تسترني عنهم في حجرة من حجراتك، ثم تسألهم عن منزلتي عندهم، قبل أن يعلموا بإسلامي، ثم تدعوهم إلى الإسلام، فإنهم إذا علموا أنني أسلمت عابوني، ورمَوني بكل ناقصة وبهتوني". ذلك قول ابن سلام، ولا يحدثك مثل خبير. فأدخله الرسول في بعض حجراته، ثم دعاهم إليه، وأخذ يحضهم على الإسلام، ويحبب إليهم الإيمان، ويذكرهم بما عرفوه في كتبهم من أمره، فجعلوا يجادلونه بالباطل، ويمارونه في الحق، وقد تبين لهم، وعبد الله بن سلام، يستمع لما يقولون، فلما يئس رسول الله من إيمانهم قال لهم "ما منزلة الحصين بن سلام فيكم؟" فقالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا، وابن حبرنا وعالمنا. فقال "أفرأيتم إن أسلم أفتسلمون؟" قالوا: حاشى لله، ما كان ليسلمَ. فخرج إليهم عبد الله بن سلام، وقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به محمد، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله، وتجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته، وإني أشهد أنه رسول الله، وأومن به، وأصدقه. فقالوا: كذبت، والله إنك لشرنا وابن شرنا، وجاهلنا وابن جاهلنا. ولم يتركوا عيبا إلا عابوه به. فالتفت إلى رسول الله، وقال: ألم أقل لك إن اليهود قوم بهتان وباطل، وإنهم أهل غدر وفجور. هكذا من النقيض إلى النقيض، انتقلوا بعبد الله بن سلام، وبهذا الفجور المفضوح ظهروا، الذي لا يأتي إلا من نفوس مجردة من الحياء والعفة والمروءة، ممتلئة باللؤم والسفه والجهل، معلنين هذا المبدأ الفاحش: من ليس معنا، وعلى رأينا، فهو ضدنا وعدونا وشر الناس، وإن كان من كان. بئست هذه الأخلاق، وبئس من تخلق بها، من أيّ قوم وملّة، أعاذ الله عباده منها، ومن أصحابها. من أهل الجنة كان جزاء عبد الله بن سلام، رضي الله عنه، أن أنزل الله فيه آية في كتابه العزيز، وهي قوله جل وعلا (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم)، وقد رووا أن النبي بشّره بأنه من أهل الجنة، حتى قال فيه الناس «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عبد الله بن سلام».

5177

| 28 يونيو 2016

ساقي الحرمين العباس بن عبد المطلب

كانت قريش تتولى منذ قديمٍ أمر سقاية الحجيج الذين كانوا يفدون على مكة المكرمة، في المواسم، لزيارة الكعبة، البيت العتيق، أول بيت وضعه الله للناس، بأيدي إبراهيم وولده إسماعيل، عليهما الصلاة والسلام، اللذين رفعا قواعد البيت، وأسسا بنيانه. وكان الذين يباشرون شرف وفخر مهمة السقاية من قريش هم بنو هاشم، خير وأشرف العرب نسبا، وأكرم أهل الأرض حسبا، وكيف لا وهم رَهْط النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، وكانت مكرمة السقاية انتهت حين ظهر الإسلام إلى العباس بن عبد المطلب، عم رسول الله. كان العباس من أجود فتيان قريش، وخيرهم عملا، وأحكمهم عقلا، تلوح على وجهه مخايل الفطانة والنجابة، ولم يكن يكبر ابن أخيه، رسول الله، إلا بسنوات قليلة، نحو ثلاث سنين، لم تباعد بينهما في العمر، بل جعلتهما متقاربين في السن، بحيث كانا كأنهما من جملة اللِّدات والأتراب، الذين لا فرق بينهم في الأعمار، فنشأ من ثم العباس، ورسول الله، في زمن واحد يكنُّ كل منهما للآخر مشاعر القرابة، وعواطف الصداقة، مما جعل الأواصر بينهما تتوثق وتتأكد بالمودة والمحبة والتقدير، وإنه ليحسن هنا ذكر ما قاله العباس حين سئل ذات يوم بعد أن ابتعث الله محمدا بالرسالة: أيكما أكبر، أنت أم رسول الله؟ فأوحى إليه ظَرفه وفطنته، أن يجيب بهذا الجواب الذي ينمُّ عن أدبه وخلقه: (هو أكبر مني، وأنا ولدت قبله). من كان مثل العباس في قربه وصلته برسول الله، ومحبته له، لا شك أنه سيصدقه فيما يقوله ويدعو إليه، مما أرسله الله به لتبليغه الناسَ، ولا شك أنه سيكون من الذين يتبعونه وينصرونه ويحمونه، من أعداء الدين المكذبين به، والمحاربين له، وهذا ما كان من العباس، فقد أسلم وتبع محمدا رسول الله، بيد أنه كتم إسلامه، وأخفاه عن قريش، وكان في ذلك فائدة ومصلحة ترجع على الإسلام بالخير والنفع، ليظل من موقعه الخفي يخدم الإسلام من غير أن يشعر به أحد، كالجندي المجهول، الذي يعمل بصمت في موقعه، لذلك بقي العباس في مكة ولم يهاجر مع النبي إلى المدينة مع من هاجروا معه. في السنة الثانية للهجرة حدث للعباس ما لم يكن في حسبانه، ولم يخطر له ببال، إذ عزم مشركو قريش على الخروج لمواجهة المسلمين في موقعة بدر، وجمعوا لذلك جمعهم وعدتهم وأخذوا يحثون من في مكة على القتال، وتولى ذلك زعماؤهم الكبار، كأبي جهل، وأمية بن خلف، واتخذوا ذلك فرصة ليعلموا ويميزوا من لا زال على دينهم ودين آبائهم ممن صبأ واتبع الدين الجديد، وبينما هم كذلك، نظروا إلى العباس، فأحدقوا به وأكرهوه على الخروج معهم، ودفعوه على ذلك دفعا، حتى ما استطاع الخلاص منهم.علم النبي بما حدث مع عمه العباس فقال لأصحابه قبل أن يلتقي الجمعان في المعركة، يوم بدر: (إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم، قد أُخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا... فمن لقي العباس بن عبد المطلب، فلا يقتله، فإنه إنما أُخرج مستكرَها). ثم دارت رحى المعركة، وكتب الله للمسلمين نصرا عظيما، إذ ألحقوا بعدوهم هزيمة شنيعة، سقطوا فيها ما بين قتلى وأسرى، مما هو معلوم، وشاءت الأقدار أن يقع العباس أسيرا، ويوثق في الوَثاق، مشدود اليدين، كسائر الأُسارى، فبات ليلة لم يبت مثلها من قبل.تُرى كيف كان شعور رسول الله، وما وجده في نفسه الشريفة، وما ألم بها، وقد علم أن عمه العباس، شقيق أبيه، وصديق الصبا، ورفيق الشباب، أسير مكبل، لا يطيق حراكا، ولا يملك من أمره شيئا، قد آذاه القيد، وشق عليه وأتعبه، والعباس مع كل ذلك مسلم، يدين لله ولرسوله، لم يؤذِ أحداً من المسلمين، ولا يحمل في صدره لهم إلا خيرا ومعروفا، ولكن لا يعلم بذلك أحد من الناس، لا يعلم بذلك إلا الله ورسوله، وكفى بالله وليا ونصيرا وشهيدا. لقد أَرِق الرسول واشتد أرقه، وبات الليل ساهرا، وطال فكره في عمه الأسير، منذ أول ليلة باتها في الأسر، ولم يهنأ له نوم، ولم يهدأ به حال، حتى لم يستطع أن يخفي ذلك بل بدا ظاهرا عليه، وحين سئل عما به، ولا سيما وقد فتح الله للمسلمين، وأيدهم بنصره، قال عليه الصلاة والسلام: (سمعت أنين العباس في وَثاقه). آه، ومن يطيق ويحتمل سماع أنين عزيز عليه، حبيب لديه، إن ذلك لمن أشد البلايا، وأقسى الرزايا، وخاصة على من أنعم الله عليهم برقة الإحساس، ولين الفؤاد، ممن يحيون الحياة بقلوب سليمة، ونفوس صحيحة، فتتجسد فيهم بحق وصدق، حقيقة الإنسان، في صورته الأصيلة الأولى، التي شاء الله خلق الإنسان عليها، ليكون مخلوقا ممتازاً بفطرته، عن سائر المخلوقات، مكرما في عالمه الذي يعيش فيه، بعواطفَ ومشاعرَ تمثل الوجدان الذي يشهد له بأنه إنسان.علم بعض الصحابة بحال رسول الله تلك، وما يعانيه من أجل العباس، فبادر إلى حيث حُبس فأرخى وثاقه المشدود حتى كاد يحلّه، ثم انطلق ليخبر الرسول بذلك فقال: يا رسول الله، إني أرخيت من وثاق العباس شيئا. أراح هذا الخبر النبي، ولكنه قال: (اذهب فافعل ذلك بالأسرى جميعا). أجل، هذه هي أخلاق النبي الكريم، التي علمها الناس، وبثها فيهم، ودعا إلى العمل بها، بحيث تكون مبادئَ وقيما تحكم سلوك المسلم، وتمثل دعوة الإسلام التي يقوم أصلها على أساس مكارم الأخلاق، الظاهرة في المعاملة، قال:(اذهب فافعل ذلك بالأسرى جميعا)، فما كان رسول الله ليعاملَ الناس إلا على السواء، بالقِسطاس المستقيم، الذي يزن للناس كلِّهم أجمعين، بميزان واحد، هو ميزان العدل والإنصاف، بلا محاباة ولا اصطناع.لما استقر الأمر عند المسلمين في شأن الأسرى بأخذ الفداء منهم، مقابل إطلاقهم، قال رسول الله، لعمه العباس: (يا عباس، افتدِ نفسك، وابن أخيك، عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو، فإنك ذو مال). فقال العباس: (يا رسول الله، إني كنت مسلما، ولكن القوم استكرهوني)، لكن النبي لم يقبل منه إلا بدفع الفدية، كما لم يَمنّ عليه بإطلاقه بغير عوض، ما دام العباسُ ذا مال، لئلا يمتاز عن غيره من الأسارى في المعاملة، فما كان من العباس إلا أن فدى نفسه، ومن معه، فخرجوا من قيد الأسر، وأنزل الله تعالى من ثم قوله:(يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى، إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم). قال العباس فيما بعد: ما أُحِب أن هذه الآية لم تنزل فينا، وإن لي الدنيا، لقد قال الله:(يؤتكم خيرا مما أخذ منكم)، فقد أعطاني خيرا مما أخذ مني مائة ضعف، وقال:(ويغفر لكم)، وأرجو أن يكون قد غفر لي. وكذلك الله لا يخلف الميعاد. ظل العباس بعد وفاة النبي، معروف الفضل، محفوظ المنزلة، عند المسلمين، وكيف لا يكون له ذلك الفضل، وتلك المنزلة، وقد قال فيه رسول الله:(إنما العباس صِنْوُ أبي، فمن آذى العباس فقد آذاني)، والشاهد على معرفة المسلمين بقدره، ما حدث في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يوم أصيب المسلمون بقحط شديد في المدينة، فدعا عمر الناس للخروج لصلاة الاستسقاء، فخرجوا وهم يتلفتون بحثا عن العباس بن عبد المطلب، الذي كان وهو في مكة يتولى سقاية من في الحرم، كما أسلفا في أول الحديث، فقدموه مع عمر، فلما صلوا أخذ عمر بيد العباس، مستقبلا القبلة وقال: (اللهم إنا كنا نستسقي بنبيك وهو بيننا، اللهم وإنا اليوم نستسقي بعم نبيك، فاسقنا)، فما قَفَل الناس إلى منازلهم حتى أمطرت السماء بغيث طيب مبارك مدرار، فارتوَوْا منه، وسقَوْا أنعامهم، ثم قصدوا العباس يصافحونه ويقبلونه، شاكرين لله على أن جعل فيهم بركة العباس، واستجاب لهم شفاعتهم به، وقد أطلقوا على العباس يومئذٍ لقب (ساقي الحرمين)، واستنطق هذا الحادث شاعر رسول الله، حسان بن ثابت، رضي الله عنه، فقال:سألَ الإمامُ وقد تتابعَ جدبُنا فَسَقَى الغمامُ بغرَّةِ العباسِعمُّ النبي وصِنو والده الذي وَرِثَ النبيَّ بذاك دون الناسِأحيا الإلهُ به البلادَ فأصبحتْ مخضرَّةَ الأجناب بعد الياسِ المصاب العظيم في خلافة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، سنة اثنتين وثلاثين، فقد المسلمون العباس بن عبد المطلب، فجزعوا وحزنوا على قدر هذا المصاب العظيم، إذ ودّعوا البقية الباقية من آباء رسول الله، ليلحقَ رضي الله عنه بمن سبقه من الصالحين الأبرار، عليهم جميعاً سلام الله.

12206

| 27 يونيو 2016

الخبير بالقرآن، عبد الله بن مسعود

من أقوال الناس التي أوحتها إليهم تجارب الحياة ومشاهدها: إن العبرة بكمال النهاية، لا بنقص البداية، وهذا القول يصدق كلَّ الصدق في حياة الصحابي، عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، الذي كان يرعى غنما لعقبة بن أبي مُعيط، كما قال هو نفسه متحدثا عن لقائه الأول برسول الله، عليه الصلاة والسلام، ذلك اللقاء المبارك الذي كان سببا في إسلامه، وصعود نجمه في سماء الإسلام، نجما كالقمر ليلة تمامه، مضيئا متلألئا، يبعث النور فيمنح الهداية للسارين في ظلمات مسالك ودروب الحياة.كان ابن مسعود غلاما يافعا، يرعى الأغنام بأمانة وإخلاص لصاحبها، حينما مر به رسول الله، ومعه الصديق أبو بكر، فقال له النبي: يا غلام، هل عندك من لبن تسقينا؟ قال: نعم، ولكني مؤتمن. فقال النبي: هل عندك من شاة حائل، لم ينزُ عليها الفحل؟ قال: نعم. فأتاه عبد الله بها فاعتقلها النبي ومسح على ضرعها، ودعا ربه، فحَفَل الضَّرع، ودرّ عليه لبنا غزيرا، فاحتلبه في إناء وشرب، وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع اقلص فقلص، وعاد كما كان. هنالك وقف ابن مسعود يتفكر ويتأمل وقد أخذته جلالة الحادثة، وملكته مهابة صاحبها، وعلم بفطرته السليمة أن هذا ليس في مقدور أي بشر، إلا إذا كان مؤيدا من عند ربه، فهو رسوله إلى الناس، فاقترب عبد الله بن مسعود، من النبي، وقال له: علمني من هذا القول. أي من دعائه الذي دعا به الله، فمسح رسول الله رأس ابن مسعود، وقال مبتسما: يرحمك الله، إنك غلام معلَّم.وصدقت هذه النبوءة، فقد أصبح ابن مسعود فيما بعد، كما قال عنه أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: (كُنَيْفٌ ملئ علما).إذن أسلم ابن مسعود، على إثر تلك المعجزة الخارقة للعادة، التي لا يجريها إلا الله على أيدي أنبيائه، وما أكثر ما كانت المعجزات في حياة محمد رسول الله، التي نصره الله بها وأكرمه، لعل الناس بربهم يؤمنون، وبنبيه يرشدون، ومن يومئذ كانت حياة ابن مسعود، تحمل في طياتها، ما يقرب ويشبه المعجزات والكرامات، كأن لسبب إسلامه بفضل ما رأى من معجزة أثراً جلب لروحه قوة كامنة، وهمة عالية، مما أكسب روحه رغبة في الاتصال بوحي السماء، والعيش في ظلال ما يلقيه الوحي في قلب الرسول الكريم، من آيات بينات، هي في الأرض مصدر الخيرات والبركات والرحمات، إذ تنزلت من النور الأعلى المقدس، من لدن العزيز الرحمن، فنستطيع القول إن القرآن أصبح محور حياة ابن مسعود بحيث لم تكن له حياة إلا بالقرآن، ولا يَتصوّر هو له حياةً من دونه، فلقد أقبل على النبي يلازمه لكي يأخذ عنه القرآن ويحفظه ويتعلمه، في شغف وكَلَف، وبقلب واعٍ غير لاهٍ، وإنه ليحدثنا عن مبلغه من ذلك فقال:(والذي نفسي بيده، لقد أخذت من فم رسول الله، سبعين سورة، والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني، تُبلغنيه الإبل لأتيته). ثم قال بتواضع الحيي: (وما أنا بخيركم).وقد لمس منه رسول الله، تفوقه في تلاوة وحفظ كتاب الله، ومَزيَّته المبرِّزَة في ذلك، فقال:(من أحب أن يقرأ القرآن غضا رطبا كما أنزل، فليقرأ على قراءة ابن أم عبد)، وأم عبد: هي كنية أمه، بل إن النبي نفسَه سأله ذات يوم أن يقرأ عليه القرآن، وهنا استحى ابن مسعود وقال: أقرأ عليك، وعليك أُنزل يا رسول الله. فقال: (إني أحب أن أسمعه من غيري)، فجعل ابن مسعود يرتل من سورة النساء حتى بلغ قول الله تبارك وتعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يودُّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا). حينئذ بكى رسول الله، وأشار بيده إلى ابن مسعود قائلا:(حسبك، حسبك، يا ابن مسعود).لقد تعلقت روح ابن مسعود بالقرآن، فأفاض عليها القرآن من أشعة نوره، فاستمدت معاني الإيمان والتقوى، التي ظهرت في حياته، وتمثلت في خوفه من الله وحدَه، مما زاد قلبه قوة في مواطن الحق، وجرأة على الجهر به، فكان هو أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله، في مكة، كما سجل التاريخ ذلك ورواه، ففي يوم اجتمع أصحاب رسول الله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهَر لها به قط، فمَن رجل يُسمعهموه؟ قال عبد الله بن مسعود: أنا. قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم، إن أرادوه بأذى. قال: دعوني، فإن الله سيمنعني. فغدا حتى أتى المَقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام، ثم قرأ بصوته الندي البسملة رافعا بها صوته، ثم تلا آيات من سورة الرحمن، مستقبلا قريش، فتأملوه قائلين: ماذا يقول ابن أم عبد؟ أجاب بعضهم: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه وجعلوا يضربونه، وهو ماضٍ في قراءته حتى بلغ منها ما شاء أن يبلغ، ثم عاد إلى أصحابه مصابا في جسده ووجهه، فقالوا له: هذا الذي خشيناه عليك. فقال: ما كان أعداء الله أهونَ علي منهم الآن، ولئن شئتم لأُغادينّهم بمثلها غدا. قالوا له: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون.ونقول نحن، لله درك من رجل يا بن مسعود، نادرُ المثال بين الرجال، قوي الإرادة والعزيمة والإيمان، وكذلك يفعل القرآن حين يشوب القلوب، ويستقر في العقول. أليس هذا رجلا لا يخاف إلا الله، ولا يعبأ بشيء في سبيل الصَّدْع بالحق، ويعمل بما يعتقده ولا يخشى أحدا سوى الله، ومن مظاهر خوف ابن مسعود، وتقى نفسه، أنه كان بعد وفاة رسول الله، يعظم الحديث عنه، تعظيما كبيرا، ويشعر بالخشية العظيمة، فإذا حدَّث بقوله: قال رسول الله. علاه الكرب، وتحدّر العرق عن جبينه، ثم يقول معقبا على الحديث: إما فوق ذلك، وإما قريبا من ذلك، وإما دون ذلك.

7869

| 26 يونيو 2016

التاجر المجاهد.. عبد الرحمن بن عوف

عادة ما يكون الثراء في طبيعة الإنسان، سببا للكبر والطغيان، وكثيرا ما يجلب التيه والخُيلاء، ويوقع النفس الإنسانية، في الغفلة والاستعلاء، والدليل على ذلك الآية الكريمة:(كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)، ولكن ذلك بعيد كلَّ البعد عن النفس المؤمنة بربها إيمانا كاملاً صادقا، يخالط القلب ويتشرّبه، ويملك عليه جميع أمره، حتى تصيرَ النفس زكية خيّرة بإيمانها، فيكون صاحبها مؤمنا حقا، كذلك هو حال الصحابي عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، الذي كان ثريا من أعظم أثرياء المدينة المنورة، وكان أيضا جوادا من أكرم أجوادها، وهو لم ينل ثروته ويكسبها أبا عن أبٍ، بل عملا بعد عمل، ونتيجةَ سعي وجهد في مجال التجارة، التي كان فيها موفقا مسددا، بفضل الله عليه، كما سيأتي معنا. أسلم مبكرا فكان أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، ثم هاجر مع من هاجر إلى الحبشة، فرارا بدينهم وأنفسهم، من الاضطهاد والإيذاء، على أيدي كفار قريش، ثم عاد إلى مكة ليهاجر من بعدُ إلى المدينة، التي هاجر إليها رسول الله، عليه الصلاة والسلام، فخرج عبد الرحمن بن عوف، من مكة وهو لا يملك شيئا من متاع الدنيا، اللهم إلا ما يبلغه المحلَّ، غير أنه يملك روحا قوية متوكلة على ربها عز وجل، روحا لا تعدل بالإيمان والإسلام شيئا أبدا، مهما عظم وكبر. لما قدم رسول الله المدينة، أخذ يؤاخي بين المهاجرين، وإخوانهم الأنصار، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع الأنصاري، الذي فعل كسائر الأنصار، ممن بذلوا للمهاجرين ما يملكون، وآثروهم على أنفسهم، فقال لعبد الرحمن: أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في مالك وأهلك، دُلني على السوق. فدله على السوق، فانطلق إليه، وجعل ينظر ويبحث، وهو معه دراهم قليلة، ويفكر فيما يقدم عليه، سائلا المولى القدير، العون والهداية، ثم إنه شرع يشتري ويبيع، ويكسب في كل بيعة وصفقة يجريها ويتمها، متحريا الحلال، مجتنبا الحرام، صدوقا مع الناس أمينا، هذا هو دأبه ودَيْدنه، ومع توالي الأيام ربحت تجارته، وأقبل عليه المال، وكثر في يده، وانثالت عليه الأرزاق وافرة جمة، حتى كأن السماء تمطر عليه ذهبا وفضة، حتى إنه ليحدثُ عن مبلغ ما يصيبه من الخير، وما يدركه من التوفيق، فقال:(لقد رأيتُني لو رفعت حجرا، لرجوت أن أصيب تحته ذهبا أو فضة)، ولا بِدْع في هذا ولا عجب، فذلك فضل الله الذي يرزق من يشاء من عباده بغير حساب، وهو ذو الفضل العظيم. إذن فقد عظمت ثروات ابن عوف، من جميع الأموال، صامتها وناطقها، حتى أصبح واسع الثراء، وفير الغنى، فما تُراه فعل بأمواله تلك؟ هل ادخرها واكتنزها؟ أم هل احتازها لنفسه وأهله فقط، أم هل صار- معاذ الله- عبدا للمال، والمال هو سيده المطاع المخدوم؟ فراح يجمعه ويعدده، بحرص وبخل وجشع، أم تُراه ماذا صنع؟. لقد أدرك عبد الرحمن، أن المال فتنة للإنسان، يبتلي الله به الناس، وأنه سبحانه هو الذي آتاهم إياه، وجعلهم مالكين له، من غير حول منهم ولا قوة، وإن بدا للناس غير ذلك، وهما وخداعا وغرورا، من النفس والشيطان، مما في أيديهم من الأسباب الظاهرة التي يتوسلون بها إلى الغنى. وعلم ابن عوف أن للمال حقوقا واجبة الأداء، فرضا حتما على من يخاف ربه، ويخشى عقابه، حقوق يعود بها صاحب المال على من لا مال له، فيشرك فيما يملك كل محروم وفقير ومسكين. وعلم ابن عوف، أنه ليس ينفعه من ماله ولا يبقى له إلا ما قدمه في سبيل الإحسان والبر والمعروف، مما يدخل في باب الصدقات، التي لها ظل ظليل يوم الحساب، يكون بمقدار قيمتها وقدرها، إذ ما تقرب عبدٌ إلى ربه بخير ولا أفضلَ من تأديتها وبذلها سرا وعلانية. كان يسمع ويتلو قول الله تعالى:(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجرٌ كريم)، فتهتز نفسه، ويرتجف بدنه، فمن بنو آدم كلهم حتى يقرضوا الله العظيم جل جلاله، وهو الغني مالك الملك، له ما في السموات وما في الأرض، وما بينهما وما تحت الثرى، فكان عندئذٍ يسارع في الإنفاق والإعطاء، ثم ينظر كلَّ ما أنفقه قليلا في جنب ما أنعم الله عليه، بل كان يستحي ويخجل، إذ يرى أن الله يعود عليه بأضعاف ما ينفق في الدنيا، ويكافئه عليه، هذا إلى غير الذي يدخره له في الآخرة من أجر المنفقين المحسنين، الذين يحبهم الله. إذن فقد تحقق في علم عبد الرحمن بن عوف، من أن في المال جهاداً، هو إنفاقه في مرضاة الله، وتحقق في علمه أولا، أنه مسؤول يوم الحساب، عن ماله سؤالا ليس بيسير، لأنه سؤال يتوقف عليه ويتعين المصير، فإما إلى نعيم، وإما إلى جحيم، ذلك سؤال يتألف من شقين اثنين هما: من أين اكتُسب المال؟ وفيمَ أُنفق المال؟. لذلك جعل ابن عوف من نفسه تاجرا فطنا ذكيا، لا في معاملات الأسواق فحسب، ولكن أيضا في معاملات بني الإنسان، رافعا شعار: البرُّ خير تجارةٍ رَباحاً. أجل كذلك هو البر لَعَمْر الله، تجارة لن تبور، البر الذي هو جوهر كل الأديان ودعوتها. ولولا البرُّ لم يُبعثْ رسولٌ ولم يَحملْ إلى قومٍ كتابا أقبل عبد الرحمن على الناس ذوي الحاجات، فكفّ عنهم ما استطاع المسألة، وأبعد عنهم الفاقة، حتى قيل إن أهل المدينة جميعا شركاء له في ماله: ثلث يقرضهم، وثلث يقضي عنهم ديونهم، وثلث يصلهم ويعطيهم. وفي حياة رسول الله، رُوي أنه تصدق بشطر ماله، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، وفي يوم آخر، قدّم لجيش المسلمين خمسمئة فرس، ومرة قدم ألفا وخمسمئة راحلة في سبيل الله. ولما اختار النبي أن يلحق بالرفيق الأعلى، كان عبد الرحمن يصل أمهات المؤمنين، رضي الله عنهن، بأعظم الهبات، وأجزل الأعطية، فمرة باع أرضا له بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك المال، في فقراء بني (زُهرة) أقربائه، وفي أمهات المؤمنين، وفي ذوي الحاجة من الناس، وبعث إلى عائشة، رضي الله عنها، بنصيبها فقالت: أمَا إني سمعت رسول الله يقول:(لن يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون)، وقالت:(سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة). وأوصى في حياته لكل من بقي ممن شهد بدرا، بأربعمئة دينار، وأخذ فيمن أخذ، عثمان بن عفان، الغني المستطيع، والكريم الجواد، قائلاً: (إن مال عبد الرحمن، حلالٌ صفو، وإن الطُعمة منه عافية وبركة). المبرَّة العظمى يذكر المؤرخون لعبد الرحمن بن عوف، هذه المبرَّة العظمى، وهي أنه كان له قافلة عظيمة قادمة من الشام، تقدر بسبعمئة راحلة، مُوقَرَة بالأحمال من كل شيء، ارتجت لها المدينة، حين دخولها، فقام الناس يتحدثون عنها، ويكثرون الأحاديث والأقاويل، وكانوا في وقت حاجة وعَوَز، فما كان من ابن عوف إلا أن جعلها مفرقة مقسمة في أهالي المدينة، الذين غمرتهم الفرحة، ودخلهم السرور، وباتوا ليلة كليلة العيد، وهم يدعون لابن عوف بخير الجزاء.

11017

| 25 يونيو 2016

alsharq
بائع متجول

يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن...

5994

| 26 سبتمبر 2025

alsharq
كبار في قفص الاتهام.. كلمة قطر أربكت المعادلات

في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو...

5595

| 25 سبتمبر 2025

alsharq
في وداع لطيفة

هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات...

4470

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
الكلمات قد تخدع.. لكن الجسد يفضح

في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه،...

3336

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
الفن ضد الدمار

تواجه المجتمعات الخارجة من النزاعات المسلحة تحديات متعددة،...

1596

| 26 سبتمبر 2025

alsharq
ماذا يعني سقوط الفاشر السودانية بيد قوات الدعم السريع؟

بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون...

1323

| 28 سبتمبر 2025

alsharq
فلسطين والكيان والأمم المتحدة

أُنّشِئت الأمم المتحدة في العام ١٩٤٥م بعد الحرب...

1185

| 28 سبتمبر 2025

alsharq
حين يُستَبدل ميزان الحق بمقام الأشخاص

‏من أخطر ما يُبتلى به التفكير البشري أن...

1059

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
استيراد المعرفة المعلبة... ضبط البوصلة المحلية على عاتق من؟

في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ...

891

| 02 أكتوبر 2025

alsharq
إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق

منذ أكثر من مائة عام ارتُكبت واحدة من...

858

| 30 سبتمبر 2025

alsharq
خطاب صريح أقوى من السلاح

• كلنا، مواطنين ومقيمين، والعالم يدرك مكانة قطر...

831

| 25 سبتمبر 2025

alsharq
حضور فاعل للدبلوماسية القطرية

تعكس الأجندة الحافلة بالنشاط المكثف لوفد دولة قطر...

831

| 25 سبتمبر 2025

أخبار محلية