رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في بيت شريف النسب، عظيم الحسب، منتمٍ إلى بني مخزوم من قريش، ولدت أم المؤمنين، أم سلمة، هند بنت أبي أمية، وكان والدُها سهيلُ بن المغيرة، سيدا في قومه، وأحد أجواد قريش بل العرب جميعا، اشتهر بالجود والندى، وعُرف في الناس بلقب (زاد الرَّكْب)، والركب هم جماعة المسافرين، لأنه كان زاد من لا زاد له في السفر، يغني من معه في ترحاله، ويكفيهم كلفة الطعام والشراب، ويحتمل عنهم احتياجاتهم في أسفارهم، حتى كأنه موكَّل بهم وكفيل، فلا يعوزهم شيء في صحبته، بفضل سخاء يديه. نشأت هند في ذلك البيت، مزدانة بجمالها وعقلها وحصافة رأيها، فكثر خطابها الطارقين على أبيها، في طلب مصاهرته، وكان من أولئك عبد الله بن عبد الأسد القرشي، وهو من قومهم بني مخزوم، الذي جاء يخطب إليهم ابنتهم هند، وكان كُفْئاً لها، يوافق أحدهما الآخر، فقبلوا به وتم الزواج بينهما، وعاشا معا حياة سعيدة مطمئنة، زادتها بهجة وفرحة أن رزقهما الله ولدهما سلمة. في أثناء تلك الأيام بمكة كان وحي السماء قد نزل على قلب خير خلق الله، على قلب محمد عليه الصلاة والسلام، لتشرق في حياة الناس أجمعين، شمس ساطعة برسالة الإسلام، تبعث أنوارَها مبددة ظلمات الأرض، هادية نفوس من يمشون عليها ضالين حائرين، فبدأت صفحة جديدة في حياة أهل مكة منذ أن أخذ رسول الله، يدعو الناس، ويبلغهم رسالة ربهم بالدين، فاستجاب له أول الأمر نفر قليل، أخذ يزداد رويدا رويدا، حتى كان من الداخلين في الإسلام مبكرا، أبو سلمة، وأسلمت بإسلامه أم سلمه، وازدادا في ذلك وفاقا وألفة، وحين جعل المسلمون المستضعفون في مكة يهاجرون إلى الحبشة، أزمع أبو سلمة الهجرة إليها، فصحِبَتْه امرأته المخلصة أم سلمة، متجشمة المشقة والعناء، وهناك في الحبشة مكثا ولبثا مدة من الزمن، حتى بدا لهما العودة إلى أرض الوطن، وقد نازع الشوق نفسيهما إلى مكة، وإلى القرب من قرة عيونهم رسول الله، فرجعا تلبية لنداء الحب، وإجابة لهتاف الحنين، والحال في مكة من الشدة والبأساء، مثلما كان عليه من قبل، ولكن المسلمين صابرون محتسبون، مع نبيهم الكريم، حتى أذن الله لنبيه بالهجرة إلى يثرب حيث الأنصار الذين استقبلوا من هاجر إليهم، وآثروهم على أنفسهم، محبة ونصرة لدين الله.
وهنا نُشرت لأم سلمة صحيفة من صحائف كتاب حياتها، تحكي سطورُ مَتْنِها، قصة هجرتها التي قاست فيها نوائب الدهر ودواهيه الهائلة العاتية، إذ لاقت في سبيل هجرتها محنة شديدة، وكُربة عصيبة، فابتليت أشد الابتلاء، وقد روت هي نفسها ما وقع عليها، وما تعرضت له يوم نوت وزوجَها أبا سلمة، الخروج إلى المدينة المنورة، وهو أنه لما أجمع أبو سلمة الهجرة إلى المدينة رَحَل بعيرا له وحملها وحمل معها ابنهما سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه رجال بني المغيرة، عشيرة أم سلمة، قاموا إليه وقالوا: هذه نفسُك غَلَبْتَنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه، علامَ نتركك تسير بها في البلاد؟ ونزعوا خِطام البعير من يده، وأخذوا أم سلمة عنوة، فغضب عندئذ بنو عبد الأسد قوم أبي سلمة، وأهوَوْا إلى ولدهما وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبها. فتجاذبوا بُنيها سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به رهط أبيه، وحبس بنو المغيرة أم سلمة عندهم، ومضى أبو سلمة حتى لحق بالمدينة، وهكذا فُرق بينها وبين زوجها وابنها، وكذلك يفعل الظالمون قُساة القلوب.
كانت أم سلمة تخرج كل غداة وتجلس (بالأبطح) وهو مكان في ضاحية مكة، لا يعلم بحالها إلا الله، ولا تزال تبكي حتى تمسي، كذلك كل يوم إلى أن مضت سنة أو قريب منها، فمر بها رجل من بني عمها بني المغيرة، فرأى ما بها فرحمها ورق لها وقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وابنها. وما زال بهم حتى قالوا لها: الحقي زوجك إن شئت. ورد بنو عبد الأسد عليها ابنها، فرحلت بعيرها ووضعت ابنها سلمة في حجرها، ثم خرجت تريد زوجها بالمدينة، وما معها أحدٌ من خلق الله، حتى إذا كانت (بالتنعيم)، على فرسخين من مكة، لقيت عثمان بن طلحة، وكان يومئذ على الشرك، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ قالت: أريد زوجي بالمدينة. فقال: هل معك أحد؟ قالت: لا ولله، إلا الله وابني هذا؟ فقال عثمان: والله مالكِ من مَتْرَك. وأخذ بخطام البعير، وانطلق معها يقودها.
جمع الله شمل أم سلمة بزوجها وابنها بعد تفرق، وطول نَوَى، وهدأت النفوس بعد أن زعزعها البَيْن، وقلقلها الفراق، فنعموا جميعا، وسعدوا بالقرب من رسول الله، وبجوار إخوانهم المسلمين المهاجرين والأنصار، ويوم صاح منادي الجهاد للذود عن الإسلام، كان أبو سلمة من المجاهدين، فخرج في بدر ثم في أحد، اليوم الذي جاهد فيه وتفانى حتى أصيب إصابة بليغة، ولكنها لم تودِ بحياته، فقد عولج حتى تعافى منها قليلا، غير أن جرحه عاوده فيما بعد، وألح عليه، فمات على أثره، ألم بأم سلمة من الحزن والأسى على موت زوجها، ما كاد يفطر قلبها، لشدة ما كانت تحبه، بيد أنها صبرت واعتصمت بربها واسترجعت، وقد كانت رضي الله عنها، سمعت مرة رسول الله يقول:(ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أُجُرني في مصيبتي، وأَخْلِفْ لي خيرا منها، إلا أَجَرَه الله في مصيبته، وأخلَف له خيرا منها)، فقالت أم سلمة هذا الدعاء، ولكنها رجعت إلى نفسها، وقالت: ومن خير من أبي سلمة. قالت ذلك وقد أكبرت أن تكون زوجا لرجل غيره، ولو كان أبا بكر الصديق الذي تقدم لخطبتها فرفضته، وكذلك فعل عمر بن الخطاب فرفضته أيضا، ثم بعث إليها النبي يخطبها، فيا لَحكمة وتدبير القدر، الذي جعلها ترفض أبا بكر وعمر، لتكون زوجَ خير البشر، محمدٍ رسول الله، فيستجاب لها ذلك الدعاء على أحسن مرام.
حينئذ تغيرت نفسها، وتشتت أحزانها، إلا أنها استعظمت الأمر، واستصغرت حالها، فاعتذرت للنبي قائلة إنها مسنة وغيورة، وذات عيال، فأجابها بقوله:(أمّا أنك مسنة، فأنا أكبر منك، وأما الغَيْرة فيذهبها الله عنك، وأما العيال فإلى الله ورسوله)، وتم الزواج وكان وليها ابنها سلمة، ونالت بذلك شرف أن تكون أما للمؤمنين، وهي خليقة بهذا الشرف، وجديرة بالمنزلة العالية، إذ كان لها عقل سديد، ورأي حصيف، حتى إن النبي الكريم، أفاد منها، وذلك في يوم الحديبية، بعد أن عقد الصلح مع قريش،
وأمر أصحابه أن يقوموا فينحروا ويحلقوا، فلم يقم منهم رجل، حتى بعد أن كرر أمره ذلك ثلاث مرات، فدخل على أم سلمة في الخيمة، وذكر لها ما حدث قائلا: هلك الناس، أمرتهم فلم يمتثلوا. فهونت عليه الأمر، وأشارت عليه بقولها: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فقام عليه الصلاة والسلام، وفعل ما قالت، وما إن رأه الصحابة أنه قد نحر وحلق، حتى تسابقوا عجلين، فنحروا ثم حلقوا اقتداءً به. وهكذا نجّت أم سلمة الأمة من بلاء عظيم.
فعل الخير
عاشت أم سلمة، بعد وفاة رسول الله، سنينَ طويلة، قضتها في فعل الخير، وبذل النصح، حتى رجعت روحها إلى ربها، راضية مرضية، وقد كَبُر سنها، وصلى عليها أبو هريرة، ودفنت بالبقيع، عليها رضوان الله.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
بات الذكاء الاصطناعي اليوم واقعاً لا يمكن تجاهله في ميادين العمل القانوني، حيث بدأت العديد من مكاتب المحاماة في مختلف الدول تستعين بتطبيقاته. غير أن هذه الاستعانة قد تثير، في بعض الأحيان، إشكالات قانونية حول مدى الاستخدام المنضبط لهذه التقنيات، ولا سيما عند الاعتماد على مخرجاتها دون التحقق من صحتها ودقتها، وهو ما تجلى بوضوح في حكم حديث صادر عن محكمة قطر الدولية، حيث تصدت فيه المحكمة لهذه المسألة للمرة الأولى في نطاق قضائها. فقد صدر مؤخراً حكم عن الدائرة الابتدائية بالمحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال، (المعروفة رسمياً باسم محكمة قطر الدولية)، في القضية رقم: [2025] QIC (F) 57 بتاريخ 9 نوفمبر 2025، بشأن الاستخدام غير المنضبط وسوء توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في العمل القانوني. وقد ورد في حيثيات الحكم أن أحد المترافعين أمام المحكمة، وهو محامٍ يعمل لدى أحد مكاتب المحاماة المقيدة خارج دولة قطر، كما هو واضح في الحكم، قد استند في دفاعه إلى أحكام وسوابق قضائية نسبها إلى المحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال. غير أن المحكمة، وبعد أن باشرت فحص المستندات والتحقق من الوقائع، تبين لها أن تلك السوابق لا وجود لها في سجلاتها الرسمية، ولم تصدر عن أي من دوائرها، وأن ما استند إليه المترافع إنما كان من مخرجات غير دقيقة صادرة عن أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي المدمجة في أحد محركات البحث الإلكترونية المعروفة، والتي عرضت أحكاما وسوابق قضائية وهمية لا أصل لها في الواقع أو في القضاء.وقد بينت المحكمة في حيثيات حكمها أن السلوك الذي صدر عن المحامي، وإن بدا في ظاهره خطأ غير مقصود، إلا أنه في جوهره يرقى إلى السلوك العمدي لما انطوى عليه من تقديم معلومات غير صحيحة تمثل ازدراء للمحكمة. وقد أشارت المحكمة إلى أنه كان بوسع المحامي أن يتحقق من صحة السوابق والأحكام القضائية التي استند إليها لو أنه بذل العناية الواجبة والتزم بأدنى متطلبات التحقق المهني، لا سيما وأن جميع أحكام المحكمة متاحة ومتوفرة عبر موقعها الإلكتروني الرسمي. وانتهت المحكمة إلى أن ما صدر عن المحامي يُشكل مخالفة صريحة لأحكام المادة (35.2.5) من القواعد والإجراءات المتبعة أمام المحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال لسنة 2025، والتي نصت على أن إعطاء معلومات خاطئة أو مضللة يُعد مخالفة تستوجب المساءلة والجزاء. كما أوضحت المحكمة أن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، بوجه عام، في ميدان التقاضي هو أمر مرحب به لما يوفره من نفقات على أطراف الدعوى، ويُسهم في رفع كفاءة الأداء متى تم في إطاره المنضبط وتحت رقابة بشرية واعية. إذ إن الاعتماد عليه دون تحقق أو مراجعة دقيقة قد يفضي إلى نتائج غير محمودة. وقد أشارت المحكمة إلى أنها المرة الأولى التي يُستأنس فيها أمامها بأحكام منسوبة إليها لم تصدر عنها في الأصل، غير أنها أوضحت في الوقت ذاته أنّ مثل هذه الظاهرة قد ظهرت في عدد من الدول على خلفية التوسع في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني. وفي هذا الإطار، أشارت المحكمة إلى ما قضت به محكمة بولاية نيويورك في قضية Mata v. Avianca Inc (2023)، إذ تبين أن أحد المحامين قدم مذكرات قانونية اشتملت على أحكام وسوابق مختلقة تولدت عن استخدام غير دقيق لتقنيات الذكاء الاصطناعي. كما أشارت المحكمة إلى حكم آخر صادر عن محكمة بالمملكة المتحدة في قضية Ayinde v. Haringey (2025)، والذي أكد على وجوب المراجعة البشرية الدقيقة لأي نص قانوني أو سابقة قضائية يُنتجها الذكاء الاصطناعي قبل الاستناد إليها أمام القضاء، باعتبار ذلك التزاماً مهنياً وأخلاقياً لا يجوز التهاون فيه.كما لفتت المحكمة إلى أن ظواهر مماثلة قد لوحظت في بعض القضايا المنظورة أمام المحاكم في كندا وأستراليا، ويُظهر ذلك اتساع نطاق هذه الظاهرة وضرورة إحاطتها بضوابط مهنية دقيقة تكفل صون نزاهة الممارسة القانونية واستقلالها. وقد بينت المحكمة أنها بصدد إصدار توجيه إجرائي يقضي بأن الاستناد والإشارة إلى أي قضية أو مرجع أمام المحكمة في المستقبل دون التحقق من صحته أو من مصدره يُعد مخالفة تستوجب الجزاء، وقد يمتد أثرها إلى إعلان اسم المحامي ومكتبه في قرار المحكمة. وفي تقديرنا، يُعد هذا التوجه خطوة تُعزز مبادئ الشفافية، وتُكرس الانضباط المهني، وتُسهم في ردع أي ممارسات قد تمس بنزاهة الإجراءات القضائية وسلامة العمل القانوني. وفي الختام، نرى أن حكم محكمة قطر الدولية يُشكل رسالة مفادها أن الذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدين، فإن أُحسن توظيفه كان عوناً في البحث والتحليل والاستدلال، أما إذا أُطلق دون رقابة أو وعي مهني، فقد يُقوض نزاهة التقاضي بين الخصوم ويُعد مساساً بمكانة المحكمة ووقارها.
2349
| 30 نوفمبر 2025
ساعات قليلة تفصلنا عن لحظة الانطلاق المنتظرة لبطولة كأس العرب، حيث ستتحول الدوحة إلى قلب نابض بالإثارة والتشويق. الشوارع مزدانة بالأعلام، والطرق مكتظة بالجماهير المتجهة إلى الملاعب، كأن المدينة كلها أعدت نفسها ليوم يُكتب في التاريخ كعيد رياضي عربي كبير. لحظة البداية ليست مجرد صافرة، بل شرارة ستشعل الحماس في نفوس كل من يترقب الحدث، لتنطلق بطولة يُتوقع أن تكون من أقوى نسخها على الإطلاق. تجمع هذه البطولة المنتخبات العربية تحت مظلة واحدة، لتعيد للكرة العربية روحها التنافسية وتمنح الجماهير فرصة مشاهدة المواجهات مباشرة، حيث تتقاطع المهارات مع الإثارة في مباريات لا تخلو من المفاجآت. إنها فرصة لاختبار جاهزية المنتخبات وقياس مدى تطورها، وفتح الأبواب أمام مواهب جديدة لتسطع في سماء البطولة. كما أنها مناسبة لتأكيد قدرة قطر على تنظيم أحداث رياضية كبرى، وتقديم تجربة استثنائية للفرق والجماهير على حد سواء. ومع اقتراب لحظة الافتتاح، يدخل العنابي البطولة محملاً بآمال الشارع الرياضي القطري، الذي سيحضر بأعداد كبيرة ليكون جزءاً من لحظة تاريخية. الجماهير تنتظر أداءً متميزاً منذ البداية وروحاً عالية تليق بمنتخب يعتاد رفع سقف طموحاته على أرضه. الأماني واضحة: بداية قوية، ثبات نحو اللقب، وإظهار شخصية البطل منذ صافرة البداية. هذه البطولة ليست مجرد مشاركة، بل تحدٍ لإضافة إنجاز جديد لسجل المنتخب. الدعوة مفتوحة لكل الجماهير العربية للحضور والمساهمة في صناعة أجواء لا تُنسى، حيث تتحد الهتافات وتتوحد الأصوات العربية في المدرجات، لتصبح طاقة تجمع الشعوب رغم اختلاف الانتماءات الكروية. كلمة أخيرة: اليوم تبدأ الحكاية، ومعها تنطلق الإثارة. صفحة جديدة ستُكتب في تاريخ الكرة العربية، ومنافسة يُتوقع أن يكون كل يوم فيها أجمل من الذي قبله.
1125
| 01 ديسمبر 2025
في زمنٍ تتزاحم فيه الأصوات، وتُلقى فيه الكلمات عبر المجالس والمنصّات دون تروٍّ أو ميزان، يعود الحديث النبوي ليوقظ الضمير الإنساني تحذيرًا وتنبيهًا: «إنّ العبد ليتكلّم بالكلمة، ما يتبيّن فيها، يهوِي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب». إنه ليس توصيفًا مبالغًا فيه، بل حقيقة تهزّ القلب؛ فالكلمة التي لا تستغرق ثانية قد تحدّد مصيرًا، وترسم طريقًا لا يلتفت إليه المتحدث إلا بعد فوات الأوان. وفي القرآن الكريم تتجاوز الكلمة كونها صوتًا عابرًا؛ فهي عمل محسوب، يُسجَّل في سجلّ العدل الإلهي بلا زيادة ولا نسيان: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]. هذه النظرة القرآنية العميقة تجعل مسؤولية اللسان مسؤولية أخروية في المقام الأول. فالكلمة تكشف القلب قبل أن تُسمع الأذن. ويُصوّر القرآن حال المنافقين بوضوح حين قال: ﴿يَقُولُونَ بِأَفوَاهِهِم مَّا لَيسَ فِي قُلُوبِهِم﴾ [آل عمران: 167]. إنها إشارة إلى أن معيار الصلاح ليس كثرة الكلام، بل صدقه، ونقاؤه، وانسجامه مع ما في الصدر من تقوى. وإذا كان للكلمة هذا الثقل، فإنّ القرآن يدعو إلى تحويلها من مصدر أذى إلى منبع صلاح، فيأمر بقولٍ رفيق يهذّب العلاقات ويرفع الخلاف: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسنًا﴾ [البقرة: 83]، ويجعل الكلمة الطيبة شجرة وارفة الجذور والثمار: ﴿كَلِمَة طَيِّبَة كَشَجَرَة طَيِّبَةٍ أَصلُهَا ثَابِت وَفَرعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ﴾ [إبراهيم: 24]. فهي ليست مجرد تعبير، بل أثر باقٍ، وبركة ممتدّة، وصدقة جارية قد ترفع قائلها في الدنيا والآخرة. ويظلّ أخطر ما في الكلمة أنها تُقال أحيانًا بلا انتباه، فيقع صاحبها في الظلم أو السخرية أو الغيبة دون أن يشعر بثقل ما قال. ولعلّ هذا ما عناه الحديث الشريف: إنّ الهلاك لم يأتِ من خطاب طويل، ولا من نية متعمّدة، بل من «كلمة» لم يتوقف صاحبها لحظة ليتفكّر فيها. وهنا يظهر جوهر التربية القرآنية: أن يسبق التفكير النطق، وأن تُوزن الكلمات بميزان التقوى قبل أن تُرسل للناس. وفي عالم تتكاثر فيه المنابر وتتسع فيه دوائر البوح، يبقى درس القرآن ثابتًا: للكلمة طريقان؛ طريق يرفع إلى السماء، وطريق يورد موارد الهلاك. والمكلّف هو الإنسان وحده… بين لسانه وربّه.
639
| 28 نوفمبر 2025