رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
قبل الهجرة النبوية بنحو ثلاث سنين، جاء العباس بن عبد المطلب، يسعى إلى رسول الله، عليه الصلاة والسلام، فرحا مبتهجا، وهو يحمل بيديه طفله الصغير، فتناوله النبي الكريم بسرور بالغ، وأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، وسماه عبد الله، ثم دعا للعباس وولده.
ذلك هو أول يوم في حياة عبد الله بن العباس، الصحابي الذي لا يذكر اسمه، إلا ويذكر تفسير كتاب الله العزيز، حتى لقب بتَرجمان القرآن، وهو الصحابي العالم الذي عُرف بغزارة العلم، وسعة المعرفة، والإحاطة بمختلف العلوم، فنال لقب (حَبْر الأمة). لقد اجتمع لابن عباس من المحامد والفضائل الكثير في نفسه وفي عقله منذ صغره، فلم يكن في ناشئة الفتيان يومئذ أحدٌ في مثل خلقه وأدبه، وذكائه وفطنته، وحذقه في كل الأمور، مما أهله أن يظفر بدعاء رسول الله له، فقال وهو يمسح رأسه:(اللهم فقّه في الدين، وعلمه التأويل)، هذه هي الدعوة التي مثلت محور تفوق ونجاح ابن عباس، في مسيرة حياته الموفقة بجلائل الأعمال، وفرائد الأقوال.
كان ابن عباس شديد القرب من رسول الله، لقرابته له، ولمحبته التعلم، وفي مجلسٍ جمع النبي بصحابته يوماً، حدث هذا الموقف الذي يدل على فطانة ابن عباس، ولباقته وفصاحته، على حداثة سنه، وهو أن رسول الله، أُتي بقدح فشرب منه، وكان عن يمينه عبد الله بن عباس، وهو يومئذ غلام، وعن يساره كبار الصحابة، فقال له رسول الله: يا غلام، أتأذن لي أن أعطي الأشياخ؟ قال: ما كنت لأوثرَ بنصيبي منك أحدا، يا رسول الله. فأعطاه إياه.
من أبرز صفات ابن عباس، التي بوّأته مكانا عليا في العلم، الهمة والاجتهاد والحرص على طلب ما ينفع، فيحدثنا هو نفسُه أنه لما قُبض النبي عليه الصلاة والسلام — وكان سن ابن عباس إذ ذاك ثلاث عشرة سنة — قال لفتى من الأنصار: هلمَّ فلنسأل أصحاب رسول الله، فإنهم اليوم كثير. قال: يا عجبا لك يا بن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله من فيهم؟. فترك هذا الفتى ذلك، وأقبل ابن عباس يسأل الصحابة، وهنا يقول هو: إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي إليه وهو قائل — أي نائم وقت القيلولة — فأتوسد ردائي على بابه، يَسفي الريح علي التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول: يا بن عم رسول الله، ما جاء بك، هلا أرسلت إليّ فآتيك. فأقول: لا، أنت أحق بأن أسعى إليك. ثم يسأله ويتعلم منه، ويأخذ عنه، فلا عجب أن صار عالما، وهو الذي سئل مرة: أنّى أصبت هذا العلم؟ فأجاب: بلسان سؤول، وقلب عقول. أما ذلك الفتى الأنصاري الذي قَعَدت به نفسه، وضعفت همته، فعاش حتى رأى ابن عباس والناس يجتمعون حوله يسألونه، ويستمعون له، فقال: هذا الفتى كان أعقل مني. فعرف تقصيره وتفريطه في طلب ما فيه خيره وصلاحه، في زمن كان خليقا به، وبكل من هو في مثل عمره، أن يجتهد وينصب بمثابرة ومصابرة، ليجني من بعدُ، الفوائد والأرباح، في عاقبة أمره في دنياه وآخرته، ذلك لأن القاعدة النافعة المرتبطة بحياة الإنسان: أن ليس يغني عن الإنسان إلا سعيه، وما يقدم لنفسه.
لقد بلغت منزلة ابن عباس، أن كان الخليفتان عمر وعثمان، رضي الله عنهما، يدعوانه فيشير عليهما مع أهل بدر، وخاصة أمير المؤمنين عمر، كان يدنيه ويقربه، فيتحدث ومعه كبار الصحابة، ولا يجاوز عمر قوله، حتى قال عبد الرحمن بن عوف لعمر: إن لنا أبناءً مثلَه. فقال عمر: إنه من حيثُ تَعْلَمُ. وسأل عمر مرة ابن عباس عن هذه الآية:(إذا جاء نصر الله والفتح)، ليُريَ الصحابة مبلغه في العلم، بعد أن سأل الصحابة عنها، فلم يعلموا منها إلا ظاهرها، فأجاب وهو الذي عنده علم تأويل الكتاب ببركة دعاء الرسول: أجَلُ رسول الله، أعلمه إياه، أنْ إذا جاء فتح مكة، فذاك علامة أجلك. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم.
وبمناسبة قربه هذا من أمير المؤمنين، أوصاه أبوه العباس فقال: أيْ بني، إني أرى أمير المؤمنين يدعوك ويقربك، ويستشيرك مع أصحاب رسول الله، فاحفظ عني ثلاث خصال: اتقِ الله، لا يجربنّ عليك كذبة، ولا تفشين له سرا، ولا تغتابنّ عنده أحدا.
بلغ عبد الله بن العباس، في علمه وخلقه شأوا بعيدا، قلما يتحصل ويدرك عند الناس، عن سعة علمه قال عطاء بن أبي رباح:(ما رأيت قط مجلسا أكرم من مجلس ابن عباس، ولا أكثر فقها ولا أعظم هيبة، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، وكلهم يصدر عن وادٍ واسع)، فليس عجبا إذن أن يلقب بحَبر الأمة.
أما عن خلقه وأدب نفسه فقد كان في ذلك عظيما جليلا، مثلما هو كذلك في علمه، ولا بِدع في هذا، فالخلق هو زينة العلم، بل هو الثمرة اليانعة الناضرة من حصاده، ولا يكون ذو العلم عالما، إلا إذا كان ذا خلق كريم، يصور أدب النفس، التي زكاها العلم وهذبها، فصارت نفسا زكية نبيلة، ولا بد حتما من اقترانهما معا، الخلق والعلم، بحيث يكون الخلق نتيجة للعلم، يظهر أثرها في المتعلم، فتتجلى متمثلة في سلوكه وتعامله، وإلا فيا لخيبة صاحب العلم، ويا لضيعة طلب العلم.
نأخذ بعض الشواهد على مكارم وفضائل خلق ابن عباس، مما روي عنه من أقوال، من ذلك قوله في محبة الخير للغير جميعا، بعيدا عن شح الأثرة، وغل الحسد، وضيق الفكر، وهو من خير وأفضل الأقوال في الدلالة على النفس الطيبة السمحة الخيّرة، قال:(إني لآتي على الآية من كتاب الله، فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به، وما لي عنده قضية، وإني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا، فأفرح به، وما لي بتلك الأرض سائمة).
وقال أيضا مما يدل على أدب النفس وسماحتها: لو قال لي فرعون: بارك الله فيك. لقلت وفيك. ومن أقواله ونصائحه الثمينة الغالية: لا تتكلم فيما لا يَعنيك، ولا تُمارِ سفيها ولا حليما، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به.
جاهد في ميدان السيف
عاش ابن عباس طول حياته ناشرا للعلم، ناصرا للقرآن، داعيا إلى الخير، ناهيا عن الشر، ينفع الناس كافة بعلمه ونصحه حيثما حل وارتحل، ولقد جاهد في ميدان السيف، كما جاهد في ميدان العلم، إذ كان من المجاهدين في عهد رسول الله، وعهد خلفائه في الكثير من المشاهد، ينصر الحق في مواطنه، حتى توفاه الله، وقد كُفّ بصره في أُخريات أيامه فقال في ذلك وهو صابر راضٍ هذين البيتين الرائعين:
إنْ يأخذِ اللهُ من عينيّ نورَهما ففي لساني وسمعي منهما نورُ
قلبي ذكي وعقلي غيرُ ذي دَخَلٍ وفي فمي صارمٌ كالسيف مأثورُ
وتوفي رضي الله عنه، بالطائف سنة ثمان وستين من الهجرة، وعمره إحدى وسبعين سنة.
في زمنٍ تتنازع فيه القوى الإقليمية والدولية على النفوذ السيادي وتغيب فيه لغة العقل أمام صخب المصالح تبرز... اقرأ المزيد
156
| 12 أكتوبر 2025
المنطق يحتم على السودانيين باختلاف انتماءاتهم العرقية والجهوية وبصفة خاصة النخب السياسية والأكاديمية منهم أن يتدبروا أمرهم جيداً... اقرأ المزيد
141
| 12 أكتوبر 2025
في خطوة نوعية تعكس رؤية القيادة الرشيدة في بناء مجتمع متماسك ومتوازن، صادق حضرة صاحب السمو الشيخ تميم... اقرأ المزيد
207
| 12 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم خارج إطار العطاء، بل نراهم ذاكرة الوطن الحية، وامتداد مسيرة بنائه منذ عقود. هم الجيل الذي زرع، وأسّس، وساهم في تشكيل الملامح الأولى لمؤسسات الدولة الحديثة. ولأن قطر لم تكن يومًا دولة تنسى أبناءها، فقد كانت من أوائل الدول التي خصّت المتقاعدين برعاية استثنائية، وعلاوات تحفيزية، ومكافآت تليق بتاريخ عطائهم، في نهج إنساني رسخته القيادة الحكيمة منذ أعوام. لكن أبناء الوطن هؤلاء «المتقاعدون» لا يزالون ينظرون بعين الفخر والمحبة إلى كل خطوة تُتخذ اليوم، في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله – فهم يرون في كل قرار جديد نبض الوطن يتجدد. ويقولون من قلوبهم: نحن أيضًا أبناؤك يا صاحب السمو، ما زلنا نعيش على عهدك، ننتظر لمستك الحانية التي تعودناها، ونثق أن كرمك لا يفرق بين من لا يزال في الميدان، ومن تقاعد بعد رحلة شرف وخدمة. وفي هذا الإطار، جاء اعتماد القانون الجديد للموارد البشرية ليؤكد من جديد أن التحفيز في قطر لا يقف عند حد، ولا يُوجّه لفئة دون أخرى. فالقانون ليس مجرد تحديث إداري أو تعديل في اللوائح، بل هو رؤية وطنية متكاملة تستهدف الإنسان قبل المنصب، والعطاء قبل العنوان الوظيفي. وقد حمل القانون في طياته علاوات متعددة، من بدل الزواج إلى بدل العمل الإضافي، وحوافز الأداء، وتشجيع التطوير المهني، في خطوة تُكرس العدالة، وتُعزز ثقافة التحفيز والاستقرار الأسري والمهني. هذا القانون يُعد امتدادًا طبيعيًا لنهج القيادة القطرية في تمكين الإنسان، سواء كان موظفًا أو متقاعدًا، فالجميع في عين الوطن سواء، وكل من خدم قطر سيبقى جزءًا من نسيجها وذاكرتها. إنه نهج يُترجم رؤية القيادة التي تؤمن بأن الوفاء ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل سياسة دولة تُكرم العطاء وتزرع في الأجيال حب الخدمة العامة. في النهاية، يثبت هذا القانون أن قطر ماضية في تعزيز العدالة الوظيفية والتحفيز الإنساني، وأن الاستثمار في الإنسان – في كل مراحله – هو الاستثمار الأجدر والأبقى. فالموظف في مكتبه، والمتقاعد في بيته، كلاهما يسهم في كتابة الحكاية نفسها: حكاية وطن لا ينسى أبناءه.
8715
| 09 أكتوبر 2025
كثير من المراكز التدريبية اليوم وجدت سلعة سهلة الترويج، برنامج إعداد المدربين، يطرحونه كأنه عصا سحرية، يَعِدون المشترك بأنه بعد خمسة أيام أو أسبوع من «الدروس» سيخرج مدربًا متمكنًا، يقف على المنصة، ويُدير القاعة، ويعالج كل التحديات، كأن التدريب مجرد شهادة تُعلق على الجدار، أو بطاقة مرور سريعة إلى عالم لم يعرفه الطالب بعد. المشكلة ليست في البرنامج بحد ذاته، بل في الوهم المعبأ معه. يتم تسويقه للمشتركين على أنه بوابة النجومية في التدريب، بينما في الواقع هو مجرد خطوة أولى في طريق طويل. ليس أكثر من مدخل نظري يضع أساسيات عامة: كيف تُصمم عرضًا؟ كيف ترتب محتوى؟ كيف تُعرّف التدريب؟. لكنه لا يمنح المتدرب أدوات مواجهة التحديات المعقدة في القاعة، ولا يصنع له كاريزما، ولا يضع بين يديه لغة جسد قوية، ولا يمنحه مهارة السيطرة على المواقف. ومع ذلك، يتم بيعه تحت ستار «إعداد المدربين» وكأن من أنهى البرنامج صار فجأة خبيرًا يقود الحشود. تجارب دولية متعمقة في دول نجحت في بناء مدربين حقيقيين، نرى الصورة مختلفة تمامًا: • بريطانيا: لدى «معهد التعلم والأداء» (CIPD) برامج طويلة المدى، لا تُمنح فيها شهادة «مدرب محترف» إلا بعد إنجاز مشاريع تدريبية عملية وتقييم صارم من لجنة مختصة. • الولايات المتحدة: تقدم «جمعية تطوير المواهب – ATD» مسارات متعددة، تبدأ بالمعارف، ثم ورش تطبيقية، تليها اختبارات عملية، ولا يُعتمد المدرب إلا بعد أن يُثبت قدرته في جلسات تدريب واقعية. • فنلندا: يمر المدرب ببرنامج يمتد لأشهر، يتضمن محاكاة واقعية، مراقبة في الصفوف، ثم تقييما شاملا لمهارات العرض، إدارة النقاش، والقدرة على حل المشكلات. هذه التجارب تثبت أن إعداد المدرب يتم عبر برامج متعمقة، اجتيازات، وتدرّج عملي. المجتمع يجب أن يعي الحقيقة: الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع أن TOT ليس نقطة الانطلاق، بل الخطوة المعرفية الأولى فقط. المدرب الحقيقي لا يُصنع في أسبوع، بل يُبنى عبر برامج تخصصية أعمق مثل «اختصاصي تدريب»، التي تغوص في تفاصيل لغة الجسد، السيطرة على الحضور، مواجهة المواقف الحرجة، وبناء الكاريزما. هذه هي المراحل التي تُشكل شخصية المدرب، لا مجرد ورقة مكتوب عليها «مدرب معتمد». لكي نحمي المجتمع من أوهام «الشهادات الورقية»، يجب أن يُعتمد مبدأ الاختبار قبل الدخول، بحيث لا يُقبل أي شخص في برنامج إعداد مدربين إلا بعد اجتياز اختبار قبلي يقيس مهاراته الأساسية في التواصل والعرض. ثم، بعد انتهاء البرنامج، يجب أن يخضع المتدرب لاختبار عملي أمام لجنة تقييم مستقلة، ليُثبت أنه قادر على التدريب لا على الحفظ. الشهادة يجب أن تكون شهادة اجتياز، لا مجرد «شهادة حضور». هل يُعقل أن يتحول من حضر خمسة أيام إلى «قائد قاعة»؟ هل يكفي أن تحفظ شرائح عرض لتصير مدربًا؟ أين الارتباك والتجربة والخطأ؟ أين الكاريزما التي تُبنى عبر سنوات؟ أم أن المسألة مجرد صور على إنستغرام تُوهم الناس بأنهم أصبحوا «مدربين عالميين» في أسبوع؟ TOT مجرد مدخل بسيط للتدريب، فالتدريب مهنة جادة وليس عرضا استهلاكيا. المطلوب وعي مجتمعي ورقابة مؤسسية وآليات صارمة للاجتياز، فمن دون ذلك سيبقى سوق التدريب ساحة لبيع الوهم تحت عناوين براقة.
6912
| 06 أكتوبر 2025
تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في قطر، وهو رجل أعمال من المقيمين في قطر كان قد جدد لتوّه إقامته، ولكنه لم يحصل إلا على تأشيرة سارية لمدة عام واحد فقط، بحجة أنه تجاوز الستين من عمره. وبالنظر إلى أنه قد يعيش عقدين آخرين أو أكثر، وإلى أن حجم استثماره ضخم، فضلاً عن أن الاستثمار في الكفاءات الوافدة واستقطابها يُعدّان من الأولويات للدولة، فإن تمديد الإقامة لمدة عام واحد يبدو قصيرًا للغاية. وتُسلط هذه الحادثة الضوء على مسألة حساسة تتمثل في كيفية تشجيع الإقامات الطويلة بدولة قطر، في إطار الالتزام الإستراتيجي بزيادة عدد السكان، وهي قضية تواجهها جميع دول الخليج. ويُعد النمو السكاني أحد أكثر أسباب النمو الاقتصادي، إلا أن بعض أشكال النمو السكاني المعزز تعود بفوائد اقتصادية أكبر من غيرها، حيث إن المهنيين ورواد الأعمال الشباب هم الأكثر طلبًا في الدول التي تسعى لاستقطاب الوافدين. ولا تمنح دول الخليج في العادة الجنسية الكاملة للمقيمين الأجانب. ويُعد الحصول على تأشيرة إقامة طويلة الأمد السبيل الرئيسي للبقاء في البلاد لفترات طويلة. ولا يقل الاحتفاظ بالمتخصصين والمستثمرين الأجانب ذوي الكفاءة العالية أهميةً عن استقطابهم، بل قد يكون أكثر أهمية. فكلما طالت فترة إقامتهم في البلاد، ازدادت المنافع، حيث يكون المقيمون لفترات طويلة أكثر ميلاً للاستثمار في الاقتصاد المحلي، وتقل احتمالات تحويل مدخراتهم إلى الخارج. ويمكن تحسين سياسة قطر لتصبح أكثر جاذبية ووضوحًا، عبر توفير شروط وإجراءات الإقامة الدائمة بوضوح وسهولة عبر منصات إلكترونية، بما في ذلك إمكانية العمل في مختلف القطاعات وإنشاء المشاريع التجارية بدون نقل الكفالة. وفي الوقت الحالي، تتوفر المعلومات من مصادر متعددة، ولكنها ليست دقيقة أو متسقة في جميع الأحيان، ولا يوجد وضوح بخصوص إمكانية العمل أو الوقت المطلوب لإنهاء إجراءات الإقامة الدائمة. وقد أصبحت شروط إصدار «تأشيرات الإقامة الذهبية»، التي تمنحها العديد من الدول، أكثر تطورًا وسهولة. فهناك توجه للابتعاد عن ربطها بالثروة الصافية أو تملك العقارات فقط، وتقديمها لأصحاب المهارات والتخصصات المطلوبة في الدولة. وفي سلطنة عمان، يُمثل برنامج الإقامة الذهبية الجديد الذي يمتد لعشر سنوات توسعًا في البرامج القائمة. ويشمل هذا النظام الجديد شريحة أوسع من المتقدمين، ويُسهّل إجراءات التقديم إلكترونيًا، كما يتيح إمكانية ضم أفراد الأسرة من الدرجة الأولى. وتتوفر المعلومات اللازمة حول الشروط وإجراءات التقديم بسهولة. أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فهناك أيضًا مجموعة واضحة من المتطلبات لبرنامج التأشيرة الذهبية، حيث تمنح الإقامة لمدة تتراوح بين خمس و10 سنوات، وتُمنح للمستثمرين ورواد الأعمال وفئات متنوعة من المهنيين، مع إمكانية ضم أفراد الأسرة. ويتم منح الإقامة الذهبية خلال 48 ساعة فقط. وقد شهدت قطر نموًا سكانيًا سريعًا خلال أول عقدين من القرن الحالي، ثم تباطأ هذا النمو لاحقًا. فقد ارتفع عدد السكان من 1.7 مليون نسمة وفقًا لتعداد عام 2010 إلى 2.4 مليون نسمة في عام 2015، أي بزيادة قدرها 41.5 %. وبلغ العدد 2.8 مليون نسمة في تعداد عام 2020، ويُقدَّر حاليًا بحوالي 3.1 مليون نسمة. ومن المشاكل التي تواجه القطاع العقاري عدم تناسب وتيرة النمو السكاني مع توسع هذا القطاع. فخلال فترة انخفاض أسعار الفائدة والاستعداد لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، شهد قطاع البناء انتعاشًا كبيرًا. ومع ذلك، لا يُشكل هذا الفائض من العقارات المعروضة مشكلة كبيرة، بل يمكن تحويله إلى ميزة. فمثلاً، يُمكن للمقيمين الأجانب ذوي الدخل المرتفع الاستفادة وشراء المساكن الحديثة بأسعار معقولة. إن تطوير سياسات الإقامة في قطر ليكون التقديم عليها سهلًا وواضحًا عبر المنصات الإلكترونية سيجعلها أكثر جاذبية للكفاءات التي تبحث عن بيئة مستقرة وواضحة المعالم. فكلما كانت الإجراءات أسرع والمتطلبات أقل تعقيدًا، كلما شعر المستثمر والمهني أن وقته مُقدَّر وأن استقراره مضمون. كما أن السماح للمقيمين بالعمل مباشرة تحت مظلة الإقامة الدائمة، من دون الحاجة لنقل الكفالة أو الارتباط بصاحب عمل محدد، سيعزز حرية الحركة الاقتصادية ويفتح المجال لابتكار المشاريع وتأسيس الأعمال الجديدة. وهذا بدوره ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني عبر زيادة الإنفاق والاستثمار المحلي، وتقليل تحويلات الأموال إلى الخارج، وتحقيق استقرار سكاني طويل الأمد.
4860
| 05 أكتوبر 2025