رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
العقل التبريري آفة من آفات القلوب قبل أن يكون خللا في التفكير؛ لأنه يعطل فريضة المحاسبة، ويصادم مقصد الهداية، ويحول الخطأ من زلة تعالج إلى سلوك يشرعن. وهو في ميزان الإسلام لون من ألوان خداع النفس، التي حذر الوحي من اتباعها والانقياد لأهوائها. فالمنهج الإسلامي يقوم على وضوح الحق، وتحمل المسؤولية، وربط القول بالفعل، لا على الالتفاف حول الخطأ وتزيينه. يقول الله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ﴾ فهذه الآية تكشف جوهر العقل التبريري؛ إذ قد يملك الإنسان من الحجج ما يبرر به فعله، لكنه في قرارة نفسه يعلم موضع الحق من الباطل. ويظهر خطر هذا العقل حين يقدم تبرير الخطأ على الاعتراف به، فينقلب ميزان القيم، ويغيب معنى التوبة. وقد قرر القرآن قاعدة محكمة في هذا الباب بقوله تعالى: ﴿فلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ﴾ فالتزكية الزائفة للنفس، وتبرئة السلوك دون محاسبة، لون من ألوان الغرور الذي يمنع الإصلاح. وفي السنة النبوية يتجلى المنهج النقي في مواجهة الخطأ دون مواربة، قال رسول الله ﷺ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ». فالخطأ في ذاته ليس موضع الإدانة المطلقة، وإنما الخطر في الإصرار عليه وتسويغه، وقطع الطريق أمام التوبة والمراجعة. وقد كان السلف الصالح أشد الناس خوفا من تبرير النفس. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا». وكانوا يرون أن محاسبة النفس شرط النجاة، وأن التساهل مع الخطأ بداية الهلاك. وقال بعض السلف: «الْمُؤْمِنُ قَوَّامٌ عَلَى نَفْسِهِ، يُحَاسِبُهَا لِلَّهِ، وَإِنَّمَا خَفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا». وفي هذا المعنى إشارة واضحة إلى أن العقل التبريري يثقل الحساب ولا يخففه. إن العقل التبريري في المنظور الإسلامي ليس مجرد ضعف فكري، بل خلل إيماني، لأنه يعطل مقام التوبة، ويصادم معنى الصدق، ويغلق باب الإصلاح. ولهذا كان الصدق مع النفس أصل كل صلاح، وكان الاعتراف بالخطأ رفعة لا مذلة، وقوة لا ضعفا. فالطريق المستقيم لا يقبل التبرير الدائم، وإنما يقوم على وضوح الموقف، وشجاعة الاعتراف، والعزم على التصحيح. ومن لم يواجه خطأه في الدنيا بصدق، واجهه في الآخرة بحساب لا تبرير فيه، ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.
141
| 21 ديسمبر 2025
ليس الخطأ طارئا على الإنسان، ولا استثناء في مسيرته، بل هو جزء أصيل من تكوينه، يرافقه ما دام يمشي على الأرض بقلب يخفق وعقل يجرب. فالإنسان لا يتعلم إلا إذا تعثر، ولا ينضج إلا إذا ذاق مرارة الزلل، ولا يعرف قدر الاستقامة إلا بعد أن يبتعد عنها خطوة ثم يعود. وفي لحظة الخطأ تنكشف المعادن: معادن القلوب، وصدق النيات، وعمق الوعي. فهناك من يتخذ الخطأ ذريعة للانكسار، وهناك من يجعله سلما للارتقاء، وبين هذا وذاك تتشكل معاني القيم الحقة، حيث يكون الرجوع فضيلة، والتواضع قوة، والإصلاح طريقا مفتوحا لكل من أراد أن يسمو بنفسه قبل أن يحاكم غيره. إن الخطأ لحظة كاشفة؛ يكشف فيها الإنسان حقيقة نفسه، ويختبر فيها صدق مبادئه، وقوة أخلاقه، وعمق وعيه، ومن أحسن قراءة خطئه، حوله من عثرة إلى درجة، ومن انكسار إلى نضج، ومن تجربة مؤلمة إلى درس لا ينسى. فالخطأ في ذاته ليس النهاية، وإنما قد يكون بداية وعي جديد، إذا أحسن الإنسان الوقوف عنده وتأمله بصدق وتجرد وهذه بعض ملامح التعامل الناضج معه: 1- الاعتراف: بداية الإصلاح وجسر العودة إلى الصدق الاعتراف بالخطأ ليس ضعفا، بل شجاعة داخلية لا يملكها إلا الأقوياء. هو مواجهة صادقة مع النفس قبل مواجهة الآخرين، وقطع لطريق التبرير الذي يفسد الضمير ويميت الإحساس بالمسؤولية. من اعترف بخطئه تحرر من ثقل الإنكار، وفتح نافذة للحقيقة، وأعاد ترتيب داخله على أساس الصدق. فالإنسان حين يقر، لا يسقط هيبته، بل يستعيد إنسانيته، ويضع قدمه الأولى على طريق الإصلاح، ويبدأ رحلة تصالح مع ذاته قبل غيره. 2- الإصلاح السريع: إطفاء العواقب قبل اتساعها التأخر في تصحيح الخطأ يضاعف أثره، ويمنحه زمنا لينمو ويتشعب، وقد يحوله من زلة محدودة إلى أزمة معقدة. أما المبادرة السريعة، فهي كإطفاء شرارة قبل أن تتحول إلى حريق. الإصلاح المبكر يحاصر الضرر، ويشعر الطرف الآخر بالجدية والاحترام، ويثبت أن الخطأ لم يكن استهانة، بل غفلة عابرة. 3- الابتسامة: كلمة طيبة بغير حروف: الابتسامة ليست تصنعا ولا استخفافا، بل رسالة صامتة تحمل في طياتها الطمأنينة وحسن النية. فحين تخطئ، ثم تقبل بوجه بشوش وقلب حاضر، فإنك تهيئ المناخ للصفح، وتخفف حدة التوتر، وتفتح باب الحوار الهادئ. كثير من النفوس لا تحتاج إلى طول اعتذار بقدر حاجتها إلى دفء إنساني يشعرها بالاهتمام والتقدير. والابتسامة في موضعها قد تصلح ما لا تصلحه الجلسات والحوارات مهما بلغت دقتها. 4- الاعتذار: قوة المتواضعين ورفعة الأخلاق: الاعتذار الصادق فعل أخلاقي عميق، لا ينطق به اللسان فقط، بل تشهد له النبرة، ويصدقه السلوك. هو اعتراف بالحق، وإنصاف للآخر، وتواضع يرفع صاحبه في ميزان القلوب، فليس الاعتذار خضوعا ولا انكسارا، بل تحرر من الأنا، وكسر لحاجز العناد الذي يمنع الإصلاح. ويكفي في الاعتذار أن يكون واضحا، مباشرا، خاليا من التبرير، مشبعا بالرغبة الصادقة في جبر الخاطر ورد الاعتبار. 5- إغلاق الحديث: صيانة للمودة وحماية للصفاء إذا قبل الاعتذار، فالحكمة أن تغلق الصفحة بوعي، لا أن تطوى على مضض. إعادة فتح الحديث، أو استدعاء التفاصيل، أو التلميح المتكرر إلى الخطأ الماضي، كل ذلك يضعف الثقة ويهدد المودة، ويعيد النفوس إلى دائرة التوتر. الصفح الحقيقي لا يكتمل إلا بالنسيان النسبي، وبمنح العلاقة فرصة جديدة بعيدا عن ظلال الأمس. فالعلاقات السليمة تبنى على الاستمرار والتجاوز، لا على اجترار الأخطاء. 6- إبعاد مثيري الفتن: حماية للعلاقات من التشويه ليس كل من يستمع ناصحا، ولا كل من يعلق محبا. هناك من يتغذى على تضخيم الزلات، ونفخ الخلافات، وبث الشكوك في النفوس. وهؤلاء خطرهم خفي، إذ يفسدون القلوب باسم الحرص، والحكمة تقتضي أن تحاط العلاقات بسياج من الخصوصية، وأن يبعد عنها كل من لا يحسن إلا تأجيج النار. فصفاء القلوب لا يحتمل العبث، ولا ينمو في بيئة مسمومة. بهذا الميزان يستقيم الطريق: وعي يعترف، وضمير يصلح، وأخلاق تعتذر، وحكمة تغلق أبواب الفتن؛ فلسنا معصومين من الخطأ، لكننا مسؤولون عن كيفية الرجوع بعده. وكل رجوع صادق هو انتصار داخلي، وخطوة ثابتة نحو النضج، وسكينة تثمر سلاما مع النفس ومع الآخرين. ومن أدرك هذه الحقيقة، عاش أخف قلبا، وأصفى روحا، وأقرب إلى المعنى العميق للإنسانية.
135
| 15 ديسمبر 2025
حين يترسخ الوعي في النفس، ويستقيم ميزان العقل، ويهدأ اضطراب القلب، يبدأ الإنسان يرى عالمه الداخلي بمنظار أعمق مما كان يراه من قبل. فالمعارك التي كان يظنها بابا لإثبات الذات، تتكشف له يوما بعد يوم على حقيقتها: أبوابا تستهلك الروح، وتسرق العمر، وتبدد صفاء البصيرة. ومع نضج التجربة، يزداد إدراكه أن الوقت أعظم نعمة، وأن النفس أغلى أمانة، وأن الدخول في كل سجال ليس فضيلة، وأن ترك كثير من الخصومات رفعة لا يصل إليها إلا من تجاوز طور ردود الأفعال، وارتقى إلى مقام الوعي المؤسس على التعقل والحكمة. والآية الكريمة: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾، ليست وصفا عابرا لأخلاق جماعة من الناس، بل هي رسم لصورة إنسان بلغ تمام الرشد؛ إنسان يعرف أن النزول إلى مستوى الجاهل خسارة قبل أن تكون مجادلة، وأن الرد على السفه قد يمنح لحظة انتصار، لكنه يسلب من النفس مقام الوقار. فالسلام الذي ينطقون به ليس هروبا من المواجهة، بل هو قوة في الترفع، وسيادة على النفس، وقدرة على أن يقول الإنسان لنفسه: لستُ مضطرا إلى كل ساحة دعيت إليها. وفي الحديث النبوي الشريف: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) تبرز قاعدة ذهبية تختصر نصف الحكمة. فمن ترك ما لا يعنيه، إنما تركه لأنه عرف قدر نفسه، وعرف أن الخوض في ما لا ينفع يضيع العمر بلا ثمرة، ويثقل الروح بغير سبب. فمن أراد لنفسه صفاءً، ولعمره بركة، ولذكائه نموا، ولصوته وزنا، فعليه ألا ينشغل بما لا يعيده إلى ذاته بخير أو حكمة. وهذا الترك ليس ترفا، بل ضرورة يفرضها احترام الذات. وفي هذا السياق يروي الجاحظ قصة تكاد تكون مرآة صادقة لهذا المعنى ؛ ففي البيان والتبيين أن رجلا من أهل الجدل – من أولئك الذين يتقنون إثارة الخصومات ويعشقونها – اعترض أعرابيا في الطريق وقال له: «يا أخا العرب، أتحب أن نتجادل في مسألة؟» فنظر الأعرابي إليه نظرة من فهم الدنيا أكثر مما فهمها خصمه، ثم قال: «أعلى العقل تتجادل؟» فقال الرجل: «نعم». فقال الأعرابي: «فقد كفيتك؛ لأن العقل يهدي فيما لا نفع فيه إلى السكوت، ومن طلب الجدال فقد خالفه». ثم أدار ظهره وقال جملة تستحق أن تُكتب بماء الضياء: «ما رأيت شيئا أذهب للوقار من خصومة لا تجلب نفعا». فانصرف الأعرابي بهيبة، وبقي الرجل حائرا، وقد خسر اللحظة التي كان يأمل فيها أن يلمع صيته، وربح الآخر وقارا لا يُشترى. هذه القصة ليست مجرد حكاية، بل هي فصل كامل في فن الحياة. إنها تعلمك أن الوقار لا يُصنع بالردود، وأن الحكمة لا تُولد من الانفعال، وأن العقول الكبيرة لا تركض وراء كل سجال. فليست كل معركة جديرة بالمشاركة؛ بعض المعارك مجرد ثقوب سوداء تبتلع الوقت والطاقة والسكينة. والعاقل لا يسمح لنفسه أن تُستدرج إلى ما يعلم مسبقا أنه طريق لا نهاية له. وما أكثر ما نرى في حياتنا من معارك متخفية تحت عباءة الحق، لكنها في جوهرها صراعات، ورغبات إثبات، وتنافس على الغلبة لا على الحقيقة. يدخلها الإنسان بحماسة، ثم يخرج منها منهكا، وقد فقد شيئا من رصانته، وشيئا من صفائه، وربما شيئا من احترامه لنفسه. بينما قد يغادرها آخر منذ أول لحظة، مدركا أن الهزيمة الشكلية أكرم للنفس من الانتصار الذي يشوهها. إن بعض الهزائم ليست إلا حماية من السقوط الأكبر. وبعض الانسحابات ليست إلا صعودا في سلّم النضج. فمن عرف قيمة نفسه عرف قيمة صمته، ومن عرف قدر عقله عرف قدر خصومه، ومن عرف الطريق الذي يمضي فيه لم يلتفت إلى من يلوّح له من جوانب الطريق داعيا إياه إلى معركة لا تُثمر إلا فراغا. والنفوس الكبيرة لا يجذبها الصراخ، ولا يسحرها وهج الجدل، ولا تبحث عن انتصارات فارغة. تعرف أن الكلمة العالية ليست التي تُقال بصوت مرتفع، بل التي تحمل وزنا في ميزان الحق. وتدرك أن الرد السريع ليس دليلا على القوة، وأن التجاهل ليس ضعفا، وأن الصمت قد يكون أحيانا أعظم بيان. ومن أراد أن يعيش بسلام، فليتعلم أن يحفظ قلبه من كل ما ينقص نوره. وأن يترك للخصومة طريقها دون أن يسير فيها، وأن يختار معاركه بعناية، وأن يتذكر دائما أن العمر ليس مساحة مفتوحة للمشاكسات، وأن أرباح الجدل قد تكون خسائر لروح لا تُعوّض. إن الإنسان حين يكتمل رشده يرى أن أعظم ما يمكن أن يربحه هو نفسه، وأن أسوأ ما يمكن أن يخسره هو نفسه. لذلك كان بعض الخسران شرفا، وبعض التراجع قوة، وبعض الصمت انتصارا، وبعض الهزائم قمما من المجد الإنساني. وبعد كل هذا، لا يبقى إلا أن نقول: بعض المعارك في خسرانها شرف، من عاد منتصرا من مثلها انهزما
183
| 07 ديسمبر 2025
في التراث الشعبي قصة مفادها: أن ثورا هائجا اقتحم مضارب عبس، فهدم من الخيام ما هدم، وبدّد من السكينة ما بدّد، وترك في النفوس ما يتركه كلُّ خطرٍ يأتي بلا مقدّمات، وملأ المكان هلعًا واضطرابًا! فزع الناس من فورهم وراحوا يفتّشون عن عنترة، ينتظرون منه أن يقف في وجه العاصفة كما اعتادوا أن يفعل! لكنّ الدهشة استبدّت بهم حين رأوه مختبئا في ناحية يتجنّب تلك الهجمة! قالوا له في عتابٍ ظاهر: تفرّ من الثور وأنت عنتر؟ فأجابهم بعبارة صارت مثلًا: ومن يُخبر الثور إنّي عنتر؟ لم يكن جوابا من رجل هارب، بل من إنسان يعرف أنّ الشجاعة ليست أن نقتحم الخطر لأنّ الناس تتوقّع منّا ذلك! بل أن ندرك ما يصلح أن نواجهه وما لا معنى لمواجهته. فالثور لا يفهم الأسماء، ولا تردّه ذكريات المفاخر، ولا يهاب سيرة الفرسان؛ بل هو غضب أعمى لا ينفع معه صهيل البطولة. هكذا انتهت الحكاية لكنها تركت بابًا مشرعا للتأمّل في معنى الشجاعة، وفي الحدود الدقيقة التي تفصلها عن التهوّر. الشجاعة ليست اندفاعًا يسبق التفكير، ولا صوتًا يعلو حين يخفت صوت العقل؛ بل هي بصيرة قبل أن تكون قوة، وإدراك قبل أن تكون اندفاعًا. ولذلك جاء الخطاب الإلهي موجها للإنسان أن يحفظ نفسه من حماسة تجرّه إلى مداخل الهلاك فقال:﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾. أي كن سيد نفسك لا أسير رغبة في الانتصار على شيء لا يفهم معنى انتصارك! فالثور لا يفهم أنك عنتر. والغضب لا يفهم أنك حكيم. واللحظة لا تفهم أنك شجاع! وفي ميزان النبوّة تعلو الحكمة على مجرد السطوة، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ». فالشدّة ليست الحدّة، وليست الاندفاع، وليست الغلبة على الآخر. إنها الغلبة على الذات. إدارة الداخل قبل الخارج. امتلاك العاصفة التي تثور في القلب قبل امتلاك السيوف التي تتحرّك في الأيدي. حين نفهم ذلك، ندرك أن الشجاعة ليست فضيلة عضليّة، بل فضيلة عقلية، وليست مهارة ميدانية، بل موقف وجودي. الشجاعة —بمعناها العميق— هي قدرة الإنسان على أن يختار. أما التهوّر، فهو أن تُنتزع منه القدرة على الاختيار، فيتحرّك بدافع اللحظة، بدافع العيون التي تنتظر منه أن يكون شيئًا وفقط حتى وإن هلك بلا ثمن! إن صفحات التاريخ مليئة بالرجال الذين أدركوا أنّ الحرب رأيٌ قبل أن تكون سيفًا، وأن النصر يُصنع بالتدبير كما يُصنع بالشجاعة. وهذا ليست هربا منها، بل عن وعي بأن مواجهة الخطر لا قيمة لها إذا خلت من غاية، وأن الإقدام بلا بصيرة صورة أخرى للخسران. فليس كل اندفاع بطولة، ولا كل تراجع جبنًا؛ إنما البطولة أن يعرف الإنسان موضع خطاه، وأن يميّز بين معركة تستحق السعي إليها وأخرى لا تزيده إلا نزفًا بلا معنى. والخلاصة أن في حياة كل إنسان منا ثورا هائجا بشكل ما: غضب يفاجئ العقل، إهانة تستفز النفس، موقف يطالب فيه الناس صاحبه بأن يبرهن على قوته! وفي كل مرة تُرفع أمامه راية التحدّي، يقف عند الحدّ الفاصل بين الطريقين: طريق التهوّر الذي يغريه بالاندفاع، وطريق الشجاعة الحقيقية التي تبدأ بالعقل وتستقرّ بالحكمة. ولعلّ أجمل ما في تلك الحكاية أنّها تُعيد ترتيب الميزان في القلب: ليس المهم أن يعرف الآخرون أنّك عنتر، بل أن تعرف أنت متى تكون عنتر، ومتى تكون أحكم من عنتر. فالبطولة ليست إثباتًا للذات، بل حفظٌ لها. وليست صليل سيوف، بل بصيرةٌ تضع القوة في موضعها. هكذا يصبح الإنسان شجاعًا لا متهوّرًا، ثابتًا لا مندفعًا، قويًّا بحكمته قبل قوّة ساعده. وهكذا يتبيّن أنّ العقل هو القائد الحقيقيّ للقلب، وأن كل خطوة بلا وعي إنما هي (ثور) جديد يقتحم مضارب الحياة.
222
| 02 ديسمبر 2025
حين ينضج الوعي؛ يخفت الجدل، لا لأنه يفقد قيمته، بل لأن النفس تتجاوز تلك المرحلة التي كانت ترى في كل اعتراض تحدياً يجب الانتصار عليه، وفي كل اختلاف تهديداً ينبغي دفعه. ومع الزمن يبدأ الإنسان يلاحظ أن كثيراً من النقاشات التي كان يخوضها في بدايات عمره لم تكن بحثاً عن الحقيقة بقدر ما كانت محاولة لإثبات الذات، أو ردّ فعل نابع من نقص في الفهم أو التجربة. ومع تراكم الخبرة واتساع أفق النظر، يتبدّل إدراكه لطبيعة الحوار؛ فيعي أن الكلام ليس دائماً طريقاً إلى الفهم، وأن بعض المساحات في الحياة لا يفتح أبوابها إلا الصمت. يدرك أن الجدل حين يخلو من الإنصاف يتحوّل إلى حلقةٍ مفرغة، مهما بدا لامعاً وظاهره قوياً، وكلما ازداد تبصّره قلّ تعلّقه بالرغبة في التفوق اللفظي، لأن العقل حين يستقيم لا يطلب إثبات نفسه بالصوت، بل بالفعل والرؤية والسكينة. وهنا يظهر أثر النضج في أول تجلٍّ من تجليات العلاقة مع الناس: فلم تعد الآراء المخالفة تستفزّه كما كانت، ولم يعد يرى في كل اختلاف سبباً لنقاش طويل. سيدرك أن فهم الآخرين له حدود، وأن محاولات شرح كل موقف وإقناع كل عقل هي استنزاف يفتت الجهد دون جدوى، فيصبح أكثر انتقاءً للمساحات التي يستثمر فيها طاقته الذهنية والعاطفية، وأكثر بصيرة بما يستحق جهداً وما يجدر أن يترك في مكانه دون مقاومة. وسيتسع هذا الوعي ليشمل قيمة الوقت ومعنى العمر؛ فيفهم أن الساعات التي يضيّعها الإنسان دفاعاً عن فكرة لا تستحق، أو رداً على استفزاز عابر، هي اقتطاع من أيامه التي لن تُعاد، وأن النزاعات الصغيرة ليست إلا ثقوباً تنفذ منها طمأنينة القلب واستقراره؛ فيبدأ يحرص على أن يبقى مزاجه الداخلي في مأمن من العبث، وأن تبقى روحه بعيدة عن التشويش الذي تسببه المعارك الكلامية اليومية. ولا يعود يقف عند كل اعتراض، لأن الاعتراضات لا تنتهي. ولا يرد على كل استفزاز، لأن الاستفزاز جزء من طبائع البشر. ولا يسمح لصغائر الأمور أن تحجب عنه صفاءه. فيبدأ في ممارسة التغافل، لا بوصفه تنازلاً أو ضعفاً، بل باعتباره حكمة تختار المعارك التي تستحق، وتترك ما سواها يمضي دون أثر. ويبلغ هذا النضج قمته حين يتعامل الإنسان مع الصمت كقيمة عليا، يعرف أن الصمت أبلغ من القول حين يكون القول تشويشاً، وأن الإعراض عن اللغو رفعة للنفس لا يقدرها إلا من عرف ثمن سكينته. سيكتشف أن الدخول في كل نقاش ينقصه ولا يزيده، وأن كثرة الردود لا تمنح الإنسان قوة بقدر ما تعكس اضطراباً داخلياً لم يُهذّب بعد. إن السلام الداخلي الذي يناله المرء حين يشتد وعيه ليس شيئاً يستطيع الجدل منحه، ولا يقدر الانتصار اللفظي على توفيره، إنه ثمار تراكم طويل من الفهم والصبر والتجربة، تتشكل مع الأيام حتى يصبح الإنسان أكثر خفة في تعامله مع العالم، وأكثر صفاءً في رؤيته لنفسه. وهكذا يمضي صاحب الوعي في دربه، لا يحمل أثقال الخصومات، ولا يضيع أنفاسه في ملاحقة أصوات الناس، بل يحفظ صوته الداخلي من أن يبهت في ضجيج النقاشات.
540
| 23 نوفمبر 2025
ينطلق الإنسان في هذه الحياة بين شقشقات الأمل، وجراح الواقع، ونداءات الفطرة التي تناديه إلى أن ينهض، وأن يكدح؛ فلا مكان لروح خامدة تترقب المعجزات، ولا لحياة تُرجى على ضفاف الأماني الكسلى. ومن هنا يأتي كلام المتنبي منبها الغافل: لَوْلا المَشَقَّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقْدَامُ قَتَّالُ كلمة تُشبه قَرْعَ المطرقة فوق صخرة الوهم، لتقول للإنسان: إن الطريق ليس مفروشاً بالورود، وإن للعلاء ثمنه، وللريادة ضريبَتها. هكذا قضى الله وقدّر؛ فلا محاباة لأحد على أحد، ولا يشفع للكسول نسب ولا يرفعه تاريخ. وقد قال عبدالله بن معاوية يوقظ الهمم من سباتها: لَسْنَا وَإِنْ كَرُمَتْ أَوَائِلُنَا يَوْماً عَلَى الأَحْسَابِ نَتَّكِلُ نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا تَبْنِي وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا إنها دعوة واضحة أن تضاف أمجاد الحاضر إلى أمجاد الماضي، لا أن تُستنزف حياة الشعوب في التغني بما كان. يقول ابن القيم: «وقد أجمع عقلاء كل أمة، على أن النعيم لا يُدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة». كلمات تشبه سراجا في ليل ثقيل، تذكر بأن لذة الإنجاز لا تنال بلا عرق، وأن راحة الجسد ليست طريق راحة الروح، وأن السائر إلى أهدافه لن يبلغ شيئاً إن حمل على كتفيه خوف العناء. ومن استوعب هذه السنن، واستيقن هذه الحقائق، سرت في كيانه روح أخرى؛ تجده يصنع نجاحه بيده، ويستخلص سعادته بعمله. لا يلتفت إلى الوراء متحسراً على زمن ولى، ولا يُلقي باللوم على الظروف، ولا يتكئ على الأعذار الواهية، ولا ينتظر طفرة تهبط عليه من السماء بلا جهد. إنه يؤمن أن الفشل طريق النجاح وأن البلاء طريق العافية وأن حياة الإنسان لا تُكتب بالحظوظ؛ بل تُخَط بمقدار ما يبذله من جهد؛ ففي قاموسه لا مكان لليأس، ولا للعجز، ولا للكسل، ولا للأماني التي لا تتكئ على عمل. وهكذا، يظل الطريق واحداً: طريق المشقة تلد الرفعة وطريق الصبر ينبت الثمار وطريق الكدح الذي يهب للإنسان معنى وجوده. فمن أراد المعالي، فعليه أن يدفع ثمنها ومن أراد الخلود في التاريخ، فليحمل مشعل الفعل، لا مرآة الذكرى.
357
| 16 نوفمبر 2025
في زوايا النفس، حيث تتناوب الهموم والظنون، وتتصاعد الأصوات الخافتة في دهاليز الفكر، يولد التفكير التضخيمي؛ ذلك النمط الذهني الذي يهوّل الأمور، ويُكبّر التفاصيل حتى تصير الجبال من الحصى، ويحول المواقف العابرة إلى معارك وجود. هو تلك العدسة المشوهة التي يضعها العقل على عينيه، فلا يرى من الواقع إلا ظلاله المقلقة، ولا يقرأ من الأحداث إلا وجوهها السوداء. إن التفكير التضخيمي ليس مجرد عادة فكرية، بل هو اضطراب في إدراك النسبة بين الشيء وقدره، وخلل في ميزان النظر إلى الوقائع. ينشأ غالبًا من بيئة نفسية يغلب عليها القلق، ومن تربية تزرع الخوف من الخطأ، أو من تجربة مؤلمة علمت الإنسان أن يتوجس من كل قادم. حينها يختلط الحذر بالهلع، ويضيع الحد بين التوقع الطبيعي والمبالغة المرضية، فيتحول الذهن إلى ساحة مفتوحة للظنون، تشتعل فيها كل فكرة صغيرة حتى تصبح نارًا تلتهم راحة القلب. ملامحه وصفاته من أبرز سمات هذا التفكير أن يعيش صاحبه في حالة ترقب دائم، كمن ينتظر مصيبة لم تقع بعد، ويقرأ في صمت الأيام إنذارًا خفيًا، وفي كل تأخر أو تغير في المألوف، دليلًا على شر قادم. يرى الغد عدوًا متربصًا، ويحمّل الحاضر ما لا يحتمل من الهواجس. يتضاعف خوفه من المستقبل لأنه فقد الثقة في المدبر سبحانه، ويفر من واقعه لأنه لا يرى فيه لطفًا ولا حكمة. هو إنسان يعيش في خيال يهدده، وفي ظلال فكرة لم تتجسد، يرى الخطر قبل أن يوجد، ويستسلم لصور وهمية من الفقد والألم. يظن أن كل نظرة تخفي نقدًا، وكل تأخير يحمل مؤامرة، وكل تجربة فاشلة نذير نهاية. فلا عجب أن يفقد طمأنينته، لأن نفسه أرهقتها صناعة العواصف من النسيم. آثاره على النفس والحياة آثار التفكير التضخيمي عميقة ومتشعبة. فهو يستنزف طاقة الإنسان النفسية قبل أن يرهق جسده. يبدد الصفاء الداخلي، ويغتال الهدوء في لحظات السكون، فيعيش صاحبه بين مطرقة الندم على الماضي وسندان الخوف من القادم. لا يهنأ بلذة الحاضر، لأن ذهنه منشغل بما لم يقع بعد، ولا يطمئن إلى قدره، لأن في داخله يقينًا خفيًا بأن الشر أقرب من الخير. ومن آثاره كذلك: اضطراب العلاقات الاجتماعية، إذ يسيء صاحبه تأويل المواقف والنوايا، فيظن بالناس السوء، ويهرب من الحوار خوفًا من المواجهة، ويفقد قدرته على اتخاذ القرار لأن الخطر في نظره يترصد كل خطوة. تتقلص دائرة حياته شيئًا فشيئًا حتى يصبح أسيرًا لفكرة واحدة، سجينا لعقله الذي لا يهدأ. العلاج والتعافي ليس علاج هذا النمط في القمع أو التجاهل، ولا في محاولات التفكير الإيجابي السطحية، بل في إعادة بناء العلاقة بين الفكر والإيمان. فالعقل إن لم يستند إلى يقين التوحيد، ضل في متاهات الخوف، وصار يضخم المجهول لأنه فقد ميزان الثقة بالله. إن أول خطوة في العلاج أن يدرك المرء أن الأمور بقدر، وأنه لا يقع في الكون شيء عبثًا، كما قال الله تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: ٥١]. بهذا اليقين، تبدأ النفس في استعادة توازنها، ويستعيد العقل قدرته على رؤية الأشياء كما هي، لا كما يخاف أن تكون. وكلما ازداد الإيمان بالقدر، تقلص الخوف من المستقبل، لأن المؤمن يعلم أن تدبير الله له أوسع من تدبيره لنفسه. ثم يأتي الجانب العملي: أن يدرب الإنسان نفسه على الوعي بالفكر حين ينشأ، فيلاحظ المبالغة دون أن ينخرط فيها، وأن يتنفس بعمق حين تهاجمه الفكرة الكارثية، وأن يذكّر نفسه بأن الخطر المتخيَّل لا يساوي جهد الخوف منه. ويمكن أن يستعين بالعلاج المعرفي السلوكي الذي يساعد على إعادة تشكيل المفاهيم، وضبط المنطق الداخلي الذي يضخم الأمور. قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦]، فهي الآية التي تهدم جذور التفكير التضخيمي من أعماق النفس؛ لأن فيها يقينًا بأن وراء كل أمر وجه خير وإن خفي، وأن الخوف في جوهره سوء ظن بلطف الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» (رواه مسلم). فهذا الحديث يضع قاعدة ذهبية في طمأنينة النفس؛ إذ يجعل الإنسان يرى في كل قدر بابًا إلى الخير، وفي كل محنة معنى من الرحمة الإلهية، فينقلب الخوف سكينة، والقلق رضا، والاضطراب طمأنينة. إن التفكير التضخيمي ينهزم أمام الإيمان الراسخ، لأن اليقين بالله يختصر كل احتمالات الشر في جملة واحدة: “لن يصيبني إلا ما كتب الله لي”، وعندها يعود الاتزان إلى النفس، فيتوازن الإدراك، وتصفو الرؤية، ويعود الخيال إلى مجاله الجميل، مجال الإبداع لا الخوف، والتفكير لا التهويل. وهكذا يتعافى القلب حين يضعف سلطان الوهم، ويقوى سلطان الإيمان.
258
| 09 نوفمبر 2025
من لطائف ما أورده الإمام المزي في تهذيب الكمال، ما حكاه عن ابن الجوزي رحمه الله، إذ قال: «العاقل الذكي من لا يدقق في كل صغيرة وكبيرة مع أهله وأصحابه وأحبابه وجيرانه». كلمة يسيرة في مبناها، لكنها في معناها بحر من الحكمة، تختصر فلسفة التعامل الإنساني في جملة واحدة. فهي تضع للمرء منهجا في الحياة يقوم على التوازن بين العقل والعاطفة، بين الحساب والرحمة، بين الحذر والتسامح. سعة القلب فوق دقة الميزان إن المبالغة في المحاسبة تفسد الود قبل أن تحفظه، وتقتل العفوية التي هي روح العلاقات الإنسانية. فالحياة ليست معادلة رياضية، ولا ميزانا دقيقا يوزن فيه كل قول وفعل، بل هي نهر من المشاعر المتدفقة، إن حاولت حبسه في قوالب التحليل جفَّ ماؤه وذهب صفاؤه. ومن رام الكمال في الناس حرم نفسه راحة العيش معهم، لأن النقص طبيعة بشرية لا فكاك منها، ومن لم يحتمل ضعف غيره لم يحتمل ضعفه هو. لقد خلقنا متفاوتين في الطباع، مختلفين في الفهم، متقلبين بين الصواب والخطأ. فليس من الحكمة أن تقيم حول نفسك أسوارا من التدقيق، تحاسب فيها كل من حولك على اللفظة والنظرة والنية. لأن مثل هذا التشدد لا يورث عدلا، بل يولد النفور، ويحول المودة إلى حذر وصمت وجفاء. ومن هنا جاء قول الحكماء: “من أكثر التدقيق حرم التوفيق”. فلسفة التغافل: عقل الحلماء وسر السكينة التغافل ليس غفلة ولا ضعفا، بل هو ذروة الحكمة، ودليل على عمق الفهم واتزان النفس. إنه أن ترى الزلة وتدركها، ثم تختار أن تمر عليها مرور الكرام، لأنك تؤمن أن الصفاء أغلى من النقاش، وأن المحبة أسمى من الانتصار. فكم من بيت تهدم بسبب كلمة أخذت على محمل الجد، وكم من صداقة ذابت لأن أحدهم قرر أن يحاسب على التفاصيل. إن أجمل رد في بعض المواقف هو الذي لا يكون، وأعظم الحكم أن تسكت حين يغريك الغضب بالكلام. فالصمت في موضعه دواء، والتجاوز زكاة النفس، والحلم عنوان العظماء. قال بعض السلف: “العاقل نصفه احتمال، ونصفه تغافل”. فالعلاقات لا تدوم بالجدل، ولا بالمراقبة، بل بالرفق والصفح. حين يتحول التدقيق إلى قيد على الأرواح من يفتش في وجوه الناس عن الكمال، ويزن أقوالهم بميزان القاضي، يقتل فيهم العفوية، ويجعلهم يعيشون على حافة الحذر والخوف. ومع مرور الوقت، تصبح المجالس مثقلة بالصمت، والابتسامات مريبة، والحديث محسوبا كأنه يمشي على الجمر. فهكذا يموت الود في ظلال الرقابة، وتذبل المودة تحت عبء المحاسبة. ولذلك، فإن من أصدق مظاهر الحكمة أن تدرك أن العدل الحقيقي لا يتحقق بالتدقيق، بل بالرحمة. وأن القلوب لا تصلحها الموازين، بل يصلحها اللين والمغفرة. إن الله تعالى، وهو أعدل العادلين، غلبت رحمته غضبه، ليعلم عباده أن صلاح الخلق لا يتم بالإنصاف المجرد، بل بالرحمة التي تتجاوز حدود الحساب. التغافل: جسر العبور إلى دوام العلاقات ما من علاقة بشرية إلا وفيها هنات صغيرة، وزلات عابرة، ولكن الذي يبقيها حية هو التغافل الجميل الذي يردم الشقوق قبل أن تتسع. فالأصدقاء الحقيقيون هم الذين يرون العيب ويسترونه، والأزواج الصادقون هم الذين يدركون الزلة فيغفرونها. إن المحبة لا تحتاج إلى محاكمات، بل إلى قلوب تتسع للضعف الإنساني، وتؤمن بأن الخطأ لا يمحو العطاء. فلا تحاكم رفيقك على لحظة فتور، ولا تقلب هفوة المحب إلى جريمة. ولا تدخل العلاقات في دائرة التحقيق، فإنها لا تحتمل حرارة الأسئلة المتكررة. سل نفسك دائما: لو كنت أنا المخطئ، أكنت أرجو أن يغفر لي أم أن أدان؟ فكما تحب أن تعذر، فاعذر، وكما تحب أن يصفح عنك، فاعفُ. خاتمة: في فلسفة التوازن الإنساني الحياة لا تدار بالمنطق وحده، ولا تبنى العلاقات على العدالة البحتة، بل على مزيج من الرحمة والعقل، ومن التسامح والحذر. التغافل ليس تنازلا عن الحق، بل هو ارتقاء فوق الجزئيات إلى جوهر المعنى. هو أن تختار السكينة على الجدال، والصفح على القصاص، والحلم على المحاسبة. ومن أكثر التدقيق حرم التوفيق، ومن أحسن الظن بالناس أراح قلبه، ومن جعل الرفق ميزانه عاش سعيدا. فاجعل من نفسك مرآة رحيمة لا عدسة مكبرة، وامنح من حولك مساحة للخطأ كما تريد أن يمنحوك. فالحياة لا تستقيم إلا بالتغافل، ولا تدوم المودة إلا بالصبر، ولا تزهر القلوب إلا إذا سقيناها بعفو جميل وصمت حكيم.
504
| 02 نوفمبر 2025
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} تفتتح هذه الآية المشهد الكوني ببيان شامل يربط بين فساد الإنسان وخراب العمران، بين انحراف السلوك واضطراب النظام. فالفساد في البر والبحر ليس حادثًا عارضًا، بل أثرٌ من آثار ما كسبت أيدي الناس؛ فسادٌ في النية والسلوك، يتجلى في فساد العمران والبيئة والعلاقات. وكأن الآية تقول: إن الكون يضطرب حين تختلّ فطرة الإنسان، لأن هذا الإنسان جزء من نظامٍ متكاملٍ يسير وفق سنن الله، القائل: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} فالأرض أصلحها الله بنواميسه الكونية، وبهدايته التشريعية، فكل خروج عن منهجه فساد في نظام الكون. والفساد هنا لا يقتصر على المعاصي الفردية، بل يشمل كل إخلال بالعدالة، وكل عبث بالحق، وكل عدوان على فطرة الله التي فطر الناس عليها. - قوم لوط — فساد الفطرة وخراب العمران: من أبرز صور الفساد التي ذكرها القرآن فساد الفطرة الجنسية، حين يُبدّل الناس سنن الله في الخلق، فيجعلون الشهوة في غير موضعها. قال تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}. لقد كان فساد قوم لوط انحرافا عن سنن الفطرة، وتمردا على ناموس الخلق، إذ استبدلوا الحياء بالشهوة، والطهرَ بالفجور، فاستحقّوا أن يُقلب عمرانُهم رأسًا على عقب، {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} ففساد الفطرة يؤدي بالضرورة إلى فساد العمران، فحين ينتكس الإنسان، تنتكس المدينة معه. -قوم شعيب — فساد الكيل والميزان: ومن صور الفساد الحضاري الذي يربط بين الاقتصاد والأخلاق، ما قصّه القرآن عن قوم شعيب عليه السلام {أوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} لقد كان فسادهم في الظاهر اقتصاديًا، لكنه في الجوهر خللٌ أخلاقيٌّ في الضمير، إذ تحوّل التعامل التجاري إلى ميدان للغشّ والطمع، فضاعت الأمانة، وساد الجشع، فكان الهلاك الطبيعي نتيجة لهذا الخلل الأخلاقي: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}. -قوم عاد وثمود — فساد القوة واستعلاء المادة: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} لقد بنوا القصور، ونحتوا الجبال، وأقاموا أعمدة الحضارة المادية، لكنهم حين طغوا بالقوة وتكبّروا على الحق، دمّر الله عمرانهم: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وكذلك ثمود الذين قال فيهم سبحانه: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} فقد جمعوا بين الترف المادي والإسراف الأخلاقي، فكانت النتيجة: {فَأَخَذَتهُمُ ٱلصَّيحَةُ مُصبِحِينَ}. وهنا يظهر بجلاء أن الحضارة يهلكها فساد الإنسان حين يستبدل شكر النعمة بالغرور بها، ويسخِّر القوة للبطش والغرور بدل أن يسخّرها للعدل الذي هو أساس الملك -سنة المترفين في إهلاك العمران: {وإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} الطبقة المترفة حين تُبدّد النعمة بالفسق، وتُزيّن الانحلال باسم الحرية، فيتبعها الناس، فتفسد القيم، وينهار العمران. وهكذا يقرر القرآن أن العلاقة بين الفساد الأخلاقي والخراب العمراني علاقة سببية حتمية، تُدار في فلك السنن الإلهية التي لا تحابي أحدًا. فكما أن صلاح الإنسان يعمر الأرض، فإن انحرافه يدمّرها.
324
| 28 أكتوبر 2025
في كتاب الله آية محكمة لا يجب أن تمر دون وعي وفهم، قال الله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾. آيةٌ تُرسي قاعدة أبدية في العلاقة بين الحق والباطل، تُبيّن أن الاختلاف بينهما ليس اختلافاً في الفروع أو التفاصيل، بل هو اختلاف في الجذور والمبادئ والغايات. تعلن بصيغة قاطعة أن رضا أهل الكتاب، بل رضا كل من خالف سبيل الهدى، ليس غاية تُدرك بالحوار أو بالمجاملة أو بالتنازل عن بعض الثوابت، وإنما هو مشروط بشرط مرفوض من أساسه: أن يترك المؤمن ما جاء به من الوحي، ويتبع أهواء غيره. إن الحق لا يرضى بالباطل، والباطل لا يطيق بقاء الحق، لأن وجود أحدهما نفيٌ للآخر، ولذلك كان الصراع بين الإيمان والكفر صراع وجودٍ لا يقبل المساومة. فالله سبحانه يخبر نبيه الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم أن سعيه في هداية الناس لا يعني أنه سينال رضاهم ما دام ثابتاً على ما أوحي إليه، لأن القضية ليست في شخصه، وإنما في الرسالة التي يحملها. وقد يتوهم بعض الناس أن هذه العداوة يمكن أن تزول مع الزمن، أو أن تخفّ بمرور القرون، لكن الله جل وعلا كشف حقيقتها منذ البداية، وأبان أنها ممتدةٌ ما دام الإسلام قائماً بدعوته، وما دامت ملل الكفر ماضية في انحرافها. أما أسباب هذه العداوة فهي عميقة ومتشابكة، تجمع بين العقيدة والمصلحة، وبين التاريخ والجغرافيا، ويمكن تلخيصها في أربعة محاور كبرى: أولاً: لأن الإسلام دين لا يساوم ولا يهادن فهو دين يعلن التوحيد خالصاً لله، ويرفض أنصاف الحلول، ولا يرضى بخلط الحق بالباطل. جاء ليهدم الجاهلية لا ليُساكنها، وليقيم العدل لا ليرقّع به بُنى الظلم. ولذلك لا يُطاق الإسلام في نظر أعدائه إلا إذا تجرد من روحه، وتحوّل إلى طقوسٍ شكليةٍ لا أثر لها في الواقع، أي حين يتخلى عن ذاته. ثانياً: لأنه مشروع يقاوم مشاريعهم فالإسلام ليس فكرة روحية مجرّدة، ولا تعاليم أخلاقية معزولة عن الحياة، بل هو مشروع حضاري متكامل، يرسم منهجاً للعبادة والسياسة والاقتصاد والاجتماع. مشروعٌ يحرر الإنسان من العبودية للمال والسلطة، ويقيم موازين القسط على أساس من الإيمان بالله وحده. وهذا ما يجعل منه خصما لكل مشروع استعماري أو مادي يريد أن يُبقي الإنسان أسيراً للشهوات والمصالح. ومن هنا كانت معاداتهم له دفاعاً عن وجودهم الحضاري لا عن مجرد معتقد دينيّ. ثالثاً: لأن أرضه قلب الصراع فأرض الإسلام الأولى هي مهد الرسالات، وموطن الوحي، ومركز التوحيد في الأرض. إنها الأرض التي اختارها الله لتكون منطلقاً للنور، ولذلك كانت مطمعاً لكل القوى التي أرادت أن تملك زمام التاريخ. من سيطر على هذه الأرض تحكّم في وجدان البشرية الديني، ومن فقدها فقد رمزيته الروحية. ولهذا بقيت معركة القدس والأرض المباركة جوهر الصراع بين الإسلام وأعدائه منذ فجر الرسالة حتى اليوم. رابعاً: لأنها أرض الثروات والمفاتيح فمنذ العصور القديمة كانت بلاد المسلمين مفترق الطرق بين القارات، ومصدر الثروات الطبيعية وممرّ التجارة. واليوم هي محور الطاقة في العالم، ومركز التحكم في الممرات البحرية، وبوابات العالم الاقتصادية. فالصراع عليها ليس دينياً فحسب، بل هو صراع مصالح وإستراتيجيات، تتداخل فيه المطامع الاقتصادية مع النزعة العقدية، فيصبح الدين عند أعداء الإسلام غطاء لمطامع السيطرة والهيمنة. وهكذا يتبين أن الصراع بين الإسلام وأعدائه أعمق من مجرد جدل ثقافي حول هوية أو قيم مشتركة، بل هو صراع بين منهجين متقابلين: منهجٍ يردّ الأمور كلها إلى الله، ومنهجٍ يجعل الإنسان إلهاً على الأرض. ومن هنا لا يمكن أن يجتمع الإسلام الحق مع الباطل في طريقٍ واحد، لأن الإسلام لا يقبل أنصاف الولاءات ولا أنصاف الحلول، ولا يرضى بأن يُختزل إلى تراث ثقافي أو رمز روحي منزوع الدلالة. إن هذه السنّة الربانية تُورث المؤمن يقيناً وصموداً، وتمنحه بصيرةً في النظر إلى حركة التاريخ، فيعلم أن عداء الباطل له ليس عارضاً، وأن ثباته على الحق هو أعظم أسباب بقائه. وبهذا الفهم يعيش المؤمن في زمن الفتن مستنيراً بنور الوحي، ثابت الخطى، عزيزاً بدينه، لا تزعزعه حملات التشويه، ولا تخدعه شعارات التسامح التي يراد بها نزع سلاح العقيدة من قلبه. فمن استمسك بهذا الوعي، أدرك أن الصراع القائم اليوم بين الإسلام وأعدائه ليس معركة حدود أو مصالح فحسب، بل معركة قيمٍ ومناهجٍ ومصائر، وأن النصر فيها لا يُنال بالعدد والعدة فقط، بل بثبات الهوية وصيانة المنهج، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
297
| 19 أكتوبر 2025
أنشد جرير قصيدته الخالدة التي مطلعها: أَقِلّي اللَّومَ عاذِلَ وَالعِتابا وَقولي إن أَصَبتُ لَقَد أَصابا وفيها قوله الذي خلد في ذاكرة العرب: فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِن نُمَير فَلا كَعبًا بَلَغتَ وَلا كِلابا قالها ردًا على الراعي النميري، الذي هب في عصبية جاهلية يدافع عن الفرزدق ويهجو جريرًا، فكان جزاء حميّته أن جنى على قومه عارا مقيما، وصار اسمه علمًا على من يهلك نفسه بجهله، حتى غدا مضرب المثل في من يورد قومه موارد السخرية، ويقودهم بعاطفة غافلة إلى المهانة. لم يخطئ الراعي لأنه أحب، بل لأنه جعل الحب عمى، والغيرة سلاحًا أعمى. نسي أن الكلمة إذا خرجت من غير روية كانت كالسهم المرتد إلى صدر صاحبها، فهدم بلسانه ما أراد أن يرفع، وجعل من الدفاع غلوًّا، ومن الحمية جهلًا. وهكذا كل من يتكلم في غير موضعه، يظن أنه يدافع عن الحق، وهو يطعن فيه من حيث لا يشعر، ويحسب الغضب على الخصوم نصرةً للدين أو للمبدأ، وما هو إلا انقياد للهوى. ألا ما أكثر رعاة نمير اليوم! تراهم في كل ساحة يندفعون في خصوماتهم، يرفعون أصواتهم دفاعًا أو طعنًا، يرمون هذا ويصيبون ذاك، لا يزنون كلامهم بميزان العدل ولا يضبطون عواطفهم بعقال الحكمة. يظنون أن القسوة صدق، وأن الغلظة قوة، وأنهم ما داموا ينتمون إلى فئة أو مذهب أو رأي فهم على الحق المطلق، وما سواهم في باطلٍ بيّن. إن بعض الناس لا يحسنون في مواقف الخلاف إلا الخصومة، ولا يعرفون من العدل إلا ما وافق رأيهم، فإذا خالفهم أحد في فكرة جعلوا من رأيه خصومة، ومن زلّته قضية، ومن خطئه ذريعةً لنبذ كل ما قدّمه. وبعضهم يجعل من الخطأ الواحد ذريعة لهدم العمر الطويل، ومن الزلة الواحدة سلمًا للطعن في العلم والعمل، فإذا مات خصومهم لم يسكتوا عنهم، بل وقفوا على ذكراهم بألسنة حادة لا تعرف الرحمة، ويحسبون أنهم يدافعون عن الحق، وهم في الحقيقة يهدمون بعض صروحه بأيديهم. حتى إن أحدهم قال كلامًا من لوازمه تكفير من خالفه وإن لم يقصد! إن كل من يرفع صوته بالهوى، أو يتحدث بغير إنصاف، أو يجعل من العصبية المذهبية أو الحزبية ميزانًا للحق، فهو صدى لذلك الراعي القديم، وإن لبس لبوس العالم أو المفكر أو الغيور! فالراعي يعيش في كل من يسرف في الغيرة حتى تقتله، وفي كل من يخاصم باسم الدين أو الفكر أو الشرف، دون بصيرةٍ تهديه إلى العدل. وما أكثر من يظنون اليوم أنهم على هدى، وما هم إلا أصداء له! ألا ما أشبه زماننا بزمانه، وما أشد حاجة الناس اليوم إلى جرير آخر. يا قومنا: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
669
| 12 أكتوبر 2025
من سنن الله في خلقه: أن يحيى الإنسان في دار ابتلاء، فلا يخلو عمره من ضغوط. تلك تكاليف الحياة وطبيعتها: عمل وأسرة، علاقات ومطالب، تفاصيل صغيرة تتراكم حتى تثقل النفس. ليست هذه علامة على سوء الحظ، بل على حقيقة الوجود: أنك مخلوق في دنيا دار اختبار، لا جنة قرار. والقوة أن ندرك أنّ هذه الضغوط ليست عدوّاً يُستأصل، ولكنها قدر محتوم يجب أن يُستقبل بالإيمان. فبدلاً من الهروب منها أو إنكارها، يكون الوعي بها وقبولها بداية الحصانة الداخلية، التي تمنح القلب طمأنينة وثباتاً في مواجهة العواصف. ثانياً: حين يتسرب الضغط إلى الداخل المصيبة ليست في الخارج، ولكن في الداخل. هناك من يجعل من الحدث المرهق وقوداً لنهوضه، وهناك من يفتحه على نفسه باباً للقلق والوسواس، حتى يصبح أسيراً لردود فعله. انظر مثلا إلى قضية النقد في العمل؛ قد يكون عند مؤمن فرصة لمراجعة وتزكية، وقد يكون عند ضعيف النفس مصدراً لهدم ثقته بنفسه. الحدث واحد، ولكن الاستقبال يختلف باختلاف القلب. فمن عمر قلبه باليقين، جعل من الضغوط سلّماً، ومن خلا قلبه من المعنى صار عبداً للقلق والوهم. ثالثاً: بناء الحصانة الداخلية الحماية ليست في نفي الضغوط، فهذا أمر خارج عن إرادتنا، بل في تقوية الداخل، وصيانته بالإيمان والعمل الصالح. ومن سُبل ذلك: 1. إعادة التفسير بالإيمان: أن ينظر إلى كل ما يجري بأنه امتحان من الله، فيه عبرة وفرصة للتعلم. 2. مجاهدة الخواطر: أن يطرد وساوس السوء، ويستبدلها بذكر الله، وآياته التي تنير البصيرة. 3. تحقيق التوازن: في العمل والراحة، فإن لنفسك عليك حقاً، وإن لبدنك عليك حقاً، والراحة عبادة إن نويت بها التقوّي على الطاعة. 4. المرونة الإيمانية: تقبّل الخسارة والفشل كجزء من قدر الله، والتسليم بأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ومن وسّع أفقه على حكمة الله في قضائه، صغرت في عينه أثقال اللحظة، واستراح قلبه برضا ربه. رابعاً: الأزمة في الداخل لا في الخارج كالقبطان أمام الرياح، لا يملك أن يوقفها، ولكنه يملك أن يوجه شراعه. كذلك المؤمن، لا يملك نفي الضغوط، ولكنه يملك أن يجعل منها طريقاً إلى الله. خطوات عملية لإحكام “أشرعة الداخل”: • الذكر والدعاء: فاللسان إذا انشغل بالتسبيح والتحميد والتهليل، اطمأن القلب وخمدت ثورته. • تنظيم الوقت: فإن كثيراً من القلق وليد الفوضى، والمؤمن مأمور بحسن التدبير: “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا”. • صحبة صالحة: تبث فيك العزم، وتذكرك بالله إذا نسيت، وتخفف الحمل عنك بالمشاركة والمساندة. • الصلاة والقيام: فهي صلة بالله، وراحة القلب، وبها يلقى العبد الطمأنينة التي لا تمنحها الدنيا. خامسا: نحو طمأنينة أعمق ليست الطمأنينة فراغاً من المشكلات، ولكنها سكينة يهبها الله لعبده، تمكّنه أن يثبت وسط العواصف. إن كثيراً من الناس يظنون راحة البال تعني انعدام الأزمات، وهذا وهم؛ فالابتلاء جوهر الحياة. لكن المؤمن يجعل من المحنة منحة، ومن الشدة طريقاً إلى رفعة. القلق: جرس إنذار لا عدو القلق في أصله ليس شراً محضاً، بل هو نذير ينبهك أن تعود إلى الله، أو أن تعدّل مسارك. فالخطر حين يتحول إلى وسواس دائم يقعدك عن السير، أما إذا استُقبل بروح إيمانية، صار دافعاً لمراجعة النفس والعودة إلى الجادة. الضغوط كوقود للنمو كم من عظيم صنعته محنة! وكم من إنجاز وُلد في رحم بلاء! • الفشل يوقظ ملكة الإبداع. • الخسارة تعلم قيمة العطاء والشكر. • المرض يذكر بفناء الجسد، ويدفع إلى إعادة ترتيب الأولويات. وهكذا لا تكون الضغوط صخرة تسحق، بل هي وقود يرفع المؤمن درجات عند ربه. ملامح الإنسان المتوازن المؤمن المتوازن ليس من نجا من المنغصات، ولكن من صاغ منها عبادة ومعنى. • يواجه بثبات مستعيناً بالله، ولا يكتم مشاعره البشرية. • يتألم، نعم، لكن يجعل من ألمه زاداً إلى الطاعة. • يسقط أحياناً، لكن يقوم وقد تعلم من سقطة واحدة ما لا يتعلمه من سنين رخاء. إنه يعيش حياة أعمق، لأن كل تجربة عنده لبنة في بناء صرح إيمانه. خطوات عملية نحو طمأنينة أعمق 1. إعادة التفسير بالإيمان: اسأل نفسك أمام كل ضغط: ماذا يريد الله أن يعلّمني من هذا البلاء؟ 2. التركيز على الممكن: اعمل فيما تملك، ودع ما لا سلطان لك عليه لمدبر الكون. 3. تنظيم الطاقة: نومٌ بنية التقوي على العبادة، وحركة تحفظ الجسد، وراحة ترد القلب إلى الطاعة. 4. المرونة الذهنية: تقبّل التغيير كجزء من قدر الله، فخسارة اليوم قد تكون مقدمة لفوز أعظم غداً. إن الطمأنينة لا تعني غياب الرياح، ولكن حسن ضبط الأشرعة بقوة الإيمان، فالضغط ليس نقمة، بل فرصة يفتحها الله لعبده ليكتشف نفسه من جديد، ويزداد قرباً منه، ومن فهم هذه الحقيقة لم ينتظر البحر حتى يهدأ، بل يجعل من العاصفة قوة تدفعه نحو شاطئ أرحب من اليقين، وأوسع من الطمأنينة.
537
| 06 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
يترقّب الشارع الرياضي العربي نهائي كأس العرب، الذي...
1131
| 18 ديسمبر 2025
في هذا اليوم المجيد من أيام الوطن، الثامن...
936
| 22 ديسمبر 2025
إنه احتفال الثامن عشر من ديسمبر من كل...
684
| 18 ديسمبر 2025
يُعد استشعار التقصير نقطة التحول الكبرى في حياة...
657
| 19 ديسمبر 2025
هنا.. يرفرف العلم «الأدعم» خفاقاً، فوق سطور مقالي،...
651
| 18 ديسمبر 2025
«فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف...
645
| 21 ديسمبر 2025
هنالك قادة ورموز عاشوا على الأرض لا يُمكن...
588
| 19 ديسمبر 2025
لقد من الله على بلادنا العزيزة بقيادات حكيمة...
522
| 18 ديسمبر 2025
-قطر تضيء شعلة اللغة العربيةلتنير مستقبل الأجيال -معجم...
489
| 23 ديسمبر 2025
في اليوم الوطني، كثيرًا ما نتوقف عند ما...
438
| 18 ديسمبر 2025
في مجتمعاتنا العربية، لا يُقاس النجاح غالبًا بما...
405
| 17 ديسمبر 2025
تحتفل قطر هذا العام باليوم الوطني والتي شعارها...
387
| 17 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية