رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

هندسة السكينة

حين ينضج الوعي؛ يخفت الجدل، لا لأنه يفقد قيمته، بل لأن النفس تتجاوز تلك المرحلة التي كانت ترى في كل اعتراض تحدياً يجب الانتصار عليه، وفي كل اختلاف تهديداً ينبغي دفعه. ومع الزمن يبدأ الإنسان يلاحظ أن كثيراً من النقاشات التي كان يخوضها في بدايات عمره لم تكن بحثاً عن الحقيقة بقدر ما كانت محاولة لإثبات الذات، أو ردّ فعل نابع من نقص في الفهم أو التجربة. ومع تراكم الخبرة واتساع أفق النظر، يتبدّل إدراكه لطبيعة الحوار؛ فيعي أن الكلام ليس دائماً طريقاً إلى الفهم، وأن بعض المساحات في الحياة لا يفتح أبوابها إلا الصمت. يدرك أن الجدل حين يخلو من الإنصاف يتحوّل إلى حلقةٍ مفرغة، مهما بدا لامعاً وظاهره قوياً، وكلما ازداد تبصّره قلّ تعلّقه بالرغبة في التفوق اللفظي، لأن العقل حين يستقيم لا يطلب إثبات نفسه بالصوت، بل بالفعل والرؤية والسكينة. وهنا يظهر أثر النضج في أول تجلٍّ من تجليات العلاقة مع الناس: فلم تعد الآراء المخالفة تستفزّه كما كانت، ولم يعد يرى في كل اختلاف سبباً لنقاش طويل. سيدرك أن فهم الآخرين له حدود، وأن محاولات شرح كل موقف وإقناع كل عقل هي استنزاف يفتت الجهد دون جدوى، فيصبح أكثر انتقاءً للمساحات التي يستثمر فيها طاقته الذهنية والعاطفية، وأكثر بصيرة بما يستحق جهداً وما يجدر أن يترك في مكانه دون مقاومة. وسيتسع هذا الوعي ليشمل قيمة الوقت ومعنى العمر؛ فيفهم أن الساعات التي يضيّعها الإنسان دفاعاً عن فكرة لا تستحق، أو رداً على استفزاز عابر، هي اقتطاع من أيامه التي لن تُعاد، وأن النزاعات الصغيرة ليست إلا ثقوباً تنفذ منها طمأنينة القلب واستقراره؛ فيبدأ يحرص على أن يبقى مزاجه الداخلي في مأمن من العبث، وأن تبقى روحه بعيدة عن التشويش الذي تسببه المعارك الكلامية اليومية. ولا يعود يقف عند كل اعتراض، لأن الاعتراضات لا تنتهي. ولا يرد على كل استفزاز، لأن الاستفزاز جزء من طبائع البشر. ولا يسمح لصغائر الأمور أن تحجب عنه صفاءه. فيبدأ في ممارسة التغافل، لا بوصفه تنازلاً أو ضعفاً، بل باعتباره حكمة تختار المعارك التي تستحق، وتترك ما سواها يمضي دون أثر. ويبلغ هذا النضج قمته حين يتعامل الإنسان مع الصمت كقيمة عليا، يعرف أن الصمت أبلغ من القول حين يكون القول تشويشاً، وأن الإعراض عن اللغو رفعة للنفس لا يقدرها إلا من عرف ثمن سكينته. سيكتشف أن الدخول في كل نقاش ينقصه ولا يزيده، وأن كثرة الردود لا تمنح الإنسان قوة بقدر ما تعكس اضطراباً داخلياً لم يُهذّب بعد. إن السلام الداخلي الذي يناله المرء حين يشتد وعيه ليس شيئاً يستطيع الجدل منحه، ولا يقدر الانتصار اللفظي على توفيره، إنه ثمار تراكم طويل من الفهم والصبر والتجربة، تتشكل مع الأيام حتى يصبح الإنسان أكثر خفة في تعامله مع العالم، وأكثر صفاءً في رؤيته لنفسه. وهكذا يمضي صاحب الوعي في دربه، لا يحمل أثقال الخصومات، ولا يضيع أنفاسه في ملاحقة أصوات الناس، بل يحفظ صوته الداخلي من أن يبهت في ضجيج النقاشات.

36

| 23 نوفمبر 2025

لولا المشقة ساد الناس كلهم

ينطلق الإنسان في هذه الحياة بين شقشقات الأمل، وجراح الواقع، ونداءات الفطرة التي تناديه إلى أن ينهض، وأن يكدح؛ فلا مكان لروح خامدة تترقب المعجزات، ولا لحياة تُرجى على ضفاف الأماني الكسلى. ‏ومن هنا يأتي كلام المتنبي منبها الغافل: ‏لَوْلا المَشَقَّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقْدَامُ قَتَّالُ ‏كلمة تُشبه قَرْعَ المطرقة فوق صخرة الوهم، لتقول للإنسان: إن الطريق ليس مفروشاً بالورود، وإن للعلاء ثمنه، وللريادة ضريبَتها. ‏هكذا قضى الله وقدّر؛ فلا محاباة لأحد على أحد، ولا يشفع للكسول نسب ولا يرفعه تاريخ. وقد قال عبدالله بن معاوية يوقظ الهمم من سباتها: ‏لَسْنَا وَإِنْ كَرُمَتْ أَوَائِلُنَا يَوْماً عَلَى الأَحْسَابِ نَتَّكِلُ ‏نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا تَبْنِي وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا ‏إنها دعوة واضحة أن تضاف أمجاد الحاضر إلى أمجاد الماضي، لا أن تُستنزف حياة الشعوب في التغني بما كان. ‏يقول ابن القيم: ‏«وقد أجمع عقلاء كل أمة، على أن النعيم لا يُدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة». ‏كلمات تشبه سراجا في ليل ثقيل، تذكر بأن لذة الإنجاز لا تنال بلا عرق، وأن راحة الجسد ليست طريق راحة الروح، وأن السائر إلى أهدافه لن يبلغ شيئاً إن حمل على كتفيه خوف العناء. ومن استوعب هذه السنن، واستيقن هذه الحقائق، سرت في كيانه روح أخرى؛ تجده يصنع نجاحه بيده، ويستخلص سعادته بعمله. لا يلتفت إلى الوراء متحسراً على زمن ولى، ولا يُلقي باللوم على الظروف، ولا يتكئ على الأعذار الواهية، ولا ينتظر طفرة تهبط عليه من السماء بلا جهد. ‏إنه يؤمن أن الفشل طريق النجاح وأن البلاء طريق العافية ‏وأن حياة الإنسان لا تُكتب بالحظوظ؛ بل تُخَط بمقدار ما يبذله من جهد؛ ففي قاموسه لا مكان لليأس، ولا للعجز، ولا للكسل، ولا للأماني التي لا تتكئ على عمل. ‏وهكذا، يظل الطريق واحداً: ‏طريق المشقة تلد الرفعة وطريق الصبر ينبت الثمار ‏وطريق الكدح الذي يهب للإنسان معنى وجوده. ‏فمن أراد المعالي، فعليه أن يدفع ثمنها ومن أراد الخلود في التاريخ، فليحمل مشعل الفعل، لا مرآة الذكرى.

327

| 16 نوفمبر 2025

التفكير التضخيمي خطره وعلاجه

في زوايا النفس، حيث تتناوب الهموم والظنون، وتتصاعد الأصوات الخافتة في دهاليز الفكر، يولد التفكير التضخيمي؛ ذلك النمط الذهني الذي يهوّل الأمور، ويُكبّر التفاصيل حتى تصير الجبال من الحصى، ويحول المواقف العابرة إلى معارك وجود. هو تلك العدسة المشوهة التي يضعها العقل على عينيه، فلا يرى من الواقع إلا ظلاله المقلقة، ولا يقرأ من الأحداث إلا وجوهها السوداء. إن التفكير التضخيمي ليس مجرد عادة فكرية، بل هو اضطراب في إدراك النسبة بين الشيء وقدره، وخلل في ميزان النظر إلى الوقائع. ينشأ غالبًا من بيئة نفسية يغلب عليها القلق، ومن تربية تزرع الخوف من الخطأ، أو من تجربة مؤلمة علمت الإنسان أن يتوجس من كل قادم. حينها يختلط الحذر بالهلع، ويضيع الحد بين التوقع الطبيعي والمبالغة المرضية، فيتحول الذهن إلى ساحة مفتوحة للظنون، تشتعل فيها كل فكرة صغيرة حتى تصبح نارًا تلتهم راحة القلب. ملامحه وصفاته من أبرز سمات هذا التفكير أن يعيش صاحبه في حالة ترقب دائم، كمن ينتظر مصيبة لم تقع بعد، ويقرأ في صمت الأيام إنذارًا خفيًا، وفي كل تأخر أو تغير في المألوف، دليلًا على شر قادم. يرى الغد عدوًا متربصًا، ويحمّل الحاضر ما لا يحتمل من الهواجس. يتضاعف خوفه من المستقبل لأنه فقد الثقة في المدبر سبحانه، ويفر من واقعه لأنه لا يرى فيه لطفًا ولا حكمة. هو إنسان يعيش في خيال يهدده، وفي ظلال فكرة لم تتجسد، يرى الخطر قبل أن يوجد، ويستسلم لصور وهمية من الفقد والألم. يظن أن كل نظرة تخفي نقدًا، وكل تأخير يحمل مؤامرة، وكل تجربة فاشلة نذير نهاية. فلا عجب أن يفقد طمأنينته، لأن نفسه أرهقتها صناعة العواصف من النسيم. آثاره على النفس والحياة آثار التفكير التضخيمي عميقة ومتشعبة. فهو يستنزف طاقة الإنسان النفسية قبل أن يرهق جسده. يبدد الصفاء الداخلي، ويغتال الهدوء في لحظات السكون، فيعيش صاحبه بين مطرقة الندم على الماضي وسندان الخوف من القادم. لا يهنأ بلذة الحاضر، لأن ذهنه منشغل بما لم يقع بعد، ولا يطمئن إلى قدره، لأن في داخله يقينًا خفيًا بأن الشر أقرب من الخير. ومن آثاره كذلك: اضطراب العلاقات الاجتماعية، إذ يسيء صاحبه تأويل المواقف والنوايا، فيظن بالناس السوء، ويهرب من الحوار خوفًا من المواجهة، ويفقد قدرته على اتخاذ القرار لأن الخطر في نظره يترصد كل خطوة. تتقلص دائرة حياته شيئًا فشيئًا حتى يصبح أسيرًا لفكرة واحدة، سجينا لعقله الذي لا يهدأ. العلاج والتعافي ليس علاج هذا النمط في القمع أو التجاهل، ولا في محاولات التفكير الإيجابي السطحية، بل في إعادة بناء العلاقة بين الفكر والإيمان. فالعقل إن لم يستند إلى يقين التوحيد، ضل في متاهات الخوف، وصار يضخم المجهول لأنه فقد ميزان الثقة بالله. إن أول خطوة في العلاج أن يدرك المرء أن الأمور بقدر، وأنه لا يقع في الكون شيء عبثًا، كما قال الله تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: ٥١]. بهذا اليقين، تبدأ النفس في استعادة توازنها، ويستعيد العقل قدرته على رؤية الأشياء كما هي، لا كما يخاف أن تكون. وكلما ازداد الإيمان بالقدر، تقلص الخوف من المستقبل، لأن المؤمن يعلم أن تدبير الله له أوسع من تدبيره لنفسه. ثم يأتي الجانب العملي: أن يدرب الإنسان نفسه على الوعي بالفكر حين ينشأ، فيلاحظ المبالغة دون أن ينخرط فيها، وأن يتنفس بعمق حين تهاجمه الفكرة الكارثية، وأن يذكّر نفسه بأن الخطر المتخيَّل لا يساوي جهد الخوف منه. ويمكن أن يستعين بالعلاج المعرفي السلوكي الذي يساعد على إعادة تشكيل المفاهيم، وضبط المنطق الداخلي الذي يضخم الأمور. قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦]، فهي الآية التي تهدم جذور التفكير التضخيمي من أعماق النفس؛ لأن فيها يقينًا بأن وراء كل أمر وجه خير وإن خفي، وأن الخوف في جوهره سوء ظن بلطف الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» (رواه مسلم). فهذا الحديث يضع قاعدة ذهبية في طمأنينة النفس؛ إذ يجعل الإنسان يرى في كل قدر بابًا إلى الخير، وفي كل محنة معنى من الرحمة الإلهية، فينقلب الخوف سكينة، والقلق رضا، والاضطراب طمأنينة. إن التفكير التضخيمي ينهزم أمام الإيمان الراسخ، لأن اليقين بالله يختصر كل احتمالات الشر في جملة واحدة: “لن يصيبني إلا ما كتب الله لي”، وعندها يعود الاتزان إلى النفس، فيتوازن الإدراك، وتصفو الرؤية، ويعود الخيال إلى مجاله الجميل، مجال الإبداع لا الخوف، والتفكير لا التهويل. وهكذا يتعافى القلب حين يضعف سلطان الوهم، ويقوى سلطان الإيمان.

207

| 09 نوفمبر 2025

من أكثر التدقيق حرم التوفيق

من لطائف ما أورده الإمام المزي في تهذيب الكمال، ما حكاه عن ابن الجوزي رحمه الله، إذ قال: «العاقل الذكي من لا يدقق في كل صغيرة وكبيرة مع أهله وأصحابه وأحبابه وجيرانه». كلمة يسيرة في مبناها، لكنها في معناها بحر من الحكمة، تختصر فلسفة التعامل الإنساني في جملة واحدة. فهي تضع للمرء منهجا في الحياة يقوم على التوازن بين العقل والعاطفة، بين الحساب والرحمة، بين الحذر والتسامح. سعة القلب فوق دقة الميزان إن المبالغة في المحاسبة تفسد الود قبل أن تحفظه، وتقتل العفوية التي هي روح العلاقات الإنسانية. فالحياة ليست معادلة رياضية، ولا ميزانا دقيقا يوزن فيه كل قول وفعل، بل هي نهر من المشاعر المتدفقة، إن حاولت حبسه في قوالب التحليل جفَّ ماؤه وذهب صفاؤه. ومن رام الكمال في الناس حرم نفسه راحة العيش معهم، لأن النقص طبيعة بشرية لا فكاك منها، ومن لم يحتمل ضعف غيره لم يحتمل ضعفه هو. لقد خلقنا متفاوتين في الطباع، مختلفين في الفهم، متقلبين بين الصواب والخطأ. فليس من الحكمة أن تقيم حول نفسك أسوارا من التدقيق، تحاسب فيها كل من حولك على اللفظة والنظرة والنية. لأن مثل هذا التشدد لا يورث عدلا، بل يولد النفور، ويحول المودة إلى حذر وصمت وجفاء. ومن هنا جاء قول الحكماء: “من أكثر التدقيق حرم التوفيق”. فلسفة التغافل: عقل الحلماء وسر السكينة التغافل ليس غفلة ولا ضعفا، بل هو ذروة الحكمة، ودليل على عمق الفهم واتزان النفس. إنه أن ترى الزلة وتدركها، ثم تختار أن تمر عليها مرور الكرام، لأنك تؤمن أن الصفاء أغلى من النقاش، وأن المحبة أسمى من الانتصار. فكم من بيت تهدم بسبب كلمة أخذت على محمل الجد، وكم من صداقة ذابت لأن أحدهم قرر أن يحاسب على التفاصيل. إن أجمل رد في بعض المواقف هو الذي لا يكون، وأعظم الحكم أن تسكت حين يغريك الغضب بالكلام. فالصمت في موضعه دواء، والتجاوز زكاة النفس، والحلم عنوان العظماء. قال بعض السلف: “العاقل نصفه احتمال، ونصفه تغافل”. فالعلاقات لا تدوم بالجدل، ولا بالمراقبة، بل بالرفق والصفح. حين يتحول التدقيق إلى قيد على الأرواح من يفتش في وجوه الناس عن الكمال، ويزن أقوالهم بميزان القاضي، يقتل فيهم العفوية، ويجعلهم يعيشون على حافة الحذر والخوف. ومع مرور الوقت، تصبح المجالس مثقلة بالصمت، والابتسامات مريبة، والحديث محسوبا كأنه يمشي على الجمر. فهكذا يموت الود في ظلال الرقابة، وتذبل المودة تحت عبء المحاسبة. ولذلك، فإن من أصدق مظاهر الحكمة أن تدرك أن العدل الحقيقي لا يتحقق بالتدقيق، بل بالرحمة. وأن القلوب لا تصلحها الموازين، بل يصلحها اللين والمغفرة. إن الله تعالى، وهو أعدل العادلين، غلبت رحمته غضبه، ليعلم عباده أن صلاح الخلق لا يتم بالإنصاف المجرد، بل بالرحمة التي تتجاوز حدود الحساب. التغافل: جسر العبور إلى دوام العلاقات ما من علاقة بشرية إلا وفيها هنات صغيرة، وزلات عابرة، ولكن الذي يبقيها حية هو التغافل الجميل الذي يردم الشقوق قبل أن تتسع. فالأصدقاء الحقيقيون هم الذين يرون العيب ويسترونه، والأزواج الصادقون هم الذين يدركون الزلة فيغفرونها. إن المحبة لا تحتاج إلى محاكمات، بل إلى قلوب تتسع للضعف الإنساني، وتؤمن بأن الخطأ لا يمحو العطاء. فلا تحاكم رفيقك على لحظة فتور، ولا تقلب هفوة المحب إلى جريمة. ولا تدخل العلاقات في دائرة التحقيق، فإنها لا تحتمل حرارة الأسئلة المتكررة. سل نفسك دائما: لو كنت أنا المخطئ، أكنت أرجو أن يغفر لي أم أن أدان؟ فكما تحب أن تعذر، فاعذر، وكما تحب أن يصفح عنك، فاعفُ. خاتمة: في فلسفة التوازن الإنساني الحياة لا تدار بالمنطق وحده، ولا تبنى العلاقات على العدالة البحتة، بل على مزيج من الرحمة والعقل، ومن التسامح والحذر. التغافل ليس تنازلا عن الحق، بل هو ارتقاء فوق الجزئيات إلى جوهر المعنى. هو أن تختار السكينة على الجدال، والصفح على القصاص، والحلم على المحاسبة. ومن أكثر التدقيق حرم التوفيق، ومن أحسن الظن بالناس أراح قلبه، ومن جعل الرفق ميزانه عاش سعيدا. فاجعل من نفسك مرآة رحيمة لا عدسة مكبرة، وامنح من حولك مساحة للخطأ كما تريد أن يمنحوك. فالحياة لا تستقيم إلا بالتغافل، ولا تدوم المودة إلا بالصبر، ولا تزهر القلوب إلا إذا سقيناها بعفو جميل وصمت حكيم.

321

| 02 نوفمبر 2025

الفساد الأخلاقي وانهيار العمران.. تفسير قرآني لسقوط الحضارات

‏‏{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ‏تفتتح هذه الآية المشهد الكوني ببيان شامل يربط بين فساد الإنسان وخراب العمران، بين انحراف السلوك واضطراب النظام. ‏فالفساد في البر والبحر ليس حادثًا عارضًا، بل أثرٌ من آثار ما كسبت أيدي الناس؛ فسادٌ في النية والسلوك، يتجلى في فساد العمران والبيئة والعلاقات. ‏وكأن الآية تقول: إن الكون يضطرب حين تختلّ فطرة الإنسان، لأن هذا الإنسان جزء من نظامٍ متكاملٍ يسير وفق سنن الله، القائل: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} ‏فالأرض أصلحها الله بنواميسه الكونية، وبهدايته التشريعية، فكل خروج عن منهجه فساد في نظام الكون. ‏والفساد هنا لا يقتصر على المعاصي الفردية، بل يشمل كل إخلال بالعدالة، وكل عبث بالحق، وكل عدوان على فطرة الله التي فطر الناس عليها. ‏- قوم لوط — فساد الفطرة وخراب العمران: ‏من أبرز صور الفساد التي ذكرها القرآن فساد الفطرة الجنسية، حين يُبدّل الناس سنن الله في الخلق، فيجعلون الشهوة في غير موضعها. قال تعالى: ‏{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}. ‏لقد كان فساد قوم لوط انحرافا عن سنن الفطرة، وتمردا على ناموس الخلق، إذ استبدلوا الحياء بالشهوة، والطهرَ بالفجور، فاستحقّوا أن يُقلب عمرانُهم رأسًا على عقب، ‏{جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} ‏ففساد الفطرة يؤدي بالضرورة إلى فساد العمران، فحين ينتكس الإنسان، تنتكس المدينة معه. ‏-قوم شعيب — فساد الكيل والميزان: ‏ومن صور الفساد الحضاري الذي يربط بين الاقتصاد والأخلاق، ما قصّه القرآن عن قوم شعيب عليه السلام {أوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ‏لقد كان فسادهم في الظاهر اقتصاديًا، لكنه في الجوهر خللٌ أخلاقيٌّ في الضمير، إذ تحوّل التعامل التجاري إلى ميدان للغشّ والطمع، فضاعت الأمانة، وساد الجشع، فكان الهلاك الطبيعي نتيجة لهذا الخلل الأخلاقي: ‏{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}. ‏-قوم عاد وثمود — فساد القوة واستعلاء المادة: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} ‏لقد بنوا القصور، ونحتوا الجبال، وأقاموا أعمدة الحضارة المادية، لكنهم حين طغوا بالقوة وتكبّروا على الحق، دمّر الله عمرانهم: ‏{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ‏وكذلك ثمود الذين قال فيهم سبحانه: ‏{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} ‏فقد جمعوا بين الترف المادي والإسراف الأخلاقي، فكانت النتيجة: {فَأَخَذَتهُمُ ٱلصَّيحَةُ مُصبِحِينَ}. ‏وهنا يظهر بجلاء أن الحضارة يهلكها فساد الإنسان حين يستبدل شكر النعمة بالغرور بها، ويسخِّر القوة للبطش والغرور بدل أن يسخّرها للعدل الذي هو أساس الملك ‏-سنة المترفين في إهلاك العمران: ‏{وإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} ‏الطبقة المترفة حين تُبدّد النعمة بالفسق، وتُزيّن الانحلال باسم الحرية، فيتبعها الناس، فتفسد القيم، وينهار العمران. ‏وهكذا يقرر القرآن أن العلاقة بين الفساد الأخلاقي والخراب العمراني علاقة سببية حتمية، تُدار في فلك السنن الإلهية التي لا تحابي أحدًا. ‏فكما أن صلاح الإنسان يعمر الأرض، فإن انحرافه يدمّرها.

312

| 28 أكتوبر 2025

بين الوحي والهوى

في كتاب الله آية محكمة لا يجب أن تمر دون وعي وفهم، قال الله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾. آيةٌ تُرسي قاعدة أبدية في العلاقة بين الحق والباطل، تُبيّن أن الاختلاف بينهما ليس اختلافاً في الفروع أو التفاصيل، بل هو اختلاف في الجذور والمبادئ والغايات. تعلن بصيغة قاطعة أن رضا أهل الكتاب، بل رضا كل من خالف سبيل الهدى، ليس غاية تُدرك بالحوار أو بالمجاملة أو بالتنازل عن بعض الثوابت، وإنما هو مشروط بشرط مرفوض من أساسه: أن يترك المؤمن ما جاء به من الوحي، ويتبع أهواء غيره. إن الحق لا يرضى بالباطل، والباطل لا يطيق بقاء الحق، لأن وجود أحدهما نفيٌ للآخر، ولذلك كان الصراع بين الإيمان والكفر صراع وجودٍ لا يقبل المساومة. فالله سبحانه يخبر نبيه الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم أن سعيه في هداية الناس لا يعني أنه سينال رضاهم ما دام ثابتاً على ما أوحي إليه، لأن القضية ليست في شخصه، وإنما في الرسالة التي يحملها. وقد يتوهم بعض الناس أن هذه العداوة يمكن أن تزول مع الزمن، أو أن تخفّ بمرور القرون، لكن الله جل وعلا كشف حقيقتها منذ البداية، وأبان أنها ممتدةٌ ما دام الإسلام قائماً بدعوته، وما دامت ملل الكفر ماضية في انحرافها. أما أسباب هذه العداوة فهي عميقة ومتشابكة، تجمع بين العقيدة والمصلحة، وبين التاريخ والجغرافيا، ويمكن تلخيصها في أربعة محاور كبرى: أولاً: لأن الإسلام دين لا يساوم ولا يهادن فهو دين يعلن التوحيد خالصاً لله، ويرفض أنصاف الحلول، ولا يرضى بخلط الحق بالباطل. جاء ليهدم الجاهلية لا ليُساكنها، وليقيم العدل لا ليرقّع به بُنى الظلم. ولذلك لا يُطاق الإسلام في نظر أعدائه إلا إذا تجرد من روحه، وتحوّل إلى طقوسٍ شكليةٍ لا أثر لها في الواقع، أي حين يتخلى عن ذاته. ثانياً: لأنه مشروع يقاوم مشاريعهم فالإسلام ليس فكرة روحية مجرّدة، ولا تعاليم أخلاقية معزولة عن الحياة، بل هو مشروع حضاري متكامل، يرسم منهجاً للعبادة والسياسة والاقتصاد والاجتماع. مشروعٌ يحرر الإنسان من العبودية للمال والسلطة، ويقيم موازين القسط على أساس من الإيمان بالله وحده. وهذا ما يجعل منه خصما لكل مشروع استعماري أو مادي يريد أن يُبقي الإنسان أسيراً للشهوات والمصالح. ومن هنا كانت معاداتهم له دفاعاً عن وجودهم الحضاري لا عن مجرد معتقد دينيّ. ثالثاً: لأن أرضه قلب الصراع فأرض الإسلام الأولى هي مهد الرسالات، وموطن الوحي، ومركز التوحيد في الأرض. إنها الأرض التي اختارها الله لتكون منطلقاً للنور، ولذلك كانت مطمعاً لكل القوى التي أرادت أن تملك زمام التاريخ. من سيطر على هذه الأرض تحكّم في وجدان البشرية الديني، ومن فقدها فقد رمزيته الروحية. ولهذا بقيت معركة القدس والأرض المباركة جوهر الصراع بين الإسلام وأعدائه منذ فجر الرسالة حتى اليوم. رابعاً: لأنها أرض الثروات والمفاتيح فمنذ العصور القديمة كانت بلاد المسلمين مفترق الطرق بين القارات، ومصدر الثروات الطبيعية وممرّ التجارة. واليوم هي محور الطاقة في العالم، ومركز التحكم في الممرات البحرية، وبوابات العالم الاقتصادية. فالصراع عليها ليس دينياً فحسب، بل هو صراع مصالح وإستراتيجيات، تتداخل فيه المطامع الاقتصادية مع النزعة العقدية، فيصبح الدين عند أعداء الإسلام غطاء لمطامع السيطرة والهيمنة. وهكذا يتبين أن الصراع بين الإسلام وأعدائه أعمق من مجرد جدل ثقافي حول هوية أو قيم مشتركة، بل هو صراع بين منهجين متقابلين: منهجٍ يردّ الأمور كلها إلى الله، ومنهجٍ يجعل الإنسان إلهاً على الأرض. ومن هنا لا يمكن أن يجتمع الإسلام الحق مع الباطل في طريقٍ واحد، لأن الإسلام لا يقبل أنصاف الولاءات ولا أنصاف الحلول، ولا يرضى بأن يُختزل إلى تراث ثقافي أو رمز روحي منزوع الدلالة. إن هذه السنّة الربانية تُورث المؤمن يقيناً وصموداً، وتمنحه بصيرةً في النظر إلى حركة التاريخ، فيعلم أن عداء الباطل له ليس عارضاً، وأن ثباته على الحق هو أعظم أسباب بقائه. وبهذا الفهم يعيش المؤمن في زمن الفتن مستنيراً بنور الوحي، ثابت الخطى، عزيزاً بدينه، لا تزعزعه حملات التشويه، ولا تخدعه شعارات التسامح التي يراد بها نزع سلاح العقيدة من قلبه. فمن استمسك بهذا الوعي، أدرك أن الصراع القائم اليوم بين الإسلام وأعدائه ليس معركة حدود أو مصالح فحسب، بل معركة قيمٍ ومناهجٍ ومصائر، وأن النصر فيها لا يُنال بالعدد والعدة فقط، بل بثبات الهوية وصيانة المنهج، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.

249

| 19 أكتوبر 2025

هل مات الراعي النميري حقًا؟

‏أنشد جرير قصيدته الخالدة التي مطلعها: ‏أَقِلّي اللَّومَ عاذِلَ وَالعِتابا ‏وَقولي إن أَصَبتُ لَقَد أَصابا ‏وفيها قوله الذي خلد في ذاكرة العرب: ‏فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِن نُمَير ‏فَلا كَعبًا بَلَغتَ وَلا كِلابا ‏قالها ردًا على الراعي النميري، الذي هب في عصبية جاهلية يدافع عن الفرزدق ويهجو جريرًا، فكان جزاء حميّته أن جنى على قومه عارا مقيما، وصار اسمه علمًا على من يهلك نفسه بجهله، حتى غدا مضرب المثل في من يورد قومه موارد السخرية، ويقودهم بعاطفة غافلة إلى المهانة. ‏لم يخطئ الراعي لأنه أحب، بل لأنه جعل الحب عمى، والغيرة سلاحًا أعمى. ‏نسي أن الكلمة إذا خرجت من غير روية كانت كالسهم المرتد إلى صدر صاحبها، فهدم بلسانه ما أراد أن يرفع، وجعل من الدفاع غلوًّا، ومن الحمية جهلًا. وهكذا كل من يتكلم في غير موضعه، يظن أنه يدافع عن الحق، وهو يطعن فيه من حيث لا يشعر، ويحسب الغضب على الخصوم نصرةً للدين أو للمبدأ، وما هو إلا انقياد للهوى. ‏ألا ما أكثر رعاة نمير اليوم! تراهم في كل ساحة يندفعون في خصوماتهم، يرفعون أصواتهم دفاعًا أو طعنًا، يرمون هذا ويصيبون ذاك، لا يزنون كلامهم بميزان العدل ولا يضبطون عواطفهم بعقال الحكمة. يظنون أن القسوة صدق، وأن الغلظة قوة، وأنهم ما داموا ينتمون إلى فئة أو مذهب أو رأي فهم على الحق المطلق، وما سواهم في باطلٍ بيّن. ‏إن بعض الناس لا يحسنون في مواقف الخلاف إلا الخصومة، ولا يعرفون من العدل إلا ما وافق رأيهم، فإذا خالفهم أحد في فكرة جعلوا من رأيه خصومة، ومن زلّته قضية، ومن خطئه ذريعةً لنبذ كل ما قدّمه. ‏وبعضهم يجعل من الخطأ الواحد ذريعة لهدم العمر الطويل، ومن الزلة الواحدة سلمًا للطعن في العلم والعمل، فإذا مات خصومهم لم يسكتوا عنهم، بل وقفوا على ذكراهم بألسنة حادة لا تعرف الرحمة، ويحسبون أنهم يدافعون عن الحق، وهم في الحقيقة يهدمون بعض صروحه بأيديهم. ‏حتى إن أحدهم قال كلامًا من لوازمه تكفير من خالفه وإن لم يقصد! ‏إن كل من يرفع صوته بالهوى، أو يتحدث بغير إنصاف، أو يجعل من العصبية المذهبية أو الحزبية ميزانًا للحق، فهو صدى لذلك الراعي القديم، وإن لبس لبوس العالم أو المفكر أو الغيور! ‏فالراعي يعيش في كل من يسرف في الغيرة حتى تقتله، وفي كل من يخاصم باسم الدين أو الفكر أو الشرف، دون بصيرةٍ تهديه إلى العدل. ‏وما أكثر من يظنون اليوم أنهم على هدى، وما هم إلا أصداء له! ‏ألا ما أشبه زماننا بزمانه، وما أشد حاجة الناس اليوم إلى جرير آخر. ‏يا قومنا: ‏﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

651

| 12 أكتوبر 2025

الضغوط الخارجية وقلق الداخل

من سنن الله في خلقه: أن يحيى الإنسان في دار ابتلاء، فلا يخلو عمره من ضغوط. تلك تكاليف الحياة وطبيعتها: عمل وأسرة، علاقات ومطالب، تفاصيل صغيرة تتراكم حتى تثقل النفس. ليست هذه علامة على سوء الحظ، بل على حقيقة الوجود: أنك مخلوق في دنيا دار اختبار، لا جنة قرار. والقوة أن ندرك أنّ هذه الضغوط ليست عدوّاً يُستأصل، ولكنها قدر محتوم يجب أن يُستقبل بالإيمان. فبدلاً من الهروب منها أو إنكارها، يكون الوعي بها وقبولها بداية الحصانة الداخلية، التي تمنح القلب طمأنينة وثباتاً في مواجهة العواصف. ثانياً: حين يتسرب الضغط إلى الداخل المصيبة ليست في الخارج، ولكن في الداخل. هناك من يجعل من الحدث المرهق وقوداً لنهوضه، وهناك من يفتحه على نفسه باباً للقلق والوسواس، حتى يصبح أسيراً لردود فعله. انظر مثلا إلى قضية النقد في العمل؛ قد يكون عند مؤمن فرصة لمراجعة وتزكية، وقد يكون عند ضعيف النفس مصدراً لهدم ثقته بنفسه. الحدث واحد، ولكن الاستقبال يختلف باختلاف القلب. فمن عمر قلبه باليقين، جعل من الضغوط سلّماً، ومن خلا قلبه من المعنى صار عبداً للقلق والوهم. ثالثاً: بناء الحصانة الداخلية الحماية ليست في نفي الضغوط، فهذا أمر خارج عن إرادتنا، بل في تقوية الداخل، وصيانته بالإيمان والعمل الصالح. ومن سُبل ذلك: 1. إعادة التفسير بالإيمان: أن ينظر إلى كل ما يجري بأنه امتحان من الله، فيه عبرة وفرصة للتعلم. 2. مجاهدة الخواطر: أن يطرد وساوس السوء، ويستبدلها بذكر الله، وآياته التي تنير البصيرة. 3. تحقيق التوازن: في العمل والراحة، فإن لنفسك عليك حقاً، وإن لبدنك عليك حقاً، والراحة عبادة إن نويت بها التقوّي على الطاعة. 4. المرونة الإيمانية: تقبّل الخسارة والفشل كجزء من قدر الله، والتسليم بأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ومن وسّع أفقه على حكمة الله في قضائه، صغرت في عينه أثقال اللحظة، واستراح قلبه برضا ربه. رابعاً: الأزمة في الداخل لا في الخارج كالقبطان أمام الرياح، لا يملك أن يوقفها، ولكنه يملك أن يوجه شراعه. كذلك المؤمن، لا يملك نفي الضغوط، ولكنه يملك أن يجعل منها طريقاً إلى الله. خطوات عملية لإحكام “أشرعة الداخل”: • الذكر والدعاء: فاللسان إذا انشغل بالتسبيح والتحميد والتهليل، اطمأن القلب وخمدت ثورته. • تنظيم الوقت: فإن كثيراً من القلق وليد الفوضى، والمؤمن مأمور بحسن التدبير: “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا”. • صحبة صالحة: تبث فيك العزم، وتذكرك بالله إذا نسيت، وتخفف الحمل عنك بالمشاركة والمساندة. • الصلاة والقيام: فهي صلة بالله، وراحة القلب، وبها يلقى العبد الطمأنينة التي لا تمنحها الدنيا. خامسا: نحو طمأنينة أعمق ليست الطمأنينة فراغاً من المشكلات، ولكنها سكينة يهبها الله لعبده، تمكّنه أن يثبت وسط العواصف. إن كثيراً من الناس يظنون راحة البال تعني انعدام الأزمات، وهذا وهم؛ فالابتلاء جوهر الحياة. لكن المؤمن يجعل من المحنة منحة، ومن الشدة طريقاً إلى رفعة. القلق: جرس إنذار لا عدو القلق في أصله ليس شراً محضاً، بل هو نذير ينبهك أن تعود إلى الله، أو أن تعدّل مسارك. فالخطر حين يتحول إلى وسواس دائم يقعدك عن السير، أما إذا استُقبل بروح إيمانية، صار دافعاً لمراجعة النفس والعودة إلى الجادة. الضغوط كوقود للنمو كم من عظيم صنعته محنة! وكم من إنجاز وُلد في رحم بلاء! • الفشل يوقظ ملكة الإبداع. • الخسارة تعلم قيمة العطاء والشكر. • المرض يذكر بفناء الجسد، ويدفع إلى إعادة ترتيب الأولويات. وهكذا لا تكون الضغوط صخرة تسحق، بل هي وقود يرفع المؤمن درجات عند ربه. ملامح الإنسان المتوازن المؤمن المتوازن ليس من نجا من المنغصات، ولكن من صاغ منها عبادة ومعنى. • يواجه بثبات مستعيناً بالله، ولا يكتم مشاعره البشرية. • يتألم، نعم، لكن يجعل من ألمه زاداً إلى الطاعة. • يسقط أحياناً، لكن يقوم وقد تعلم من سقطة واحدة ما لا يتعلمه من سنين رخاء. إنه يعيش حياة أعمق، لأن كل تجربة عنده لبنة في بناء صرح إيمانه. خطوات عملية نحو طمأنينة أعمق 1. إعادة التفسير بالإيمان: اسأل نفسك أمام كل ضغط: ماذا يريد الله أن يعلّمني من هذا البلاء؟ 2. التركيز على الممكن: اعمل فيما تملك، ودع ما لا سلطان لك عليه لمدبر الكون. 3. تنظيم الطاقة: نومٌ بنية التقوي على العبادة، وحركة تحفظ الجسد، وراحة ترد القلب إلى الطاعة. 4. المرونة الذهنية: تقبّل التغيير كجزء من قدر الله، فخسارة اليوم قد تكون مقدمة لفوز أعظم غداً. إن الطمأنينة لا تعني غياب الرياح، ولكن حسن ضبط الأشرعة بقوة الإيمان، فالضغط ليس نقمة، بل فرصة يفتحها الله لعبده ليكتشف نفسه من جديد، ويزداد قرباً منه، ومن فهم هذه الحقيقة لم ينتظر البحر حتى يهدأ، بل يجعل من العاصفة قوة تدفعه نحو شاطئ أرحب من اليقين، وأوسع من الطمأنينة.

525

| 06 أكتوبر 2025

حين يُستَبدل ميزان الحق بمقام الأشخاص

‏من أخطر ما يُبتلى به التفكير البشري أن يتحوّل ميزان الحق والباطل من صفاء الفكرة وقوة الدليل إلى مجرد انتماء القائل أو مكانته. ‏فبدل أن يكون العقل أداةً للإنصاف ووسيلةً لوزن الحجج، يصبح تابعًا للهوى، أسيرًا للميل النفسي، مسلوبًا من وظيفته التي أودعها الله فيه. ‏وهذه النقلة ليست مجرد خطأ عابر، بل هي خللٌ منهجيٌّ عميق يطال بنية التفكير كلّها، ويؤدي إلى سلسلة من الانحرافات الفكرية والاجتماعية. ‏أولًا: انكسار معيار الحق ‏حين يُربط الحكم على الأفكار بمقام الأشخاص، فإن معيار العدل ينكسر. فالعقل لا يعود يزن الحُجّة بما تحمله من برهان، بل بما يحمله قائلها من قرب أو بُعد، مكانة أو خصومة. عندئذٍ يتحول ميزان العلم والشرع إلى ميزانٍ عاطفي هشّ، وتصبح الحقائق أسيرةً للانتماءات. ‏وفي هذه اللحظة يضيع الإنصاف، ويغدو الدليل بلا قيمة إن خرج من فم المخالف، بينما يُستَقبل بالتصفيق لو نطق به الموافق. ‏ثانيًا: تعطيل النقد البنّاء ‏النقد ليس غايةً في ذاته، بل هو وسيلة للتقويم والتكميل. غير أن ربط التصويب والتخطئة بالانتماء يُعطِّل هذه الوسيلة تمامًا. فإذا كان الحبيب مصونًا من المراجعة، فإن أخطاءه الصغيرة تتضخّم وتتحوّل إلى كوارث فكرية واجتماعية، لأنه لا أحد يجرؤ على تنبيهها أو تصحيحها. ‏وعلى الجهة الأخرى، إذا كان المخالف محكومًا عليه بالرفض قبل أن يتكلم، فإن صوابه يُدفن مع كلماته، وتُحرم الأمة من خيرٍ كثير كان يمكن أن يُثمر لو قُوبل بالإنصاف. ‏وهكذا يُسدّ بابان عظيمان: ‏باب تقويم المحبوب ‏وباب الاستفادة من المخالف. ‏ثالثًا: صناعة الوهم الجماعي ‏الاستمرار على هذا النهج يُنتج مع مرور الزمن وهمًا جماعيًّا. إذ يُرسَّخ في الوعي أن بعض الأشخاص فوق النقد، وأن بعض الانتماءات تُعطي صاحبها حقًّا بالقول لا يُسائل عليه أحد. وتُزرع في العقول أوهام العصمة لأناس لا عصمة لهم، ويُغدو الانتماء أهم من الحقيقة نفسها. ‏ومع التكرار يصبح الحق ما قاله فلان، والباطل ما قاله خصمه! وتذوب المعايير الموضوعية شيئًا فشيئًا حتى تُستبدل بمعايير شخصية، فيغيب الضابط المنهجي وتُستعبد العقول تحت لافتة الولاء أو الخصومة. ‏‏هذا المسلك في جوهره انعكاس لغلبة الهوى على سلطان العقل؛ إذ إن النفس تميل بطبعها إلى تصديق من تحب وتكذيب من تبغض، لكن وظيفة العقل أن يُقاوِم هذا الميل بالميزان الموضوعي. فإذا ضُيّعت هذه الوظيفة، انحدر المجتمع كله إلى التفكير الغرائزي بدل التفكير المنهجي. ‏وفوق ذلك، فإن العادات الاجتماعية والتكتلات الفكرية والسياسية تغذي هذا النمط، لأن الجماعة غالبًا تميل إلى حماية صورتها وهيبتها، ولو على حساب الحقيقة. ‏إن استمرار هذا الخلل لا يفسد فقط آلية التفكير الفردي، بل يُعطّل حركة المجتمع بأسره. فالأمة التي تُعلي الأشخاص فوق الحقائق تُعيد إنتاج أخطائهم جيلاً بعد جيل، بينما تحرم نفسها من الاستفادة من خصومها. وبذلك تُصاب بجمود حضاري، وتظل تدور في حلقة مفرغة من التكرار والتعصّب، بدل أن تتقدّم بالنقد والمراجعة والمصارحة. ‏وختاما: العقل أمانة، ومهمته أن يكون ميزانًا للعدل، لا أداةً للتعصّب، والإنصاف لا يُختبر في موافقة المحبوب، بل في الاعتراف بصواب المخالف، وحين يستعيد الناس هذا الميزان، يتحرّرون من سطوة الأشخاص، ويرتبطون من جديد بالمعيار الأعلى: الحق الذي لا يعلو عليه مقام، والبرهان الذي لا تحجبه الأهواء.

1104

| 29 سبتمبر 2025

﴿وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون﴾

إنّ الطريق إلى الله طريق طويل، محفوف بالابتلاءات، مزروع بالأشواك، تحفّه الفتن، وتزاحمه النفوس المثقلة بضعفها. وفي كل دربٍ ستلقى بشرًا يُعرّفونك بنفسك قبل أن يُعرّفوك بأنفسهم. هم امتحان لروحك، كما أنك امتحان لقلوبهم، فكل وجه تراه، وكل طبع تصادفه، ليس عبثًا، بل هو رسالة خفية إلى روحك، يدعوك إلى أن تصقل وتتهذّب. ‏هناك من يفتح لك باب الرحمة، وهناك من يضع أمامك جدارًا من القسوة. ‏منهم من يذكّرك بنقصك، ومنهم من يستفز فيك كبرياءك أو غضبك أو غيرتك. ‏والحكمة أن تتعلّم فنّ العبور وسط هذه الأمواج البشرية: أن تُدرَّب على الصبر، وتُهذَّب بالحكمة، وتحفظ قلبك من التلوث، وطاقتك من التبديد. وهذه عشر شخصيات ستجدها، مرسومة بعناية في طريقك، تكشف ضعفك وتستخرج قوتك، وتدعوك أن تعلو فوق اللحظة إلى أفق أعلى: 1. الشخصية السلبية هي روح لا ترى إلا الظلام، ولا تلتقط من النور إلا غيابَه. تجرّ خطاك إلى هوّة العجز واليأس. ومخرجك منها أن تعلّق قلبك بالرجاء، وتستمسك بحبل الله المتين، فلا تُسلم روحك لعدوى الإحباط. 2. الشخصية النرجسية أسيرة وهمٍ أجوف، تسعى إلى مديح الناس، وتبخل عليهم بالإنصاف. وحين تقترب منها لا تُقارن نفسك بها، فأنت عبد لله، والميزان عنده لا عندها. 3. الشخصية المتطلّبة تستنزف وقتك وجهدك، وتغريك بشعور الذنب إن قصّرت في عطائها. وعلاجها: أن تُحسن الحدود، وأن تعلم أنّ وقتك أمانة، لا يُهدره كل طارق. 4. الشخصية الانتقادية لا ترى إلا عيبًا، ولا تذكر إلا نقصًا. والنجاة منها أن تزن كلماتها بميزان العدل، فتأخذ ما ينفعك، وتذر ما يجرح بلا طائل. 5. الشخصية الحسودة تذوب قلوبها إذا أُفيض عليك بنعمة. وموقفك منها: أن تستر رزقك ما استطعت، وتحيط نفسك بجوٍّ من الشكر يقيك سموم الحسد. 6. الشخصية المتشائمة ترى الفشل قبل أن يبدأ السعي، وتستدعي الهزيمة قبل أن يُرفع لواء الجهاد. ودواؤها أن تُقيم لها الدليل من الواقع، وأن تبدأ بالخطوة الصغيرة التي تُثبت أن الطريق يُثمر. 7. الشخصية محدودة الوعي تُسيء الفهم وتُربك المعنى. والتعامل معها: بالبيان المبسّط، وبالكتابة التي تثبّت الكلمة فلا يعبث بها الوهم. 8. الشخصية القلقة تعيش في خوفٍ دائم، وتبثّ هذا القلق في الأجواء. ومنهجك معها: أن تُعطيها الطمأنينة بقدر، ثم تحمي نفسك من غرقٍ في بحر لا قرار له. 9. الشخصية الشكّاكة ترى في كل كلمة سوء نية، وفي كل فعل مؤامرة. وطريقك معها: أن تكون شفافًا، وأن توثّق، ثم تُدرك أنّ شكوكها شأنها لا شأنك. 10. الشخصية المزاجية تتقلّب كما تتقلّب الرياح، تُربكك بتغيّرها، وتستنزفك بتقلبها. والتعامل معها: أن تختار لحظات السكون للحوار، وتضع السدود أمام ثوراتها العارضة. هذه النماذج ليست عدوّك في الطريق. إنما هي ابتلاءات يجب التعامل معها: • بالوعي تُدرك أثرها. • وبالحزم تصون وقتك وطاقتك. • وبالتوكل تحفظ قلبك من التلوث. فالناس امتحانك وأنت امتحانهم. والسعيد من خرج من هذا الزحام وقد صفا قلبه، ونما وعيه، وثبت قدمه على الطريق.

249

| 21 سبتمبر 2025

الأمة لا تحتاج إلى أسئلة تُثير الضجيج

إنّ الأمة لا تحتاج إلى أسئلة تُثير الضجيج وتُبعثر الطاقات، وإنما إلى السؤال الراشد؛ سؤال صادق النية، موجَّه للبناء لا للهدم، يثمر عملًا لا جدالًا. ‏فالسؤال في ميزان الوحي أمانة ومسؤولية؛ إذ قد يكون مفتاحًا للعلم والعمل، وقد يكون مدخلًا للفتنة والانقسام. ‏وإن كنا نريد نهضةً حقيقية، فعلينا أن نتربّى على فنّ السؤال: أن نسأل عمّا ينفع، وندع ما يضر، ونحوّل السؤال إلى مشروع إصلاح وعمل نافع.‏فالقضية ليست في كثرة السؤال أو قلّته، بل في وعي غايته ومآله: ماذا نسأل؟ ولماذا نسأل؟ ‏الأسئلة الجدلية التي تستنزف العقول وتشتّت الصفوف ليست من العلم في شيء، أما السؤال الذي ينير الطريق، ويكشف مواضع الخلل، ويفتح أبواب العمل، فهو السؤال الذي يبنيه الإيمان. ‏- ضوابط السؤال بين الوحي والعقل ‏لقد رسم القرآن والسنة معالم السؤال الراشد، فجعلت له ثلاثة أطر جامعة: ‏1) وعي ‏أن ندرك خطورة السؤال، فنزنه بميزان الوحي، فنميّز النافع من الضار. ‏قال تعالى: ‏﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ ‏وقال أنس رضي الله عنه: ‏«كنا نُنهى أن نسأل رسول الله ﷺ عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع» ‏فالوعي تربية قرآنية ونبوية، تُعلّمنا التمييز بين سؤال يثمر علمًا وعملًا، وسؤالٍ عقيم يفتح أبواب الفتنة. ‏2) ضبط ‏أن نُحسن كفّ اللسان وتوجيه الفكر، فلا ننجر وراء كل خاطر، بل نختار سؤالًا نافعًا يخدم مشروع الحياة والقرب من الله. ‏قال ﷺ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ‏ومن صور غياب الضبط: ما وقع يوم قال النبي ﷺ وهو يخطب: ‏«سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمتُ في مقامي هذا» ‏فهابه الناس، وجعلوا يغطّون وجوههم وهم يبكون، فقام رجل فقال: «من أبي؟» فقال ﷺ: «أبوك حُذافة». فقال عمر رضي الله عنه: «رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولًا، عائذًا بالله من الفتن».‏فالضبط يحمي الأمة من الأسئلة التي لا ثمرة لها، ويصونها من الفتن. ‏3) تسخير ‏أن نحوّل السؤال إلى أداة بناءٍ، ومفتاح مشروعات إصلاح، ووسيلةٍ للتعلّم النافع وخدمة الأمة. ‏قال تعالى: ‏﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ‏وجاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: «أي الناس أحب إلى الله؟ وما أحب الأعمال إليه؟» فقال ﷺ: ‏«أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا». ‏وقال ﷺ: «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» ‏فهذا هو السؤال البنّاء: يحدّد الأولويات، يفتح ميادين العمل، ويحوّل المعرفة إلى حركة إصلاح تمتد في جسد الأمة كله. ‏إنّ السؤال في ميزان الوحي أمانة عظيمة: ‏•وعي يميّز النافع من الضار. ‏•ضبط يكفّ اللسان عن الفضول والفتنة. ‏•تسخير يحوّل السؤال إلى إصلاح وبناء ونهضة. ‏والسعيد من جعل سؤاله سبيلًا إلى النور والعمل، لا بابًا للجدل والانقسام.

216

| 16 سبتمبر 2025

الواقع الافتراضي.. وانكشاف الحقيقة

إن هذا الواقع الرقمي لم يأت بجديد من عنده.. إنما كشف ما كان في الصدور، وأزاح الأغطية عن خبايا النفوس. ففي الحياة اليومية، كان كثير من الناس يضعون الأقنعة: -قناع الحياء من المجتمع -وقناع الخوف على السمعة -وقناع الحرص على المكانة. لكن حين فتحت لهم المنصات أبوابًا واسعة بلا رقيب من الناس، ولا حساب عاجل في الدنيا، انطلقت النفوس على حقيقتها، فبان زيف التجميل، وظهر ما تخفيه القلوب. لقد تفجرت سيول الإساءة، وارتفعت صيحات السباب والتحريض والعنصرية، تحت دعاوى كاذبة: “حرية”، و”جرأة”، و”صراحة”! وما هي في حقيقتها إلا انطلاق الغرائز من عقالها، وتفلّت الهوى من زمامه، وتجرّد القلب من رادع الإيمان والخوف من الله. وهنا يتجلّى السؤال الحاسم: هل كانت هذه الأخلاق كامنة، ففضحها هذا الواقع؟ أم أن البيئة الرقمية غذّت النفوس حتى كبرت فيها نوازع الشر؟ الحقيقة أن كليهما قد وقع!! إن الأمم لا تسقط حين تُهزم في الميدان العسكري، ولكنها تسقط حقًّا حين تُهزم في ميدان القيم. فإذا فسد الخُلق، لم يبقَ علمٌ ينفع، ولا مالٌ يدفع، ولا قوةٌ تُقيم. وقد قال رسول الله ﷺ: “إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق.” الواقع الافتراضي ليس لعبةً للتسلية.. إنه ابتلاء، يكشف عن معادن الناس، ويضعهم في ميزان الآخرة قبل أن يضعهم في أنظار الخلق. فمن ضبط لسانه وبصره وقلبه لله، ربح الدنيا والآخرة. ومن أطلق هواه، فليعلم أنه يكتب تاريخه عند الله قبل أن يكتبه على صفحته آثار الواقع الافتراضي على الفرد والمجتمع إن هذا الانفلات الرقمي لا يقف عند حدود الكلمات، ولا يقتصر على لحظة انفعال تُكتب ثم تُنسى، بل يترك أثرًا عميقًا في القلوب والعقول. فعلى مستوى الفرد: • يضعف رادع الضمير، ويتعوّد اللسان على الفحش، فيموت الحياء من الله، ثم الحياء من الناس. • يتربى القلب على الغلّ والحقد، إذ ينغمس صاحبه في سبٍّ وتحريضٍ، حتى يصبح ذلك غذاءً لنفسه، وراحةً مؤقتةً لوهمه. • يذبل نور الإيمان، ويخفت صوت القرآن في النفس، لأن القلب الذي امتلأ باللغو لا يجتمع فيه خشوع ولا ذكر. • ويُصاب الإنسان بعزلة نفسية، إذ يظن أنه يعيش في مجتمع من الأعداء، فيُغلّق أبواب الرحمة في صدره، ويعيش في وحشة لا تنقشع. أما على مستوى المجتمع: • تتفكك الروابط، إذ يتحول الحوار إلى صراع، والاختلاف إلى عداء، والتنوع إلى طائفية ممزِّقة. • تُهدر الطاقات في مهاترات، بدل أن تُبنى بها حضارة، أو تُصنع بها نهضة. • يفقد الناس الثقة في بعضهم، فإذا غابت الثقة انهارت جسور التعاون، وتلاشت فرص النهوض الجماعي. • وتضعف المناعة الأخلاقية للأمة، فإذا جاءها عدوٌّ خارجي وجدها رخوة، قد أُنهكت من الداخل قبل أن تُهزم من الخارج. وهكذا، يصبح الواقع الافتراضي ساحة اختبارٍ حقيقية: إما أن يكون وسيلةً للخير، نُظهر فيه أجمل ما عندنا من خُلقٍ وكلمة طيبة ودعوة راشدة، فيكون صدقة جارية لا تنقطع. وإما أن يكون بابًا للشر، نكتب فيه ما يثقل ميزان السيئات، ويهوي بنا في دركاتٍ لا نتصورها. إنه امتحان الإيمان: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]. فهل نعي أن كلماتنا على الشاشات تُرفع في صحائفنا، وتُعرض على ربنا؟ وهل نستيقن أن أخلاقنا هي التي تحكم مصيرنا، في الدنيا قبل الآخرة؟

429

| 07 سبتمبر 2025

alsharq
وزارة التربية.. خارج السرب

هناك لحظات في تاريخ الدول لا تمرّ مرور...

11817

| 20 نوفمبر 2025

alsharq
تصحيح السوق أم بداية الانهيار؟

وفقًا للمؤشرات التقليدية، شهدت أسهم التكنولوجيا هذا العام...

2454

| 16 نوفمبر 2025

alsharq
صبر المؤمن على أذى الخلق

في قلب الإيمان، ينشأ صبر عميق يواجه به...

1761

| 21 نوفمبر 2025

alsharq
وزارة التربية والتعليم هل من مستجيب؟

شخصيا كنت أتمنى أن تلقى شكاوى كثير من...

1347

| 18 نوفمبر 2025

alsharq
المغرب يحطم الصعاب

في لحظة تاريخية، ارتقى شباب المغرب تحت 17...

1140

| 20 نوفمبر 2025

alsharq
عمان .. من الإمام المؤسس إلى السلطان| هيثم .. تاريخ مشرق وإنجازات خالدة

القادة العظام يبقون في أذهان شعوبهم عبر الأزمنة...

1128

| 18 نوفمبر 2025

alsharq
حديث مع طالب

كنت في زيارة لإحدى المدارس الثانوية للبنين في...

933

| 20 نوفمبر 2025

alsharq
العزلة ترميم للروح

في عالم يتسارع كل يوم، يصبح الوقوف للحظة...

906

| 20 نوفمبر 2025

alsharq
وزيرة التربية والتعليم.. هذا ما نأمله

الاهتمام باللغة العربية والتربية الإسلامية مطلب تعليمي مجتمعي...

894

| 16 نوفمبر 2025

alsharq
ارفع رأسك!

نعيش في عالم متناقض به أناس يعكسونه. وسأحكي...

804

| 18 نوفمبر 2025

alsharq
إستراتيجية توطين «صناعة البيتومين»

يُعد البيتومين (Bitumen) المكون الأساس في صناعة الأسفلت...

681

| 17 نوفمبر 2025

alsharq
اليوم العالمي الضائع..

أقرأ كثيرا عن مواعيد أيام عالمية اعتمدتها منظمة...

642

| 20 نوفمبر 2025

أخبار محلية