رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
شاع منذ ربع قرن تقريبا مقولة زمن الرواية. بسبب انتشارها الأكبر في كل العالم. عام 1985 كتبت مقالا في جريدة المصور، أو مجلة الهلال المصرية لا أذكر بالضبط، قلت فيه إن الرواية هي ديوان العرب، قبل أن تنتشر مقولة زمن الرواية. كنت أدرك ما يحدث في العالم، وخاصة مصر بعد حرب أكتوبر عام 1973، والتحولات التي بدأت في الحياة المصرية وكيف هي مادة لا تنفد للحكايات. لست ضد مقولة زمن الرواية حتى الآن، بمعني الإقبال على كتابتها، والانتشار الذي يتجلى في الجوائز العربية مثلا أو الترجمات. لكني ضد تصور أن الرواية أفضل من الشعر، مما يجعل حركة النشر فيه أقل، وكذلك الجوائز. الحاصل أن الشعر قطع مراحل عديدة في التجديد، تماما مثل الرواية، لكن انتهي بقصيدة النثر، التي هي أقل تأثيرا حين تُلقى في لقاءات شفاهية، كما كان يحدث مع كل أشكال الشعر السابقة عمودية أو حرة. هكذا صارت قراءة الشعر الأفضل في البيوت مع الوحدة والتأمل. ذلك لا يقلل أبدا من قيمة الشعر، الذي هو في التاريخ أسبق من الرواية. الملاحم اليونانية أو المصرية القديمة أو الأشورية وغيرها كانت شعرا، وإن كانت ترجماتها العربية نثرا. فضلا عن ترانيم الحب والحياة وغيرها. يعتبر الكثيرون أول ظهور للرواية كان مع رواية «دون كيخوتة» للإسباني ميجيل دي سرفانتس عام 1605، لكن الشعر الذي هو أقدم لم يظهر في الملاحم القديمة ولا الترانيم فقط، لكن أيضا في سائر الفنون. كل ما أنجزه الفنانون القدماء من تماثيل أو معابد كان يعبر شعريا عن فكرة ومعنى لا يدركها إلا الحصيف. هكذا الشعر يُعنى بالمعاني الغائبة دائما حتى لو صار شعرا عاميا أو نبطيا عن قضايا اجتماعية حولنا، فالشجاعة تخرج بالشاعر عن المألوف. هكذا صار الفن التشكيلي نحتا أو رسميا تجسيدا شعريا لمعانٍ عظيمة بشكل غير مباشر. عرفت الرسوم أماكنها في الخلاء وأماكنها في الكنائس والمعابد والمساجد وكل دور العبادة، فكانت التعبير الشعري عما هو غائب. هل ننسى مثلا حكاية المعلقات العربية من الشعر قبل الإسلام، التي قيل إنها كانت تكتب بماء الذهب وتعلق على الكعبة، التي كانت مزارا دينيا قبل التوحيد أيضا. من أجمل ما قرأت رأيا ليحيي حقي في الشعر وأهميته عابرة الزمن، يضرب فيه مثلا بالمؤرخين الباحثين عما هو غائب في التاريخ. هم يبحثون عن معانٍ غائبة تماما مثل الشعراء. كذلك العلماء يكتشفون نظريات علمية جديدة بحثا عما غاب من قبل عند غيرهم. هكذا يكون المؤرخ والعالم وأي باحث، في مسيرته شاعرا يبحث عما هو غائب حتى وإن لم يكتب الشعر. هكذا صار الشعر هدفا للفنون والعلوم كلها معا. هذا يعيدني إلى فكرة زمن الرواية التي هي حقيقية شكلا، لكن الرواية عند الكاتب الموهوب أيضا بناء فني شعري يظهر في تعدد لغات الشخصيات، وأثر المكان أو الزمان عليها، وتعاقب الفصول، وتعدد ضمائر الحكي، مما يعكس معاني قد تغيب عن القارئ العادي لكنها لا تغيب عن الناقد الحقيقي. لماذا أكتب هذا المقال؟ لأني اقرأ كثيرا جدا من الأشعار الرائعة والدواوين، وأسمع ما يقال عن أزمة نشر الشعر، التي تكون فيها قلة المبيعات قياسا على الرواية. ليس هذا عيبا في الشعر. لكن كما قلت لأن الشعر قطع شوطا في التطور، فصارت قراءته تحتاج انفرادا لا تجمُّعا بين الناس فقل قراؤه. لكن عبر التاريخ يتسع الشعر فيكون ديوان الروح الإنساني عبر كل الفنون.
393
| 27 نوفمبر 2025
أقرأ كثيرا عن مواعيد أيام عالمية اعتمدتها منظمة الأمم المتحدة للاحتفال بها، آخرها اليوم العالمي للتسامح في السادس عشر من هذا الشهر «نوفمبر». تقريبا لا يمر شهر إلا وبه خمسة عشر يوما للاحتفال. يبدو الأمر أكبر من طاقتي على الاستيعاب، لأن كثيرا من هذه الأيام لا تتحقق على الأرض. كيف مثلا يكون لدينا يوم للاحتفال بالمساواة، بينما قضايا كثيرة يناقشها مجلس الأمن قد تنتهي إلى لا شيء، بسبب نظام المجلس نفسه، الذي به حق الفيتو أو الاعتراض من خمس دول، هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين. اعتراض على ما تتفق عليه بقية الدول مهما كانت الأغلبية للمتفقين. جاء هذا الحق تحت مظلة ضمان موافقة القوى الكبرى على القرارات الهامة، وحفظ التوازن الدولي. كيف لا تساوي الأمم المتحدة بين أعضائها، وهي التي تعتمد اليوم العالمي للمساواة. لقد شاهدنا أكثر من مرة الفيتو الأمريكي على أي قرار إدانة لإسرائيل. أي عاقل يدرك أن هذا الاعتراض الأمريكي ليس لحفظ التوازن الدولي، كما يقال تبريرا لحق الفيتو، لكنه رضوخ في السياسة الأمريكية لتأثير اللوبي الصهيوني بالولايات المتحدة. لن أتحدث عن أيام عالمية مثل اليوم العالمي المرأة أو الطفولة أو التعايش السلمي وغيرها، التي دائما تجعلني أسأل نفسي، في أي البلاد يكون الاحتفال بهذه الأيام ونحن نرى ما يحدث في العالم من حروب. حتى في الغرب منبع هذه الاحتفالات لا يمكن أن نصدق المساواة مع المرأة بشكل مطلق ولا حقوق الأطفال. لقد قرأنا وعرفنا مثلا ما اشتهر بفضيحة «جزيرة المتعة» التي كان وراءها الملياردير ورجل الأعمال الأمريكي جيفري إبستين، المتهم بإدارة شبكة للدعارة، واستغلال منازله وجزيرة كان يملكها، لارتكاب جرائم جنسية ضد فتيات قاصرات وأطفال وتجنيد أخريات لتوسيع شبكته. ظهرت القضية للعموم أول مرة عام 2005 وتم الكشف عن وثائق أثبتت تورط شخصيات سياسية وفنية أمريكية وعالمية. ورغم انتحاره عقب اعتقاله للمرة الثانية عام 2019، فإن القضية بقيت متفاعلة بعده، وأحدثت ضجة في المجتمع الأمريكي والعالم. كيف كانت هناك أسماء شهيرة بعضها لا يزال يمارس حياته السياسية. بل بعضهم لا يزال يتحكم في سياسة العالم. سأترك هذا كله وأقف عن اليوم العالمي لمحرقة اليهود علي يد هتلر، المحدد له السابع والعشرين من يناير كل عام، كيوم عالمي لإحياء ذكرى المحرقة. لم نسمع عن يوم عالمي يحمل اسم مجزرة من المجازر التي أقامتها إسرائيل للفلسطينيين منذ النصف الأول من القرن الماضي وبعده، مثل مجزرة قلقيلية وكفر قاسم وخان يونس وغيرها كثير قبل وبعد. ننسى ذلك كله ونتذكر غزة. ألا يستحق ما جرى في غزة أن يكون هناك يوم لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية التي فاق ضحاياها المائة وخمسين ألفا وجرحاها مئات الألوف، وغير ذلك من تجويع وغيره. هل يتم اعتبار ما حدث في غزة مسألة طبيعية كرد فعل على ما جرى من حماس في السابع من أكتوبر عام 2023، وكأن هناك جيشين بحق قاما بالحرب معا، بينما ما جرى أحد مظاهر المقاومة الوطنية. هل فشل إسرائيل في الوصول إلى جنود حماس مبرر كاف للإبادة الجماعية لأهل غزة المدنيين من نساء وأطفال وكبار السن وغيرهم. لماذا لا تعتمد الأمم المتحدة هذا اليوم أو حتى اليوم الثالث عشر من أكتوبر تاريخ اجتماع قمة شرم الشيخ، التي حضرها قيادات لها قيمتها من العالم، وبعدها لا تزال إسرائيل تماطل في أشياء كثيرة وتقوم بالغارات والتجويع ولا اعتبار لهذا اليوم.
666
| 20 نوفمبر 2025
أقرأ كثيرا عن الحرب في السودان بين قوات الجيش الحكومي وميليشيات حميدتي، وكيف أن هذه الحرب منسية رغم أن أخبارها في الصحافة والمواقع والتليفزيونات في كل العالم. اللواء عبد الفتاح البرهان هو رئيس المجلس العسكري الانتقالي تمهيدا للحكم المدني كما قيل ويقال! بعد أن أطاح بالحكم المدني برئاسة عبد الله حمدوك الذي أتت به الثورة على البشير عام 2018. كان ذلك عام 2021. محمد حمدان دقلو أو حميدتي هو قائد قوات الدعم السريع، التي أنشأها الرئيس عمر البشير وهو في الحكم موازية للجيش الرسمي، لتكون نصيره إذا تم الانقلاب أو الثورة عليه. سقط عمر البشير بسبب الثورة السودانية بعد ثلاثين عاما من الحكم العسكري، لكن عاد الحكم العسكري. اشتعلت الحرب بين الطرفين ولم تنته وكل طرف يقول إنه يحمي مكتسبات الثورة. ليس مهما لمثلي غير المنخرط بالسياسة، مَن على خطأ ومن على صواب. ولا أسئلة من نوع، كيف مثلا لم يدرك حميدتي أن مواجهة الجيش الرسمي بقوات غير رسمية، يعطي البرهان صفة السيادة؟. لكن يقفز السؤال عن الشعب ضحية كل الأطراف المتنازعة كلما رأيت عمليات القتل، ويكون ضحاياها الأبرياء من المدنيين، وآخرها ما حدث في مدينة الفاشر. الشعب هنا ليس ضحية محتل كما يحدث في غزة. الشعب ضحية أهداف قادة عسكريين في الحكم. هل خُلِق العسكريون من عسل والشعب من طين؟ شاهدت على قناة الجزيرة حوارا، حول ما انتشر عن دفن القتلى المدنيين في الفاشر في مقابر جماعية، وحرق من لم يتم دفنه. أكد المتفقون مع البرهان الأمر، وأنكره المتحدث الإعلامي لقوات حميدتي، ولم يجب على أسئلة عادية جدا، مثل كم عدد القتلى، وكم عدد الذين تم دفنهم بشكل عادي كما يقول. كانت إجابته إنه لم تصله الأرقام بعد. يتردد كثيرا الحديث عن تدخل دول أخرى في مناصرة حميدتي، بسبب مناطق لمناجم الذهب يسيطر عليها، وغير ذلك كثير لن أقف عنده. ومحاولات دول للجمع بين حميدتي والبرهان لكن لم تأتِ بنتيجة. تحاول منظمة «إيجاد» IGAD أن تصل إلى حل ولم تصل. هي هيئة حكومية للتنمية مقرها جيبوتي تضم عدة دول أفريقية، ومن أهدافها الحفاظ على السلام والأمن وتعزيز حقوق الإنسان، وغير ذلك من مظاهر الحياة. مثلي يعيش في القاهرة، وأعرف أعداد السودانيين الذين هاجروا أو تم تهجيرهم إلى بلاد أخرى، وفاقوا المليون في مصر. أراهم حولي في كل شارع ومقهى. يظل السؤال لمثلي هو عن هذا الشعب المنسي، الذي لم يعد له مكان آمن في وطنه. عن هجرته الجماعية وكيف لا يقف عندها المتصارعون، كيف ينام المتصارعون سعداء؟. سؤال قد يبدو ساذجا لكنه الله سبحانه هو الذي منحنا الضمائر. رأيت في الأيام الأخيرة أحداثا تبدو بسيطة في سوريا، مثل من يقومون بتغيير الشعارات السابقة لحزب البعث وحكومته على أسوار المدارس أو الشوارع، بشعارات أخرى تقول إن سوريا في القلب وليس أحدا من حكامها. ورأيت معرضا في أحد الفنادق الكبرى لمنتجات أهل حلب من طعام وملابس وصناعات صغيرة، تباع تحت عنوان» صُنع بحب». وطبعا رأيت من قبل عودة الكثيرين إلى سوريا بعد هجرات كبيرة، وظلم وعسف من النظام البعثي. ورغم أن البعض يختلف مع الحكام الجدد، فما يحدث يقول إن لكل جبروت نهاية. حقا لن نصل للحل المثالي في وقت سريع، لكن أن يعيش الشعب معززا في بلاده هو الأمل، وأعيد نشر الأحداث الصغيرة في سوريا ليتذكر من ينسى.
672
| 13 نوفمبر 2025
«سأعود مُعافَى من الشعارات المخزونة في طيات لساني، أترك التعصب الذي يستولي عليَّ ويحيلني ببغاء تكرر المحفوظات. تطرفت في الولاء للمبدأ حتى اقتراف الشرور. ارتكاب الجرائم». هذا المونولوج يأتي في الصفحات الأخيرة لرواية «صيف سويسري» للكاتبة العراقية أنعام كجه جي، لكني فضلت أن أبدأ به المقال. إنعام كجه جي تعيش في باريس، لها روايات رائعة منها «الحفيدة الأمريكية» ومجموعة قصصية وكتب في السيرة، واختيرت أكثر من رواية لها في القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية «البوكر» وعرفتها الترجمة للغات عالمية. وروايتها الأخيرة «صيف سويسري» منشورة في أكثر من دار نشر آخرها الدار المصرية اللبنانية. ما افتتحت به المقال، كان الأمل لأربعة من العراقيين، حصلوا على اللجوء إلى سويسرا، التي وضعتهم في مدينة بازل، في مصحة للعلاج من إدمان التعصب، للأفكار الشمولية التي عاشوها في العراق. الأول هو حاتم الحاتمي ضابط الأمن القومي، الذي كان يلقب بـ «الرفيق سور الصين»، وكان ضمن مؤسسة السلطة. مدمن القومية العربية الذي ارتكب في العراق كثيرا من الجرائم في حق من يسمونهم أعداء الوطن ومنهم أصدقاء له، وفقا لشعار «نفِّذ ثم ناغش» أي ثم ناقش وحاور. اسمه يوحي بالكرم الحاتمي، لكن الكرم الأكبر كان جرائمه! الثانية هي بشيرة حسون اليسارية التي تعرضت للتعذيب والحبس واغتصبت، وحملت ابنتها سندس التي استطاعت أن تهرب بها. الثالث هو غزوان البابلي، المتدين المتطرف والمعتقل السابق في سجون دولة البعث. الرابعة هي «دلالة شمعون» الآشورية المبشِّرة الدينية بشهود يهوه، الإله المختلف عن دين طائفتها. معهم الطبيب النفسي المعالج لهم وهو الشاب العراقي «بلاسم» الذي يعيش في مانشستر وتم استدعاؤه لعلاجهم. أسماؤهم جميعا ذات دلالة حتى لو كانت معاكسة، تدهشك فكرة العلاج النفسي من الأفكار المتطرفة، لكن بالنقاش بينهم والاعترافات تعود كقارئ إلى العراق يوما. ويدهشك أكثر أن العلاج يكون بتناول كبسولات «بونبوني» ملونة، ضمن البرنامج الذي يشمل جلسات البوح والاعتراف. تظهر مدينة بازل في رحلات خروجهم، وتظهر سويسرا وأسواقها في صور مجسدة. يطل بعضهم على مجمع البنوك فيتذكرون من يقومون بتهريب الأموال من بلادهم إليها. يرون المبنى الذي عقد فيه تيودور هرتزل أول لقاء للبحث عن وطن لليهود، فتتذكر ما جرى في فلسطين بعد ذلك، ويبدو كأنه علامة مبكرة على فشل التجربة في هذا البلد. بالفعل تكتشف في النهاية أنهم رغم اعترافاتهم، بدأوا يخفون «البونبوني» عن الطبيب بلاسم، ثم في جلسة على شاطئ نهر الراين يلقون به. خلال ذلك يبدو اللقاء بين بلاسم وسندس ابنة بشيرة حسون، مبشرا بقصة حب من ناحيته على الأقل، فهو يخرج بها إلى معارض فنية وغيره، لكن في النهاية تزوجت نرويجيا. لا تريد عراقيا فهي لم تعرف غير الضحايا أو الجلادين. من أبرز الشواهد الفنية في بناء الرواية أن حاتم الحاتمي يشغل المساحة الأكبر منها، هو الذي وراءه كثير من الجرائم، إلا حبه المكتوم لبشيرة حسون، الذي جعله يبعدها عن الحبس والتعذيب، ويعيدها إلى بيتها. يشغل سرده أكثر من خمسة عشر فصلا من الرواية بينما لا يشغل سرد الآخرين غير فصلين أو ثلاثة. هل لهذا معنى؟ ربما فأنا لا أحب التفسير النهائي للأدب، لكن المعنى الذي قفز إليَّ هو تسلط الأقوياء بالحكم حتى في رواية يكتبها آخرون. تفاصيل كثيرة في الرواية، تجعلها صورا سينمائية مرئية، وتتعدد فيها لغة الشخصيات في الحوار أو الاعترافات بشكل فاتن، وحين تنتهي تدرك معنى العنوان، فصيف سويسرا هو أقل المواسم ولن يغير الأحوال.
831
| 06 نوفمبر 2025
من أكثر الأسئلة التي توجه لي في حواراتي الثقافية، أو توجه إلى غيري من الكتاب، هو لماذا تكتب؟. سؤال قد يفاجئ الكاتب نفسه، لأن إجابته في روحه، أنه منذور للكتابة. يولد الإنسان وفي روحه كل المواهب. الفنون والرياضة والسياسة وحتى القتال، لكنه لا يقرر مبكرا كيف يكون. هي البيئة حوله تجذبه إلى ما يتفق مع روحه أكثر، أو تفتح له المجال. البيئة الصالحة من مدارس وبيوت وحدائق وشواطئ، تستدعي الجمال الكامن في روح أي إنسان، بينما البيئة السيئة تفتح طريق الشرور. هكذا عشت البيئة الصالحة في الإسكندرية في الخمسينيات والستينيات. كان أبي متدينا يجمعنا حوله كل ليلة ونحن أطفال يحكي لنا قصص الأنبياء في القرآن الكريم. كذلك يحكي لنا من التراث العربي حكايات أبي زيد الهلالي وغيرها. تزامَلت معه المدرسة التي كان فيها جماعات للموسيقى والفن التشكيلي والمسرح ومكتبة نقرأ بها ساعتين في الأسبوع. فقفزت الحكايات تريد أن أكتبها. تماما مثل الحكايات التي أقرأها في مكتبة المدرسة أو أسمعها من أبي. أو مثل الأفلام الأجنبية والمصرية التي كنت أشاهدها في السينما التي عرفت الطريق إليها في الخامسة من عمري، وأقرأ على الإعلان اسم الرواية أو الملحمة المأخوذ عنها الفيلم. أو المقاهي التي أمرّ عليها فأرى من الجاليات الأجنبية من يقرأ صحيفة بالإنجليزية أو الفرنسية أو الأرمينية أو الإيطالية فأعرف كيف يتسع العالم. كان هذا تراث الفترة الملكية الذي اختفى شيئا فشيئا بعد انقلاب يوليو 1952. أشياء كثيرة ساهمت في أن أكون كاتبا يطول الحديث عنها. * أعود إلى سؤال لماذا تكتب. كيف وقف بعض الكتاب حائرين أمامه؟ خاصة من يتصورون أن العالم سيتغير بكتاباتهم، رغم أن هناك كتابات أخرى معاكسة قد تجد صدى أكثر في الحياة. أو من يتصورون أنهم راحوا ضحية المتنفذين في الحياة الثقافية أو السياسية. عالم الكتابة مثل كل أنشطة الحياة فيه الصالح والطالح. وفيه من يعرف طريق مختصراً للشهرة بالانتماء إلى أجهزة تفتح له الأبواب، وفيه من يكتفي بما يكتب ويعيش على متعة الكتابة. من يتصورون أن كتاباتهم ستغير العالم قد يصيبهم اليأس مما يحدث حولهم. تاريخ انتحار كتاب من العالم كبير. بعيدا عن ذلك أعود إلى ظاهرة تنتشر على صفحات السوشيال ميديا. كثير من المقتطفات من أحاديث لكتاب من العالم، عن لماذا يكتبون. أو أيضا عن الحياة وكيف يجب أن تكون. لا يضايقني ذلك، فمن نذره الله، أو نذرته البيئة التي نشأ فيها للقراءة، يعرف طريق هؤلاء الكتاب وكتبهم الأصلية. وحتى لو لم يعرف القراءة بلغة أجنبية، فحقل الترجمة إلى العربية يتسع الآن بشكل عظيم.. دهشتي تأتي من سؤال لنفسي، لماذا لا يتم الاستشهاد بكتاب مصريين وعرب، وما أكثر من كتبوا سيرتهم ويومياتهم التي فيها أكثر من إجابة عن هذا السؤال. هناك كتب للسيرة الشخصية منذ «الأيام» لطه حسين أو «أنا» لعباس محمود العقاد، حتى تصل إلى صلاح عبد الصبور ورضوى عاشور وغيرهم. كذلك عند كثير من الكتاب العرب مثل نازك الملائكة ومحمود درويش وجبرا إبراهيم جبرا وفاطمة المرنيسي والشيخ سلطان القاسمي وإسماعيل مروة حتى تصل إلى إبراهيم نصر الله وغيره، لكن لا أرى مقتطفات من سيرتهم عن لماذا كتبوا. لست ضد الاستشهاد بالخارج في أي شيء. لكن إذا كان العالم صار صغيرا يقرِّب البعيد، فلماذا لا نلتفت إلى القريب؟ الإجابة عن السؤال لدينا والله كما هي عند الآخرين ولا تختلف كثيرا. بل تتوافق في الكثير من المعاني والأهداف.
378
| 30 أكتوبر 2025
من الأوقات الصعبة على أيِّ مبدع أن ينتهي من كتابة رواية أو ديوان، وتتوقف الروح لبعض الوقت عن الإبداع، فيجد نفسه مضطرا أن ينظر حوله. الإبداع لا يأتي بالطلب، هو الذي يقفز إلى الوجود حين يشاء، بل ربما يناوئ صاحبه إذا فكر أن يأتي به فلا يأتي. لقد شاءت ظروفي أن تنقسم حياتي بين الإبداع، قصة أو رواية، والكتابة الفكرية، مقالات أو كتب. شيزوفرينيا قسمتها بين الليل والنهار، فأعطيت الليل للإبداع أو الروح، والنهار للفكر. هي رغبتي ألا أخلط بينهما، جعلتني أنجح في ذلك. الرواية أو القصة بالنسبة لي تعني الوحدة مع الليل والموسيقى الكلاسيكية توسع الفضاء حولي. كيف استطعت مع الليل أن أنسى ما شغلني بالنهار في مقال أو دراسة أو تعليقا على حدث سياسي في صفحات السوشيال ميديا. هل هي الإرادة، أم العادة، أم هو اللاشعور يحقق لي ما أريد؟ ليس مُهماً أن أعرف السبب. شاءت الظروف في الأشهر الأخيرة أن أنتهي من رواية قيد النشر. جعل الفراغ الروحي الليل كما النهار انشغالا بما حولي. قرأت هنا مقالا للعزيزة الشاعرة والكاتبة سعدية مفرح عن عصر التفاهة بعنوان «جمهور التفاهة». ليست مشكلة التفاهة فيما تقدم لكن في تغطيتها على ما هو جاد وما أكثره. على يقين أن ما هو جاد على طول التاريخ لا يشغل الجميع، فالبشر ليسوا طبقة واحدة تحكمها ثقافة واحدة. لكن الجاد دائما هو ما يعبر الزمن. لا أحب أن أنشغل بالتفاهة فأعطيها قيمة، لكن مقال سعدية مفرح جعلني أنظر حولي لأرى التفاهة مجسدة في أمر كان يستحق كل احتفاء حقيقي في مصر. أعني به مهرجان الجونة السينمائي. والجونة هي منطقة على البحر الأحمر أقام فيها رجل الأعمال المثقف سميح ساويرس، مؤسس جائزة ساويرس في الآداب والفنون والدراسات والسيرة والسيناريو، مدينة صغيرة يعيش فيها سكانها وبها كل ما تحتاجه المدينة من مدارس أو جامعة أو مستشفى، يقيم بها هذا المهرجان السنوي العالمي للسينما. جاءت الأخبار، وهذه هي الدورة الثامنة للمهرجان، في أغلب المواقع الصحفية عن أزياء الفنانات. وجاءت الصور عنها لتنتشر انتشار النار في الهشيم. صور عن كيف أنقذت فنانة زميلتها حين كاد الفستان يسقط عنها فيظهر جسدها، أو أخرى طَيَّر الهواء الفستان المفتوح من الأمام فأظهر ما تحته، أو إطلالة الفنانات بين الفساتين. شغلت هذه الأحداث التافهة مواقع التواصل الاجتماعي ولا تزال. رغم أن في المهرجان أفلاما عالمية ومصرية تصل إلى حوالي سبعين فيلما، موزعة بين أفلام روائية طويلة وأفلام قصيرة وأفلام تسجيلية، ونشاط ثقافي وندوات، واحتفاء رائع بأعمال يوسف شاهين. من ينقل هذه المشاهد صحفيون يحضرون ويرسلون إلى مواقعهم تغطية للأحداث، لكن المواقع لا تنشر إلا هذه الأخبار التافهة التي يتسع لها فضاء السوشيال ميديا. لا أعرف كيف ينتقون هذه الأخبار إلا استجابة لعصر التفاهة. ولا أعرف ما هي صعوبة أن تدخل المواقع الصحفية على صفحة المهرجان المتوفرة على السوشيال ميديا لتستقي منها أخبارا حقيقية. هكذا جعلتني فترة التوقف عن الإبداع أرى ما حولي من تفاهة. لن يلهيني ذلك عما هو جدير بالقراءة والكتابة مثل غزة، وما يحدث فيها، وربما يعطيني الصبر على ما يحدث في غزة، أنه من الصعب أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، مهما نكست إسرائيل في عهودها. إسرائيل تريد الهروب من المؤتمر الأخير في شرم الشيخ، بتفجير غزة بالخلافات الداخلية. لم تنجح في ذلك من قبل ولن تنجح.
576
| 23 أكتوبر 2025
تغريني الأحداث وتطورها بشأن غزة أن أكتب فيها، لكني قلت هذه المرة أمشي وراء القلب لا العقل، رغم أن فيما حدث ما يغري العقل كثيرا، فثقتي كبيرة بما أتى به مؤتمر شرم الشيخ الذي حضرته كوكبة رائعة من الزعماء، بعضهم لعب دورا لن ينساه التاريخ مثل قطر ومصر وتركيا، وطبعا أمريكا وغيرها. كثير يمكن قوله عن العلاقة بين أمريكا وإسرائيل الآن، أو أمريكا والدول العربية والإسلامية، أو خطة إعمار غزة وشكل الحكم فيها، لكني أعود أمشي وراء قلبي، فأتذكر اللوحة الجدارية العظيمة «الجورنيكا» لبابلو بيكاسو، الذي كان لي حظ مشاهدتها يوما في أحد المتاحف الإسبانية، والتي قرأت عنها أنها جاءت بعد أن قامت ألمانيا وإيطاليا في أبريل عام 1937 بقصف هذه المدينة الإسبانية في إقليم الباسك، مساندة للقوميين أمام الجمهوريين. ويأخذني قلبي إلى قصيدة لوركا «مدينة بلا نوم» التي يقول فيها: لا أحد ينام في السماء لا أحد ينام في العالم لا أحد لا أحد لقد قيل عن هذه القصيدة إنها تعكس عند لوركا شعورا كبيرا بالوحدة، في عالم يفتقر إلى الراحة والسلام. لكني أذكر أيضا أنها جاءت بعد تدمير مدينة الجورنيكا. وسواء كانت ذاكرتي صحيحة أم لا، فلقد كانت هذه القصيدة هادية لعنوان روايتي «لا أحد ينام في الإسكندرية»، ولقد ذكرت ذلك في هوامشها. والرواية بدون إطالة، عن الإسكندرية تحت الحرب العالمية الثانية، والغارات الألمانية والإيطالية التي تقريبا دمرت المدينة، وجعلتها تكاد تخلو من سكانها. لقد هاجروا إلى المدن والقرى داخل مصر. يأخذني قلبي بعد أن شاهدت بشكل يومي صور الخراب في غزة، وجثث الشهداء من الرجال والنساء والأطفال، وقوافل العائدين من الجنوب إلى الشمال، أو العائدين من سجون إسرائيل، والقصص الرهيبة للأحياء والموتى، إلى الشعور كيف صارت غزة كما صارت الجورنيكا التي خلدها بيكاسو، وصار أهلها لا يعرفون النوم كما حدث مع أهل الجورنيكا أو الإسكندرية. يأخذني قلبي إلى السؤال، كم لوحة فنية سوف يتم رسمها عن الخراب في هذه الأحداث وعن الضحايا؟. كم من المذكرات سيكتبها الذين أفرجت عنهم إسرائيل من سجونها، ووصلوا إلى حوالي ألفين، في مقابل العشرين شخصا الذين أفرجت عنهم حماس؟. مذكرات حين تكتب ستكون معجما كاملا للاعتقال وسجون العدو. كم قصيدة شعر ستأتي عن أهل غزة وصمودهم رغم قلة نومهم، فتكون إضافات رائعة للشعر الفلسطيني الذي جسده شعراء مثل إبراهيم طوقان مرورا بمحمود درويش حتى موسي حوامدة وغيرهم؟. كم رواية ستأتي ولو حتى بدون عنوان مثل لا أحد ينام في غزة، أو لا أحد ينام في جباليا أو خان يونس أو الناصرة أو غيرها؟، تعبر عن هذا الوجع. روايات تضاف إلى رصيد الرواية الفلسطينية من غسان كنفاني إلى باسم خندقجي الذي أمضي في سجون إسرائيل واحدا وعشرين عاما، وفازت روايته بالبوكر العربية وهو في السجن، مرورا بيحيى يخلف وإبراهيم نصر الله وغيرهما. أعرف أن الفيديوهات تملأ العالم عما حدث في غزة، وأنها كانت وراء استيقاظ الأحرار مناصرة لغزة، مما غير في موقف بعض الحكومات الموالية لإسرائيل، لكن مع الزمن يمكن للعدو أن يجد طريقة لإزالة الفيديوهات من المواقع العالمية، بينما سيعجز عن إزالة اللوحات التي يمكن أن تملأ معارض العالم، ولا مذكرات السجون ولا الأشعار التي ستقال في ذلك والروايات، ناهيك عن الأفلام التي يمكن أن تأتي وتفوق عشرات المرات عدد الأفلام التي جاءت عن هتلر واليهود، وهكذا ستظل فلسطين تملأ فضاء العالم.
411
| 16 أكتوبر 2025
ثلاثة تحولات كبرى حدثت خلال الأسابيع السابقة فيما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، الأول هو قرارات القمة العربية الإسلامية التي انعقدت في الدوحة في سبتمبر الماضي بعد الاعتداء الإسرائيلي على الدوحة، فجاء لقاء ترامب ببعض القادة العرب والمسلمين مثل قادة قطر ومصر والسعودية وتركيا والأردن. الثاني هو مبادرة ترامب بمبادئها العشرين التي جاءت في نهاية سبتمبر كرد فعل لقرارات القمة العربية الإسلامية، ومن ثم لقاءاته بالقادة العرب والمسلمين. الثالث هو موافقة حماس المبدئية على مبادرة ترامب التي جعلته ينشرها على صفحته، وجعلت البيت الأبيض ينشرها على موقع «إكس» بما فيها من مصطلحات مثل إيقاف الإبادة الجماعية ومنع التهجير وغيرهما. لقد أعلنت حماس في بيانها موافقتها على الإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين أحياء وجثامين، مع توفير الظروف الميدانية لعملية التبادل للأسرى، واستعدادها للدخول فوراً من خلال الوسطاء في مفاوضات لمناقشة تفاصيل ذلك. أول مظاهر التحول الثالث هو حضور من يمثل حماس ويمثل إسرائيل يوم الأحد الماضي إلى شرم الشيخ ليتم التفاوض حول خطة العمل. من المهم الإشارة إلى معنى اختيار وفد حماس، من اثنين نجيا من محاولة الاغتيال في الدوحة، وهما خليل الحية وزاهر جبارين، وكذلك اختيار شرم الشيخ للقاء وهي التي كانت يوما تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد 1967. جدل كثير ثار حول مبادرة ترامب، من يراها حقيقية ومن يراها خدعة، وإعلان إسرائيل موافقتها عليها رغم استمرارها في الهجوم الجوي والبري على غزة. لكن من المهم الإشارة إلى أن أبرز ما في مبادرة ترامب في نظر الإسرائيليين هو الإفراج عن الأسرى منهم لدى حماس والشعب الإسرائيلي يريد ذلك. وأبرز ما فيها بالنسبة لحماس ولنا نحن العرب والمسلمين هو إيقاف الحرب أو بمعنى أدق إيقاف الإبادة الجماعية لغزة وسكانها. قضية غزة شديدة التعقيد وسيظل الخلاف في الرأي حولها، لكن هناك حقائق كبرى الأفضل ألا تغيب عن أفكارنا. أهم هذه الحقائق أن إسرائيل تزداد عزلتها في العالم، بما يحدث فيه شرقا وغربا من مظاهرات داعمة لغزة، وخطأ إسرائيل الأكبر في القبض على القادمين في أسطول الصمود وترحيلهم. رغم الترحيل إلى بلادهم لا تزال المظاهرات الداعمة لغزة، وقبل ذلك صمود أهل غزة الذي فاق أي تصور، وسيجبر ذلك إسرائيل على تنفيذ بعض المبادئ مثل إيقاف الحرب، ونسيان فكرة تهجير أهل غزة الرافضين بقوة لذلك. بين ذلك كله يعلن ترامب تقديره لدور قطر الكبير في إنهاء الحرب وتنفيذ خطته، وقطر لا تتأخر فليس هذا جديدا عليها، بل هي الوسيط الأكبر في مفاوضات شرم الشيخ وقبلها ومعها مصر، من أجل وضع آلية ميدانية للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين وبدء انسحاب إسرائيل، وقد انتهت الجولة الأولى من المفاوضات بنجاح أذهل ترامب. ما سيحدث في الأيام القادمة مهما كان الاختلاف فيه فسيتحقق منه الإفراج عن الرهائن وإيقاف الحرب. غير ذلك من موضوعات مثل من ستكون له القيادة في غزة، فلسطينيون أم شخصيات من الخارج، أمر سيكون الحل فيه في منتصف طريق المفاوضات. المهم أن نظل على دراية بالتغير الذي سيحدث في المجتمع الإسرائيلي بعد الإفراج عن الأسرى لدى غزة موتى أو أحياء. والمهم أن العالم لن يتوقف عن دعم غزة. وحتى لو خرجت حماس من القيادة، فما سيحدث في غزة من إعمار بعد إيقاف الحرب، وانتهاء هذه الحالة التي لم يعرفها العالم من الإبادة أو التجويع لأهلها، سيجعلنا جميعا ندخل مرحلة جديدة من السلام، وللحديث عنها وقت آخر.
750
| 09 أكتوبر 2025
حل يوم الثامن والعشرين من سبتمبر فانفجرت السوشيال ميديا بالحديث عن جمال عبد الناصر في ذكرى وفاته. انقسم الجميع بين فريقين. فريق يلعنه باعتباره سبب الهزائم المتكررة، والآخر يمجد فيه بما أنجزه في الصناعة والتعليم والصحة، وكل منهما يلعن الآخر. مثل كل عام ابتعدت عن ذلك. لكني تذكرت شيئا شخصيا صار له الأثر الكبير في حياتي. الأول ليلة إعلانه تنحيه عن الحكم في التاسع من يونيو 1967. كنت في الحادية والعشرين من عمري، وأمينا للشباب في منظمة الشباب الاشتراكي، بشركة الترسانة البحرية التي أعمل بها بمنطقة الورديان بالإسكندرية. ذهبت إلى قسم الميناء حيث أمانة المنظمة لأستمع إلى الخطاب المرتقب. ما إن أعلن تنحيه حتى انفجرنا جميعا صارخين لا. وجرينا إلى الشارع. وجدت حشودا من البشر تركت بيوتها وتمشي في الاتجاه إلى ميدان المنشية تصرخ «شكرا شكرا يا زكريا.. عبد الناصر ميه الميه» وزكريا هو زكريا محيي الدين الذي أوكل له عبد الناصر الرئاسة. لم تكن الحشود موجهة من الاتحاد الاشتراكي كما يقول الكثيرون. لا أنسى حين أعلن التنحي، أن قال رئيس مكتب المنظمة وهو يمثل الاتحاد الاشتراكي، إنها «ستكون مرحلة جديدة وليس مهما أنه تنحى عن الحكم» فصرخنا أن يصمت، ونزلنا مسرعين. هذا يؤكد أن نزول الناس لم يكن منظما. بل آلاف الناس لم تغير حتى ثيابها فنزلت بملابس البيت. المهم. بعد أن صرت في الشارع تذكرت أني مسؤول الدفاع المدني بالشركة التي أعمل بها. وجدت نفسي آخذ طريقي إلى الشركة، وكل الناس تقابلني قادمة من الاتجاه الآخر في طريقهم إلى ميدان المنشية. مسافة طويلة جدا مشيتها في الاتجاه المعاكس. دخلت شركة الترسانة الواسعة فلم أجد أحدا ولم يأت حتى زملائي. لم أفكر في ترك المكان والذهاب إلى المنشية. جاءت ليلة أخرى عام 1970 كنت فيها في مدينة حلوان بالقاهرة في لقاء حول العمل السياسي. كنت ما زلت في منظمة الشباب. مساء الثامن والعشرين من سبتمبر أعلن السادات وفاة عبد الناصر. حين سطع النهار أخذت طريقي إلى محطة قطار رمسيس لأعود إلى الإسكندرية في انتظار أي تعليمات. وجدت الشوارع كلها حافلة بالحشود. وحين وصلت إلى محطة رمسيس، رأيت القطارات كلها قادمة إلى القاهرة مليئة بالناس حتى فوق أسطحها، ليحضروا جنازته. ركبت القطار المتجه إلى الإسكندرية ولم يكن فيه غيري طول الطريق. أنا فقط والمحصلون أو «الكومسارية». هكذا صرت مرة أخرى أمشي عكس الناس جميعا دون أن اقصد موقفا مضادا منها. بعد ذلك أدركت أنه اللاشعور جعلني أفعل ذلك لما قرأته من كتب كانت تُهرَّب من بيروت عن الاعتقالات في عهده، وأيقنت في روحي أن هزيمة يونيو عام 1967 لم تكن فقط قصورا عسكريا، لكنها كانت عقابا على ذنب عاشت عليه البلاد، وهو الاعتقالات بأعداد رهيبة عبر حكمه. ابتعدت عن الناصرية والتقطني الماركسيون، ثم ابتعدت عنهم بعد خمس سنوات لأسباب أخرى، على رأسها عدم رضائي عن قصصي التي أكتبها، فالتأثر بالماركسية والعمل الحزبي يجعل القصة أشبه بالمقال. أدركت أن الإبداع حرية في كسر المألوف، وليس صندوقا محدد الأضلاع تخرج منه الأفكار. في النهاية كثير مما فعله عبد الناصر في الصناعة أو الصحة أو التعليم عظيم، لكن حكم الفرد هو آفة حارتنا التي تركها خلفه، والتي أضاعت حتى كل ما فعله في ذلك. هذه هي القضية الحقيقية، لكني ما زلت كل عام أتذكر الليلة واليوم، اللذين كان اللاشعور فيهما هاديني إلى الطريق المعاكس.
417
| 02 أكتوبر 2025
جدل ونقاش كبير على صفحات ومواقع عن الاعترافات المتتالية بدولة فلسطين. بعضها إيجابي يرد ذلك إلى السابع من أكتوبر، وصمود أهل غزة رغم الإبادة الجماعية التي يقوم بها المحتل الإسرائيلي، فضلا عن جهود بعض الدول العربية وأخر تجلياتها المؤتمر العربي الإسلامي في قطر. يمكن جدا أن توافق من يرون أن الأهم من ذلك هو خطوات تقوم بها الدول العربية في مقاطعة المحتل ومسانديه، أو البدء في تحقيق المبادئ الثلاثة المهمة في المؤتمر العربي الإسلامي، التي حملت أرقام الخامس عشر الذي يدعو جميع الدول، إلى كافة التدابير القانونية والفعالة، لمنع إسرائيل من مواصلة أعمالها ضد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك من فرض العقوبات عليها، وتعليق تزويدها بالأسلحة والذخائر والمواد العسكرية، أو نقلها أو عبورها، ومراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية معها. ثم البند السادس عشر بدعوة الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، إلى التنسيق في جهود رامية لتعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، بالنظر إلى الانتهاكات الواضحة لشروط العضوية. ثم البند الرابع والعشرين بتكليف الدول الأعضاء في نفس المنظمة، الأطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، باتخاذ جميع التدابير الممكنة، لدعم تنفيذ أوامر القبض الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 21 نوفمبر 2024 ضد مرتكبي الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، وغير ذلك في هذه البنود الثلاثة. اعترافات رسمية متتالية من دول مختلفة واعترافات في الطريق، ناهيك عن أن عدد الدول المؤيدة لحل الدولتين في الأمم المتحدة ارتفع إلى حوالي 144 من أصل 193 عضوا في الأمم المتحدة. رغم المتشائمين مما جرى في التاريخ منذ 1948 وكيف خرجت إسرائيل عن كل اتفاق دولي تم في الأمم المتحدة، أو بينها وبين الفلسطينيين، فالعالم الآن يختلف. ما قامت به اسرائيل من مذابح وطرد للفلسطينيين قبل وبعد 1948 كان في عالم بعيد عن الشعوب الأخرى يصلها متأخرا. الآن كل شيء في الهاتف النقال، لذلك لا تتوقف المظاهرات في العالم ضد الإبادة الجماعية، ووصلت إلى الفنانين والمثقفين في أمريكا والعالم فضلا عن الشعوب العادية، فنرى كل يوم عشرات الفنانين والفنانات ضد السياسة الأمريكية والإبادة الإسرائيلية، بل ويدعون إلى عدم التعاون مع شركات الإنتاج السينمائي التي تساند إسرائيل. ويفوز فيلم مثل «هند رجب» للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، بجائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائي، وهو عن الساعات الأخيرة في حياة طفلة فلسطينية، قضتها هي وأسرتها محاصرين في سيارتهم الخاصة، برصاص الجيش الإسرائيلي. وتأتي في الطريق قافلة الصمود عبر البحار، التي سترتكب اسرائيل أكبر جريمة ستشغل العالم حين تتصدي لها، وتمنعها من دخول غزة حين تصل إلى شواطئها. باختصار نحن حقا في عالم كاذب، لكن الأمر خرج بعيدا عن الحكومات التي قد يرى البعض الكثير منها صادقا في موقفه، والقليل منها يتساءل كيف تعترف بريطانيا بدولة فلسطين، وهي صاحبة وعد بلفور عام 1917. والإجابة إن ما يحدث في بريطانيا وراءه ضغوط شعبية. وحتى لوكان ذلك لعبة سياسية من أجل الانتخابات القادمة هناك فلقد حدث، والتراجع عنه أمر صعب. لقد غيرت بريطانيا اسم مقر البعثة الفلسطينية إلى سفارة دولة فلسطين، وارتفع علم فلسطين فوقها. علم فلسطين والكوفية الفلسطينية يملآن الشوارع في العالم. لقد أتى صمود أهل غزة بأكثر مما أتت به الحروب السابقة مع المحتل الغاصب. لن يعود العالم كما كان مهما تجاهلت إسرائيل ما يحدث. ومهما استمرت في إبادة الأجساد، فروح فلسطين تملأ فضاء العالم وتعبر الزمان.
765
| 25 سبتمبر 2025
في حياتنا لا تزال أفكار وشعارات تشيطن الغرب وتضعه كعدو أبدي لنا. عالمنا العربي يتوسط العالم جغرافيا. شمال أفريقيا من الدول العربية يطل على البحر المتوسط الذي تطل عليه أوروبا، وتستطيع أن تضيف إليه ساحل فلسطين ولبنان وسوريا. بقية العالم العربي في الطريق إلى الهند وآسيا. في مصر كان العصر الحديث بداية للتفاعل مع أوروبا وبصفة خاصة بعد احتلال نابليون بونابرت لمصر عم 1798. جاءت الحملة الفرنسية معها بعدد كبير من العلماء، تركوا خلفهم المجمع العلمي، وكتاب وصف مصر وغيره. بدأت مصر نهضتها الكبيرة في العلم والتعليم والبناء مع محمد علي بعد خروج الحملة الفرنسية. حين سافر رفاعة الطهطاوي مع بعثة من الطلاب للدراسة في فرنسا، كان هو إمام البعثة الذي سيصلي بهم ويحميهم من الاندفاع إلى العلاقات المحرمة التي لا تتناسب مع الإسلام. عاد مفكرًا ليقود النهضة في التعليم وغيره. بعدها وأثناء نفس الزمن امتد النفوذ الأوروبي إلى عالمنا العربي في شكل ما أطلقوا عليه "الاستعمار" وهي كلمة خادعة، فالشعوب والحكومات عرفت طريق التقدم والعمران من قبل، وكانت كلمة الاستعمار لتخفي النهب المنظم لمقدرات الشعوب الاقتصادية. صار الاستقلال هو الهدف السياسي والشكل الوحيد للرفض، لكن غير ذلك كان محل جدل بين المفكرين. بعضهم أراد الابتعاد عن أي تأثر فكري، وبعضهم اعتبر التأثر الفكري ضرورة بما يساهم في النهضة وتطوير الشعوب. رغم وضوح القضية، ظل هناك من يعتبر الغرب هو الشيطان الأكبر. ويرفع شعارات مثل القيم الدينية دون إدراك أنه حين فصل الغرب الدين عن الدولة، لم تنته الديانة المسيحية بكل مذاهبها. بل وصلت إلى وجود أحزاب سياسية لها، لكن في إطار الديمقراطية فلا تعود بالناس إلى العصور الوسطي وصراعات الكنيسة مع العلماء والفلاسفة. الغرب نفسه في نهضته استفاد من الإنجاز العربي والإسلامي في الفكر والثقافة، وكتابات لمفكرين مثل ابن رشد أو ابن خلدون. بل في الأدب حين تمت ترجمة ألف ليلة وليلة إلى الإنجليزية غيرت من شكل الرواية والإبداع في الغرب. حدث أن زرت كثيرا من الدول العربية في الخليج ورأيت المباني العصرية والحدائق مما أتى إلينا من الغرب. حين سافرت إلى المغرب العربي احتوتني الأشجار في الشوارع التي مضى عليها مئات السنين لا يقطعها أحد بحجة أنها ميراث فرانكوفوني. كما صارت اللغات الأوروبية في المدارس والبعثات لا تنقطع من دول الخليج إلى أوروبا وأمريكا للتعليم، ولعلها أكثر من أي بعثات أخرى من العالم العربي. رغم ذلك ما زلت أسمع أو أقرأ أن تاريخنا وقيمنا تمنعنا عن قيم الغرب. الخلاف السياسي الذي لا يزال قائما بين الحكومات وليس الشعوب، يظل ذريعة لرفض مظاهر التقدم في العلم والحياة. كيف؟ أين العقل من هذا. العقل لا يرفض الحرية والإخاء والمساواة ومظاهرها السياسية من ديمقراطية أو تعليم للجميع دون تفرقة، مما كان ولا يزال في الغرب، لكن يمنع ما لا يتماهى مع العقل، مثل التطرف والإرهاب الذي ساهمت وما زالت، حكومة أمريكا في صنعه أو بريطانيا أو حتى إسرائيل. العقل يغرينا أن ننظر إلى المظاهرات التي تملأ الغرب من أجل فلسطين وغزة، وكيف يأتي أسطول الصمود العالمي يحمل فنانين وكتّابا من الغرب عبر البحار من أجل غزة. العقل يجب أن يكون دليلنا لنفرق بين إنجازات الشعوب وإنجازات الحكومات في الغرب. متى نستخدم العقل في هذه المسألة ولا تغرينا الشعارات المستهلكة مثل شيطنة الغرب، أو أن قيمه تتعارض مع أدياننا، ومن ثم نرفض كل تجليات الحضارة.
396
| 18 سبتمبر 2025
المتابع لدور قطر القومي يجده متقدما على دور كثير من الدول العربية والأجنبية، سواء في إدخال مساعدات إلى غزة، أو محاولة إيقاف الحرب الدائرة بين إسرائيل وحماس. أو بمعنى أدق، إيقاف الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل لأهل غزة. لقد قدمت قطر وشعبها الكثير للقضية الفلسطينية، وكانت مرفأ لقيادات المقاومة في العلن، وتحمَّلت على مدى كثير من الوقت استفزازات وسوء فهم متواصل، لكنها ظلت على أرضها وقناعاتها، ولقد حدث أن توصلت قطر إلى الهدنة مرتين من قبل، كانت الفرصة فيهما لإدخال المساعدات إلى غزة كبيرة، كما تم فيها الإفراج عن أسرى إسرائيليين لدى حماس. يحدث هذا الاعتداء في وقت ينتظر فيه أهل غزة إيقاف العدوان الذي لا ينتهي عليهم، وينتظر إسرائيليون الإفراج عن الأسري منهم لدى حماس، لكن نتنياهو العنصري الذي يقف على فرضية أسطورية هي إسرائيل من النيل إلى الفرات، يضرب بكل الأحلام الممكنة عرض الحائط. ما الذي حدث بعد هذا الإرهاب من دولة إسرائيل كما وصفه معالي رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري؟ انتفض العالم كله من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، لمساندة قطر والتنديد بالعدوان. بل سارعت دول مناصرة لإسرائيل مثل أمريكا وإنجلترا وفرنسا لإعلان رفض العدوان على قطر. من الصعب أن تجد دولة واحدة صمتت أو أعلنت حيادها. كذلك منظمات أهلية كثيرة عبر العالم. ورغم أن إعلان ترامب رفضه للعدوان يمكن اعتباره نوعا من غسيل الوجه، لكنه حدث. أعلنت إسرائيل أنها استهدفت قيادات حماس. وذكرت أسماء مثل خليل الحيّة أو خالد مشعل أو غيرهم. لكل منهم حقا تاريخ في النضال ضد الصهيونية، لكنهم صاروا يعملون من أجل الهدنة والسلام في الدوحة، إلا أن نتنياهو الذي جعل الكذب رايته لم يتحمل ذلك. إن أسماء الضحايا لهذا العدوان الغادر الذين تعلن قطر عنها يوما بعد يوم، هم الآن في قافلة الشهداء التي لا يدركها نتنياهو، ولا يفهم معنى الاستشهاد لدينا. الشهداء الذين فاقت أعدادهم في غزة السبعين ألفا من الكبار، والعشرين ألفا من الأطفال والنساء، وغيرهم من الصحفيين والطواقم الطبية، غير الجرحى الذين فاقوا المائة ألف. الشهداء هم طريقنا إلى المستقبل، بينما تكشف إسرائيل عن وجهها الحقيقي الذي قد تغيبه السياسة الانتهازية الكاذبة. سنرى خلال الأيام القادمة تطور الموقف القطري الرافض لهذا العمل الإرهابي في أروقة الأمم المتحدة والعالم، وسنرى في إسرائيل انتفاضات ضد نتنياهو الذي ضيَّع فرصة الإفراج عن الأسرى الصهاينة، وستظل قطر وشعبها في موقعهما العالمي والإنساني مع الشعب الفلسطيني، وسنظل نحن والعالم معها..
453
| 11 سبتمبر 2025
مساحة إعلانية
بات الذكاء الاصطناعي اليوم واقعاً لا يمكن تجاهله...
1896
| 30 نوفمبر 2025
عندما أقدم المشرع القطري على خطوة مفصلية بشأن...
1740
| 25 نوفمبر 2025
أصبحت قطر اليوم واحدة من أفضل الوجهات الخليجية...
1590
| 25 نوفمبر 2025
شهدت الجولات العشر الأولى من الدوري أداءً تحكيميًا...
1281
| 25 نوفمبر 2025
في زمن تتسارع فيه المفاهيم وتتباين فيه مصادر...
846
| 25 نوفمبر 2025
ساعات قليلة تفصلنا عن لحظة الانطلاق المنتظرة لبطولة...
690
| 01 ديسمبر 2025
في زمنٍ تتزاحم فيه الأصوات، وتُلقى فيه الكلمات...
639
| 28 نوفمبر 2025
يحكي العالم الموسوعي عبد الوهاب المسيري في أحد...
510
| 30 نوفمبر 2025
كل دولة تمتلك من العادات والقواعد الخاصة بها...
489
| 30 نوفمبر 2025
في كلمتها خلال مؤتمر WISE 2025، قدّمت سموّ...
483
| 27 نوفمبر 2025
للمرة الأولى أقف حائرة أمام مساحتي البيضاء التي...
447
| 26 نوفمبر 2025
استشعار نعمة الأمن والأمان والاستقرار، والإحساس بحرية الحركة...
435
| 27 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية