رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
عُرف الخليفةُ الراشد، عمرُ بن الخطاب، رضي الله عنه، بالعدل والحزم، كما هو مشهور في التاريخ، ومدوَّن في أنصع صفحاته، مما أضحى من المفاخر والذخائر ليس في حضارة الإسلام فحسب، بل في المدنية الإنسانية جمعاء، لقد كان العدل في شخصية أمير المؤمنين عمر، هو القائد له طول مدة خلافته.. في ذلك الحين احتاج الشام إلى والٍ، بعد أن أصبح مقعد الوالي منتظراً اختيار والٍ جديد، فأخذ عمر يبحث ويُجيل فكره، ويقلب بصره في صحابة رسول الله من حوله، ليصطفيَ واحداً منهم والياً على الشام، وهي ليست أي ولاية، إنها الشام، تلك الأرض والحضارة ذات الفضل والأهمية والمنزلة، بين حواضر بلاد المسلمين، من هنا وجب فيمن يتولاها أن يكون على قدرها، دينا وفضلا وعملا، لم يطل تفكير عمر حتى هداه فكره إلى صحابي رآه مناسبا وخليقا بما يوكل إليه، من أمانة وعهد؛ إنه سعيد بن عامر، ذلك الرجل الذي لا يمتاز في مظهره ولا عيشه عن أحد من عامة المسلمين وفقرائهم، الرجل الذي يَعُد نفسه في الدنيا زائراً لا مقيماً، أو قُلْ هو يمر عليها كأنه عابر سبيل، لا يلبث أن يرحل وينتقل، إذ لم يكن ليَلْفتَه شيءٌ من حظوظها ومكتسباتها المطلوبة التي يُغرَى بها الناس. استدعاه عمر فلما جاءه عرض عليه الأمر، وأيُّ أمر، إنه القيام على ولاية اختارها القدر على يد عمر لتكون على (حمص)، فوجئ سعيد بن عامر بما سمع، حتى إنه وجم وارفضَّ وجهه عرقاً، وسكت وكاد سكوته يطول، فلما نطق قال: إني أعتذر يا أمير المؤمنين، لا تَفْتِنّي يا أمير المؤمنين. ولكنَّ عمرَ لم يقبل عذره، وكانت له حجة صادقة، حاجج بها سعيد فغلبه بها، إذ قال: (والله لا أدعك، أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي، ثم تتركونني؟)، بعدئذٍ أبدى سعيد قبوله، ولم يجد مناصاً من الانقياد لأمر الخليفة عمر. استعد سعيد بن عامر للذهاب إلى حمص مع زوجه، وقد زوَّده عمر بن الخطاب، بما يحتاج إليه من مال ليقيم به حالَه هناك، ويصلح به شأنه، فيكون له عوناً على أداء عمله، والنهوض بمهمته، فبلغا حِمْصاً واستقر بهما المقام بها، وكانت حمص وقتئذٍ مدينة مزدهرة رغدة، تزخر بصنوف البضائع، وفنون الزخارف، وطيبات الأرزاق، التي تفتن العقول، وتُغري النفوس، وكانت امرأة سعيد شابة حسناء في ريعان شبابها، فأعجبها واستمالها ما رأت من مباهج الحياة وزينتها، التي لا عهد لها بمثلها، فرغبت إلى زوجها، أن يبتاع ما يحتاجانه، وما يليق بهما من لباس وأثاث ومتاع، مما تمتلئ به أسواق المدينة الجميلة، وهو مما حلله الله وأباحه، ولكن سعيداً، فكّر ملياً في شأنه، فلم يَجُز عليه قولها، وما تطلبه وتشتهيه، فقال لها: ألا أدلك على خير من هذا؟ نحن في بلاد تجارتها رابحة، وسوقها رائجة، فلْنعطِ ما معنا من مال من يتجر لنا فيه. فتهلل وجهها، واستجادت رأي زوجها، ولكن لحرصها على المال والاستمتاع به، قالت: ماذا إن خَسِرت تجارته؟ قال سعيد: سأجعل ضمانها عليه. قالت: نعم، نعم إذن، على بركة الله الكريم.ذلك كان قول سعيد، ولكن فعله كان شيئا آخر، فإنه اكتفى من ماله بأن اشترى ما احتاجت إليه معيشتهما من الضروريات، التي لا بد منها، واجتنب ما كان من الكماليات، ثم انطلق يفرق باقي المال، وما بقي هو الأكثر، وجعل يعطي الفقراء والمساكين وذوي الحاجات. كانت زوج سعيد متربصة بالأيام والشهور، تَعدها منذ ذلك اليوم الذي قال لها فيه سعيد اقتراحه باستثمار المال في التجارة، تنتظر لتجني الأرباح الوفيرة التي تمكنها من شراء ما تبتغيه، فجعلت تسأل سعيداً من فترة إلى فترة عما صارت إليه تجارتهما، وعن مدى ربحهما فيها، وكان سعيد يجيبها بابتسامة لطيفة قائلا: إنها تجارة موفقة، وإن الأرباح تنمو وتزيد. فكان قوله هذا يصبرها ويطمئنها ولو إلى حين.. وافق ذات يوم، أن زارهما في البيت قريب لسعيد، مطّلع على أحواله، عالم بشؤونه، فبدا لزوج سعيد، أن تسأل في حضوره عن حال تجارة زوجها، وما بلغت إليه، فالتفت الضيف متعجباً، وقال: أيُّ تجارة تعنين؟! أَوَلِسعيد قريبي وصاحبي تجارة في السوق؟! إن هذا لقول عجيب، وأمر غريب. وطفق يضحك ضحكا عاليا، حينئذ أخذتها المفاجأة بل الصدمة، وكانت صدمة عنيفة جداً، فأمسكت بكتف زوجها تهزه؛ راجية أن يَصدُقَها القول، فقال لها بهدوء وسكينة، وعلى ثغره ابتسامة خفيفة: لقد تصدقت بجميع المال منذ ذلك اليوم، الذي خرجت فيه وأنا أحمله. فلطمت خديها وبكت، وهي تقول: أما كنت أنا زوجك وحبيبتك أولى به، وقد علمت أني أشتهي شراء أشياءَ تهواها نفسي، وتميل إليها بشدة، وأنا متعلقة بها جداً. فقال سعيد: "لقد كان لي أصحاب سبقوني إلى الله، وما أحب أن أنحرف عن طريقهم، ولو كانت لي الدنيا بما فيها"، لم تتأثر كثيرا بقوله هذا، واستمر ما بها من حزن وأسف، فأردف سعيد قائلا، وقد ازداد عطفه عليها، ورفقه بها: "تعلمين أن في الجنة من الحور العين، والخيرات الحسان، ما لو أطلَّت واحدة منهن على الأرض لأضاءتها جميعاً، ولقهر نورها نور الشمس والقمر معاً، فلأن أضحي بك من أجلهن أحرى وأولى، من أن أضحي بهن من أجلك"، عندئذ هدأت زوجه، وثاب إليها رشدها، وأحست بنفس زوجها، وفهمت فكره، وقدّرت مشاعره، ورأت أن من الخير لها أن تساير زوجها، وتقنع راضية بمنهجه، وتعيش معه حياته التي ارتضاها لنفسه. مرت الشهور والأعوام على سعيد بن عامر وزوجه، وهو والٍ على حمص، على هذه الحال، كان فيها مثال العدل والحق، يتقرب إلى الناس ويتودد إليهم، حتى أحبه الناس هناك وأجلُّوه، ولكن كما قد قيل في القول المشهور: إن إرضاء الناس غاية لا تدرك. ومهما يكنِ الإنسان خيِّراً ممتازاً، يجدْ له من السفهاء والجهلاء، من يقول فيه قالة السوء..قَدِم أمير المؤمنين عمر ذات سنة حِمْصاً، ليطمئن بنفسه على أحوال رعيته، ويقف على رضاهم عن واليهم، الذي أقامه عليهم، فسأل أهل حمص وكانوا جمعاً غفيرا: ما تقولون في سعيد؟ فخرج نفر يشكون من سعيد بن عامر، دَهِش عمر من قولهم هذا، وطلب إليهم تبيان شِكاتهم هذه، فقالوا: نشكو منه أربعاً؛ إنه لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، ولا يجيب أحداً بليل، وله في الشهر يومان لا يخرج فيهما إلينا ولا نراه، وأخرى لا حيلة له فيها، ولكنها تضايقنا وهي أنه تأخذه الغَشْية بين الحين والحين.ازدادت دهشة عمر، وقال محدثا نفسه: "اللهم إني أعرفه من خير عبادك، اللهم لا تخيّب فيه فِراستي"، ثم دعا سعيداً ليرد عن نفسه، ويحاجج عنها، فشرع سعيد يقول: أما قولهم: إني لا أخرج إليهم حتى يتعالى النهار، فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب، إنه ليس لأهلي خادمٌ، فأنا أعجن عجيني، ثم أدعه حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ للضحى، ثم أخرج إليهم. أما قولهم: لا أجيب أحداً بليل، فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب، إني جعلت النهار لهم، والليل لربي. وأما قولهم: إن لي يومين في الشهر، لا أخرج فيهما، فلأنه ليس لي خادمٌ يغسل ثوبي، وليس لي ثياب أبدلها، فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر حتى يجف بعد حين، وفي آخر النهار أخرج إليهم. وأما قولهم: إن الغشية تأخذني بين الحين والحين، فقد شهدت مصرع خبيب بن عَدي الأنصاري بمكة، وقد بضَعَت قريش لحمه، وحملوه على جَذعة، فكلما ذكرت ذلك المشهد الذي رأيته، وأنا يومئذٍ من المشركين، ثم تذكرت تركي نصرة خبيب يومها، أرتجف خوفاً من عذاب الله، ويغشاني الذي يغشاني. عندئذ زال عن عمر ما ألم بنفسه، وبدا على وجهه الارتياح والرضا، وتوجه إلى ربه قائلاً: "الحمد لله الذي لم يخيب فراستي".. وهكذا بقي سعيد بن عامر، رضي الله عنه، محمود السيرة في ولايته، حتى قبضه الله إليه، سنة عشرين للهجرة، والتحق بركب الرسول وصحابته، الذين عاش على نهجهم في حياته، ولم يتخلف عنهم.
11026
| 12 يونيو 2016
كان الصحابة يوماً جلوساً عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذون بأزكى أحاديث الحكمة والبيان، مع خاتم النبيين، وأفصح من نطق بلسان، وبينما هم كذلك، قال لهم رسول الله: "يطلع عليكم من هذا الفجّ رجل من أهل الجنة"، فتطلع الصحابة -رضوان الله عليهم- نحو ذلك الفج واشرأبّت رقابهم، وامتدت أبصارهم، يترقبون بتشوّق وتحفّز، رؤية ذلك الرجل، وحسبوا أنه رجل لا يكون من بينهم، ممن يعرفون ويرَوْن، وإنما حسبوه ظناً ووهماً رجلاً آتياً حقاً من الجنة، قد هبط الساعة من عليا روضات النعيم، عليه أثرٌ من رَوْحها وريحانها، وسندسها وإستبرقها، فمن ثم لا يكون حاله كحالهم، ولا صورته كصورتهم، وجعلوا يتهامسون فقال أحدهم لآخر: من تُرى يكون هذا الرجل ؟ أيكون رجلاً من قومنا؟ فرد الآخر قائلاً: ويحك يا رجل، هذا لا يكون إلا مَلَكاً كريما. فضحك منه صاحبه وقال: لكنّ النبيَ قال يطلع عليكم رجل، لا مَلَك. ثم خشعت الأصوات، فإذا هم برجل من الأنصار من عُرْضِ الناس، ليس فيه شيءٌ يزيد على ما في العامة، طلع عليهم يسيل من لحيته ماء الوضوء الطَهور، فهي تتلألأ صفاءً ونقاءً، كأن قطراتِ الماء التي تخلّلتها حباتُ جُمان غير منضد، انتثرت بين شعر لحيته، وكان وجهه كذلك يبرق قد أضفى عليه الوضوء نضارة ووضاءة، تدل على ما في نفسه من صفاء وبياض، وقد كان من سهولة نفسه ولينها، يحمل نعليه بيده الشمال تواضعاً، ثم إنه أقبل يمشي هَوْنا وسلَّم عليهم، فردوا السلام بأحسن منه، وما نزلت عيونهم عنه، يلاحظونه بإكبار وإجلال، وتأملٍ قد طال، وكيف لا وهو رجل من أهل الجنة الكرام، وقد رأَوْا في وجهه من علامات الرضا والسماحة والسكينة، ما يكاد ينطق بذلك، وكانت تعلو وجهه بشاشة وابتسامة يرسمها ثغره على كل وجهه، وليست ابتسامة جامدةً محدودة في ثغره، تلك التي تُرى مزيفة مصطنعة، لا تسر الناظرين.ولما كان من الغد، قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لصحابته مثل قوله الأول:"يطلع عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة"، فطلع ذلك الرجل بعينه، مثل حاله الأولى، فلما أن كان في اليوم الثالث، قال النبي مثل مقالته تلك، فطلع ذلك الرجل نفسُه، مثل حالته الأولى أيضا، ولا بِدْع في ثباته واستقراره على حالته وصفاته، فما كان لرجل من أهل الجنة أن يتبدلَ ويتلون، كل حين بلون وحالة.كان من بين الصحابة ممن حضر مجلس الرسول ذاك، عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- وقد أهمه أمر ذلك الرجل، وشدّه، فرأى أن يتبعه كي يستقصي أمره، واحتال لذلك حيلة، حدَّث بها الرجل فقال: "إني خاصمت أبي، فأقسمت ألا أدخلَ عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاثة أيام، فعَلْتَ. فقال الرجل الذي من أهل الجنة: نعم يا أخي، على الرحب والسعة، بيتي هو بيتك، تحلُّ به أهلاً، وتنزل به سهلاً. ومنحه ودّه من أول لقاء، وأخذ بيده ومضيا إلى البيت.حين وصولهما إلى عتبة الدار، أعاد الرجل على عبد الله حديث الترحيب والحفاوة، وبالغ بالهشاشة والبشاشة، وما أبطأ أن جاء بالقِرى، وأظهر له استئناساً وانبساطاً، حتى لَيُرى فيه صدق قول الشاعر:بشاشةُ وجه المرء خيرٌ من القِرى فكيف بمن يأتي به وهو ضاحككان في نفس عبد الله بن عمرو بن العاص، ما فيها من الخواطر والظنون، حول ذلك الرجل من أهل الجنة، القائمة في تصوره عن أعماله وعباداته التي يتنسّك بها لله، مما أهلته وجعلته جديراً بأن يكون على ما أخبر عنه رسول الله، فما صدّق أن أتى الليل حتى ينظرَ كيف يفعل الرجل، فرآه في الليلة الأولى مستغرقاً في نومه، لم يقم إلا لصلاة الفجر، فقال عبد الله في نفسه: لعله تَعِبٌ في هذه الليلة، أو غلبه النوم على نفسه، فلم يستيقظ، فترقب عبد الله الليلة القابلة، حتى إذا حلَّ الليل، وجاء بهدوئه وسكونه، وقد أوى كلٌّ إلى مضجعه، قال عبد الله محدثاً نفسه: لقد مضى الثلث الأول من الليل، لا بد أن الرجل سيقوم في ثلثه الثاني، ولكنّ الرجل لم يقم، ولما مضى ثلثا الليل، ولم يبقَ منه إلا القليل، قال عبد الله مستبطئا ومستعجلا: متى يقوم هذا الرجل ليقطّع الليل بالصلاة، ويبيتَ لربه ساجداً وقائما، عجباً له ثم عجباً له، إن لم يقم في الثلث الأخير من الليل، فمتى يقوم إذن؟ أهذا هو ليل الرجلِ من أهل الجنة؟! والله إن شأنه لغريب. وطال انتظار عبد الله، ولم يَره يقوم من الليل شيئاً، وكذلك مضت الليلة الثالثة، وبعدما رأى عبد الله ذلك، حدّث نفسه بقوله: لعله يصبح صائماً. ولكن الرجل أصبح مفطرا، فكاد عبد الله أن يحقرَ عمله.غير أن عبد الله لاحظ شيئاً ذا بالٍ، على صاحب جنة الآخرة، وهو أنه إذا تعارَّ من الليل، واستيقظ فجأة، وتقلّب على فراشه، ذكر الله -عز وجل- وكبره، وبعد ذلك يعود لنومه، ثم يقوم لصلاة الفجر.كما استرعى انتباه عبد الله، أمرٌ على قدرٍ عظيمٍ جداً من الخطر، وعلى جانب كبيرٍ جداً من الأهمية، ألا وهو أن عبد الله لم يسمع صاحب جنة الآخرة يقول إلا خيراً، فقد كان يصون لسانه كلَّ الصيانة، لا تسمع له لغواً ولا صَخَباً ولا مراءً، وهيهات هيهات أن يتلفّظ بالفحش والخنا والرفث، لعفته وشرفه.عند ذلك لم يجد عبد الله بدّاً من مصارحة الرجل ومكاشفته بحقيقة الأمر، فقال له:(يا عبد الله، إنه لم يكن بيني وبين والدي غضبٌ ولا هِجْرة، ولكني سمعت رسول الله يقول عنك ثلاث مرات: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة. فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك لأنظرَ عملك، فأقتدي بك، فلم أرَك عمِلتَ كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟ قال: "ما هو إلا ما رأيت". فلما ولّى عبد الله دهشاً متعجباً دعاه، وقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي على مسلمٍ غشاً، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله تعالى إياه، فقال عبد الله: هي التي بَلَغَتْ بك، وهي التي لا نطيق، فصافحه عبد الله مودّعاً، وهو يرنو إليه بإعظام وإعجابٍ، وانصرف وهو يهز رأسه متعظاً ومعتبرا.فيا أسعدَ من يمشي على الأرضِ من الإنسِومَن طهّرَهُ اللهُ من الريبة والرِّجسأنِلْ قََدْري تشريفاً وهَبْ لي قُربكَ القُدْسيعسى نفسكَ أن تُدمـ ج في أحلامها نفسيفألقى بعضَ ما تلقى من الغِبطة والأُنسِ
19896
| 11 يونيو 2016
ولد عبدالله ذو البجادين، في مكة المكرمة، يوم كانت لا تزال في ظلمات عهد الكفر والشرك، قبل أن يأتيها الفتح المبين، من رب العالمين، على يد رسوله الأمين، ولد لرجل من مُزينة يقال له عبد نَهْم، فرح هذا الوالد بمقدم ولده فرحا كبيرا، وشكر الآلهة وأثنى عليها، التي رزقته من الله ذلك الوليد، فرأى أن يسميه عبد العزى.كان ذلك الوالد فقيراً معدِما، يسعى في كل يوم جاهداً مجتهداً، كي يكفل لنفسه، ولمن يعول الغذاء والكُسوة، وما يحتاجون إليه من ضرورات الحياة، ظل على ذلك مدة من الزمن وابنه عبد العزى، لا يزال طفلا صغيرا لا يعي شيئاً، لكن القدر من السماء شاء أن يموت الوالد، ويَذَر طفله يتيما فقيرا، لم يورّثه وأمَه مالا يكفيهما الحاجة إلى الناس، ويضمن لهما الغنى عنهم.لَطف الله بذلك الطفل الصغير، وقيَّض له عمه الذي كان موسراً كريما، فكفل ابن أخيه كفالة حسنة طيبة، ونشأ في كنفه، يكرمه وينعم عليه، ويرعاه كأنه واحدٌ من أبنائه، لا يمنع عنه شيئاً، ولا يؤثر عليه أحداً، حتى شب عبد العزي، وهو لم يذق شيئاً من مرارة اليتم وقسوته، ولم يحس شيئاً من شدته وعنته.كان عبد العزى يسمع في مكة كثيراً عن دعوة الإسلام، ويسمع أكثر من أحاديث الناس المتشعبة المختلفة ذات الشجون، عن رسول الله محمد، الذي هاجر إلى يثرب واتخذها موطنا يقيم فيه مبادئ وأركان وتعاليم الدين الموحى إليه من الله، وقد علم أن أناسا كثيرين قد اتبعوه والتفوا حوله، يؤيدونه وينصرونه، وعلم أنهم فريقان، مهاجرون وأنصار، وسمع ثم سمع صدقا، وعلم ثم علم حقا، وإذ ذاك قام في نفسه صراع عنيف، ودار في خَلَده جدال طويل، بما يشبه الثورة العارمة، التي لا يستطيع كبح سَوْرتها، ولا كفَّ لأْوائها، كانت تدفعه نحو التفكير الذي لا يعرف له حدّا، وتحمله على التغير الذي لا يرى له بداً، كل ذلك كان يُشعره بالهم والقلق والانزعاج، وهكذا استمر به الحال، بحيث لا يهدأ له بال، ولا يرى لنفسه راحة، لا بالليل ولا بالنهار، مدة من الزمان، حتى قدّر لنفسه أمرا، لا يرجع عنه أبداً.لم يرَ عبد العزي مناصاً من مكاشفة عمه، ومصارحته بما في نفسه، وبما نوى عليه وعزم، من اتباع دين الإسلام، والهجرة إلى الرسول الكريم، بعد أن طوى هذا الأمر في نفسه طويلاً، وكان لا يحمل هما لشيء، إلا هم استجابة عمه الأثير عنده.بينما كان عمه في الدار، رأى عبد العزى أن يطلعه على دخيلة أمره، فقال: يا عمِ إني قد انتظرت إسلامك مليّا، فلا أراك تريد محمداً، فأذن لي في الإسلام والهجرة. فصاح عمه في وجهه قائلاً: ماذا تقول يا عبد العزى؟ ماذا تقول يا بن أخي؟ يا ويحَ نفسِك؟أبعد أن أكرمتك ونعَّمتك، ولم أوثر عليك أحدا من عيالي، ولم أمنعك شيئا من أموالي، تريد أن تتركني وتهجرني، وتفارق دين آبائي، وتلحقَ بمحمد، فتتبع دينه الجديد. وبحق الآلهة جميعا، إن لم تنثنِ وترتدع عما تريد من اتباع محمد، لأجرّدنّك ولأحرمنك من كل شيء أعطيتك إياه، حتى لا أترك في يدك شيئاً إلا نزعته منك، حتى ثوبك الذي عليك.أجابه عبد العزى، بسكينة ورباطة جأش: يا عماه، يا أخا أبي، افعل ما بدا لك، وخذ كل ما تملك يدي، والله لا تجدني إلا صابرا، مستغفرا لك، مشفقاً عليك.كانت أمه شاهدة وموافقة على رأي عمه، لا ترى ما يراه ابنها، ولا تؤيده عليه، فما كان من العم، إلا أن فعل ما قال وما أوعد، تماماً على الذي قال، وترك ابن أخيه سليبا عاريا في البيت، إلا قليلا مما يستر السوءة، وزادت أمه على ذلك، بأن قالت: وأنا سأحبسه في البيت، وأمنع عنه الخروج حتى يعدل عما أراد.بقي عبد العزى على حالته تلك أياما، لم تزده إلا عزيمة وإصرارا، على الهجرة واللحاق برسول الله، وحلف ألا يأكل ويشرب، إن لم يخلوا بينه وبين ما اختار لنفسه، ولما رأت أمه منه ذلك، وأدركت أن ليس ثمة قوة ولا سلطان، يمكن أن يؤثر فيه، ويفلَّ تصميمه الحديد، يئست، من محاولة منعه وصده، وقال لها قلبها الذي هزته مشاعر الرقة والعطف: إن لم تدعيه وشأنه فسيموت لا محالة، ولا يمكن أن يعود عما صمم عليه. فكان منها أن أطلقته وقالت له: سرْ حيث شئت، وخذ هذا البِجاد – كساء غليظ- ثوبا لك. فأخذ منها البجاد فرحا مسروراً، وشكر لها وقبل رأسها ويدها، ثم إنه شق البجاد شطرين، اتّزر بشطر، وارتدى الآخر، فكانا له إزاراً ورداءً، لم يُرَ على أحد من قبله مثلهما، ثم انسل مسرعا من البيت لا يلوي على شيء مما وراءه، ومما تركه.لا يمكن لأحدٍ أن يعلم ما الذي كان في نفس عبدالله حينئذٍ، وما الذي كان يشعر به وجدانه، غير أن نور الإيمان قد شعَّ في قلبه، وأضاء حناياه، وأوقع في صميم ضميره محبة الله ورسوله، والحب سلطان لا يُغلب ولا يكسر، ولا تزعزعه الظروف والأحوال في الدنيا.ولا يمكن لأحدٍ أيضاً، أن يتصور مبلغ ما لقي في طريق هجرته من بأساء وضراء، دونها ما يلقى المسافرون، من وعثاء أسفارهم، فقد لقي ما لقي من عناء، ووجد ما وجد من شقاء، إلا أن الإيمان والمحبة، خففا وطأة ذلك كله، وهوّنا شدته، وأنالاه أيضاً بُغيته، إذ بلغ سالماً المدينة المنورة، مثوى رسول الله. ولا تعجب من فعل الإيمان والمحبة، وما يمنحان من قوة، وما ينيلان من بُغية.حين بلغ المدينة، وهو على سمته ذاك بما عليه من بجادين، قصد المسجد النبوي، واضطجع فيه وقت السحر، يبتغي رؤية رسول الله، ولما رآه بعض الصحابة على هيئته تلك لقبوه بذي البجادين، وأقبلوا يسلّمون عليه ويحيّونه، ويستخبرونه عن شأنه، ثم صلّى رسول الله الصبحَ، وكان عليه الصلاة والسلام، يتصفح الناس إذا انصرف من الصلاة، فنظر إلى ذي البجادين، فأنكره، وقال: من أنت؟ فانتسب له. فقال رسول الله: بل أنت عبدالله ذو البجادين، وابتسم في وجهه، حتى بدت نواجذه، ثم قال: (انزل مني قريبا). فكان عبدالله من أضيافه، وكان يعلمه القرآن، حتى قرأ قرآناً كثيرا.مضت الأيام والشهور الطوال، حتى أدرك عبدالله، يوم تبوك، في السنة التاسعة للهجرة، وخرج في جيش العسرة، لملاقاة الروم، وكان يوم تبوك آخر مشهد لرسول الله في الجهاد، وكأن إلهاما من الله أوحى إلى ذي البجادين، أن يسأل الرسول الكريم، الدعاء له بالشهادة، فيموتَ شهيداً في سبيل الله، فدعا له وقال:(اللهم احفظه من سيوف الكفار)، قال: ما هذا سألت يا رسول الله؟! قال: (إنك إن خرجت غازيا فمُتَّ، مُت شهيداً).ثم إن جيش المسلمين نزل تبوك، واتخذ معسكرا هناك، وأقام أياما، وهو على أتم أُهبةٍ لقتال العدى، إلا أن الله قذف في قلوب الروم الرعب والخوف، فلم يتقدموا لمقاتلة المسلمين، بل تراجعوا وراءهم، وكفى الله المؤمنين القتال، وكتب لهم الظفر من عدوهم بغنيمة باردة.في إحدى الليالي، التي قضاها المسلمون بأرض تبوك، أصابت عبدالله ذا البجادين، حمى شديدة، حُمَّ بها جسده، حتى قضى نحبه، ولقي ربه على أثَرها، راضيا عنه، ثم حدث في تلك الليلة الظلماء وفي معسكر المسلمين ذاك، أن قام عبدالله بن مسعود من الليل، وخرج من خبائه، فرأى شعلة نارٍ تخفق في جوف الليل، في ناحية من المعسكر، فمضى يستطلع شأنها، فإذا به يرى رسول الله، قائما في قبر عبدالله ذي البجادين، يرفع التراب منه، وإذا بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، واقفين على شفى القبر، ورسول الله يقول لهما:(أُدنيا مني أخاكما)، فوسّده في لحده، وإذ فرغ من دفنه، استقبل القبلة رافعا يديه قائلا:(اللهم إني أمسيت راضيا عنه فارضَ عنه)، وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، حينئذٍ ينظر بحزن ولهفة وذهول وهو يقول:(ليتني كنت صاحب الحفر، يا ليتني كنت). وهكذا شاء الله لذي البجادين، أن يفوز بالشهادة، على ذلك النحو، ولا راد لمشيئة الله تعالى.ليس المجدُ لذةَ عيشِ الفتى، إنما المجدُ أن يموتَ الفتى مكرَّما.
9832
| 10 يونيو 2016
كان رجلاً حنيفا يعبد ربَه اللهَ على دين أبي الأنبياء والمسلمين، إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام، وكان قد حبّب الله إليه الحنيفيَّة السمحة، حتى تزيّن قلبه بها، وأُشربها، كما أشربت عروقه الدم، وكرَّه إليه ما سوى دينه الحق، من اتباع باطل الأخلاق والأهواء، واعتقاد زُلفى الأصنام والأوثان، وما كان إلى ذلك من كفران وعصيان. إذن كان مسلما لله خاضعا له مستسلما، كلَّ الخضوع والاستسلام، كان مسلماً والإسلام هو دين الفطرة السوية، ودين كافة الرسالات السماوية، التي أُنزلت على الرسل، فدانوا به لله ربهم، وبلغوه إلى من أرسلوا إليهم من أقوامهم، كما أُمروا، وكما ينبغي أن يكون الإبلاغ، وأداء الأمانة، وفق ما أمر الله وارتضى، إلى أن ختمت الرسالات، وختم المرسلون والنبيون، بسيدهم وإمامهم محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي أُرسل رحمة وهداية ونوراً، للعالمين كلِّهم أجمعين، فكان خيرا عميماً، ومصباحا مضيئاً، عمَّ خيره الأصقاع، وفاض نوره وشاع، على ما طلعت عليه الشمس، مما هو على وجه الأرض، من الأحياء والكائنات، ذات الروح والحس.إنه رجل يُدعى أبو ضمضم، فمن تُرى هو أبو ضمضم؟ وما يكون شخصه في الوجود؟تالله إن له لنبأً عظيما، وإليك قصة نبئه العظيم.أحبُ ما كان يحبه أبو ضمضم في حياته، هو التقرب إلى الله تعالى بالعمل الصالح، لم يكن سواه يشغل باله، ويستغرق همه، لِما أوتي من بصيرة نافذة نيرة، فقه من خلالها كيف يعبد ربه، وكيف يبتغي إليه الوسيلة، التي تبلغه مرضاته ومحبته، تلك البصيرة جعلت له حكمة يؤمن بها، ويعمل على نور هديها.وتلك الحكمة عنده من أعظم المنن، وأسبغ النعم، فقد فهم معنى الإسلام في الدين، المبني على إشاعة السلام. وفَهِم معنى العبادة والعمل الصالح، اللذين لا يقتصران على المظاهر والأشكال، فهم كل أولئك على الوجه الصحيح القويم، الذي به يقبل منه ما يؤدي من عمل، ويثاب عليه من الله الثواب الجزيل.من ذلك أنه يبغي التصدق والعطاء والجود، على الخلق في كل يوم وفي كل حين، يجد في هذا لذة وغبطة، تغمران قلبه ونفسه بالسعادة والسرور والارتياح، فكان حريصا على ذلك ما استطاع إليه سبيلاً، ولكن ماذا يفعل؟ وماذا في يده؟ وواحَرباه، وواحسرتاه.فقد قُدِرَ عليه رزقه، ولم يرزق إلا الكفاف، وحسبه إياه، إذ هو خير ما يرزق العبد، وهو به راضٍ، فإنه لم يؤتَ سعة من مال، ولا فضلة من طعام، يجود بهما على الأنام، كما يحب ويشتهي.هذه هي حاله التي جعلته يفكر في أمره، ويدبر شأنه، ويطيل التفكير والتدبير، ليجمعَ من دنياه ما تشتت وما تفرق، ويحسبَ منه ما له وما عليه، وما يجب له وما ينبغي فيلتزمه، وما يُحرم عليه ويُكره فيجتنبه، فكان أن اتخذ رأيا في نفسه، عزم على إنفاذه، وأصر على إحقاقه، ليتقرر في حياته، ويا له من رأي! لا تقرر مثله النفوس، ولا تعزم على مثله القلوب، سنعلم نبأه بعد حين.كان أبو ضمضم يخرج من بيته مبكرا دَوْما في وقت السحَر، هذا هو دَيْدَنه الذي اعتاد عليه، وألفه، يخرج وهو مشرق الوجه، مبتسم الثغر، لما في نفسه من إيمان يُشيع فيها الرضا والقناعة والاطمئنان، إنه إيمانٌ حلّى نفسه بخلال وخصال قليلة الأمثال، اتسمت بها شخصيته، التي امتازت بها من بين الشخوص.مما أضفاه عليه الإيمان، وصبغته به الحكمة، من خلالِ وخصالِ مكارم الأخلاق، الحِلمُ والصفحُ، اللذان مكّنا صدره أن يسع الناس كما هم الناس، بحماقاتهم وسفاهاتهم ومظالمهم، وكل ما برح لهم من سوء وشر، وقبح وعيب، ويا لله ولطفه وغوثه من كل أولئك. وليس ذلك فقط ما كان من أبي ضمضم من سعة صدر وقبول للناس، ولكن كان أيضا يتصدق عليهم وهو الذي يحب التصدق كما بيّنا سلفا.فرضت الحياة على أبي ضمضم، كما فرضت على غيره، ابتغاء الرزق، والسعي إلى طلبه، والمشي في الأسواق لتحصيله، لا محالة من ذلك ولا بد، مما ألزمه مخالطة الناس، والتعامل معهم، بما يقتضيه التعامل من الشد والجذب، والأخذ والطلب، والمنح والسلب، على اختلاف طباعهم، وتباين صفاتهم، بما لهم من نفوس وأخلاق، ليست كلها بلا ريب على سواء واحد.إلا أن أبا ضمضم كان لا يعامِل كما يعامَل، ولا يكيل بما يكال به، كأنه عالَم وحدَه بين عوالم أخرى لا تمت له بصلة ولا سبب، من ذلك أنه لا يأخذ غيره بما جنت نفسه الجانية في حقه، بحيث لا يظلم من ظلمه، بل يعفو عنه ويصفح، ولا يعيب من عابه، ولا يرى شتيمة من شتمه، بل يترفع ويسمو بنفسه، وإن هذا لشيءٌ عجاب، ومن هو كذلك، محال بالطبع أن يصدر عنه أي سوء وأذى لأحد.اتفق لأبي ضمضم ذات يوم، أن واجه فيمن يواجه من الناس، رجلاً جِلْفا فظاً، شاء القدر أن يجمعهما في طريق واحد، ليكون كلاً منهما ابتلاءً للآخر، يكون اختبارا لهما، يأخذان منه ويتعلمان عبرة ودرساً مما تلقيه الحياة لنفع الناس.تعرض ذلك الرجل لأبي ضمضم، في أثناء معاملته، وأساء له بقوله، وأغلظ عليه في فعله، وكان ما كان منه في حقه، غير أن أبا ضمضم، أبدى الحسنى، وقال قولا حسنا كريما، ثم أعرض مودِّعا بسلام، وعلى وجهه ابتسامة تقرب أن تكون ضحكاً.لم يكن من ذلك الرجل إلا العجبُ والدَّهَش والحَيْرة، حتى إنه سأل من كان شاهداً ما حدث بينهما، وقال: من ذلك الرجل؟ أيعرفه أحدكم؟فقال بعضهم: نعم أنا أعرفه حق المعرفة، فإنه جاري، وبابه إلى بابي، إنه أبو ضمضم.فرد الرجل قائلاً: أبو ضمضم!! ما أغرب اسمه! الذي ليس بأغربَ من خُلقه كذلك، والله إنه لرجل غريب.فقال جار أبي ضمضم: أنا أعرف من أمره ما يذهب عنك الغرابة، ويذهب عنك الدهشة.إنني أسمعه يقول إذا أصبح كل يوم، خارجاً من بيته: اللهم إني قد تصدقت بعِرضي اليوم على الناس.فقال الرجل: والله ما ازددت منه إلا عجبا وغرابة، ذلك المتصدق علينا بعرضه، فما علمنا رجلا من قبله، تصدق على الناس بعرضه، لله هو، ولله أبوه! ما أكرمَهْ وما أجودَه! هذا الذي لا نطيق له جزاءً، فإن جزاءه لا يملكه له إلا خالق العِرْض، في يوم العَرْض.بهذه النفس الطاهرة النقية، وهذه الأخلاق الزاهرة البهية، جاء ذكر أبي ضمضم، على لسان خير البرية، إذ قال بينما كان جالساً بين أصحابه: (أتعجزون أن تكونوا مثل أبي ضمضم؟ قالوا: ومن أبو ضمضم، يا رسول الله، قال: أبو ضمضم رجلٌ فيمن كان قبلكم، كان إذا أصبح قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي اليوم على من ظلمني).
15952
| 09 يونيو 2016
جليبيب هو رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان لا يعرفه الكثير من أهل زمنه، ومن كان يعرفه منهم، لا يعرف أكثر من أنه جليبيب، ذلك الرجل الدميم الخِلقة، الضعيف الحال، الذي ليس له ذكر عريض، ولا طويل على ألسن الناس، بل هو يكاد يكون منسياً مجهولاً عندهم، وكذلك تعامل معه التاريخ، لولا ما كان من إنصاف الله له، ورحمته به، وليس على التاريخ تثريبٌ في ذلك، إذ هو يستمد مواضيعه وأحاديثه من الناس المؤرخين، ويعتمد في إثباتها أو نفيها على ذممهم، هو في أول الأمر وآخره، موكول إليهم إنْ صدقوا أو كذبوا، إن أصابوا أو أخطأوا، إن أحسنوا أو أساءوا. ولكن جليبيباً، كان له منزلة ومكانة عند رسول الله، عليه الصلاة والسلام، إذ كان مذكوراً على لسانه، محبوباً إلى قلبه، فنال بذلك شرفاً ومجداً وسؤدداً، في حياته وبعد مماته، يغبطه عليه كل نابهٍ شريف في قومه، فحسْبه ذلك، مما جعل التاريخ يدون اسمه في صفحاته، ويحفظ ذكره رغماً عن أنفه.كان في وجه جليبيب دَمامة تزوي عنه الأبصار، ولا تجعل له حظوة ولا قبولاً، عند من لا ينظرون في كل زمان ومكان، إلا إلى الظاهر، ويدَعون الباطن، ممن لا يعنيهم سوى حسن المظهر، ولا يبالون بقيمة المخبَر، ولو كان نفيساً غالياً، وما علموا أن الحسنَ والوسامةَ، ما كان في الخُلق والفعل، لا في الوجه والشكل، كما أنهم يحفِلون بما في جيب الرجل من مال، ويهملون ما في نفسه من خِلال، وكل هذا منهم قائم على الجهل والغفلة، اللذين عندهما تغيب موازين الحق والعدل، وتحل محلها مقاييسُ؛ ليس يصح بها معنى القياس، لا يمكن للعقل الصحيح أن يقيس بها، أو يتحاكمَ إليها، ولكن أكثرَ الناس لا يعلمون، فبالمظهر والمال وحسب، يجعلون للرجل شأناً وقيمة، لا لخُلُقِه وفضلِه.فإن كان جليبيب دميمَ الخَلق، فإنه لم يكن ذميم الخُلُق، وهذا وحده ما قام به عند رسول الله، ومنحه حبه وقربه، الذي كان في الدنيا، وسوف يكون له بإذن الله في الآخرة، مصداقاً للحديث الشريف: "إن مِن أحبِّكم إليّ وأقربِكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنَكم أخلاقاً".يُرى من أثر حسن خلُقِه، سماحةُ نفسه، وسهولة طبعه، وسلامة صدره، ولينُ جانبه للناس، يبدو فيه بحق معنى الذلة على المؤمنين، والعزة على الكافرين، في أصدق مثال، وأوضح صورة؛ المعنى الذي وصف الله به عباده في القرآن، وهو سببٌ ودليل على المحبة المتبادلة بين الله تعالى وبينهم، كما قال سبحانه: "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزة على الكافرين"، وهذه الذلة والعزة، يفسرها قول الله عز وجل: "محمدٌ رسول الله، والذين معه أشدّاء على الكفار رحماء بينهم"، نعم أولئك هم المؤمنون حقاً، ذوو الخلق الكريم السوي، الذين هم لإخوانهم رحمةً وعطفاً، ولأعدائهم بأساً وجفاءً.وكان سببُ حسن خلق جليبيب، آتياً من إيمان صحيح صادق، ويقين سليم ثابت، قد رسخ في قلبه، وتمكن من نفسه، تَميد دونه الرواسي الشامخات، وهو لا يتزعزع ولا يتزلزل، مستقرٌ استقرار الأصابع في راحة الكف، وذلك ما عرفه رسول الله منه، فبوّأه من أجلِه، ما سنعلم من منزلة، فيها كل الفضل والتَّجِلة.لقد كان من عطف النبي صلى الله عليه وسلم، على جليبيب، وحبِّه له، أن عرض عليه يوما التزويج، فما كان من جليبيب إلا أن ابتسم بمرارة، وقال: "إذن تجدني كاسداً يا رسول الله"، فرد عليه رسول الله، بكلام وصوت أنزل السكينة والطمأنينة في نفسه، وجرى في صدره جريان الماء العذب الفرات، على ظمأٍ وصَدى، وقال: "غيرَ أنك عند الله لست بكاسد".التقى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذات يوم برجل من الأنصار، فحدثه الرسول قائلاً: "يا فلان، زوجني ابنتك"، فتهللت أسارير الرجل، حتى إنه من شدة فرحته تَلَجْلَج في جوابه، وقال: "نعم.. نعم!! يا رسول الله، كرامة ونُعمى عين"، فقال رسول الله: "إني لست أريدها لنفسي"، فخفت بريق وجه الرجل، وقال: فلمن يا رسول الله؟ قال: "لجليبيب"، فوجئ الرجل بهذا القول، فقال بصوت خفيضٍ والدهشة تعتريه: لجليبيب..؟ وسكت هنيهة، ثم قال: يا رسول الله، حتى أستأمرَ أمها وأشاورَها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "نعم إذن".فانطلق الرجل إلى امرأته، وهو لا يدري كيف يفاتحها بالخبر، ولا كيف يكون وقعُه عليها، ومن ثم ردُّها عليه، لكنه معتقدٌ ـ لِما كان يعلم من طبعها وفكرها ـ أن هذا الخبر لا يرضيها، إن لم يغضبها، فجاءها وذكر لها ما عنده من خبرٍ، وأدّاه إليها، بنفس الطريقة التي تلقّاه بها، فقال لها: إن رسول الله يخطب ابنتك. فذكرت الله وقالت: نعم.. نعم!! قرة عينٍ لي ولك، يا له من عظيم شرفٍ، وسعادةِ جَد. قال زوجها: إنه لا يريدها لنفسه. فقالت وقد زَوَت ما بين حاجبيها: واهاً لقولك.. فلمن يريدها إذن؟ قال: لجليبيب. فصاحت المرأة: لجليبيب، جليبيب!! وصكّت صدرها، وقالت: ماذا تقول يا رجل؟ أما وجد رسول الله إلا جليبيباً؟ أستغفر الله العظيم، لقد منعناها فلاناً وفلاناً ممن تعرف، ثم نأتي في آخر الأمر لنزوج ابنتنا من جليبيب، اسمعوا يا ناس واحكموا في خطْبنا هذا، لا حول ولا قوة إلا بالله.كانت الفتاة في سترها تسمع تحاور والديها، فقال الرجل لزوجته: على رِسْلك يا امرأة، سآتي رسول الله، وأخبره بما ارتأينا، ولا حرج علينا بإذن الله تعالى، بل سيكون لنا مخرجٌ حسن، لما نعلم من حِلم رسول الله، وسعة صدره، وطيب نفسه، وقبوله العذر أياً يكن، بل عفوه وصفحه عن الجاني، ورحمته به، فما ظنكِ بمن سواه، فلما قام الرجل، خرجت عليهما ابنتهما من خدرها، وقالت: بل على رِسلك أنت يا أبي، أتريدان أن تردّا على رسول الله أمره؟!! يا ويحنا، ثم يا ويحنا، إن كان قد رضيه لكم رسول الله فأنكحوه، والخيرة فيما اختاره الله ورسوله.عندما سمع والداها قولها هذا، كأنها به حلّت عن عقليهما عقالاً، كان يمنعهما التفكير والسداد، فقالا: صدقتِ وأيمُ الله. وجعل أبوها يقول: الحمد لله الذي أنطقكِ بالحكمة يا بُنية، والله إنا كنا عن رأيك هذا غافلين، وكذلك الذكرى تنفع المؤمنين.ثم ذهب أبوها إلى رسول الله وقال: إن كنت قد رضيت جليبيباً لنا، فقد رضيناه، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "إني قد رضيته"، فتزوج جليبيب من تلك الفتاة التي رضيته بعلاً لها، حين علمت أن رسول الله هو من خطبها له، فكان جزاؤها من النبي عليه الصلاة والسلام، الذي ما كان ليُضِيعَ جزاءها، ولا لينسى الثواب على المعروف، أن دعا لها بهذا الدعاء العظيم، الذي فيه الخير العميم، والذي تهفو إليه القلوب، وتطمح إليه النفوس، فقال: "اللهم صُبَّ عليها الخير صباً صباً، ولا تجعل عيشها كدّاً كداً)، وقد رأت هي ورأى الناس عليهما أثر استجابة هذا الدعاء النبوي، فما رُئي بعد أن توفي جليبيب عنها، بيتُ ثيّبٍ بالمدينة أنفقَ من بيتها. أما ما كان من شأن جليبيب، من بعد زواجه، فهو كالآتي:خرج رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ليومٍ من أيام الله، لقتال أعداء الإسلام، فبينا رسول الله في ذلك اليوم، قال لأصحابه: "هل تفقدون من أحدٍ؟" قالوا: لا يا رسول الله، إلا من قد علمنا فلانٌ وفلان وفلان. قال: "لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه في القتلى"، فوجدوه قتيلاً إلى جنب سبعة قد قتلهم، فقالوا: يا رسول الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قتلهم ثم قُتل. فقال رسول الله: "أقتل سبعة ثم قتلوه؟ هذا مني وأنا منه"، جعل يقولها مراراً، ثم طفق يحمله واضعاً إياه على ساعديه، ما له سريرٌ غيرُ ساعدي النبي عليه الصلاة والسلام، حتى وضعه في قبره، وبذلك طويت صفحة صحابي عاش مغموراً، ومات مشهوراً، قد ظفر في مماته أيَّ ظفرٍ، بشهادة الله، وبكرامة رسول الله، أشرف خلق الله، الذي حمله، وسار به، وقَبَرَه وهو عليه الصلاة والسلام يقول: "اللهم ارضَ عنه، فإنني راضٍ عنه".أيُّ شرفٍ هذا يا جليبيبُ أنالك إياه الرسول الحبيبُ،طِبتْ ميْتاً، كما طبت حيّا، كذا رَفَعَكَ الخُلقُ الرحيبُ.
125203
| 08 يونيو 2016
إنه أنصاريٌّ أوسيّ من أهل بدر، واحدٌ من أولئك الثلاثمائة وبضعة عشر صحابيا، من الذين شهدوا يوم بدر، يوم الفرقان، ذلك اليوم العظيم في تاريخ الإسلام، الذي وقعت فيه أول معركة حاسمة بين جيش الحق، وجيش الباطل، نصر الله فيها جنده، وأعزهم وأظهرهم على عدوهم، وأظفرهم منهم مغانم كثيرة قد وعدها الله رسوله الكريم، والذين آمنوا معه، وكذلك يتولّى الله المؤمنين الصابرين، إذ استجاب سبحانه لاستغاثتهم وأمدهم بجند من الملائكة ظهير مترادف متتابع، بمددٍ من السماء، ممن بيده النصر، وله كلُّ الأمر.هنالك في ذلك اليوم كُسرت شوكة المشركين، وغلبوا وتجرعوا شر هزيمة، وانقلبوا خاسرين صاغرين، قد قتل كبار رؤوسهم، وسادة زعمائهم، وتبددوا مذعورين، راجعين بالغُرم والندم، جزاء من حادَّ الله ورسوله.إنه كان يومئذٍ بطلاً مجاهدا، وأسدا مقاتلا، أبلى البلاء الحسن، يصاول ويجالد عن الحق والإيمان لتعلو راية الإسلام، وليكتبَ للدين النصر والتمكين، لم يكن إلا ثابت القدم، صادق العزم، فأناله الله من عدوه، وأعمل فيهم سيفه، إنه ذلك الشهيد، إنه الصقر الكريم، ذو الروح الحميد، إنه خُبيب بن عَديّ، رضي الله عنه.تحقق للمسلمين إذن في يوم بدر نصر مبين، وفوز ثمين، ولحقت بالكافرين، هزيمة منكرة، أذلتهم وأقضت مضاجعهم، وجعلت قرارهم لا يستقر، ونفوسهم لا تهدأ، قد ملئت غلاً وحقداً لما أصابهم من المسلمين، فأضمروا الانتقام، وأزمعوا عليه، وأخذوا يفكرون فيه، ويستعدون له، وشرعوا يتربصون بالمسلمين الدوائر، ليطفئوا ما في صدورهم من سخائم.رأى رسول الله، والحالة تلك، أن يبعث عيوناً ليترصدوا الأخبار، ويتحسسوا الأنباء، ويستطلعوا الأحوال، فاختار لهذا رهطا من عشرة رجال، أمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري، وكان من بينهم خبيب. انتَدَبَ الرهط لما أمروا به، ووُكِل إليهم، فساروا متوكلين على الله ربِهم، لا يعوق مسيرهم شيء، حتى بلغوا موضعا بين عُسفان ومكة، وساعتئذٍ عرف بهم وأحس، حيٌّ من عرب هذيل، يقال لهم بنو لحيان، فانطلقوا إليهم بنحو مئة رامٍ من رجالهم، وأخذوا يقتصّون آثارهم ويقتفونها، حتى أحس بهم عاصم وأصحابه، وعندئذٍ رأوْا أن يلجأوا إلى جبل، ويصعدوا قمته، ليحتموا منهم، ولكنّ القومَ أحاطوا بهم، وطوقوا عليهم الحصار، ثم صاحوا بهم: انزلوا، انزلوا، واستسلموا ولكم العهد والميثاق، ألا نقتل ولا نؤذي منكم أحداً.تحيَّر العشرة، ونظر بعضهم إلى بعض، فبادر أميرهم عاصم، فقال: أيها القوم، أمّا أنا فلا أنزل على ذمة كافر. فاستقروا جميعا على رأيه هذا، والحق معه، إذ كيف يكون لمن لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، عهد وذمة وخلق. وإذ ذاك طفق الرماة يرمونهم بالنبل، فقتلوا عاصما، وقتلوا معه آخرين، حتى بقي منهم ثلاثة، أحدهم خبيب بن عدي، والآخر زيد بن الدَثِنة، ورجل ثالث، نظروا بعد رويّة أن ينزلوا على عهدهم وميثاقهم.لما نزلوا واقترب منهم القوم، واستمكنوا منهم، جعلوا يطلقون أوتار قسيّهم، ليوثقوهم بها، فقيدوهم، وإذ فعلوا ذلك، قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر والخيانة، والله لا أصحبكم، إن لي بمن استشهد من إخوتي هؤلاء أسوة حسنة. حاولوا أن يجروه غصْبا، فأبى واستعصى عليهم، ثم لم يروا محيصا غير قتله.ثم إنهم انطلقوا بخبيب وصاحبه إلى مكة، وهم يعلمون أن معهم صيداً عظيما، سيفرح به أهل مكة، فيغنمون من هذا الصيد غُنما كبيرا، فلما بلغوا مكة، وذاع الخبر فيها، بمقدم هذين الأسيرين، كان له وقع جليل، وخاصة عند بني الحارث بن عامر بن نوفل، الذين قُتل أبوهم في يوم بدر، ولم يكن قاتلُه إلا خبيبا نفسه، القادم إليهم أسيرا مكبلا، فما كان منهم إلا أن سارعوا إلى ابتياعه بثمن غالٍ، وساقوه إلى دارهم وهم شامتون.لبث خبيب عندهم أسيرا، لا يلقى ما للأسرى من حق، ومن معاملة حسنة، فقد كان الحقد قد أعمى بني الحارث وأوغر صدورهم، وصدهم عما كان في الأعراف والأخلاق عند العرب، من إكرام الضيف، وإغاثة المنقطع، فكيف بالأسير الرهين المقيد. ويا لله من الأحقاد، وطمسها لأنوار البصائر، وتقسيتها للأكباد.لما علم خبيب بإجماعهم على قتله، وضربهم لذلك موعداً، وتيقن أن لا خلاص له من هذا المصير، أراد أن يتهيأ لملاقاة ربه، فطلب إلى بعض بنات الحارث، مُوسى، ليقضي بها تفثه، إذ كان في حياته نظيفا متطهرا، قد اعتاد على النظافة والطهارة، ويريد عند الممات أن تصعد روحه إلى بارئها وهو نظيف طاهر كذلك، هكذا هو طبعه، وهكذا علّمه دينه. فأعطته ابنة الحارث الموسى. ثم كان أن دخل على خبيب صبي لها حتى أتاه، وهي غافلة عنه، فلما شعرت ودرت، طار لبها، واستطار قلبها، وظنت ظن السوء، فهَرَعت تجري إلى حيث صغيرها، فوجدت خبيبا قد أجلسه على فخذه، وهو يهش به ويناغيه، فهدأ رُوعها، وخفّ ما وقع بها من فزع، وأحس خبيب ذلك منها، فقال لها متعجبا: أتخشين أن أقتله؟! والله ما كنت لأفعلَ ذلك أبداً. فأخذت ولدها وانصرفت وهي ذاهلة لا تدري ماذا تقول.ثم إنها أخذت تفكر في أمر هذا الأسير، وتقول في نفسها: ما أكرم وأنبلَ هذا الرجل، أشهد أن له خلقا ومروءة، وطال تفكيرها في شأنه، حتى قالت لنفسها لا شك أن له دينا حسنا يأمره بالإحسان والخير، والمعروف والعدل، وينهاه عن الشر والسوء، والمنكر والبغي. وما استقر تفكيرها حتى شعرت بتقصيرها تجاه ما يجب لأسيرها من الإكرام والإحسان، فعزمت على أن تذهب إليه، وتقدم له ما كان ينقصه من طعام وشراب، ولكنها ما إن بلغته حتى راعَها ما شاهدت وعاينت.شاهدت في يد خبيب عنقوداً كبيرا من عنب، يأكل منه، وما بمكة حينئذٍ عنب، فضلا عن أن هذا ليس إبان موسمه، ولكن الله على كل شيء قدير، يرزق من يشاء من عباده بغير تقتير. فانصرفت وقد أخذ منها العجب والدَّهَش، قائلة: أنّى له هذا؟! أنى له هذا؟! وذلك قبل أن يتبين لها الإسلام واليقين، وترى الحقائق بنور الإيمان المبين.لقد حان الحَيْن، وقَرُب البَيْن، واقترب الوعد الحق، الذي ينتظره خبيب من ربه، وهو لا يبالي بشيءٍ في سبيله، إنهم قد خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحلِّ، لم يجُل في خاطر خبيب يومئذٍ، ولم يذكر شيئاً من دنياه، إلا شيئاً واحداً هو عنده أغلى وأهم ما في الدنيا جميعا، ذلك الشيء هو الصلاة، أراد أن تكون آخر عهده بالدنيا، واشتاق قبل موته أن يسجد لله مولاه، فقال لهم: دعوني أُصلِ ركعتين. فتركوه وما أراد، فصلى ركعتين تجوَّز فيهما رغما عنه، وهو يود لو أطال، ولكنّ هناك سببا، في نفسه منعه، إذ قال لهم بعد أن فرغ من صلاته: والله لولا أن تحسبوا أن بي جزعا من الموت، لأطلت في صلاتي. ثم دعا عليهم بهذه الدعوة المخيفة المرعبة، التي أزعجت الكافرين: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحداً.اشتد غضبهم إذ ذاك، وأزمعوا أن يصلبوه على جذوع النخل، ويشدوه إليها، وجاءوا من أمامه وفي أيديهم السيوف والرماح والحِراب، وفي وجوههم غلظة وغيظ وجفاء، وقال له بعضهم هازئاً: أتحب أن محمداً مكانك وأنت في أهلك سليم معافى؟ قال: والله ما أحب أني في أهلي، ويصاب محمدٌ رسول الله بشوكة. اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة بما يصنع بنا.أبلغ الوحي رسولَ الله بأمر خبيب، فقال بينما هو جالس مع أصحابه: وعليك السلام يا خبيب، قتلته قريش.ثم قُتل خبيب، ولحق بالرفيق الأعلى، ونفسه راضية مرضية، وكان آخر ما صَدَع به هذين البيتين، اللذين كانا خير ردٍّ منه على قاتليه:ولست أبالي حين أُقتلُ مسلماً على أيِّ جَنبٍ كان في الله مصرعيوذلك في ذات الإله وإنْ يشأ يبارك على أوصالِ شِلْوٍ مُمزّعِ
1632
| 07 يونيو 2016
خرجت الصحابية أم عمارة، نُسيبة بنت كعب الخزرجية المازنية، رضي الله عنها، للجهاد يومَ أحد، في جيش الإسلام، بقيادة رسول الله، عليه الصلاة والسلام، وخلفه جنوده ممن آمن معه من المهاجرين والأنصار، خرجت مع طائفة من النسوة اللاتي كن يخرجن لتأدية ما عليهن من مهمة، متمثلة في مداواة الجرحى وإسعافهم، وسقاية العطشى والقيام بما يلزم المجاهدين.وكذلك كان فعل أم عمارة وجهادها، المسند إليها، لا يعدو حمل سقاء الماء، لا التُّرس والسيف ونحوهما من أسلحة القتال والنزال، ولكن شاءت لها الأقدار أن يكون لها عملٌ وبطولة، من فوق ذلك، فيهما كل السمو والعلو، وكل المجد والفخر، مما لم تكن هي نفسها تتوقعه ولا تنتظره، ولا خطر في خَلَدها قط، ولله المشيئة من قبل ومن بعد "وما تشاءون إلا أن يشاء الله".فما تُرى تلك المشيئة الإلهية ؟اشتبك الجيشان عند جبل أحد، ودارت معمعة المعركة بين المسلمين والكافرين، شديدة حامية، وبفضل الله تعالى رجحت كفة المسلمين، وكانوا ظاهرين على عدوهم، وبدت أمارات النصر تلوح بين قَتام النَّقْع، حتى صارت الغلبة لهم، ولما كان الأمر كذلك، ورأى الرماة من فوق سفح جبل أُحد ظَفَر إخوانهم، وتمكنهم، نسُوا ما أمرهم رسول الله به، من عدم إخلائهم موقعهم، والبقاء في أماكنهم، مهما يكن من أمر، سواء رأوْا المسلمين منتصرين أو منهزمين، ومن ثَم خالفوا ما أُمروا به، وعصَوْا رسول الله، وتركوا الجبل نازلين، طامعين في سلب وجمع الغنائم، ومن جراء هذا حدث ما حدث من تبدل الحال، وانتكاسته على المسلمين، لصالح المشركين، إذ التف بعضهم صاعداً جبل أحد، وجعلوا الكرَّ بالهجوم على المسلمين، ثم كان ما كان من بلاء فظيعِ شنيع.هنالك ابتلي المسلمون ابتلاءً عظيما كبيرا، ما مر عليهم مثله قط، فقد همى عليهم وابل النبال، مجتمعةً مع سيوف ورماح الكفار الذين عادوا لساحة القتال، فسقط العدد من جِلة وأكابر الصحابة، قضَوْا نحبهم شهداء، وغادر عدد كبير غَمْرةَ الهيجاء، ناجين بأرواحهم من الموت الزؤام، لا يلوون على شيءٍ مما وراءهم.غير أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثبت في حَوْمة القتال، رابط الجأش، ثابت الجَنان، وأخذ يدعو المسلمين إلى الثبات وعدم الفرار، قائلاً: إليّ عباد الله، ارجعوا ارجعوا... وكان الحال أن تفرقوا عنه، وما بقي من حوله إلا نفر قليل لا يكادون يتعدون العشرة، جعلوا يحوطونه ويصدون عنه ويدافعون ويذودون، ولكن مع شدة حر الوطيس واستعار لهبه، أصيب رسول الله، فشُج وجهه الشريف المبارك، وسال عليه دمه الزكي الطاهر، كما كسرت رَباعِيته.حين لمحت أم عمارة هذا الموقف العصيب المهول من بعيد، وَمَض بريق عينيها، وثارت حميتها، فألقت من يدها السقاء، وامتشقت سيفاً، واتخذت تُرساً، واندفعت تجري مسرعة مخترقة مَيدان الوغى، غير مبالية بشيء، متجهة نحو رسول الله، لتخوض غمار المعركة، فطفقت تقارع وتصاول وتدافع عن رسول الله، باستماتة وبسالة، لا يعهد مثلهما من بني جنسها، بحيث ما التفت النبي الكريم يميناً ولا شمالا إلا رآها تقاتل من دونه، وتذب عنه، فما كان من رسول الله إلا أن قال لها بعجب وإعجاب: "من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟!" فسار هذا القول مسير الأمثال من بعد. لاحظ جماعة من المشركين ما كان من أم عمارة من صنيع عجيب، فخلصوا يتناجَوْن فيما بينهم، فقال أحدهم: من هذه المرأة التي تصدر عنها هذه الأفاعيل، أهي حقا امرأة من النساء، أم أن عينيّ لا تريان جيداً، إن فعلها يقول غير ذلك.فرد عليه بعضهم: يا للعجب، يُخيّل إليّ من بلائها ومراسها وصنيعها، أنها ليست بأنثى، لكن هيئتها وصورتها ولباسها كل أولئك يقول إنها امرأة لا تختلف عمن مثلها.فقال جاهل آخر: أتكون هي من أولئك الخلق الذي يسميه محمد الملائكة؟ فصاحوا: ربما ربما ... لا ندري لا ندري.بينما كانت أم عمارة في موقفها هذا العظيم المهيب، إذ هجم عليها أحد المشركين، يدعى ابن قمئة، وتمكن من إصابتها بسيفه الذي هوى على عاتقها، فضربها ضربة شديدة، فأصيبت بجرح عميق غائر، كان الدم يَشْخَب منه ولا يرقأ.لما نظر النبي عليه الصلاة والسلام، إلى ما أصيبت به من جرح في عاتقها، نادى على ابنها، عبد الله بن زيد بن عاص، وكان ممن ثبت في تلك الشدة، وذلك الكرب، وقال: أمك أمك، اعصب جرحها. وحينها دعا لهما رسول الله بهذا الدعاء: "اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة"، فوقع على أم عمارة، برداً وسلوانا، قالت في إثره: ما أبالي ما أصابني وما يصيبني بعد هذا.هكذا سمت بنفسها أم عمارة إلى منزلة الأبطال والمجاهدين، واستطاعت أن تسجل لبنات حواء، ذكراً يُحفظ ويُخلَد ويمجّد في تاريخ المعارك والحروب الإسلامية، فضلا عن تلكم البشرى لها بمرافقة النبي الكريم في الفردوس الأعلى، تلك البشرى التي زادتها استمرارا وإصراراً على مواصلة الجهاد في سبيل دين الله، في مشاهدَ وأيامٍ أخرى، وما منعها تقدم سنها، وتهدم جسمها، حتى وافاها أجلها، رضي الله عنها.وكان من شأن أم عمارة بعد يوم أحد، أنه إذا اجتمعت عندها نسوة في المدينة، يقلن لها: حدثينا حدثينا يا أم عمارة، خبرك يوم أحد، إنه كان يوماً مشهوداً مظفراً بالنسبة إليك، لم ينسه أحد من القوم، ولا نظنه يُنسى. فكانت رضي الله عنها تبتسم، وتُنشئ تقول: كان من أمري.. كيت وكيت.وكن يطلبن منها أن ينظرن إلى جرحها الذي في عاتقها، فكانت تريهن إياه، فيهولهن منظره، إذ كان له غور أجوف، قائلات: "من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟!"، وكان الجرح على دوام ألمه ومََضَضِه، مبعثَ سرور وراحة واطمئنان لها، أليس جرحاً أورثها الجنة؟ رضي الله عنها.
17053
| 06 يونيو 2016
من أبرز الأسخياء والأجواد، عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، كان من أعظم تجار الصحابة، فقد دعا له النبي عليه الصلاة والسلام، بالبركة حتى كثر ماله، كان كثير التصدق في سبيل الله، قدمت له قافلةٌ إلى المدينة فارتجّت لها المدينة واهتزت لعِظَم ما تحمل من أمتعة، فجعلها كلها في سبيل الله، وأنفقها على المسلمين، وكانت سبعمائة راحلة. روى الإمام أحمد وهو حديث حسن، أنه باع أرضاً له بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك المال في فقراء بني زُهرة وفي أمهات المؤمنين، وفي ذوي الحاجة من الناس، وبعث إلى عائشة رضي الله عنها، بنصيبها من ذلك فقالت عائشة:أمَا إني سمعت رسول الله يقول:(لن يَحْنُو عليكنَّ بَعْدي إلا الصابرون) سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.وهو الصحابي الوحيد، الذي صلى خلفه النبي عليه الصلاة والسلام،وذلك في غزوة تبوك، حين حَضَرت الصلاة، فاحْتَبس عليهم رسول الله، فأقاموا الصلاة، وقدّموا ابن عوف، فصلى بهم بعض الصلاة، وجاء النبي عليه الصلاة والسلام، فصلى خلفه ما بقي من الصلاة، وأتم الذي فاته.ومن المنفقين والمتصدقين بأموالهم، طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، الذي سمّاه رسول الله يوم أحد طلحة الخير، ويوم غزوة ذات العشيرة طلحة الفياض، ويوم حنين طلحة الجود، كان كثير الصدقة والمعروف، دخل يوماً على امرأته مغموماً فقالت: ما شأنك؟ فقال: المال الذي عندي قد كَثُر وقد كَرَبَني- أهمّه وغمّه كثرة المال هذا والله هو الزهد بعينه- فقالت زوجه: وما عليك، اقْسِمه، فقَسَمه وكان عنده أربعمائة ألف درهم، ما بقي منها درهم!!.ومن مناقبه رضي الله عنه، أنه كان يسمّى بالشهيد الحي، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام:(من أحبَّ أن ينْظُر إلى شهيدٍ يمشي على وجه الأرض، فلينظُر إلى طلحةَ بن عُبيد الله).وما رواه عبد الله بن الزبير قال: سمعت رسول الله يقول يوم أحد:(أوجب طلحة) حين صنع برسول الله ما صنع. ومعنى أوجب: أي استحق الجنة بفدائه للنبي يوم أحد، إذ ثبت يومئذٍ مع رسول الله عليه الصلاة والسلام وجعل من نفسه درعاً يقي سهام المشركين عنه، فوقاه بيده فشُلت، وتلقى يومئذ بضعاً وسبعين ما بين طعنة وضربة ورمية، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه، إذا ذُكِر يوم أُحد قال: ذاك كله يوم طلحة.
2369
| 16 يوليو 2015
روي أنه نَزَل في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه قوله تعالى:(وسيجنبها الأتقى. الذي يؤتي ماله يتزكّى. وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجزى. إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى. ولسوف يرضى)، وسبب نزولها أن أبا قُحافةَ والد أبي بكر، قال له: أراك تعتق رقاباً ضِعافاً فلو أنك أعتقت رجالاً جُلْداً- جمع جَلْد: قويٌ وصَلْب- يمنعوك ويقومون دونك يا بُنيّ، فقال: يا أبتِ إنما أريد ما عند الله، فنزلت الآية.وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله أن نتصدق، ووافق ذلك عندي مالاً فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله:(ما أبقيت لأهلك؟) قلت: مثله، وإنّ أبا بكر أتى بكل ما عنده، فقال عليه الصلاة والسلام:(ما أبقيت لأهلك؟) قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقلت: لا أسابقه إلى شيء أبدا. الله أكبر، كانوا رضي الله عنهم يتنافسون على بذل ما يملكون من الدنيا، ونحن نتنافس على أخذ ما ليس بأيدينا منها، نسأل الله الرحمة والمغفرة.وكان رضي الله عنه، نعم الصاحب للنبي عليه الصلاة والسلام، آزره وبذل له ماله، ولم يدّخر دون الإسلام شيئاً، إعلاءً لكلمة الله، وإعزازاً لدينه القويم، حتى قال عليه الصلاة والسلام:(ما نفعني مالٌ قط كما نفعني مال أبي بكر) فبكى أبو بكر وقال:هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله.وثبت أنه عندما أسلم كان يملك أربعين ألف درهم، إذ كان معروفاً بالتجارة، فأخذ ينفقها في سبيل الله، يعتق منها، ويقوي المسلمين حتى أصبحت خمسة آلاف فقط حين هاجر إلى المدينة، ثم كان يفعل فيها ما كان يفعله بمكة.ورأس المنفقين أموالهم في سبيل الله من هذه الأمة، عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي قدّم ماله لنصرة الإسلام وخدمة المسلمين، قام بتجهيز نصف جيش العسرة، الذي حثَّ النبيُ على تجهيزه لغزوة تبوك، بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها -أي بأكسيتها- وخمسين فرساً، وحمل ألف دينار في كمه ووضعها في حجر رسول الله حتى قال عليه الصلاة والسلام:( ما ضرَّ عثمانَ ما فَعلَ بعد اليوم) مرتين.وعندما قَدِم الرسول صلى الله عليه وسلم، المدينة وليس بها ماءٌ يستعذب غير بئرِ رُومَةَ، وكان صاحبها رجلٌ من بني غِفار، سمّيت باسمه، وكان يبيع ماءها، قال عليه الصلاة والسلام:( من يشتري بئر رُومةَ فيجعل دَلوَه مع دلاء المسلمين بخيرٍ له منها في الجنة)، فبادر عثمان رضي الله عنه بشرائها من صُلب ماله، وجعلها للمسلمين.
7577
| 15 يوليو 2015
لقد قيل إن شرف الصُحبة من الصاحب، فإذا كان الصاحب هو سيد ولد آدم، وخاتم وإمام الأنبياء والمرسلين، فماذا يقال في صَحْبه، إلا أنهم هداةٌ مهديّون، وغُرٌّ طيبون، طهّرهم الله واصطفاهم على العالمين، لصحبة نبيه الصادق الأمين، فكانوا تلاميذَ في المدرسة المحمدية نُجباء، وصاروا نجوماً مطالعها في الأرض لا في السماء، شعت بالنور والهداية على ساكن الغَبراء.قال فيهم المولى تبارك وتعالى:(كنتم خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس)، ففي هذه الآية، تزكيةٌ من الله لهم، وهي باتفاق المفسرين واردةٌ في أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفيها دليل على أن هذه الأمة الإسلامية خير الأمم على الإطلاق، وأن هذه الخيرية مشتركة ما بين أول هذه الأمة وآخرها، إن حافظ خلفها، على ما حافظ عليه سلفها، من أسباب هذه الخيرية وأقاموا عليها، واتصفوا بها، التي بينها تعالى بقوله:(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، وقدّم الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان في الآية، مع كونه أولى بالتقديم والذكر أولاً، فهو بمثابة الرأس من الجسد، ليبين للمسلمين أهمية وخطورة ومنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليزدادوا عملا وتمسكاً بهما، وفي الحديث الشريف:(والذي نفسي بيده، لتأمُرُنّ بالمعروف ولتنْهَوُنّ عن المنكر، أو ليوشِكَنّ الله ُ أن يبعثُ عليكم عذاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)، والله كأنّ هذا الحديث يحكي واقع المسلمين اليوم.ومما جاء في السنة المشرّفة، عن فضل أصحاب رسول الله، قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين:(لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنّ أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً، ما أدرك مدَّ أحدِهِم ولا نصيفهُ)، والمدُّ: مكيالٌ معيّن، ونصيفه: النصف.نأتي على ذكر جانبٍ واحد فقط، من أخلاقهم الكريمة، وصفاتهم الحميدة، التي استفادوها من نبينا الكريم، واتبعوا فيها سنته، واهتدوا بها بهديه، هو جانب الكرم والإنفاق في سبيل الله تعالى، وذلك من سيرة أربعة من أكابر الصحابة، لعلنا نقتفي أثرهم، ونحذو حذوهم، فهم بحق القدوة الصالحة والمثل الأعلى، لمن أراد الله والفردوس الأعلى.سنبتدئ أولاً بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذكر أمثلةٍ على نَداوة كفه، ونفقته لله، ليست على سبيل الحصر.
1477
| 14 يوليو 2015
رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال لبعض وَلَد هَرِم بن سنان: أنشدني بعض مدح زهير أباك، فأنشده، فقال عمر: إنْ كان ليحسن فيكم القول، قال: ونحن والله كنا لنحسنُ له العطاء، فقال عمر: قد ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم.وفي رواية أخرى، أن عمر قال لأحد أبناء زهير: ما فعلت الحُلَلُ التي كساها هرم أباك؟ قال: أبلاها الدهر، قال: لكنّ الحللَ التي كساها أبوك هرماً لم يُبْلها الدهر.إنّ هاتين الروايتين، تدلان أولاً على مكانة الشاعر زهير بن أبي سُلمى، عند عمر بن الخطاب، وإعجابه به، حتى قيل إنه لقّبه (بشاعر الشعراء)، وحين سئل عن سبب ذلك قال رضي الله عنه:(لأنه لا يتبعُ حُوشِي الكلام – وحشِيّه وغريبه- ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف، ولا يمتدح أحداً إلا بما فيه).وتدلان ثانياً، على قيمة الشعر العظيمة، ومنزلة الشعراء الكبيرة، وما كانوا يخلعونه على ممدوحيهم من كلمات المديح والثناء والإطراء، على أخلاقهم النبيلة، وأفعالهم الجليلة، التي استحقوا بها أن يخلد ذكرهم، بما قيل فيهم من أشعار، وكانوا هم كذلك يخلعون على الشعراء ما يكافئونهم به، ويجزلون لهم العطايا السَنيّة، ويغدقون عليهم الأموال، ومثالٌ على ذلك، الشاعر زهير بن أبي سُلمى، وممدوحه هرم بن سنان، الذي مدحه زهير، لمَأثُرته الجليلة في إقامة الصلح بين عبس وذبيان، من بني غَطَفان، بعد أن تفانوا في حرب داحس والغبراء، التي استمرت لأربعة عقود، بتحمُّله هو وابن عمه الحارث بن عوف ديات القتلى من القبيلتين، وأعادوا الوئام إلى ربوعهم.فحَلَف هرم ألا يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبداً أو وليدةً – أَمَة- أو فرساً، فاستحيا زهير منه، فكان إذا رأى هرماً في ملأ قال: عِموا صباحاً غير هرم، وخيركم استثنيت.هذه صورة في غاية السموّ، لجود وسخاء المعطي، وعفة وعزة نفس الآخذ، ومثالٌ مشرّفٌ من كليهما على عرفان الجميل وشكران الصنيع، ومن أحسن ما قاله زهيرٌ فيه:قد جَعل المبتغون الخيرَ في هرمٍ والسائلون إلى أبوابه طُرُقامن يلق يوماً على عِلاّته هرماً يلقَ السماحة فيه والندى خُلُقالو نال حيٌّ من الدنيا بمكرمةٍ أُفق السماءِ لنالت كفّه الأُفقا
10591
| 13 يوليو 2015
نستكمل الحديث عن آفات المال التي تجعل منه فتنة يُختبر بها الإنسان، وقد قدمنا أولى تلك الآفات، وقلنا إننا جعلناها أربع آفات وغوائل، أما الثانية فهي: عدم تأدية ما فرض الله في المال من زكاة، وتضييع الركن الثالث من أركان الإسلام، وفي هذا مصيبة على المسلم من المصائب الجسام، وبلية من البلايا العظام، قال عليه الصلاة والسلام، في الحديث الحسن الصحيح: (مانع الزكاة يوم القيامة في النار)، وفي حديثٍ آخر (يجعل له مالُه صفائحُ يكوى بها)، وجاء في صحيح البخاري: (من آتاه الله مالاً، فلم يؤدِّ زكاته، مُثِّلَ له يوم القيامة شُجاعاً أقْرَع، له زَبيبتان- قرنان- يُطَوَّقُهُ يوم القيامة، ثم يأخُذ بلِهْزِمَتيْهِ، يعني بشدقَيْه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك)، ثم تلا: (ولا يحسبنَّ الذين يبخلون...) الآية، وشجاعٌ: الحية الذكر، وأقرع: شديد السم، وتمام الآية: (ولا يحسَبَنَّ الذين يبخلونَ بما آتاهمُ اللهُ من فضلِه هو خيراً لهم بل هو شرٌ لهم سيطَوَّقون ما بخِلوا به يوم القيامة وللهِ ميراثُ السمواتِ والأرضِ والله بما تعملون خبير).وفي هذا الشأن يقول أمير الشعراء، أحمد شوقي رحمه الله :عجِبتُ لمعْشرٍ صلَّوا وصاموا عواهرَ، خَشْيةً وتُقىً كِذاباوتُلفيهم حِيالَ المالِ صُمَّاً إذا داعي الزكاةِ بهم أهاباالآفة الثالثة: الربا والدَّين في المعاملات المالية، أعاذنا الله منهما، وأبعد عنّا شرهما، الربا الذي هو من أكبر الكبائر، وعلى آكله التهديد والوعيد الشديدان بالحرب من الله، الملعون على لسان رسول الله، آكله وموكله، أي آخذه ومعطيه، وتشمل اللعنة كاتبه وشاهِدَيه، هم فيه سواءٌ؛ لأنهم في الجُرْم شركاء، والله جل وعلا يقول: (وتعاونوا على البِر والتقوى ولا تعاونوا على الإثمِ والعُدوان).أما الدَّين، الذي كان يستعيذ الرسول من غَلَبَته، وفي رواية من ضَلَعِه أي ثِقله، صباحَ مساءَ، أو كان يسميه المَغْرم، من الغُرْم وهو الدَّين، فيقول:(اللهم إني أعوذ بك من المأثمِ والمَغْرَم)، وورد أن رجلاً قال له: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم! قال: (إنّ الرجلَ إذا غَرِمَ حدَّث فكَذَب ووعَد فأخْلَف).إنّ أمر الدَّين لجدّ خطير، فالشهيد ذو المنزلة الرفيعة عند ربه، (يُغفر له كلُ ذنبٍ إلا الدين) كما في الحديث الصحيح، وكان النبي عليه الصلاة والسلام، لا يصلي على من عليه دين، ولم يترك شيئاً يُؤدَّى دينه منه، ففي صحيح البخاري: (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بجنازة ليُصليَ عليها، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا، فصلّى عليه، ثم أُتِيَ بجنازة أخرى، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قَتادةَ: عليَّ دَيْنُه يا رسول الله، فصلّى عليه).فالله يغفر ما كان بينه وبين عبده، أما ما كان بين العباد بعضهم بعضاً، لا يسقط إلا بالأداء أو المسامحة، ويستفاد من كل ما سبق، كما قال العلماء، أن الدَّين لا يؤخذ إلا للضرورة المُلِحة والحاجة الماسّة، مع عزم نية الوفاء، وجاء في صحيح البخاري، قوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله).
942
| 11 يوليو 2015
مساحة إعلانية
كثير من المراكز التدريبية اليوم وجدت سلعة سهلة...
5121
| 06 أكتوبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه،...
5085
| 29 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات...
4617
| 29 سبتمبر 2025
تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في...
1857
| 05 أكتوبر 2025
في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ...
1704
| 02 أكتوبر 2025
من أخطر ما يُبتلى به التفكير البشري أن...
1059
| 29 سبتمبر 2025
في الوقت الذي كان العالم يترقب رد حركة...
936
| 05 أكتوبر 2025
منذ أكثر من مائة عام ارتُكبت واحدة من...
891
| 30 سبتمبر 2025
لسنا متشائمين ولا سلبيين في أفكارنا وتوقعاتنا ولكن...
858
| 03 أكتوبر 2025
في لحظة صفاء مع النفس، يطلّ النسيان عليَّ...
852
| 30 سبتمبر 2025
كم مرة قلت «نعم» في العمل بينما في...
756
| 02 أكتوبر 2025
في فجرٍ قطريّ عليل، كان البحر يلمع بألوان...
642
| 30 سبتمبر 2025
مساحة إعلانية