رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
التعلّق شعورٌ يولد مع الإنسان منذ أول لحظةٍ يبصر فيها النور، كأنه نداء خفيّ في أعماق القلب يبحث عن مأمن وسند. هو حاجة فطرية مغروسة فينا، تدفعنا نحو الآخرين طلبًا للدفء والطمأنينة، لكنه في الوقت نفسه اختبارٌ قاسٍ لمدى وعينا بطبيعة الحياة وزوالها. نتعلّق لأننا نحب، ونحب لأننا نخاف الوحدة، ونخشى الفراغ، فنربط قلوبنا بما يملأ هذا النقص فينا. غير أن الأمان الذي نبحث عنه في الوجوه والأيدي والكلمات، سرعان ما يتلاشى حين ندرك أن كل شيءٍ حولنا يتغيّر، وأن الثابت الوحيد في هذا الوجود هو الله. فكل من نتعلّق بهم قد يرحلون، وكل ما نملكه قد يزول، أما من تعلّق قلبه بمن لا يتغير ولا يغيب، فقد وجد الأمان الذي لا يخذله الزمن ولا الفقد. كل ما في الدنيا مؤقت؛ الوجوه، والأصوات، والمشاعر، حتى الأحضان التي نلوذ بها يومًا، تتركنا يومًا آخر. وما أشدّ أن يعلّق القلب سعادته بما لا يدوم! فالتعلّق يجعلنا نعيش على حافة الخوف، نرتجف من فكرة الفقد قبل أن يأتي الفقد. ولذا كان أعظم الدروس في الحياة أن نتعلم كيف نُحب دون أن نُستَعبَد، وكيف نَمنح دون أن نُنسى أنفسنا، وكيف نعلّق القلب بالله وحده فلا نخسر إذا خسرنا أحدًا. ما من صورة أصدق للتعلّق من قلب أمٍّ تحمل أبناءها في دعائها قبل أن تضمّهم إلى صدرها. تبدأ حياتها من أجلهم، وتدور أيامها في فلكهم، تفرح لضحكاتهم الصغيرة وتقلق لأنفاسهم حين تتعب. وحين يكبرون، تتّسع المسافة بينهم وبينها دون قصد، فينشغلون بأعمالهم وبيوتهم وأبنائهم، وتبقى هي في زاويةٍ من الذاكرة تُقلّب صورهم القديمة وتمسح عنها غبار السنين. ليس وجعها من قسوةٍ أو جفاء، بل من حبٍّ عظيمٍ لم تعرف له حدودًا، ومن قلبٍ لم يتعلّم أن يُفطم بعد. تتألّم لأنها أحبّت أكثر مما يحتمل القلب، وتعلّقت بأيدٍ كان لا بد أن ترحل عنها يومًا، فتظلّ تودّعهم بصمتٍ كلّ صباح، وتستقبل غيابهم بالدعاء والحنين. وهكذا هو التعلّق، يعطي ثم يسلب، يمنح الفرح ثم يجرّ الدموع. فالأبناء الذين ملأوا البيت ضجيجًا يغادرونه، والضحكات التي ملأت الأمس تذوب في الصمت. ومع كل فراقٍ صغير، تتعلم الأم أن أبناءها ليسوا لها، بل لله، وأن الحب إن لم يكن لله، أصبح عبئًا على صاحبه. قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، والفتنة هنا امتحان، ليرى الله أين يقف القلب حين يُنتزع منه أحبّته. وكما تتعلق الأم بأبنائها، يتعلّق الأبناء بالوالدين. فهم جدار الأمان الذي نستند إليه، والملجأ الذي نحتمي به من تقلبات الدنيا. وجودهم يخفف الخوف ويُشعرنا بأننا مهما تعثرنا فهناك من يلتقطنا. لكنّ هذا التعلّق، مهما كان جميلًا، يحمل في داخله وجع الفقد. يمضي العمر، ويأتي يوم تغيب فيه تلك الأصوات التي كانت تدعو لنا في الغيب، وتبرد أكفّ كانت تمسح حزننا. عندها يدرك الأبناء أن التعلّق بالبشر مهما كان نقيًّا، فإنه متعب، لأنهم راحلون، وأن التعلّق بالباقي وحده هو من يملأ هذا الفراغ. قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، وكأنها تذكرة لنا أن لا نربط حياتنا بمن يفنى. ولا يخلو الحب بين الزوجين من التعلّق أيضًا. فهو حبٌّ جميل، مودة ورحمة، لكنه حين يتحوّل إلى اعتمادٍ مطلق، يصير سجنًا للعاطفة. حين تُعلّق المرأة نفسها بزوجها حتى تنسى ذاتها، تتعب، لأن التغيّر سنة الحياة، ولأن القلوب بيد الله لا بيد أحدٍ من خلقه. كم من امرأةٍ ذبلت لأن من علّقت به قلبها تغيّر أو ابتعد، وكم من أخرى أزهرت لأنها أحبّت لله، فصار حبّها عبادة لا عبودية. إن التعلّق الزائد يجعلنا نعيش بقلوبٍ مهددة دائمًا، تنتظر كلمة أو تصرفًا كي تهنأ أو تنهار. الحقيقة المؤلمة أن التعلّق هو شكلٌ من أشكال العذاب اللطيف، لأنه يُشبه الحب في البداية، ثم يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى وجعٍ خفيّ. نرتبط بالأشخاص ظنًّا أن وجودهم يمنحنا الحياة، فنكتشف أنهم جزء منها لا مصدرها. لا أحد يملأ القلب كما يفعل الإيمان، ولا أحد يمنح الطمأنينة كما يفعل القرب من الله. قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، وهذه الطمأنينة لا تُشترى، ولا تُكتسب إلا حين يتحرر القلب من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق. ختاما.. التعلّق بالله هو الحرية الكبرى. هو أن تمسك الأشياء كلها بيدك لا بقلبك، فإذا أفلتت يدك، بقي قلبك مطمئنًا. هو أن تحب الناس وتعيش معهم وتفرح بهم، لكنك في عمقك تعرف أنك لا تحتاج سواهم، لأن الذي منحهم لك، إن شاء أبدلك خيرًا، وإن شاء أبقاهم حولك نعمةً وشكرًا.
213
| 17 نوفمبر 2025
منذ أن خلق الله الكون وأبدع نظامه، جعل لكل مخلوق وسيلة يعيش بها، ولكل كائن قدرة يتفاعل بها مع بيئته، فلا يفنى ولا يندثر، بل يستمر ويزدهر بقدر ما يُحسن التكيّف مع ما حوله. فالتكيّف ليس مجرد سلوك عابر، بل هو سُنّة من سنن الله في خلقه، وآية من آيات رحمته الواسعة التي وسعت كل شيء. ولو تأمل الإنسان في نفسه وفيما حوله، لرأى أن التكيّف هو سر الحياة وبقاؤها، وهو الدليل على أن الخالق جلّ شأنه جعل لكل ظرف بابًا للنجاة، ولكل ابتلاء طريقًا للتجاوز، ولكل ضعفٍ قوةً خفية تنبع من داخل النفس. التكيّف في معناه الواسع هو قدرة الكائن الحي على تعديل سلوكه أو وظائفه أو شكله أو تفكيره بما يتلاءم مع البيئة أو الظروف التي يعيش فيها، ليتمكن من البقاء والنمو. وهو استجابة طبيعية للحياة وتحدياتها، فالإنسان والحيوان والنبات جميعهم يتفاعلون مع بيئاتهم بشكلٍ يضمن استمرارهم. فالتكيّف ليس ضعفًا أو تنازلاً، بل هو ذكاء وفطنة، إذ يستطيع من يمتلك هذه القدرة أن يحوّل الأزمات إلى فرص، والعوائق إلى دوافع للنجاح. من دون التكيّف، لا يمكن للحياة أن تستمر على وجه الأرض. فهو الوسيلة التي مكّنت المخلوقات من البقاء رغم التغيّرات المناخية والبيئية والاجتماعية التي لا تتوقف. ولولا هذه القدرة الإلهية لما استطاعت الكائنات أن تواجه تقلبات الزمان والمكان. فالتكيّف يحمي من الفناء، ويساعد على تحقيق التوازن بين الإنسان وبيئته، وبين رغباته وواقعه. إنه ما يجعل الفرد قادرًا على التأقلم مع صعوبات العمل وضغوط الحياة الأسرية، ويمنحه القوة على التحمّل والمثابرة. ومن جهة أخرى، يسهم التكيّف في نمو المجتمعات، إذ يجعل أفرادها أكثر مرونة في مواجهة الأزمات الاقتصادية أو السياسية أو الصحية، كما حدث خلال جائحة كورونا حين غيَّر الناس أساليب حياتهم وتعلمهم وعملهم. إن التكيّف نعمة ربانية شاملة لكل الكائنات، فقد خلق الله الإنسان بعقل يفكر، وقلب يشعر، وجسد يتأقلم، ليتمكّن من مواجهة مختلف البيئات. فالإنسان يعيش في الصحراء والجبال والسواحل والغابات، ويتحمل حرارة الصيف وبرد الشتاء، ويبتكر الوسائل التي تحفظ حياته. وفي ذلك تجلٍّ لقوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ» (الجاثية: 13). أما الحيوان، فالتكيّف فيه غريزة تحفظ بقاءه. فمنها من غيّر شكل جسده ليقاوم الحرارة أو البرد، ومنها من طوّر طرقًا للصيد أو الهروب من الأعداء. والنبات كذلك له نصيب من هذه الرحمة، فهو يبدّل اتجاه أوراقه نحو الشمس، ويمد جذوره بحثًا عن الماء، ويتحوّل شكله ليقاوم الجفاف أو الرطوبة. إنها شبكة عظيمة من التوازن والانسجام لا يقدر عليها إلا الخالق سبحانه. ومن أبهى صور التكيّف التي نشهدها في واقعنا، تكيف ذوي الإعاقة مع حياتهم. فرغم ما يواجهونه من تحديات جسدية أو حسية، إلا أنهم يتجاوزونها بإصرار وإيمان عميق بقدرتهم على العطاء. ومن أبرز الأمثلة الملهمة غانم المفتاح، الذي وُلد بإعاقة نادرة جعلته يعيش من دون الجزء السفلي من جسده، لكنه تحوّل إلى نموذج عالمي للأمل والإيجابية. لم يستسلم لظروفه، بل واصل تعليمه، وشارك في فعاليات دولية كبرى، وأصبح سفيرًا للإنسانية، مذكّرًا الجميع بأن الإعاقة ليست في الجسد بل في الإرادة. قصة غانم المفتاح هي ترجمة حيّة لقوله تعالى: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» (الشرح: 6). فهو دليل على أن التكيّف الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل ينبع من الداخل، من الإيمان والصبر والعزيمة. ومن الحيوانات نجد الجمل، الذي لقّب بـ»سفينة الصحراء»، مثال بديع على التكيّف في عالم الحيوان. فقد هيّأه الله بخصائص فريدة تمكّنه من العيش في أصعب البيئات وأكثرها قسوة. حتى الأزهار، رغم رقتها وجمالها، تمتلك قدرة مدهشة على التكيّف. فالتكيّف في النباتات ليس مجرد بقاء، بل جمالٌ في الطاعة وانسجامٌ مع النظام الإلهي الدقيق. كل هذا يصل بنا إلى نتيجة واحدة، أن الحياة ليست طريقًا مستقيمًا، بل مليئة بالتحديات والمفاجآت، ومن ينجح في اجتيازها هو من يُتقن فنّ التكيّف. في العمل، قد يواجه الإنسان زملاء مختلفين في الطباع أو ظروفًا مهنية قاسية، فيحتاج إلى الصبر والحكمة ليحافظ على توازنه وأدائه. وفي الأسرة، يتكيف الأبوان مع مسؤوليات التربية، ويتعلم الأبناء كيف يتعاملون مع الخلافات ويزرعون الاحترام والحب رغم الضغوط. وفي الحياة العامة، يمر الإنسان بمواقف مؤلمة أو خسارات، لكن رحمة الله تمدّه بقدرة على النهوض من جديد، ليواصل الطريق بإيمانٍ وثقة. التكيّف هنا ليس قبولًا بالعجز، بل قوة هادئة تتيح للإنسان أن يرى الجانب المضيء من المواقف، وأن يتعلّم من كل تجربة درسًا يقرّبه من النضج والنجاح. إذا.. التكيّف والتعايش ضرورة لا رفاهية. فالتحديات مثل التغير المناخي، والحروب، والضغوط الاقتصادية، تتطلب أن نتعلم كيف نحيا بمرونة، وأن نُدرك أن التنوّع والاختلاف ليسا تهديدًا، بل فرصة للتكامل والتعايش السلمي. حين يتكيّف الإنسان مع بيئته ويحترم قوانينها، ويحافظ على موارده، ويقبل الآخر رغم اختلافه، فهو يسهم في حماية الحياة على الأرض. ومن لا يتكيف مع الواقع، يتجاوزه الواقع نفسه. قال تعالى: «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» (الحجرات: 13)، فالتعارف والتعايش نوع من التكيّف الاجتماعي الذي يحفظ الإنسانية من التنازع والدمار. ختاماً.. التكيّف ليس مجرد مهارة نتعلمها، بل نعمة ورحمة من رب العالمين أودعها في كل كائن، ليحيا بمرونة واتزان. وهو سرّ الاستمرار في وجه الشدائد، وجوهر الحكمة في التعامل مع الحياة. فمن يتأمل في الكون يرى أن كل شيء فيه يتكيف: البحر والمد والجزر، النبات والضوء، الحيوان والغذاء، والإنسان والمصير. إنها دعوة لأن نحمد الله على هذه النعمة، وأن نتعلّم كيف نجعل من التكيّف وسيلة للنمو لا للاستسلام، وللإبداع لا للجمود، وأن ندرك أن كل ما يأتينا من تبدّلٍ في الحياة إنما هو امتحانٌ لنعمة عظيمة، هي رحمة التكيّف التي تضمن بقاءنا واستمرارنا في رحمة الله الواسعة.
501
| 03 نوفمبر 2025
في زمنٍ تسوده الضوضاء والصراعات، حيث يبدو العالم كسفينة تتقاذفها أمواج المادية والأنانية، تبرق كلمة «الرحمة» كمنارةٍ تضيء طريق الإنسانية الضائع. إنها ذلك النبع الصافي الذي لا ينضب، الذي يروي ظمأ القلوب القاحلة، ويذكّرنا بأننا، في عمقنا، مخلوقاتٌ مفطورة على الحب والعطاء. الرحمة ليست مجرد شعورٍ عابر، بل هي فلسفة حياة، وقوة تغييرية، ورباطٌ إلهي يجمع بين الإنسان وأخيه الإنسان، بل وبين الإنسان وكل كائن حي. هي لغة الروح التي لا تحتاج إلى ترجمة، ومفتاح القلب الذي يفتح أبواب الخير والسكينة. الرحمة في جوهرها شعورٌ نبيل يدفعنا إلى مشاركة الآخرين في آلامهم وأحزانهم، ويحثنا على مد يد العون لتخفيفها. إنها ليست شفقةً متعالية، بل مشاركة وجدانية تضعنا مكان الآخر لنشعر بما يشعر، ثم نحول هذا الإحساس إلى فعلٍ إيجابي. الرحمة هي الرقة التي تملأ القلب، واللين الذي يطبع السلوك، والسكينة التي تفيض على من حولنا. ولها لغاتٌ متعددة، فربما تكون في كلمةٍ طيبة، أو ابتسامةٍ صادقة، أو مساعدةٍ عابرة، أو في زيارة مريضٍ يشعر بالوحدة. وقد تكون في صدقةٍ تُخرجها خفية، أو نصيحةٍ تُقدّمها بإخلاص، أو صفحٍ عن إساءةٍ دون انتظار اعتذار. قال الله تعالى: «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (آل عمران: 134)، وفي هذا المعنى قمة الرحمة التي تتجاوز الغضب والانتقام لتنتصر للإنسانية على القسوة. الرحمة ليست ضعفاً، بل هي قمة القوة، لأنها تحتاج إلى قلبٍ كبير يستطيع أن يسمو فوق الأذى، وأن يمنح العطاء دون انتظار المقابل. وهي لا تنفصل عن العدل، فالرحمة الحقيقية هي التي تحفظ الحقوق دون أن تُهين الكرامة، وتعطي بلا تبذير، وتعفو دون استسلام. لقد جعل الإسلام الرحمة أساساً لبناء الكون وسمةً لرسالة السماء إلى الأرض. قال تعالى: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» (الأعراف: 156)، وقال النبي صلي الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» (رواه الترمذي). بل إن أعظم رسالةٍ في التاريخ وُصفت بأنها رحمة للعالمين: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: 107). فكانت الرحمة هي جوهر الرسالة المحمدية، لا تفرّق بين غنيٍ وفقير، ولا بين قويٍ وضعيف، بل تشمل الإنسان والحيوان وسائر المخلوقات. وقد تجلت الرحمة في حياة النبي صل الله عليه وسلم بأروع صورها؛ فقد كان يمسح على رأس اليتيم، ويقف احتراماً لجنازة يهودي قائلاً: «أليست نفساً؟»، وكان يوصي بالرفق حتى في الذبح بقوله: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة» (رواه مسلم). ولم تكن الرحمة في الإسلام مقصورة على البشر، بل امتدت لتشمل الحيوان، فكانت سبباً في الجنة أو النار. فقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت، بينما غفر الله لرجلٍ سقى كلباً يلهث من العطش، كما في الحديث الشريف الصحيح. وفي هذا الموقف تتجلى إنسانية الإسلام بأبهى صورها، إذ يعلّمنا أن الرحمة لا تُقاس بالعقل وحده، بل بالقلب الحي الذي يشعر بآلام المخلوقات كلها. ولعل أجمل ما في مشاعر الرحمة أنها لا تحتاج إلى دينٍ أو لغةٍ أو جنسيةٍ لتُفهم. فالطبيب الذي يعالج مريضاً غريباً، والمتطوع الذي يسقي حيواناً عطشاناً، والأم التي تحتضن طفلها بحنان، كلها وجوه مختلفة لنفس النور الإلهي الذي أودعه الله في الفطرة البشرية. فالرحمة هي ما يجعلنا بشراً بحق، وهي التي تحمي العالم من التحول إلى غابةٍ قاسية بلا وجدان. لكن واقعنا الحديث يشهد اضطراباً في مشاعر الرحمة. ففي عصر السرعة والتكنولوجيا، بدأت القلوب تفقد دفأها، وأصابها ما يمكن تسميته بـ»التبلد الوجداني». فالمشاهد اليومية للعنف والدمار على شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي جعلت كثيرين يتعاملون مع المآسي وكأنها مجرد أخبارٍ عابرة. ومع انتشار الفردانية وثقافة «أنا أولاً»، انكمش الشعور بالآخر، وغابت المسؤولية الاجتماعية التي كانت تميز المجتمعات قديماً. لقد أصبحت الرحمة أحياناً تُمارس افتراضياً: إعجابٌ على منشورٍ عن محتاج، أو تعليقٌ متعاطف، دون أن يتحول ذلك إلى فعلٍ حقيقي. كما تمّ تسييس مشاعر الرحمة أحياناً، فصار بعض الناس يتعاطفون مع طرفٍ ويغضون الطرف عن مأساة طرفٍ آخر، بحسب الانتماء أو المصلحة. وهنا تكمن خطورة الواقع المعاصر، حين تفقد الرحمة نقاءها وتصبح انتقائية. وعلى مستوى الأمم، تتحول الرحمة من فضيلةٍ شخصية إلى ضرورةٍ حضارية. فالأمم التي تتراحم في داخلها وتتعاطف مع غيرها تكون أكثر قدرةً على بناء السلم العالمي، ونبذ الكراهية والحروب. الرحمة بين الأمم تعني مساندة المظلوم، وإغاثة اللاجئ، ومعالجة الجائع والمريض دون تمييز. هي الأساس الأخلاقي الذي تنشأ عليه منظمات الإغاثة الدولية، وهي المحرك الإنساني لحملات مكافحة الفقر والكوارث، وهي صوت الضمير العالمي الذي يذكّرنا بأن الإنسانية أسرةٌ واحدة. إن الرحمة لا تصنع فقط مجتمعاتٍ متماسكة، بل تبني حضاراتٍ عظيمة. فالحضارة التي تُشيَّد على القوة وحدها تنهار عند أول أزمة، أما التي تُبنى على الرحمة فهي التي تبقى لأنها تستند إلى قيمةٍ خالدة. قال تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» (المائدة: 2)، والتعاون في الخير لا يكون إلا في ظلّ الرحمة. ولنا في التاريخ شواهد كثيرة على أن الرحمة تصنع المعجزات. فكم من قائدٍ غيّر مجرى التاريخ بعفوٍ صادق، كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم يوم فتح مكة حين قال لأعدائه: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». وكم من أمةٍ نهضت بعد محنٍ بفضل تكاتف أبنائها وتراحمهم، وكم من قلوبٍ متنافرة التأمت بفضل لمسة رحمةٍ صادقة. الرحمة هي النبض الخفي للقلب الإنساني، هي ذلك الصوت الداخلي الذي يهمس لنا بأننا لسنا جزراً معزولة، بل أجزاء من كلٍّ متكامل. في عالمٍ يبدو أحياناً قاسياً، تبقى الرحمة هي السلاح الأقوى في مواجهة القسوة، وهي اللغة الوحيدة التي يفهمها الجميع بلا ترجمة. إنها ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورةٌ وجودية تضمن بقاءنا كبشرٍ أسوياء. فلنحرص على ترسيخها في أنفسنا أولاً، بأن نرأف بمن حولنا، ونلين مع الضعفاء، ونعين المظلومين، ونمد يد العون لكل محتاج. ولنزرعها في قلوب أبنائنا، ليكبروا وهم يؤمنون بأن الرحمة ليست ضعفاً، بل هي أعظم أشكال القوة. وعندما تستعيد القلوب نبع الرحمة، يستعيد العالم نبضه الإنساني، فنصنع معاً عالماً لا يقوم فقط على التقدم، بل على الدفء، والإيمان، والجمال، والإنسانية.
504
| 26 أكتوبر 2025
يظل زواج الأقارب من القضايا المثيرة للجدل في المجتمعات العربية، حيث تتقاطع فيه العادات مع العلم، والتقاليد مع مفاهيم الحداثة. وبين من يراه امتدادًا طبيعيًا للروابط الأسرية والاجتماعية، ومن يعتبره ممارسة تحمل مخاطر صحية ونفسية، تتباين الآراء وتتعدد المبررات. وتزداد أهمية تناول هذا الموضوع في ظل التحولات الاجتماعية التي تشهدها المنطقة، والتي أعادت طرح مفهوم الزواج ذاته للنقاش بين الأجيال الجديدة. تاريخيًا، كان زواج الأقارب يُعد من الممارسات المقبولة والمحبذة، لما يحققه من تماسك اجتماعي وتقارب عائلي. غير أن تطور المعرفة العلمية، خصوصًا في مجالات الوراثة والصحة العامة، ألقى الضوء على جوانب أخرى من القضية، إذ أثبتت بعض الدراسات ارتفاع احتمالية الإصابة بالأمراض الوراثية بين أبناء الأقارب في حال وجود تاريخ عائلي مشترك. ومع ذلك، فإن هذه المخاطر لا تجعل من زواج الأقارب خيارًا مرفوضًا تمامًا، بقدر ما تضع مسؤولية إضافية على الأسر والمقبلين على الزواج لإجراء الفحوص الطبية اللازمة قبل اتخاذ القرار. ومن الناحية الاجتماعية، لا يمكن تجاهل البعد الثقافي في النظرة إلى هذا النوع من الزواج. فبينما كان يُنظر إليه سابقًا كضمانة لاستمرار الروابط العائلية وصون الميراث الاجتماعي والاقتصادي، أصبحت بعض فئات الشباب اليوم ترى فيه شكلاً من أشكال التقليدية التي تحد من حرية الاختيار. ويرى هؤلاء أن الارتباط بمن هم خارج نطاق الأسرة يتيح مساحة أكبر للتنوع والتفاهم بعيدًا عن ضغوط القرابة أو المجاملات العائلية. إلا أن هذا الموقف لا يخلو من تعميم، إذ إن نجاح الزواج لا يرتبط بمدى القرابة، بل بمدى النضج الشخصي والتفاهم النفسي والعاطفي بين الطرفين. من زاوية أخرى، يطرح زواج الأقارب إشكالية التوازن بين العاطفة والعقل، وبين الولاء للعائلة والرغبة في الاستقلال. فالقرب الأسري لا يعني بالضرورة انسجامًا فكريًا أو عاطفيًا، كما أن البعد لا يضمن التفاهم. لذلك يبقى المعيار الحقيقي هو القدرة على بناء علاقة متوازنة تقوم على الاختيار الحر والاحترام المتبادل وتحمل المسؤولية. وهو ما أكده الحديث الشريف: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض.» لقد أسهمت التحولات الاجتماعية خلال العقود الأخيرة في تغيير شكل العلاقات داخل الأسرة العربية، وأثرت بطبيعة الحال على مفهوم الزواج. فالتباعد الجغرافي، وتراجع التواصل بين الأقارب، والانشغال بأنماط الحياة الحديثة، كلها عوامل قللت من فرص التعارف الحقيقي داخل العائلة الواحدة. كما أن الوعي بحقوق الفرد، خاصة لدى الشباب، جعلهم أكثر ميلًا لاختيار شريك الحياة بناءً على التفاهم الشخصي لا على اعتبارات القرابة أو رضا الأسرة. ومع ذلك، تبقى هناك تجارب ناجحة تثبت أن زواج الأقارب يمكن أن يحقق استقرارًا ونجاحًا إذا قام على أسس سليمة. فحين تتوافر الإرادة الحرة، ويُجرى الفحص الطبي، ويُحترم استقلال الزوجين وخصوصية حياتهما بعيدًا عن التدخلات العائلية، يمكن أن تتحول القرابة إلى عامل دعم لا إلى مصدر خلاف. وتشير بعض الدراسات الاجتماعية إلى أن الأزواج من الأقارب قد يتمتعون بدرجة من التفاهم بسبب الخلفية المشتركة، وهو ما يسهّل التعامل مع الخلافات اليومية ويزيد من التماسك الأسري في بعض الحالات. وهنا يبرز تساؤل مهم: هل توافق العلاقة بين الزوجين الأساس الصحيح للعلاقات بين الأقارب بما يؤدي إلى زواج ناجح وموفق؟ تُظهر الخبرات الاجتماعية أن التفاهم بين الزوجين لا يتحقق تلقائيًا لمجرد وجود قرابة عائلية، بل يحتاج إلى وعي متبادل بحدود العلاقة ومسؤولياتها. فالعلاقة الزوجية تختلف عن العلاقات الأسرية الأخرى، لأنها تقوم على خصوصية ومشاركة وجدانية لا يمكن أن تدار بمنطق القرابة أو المجاملة. وعندما يتعامل الطرفان بوعي ناضج يحافظ على التوازن بين الانتماء العائلي والاستقلال الشخصي، تصبح العلاقة الزوجية امتدادًا صحيًا للعلاقات الأسرية وليست استمرارًا لها بالضرورة. وبهذا المعنى، فإن توافق العلاقة بين الزوجين هو الذي ينعكس إيجابًا على الأسرة الممتدة، لا العكس. في المقابل، فإن فشل بعض تجارب زواج الأقارب يرتبط غالبًا بتداخل الأدوار العائلية وضعف الخصوصية، أو بتغليب المصالح الاجتماعية على التوافق الشخصي. وهنا تبرز الحاجة إلى الوعي الأسري والتربية على احترام حرية الاختيار، وهو ما عبّر عنه الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: «لا تُجبروا أولادكم على عاداتكم، فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم». خلاصة القول إن زواج الأقارب ليس خيرًا مطلقًا ولا شرًا مطلقًا، بل هو خيار اجتماعي ينبغي أن يُقاس بمدى نضج الأفراد واستعدادهم لبناء علاقة قائمة على الوعي والمسؤولية. فالزواج في النهاية مؤسسة إنسانية تهدف إلى الاستقرار والتكامل، لا إلى الحفاظ على الشكل الاجتماعي أو الانصياع للتقاليد. ومن ثمّ، فإن نجاح أي زواج، سواء كان بين أقارب أو غرباء، يظل رهينًا بمدى الوعي، والاحترام المتبادل، والإرادة الحرة في اتخاذ القرار.
438
| 21 أكتوبر 2025
في زمنٍ سريعٍ يركض بنا دون توقف، نعتقد أحيانًا أن ما نقوله أو نفعله يمرّ بلا أثر. غير أن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير؛ فالكلمة أو الموقف البسيط قد يتحولان إلى نقطة ضوء في قلب إنسان، يغيّران مساره ويمنحانه أملًا جديدًا. أثرٌ قد يبدو عابرًا في لحظته، لكنه يبقى محفورًا في الذاكرة والوجدان لسنوات طويلة. الكلمات ليست أصواتًا عابرة، بل بذور تُزرع في القلوب. كلمة مثل «أؤمن بك» قد تمنح إنسانًا القدرة على النهوض من كبوته، وقد تفتح أمامه طريقًا لم يكن يراه. الكلمة الطيبة لا تحتاج إلى جهد، لكنها تصنع المعجزات. ولعلّ أجمل توصيف لذلك ما جاء في القرآن الكريم حين شبّهها الله بالشجرة الطيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، لا تنحني ولا تذبل، بل تبقى تمنح الحياة وتفيض بالخير. حين يحرص الإنسان على ترك أثر طيب، فإنه في الحقيقة لا يغيّر حياة الآخرين فقط، بل يُعيد تشكيل حياته هو أيضًا. من يساعد غيره، يشعر برضا داخلي يجعله أكثر هدوءًا وثقةً بنفسه. الأثر الطيب يصبح مرآة ينعكس فيها الخير على صاحبها أولًا، فينمو بداخله الشعور بالقيمة والمعنى. الإنسان الذي يتعمّد نشر الخير في محيطه يكتسب صفات جديدة بمرور الوقت: يصبح أكثر صبرًا، وأكثر تسامحًا، وأقرب إلى التواضع. فهو يدرك أن أفعاله مهما بدت صغيرة قد تغيّر مصائر، فيتعلّم أن يتحكم في غضبه، ويزن كلماته، ويختار أفعاله بوعي أكبر. هذا التحوّل لا يحدث فجأة، لكنه تراكم طبيعي لسنوات من الممارسة والنية الصافية. من يترك بصمة طيبة يتغيّر تلقائيًا في طريقة تعامله مع الآخرين. يصبح أكثر ميلًا إلى الإنصات بدلًا من الجدل، وأكثر تعاطفًا بدلًا من الانتقاد. الأثر الطيب يفتح أمام صاحبه أبوابًا من العلاقات الإنسانية الحقيقية، لأنه يتعامل بصدق ورغبة في الإعطاء لا في الأخذ. ومع الوقت، يجد أن احترام الناس له وحبهم هو نتيجة طبيعية لرحلته في صنع الخير. القلوب التي تنبض بالعطاء لا تبحث عن مقابل. حين تمتد يد لإنقاذ متعثر أو لرفع كربة عن محتاج، فإن الأثر يتجاوز اللحظة ذاتها. من أنقذته اليوم قد يصبح غدًا عونًا لغيره، وهكذا يتسلسل الخير. وهذا ما أكده الرسول صلي الله عليه وسلم في حديثه الشريف: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة». فالطيبة لا تذهب سدى، بل تبقى رصيدًا من الرحمة يعود لصاحبه يومًا ما. ليس التأثير دائمًا في الكلام، بل أحيانًا في الصمت والابتسامة وطريقة التعامل. قد تُعيد نظرة احترام أو ابتسامة صادقة بناء إنسان هشّ فقد ثقته بالعالم. المواقف الصغيرة، كالصبر على خطأ، أو احتواء ضعف، قد تكون أقوى من خطابات طويلة. إنها لغة إنسانية يفهمها كل قلب،وتترك أثرًا أبقى من أي حديث. الأثر الطيب لا يتوقف عند حدود الشخص الذي نُسدي له معروفًا. بل ينتقل كعدوى إيجابية، فيُلهم من نساعده ليساعد غيره. هكذا يولد «التأثير المتسلسل»: سلسلة من الخير قد تبدأ بابتسامة في لحظة عابرة، لكنها تتحول إلى حركة إنسانية لا نعرف إلى أين تصل. وربما يكون ما فعلناه بذرة تثمر قادة ومصلحين وكتّابًا ملهمين بعد سنوات. الناس ينسون الكلمات أحيانًا، لكنهم لا ينسون الشعور الذي تركته بداخلهم. الأمان، الدعم، والاحتواء، تبقى محفورة في الذاكرة مهما تقادم الزمن. ولعل أصدق ما قيل: «قد تنسى الناس ما قلت، لكنهم لن ينسوا كيف جعلتهم يشعرون». هذه المشاعر هي الأثر الحقيقي الذي لا يُمحى. فى النهاية.. لا يحتاج المرء إلى ثروة أو شهرة ليترك أثرًا خالدًا. الأمر أبسط من ذلك: كلمة صادقة، موقف كريم، أو حتى صمت حانٍ. كل إنسان قادر على أن يكون بداية لدوائر من الخير تمتد بعده. حين تُضيء قلبًا واحدًا، فأنت تفتح نافذة لعالم أكثر دفئًا وإنسانية.
420
| 16 أكتوبر 2025
الإنسان لم يُخلق ليعيش وحيداً. فمنذ فجر التاريخ، ارتبط بقاء البشر بالقدرة على التعاون والعيش في جماعات. فالكهوف الأولى لم تكن مجرد مأوى، بل كانت بداية الحكاية الإنسانية التي لا تكتمل إلا بالآخر. لكن ليس الجميع يجد في العلاقات الاجتماعية ملاذاً أو راحة. فهناك من يميل إلى الوحدة، لا هرباً من الناس، بل بحثاً عن السكون الداخلي. هؤلاء لا يكرهون الآخرين، بل يفضلون المسافة الآمنة التي تمنحهم وضوحاً وصفاءً. فهل يُعد هذا الميل للانطواء ضعفاً أم خياراً مشروعاً؟ الوحدة قد تكون ملاذاً مؤقتاً، يلجأ إليها الإنسان حين يضيق صدره أو يثقل قلبه. لكنها تتحول إلى مأزق حين تصبح أسلوب حياة دائم، يقطع الصلة بالآخرين ويجعل الإنسان غريباً حتى عن أقرب الناس إليه. أما الانطوائية، فهي طبيعة شخصية، لا تعني بالضرورة العزلة، بل تعكس حاجة الفرد إلى الهدوء أكثر من الضجيج، إلى التأمل أكثر من التفاعل. الوحدة والانطوائية حين تتحولان من خيار شخصي إلى نمط دائم، تُلقيان بظلال ثقيلة على الفرد والمجتمع معاً. فالفرد المنعزل يفقد تدريجياً مهارات التواصل، ويصبح أقل قدرة على التعبير عن مشاعره أو فهم الآخرين، مما يزيد من احتمالية الإصابة بالقلق والاكتئاب. كما أن الانطواء يحدّ من فرص النمو الشخصي، ويقلل من التفاعل مع التجارب التي تُثري الفكر وتوسع المدارك. أما على مستوى المجتمع، فإن انتشار الانعزال يضعف الروابط الإنسانية، ويخلق فجوات بين الأفراد، مما يؤدي إلى تراجع روح التعاون والتكافل. فالمجتمع لا يُبنى بالأفراد المنعزلين، بل بالأرواح المتفاعلة التي تتبادل الدعم وتشارك في البناء. الدراسات النفسية تشير إلى أن الانطواء ليس مرضاً، بل نمط تفكير وسلوك. لكنه قد يتحول إلى عبء نفسي إذا صاحبه شعور بالرفض أو عدم الفهم من الآخرين. فحين يُنظر إلى الانطوائي على أنه غريب أو غير اجتماعي، يُدفع إلى عزلة قسرية، لا اختيارية، وهنا تبدأ المعاناة. على مستوى العلاقات، قد لا يكون الانطوائي كثير الكلام، لكنه يحمل مشاعر عميقة، ويمنح ثقته بصعوبة، لكنه حين يمنحها، تكون صادقة وثابتة. فالعلاقات عنده ليست كثيرة، لكنها قوية. وهو لا يبحث عن الحشود، بل عن القلوب التي تفهمه دون أن تفرض عليه التغيير. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم». لكن هذا لا يعني أن من لا يخالط الناس مذموم، بل أن الصبر على العلاقات فضيلة، وأن الاجتماع يحتاج إلى جهد، لا يُجبر عليه كل أحد. في بيئة العمل، لا تقتصر أهمية التجمع على تبادل المهام أو إنجاز المشاريع، بل تمتد لتشمل بناء الثقة وتعزيز روح الفريق. فالتجمعات بين الزملاء، سواء كانت رسمية أو ودية، تخلق مناخاً إيجابياً يُشعر الفرد بالانتماء ويحفّزه على العطاء. ممارسة الحياة الاجتماعية في العمل تُسهم في تخفيف التوتر، وتزيد من الإنتاجية، وتفتح المجال لتبادل الأفكار والخبرات. كما أن العلاقات الإنسانية داخل بيئة العمل تُعدّ صمام أمان نفسي، تمنح الموظف شعوراً بالدعم والتقدير. فحين يشعر الإنسان أنه جزء من منظومة حية، لا مجرد ترس في آلة، يصبح أكثر قدرة على الإبداع وأكثر استعداداً لمواجهة التحديات. لا شيء يعوّض لحظة صدق بين شخصين يفهمان بعضهما دون كثير كلام. فالعلاقات ليست بعدد الأصدقاء، بل بجودة التواصل. والانطوائي قد يجد راحته في جلسة هادئة مع شخص واحد، أكثر مما يجده في حفل مزدحم. قال الله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا» (الفرقان: 54). فالعلاقات الإنسانية جزء من فطرة الإنسان، لكن لكلٍ طريقته في التعبير عنها. فليس كل من ابتعد، فقد المحبة، وليس كل من صمت، غاب عن الود. الحياة الاجتماعية ليست فرضاً على الجميع بنفس الدرجة. هي مساحة للتفاعل، لكن لا بد أن تُراعى فيها الفروق الفردية. فبعض الناس يحتاج إلى العزلة ليعيد ترتيب نفسه، وبعضهم يجد في الوحدة طمأنينة لا توفرها الجموع. كثير من الانطوائيين تغيّرت حياتهم عبر مواقف بسيطة: كلمة طيبة، جلسة صادقة، أو حتى نظرة احترام من شخص لم يُجبرهم على التغيير. فالتواصل لا يعني التنازل عن الذات، بل إيجاد من يفهمها ويقبلها كما هي. قال تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى» (المائدة: 2). وهذه دعوة للتعاون، لا للتشابه. فالتعاون لا يعني أن نكون نسخاً من بعضنا، بل أن نكمل بعضنا، كلٌ بطريقته. لا أحد يُطالب بأن يكون منفتحاً طوال الوقت، ولا أن يتخلى عن خصوصيته. المطلوب هو التوازن: أن نحترم ميولنا، ونمنح أنفسنا فسحة من الوحدة حين نحتاجها، دون أن نقطع الصلة بالناس تماماً. ختاماً.. الوحدة قد تمنح راحة وقتية، لكنها لا تصنع سعادة دائمة. والسعادة ليست في كثرة العلاقات، بل في صدقها. فليكن لكلٍ طريقه، وليكن الاحترام هو الجسر الذي يربط المختلفين، دون أن يُجبر أحد على تغيير ذاته.
792
| 06 أكتوبر 2025
في لحظة صفاء مع النفس، يطلّ النسيان عليَّ كسؤال وجودي يأبى أن يتركني بسلام: هل هو نعمة تحررني من ثِقل التجارب الموجعة، أم نقمة تسلبني تفاصيل اللحظات التي صنعتني؟ كثيرًا ما أرى أن الذاكرة هي مستودع الإنسان، وأنها ما يميّزه عن غيره من الكائنات، لكن النسيان، ليس دائمًا خصمًا، بل قد يكون حبل النجاة الوحيد. أدركت أن النسيان ليس ضيفًا عابرًا، بل طبيعة بشرية متأصلة. يتسلل إليَّ حين يرهقني الألم أو حين يُثقلني الحنين. أحتاجه حين أتألم، وأخشاه حين يبتلع أجمل ما مررتُ به. ففي الحب مثلًا، قد ينقذني النسيان من وجع علاقة انتهت، لكنه قد يسلبني جمال ذكرى لم يزل القلب يحنّ إليها. وفي الفقد، يمدّني النسيان بطاقة على الاستمرار، لكنه لا يعيد لي من رحل. أما في الغضب، فقد يطفئ النسيان نار مشاعري، لكنه يتركني عرضة لتكرار الأخطاء وكأنني لم أتعلم. أسباب النسيان كثيرة ومتداخلة، منها ما يرتبط بطبيعة العقل، ومنها ما يتصل بنمط الحياة وضغوطها. أحيانًا يكون النسيان نتيجة طبيعية لتكدس المعلومات وتزاحم التفاصيل، فيعجز العقل عن الاحتفاظ بكل شيء، فيُسقط ما يراه أقل أهمية. وأحيانًا يكون وليد التعب والإرهاق، فالعقل المنهك لا يملك طاقة للتخزين والتذكر. وقد يتجلى النسيان كآلية دفاعية يطلقها الجسد لحماية الروح من الانهيار، فيُبعد عنا ما يثقلنا من ذكريات موجعة أو مواقف قاسية. حتى التقدم في العمر له نصيبه، فمع مرور السنين تتراجع الذاكرة أمام ضغط الزمن وكثرة التجارب. لكنني أؤمن أن بعض النسيان يصنعه الإنسان بوعي حين يختار أن يتجاوز، فلا يظل أسيرًا لذكرى تعوقه عن المضي قدمًا. القرآن الكريم لم يغفل هذا البُعد الإنساني، فصوّر النسيان أحيانًا كعقوبة، كما في قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾، وأحيانًا كصفة بشرية أصيلة، كما حدث مع آدم عليه السلام: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾. بل إن الدعاء القرآني نفسه جاء ليؤكد ضعف الإنسان وحاجته إلى رحمة الله في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، وكأنها تربية ربانية على أن النسيان ليس عيبًا بل جزء من طبيعتنا التي تحتاج إلى العفو والصفح. أما السنة النبوية فقد تعاملت مع النسيان برفق ورحمة، فجاء الحديث الشريف: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه.» بل إن النبي ﷺ نفسه أقرّ بإنسانيته قائلاً: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون.» وهنا يترسخ المعنى بأن النسيان ليس نقصًا، بل طبيعة لا ينفكّ عنها الإنسان. وحين أتأمل العلاقة بين المشاعر والنسيان أجدها من أعقد الروابط وأكثرها إرباكًا. فالمشاعر القوية، سواء كانت حبًا أو ألمًا أو غضبًا، تترك أثرًا صعب الزوال في الذاكرة، لذلك يصعب نسيانها بسهولة. لكن المفارقة أن قوة المشاعر ذاتها قد تدفع أحيانًا إلى النسيان، فالقلب المنهك من كثرة الوجع يقرر أن يتخفف، فيطوي الصفحات الموجعة كي يتمكن من الاستمرار. في لحظات الفرح، يختزن العقل الذكرى بحيوية تجعلها عصية على النسيان، بينما في لحظات الحزن العميق يتدخل الزمن ببطء ليمحو حدّة الذكرى، لا ليجعلنا ننساها بالكامل، بل ليجعلها أخف وطأة على أرواحنا. وهكذا أرى أن النسيان ليس مجرد فعل عقلي بارد، بل هو انعكاس لمشاعرنا العميقة وصراعها الدائم بين التذكر والنسيان. حين أتأمل بعمق، أجد أن النسيان نعمة كبرى لا يدركها إلا من تجرّع مرارة الفقد أو صراع الفشل. لولا النسيان لبقينا أسرى جراح الأمس، نعيش حاضرنا مقيّدين بقيود الماضي. إنه يخفف من ثِقل الحزن، يفتح لي نافذة نحو شمس جديدة، ويعيد إليَّ القدرة على التنفس. فتصوّرتُ لو أن كل ألم عشته ظل حاضرًا بنفس حدته الأولى، كيف كنت سأحتمل الحياة؟ لكنني لا أستطيع أن أبرئ النسيان من كونه نقمة أيضًا. فحين أنسى المعروف أصبح جاحدة، وحين أنسى العِبرة أكرر الأخطاء ذاتها، وحين أنسى الأحبة أفرّط في أجمل ما أملك من روابط إنسانية. بل إن بعض صور النسيان قد تقترب من فقدان الهوية، حين أنسى ماضيَّ وتجربتي، فأعيش كمن تبدأ من الصفر في كل مرة. وهنا أرى أن النسيان ليس في ذاته خيرًا أو شرًا، بل أداة محايدة، نحن من نحدد وجهتها. إن نسيتُ بوعي، صار دواءً يرمم جراحي، وإن تركته يعبث بذاكرتي صار وبالًا يطيح بدروس عمري. النسيان الحقيقي الذي أحتاجه هو ذاك الذي يترك فيَّ الأثر دون أن يُبقيني أسيرة الألم، ويمنحني الصفح دون أن يجرّدني من الحكمة. في النهاية، يظل النسيان هبة إلهية مزدوجة الوجه. هو نعمة حين يساعدني على تجاوز القسوة، ونقمة حين يُغرقني في سطحية اللحظة وينزع مني جذور التجربة. لذلك أرى أن الحكمة ليست في محاربة النسيان أو الخضوع له، بل في التعايش معه، وقيادته بدل أن يقودني. أن أحفظ من ذاكرتي ما يعينني على النهوض، وأُسقط منها ما يعوق خطواتي. هكذا فقط يصبح النسيان مدرسةً أتعلم منها كيف أعيش، لا هاويةً أسقط فيها بلا وعي.
906
| 30 سبتمبر 2025
في زمن تحولت فيه الهواتف الذكية إلى «حاضنة صامتة» لأطفالنا، وتبدلت فيه الألعاب من مجرد تسلية بريئة إلى عوالم افتراضية موازية قد تلتهم القيم وتُضعف الروابط الأسرية، جاء الحوار الذي أجرته صحيفة الشرق مع الدكتورة مريم الخاطر، أستاذ الاتصال الرقمي والسياسة، كجرس إنذار مدوٍّ، بجرأة الباحثة وعمق الاستشراف، وضعت الخاطر إصبعها على الجرح: المنصات الرقمية لم تعد مجرد أدوات ترفيه أو تواصل، بل باتت ــ إن تُركت بلا ضابط ــ أشبه بـ «أسلحة دمار شامل» تستهدف النشء وتخترق حصون الأسرة من الداخل. ما قالته عن حظر لعبة «روبلوكس» في قطر لم يكن تعليقاً عابراً، بل كشفاً عن أزمة أوسع تتجاوز لعبة أو تطبيقاً إلى نمط حياة يهدد الأمن النفسي والاجتماعي. وما بين «الفاشينيستا» الذين صنعوا من الشهرة تجارة على حساب القيم، وغياب الوعي الإعلامي والتقني لدى كثير من أولياء الأمور، تبرز الحاجة إلى وقفة صادقة تعيد صياغة علاقتنا بهذا الفضاء الرقمي المتغول. وهنا تحديداً تستعيد الخاطر مبادرة «نحو فضاء إعلامي مسؤول» التي أطلقتها صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع عام 2007، لتذكرنا أن الرؤية الاستشرافية قادرة على أن تسبق الزمن، وأن ما بدا وقتها تحذيراً بعيد المدى أصبح اليوم ضرورة وجودية لحماية الأجيال المقبلة. حينما قررت دولة قطر حظر لعبة «روبلوكس»، اعتبر البعض أن القرار مبالغ فيه، أو أن الرقابة على الألعاب لم تعد مجدية في ظل انتشار مئات المنصات البديلة. لكن ما أوضحته الدكتورة مريم الخاطر هو أن القضية ليست مجرد لعبة، بل منظومة متكاملة من المحتوى التفاعلي الذي يتجاوز حدود البراءة الطفولية إلى فضاءات تهدد الأمن النفسي والاجتماعي. «روبلوكس» ليست مجرد ترفيه، بل عالم افتراضي مفتوح يُمكّن الأطفال من التفاعل مع محتوى يصنعه مستخدمون آخرون، دون ضوابط حقيقية أو رقابة فعلية. ومن هنا تأتي خطورة اللعبة، حيث تنفتح على احتمالات التعرض لمضامين غير مناسبة، أو لسلوكيات سامة، بل وحتى لاستغلال رقمي خطير. إن قرار الحظر، برغم تأخره، يمثل إعلاناً بأن حماية النشء ليست ترفاً، بل ضرورة وطنية وأخلاقية. أحد المحاور اللافتة في حديث الخاطر كان تناولها لظاهرة «البلوجر» و»الفاشينيستا»، بوصفها تجسيداً لتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى سوق استهلاكي، تُسوَّق فيه القيم السطحية على حساب المضمون الهادف. فبدلاً من أن تكون هذه المنصات جسراً للتنوير والمعرفة، أصبحت في كثير من الأحيان وسيلة لتكريس ثقافة المظهر والربح السريع، حتى لو كان الثمن هو إضعاف البنية الأخلاقية للمجتمع. هذه الظاهرة ليست شأناً قطرياً فحسب، بل امتداد عالمي. لكن خصوصية المجتمع القطري، والعربي عموماً، تكمن في أن مثل هذه الظواهر تتصادم مباشرة مع قيم أصيلة، مثل التكافل الأسري، والهوية الدينية والثقافية. وهو ما يضاعف الحاجة إلى رقابة اجتماعية، لا بمعناها القمعي، بل في شكل وعي نقدي يتيح للنشء التمييز بين ما يُعرض عليهم، وما يتناقض مع قيمهم. ركزت الخاطر في حديثها على أن المواجهة الحقيقية تبدأ من الأسرة، وهو طرح بالغ الأهمية. فالقرارات الحكومية أو التشريعات، مهما كانت صارمة، تظل عاجزة عن ضبط كل تفاصيل التفاعل اليومي للأطفال واليافعين مع المنصات الرقمية. هنا يبرز دور الوالدين كخط الدفاع الأول، من خلال رفع وعيهم الإعلامي والتقني. ولعل أكبر إشكالية تواجه الأسرة القطرية والعربية اليوم، أن الفجوة الرقمية بين الأجيال تتسع يوماً بعد يوم. في حين ينغمس الأبناء في تفاصيل التطبيقات والمنصات الحديثة، يبقى كثير من الآباء والأمهات خارج هذه المعادلة، مكتفين بالمتابعة من بعيد أو بالمنع التقليدي. غير أن المطلوب، كما أشارت الخاطر، ليس المنع فقط، بل المشاركة الواعية، من خلال تثقيف الوالدين إعلامياً وتقنياً، بحيث يصبحون شركاء لأبنائهم في الفضاء الرقمي، لا مجرد رقباء أو خصوم. من أبرز ما جاء في الحوار استدعاء الخاطر لمبادرة «نحو فضاء إعلامي مسؤول» التي أطلقتها صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع عام 2007. يومها ربما لم يدرك كثيرون أن العالم مقبل على ثورة رقمية ستجعل من الإعلام الجديد سلطة فوق الدول والمجتمعات. لكن المبادرة كانت بمثابة رؤية استراتيجية، دعت إلى إعلام يحترم القيم الإسلامية والعربية، ويحمي النشء من سطوة المحتوى المستورد. اليوم، وبعد مرور ما يقارب عقدين، يبدو أن تلك المبادرة لم تفقد بريقها، بل تزداد راهنيتها. ففي زمن تحول فيه «المؤثر» إلى سلطة تنافس المدرسة والجامعة، وفي وقت باتت فيه المنصات الرقمية «أسلحة دمار شامل» للقيم والثقافة، يصبح استدعاء هذه الرؤية ضرورة قصوى. وصفت الدكتورة مريم الخاطر منصات التواصل الاجتماعي بأنها «أسلحة دمار شامل»، وهو توصيف يحمل دلالتين: الأولى أن هذه الوسائل تملك قدرة هائلة على التأثير في العقول والوجدان، والثانية أنها إذا لم تُضبط بقوانين وقيم، فإنها تتحول إلى قوى تدميرية. فوسائل التواصل الاجتماعي مكنت الأفراد من التعبير عن ذواتهم، وخلقت فضاءات للنقاش والتفاعل. لكنها في الوقت نفسه أفرزت تحديات خطيرة، مثل الأخبار المضللة، والعنف اللفظي، والإدمان الرقمي، وتفكك الروابط الأسرية. إن إدارة هذا التناقض لا يمكن أن تتحقق عبر الدولة وحدها، بل عبر شراكة مجتمعية متكاملة، تضع حماية النشء في صدارة الأولويات. من خلال قراءة ما طرحته الدكتورة الخاطر، يمكن القول إننا أمام حاجة ملحّة لبناء إستراتيجية وطنية شاملة لحماية النشء في قطر من مخاطر الفضاء الرقمي. هذه الإستراتيجية يجب أن تقوم على عدة ركائز، التشريعات والقوانين، التثقيف الأسري، التعليم المدرسي، الشراكة مع المجتمع المدني: تمكين الجمعيات والمؤسسات الثقافية من المشاركة في التوعية، وتقديم مبادرات بديلة عن المحتوى المستورد، إنتاج محتوى محلي هادف: دعم صناعة إعلامية محلية توفر بدائل جاذبة ومواكبة، تحترم القيم وتستجيب لاحتياجات الجيل الجديد. ختاما.. حوار صحيفة الشرق مع الدكتورة مريم الخاطر ليس مجرد نقاش أكاديمي، بل دعوة جادة لإعادة النظر في علاقتنا بالفضاء الرقمي. إن حماية النشء في قطر، والحفاظ على الترابط الأسري، لم تعد مسؤولية فردية أو خياراً ترفياً، بل قضية أمن وطني وثقافي بامتياز.
648
| 22 سبتمبر 2025
مع إشراقة شمس هذا اليوم، تكتب قطر صفحة جديدة في تاريخ الأمتين العربية والإسلامية، إذ تحتضن «دوحة الخير» قمةً استثنائية تأتي في لحظة مصيرية. فبينما يتواصل العدوان الإسرائيلي الوحشي على الشعب الفلسطيني الأعزل، امتدت يد الاحتلال الغاشمة لتطال قطر نفسها بضربة غادرة، في استهدافٍ سافرٍ لدولة لم تتوانَ يوماً عن الدفاع عن فلسطين وقضيتها العادلة، إن انعقاد هذه القمة لا يُعد مجرد اجتماع بروتوكولي، بل هو امتحان حقيقي لإرادة القادة، وفرصة تاريخية لإثبات قدرتهم على حماية كرامة الأمة وصون سيادة دولها. إن اجتماع القمة اليوم في الدوحة يحمل بُعدين متلازمين: الأول نصرة الشعب الفلسطيني الذي يواجه حرب إبادة ممنهجة، والثاني الدفاع عن قطر التي استُهدفت مباشرة كرسالة إسرائيلية خطيرة بأن أي دولة تساند فلسطين لن تكون في مأمن. ومن هنا، فإن هذه القمة ليست خياراً بل واجباً تاريخياً يمس كرامة الأمة جمعاء. لقد أثبتت التجارب الماضية أن الاحتلال الإسرائيلي لا يتراجع إلا تحت ضغط حقيقي، وأنه يستفيد من الانقسام والتردد العربي والإسلامي، واليوم، بعد أن توسع العدوان ليشمل فلسطين وقطر معاً، يصبح لزاماً على القادة العرب والمسلمين أن يتعاملوا مع الموقف بوصفه عدواناً شاملاً يستهدف الأمة كلها، لا مجرد نزاع محلي أو أزمة عابرة. منذ أكثر من سبعة عقود، ظلت القضية الفلسطينية هي البوصلة المركزية للأمة، غير أنّ السياسات الدولية المزدوجة والمعايير الانتقائية في تطبيق القانون الدولي، جعلت الاحتلال الإسرائيلي يتجرأ أكثر على ارتكاب جرائم الحرب دون خوف من العقاب. اليوم، ومع تواصل العدوان الإسرائيلي، تبرز أهمية هذه القمة التي تعقد في قطر، الدولة التي أثبتت عبر مواقفها المتكررة أنها لا تتعامل مع فلسطين كقضية سياسية عابرة، بل كقضية وجود وهوية. فالمشهد الراهن يتطلب أكثر من أي وقت مضى توحيد الجهود السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية في جبهة واحدة قوية، تُعيد للقضية مركزيتها وتفرض على العالم التعاطي معها بجدية. إذًا فالمطلوب أن تكون مخرجات قمة الدوحة مُعبّرة عن موقف واحد وموحّد، يعكس التزاماً جماعياً لا لبس فيه بالدفاع عن فلسطين، لأن وحدة الصف هي السلاح الأول في مواجهة آلة الاحتلال، وهي أيضاً الرسالة الأقوى للمجتمع الدولي بأن الأمة قادرة على تجاوز تبايناتها عندما يتعلق الأمر بالقضايا المصيرية. التاريخ مليء بالقمم التي خرجت ببيانات قوية لكن لم يُكتب لها التنفيذ. المطلوب من قادة اليوم أن يترجموا كلماتهم إلى أفعال، عبر اتخاذ قرارات اقتصادية ودبلوماسية ذات أثر مباشر، كقطع العلاقات أو تجميدها مع الاحتلال، أو على الأقل خفض التمثيل الدبلوماسي، وتفعيل الضغوط في المؤسسات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة والمحاكم الدولية، لمحاسبة إسرائيل على جرائمها. في السنوات الأخيرة، تراجعت القضية الفلسطينية في سلم الأولويات لدى بعض الأنظمة، نتيجة لانشغالات داخلية أو إقليمية. هذه القمة يجب أن تُعيد البوصلة إلى مكانها الطبيعي، وأن تؤكد أن فلسطين ليست قضية شعب وحده، بل قضية الأمة كلها، وأن المساس بالقدس أو غزة أو أي بقعة من الأرض الفلسطينية هو مساس بكرامة مليار ونصف المليار مسلم. الإعلام الغربي لعب دوراً في تزييف الحقائق وتبرير العدوان الإسرائيلي، ما يجعل من الضروري وضع إستراتيجية إعلامية عربية وإسلامية تكشف للرأي العام العالمي جرائم الاحتلال وتدحض روايته وهنا تأتي أهمية التنسيق بين القنوات والمنصات والمؤسسات الإعلامية في الدول العربية والإسلامية لتوحيد الرسالة الموجهة للعالم. لا يمكن الحديث عن الدفاع عن فلسطين دون دعم صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، المطلوب من القمة اعتماد آليات عملية لدعم غزة والقدس والضفة الغربية، سواء عبر المساعدات الإنسانية والإغاثية العاجلة، أو عبر توفير الدعم السياسي والمادي لمؤسسات الشعب الفلسطيني التي تواجه الحصار والعدوان. منذ سنوات طويلة، لعبت قطر دوراً ريادياً في نصرة القضية الفلسطينية، سواء عبر الدعم المالي والإنساني المباشر لسكان غزة، أو من خلال الوساطات الدبلوماسية التي قادتها للتخفيف من حدة الأزمات ووقف العدوان في محطات متعددة. اليوم، تحتضن الدوحة هذه القمة التاريخية، في تأكيد جديد على التزامها الثابت بدعم فلسطين، وعلى أنها حاضنة للمواقف العربية والإسلامية الصادقة التي تسعى للترجمة العملية لا الاكتفاء بالشعارات. فالمواقف القطرية كانت دائماً واضحة وحاسمة: لا تنازل عن القدس، لا شرعية للاحتلال، ولا استقرار في المنطقة دون حل عادل وشامل يعيد الحقوق إلى أصحابها. إن الدور القطري يتجاوز حدود الدعم المالي والسياسي، ليعكس إرادة صلبة في جعل القضية الفلسطينية في صدارة الاهتمام الدولي، سواء عبر المحافل الدبلوماسية أو عبر الحملات الإعلامية والإنسانية. ختاما إن قمة الدوحة اليوم ليست فقط من أجل وقف نزيف الدم الفلسطيني، بل أيضاً رداً مباشراً على العدوان الإسرائيلي الذي استباح سيادة قطر، هذا الاستهداف المزدوج يكشف أن الاحتلال لم يعد يرى خطوطاً حمراء، وأنه ماضٍ في غطرسته ما لم يواجه بردّ عربي وإسلامي موحّد وحازم. إن انعقاد هذه القمة في قطر، في هذا التوقيت العصيب، هو رسالة أمل للشعب الفلسطيني، ورسالة تحدٍّ للاحتلال الإسرائيلي، ورسالة إلى العالم بأسره بأن العرب والمسلمين ما زالوا قادرين على الفعل إذا امتلكوا الإرادة. فإما أن تكون هذه القمة بداية مرحلة جديدة من الفعل العربي والإسلامي المؤثر، أو أن ينظر إليها التاريخ كفرصة ضاعت في لحظة كانت بأمسِّ الحاجة إلى قرارات شجاعة.
519
| 15 سبتمبر 2025
لا يمكن النظر إلى الضربة الإسرائيلية التي استهدفت قيادات من حركة حماس في الدوحة، إلا بوصفها حدثًا فارقًا في مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومحاولة يائسة لإجهاض الجهود القطرية التي قطعت شوطًا كبيرًا في التوسط لوقف الحرب الدامية في غزة. فإن تمتد يد الاحتلال إلى قلب العاصمة القطرية، وفي لحظة تفاوضية حساسة، فذلك لا يعني فقط انتهاك السيادة، بل رسالة سياسية بليغة: إسرائيل لا تريد سلامًا، ولا تطيق وسيطًا مستقلًا يفرض قواعد مختلفة على طاولة المفاوضات. ما بعد الضربة لم يكن كما قبلها. في قطر، شهدنا صورة نادرة من التلاحم الوطني، حيث وقف الشعب بكافة أطيافه خلف قيادته، مؤكدًا أن السيادة ليست موضع مساومة. مشاهد التضامن الشعبي، والتغطيات الإعلامية التي أبرزت وحدة الموقف، كشفت عن عمق العلاقة بين القيادة والمواطنين، وعن إدراك جمعي بأن قوة قطر تكمن في ثباتها على مواقفها، مهما اشتد الضغط الخارجي. ذلك الالتفاف لم يكن مجرد رد فعل عاطفي، بل تجديد لعقد وطني غير مكتوب: إن قطر، الصغيرة بمساحتها، الكبيرة بدورها، لا تقبل الابتزاز، وأن كل محاولة للنيل منها تزيدها تماسكا. منذ اندلاع الحرب على غزة عام 2023، تحملت قطر عبئًا لا تحمله إلا الدول الكبرى: التوفيق بين طرفين على طرفي نقيض، إسرائيل وحماس، والسعي لإيجاد أرضية مشتركة لوقف النار. لم يكن ذلك جهدًا تقنيًا فقط، بل مسؤولية أخلاقية وإنسانية، إذ ارتبطت الوساطة القطرية بممرات الإغاثة، ودعم إعادة الإعمار، وتأمين المساعدات لآلاف الأسر المنكوبة. إسرائيل تعلم أن نجاح الوساطة القطرية يضعف ذريعة استمرار الحرب. لذلك اختارت أن تضرب قلب الدوحة، ليس فقط لتصفية قادة حماس، بل لإرسال إشارة إلى أن أي وسيط لا يسير وفق الإيقاع الإسرائيلي، سيكون عرضة للتشكيك أو الاستهداف. إنها محاولة لكسر الحياد القطري، وإرغامه على التراجع عن دوره. الدوحة لم تدخل على خط الوساطة بحثًا عن مكاسب آنية، بل انطلاقًا من قناعة بأن السلام العادل هو استثمار طويل الأمد في استقرار المنطقة. غير أن الثمن كان باهظًا: تهديدات متكررة، تشكيك إعلامي من أطراف مختلفة، وأخيرًا ضربة عسكرية داخل أراضيها. من وجهة نظري، هذه الضربة تكشف عن مأزق استراتيجي تعيشه إسرائيل. فهي تملك القوة العسكرية لتدمير الأبنية فوق ساكنيها، لكنها تفتقر للقوة الدبلوماسية لفرض حل سياسي مقبول. كل ما فعلته في الدوحة أنها عمّقت عزلتها، وأكدت أنها عاجزة عن التعامل مع الوسطاء إلا بلغة النار. في النهاية، أثبتت الضربة أن الدوحة ليست مجرد وسيط ثانوي في ملف غزة، بل لاعب مركزي باتت حساباته تفرض نفسها على الإقليم. إسرائيل حاولت أن تكسر قطر، لكنها في الحقيقة منحتها فرصة لتأكيد موقعها القيادي، عربيًا ودوليًا. التفاف الشعب حول القيادة، وحدة الموقف العربي، والإدانة العالمية، كلها عناصر جعلت من الحدث نقطة تحول: لم تعد القضية مجرد نزاع بين إسرائيل وحماس، بل صارت اختبارًا لاحترام سيادة الدول العربية، وشرعية أدوارها في السعي إلى السلام. التاريخ سيذكر أن قطر اختارت أن تكون صوتًا للسلام، وأنها لم تنكسر تحت وطأة العدوان.
1179
| 11 سبتمبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه الخطى نحو بريق المظاهر الخارجية، وتُقاس قيمة المرء بما يرتديه من ماركات أو بما يملكه من أرصدة، يبرز سؤال جوهري يتجاوز كل هذه القشور: أين تكمن القيمة الحقيقية للإنسان؟ هل في جيبه الممتلئ أم في نفسه العامرة؟ هل في قسمات وجهه أم في ملامح روحه؟ إن الإجابة التي تعطيها الفطرة السليمة وتجسدها خبرات الأجيال هي أن الثروة ليست مالًا ولا ذهبًا، بل هي صفاء نفسٍ وقوة روحٍ وعمق إنسانية. لقد اعتدنا أن نلهث وراء ما لا يُشبع، وأن نربط سعادتنا بما قد يتبخر بين عشية وضحاها. ومع ذلك، هناك حكمة متوارثة تقول: «الشبع في العين لا في البطن، والغنى في النفس لا في الجيب، والجمال في الروح لا في الشكل.» إنها ليست مجرد عبارات مثالية تُزين الكتب، بل فلسفة حياة عملية تمنح صاحبها توازنًا ورضا وسعادة لا تنالها الأزمات ولا تقوى عليها الظروف. القناعة ليست مجرد فضيلة أخلاقية، بل هي فن العيش بطمأنينة، شبع البطن مؤقت؛ فمن يلتهم ما لذ وطاب سيعود سريعًا ليبحث عن وجبة أخرى، إنها دائرة لا تنتهي من رغبة مؤقتة وإشباع زائل، أما شبع العين فهو الامتنان لما بين يديك، ورؤية النعمة في أبسط الأشياء. الإنسان القنوع يرى جمال شروق الشمس وكأنه لوحة نادرة، يبتسم لضحكة طفله وكأنها أغلى من كنوز الأرض، ويستمتع بدفء جلسة عائلية بسيطة أكثر مما يستمتع غيره بموائد مترفة، في المقابل، الجشع لا يشبع؛ عيناه جائعتان دومًا، لا ترى سوى ما يملكه الآخرون، حتى لو امتلأت خزائنه. الشبع في العين يجعلنا أحرارًا من سطوة المقارنات، فلا نقيس حياتنا على مقاييس الآخرين، ولا نُثقل كاهلنا بأحلام مادية لا تنتهي، إنه طريق قصير نحو سعادة طويلة الأمد، بينما شبع البطن هو طريق طويل نحو وهم قصير. كم من غنيٍ محاط بالقصور يعاني فقرًا داخليًا لا يداويه مال، وكم من فقير الموارد يعيش غنىً يفيض على من حوله، المال قد يشتري سريرًا فاخرًا، لكنه لا يشتري النوم الهادئ؛ وقد يشتري أصدقاء مصلحة، لكنه لا يشتري قلبًا مخلصًا. الغني الحقيقي هو من يملك في داخله ما يعجز الذهب عن منحه، العلم والمعرفة ثراء لا يصدأ، وباب يفتح آفاقًا لا تنتهي، والغنى النفسي هو درع الإنسان ضد الابتذال والمهانة، وهو ما يمنحه احترام الناس وثقتهم، فالمال قد يشتري النفوذ لحين، لكنه لا يشتري القلوب، أما غنى النفس فهو ميراث خالد يُذكر به صاحبه بعد رحيله، ويخلّد أثره بين الناس. لقد خدعتنا الإعلانات حين صورت الجمال على أنه وجه مثالي، لكن الحقيقة التي لا يخطئها القلب أن الجمال الحقيقي ليس في المظهر، بل في الروح، الوجه الجميل قد يبهرك لحظة، أما الروح الجميلة فتأسرك عمرًا. الجمال الخارجي محكوم بالزمن؛ يفنى مع العمر ويذبل مع المرض، أما الجمال الروحي فخالد يزداد بريقًا كلما نضج صاحبه، هو ما يجعل شخصًا عاديًا محبوبًا أكثر من عارض أزياء، وما يجعل ابتسامة صادقة أقوى من كل مساحيق التجميل. يتجلى جمال الروح في اللطف والرحمة، معاملة الآخرين برفق، واحترام الضعفاء قبل الأقوياء، والابتسامة الصادقة التي تضيء الوجوه أكثر من أي مساحيق، التفاؤل والأمل الذي يبث طمأنينة في المحيطين به، ويزرع فيهم إيمانًا بالحياة، الصدق والأمانة، فلا شيء يُشوه وجه المرء مثل الكذب، ولا شيء يُجمله مثل الصراحة، الاستماع والتعاطف وأن تمنح قلبك قبل أذنك لمن يحتاج، فتشعره بأنه غير وحيد. جمال الروح لا يُمحى مع السنين، بل يزداد رسوخًا. وحين يُذكر صاحبه بعد رحيله، لا يذكره الناس بمظهره، بل بمواقفه ودفء قلبه وطيب معشره. في الختام لا أحد ينكر أهمية المال أو المظهر؛ فهما جزء من سنن الحياة، لكن الخطر يبدأ حين نجعل المال هو المقياس الوحيد، والمظهر هو الحكم الأخير فبهذا نُسقط جوهر الإنسان ونحوله إلى سلعة. القيمة الحقيقية تكمن في الداخل، في بناء النفس وصقل الروح وتغذية العقل، أعظم استثمار يقوم به المرء ليس في العقارات أو الأسهم، بل في أخلاقه، في ثقافته، في صحته النفسية، في علاقاته الإنسانية، تلك هي الثروة التي لا تُسرق، ولا تنهار في الأزمات، ولا يستهلكها الزمن. فلنضع نصب أعيننا شعارًا واضحًا: لنَعِش حياة بسيطة في مادتها، غنية في معناها، جميلة في أثرها، لأن الحياة ليست فيما نملك، بل فيما نكون.
387
| 02 سبتمبر 2025
تُعد الطاقة السلبية من المفاهيم التي يكثر تداولها في السنوات الأخيرة، وهي تعبير شامل عن حالة من المشاعر والأفكار المظلمة التي تؤثر سلبًا على الصحة النفسية والجسدية والعاطفية للإنسان، هذه الطاقة قد تتشكل نتيجة تراكم الضغوط الحياتية، أو المرور بتجارب صعبة، أو الانغماس في بيئات مليئة بالتوتر والصراعات، حتى تصبح جزءًا من نمط الحياة اليومي دون أن نشعر. تتجلى الطاقة السلبية في صور متعددة ومتداخلة، فهي ليست مجرد إحساس عابر بالضيق، بل حالة يمكن أن تتغلغل في أعماق النفس وتؤثر في التفكير والسلوك. قد تظهر على شكل إحباط مستمر يطفئ الحماس، أو قلق متصاعد يثقل الصدر، أو شعور دائم بالإرهاق الجسدي والذهني حتى من أبسط المهام، أو عزلة عن الآخرين وكأن هناك جدارًا غير مرئي يفصل الإنسان عن محيطه. وفي كثير من الأحيان، تأتي هذه الطاقة من مصادر لا نتوقعها؛ فقد تتسلل عبر الأخبار المليئة بالمآسي والصور المؤلمة التي تترك أثرًا في الروح، أو من التواجد في أماكن غير منظمة وفوضوية تبعث على التوتر دون وعي، أو من التعامل مع أشخاص اعتادوا النقد الجارح والتقليل من قيمة الآخرين، مما يترك بصمة سلبية في النفس. كما أن البيئة المحيطة — سواء كانت مكان العمل أو المنزل — لها تأثير بالغ، فالمكتب المزدحم بالأوراق غير المرتبة، أو الجدران التي تفتقر للألوان المريحة، أو المساحات التي تفتقد الهواء النقي، جميعها يمكن أن تضاعف من الشعور بالاختناق الداخلي. حتى الأصوات الصاخبة أو الإضاءات الحادة قد تخلق حالة من التوتر المستمر. وفي المقابل، فإن بيئة هادئة، نظيفة، ومنظمة يمكنها أن تمتص الكثير من هذا الثقل النفسي، وتعيد التوازن إلى الروح. الأمر لا يقتصر على المكان أو الأشخاص فقط، بل قد تكون الطاقة السلبية وليدة أفكارنا الداخلية، حين نكرر في أذهاننا مخاوفنا وإخفاقاتنا، أو نسترجع أحداثًا مؤلمة مرارًا، فنصبح نحن مصدر بثّ هذه الطاقة لأنفسنا دون أن نشعر. العلاقات الإنسانية تمثل أيضًا أحد أهم العوامل المؤثرة؛ فالأشخاص السلبيون أو الذين يميلون إلى استنزاف طاقة من حولهم بالكلمات الجارحة أو المطالب المستمرة، يسهمون بشكل مباشر في تعزيز الشعور بالضيق والاختناق، كما أن الاحتفاظ بمشاعر سلبية غير مُعالجة مثل الغضب أو الحزن أو الخوف لفترات طويلة، يتيح لهذه الطاقة أن تتجذر في النفس، فتؤثر على التفكير والسلوك. التعامل مع الطاقة السلبية لا يقتصر على تجنب مصادرها، بل يحتاج إلى بناء منظومة متكاملة من العادات الإيجابية، ممارسة النشاط البدني بانتظام، مثل المشي أو الرياضة أو اليوغا، تساعد في تحرير التوتر وإفراز هرمونات السعادة. التأمل والتنفس العميق يتيحان للعقل فرصة للهدوء وإعادة التوازن، بينما قضاء وقت في الطبيعة يمنح شعورًا بالاتصال والسكينة. كما أن التعبير عن المشاعر بطريقة صحية، سواء بالكتابة أو التحدث مع شخص موثوق، يخفف من تراكم الضغوط، الحفاظ على بيئة نظيفة ومرتبة في المنزل أو مكان العمل يساهم في تحسين الحالة المزاجية، تمامًا كما تفعل الألوان المشرقة والإضاءة الجيدة. حتى الماء، سواء من خلال الاستحمام الدافئ أو الجلوس قرب البحر أو النهر، يمكن أن يكون له أثر مهدئ للنفس. البعد الروحي يمثل جانبًا محوريًا في مواجهة الطاقة السلبية، إذ يجد الكثيرون أن القرب من الله وممارسة العبادات والذكر يمدّ القلب بالطمأنينة ويمنح النفس قوة لمواجهة ما قد يعترضها من ضيق أو هم. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِن شَرِّ مَا خَلَقَ، وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ»، وهي آيات عظيمة تحصّن النفس وتطرد الشرور، وتذكّر المؤمن بأن الله هو الحافظ من كل سوء. إن قراءة هذه السورة، إلى جانب المعوذتين وآية الكرسي، صباحًا ومساءً، ليست مجرد تلاوة كلمات، بل هي استحضار لمعاني الحماية الإلهية، وطلب السكينة في حضرة الرحمن. كما أن استشعار معانيها يرسّخ في القلب الثقة بأن أي طاقة سلبية، حسدًا كانت أو وساوس أو هموما، لا يمكن أن تصمد أمام نور الإيمان. ولا يتوقف الأمر عند التلاوة فقط، بل يمتد إلى أعمال البر والإحسان، فالخير الذي يقدمه الإنسان للآخرين يرتد عليه مضاعفًا، فيخلق هالة من الطاقة المشرقة حوله، تحيطه بالطمأنينة وتبعد عنه الأذى. مساعدة المحتاج، رسم البسمة على وجه مهموم، أو حتى كلمة طيبة، كل ذلك يفتح أبواب الرحمة، ويجعل النفس أكثر صفاءً وقوة أمام الضغوط. في النهاية، الطاقة السلبية ليست قدرًا محتومًا، بل حالة يمكن إدارتها والتحرر منها. إدراك وجودها هو الخطوة الأولى، ثم اتخاذ قرارات واعية لتغيير أنماط الحياة والعلاقات والبيئة المحيطة. عندما ندرك أن المفتاح في أيدينا، يمكننا أن نحطم الجدران التي تعوقنا ونفتح المجال للنور ليدخل حياتنا.
201
| 21 أغسطس 2025
مساحة إعلانية
في عالم تتسابق فيه الدول لجذب رؤوس الأموال...
9936
| 13 نوفمبر 2025
وفقًا للمؤشرات التقليدية، شهدت أسهم التكنولوجيا هذا العام...
2385
| 16 نوفمبر 2025
يحتلّ برّ الوالدين مكانة سامقة في منظومة القيم...
1296
| 14 نوفمبر 2025
شخصيا كنت أتمنى أن تلقى شكاوى كثير من...
1242
| 18 نوفمبر 2025
في بيئتنا الإدارية العربية، ما زال الخطأ يُعامَل...
1188
| 12 نوفمبر 2025
يبدو أن البحر المتوسط على موعد جديد مع...
1131
| 12 نوفمبر 2025
يعكس الاحتفال باليوم القطري لحقوق الإنسان والذي يصادف...
909
| 12 نوفمبر 2025
الاهتمام باللغة العربية والتربية الإسلامية مطلب تعليمي مجتمعي...
870
| 16 نوفمبر 2025
في صباح يعبق بندى الإيمان، تُطلُّ قطر بنداء...
867
| 13 نوفمبر 2025
نعم ترجّل الفارس عن فرسه الذي كان يصول...
783
| 13 نوفمبر 2025
القادة العظام يبقون في أذهان شعوبهم عبر الأزمنة...
780
| 18 نوفمبر 2025
نعيش في عالم متناقض به أناس يعكسونه. وسأحكي...
741
| 18 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية