رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في أدبيات الإدارة الحديثة تُصنَّف القيادة في قوالب واضحة: قائد يُعيَّن بقرار، وآخر يُنتخب في أول اجتماع، وثالث يبرز تلقائياً حين تحتاج الجماعة إلى من يتقدم الصفوف، غير أن القرآن الكريم لا يكتفي بهذه التصنيفات، بل يأخذ القارئ إلى عمق اللحظة الإنسانية التي تُولَد فيها القيادة، وكيف تتشكل داخل الوعي قبل أن تتجسد في الألقاب. في سورة الكهف على وجه الخصوص، نقف أمام أنماط قيادية فريدة، شبابٌ مطاردون بعقيدتهم، ونبيٌّ أراد أن ينهل العلم من عالم رباني، وملكٌ ممكَّن في الأرض يدير المشروعات الكبرى. ثلاث لوحات مختلفة، لكن الخيط الناظم بينها واحد: كيف يُصاغ القائد حين تُوضع الجماعة على حافة الاختبار، وكيف تصبح الفكرة نقطة البدء في كل مشروع قيادة ناجح. ففي المشهد الأول من سورة الكهف تتجلى لنا لحظة القيادة وهي تتكوّن داخل مجموعة صغيرة تواجه ضغطاً وجودياً قاسياً، فالخطر كان يحيط بالفتيان من كل جانب، ومع ذلك لم تتشتت كلمتهم، بل ظهر بينهم صوتٌ هادئ يقترح: «فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» اقتراح يتضمن رؤية واضحة، اختيار الملجأ المناسب، وضبط الإيقاع النفسي للجماعة، ووضع الثقة في موضعها الصحيح، هكذا وُلد القائد من داخل المجموعة، عندما أحسن قراءة الموقف فالتفّ حوله الجميع. وفي مرحلة لاحقة من القصة، حين أذن الله لأصحاب الكهف أن يستيقظوا من لبثهم الطويل، يتجدد المشهد القيادي بصورة أعمق وأكثر نضجاً، فمع أنهم وجدوا أنفسهم في عالم تغيّر تماماً، بقي منهج اتخاذ القرار ثابتاً؛ إذ التفّوا حول التوجيه المختصر: «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ…». قرار يحدّد المهمة، والشخص المناسب، والتنبيه الأمني اللازم: «وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا « إنها قيادة حكيمة هادئة، تعتمد العقل الجماعي، وتعرف أن أقلّ الخطوات قد تكون أعظمها أثراً، وأن الحفاظ على تماسك الفريق أولوية تعلو على كل اعتبار. ومن قصة أصحاب الكهف ننتقل إلى قيادة المعرفة في لقاء موسى عليه السلام بذلك الرجل الصالح الذي آتاه الله الرحمة وعلمه من لدنه علما، قال لموسى عليه السلام: « فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا «، وضع منهجاً كاملاً للتعلم يبدأ بضبطٍ للسؤال، وتنظيمٍ للمعرفة، وتأكيد أن الفهم العميق يحتاج إلى صبر ومساحة زمنية ينضج فيها الحدث قبل شرحه، وهكذا نرى لوناً من القيادة لا يوجّه السلوك فقط، بل يبني العقل الذي يفهم السلوك، ويربّي البصيرة على التمييز بين ظاهر الأشياء وحقيقتها. ثم نصل إلى نموذج ذي القرنين، الذي تكشف قصته عن قيادة عملية تتجلى في تشكيل فرق العمل وتنظيمها، فحين طلب القوم منه بناء السد، شرع في بناء منظومة متعددة المراحل، ففريق يجمع الحديد، وفريق يشعل النار، وآخر يوفّر النحاس المصهور، فتحول المشروع إلى عمل جماعي يسير وفق رؤية واضحة، يشارك فيه الجميع ويعمل كل فريق ضمن دوره المحدد، إنها قيادة تُحسن جمع القدرات، وتوجيه الطاقات، وتحويل الحاجة العامة إلى ورشة عمل يصنع أهلها أمنهم واستقرارهم. وبهذا تضع سورة الكهف أمام القارئ ثلاث صور متكاملة للقيادة: قيادة تنشأ من داخل الجماعة، وأخرى تُبنى على الحكمة والتربية، وثالثة تتجسد في العمل المنظم والمشاركة الفاعلة، وما بين الكهف والرحلة مع الخضر ومشروع السد، تتكشف لنا خيوط دقيقة تقول إن القيادة لحظة وعي؛ وقدرة على صياغة القرار المناسب في الوقت المناسب.
252
| 03 ديسمبر 2025
في قصة يوسف عليه السلام تتجلى واحدة من أعمق الصور الإدارية التي يعرضها القرآن، صورة ترسم ملامح قائد ينظر إلى المستقبل بعين بصيرة، ويحوّل الرؤية إلى خطة تحقق الاستقرار في زمن يموج بالتغيرات، تبدأ ملامح هذه الخطة منذ لحظة تأويل الحلم، حين أدرك يوسف أن ما رآه الملك ما هو إلا مؤشر أولي يستدعي الاهتمام، وأن على الدولة أن تستعد لمرحلة رخاء يعقبها قحط طويل، هكذا تتحول المؤشرات إلى سياسات، والمعلومة إلى قرار. طرح يوسف على الملك تصورًا شاملًا لإدارة الموارد خلال السنوات المقبلة، فشدّد على جمع المحصول أيام الوفرة، وعلى ترشيد الاستهلاك بحيث لا تبتلع شهور الرخاء ما يحتاجه الناس في السنين العجاف، كان يتعامل مع الواقع بعقلية تعتمد على مؤشرات الأداء كمعدل الإنتاج، حجم التخزين، الطاقة الاستيعابية، مقدار الهدر، ونسبة الاستهلاك، وكلها معايير نعرفها اليوم في علوم الإدارة الحديثة، وقد مارسها يوسف قبل أن تُدوّن في الكتب. وإلى جانب هذا البعد التخطيطي، تكشف قصة يوسف عن مستوى أخلاقي رفيع في شخصية القائد، فقد عاش يوسف تجارب قاسية بدأت من ظلم إخوته، ثم انتقلت إلى الاتهام الباطل في مصر والسجن ظلمًا، ومع ذلك، حين صار مسؤولًا عن خزائن الأرض، لم يتحول موقعه إلى وسيلة انتقام، حافظ على عدله وهدوئه، ولم يسمح للذاكرة أن تتدخل في القرار أو تؤثر في توزيع الموارد، هذه القدرة على تجاوز الألم الشخصي علامة على الكاريزما الأخلاقية للقائد، القائد الذي يعمل لصالح الناس لا لصالح جراحه. ويتضح من هذه التجربة أن يوسف اعتمد في إدارة الأزمة المرتقبة على مبادئ تشكل نموذجًا إداريًا متكاملًا، أبرزها جمع المعلومات، وتنظيم المخزون، ومنع الاحتكار، وتوزيع الموارد بنظام يحفظ التوازن الاجتماعي، وحين حلّت سنوات القحط، كانت مصر مركزًا تقصده الوفود من كل الأقاليم بعد أن أصبحت نموذجًا في إدارة الموارد والأزمات. ومن التفاصيل اللافتة التي تعزّز هذا البعد الإداري ورود “صواع الملك” في سياق الأحداث، وهو مكيال رسمي كانت الدولة تعتمد عليه لوزن الحبوب وتحديد العطاء، يكشف هذا التفصيل عن وجود معايير واضحة للقياس تحفظ العدالة وتمنع التلاعب، وتسمح بمتابعة دقيقة لحجم الإنتاج والمخزون والاستهلاك، وهو ما يشبه في عالم الإدارة اليوم ما يُعرف بـ مؤشرات الأداء التي تعتمد عليها المؤسسات لضبط مواردها وتقييم كفاءتها، ويظهر من هذا المشهد أن النظام الاقتصادي الذي أدارته مصر في زمن يوسف كان يقوم على أدوات قياس دقيقة ورقابة واعية، مما يضيف بُعدًا مهمًا لفهم طبيعة الإدارة التي مارسها ذلك القائد الحكيم. إن قراءة قصة يوسف بهذا المنظور تكشف عن نموذج إداري يجمع بين الرؤية الدقيقة، وقراءة المؤشرات، والأخلاق الرفيعة، نموذج يقدّم للقادة اليوم درسًا في التخطيط، وعدالة القرار، وسموّ النفس في لحظات السلطة، ولعل في هذا النموذج ما يدعو للنظر في واقع منطقتنا اليوم، حيث تتقاطع قضايا الاقتصاد والموارد والعدالة مع حاجات الناس اليومية، كثير من الدول تواجه تحديات لا تختلف في جوهرها عن تلك التي ظهرت في زمن يوسف، وفرة تحتاج إلى إدارة، وأزمات تلوح في الأفق، ومجتمعات تنتظر من قادتها رؤية تحفظ التوازن وتبني الطمأنينة، ومعنى ذلك أن الحكمة ليست في مواجهة الأزمة حين تقع، بقدر ما هي في بناء السياسات التي تمنعها أو تخفف أثرها قبل أن تشتد.
390
| 26 نوفمبر 2025
تبدو علوم الإدارة في ظاهرها حديثة النشأة، وكأنها استقرت في عالم المؤسسات بعد تراكم طويل من التجارب الاقتصادية والتنظيمية، ومع ذلك، فإن القراءة الهادئة للقرآن الكريم تكشف عن مساحة واسعة تتشكل فيها ملامح القيادة والعمل الجماعي وصناعة القرار، يظهر هذا المضمون من خلال القصص والمواقف التي تتناول الإنسان في ظروف متعددة: أمن وخوف، رخاء وضيق، بداية مشروعٍ أو مواجهة عقبة، وكلها مشاهد تحمل عناصر عملية يستطيع القارئ المعاصر استحضارها في واقعه المهني. يمكن للمتأمل في قصة يوسف عليه السلام أن يلاحظ حضورًا واضحًا للتخطيط البعيد، وكيف تُدار الموارد وفق رؤية تمتد لسنوات طويلة، جاءت الأحداث لتبين أن التعامل مع الواقع يحتاج إلى فهم دقيق لموازين القدرة والمسؤولية، وإلى وعي يربط بين الحاضر وما سيأتي من تحديات، وفي تجربة موسى عليه السلام تظهر ملامح القيادة التي تحافظ على تماسك الجماعة في المواقف الحرجة، وتواجه القلق الجماعي بثبات يزرع الطمأنينة في النفوس، أما السيرة النبوية فتقدّم نموذجًا يتعامل مع الناس بروح المشاركة، ويعتمد على بناء الثقة، ويجمع بين الرحمة والحزم بطريقة تجعل القيادة ممارسة إنسانية قبل أن تكون منصبًا. هذه الأمثلة وغيرها تفتح نافذة لفهم مختلف للإدارة داخل النص القرآني، فالنظرة القرآنية للإنسان تقوم على احترام طاقته وقدرته على الإسهام، وعلى تنظيم العلاقات بما يحفظ الحقوق ويعزّز الانسجام، كما تتضمن تعاليم تُعين على ضبط السلوك داخل الجماعة، مثل التثبت من الأخبار، وتقديم النصيحة، والتحلي بالعدل، وإعطاء الكلمة الهادئة وزنها في مواجهة التوتر. وتكشف هذه الرؤية عن إدارة تتجاوز الطابع الإجرائي المعتاد، لتصل إلى مستوى أعمق يرتبط بالقيم التي تمنح العمل معناه، وفي هذا المستوى تتقاطع مبادئ القرآن مع ما يُعرف اليوم بـ الإدارة القيمية؛ “values based management “، تلك التي تجعل الأخلاق قاعدة للسلوك الفردي والجماعي، وتمنح القرار عمقه الإنساني، وتربط المسؤولية بضمير لا يغيب، فالإنسان في القرآن جزء من منظومة متكاملة تشكل فيها القيم أساسًا للأفعال، وينعكس حضورها على طرق اتخاذ القرار، وأساليب التعامل، وإدارة الضغوط، وبناء العلاقات داخل أي مؤسسة أو مجتمع. وانطلاقًا من هذا المدخل، سنحاول تتبع الملامح الإدارية في القرآن من خلال محطات متعددة، فكل قصة تحمل بعدًا إداريًا يمكن الاستفادة منه اليوم: إدارة الموارد في قصة يوسف، وإدارة الأزمات في تجربة موسى، وتنظيم المشاريع في نموذج ذي القرنين، وبناء الفريق في السيرة النبوية، وتضيف النصوص التشريعية والأخلاقية إطارًا أوسع لفهم العلاقات الإنسانية والضوابط التي تحفظ تماسك الجماعة. وتأتي هذه القراءة باعتبارها محاولة لفتح مساحة أوسع للتأمل في الحكمة القرآنية التي تتعامل مع الإنسان باعتباره أساس العمل ومركزه، فالنص لا يفصل بين الأخلاق والإدارة، ولا ينظر إلى المسؤولية بوصفها إجراءً أو سلطة، بل باعتبارها ممارسة تقوم على قيم واضحة، وتستند إلى فهم لطبيعة البشر وما يحتاجونه من عدل وثقة وتواصل، ومن خلال هذا المنظور يمكن أن تتشكل رؤية أعمق للإدارة، رؤية تعطي للقرار بعده الإنساني، وللعلاقات معناها، وللعمل روحه التي تعينه على الاستمرار والنجاح.
531
| 19 نوفمبر 2025
في بيئتنا الإدارية العربية، ما زال الخطأ يُعامَل كجريمة مهنية لا كمحطة تعلّم. يخاف الموظف من المجازفة لأن ثقافة “الصفر أخطاء” ما زالت تحكم عقول كثير من المديرين، فيتحوّل العمل إلى تكرار آمن يخلو من الإبداع.غير أن المؤسسات التي تسعى إلى التطور الحقيقي تدرك أن الخطأ، حين يُفهم ويُحلَّل، هو الطريق الأقصر إلى الإتقان.الخطأ الإيجابي ليس دعوة إلى الفوضى أو التهاون، بل إلى تعلّم منظم يقوم على التجريب والوعي بالنتائج.القائد الواعي لا يسأل: “من أخطأ؟” بل: “ماذا تعلّمنا من هذا؟”بهذا السؤال يتحوّل الجو المهني من الاتهام إلى التطوير، ويصبح الخطأ محفّزًا للتحسين وليس مبررًا للعقاب.ولعل من القصص الملهمة التي راجت مؤخرًا على منصات التواصل ما حدث مع طالب طبٍ كان يعمل على تصميم نموذج لقسطرة طبية، فانتهت تجربته إلى نتيجة غير متوقعة بسبب خطأ في الشكل الداخلي.لكن فريقه البحثي لم يتوقف عند الفشل، بل درس الظاهرة باهتمام، ليكتشف لاحقًا مبدأ تصميميًا جديدًا حسّن من أداء القسطرة وخفّف المضاعفات.الإنجاز لم يأتِ من الخطأ ذاته، بل من طريقة التعامل معه.حين نغيّر زاوية النظر إلى الخطأ، يتحوّل من عقبة إلى بوابة معرفة.إن بناء ثقافة الخطأ الإيجابي يبدأ من الإدارة.ينبغي أولًا التمييز بين الخطأ الناتج عن الإهمال والخطأ الناتج عن الاجتهاد؛ فالأول يُحاسَب عليه، والثاني يُكافَأ لأنه يضيف خبرة.وثانيًا، ترسيخ مراجعات ما بعد التنفيذ لتوثيق الدروس المستفادة من كل تجربة.وثالثًا، أن يُقدّم القائد القدوة بنفسه؛ فالاعتراف بالخطأ من قِبل القائد لا يُضعفه، بل يعزز ثقافة الصدق والنمو.في عالم يتغير بسرعة، لا يمكن للمؤسسات أن تتطور وهي تخشى المحاولة.الرقابة الصارمة قد تحفظ النظام، لكنها لا تُنتج الإبداع.أما الثقة الواعية، فهي التي تخلق بيئة آمنة تسمح بالتجريب وتحفّز العقول على الابتكار.يقول بيتر دراكر: «أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي أن تصنعه». ولا يُصنع المستقبل إلا في بيئة تتقبّل الخطأ كجزء من رحلة الصواب.الخطأ الإيجابي ليس شعارًا بل ثقافة تحتاج إلى شجاعة ووعي.ومن لا يُخفق لا يتعلم، ومن لا يتعلم لا يتقدم.وكما قال نيتشه: «من لا يسقط، لن يعرف كيف ينهض».وبين السقوط والنهوض يولد كل إنجاز حقيقي.
1290
| 12 نوفمبر 2025
ليست كل النهايات نهاية، فبعضها بداية في ثوب مختلف، وحين يتقاعد الإنسان بعد عقود من العمل يظن أنه وصل إلى المحطة الأخيرة، بينما الحقيقة أنه يقف على عتبة مرحلة جديدة تحتاج منه إلى شجاعة من نوع آخر… شجاعة إعادة تعريف الذات. فبعد سنوات من الجهد والعطاء، والاستيقاظ المبكر، والاجتماعات، والقرارات، والمشاريع التي ملأت حياته، يجد المتقاعد نفسه أمام صمت لم يألفه من قبل، الهاتف الذي كان لا يهدأ صار ساكنًا، والمكتب الذي كان يعج بالحركة أصبح ذكرى، هنا تبدأ الأسئلة تتزاحم في الداخل: من أنا الآن؟ وماذا بقي لي لأقدمه؟ وهل انتهى دوري بانتهاء الوظيفة؟ إنها ليست أزمة وقت كما يظن البعض، بل أزمة هوية ومعنى، فالكثيرون يربطون ذواتهم بمناصبهم وأعمالهم، فإذا غابت الألقاب شعروا بالفراغ، بينما الحقيقة أن القيمة لا تسكن الكرسي، بل تسكن الإنسان نفسه، بعقله وخبرته وروحه التي ما زالت قادرة على الإلهام والعطاء. المتقاعد الذي عاش حياته بجدٍ وحيوية لا يفقد طاقته بمجرد أن يغادر عمله، بل تبقى فيه طاقة كامنة تصرخ في أعماقه، تبحث عن طريق جديد لتُعبّر عن نفسها، وهنا تتجلى اللحظة الفارقة: إما أن ينكفئ إلى العزلة والحنين، أو يقرر أن يعيد تعريف ذاته على ضوء التجربة والحكمة. إعادة تعريف الذات تعني أن ينظر الإنسان إلى ما بعد التقاعد كفرصة ثانية للحرية، حرية الوقت، وحرية الاختيار، وحرية أن يفعل ما يحب لا ما يُطلب منه، قد يجد نفسه في العمل التطوعي، أو في الاستشارات، أو في تدريب الشباب، أو في الكتابة، أو حتى في التأمل في معنى الحياة ذاتها، المهم أن يبقى حاضرًا، فاعلًا، متصالحًا مع نفسه ومع من حوله. فبعد آخر توقيع، لا تُطوى الحكاية... بل تبدأ من جديد، على مهلٍ، بنبضٍ أهدأ، وبمعنى أعمق، فالتقاعد لا يُقاس بعدد السنوات التي مضت، بل بطريقة العيش بعدها، لأن الحياة لا تتقاعد... بل تتجدد في من يعرف كيف يعيد تعريف ذاته.
906
| 29 أكتوبر 2025
نبارك لأعضاء مجلس الشورى الجدد نيلهم الثقة الغالية التي أولاهُم إياها حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، وهي ثقة سامية تعكس تطلعات القيادة إلى مجلسٍ يواكب طموحات الوطن، ويجسّد نبض المواطن في كل قضية، ويسهم في تحقيق رؤية قطر الوطنية بكل مسؤولية ووعي. لقد مرّ المجلس خلال دوراته السابقة بتجارب ثرية، حملت بين طياتها دروسًا ثمينة تستحق البناء عليها والاستفادة من إيجابياتها وتفادي ما شابها من قصور، ويتجسد ذلك في المشاركة الواعية الفاعلة في صنع القرار، انطلاقًا من فهمٍ عميقٍ للتحديات التي تواجه الدولة والمجتمع، وحرصًا حقيقيًا على خدمة المواطن والارتقاء بمستوى الأداء التشريعي والرقابي. إنّ التنوع المعرفي والخبرات الواسعة لأعضاء المجلس الجديد يُعدّ رصيدًا وطنيًا ثمينًا، لاشك سيتم توظيفه لخدمة الوطن وتطوره، فبعض الأعضاء جاءوا من خلفيات علمية، وآخرون من ميادين إدارية واقتصادية وقانونية، مما يشكل فسيفساء فكرية ثرية سيتم توظيفها في مناقشة القوانين والسياسات العامة، ولعلّ هذا التنوع هو ما يعزز من قيمة الحوار داخل المجلس، ويرسّخ مبدأ الشورى الذي هو جوهر العمل الوطني القائم على التعددية في الرأي واحترام الاختلاف. إن التجربة أثبتت أن المواقف الأكثر تأثيرًا هي تلك المبنية على قراءة متأنية للتقارير السابقة، واستيعابٍ واعٍ للإحصاءات والبيانات الرسمية، واطلاعٍ دائم على البحوث والدراسات الصادرة عن الجهات المختصة، ومراكز الفكر المحلية والدولية، ومن يمتلك هذه الأدوات المعرفية يصبح أكثر قدرة على تحليل الأرقام، وفهم السياقات، واستشراف الاتجاهات، فيتحول من متلقٍ للقرار إلى مساهمٍ في صياغته، ومن متابعٍ للمشهد إلى صانعٍ له، فالمعرفة هنا ليست ترفًا، بل أداة فاعلة لبناء القرار الرشيد. مجلس الشورى حلقة وصلٍ بين الدولة والمجتمع، يُسهم في نقل الهموم والآراء، ويشارك في توضيح القضايا العامة وتبسيطها للرأي العام، ومن خلال هذا التفاعل البنّاء يتشكل وعيٌ شعبيٌ أكثر نضجًا، إذ يصبح المجلس مساحةً للحوار والتنوير والتوعية، إلى جانب كونه ساحةً للتشريع والمساءلة، مما يعزز الثقة المتبادلة بين المواطن ومؤسساته، فكلما اتسعت مساحة الحوار، ازدادت قوة الدولة وثقة المواطن بمؤسساته. وفي ختام القول، تبقى الثقة الأميرية الغالية تكليفًا وطنيًا قبل أن تكون تشريفًا، ومسؤولية جسيمة وتأتي هذه الثقة امتدادًا لنهجٍ راسخٍ في تمكين المؤسسات وتفعيل المشاركة الوطنية في صناعة القرار، وتعزيز هذا النهج، برؤيةٍ متماسكةٍ، وفكرٍ متنوعٍ، ومواقفَ راسخةٍ تستلهم توجيهات القيادة الرشيدة، وتسهم في ترسيخ دولة المؤسسات التي يتطلع إليها المجتمع، تحت راية قيادةٍ حكيمةٍ جعلت من الشورى نهجًا للحكم، ومن المشاركة مسؤوليةً مشتركة في بناء الحاضر وصياغة المستقبل، فالثقة تُمنح لمن يُدرك أن خدمة الوطن هي أسمى أدوار الحياة العامة.
855
| 22 أكتوبر 2025
في صباح أمس الأول، وبينما كانت الطائرة الرئاسية الأمريكية في طريقها إلى تل أبيب، أدلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتصريحات لافتة على متن الطائرة، في تلك التصريحات أبدى ترامب ثناءً واضحاً على دولة قطر وعلى حنكة سمو الأمير وشجاعته، مشيداً بالدبلوماسية القطرية التي ساهمت في تقريب وجهات النظر في المنطقة، كان هذا الإطراء مقدمة لافتة وضعت قطر في صدارة المشهد الدبلوماسي في ذلك اليوم. ورغم هذا التقدير الذي يسعد كل قطري، فإن قطر لم تكن لتنتظر مديحًا من أحد حتى تقوم بما تراه واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا، فمواقف قطر ليست استجابةً للثناء ولا بحثًا عنه، بل التزام بالمبدأ، فعندما اختارت الدوحة أن تقف إلى جانب السلام، وأن تفتح أبوابها للحوار، كانت تدرك أن هذا الطريق قد يُغضب بعض الأطراف ويثير حفيظة أخرى، لكنها مضت فيه بدافع أسمى، القيم، وحقوق الإنسان، والمبادئ النبيلة التي آمنت بها منذ تأسيسها، وجعلت منها عنوانًا لدبلوماسيتها المعاصرة. هذه الإشادة التي جاءت من أقوى عواصم العالم لم تكن وليدة صدفة سياسية، بل ثمرة نهج ثابت تبنته قطر يقوم على الوساطة النزيهة والاحترام المتبادل والسعي إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي، ففي عالم تضطرب فيه المواقف وتتبدل المصالح، ظلت قطر وفية لقيمها، تعمل بهدوء وتؤمن بأن البناء الحقيقي يبدأ من الثقة. وقد دفعت قطر فاتورة هذا النهج الإنساني الشريف غالية، حين واجهت حملات تشويه ومحاولات لتقزيم دورها، لكنها لم تنحرف عن أهدافها، بل مضت بثقة حتى وصلت إلى لحظة الحقيقة، ثم جاءت الضربة الغادرة التي وجّهتها إسرائيل لتكون اختبارًا قاسيًا لالتزام قطر بدورها في صنع السلام، سقط فيها الشهيد القطري الأول وهو يؤدي واجبه الإنساني في قلب المهمة، ثم تبعته وفاة عدد من منتسبي الديوان الأميري في الحادث الأليم بمصر، بينما كانوا يعملون بصمت وإخلاص كجزء من فريق التفاوض، لقد رحلوا وهم يؤمنون أن الدبلوماسية الصادقة يمكن أن تُنقذ ما عجزت عنه البنادق. ورغم هذه الجراح، لم تفقد قطر تركيزها ولا بوصلة رسالتها، تجاوزت الألم وواصلت دورها النبيل من أجل الإنسان بعيدًا عن المكاسب السياسية، وكما قال ترامب بالأمس: «لم أكن أعرف قطر جيدًا لكنني اليوم أرى دولة عظيمة وشجاعة». وفي الختام، لا يسعنا إلا أن نُبارك لأهلنا الصامدين في غزة هذا الإنجاز الإنساني العظيم، الذي أوقف نزيف الدم وفتح نافذة للأمل بعد ليالٍ طويلة من الألم، لقد أثبتوا أن الصبر والثبات يمكن أن يصنعا النصر، وأن إرادة الحياة أقوى من الدمار. وإن كنا اليوم نشهد لحظة سلام، فذلك بفضل من جعلوا الكلمة أقوى من الرصاصة، والضمير أبلغ من الخطاب، فشكرًا لقطر التي آمنت بالإنسان قبل السياسة، وشكرًا لسمو الأمير الذي قاد الموقف بشجاعة الحكماء، وجعل من الشجاعة طريقًا للسلام ومن القيم بوصلة للمستقبل.
702
| 15 أكتوبر 2025
في زمن تتسارع فيه التحولات الاقتصادية والتقنية والاجتماعية، لم يعد بإمكان القادة والإداريين التمسّك بأساليب الأمس وكأن شيئاً لم يتغيّر، وليست القيادة اليوم مجرّد قراراتٍ تُتخذ خلف أبوابٍ مغلقة، ولا تعليماتٍ تُساق إلى موظفين ينتظرون التنفيذ، نحن أمام عالم متشابك تُعيد فيه الابتكارات الرقمية تشكيل الأسواق، وتُعيد فيه الأزمات العالمية تعريف الأولويات، ويتطلّع فيه الجيل الجديد إلى معنى أعمق للانتماء والعمل. أول ما تحتاجه الإدارة الحديثة هو المرونة الذهنية؛ فالقائد الذي يتعامل مع التغيير كتهديد سيفقد بوصلته سريعاً، روح العصر تتطلّب قائداً يقرأ الاتجاهات، لا الأرقام وحدها، قائداً يستمع لفريقه بقدر ما يوجّههم، يحسن التواصل معهم بأفضل السبل المتاحة، ويستفيد من النقد كما يستفيد من المديح، إن الفارق بين إدارة راكدة وأخرى نابضة بالحياة قد يكون مجرّد استعداد المدير لتقبل الرأي ممن هم دونه ويشاركهم في إيجاد الحلول. كما أن تمكين الأفراد أصبح حجر الزاوية في أيّ بيئة عمل ناجحة، فالموظفون اليوم ليسوا تروساً في آلة؛ إنهم شركاء في صياغة الرؤية وتحقيقها، إن منح الثقة لهم، وتوسيع صلاحيات اتخاذ القرار، وخلق مساحات للحوار، كلها أدوات تجعل الفريق أكثر التزاماً وإبداعاً، الإدارة التقليدية التي تكتفي بالرقابة والمساءلة، وتفتقر مهارات مثل القيادة، التواصل، التفكير الإستراتيجي، بناء الفريق، ولا تخلق روح عمل جماعي، تُقصي الكفاءات وتخسر طاقاتهم في أول فرصة. من ناحية أخرى، لا يمكن للقيادة بروح العصر أن تغفل عن القيم والمسؤولية الاجتماعية، في بيئة تتشابك فيها المؤسسات مع المجتمع، لا يكفي تحقيق الأرباح، ولا صعود مؤشرات الأداء، القائد المعاصر مسؤول عن الأثر الأخلاقي والبيئي لقراراته أيضًا، وهو يدرك أن النجاح المستدام لا يُقاس فقط بالميزانيات، بل بقدرة المؤسسة على بناء الثقة داخل المجتمع وخارجه. التقنية بدورها ليست مجرّد أدوات، بل عقل جديد يُعيد تشكيل العلاقات داخل المؤسسات، التحول الرقمي، تحليل البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي لم تعد رفاهية، بل أساس للتنافسية، لكن التكنولوجيا وحدها لا تصنع قيادة ناجحة؛ بل كيفية توظيفها لخدمة البشر وتبسيط حياتهم. أما ثقافة التعلّم المستمر فهي درع القائد في مواجهة الغد، المدير الذي يتوقف عن التعلم يترك موقعه دون أن يشعر، حضور الدورات، قراءة أحدث الأبحاث، ومتابعة تجارب الآخرين ليست ترفاً، ولا مشاركةً جوفاء، بل شرط للبقاء، كذلك تشجيع الموظفين على التعلم، وتقبّل الأخطاء بوصفها فرصة للنمو، يحوّل المؤسسة إلى كيان حي يتجدّد باستمرار. إن إعادة صياغة أساليب الإدارة ليست مهمة تُنجز في ورشة عمل أو مؤتمر سنوي تخلده الصور الجماعية، إنها رحلة تبدأ من عقلية القائد وسلوكه اليومي، فكل قرار مهما كان صغيرًا، وكل كلمة تشجيع، وكل مساحة يُفسحها للحوار، تُراكم ثقافة جديدة. في عالم لا يرحم من يتأخر، لن ينجو إلا من قاد بروح العصر، لا بظل الماضي.
882
| 08 أكتوبر 2025
في مشهد نادر من مشاهد الصراع العربي الإسرائيلي، قدّم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اعتذارًا رسميًا لدولة قطر بعد الغارة التي استهدفت الدوحة وأدت إلى استشهاد رجل أمن قطري وعدد من المدنيين، فضلًا عن إصابة آخرين بجروح متفاوتة، الاعتذار جاء عبر اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء معالي الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني أثناء وجود نتنياهو في واشنطن، وهو ما وصفته وكالة رويترز بالقول: «نتنياهو أقرّ بانتهاك سيادة قطر وأعرب عن أسفه لمقتل ضابط قطري في الهجوم» أما وكالة أسوشيتد برس فأكدت أن نتنياهو «تعهّد بعدم تكرار مثل هذا العمل على الأراضي القطرية مستقبلاً». أن يضطر نتنياهو، المعروف بتعنته السياسي، إلى الاعتذار علنًا، فهذا بحد ذاته تحوّل يستحق التوقف عنده، الاعتذار لم يأتِ من فراغ، بل جاء في سياق ضغوط أمريكية واضحة، حيث لم يكن البيت الأبيض ليسمح بانفجار أزمة جديدة مع قطر، وهي الدولة التي تلعب دور الوسيط الأبرز في ملف غزة، تقرير لموقع اكسيوس وصف الاعتذار بأنه «أمر غير مسبوق في تاريخ الصراع، إذ لم تعتد إسرائيل على تقديم اعتذارات رسمية لدول عربية بهذا الشكل». الرسالة الأعمق من الاعتذار ليست مرتبطة فقط بالحادث العسكري، بل بمكانة قطر نفسها، فالدوحة التي كثيرًا ما تعرضت للتشكيك أو الهجوم بسبب استقلالية سياستها، تثبت اليوم أنها مركز ثقل لا يمكن تجاوزه، كما ذكرت فاينانشال تايمز، «الدوحة أثبتت أنها لاعب إقليمي لا يمكن تجاهله، وأنها قادرة على تحويل الأزمات إلى فرص دبلوماسية». الأهم أن قطر لم تتعامل مع الاعتذار كرد فعل عاطفي أو بروتوكولي، بل أظهرت مجددًا ديناميكية دبلوماسية لافتة، إذ حولت الأزمة إلى اعتراف عملي بمكانتها ونفوذها، فبينما تسعى دول كثيرة إلى تجنّب الأزمات، تبدو الدوحة وكأنها تحسن استثمارها بذكاء، بحيث تخرج من كل أزمة أقوى مما كانت. يبقى السؤال: ما الذي يعنيه هذا الاعتذار لمستقبل المنطقة؟ داخليًا، قد يواجه نتنياهو انتقادات من اليمين الإسرائيلي الذي سيرى في الاعتذار ضعفًا وتراجعًا، لكن خارجيًا، هو يدرك أن دولة قطر تمثل شريانًا دبلوماسيًا لا غنى عنه، وأن خسارة قنواتها يعني تعقيد الحرب في غزة أكثر، صحيفة نيويورك تايمز أشارت في هذا السياق إلى أن «الاعتذار يعكس إدراك إسرائيل لأهمية دولة قطر كوسيط رئيسي في المنطقة، وضغط البيت الأبيض للحفاظ على قنواتها الدبلوماسية مفتوحة». أما قطر، فقد ربحت معركة رمزية ومعنوية جديدة، إذ أثبتت أنها ليست مجرد دولة صغيرة في الجغرافيا، بل لاعب أساسي في المعادلة الإقليمية والدولية، وهو ما يعيد طرح سؤال مهم: هل كان الاعتذار مجرد تكتيك إسرائيلي فرضته لحظة ضاغطة، أم أنه بداية لتحول أعمق في موازين القوى بين إسرائيل ودول المنطقة؟ الاعتذار الإسرائيلي لدولة قطر ليس مجرد حدث بروتوكولي عابر، بل علامة على أن من يمتلك القدرة على الاستثمار الذكي للأزمات، ومن يعرف كيف يحول الخسائر إلى أوراق قوة، يفرض نفسه على الطاولة مهما كان حجم الدولة أو موقعها، وهنا تبدو قطر وقد نجحت في أن تجعل من لحظة الخطر اعترافًا بمكانتها، لتفتح الباب أمام مرحلة جديدة في علاقة المنطقة مع إسرائيل، عنوانها أن السيادة لم تعد قابلة للتجاهل.
552
| 01 أكتوبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة، حيث تُصاغ الكلمات التي قد تغيّر مسار التاريخ، ألقى سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني خطابًا حمل ملامح الرؤية القطرية في السياسة والدبلوماسية، رؤية تقوم على ثبات المبادئ ومرونة الأدوات، وتؤكد أن المواقف ليست رهينة اللحظة بل نابعة من أساس راسخ وقيم إنسانية أصيلة. استهل سمو الأمير خطابه بالتذكير بمبادئ الأمم المتحدة، السلم والأمن، احترام السيادة وكرامة الإنسان، والتعاون بين الشعوب، لكنه نبّه إلى أن هذه القيم تواجه خطر التآكل نتيجة ازدواجية المعايير، حيث يُترك الضحايا لمصيرهم بينما يحظى المعتدي بحصانة، ومن هذا المنطلق جاء حديثه عن اعتداء التاسع من سبتمبر على الدوحة، الذي استهدف حيًا مدنيًا، يضم مدارس ومكاتب دبلوماسية، وأوقع قتلى وجرحى، ليصفه سموه بانتهاك صارخ للسيادة وخرق فاضح للقانون الدولي. انتقل الأمير إلى القضية الفلسطينية، مؤكدًا أنها جوهر الصراع ومفتاح أي سلام عادل، عرض الجهود التي بذلتها قطر بالتعاون مع مصر والولايات المتحدة والتي أفضت إلى تحرير رهائن، قبل أن تجهضها إسرائيل بقرار أحادي، وأوضح أن إسرائيل تستغل المفاوضات غطاءً لمشاريعها، كالتهجير، وتوسيع المستوطنات، وتغيير هوية القدس والضفة، كما شدد الأمير على أن العالم بات أكثر إدراكًا لزيف هذه الممارسات، وأن الاعتراف الدولي المتزايد بدولة فلسطين هو رسالة واضحة بأن الشرعية لا تُنتزع بالقوة، بل بإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. لم يقتصر الخطاب على قضايا المنطقة، بل تناول دور قطر المتنامي في ملفات دولية، كالمساهمة في معالجة أزمة الغذاء الناتجة عن الحرب في أوكرانيا، ورعاية إعلان الدوحة بين حكومة الكونغو الديمقراطية وحركة 23 مارس، في خطوة اعتبرها الأمير دعمًا للسلم في أفريقيا، هذه المبادرات تؤكد أن الدوحة تجاوزت حدودها الجغرافية لتصبح فاعلًا في السلم والأمن الدوليين. وفي الملف السوري، أعرب سموه عن تفاؤل مشوب بالحذر تجاه المرحلة الجديدة التي تشهدها البلاد، داعيًا لدعمها على أساس المواطنة وسيادة القانون، أما عن لبنان، فقد أشار سموه إلى انتخاب الرئيس يوسف عون وتكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة، معتبراً ذلك بداية لاستعادة الاستقرار، مجددًا دعم قطر للجيش ومؤسسات الدولة، أما السودان، فقد حذر سمو الأمير من كارثة إنسانية غير مسبوقة، داعيًا لحوار وطني يضمن وحدة البلاد ويحقق تطلعات شعبه. اختُتم سموه الخطاب برؤية حضارية، أكد فيها أن الدوحة عاصمة عالمية للأحداث الكبرى، معلنًا عن استضافة قمة التنمية الاجتماعية الثانية في نوفمبر 2025، وتقديم ملف لاستضافة الألعاب الأولمبية 2036، إيمانًا بأن الرياضة ليست مجرد منافسة بل جسر للتواصل ومنصة للسلام، واستشهد بنجاح كأس العالم 2022 الذي أثبت قدرة قطر على جعل الرياضة ساحة للتقارب بين الشعوب. لقد كان خطاب الأمير مزيجًا من الواقعية والصلابة، من النقد الواضح للنظام الدولي ومن الطرح العملي للحلول، ومن الانفتاح على العالم مع التمسك بالثوابت، وفي زمنٍ تقاس فيه مكانة الدول بقدرتها على التأثير في صياغة المستقبل، أثبتت الدوحة أن الصوت الهادئ الواثق يمكن أن يُغيّر المعادلات ويعيد للعدالة مكانها كضرورة لبقاء النظام الدولي.
654
| 24 سبتمبر 2025
عبارة باتت تتردد على مسامعنا في كل مقطع قصير، حتى صارت أشبه بمفتاح سحري يردده اليوتيوبر أو «المؤثر» قبل أن يختفي من الشاشة، لكن خلف هذه العبارة البريئة، تختبئ قصة أخرى عن عصرٍ تحوّل فيه الإنسان من ناقل معرفة إلى باحث عن متابعين، ومن ناقشٍ للفكرة إلى صائدٍ للمتابعين. لقد أصبحنا أمام جيوش من الأشخاص المجهولين الذين يقتحمون شاشاتنا يوميًا، يقدمون نصائح في الطب، أو المال، أو التربية، أو حتى الدين، من غير أن نعرف عنهم مؤهلات أو خبرات، المهم أن يجمعوا أكبر قدر من الإعجابات، وأن تتسع دائرة المتابعين، وهنا يكمن الخطر: فالتفاهة حين تكتسب أجنحة المتابعة تتحول إلى قوة ناعمة قادرة على التأثير، بل وتوجيه السلوك والقرارات. الأدهى من ذلك، أن بعضهم يلبسون قناع الصدق وهم يفتقرون إليه، فيقسمون بالله العظيم، ويؤكدون أنهم جرّبوا هذا الدواء أو استفادوا من ذلك المنتج، فيأتي المتابع المرهف البسيط ليقول: «فلان حلف بالله إذن الأمر صحيح»، ليجد نفسه أمام إما نصائح غذائية من شخص لا يعرف أبجديات الصحة، أو توصيات دوائية من فرد لم يقرأ كتابًا في الطب، وبهذا تتحول المعلومة من وسيلة للتنوير إلى سلعة قابلة للتسويق، حتى لو كانت مشوهة أو ناقصة. الأخطر أن بعض هؤلاء لا يتورعون عن مدح أي منتج أو الترويج لأي سلعة مقابل عائد مادي، غير عابئين بنتائج ما يزرعونه من أوهام، إنهم يبيعون الوهم ملفوفًا بورق التغليف الرقمي، ولا يعنيهم أن المستهلك قد يخسر ماله أو صحته أو وقته. ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى الساحة، ازدادت اللعبة خطورة، فلم نعد متأكدين إن كان المتحدث شخصًا حقيقيًا أصلًا، فقد تُستخدم صورته وصوته بتقنيات التزييف العميق (Deepfake) ليبدو وكأنه هو من يروج للمنتج، بينما الحقيقة أن المصنع أو المروج هو من صمم الفيديو لإضفاء مصداقية مزيفة، بل رأينا مقاطع تُنسب إلى شخصيات مشهورة أو مسؤولين كبار، مع أنهم لم يُطلقوا هذه الحملات ولم يتحدثوا بها يومًا، وهنا يصبح المشاهد أمام مستوى جديد من التضليل، تضليل رقمي لا تميّزه العين ولا الأذن بسهولة. إن مسؤوليتنا كأفراد ومجتمعات أن نعيد التوازن إلى هذه المعادلة، فلا نُسلم عقولنا إلى كل من يملك كاميرا وميكروفون، المطلوب أن نتعامل بوعي مع ما يُعرض علينا، أن نسأل عن المصدر قبل أن نصدّق المعلومة، وأن ندرك أن «اللايك والسبسكرايب» قد تكون كلمات بريئة، لكنها تخفي وراءها معركة كبرى على العقول والاهتمامات. وأخيرًا – وبما أنك وصلت إلى نهاية المقال – فلا تنسَ «اللايك والسبسكرايب!»
402
| 17 سبتمبر 2025
حين ننظر إلى الدعم الغربي لذلك الكيان المحتل، ندرك أنه ليس حبًا في إسرائيل ولا إيمانًا بعدالة قضيتها، بقدر ما تمثّل خط الدفاع الأول عن مصالحهم في منطقتنا، لقد منحوها دعمًا لا محدودًا ليضمنوا أمنهم واستمرار نفوذهم، ولتحقيق أهدافهم الإستراتيجية، ومن هذا المنطلق، علينا نحن العرب أن نتعامل مع القضية الفلسطينية بالمنطق ذاته، سواء آمنا بها أم لم نؤمن، وسواء اتفقنا مع المقاومة أم اختلفنا، تبقى فلسطين خط الدفاع الأول عنا جميعًا أمام المشروع الصهيوني، دعمها وحصول شعبها على دولته المستقلة هو حماية لنا قبل أن يكون نصرة لهم، لأن هذا الكيان المغتصب لن يتوقف عند حدود فلسطين، بل سيتجاوزها إلى أراضينا إذا ما أُتيح له المجال، إنها قضية مصيرية، أحببنا المقاومة أم لم نحبها، ودعمها هو دعم لأنفسنا ومستقبل أوطاننا. إن المشهد بعد الاعتداء على قطر ليس كما قبله، فمظاهر الخلل التي كانت خافية في تحالفاتنا أصبحت اليوم خطيرة ولم يعد التهاون أو التعويل على الحماية الأجنبية مقبولاً، ومن ناحية أخرى، لم يكن الخذلان الغربي بعيدًا عن هذا المشهد، فبعض الدول التي تقدم نفسها كضامن للأمن، تركت الدول التي اشترت سلاحها بمليارات الدولارات تواجه مصيرها وحدها، هذه الحقيقة تؤكد أن الأسلحة ليست ضامنة للأمن، بل أدوات لفرض الهيمنة واستنزاف الموارد وكسب الوقت. لم تكن العربدة الإسرائيلية الأخيرة مجرد تجاوز عابر، بل إعلان صارخ بأن المواثيق الدولية لم تعد تقيدها، وأن سيادة الدول العربية والإسلامية لا تحظى بالاحترام، إن انتهاك السيادة العربية والإسلامية المتكرر كشف زيف التوازنات الإقليمية وأكد أن انتظار حماية من الخارج أو عدالة دولية ليس سوى وهم خادع. لقد أثار الاعتداء الصهيوني على قطر العديد من التساؤلات، السؤال الأول: ما مصير ملف المفاوضات؟ إن الاعتداء يضع هذه الجهود أمام اختبار قاسٍ ويهدد الثقة بجدوى المسار التفاوضي، والسؤال الثاني: هل سنعيد النظر في الأنظمة الدفاعية الغربية؟ أم سنواصل ضخ الأموال لشراء منظومات متأخرة عن الأنظمة الهجومية الإسرائيلية بجيلين على الأقل، ثم ما الرسالة التي أراد الصهاينة إيصالها إلى دول المنطقة بعد معاهدات واتفاقيات السلام؟ إن قصف منطقة سكنية مدنية في إحدى العواصم الخليجية لرسالة واضحة بمدى الاستهتار الصهيوني بنا جميعًا، سواء من انخرط في القضية الفلسطينية أو نأي بنفسه عنها، ونتساءل كذلك عن تفسير الغموض والارتباك للموقف الغربي في الدقائق الأولى من الحدث؟ ألا يثير ذلك تساؤلات حول تحالفاتنا ويستدعي استراتيجيات بديلة وشراكات جديدة؟ والسؤال الأهم هو: كيف سترد المنطقة على هذا الاعتداء؟ كيف نواجه هذا الخطر المحدق بنا ونحن كعرب نعيش تشرذمًا لم يشهده التاريخ؟ بيننا حروب طاحنة وأزمات خانقة، وتوترات حدودية، وخلافات مذهبية وعرقية، لا يأمن بعضنا بعضا، العلاقات بيننا ضعيفة إلى درجة لا يمكن الاستثمار فيها أو الاتكال عليها، كيف يمكن لاثنتين وعشرين دولة عربية، لكل منها بوصلتها الخاصة، لا تسعى إحداها إلى التكامل مع الآخر، أن تواجه الخطر الداهم؟ إن جميع الأدوات السياسية والدبلوماسية، الدفاعية، الاقتصادية، والإعلامية متاحة، لكن تبقى الإرادة الموحّدة هي الفيصل. يا قادة أمتنا، إن هذا الكيان المارق الجاثم على أرض فلسطين المحتلة، لا يعبأ بمواقفكم المنددة، ولا ينتظر بياناتكم الشاجبة، فهو لا يفرق بين من جعل القضية الفلسطينية قضيته المركزية ودافع عنها بكل قوة، وبين من اكتفى بالصمت أو التفرج، سيعمل هذا الكيان جاهدًا، وبدعم غربي سافر، على فرض هيمنته، غير مكترث بمعاهدات السلام المزعوم، حينها لن يعبأ بديانتكم أو طوائفكم أو أعراقكم، ولن يميز بين مسلم أو مسيحي عربي، ولا بين سني وشيعي، ولن تعصمكم المسافات ولا التحالفات. إن الاستيلاء على الأراضي العربية ليس مخططا سياسيا قابلا للمراجعة بل عقيدة راسخة مستمدة من تعاليم توراتية كما جاء في سفر (التثنية الإصحاح 11) يقول «كُلُّ مَكَانٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ يَكُونُ لَكُمْ»، لذا فهم يستدرجون ضحاياهم إلى معاهدات فارغة المضمون لتكون فيما بعد وسيلة للهيمنة والاستغلال وسلب الإرادة والسيادة. أيها القادة، بدلًا من الاستمرار في هدر الثروات على أسلحة دفاعية ليس بإمكانها مواجهة العدو المحتمل في المنطقة، حان الوقت لتوجيه هذه الأموال لترميم الوحدة العربية وبناء منظومة حماية ذاتية، والبحث عن شراكات جديدة، فالمليارات التي تُهدر في أسواق الغرب يمكن أن تبني جسور الثقة بين العواصم العربية، وتعيد للقضية الفلسطينية مكانتها في قلب المشروع العربي. نحن بحاجة ماسة أولًا لإعادة هيكلة منظماتنا العربية والإسلامية، ووضعها في المسار الصحيح، بحاجة لضخ دماء جديدة من شباب هذه الأمة، علينا أن نجعلها أكثر ديناميكية وكفاءة، أكثر فاعلية ومبادرة، وأكثر تأثيرًا في الساحة الدولية، وبحاجة أيضًا لأن نتبنى إستراتيجية «الضغط السلبي»، ومن أدواتها التكتل الجيوسياسي، والاقتصادي، وتبني مواقف موحدة، وتشكيل جبهة دفاع مشتركة لا تسمح بانتهاك سيادة أي دولة عربية، لا في أراضيها ولا أجوائها ولا بحارها، وأن الأموال التي تُهدر اليوم على شراء السلاح وأنظمة الدفاع من الغرب تُصرف على هذا المشروع، فهو وحده القادر على تحييد المعتدي وبناء حماية حقيقية وكرامة مستدامة للأمة.
747
| 14 سبتمبر 2025
مساحة إعلانية
بات الذكاء الاصطناعي اليوم واقعاً لا يمكن تجاهله...
2607
| 30 نوفمبر 2025
في الساعات المبكرة من صباح السبت، ومع أول...
2469
| 05 ديسمبر 2025
فجعت محافل العلم والتعليم في بلاد الحرمين الشريفين...
1581
| 04 ديسمبر 2025
في كل يوم، ينظر الإنسان إلى ما ينقصه...
1548
| 02 ديسمبر 2025
ساعات قليلة تفصلنا عن لحظة الانطلاق المنتظرة لبطولة...
1185
| 01 ديسمبر 2025
تتجه أنظار الجماهير القطرية والعربية إلى استاد خليفة...
1152
| 04 ديسمبر 2025
مواجهات مثيرة تنطلق اليوم ضمن منافسات كأس العرب،...
1143
| 03 ديسمبر 2025
لم يدخل المنتخب الفلسطيني الميدان كفريق عابر، بل...
945
| 06 ديسمبر 2025
لم تعد الدوحة مجرد مدينة عربية عادية، بل...
798
| 03 ديسمبر 2025
أحياناً نمر بأسابيع تبدو عادية جداً، نكرر فيها...
627
| 05 ديسمبر 2025
يحكي العالم الموسوعي عبد الوهاب المسيري في أحد...
618
| 30 نوفمبر 2025
في مايو 2025، قام البابا ليو الرابع عشر،...
543
| 01 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تابع الأخبار المحلية والعالمية من خلال تطبيقات الجوال المتاحة على متجر جوجل ومتجر آبل