رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

الحاجة إلى نظام أمني جديد في الشرق الأوسط

لم يعرف الشرق الأوسط الاستقرار منذ مائة عام، فقد كان مسرحًا لمقاومة الاستعمار وحركات الاستقلال، وللانقلابات العسكرية، والحروب الداخلية والخارجية، والأزمات، وموجات النزوح، فضلًا عن التدخلات الأجنبية. ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، شكَّلت هجمات 11 سبتمبر منعطفًا جديدًا في مسار المنطقة، غير أنّ غزو كلٍّ من أفغانستان والعراق لم يؤدِّ إلى تحقيق الاستقرار المنشود، بل فشل وزاد من حدّة الاضطرابات وعدم الاستقرار. منذ اندلاع ما عُرف بـ «الربيع العربي» في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، دخلت شعوب الشرق الأوسط مرحلة جديدة من الأزمات المتلاحقة، تجسدت في الحروب الأهلية والانقلابات وموجات النزوح الواسعة، إضافة إلى ظهور تنظيم داعش الذي مثّل كارثة عابرة للحدود. وقد شكّلت الصراعات في سوريا واليمن وليبيا أكثر المحطات دموية ودمارًا، حيث عمّقت الانقسامات المذهبية وأضعفت المجتمعات. استغلت إسرائيل ضعف المنطقة وانقسامها، مستخدمة هجمات 7 أكتوبر 2023 ذريعة لشن حرب على فلسطين، حيث كثفت الضغوط والحصار على السكان. ومع توسع المستوطنات، حاولت أيضًا تفريغ القدس وغزة من سكانهما. وقد استغل نتنياهو، مستفيدًا من عجز دول المنطقة والمجتمع الدولي حيال غزة، الفرصة للترويج لمشاريعه في الشرق الأوسط وإسرائيل الكبرى. وفي سبيل ذلك، شنت إسرائيل هجمات امتدت من سوريا إلى اليمن، ومن تونس إلى قطر، بذريعة مواجهة حماس، كما وجّه تهديداته إلى تركيا.البنية الأمنية الحالية في الشرق الأوسط غير كافية للتعامل مع التعقيدات الأمنية التي تواجه المنطقة، ولا سيما لمواجهة العدوان الإسرائيلي. إذ تستمر إسرائيل في قصف سوريا رغم أنها لا تشكل تهديدًا لها، وفي الآونة الأخيرة شنت هجومًا على قطر، التي كانت وسيطًا في النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي. (وقبل ذلك، كان هجوم إيران على قطر بذريعة استهداف الولايات المتحدة يُعد سابقة سيئة وأثار قلقًا بالغًا). ومن المقلق أيضًا محاولات جر منطقة الخليج، التي حافظت على قدر كبير من الاستقرار حتى الآن، إلى دائرة النزاع. يتضح اليوم أن البنية الأمنية القائمة في المنطقة، وخاصة المدعومة من الولايات المتحدة، لم تعد فعّالة لإيقاف العدوان الإسرائيلي المتصاعد. إذ لم تتمكن الولايات المتحدة سابقًا من منع الهجمات على أرامكو السعودية كما فشلت في التصدي للهجمات التي تعرّضت لها قطر من كلٍّ من إيران وإسرائيل، مما أثار جدلًا حول فعالية النظام الأمني الذي تقوده الولايات المتحدة. فالمواثيق التقليدية التي تمتد من التحالفات العسكرية الثنائية إلى الائتلافات المؤقتة لا توفر استقرارًا دائمًا في المنطقة. هناك حاجة لإنشاء «ناتو إسلامي» في الشرق الأوسط، يمتد من سوريا إلى السودان، ومن شمال أفريقيا إلى الخليج لضمان الأمن والاستقرار في المنطقة. من الممكن أن تشارك فيه أيضًا باكستان وماليزيا ودول آسيا الوسطى. على سبيل المثال، تركيا لا تثق بحلف شمال الأطلسي الغربي بشكل كامل، ويمكنها الانضمام إلى الناتو الإسلامي أيضا. يهدف «الناتو الإسلامي» إلى تقليل التوترات والصراعات الداخلية بين أعضائه، وفي الوقت نفسه البحث عن حلول مشتركة لمواجهة الهجمات الخارجية. وفي الواقع، تكمن خلف الجرأة والعدوانية الإسرائيلية الحالية ضعف الدول الإقليمية نتيجة صراعاتها الداخلية والخارجية. تستدعي الحاجة وجود مؤسسة نشطة تعمل على نزع سلاح الفاعلين غير الحكوميين والجماعات المسلحة بالوكالة والتدخل المباشر لمعالجة الأزمات الإنسانية. في القرن الحادي والعشرين، لم يعد مفهوم الأمن يقتصر على الاهتمامات العسكرية التقليدية، بل يشمل مواجهة تحديات مثل التغير المناخي، ونقص المياه، والأوبئة، والتهديدات السيبرانية، مع توحيد جهود المجتمع المدني والقطاع الخاص والمنظمات الدولية. فإن تنفيذ مشاريع تنموية جادة وتعزيز رؤية التعاون الاقتصادي الجنوب-جنوب يساهم في تقليل المخاطر الأمنية وتعزيز الاستقرار الإقليمي. يمكن البدء بإنشاء منتدى أمني إقليمي للشرق الأوسط على غرار منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، لتسهيل الحوار وتبادل المعلومات والعمل المشترك حول القضايا العاجلة. لن يحل هذا المنتدى محل التحالفات القائمة، لكنه يوفر مساحة للشفافية وبناء الثقة وحل النزاعات بشكل سلمي. ورغم أن تدخل القوى الخارجية والتنافس الداخلي قد يعقّدان المهمة، فإن مشاركة عدد كافٍ من الدول الإقليمية يكفي لنجاح المبادرة، حيث ظهرت في المنطقة إرادة قادرة على ضمان الأمن الذاتي اليوم.

558

| 15 سبتمبر 2025

التضامن مع قطر مسؤولية عربية وإسلامية مشتركة

شنت إسرائيل أمس الأول عدوانًا على عاصمة قطر، الدولة التي لطالما اضطلعت بدور بارز في مساعي إحلال السلام ووساطتها في العديد من المبادرات، كما حدث في حرب غزة. ورغم تبرير إسرائيل بأن الهجوم استهدف قيادات من حماس وتجنبها ذكر قطر في بيانها الرسمي، فإن فداحة هذا الاعتداء غير المشروع وما يمثله من خرق سافر للقانون الدولي تبقى جلية لا يمكن إخفاؤها. وقد وقع الهجوم في منطقة سكنية مكتظة، ما أسفر عن تضرر المدنيين واستشهاد أحد أفراد الأمن القطري. بفضل التدابير التي اتخذتها قطر، فشلت إسرائيل في بلوغ هدفها المتمثل في تصفية قادة حماس. وقد قوبل هذا العدوان بردود فعل واسعة وحادة على الصعيد الدولي. إن استهداف قطر، الدولة المستقلة التي تبذل جهودًا مخلصة لترسيخ الاستقرار وتحقيق السلام في المنطقة، يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، واعتداءً مباشرًا على السلام الإقليمي والعالمي. فإقدام إسرائيل على مهاجمة حماس، وهي الطرف الذي تجلس معه إلى طاولة المفاوضات، واستهداف الوسيط في آن واحد، يعد برهانًا جليًا على رفضها لمسار السلام سواء في فلسطين أو في المنطقة بأسرها. تشعر إسرائيل بانزعاج واضح من الدور الدبلوماسي الذي تضطلع به قطر في دعم السلام والاستقرار إقليميًا ودوليًا، ومن استمرارها في فضح جرائم الإبادة في غزة ونقل حقيقتها إلى العالم عبر وسائل إعلامها. فدولة قطر تكرّس جهودها لخدمة حق الشعوب جميعًا في الوصول إلى المعلومة. والحقيقة أن إسرائيل تنظر بعين الريبة إلى أي تطور إيجابي في المنطقة، ويتجلى ذلك في استمرار اعتداءاتها حتى على الحكومة السورية الجديدة التي لا تشكل تهديدًا لها مطلقًا. منذ نحو شهر، أعلن نتنياهو عن مشروع «إسرائيل الكبرى»، كاشفًا بذلك عن نواياه التوسعية في المنطقة. واليوم يسعى إلى تصعيد التوترات ونقلها من المجموعات التي يصفها بالعدو إلى دول أخرى، ليصبح المستهدف من عدوانه ليس قطر وحدها بل المنطقة بأسرها. وفي صباح اليوم ذاته، اعتدى أيضًا على «أسطول الصمود» الذي كان يستعد للإبحار من تونس دعمًا لغزة. ورغم محاولته التنصل من المسؤولية عن هذا الهجوم، فإن خرقه لسيادة دولة مستقلة يظل حقيقة واضحة لا يمكن إخفاؤها. يُعدّ العدوان الإسرائيلي على قطر منعطفًا خطيرًا في نهجها التصعيدي، إذ يكشف أن كل طرف يسعى لتحقيق السلام في المنطقة قد يكون عرضة للاستهداف. ولم تَعُد إسرائيل تقتصر في اعتداءاتها على الدول التي تصفها بأنها داعمة للمقاومة الفلسطينية كإيران ولبنان وسوريا واليمن، بل أوضحت من خلال هذا الهجوم أنها قد تطول أيضًا الدول التي تضطلع بدور الوساطة مثل قطر ومصر. أمام هذا التطور العدواني، أعلنت تركيا والدول العربية تضامنها الكامل مع قطر وأدانت الهجوم بأشد العبارات. ومن المهم أن يصدر رد فعل إقليمي ودولي حازم لردع مثل هذه الاعتداءات التعسفية ومنع تكرارها ضد أي طرف آخر. وكما وقفت الدول العربية، فإن الشعب التركي وقيادته يقفون بكل إخلاص إلى جانب قطر، ويؤكدون استعدادهم للدفاع عن حقوقها بكل قوة. حفاظًا على أمن المنطقة واستقرارها، بات من الضروري أن تبادر الدول العربية والإسلامية إلى عقد اجتماع عاجل لإدانة العدوان الإسرائيلي واتخاذ خطوات عملية تحول دون تكرار مثل هذه الانتهاكات .

867

| 11 سبتمبر 2025

إسراف العقول في الدول الإسلامية

تشير التقارير الدولية إلى أنّ نصف أفراد إحدى الجاليات العربية في الولايات المتحدة ينتمون إلى فئة الكفاءات المتعلمة وأصحاب المهن المتخصصة، كما يعمل نصف الأطباء النيجيريين خارج بلادهم، بينما يتمتع نصف الباكستانيين المقيمين في الولايات المتحدة بمستوى تعليمي جامعي على الأقل. ويكشف هذا الواقع عن أنّ معظم الدول الإسلامية تواجه صعوبة في الحد من هجرة العقول والخبرات إلى الخارج. ومع ذلك، ورغم تأخرها في مؤشرات التنمية، فإن هذه الدول ليست عاجزة عن تكوين العلماء والمتخصصين. والدليل على ذلك أن عددًا من العلماء المسلمين حازوا جائزة نوبل في المجالات العلمية، مثل محمد عبد السلام، أحمد زويل، عزيز سنجار، ومنجي بواندي، وهم من أصول باكستانية، تركية، مصرية وتونسية، وقد أكمل اثنان منهم دراساتهما الجامعية في أوطانهما. وقد نال أدباء من تركيا ومصر وتنزانيا أيضًا جائزة نوبل في مجال الأدب، مما يدل على أنّ مؤسساتنا التعليمية، رغم ما تعانيه من قصور، قادرة على تخريج علماء ومبدعين بمستوى عالمي. وبالتالي، فإن المشكلة الحقيقية لا تتمثل في ضعف القدرة على تكوين الكفاءات، بل في عدم استثمارها بالشكل الكافي أو في فقدانها. فكثير من الدول الإسلامية تنفق جهودًا وموارد كبيرة لتأهيل الكفاءات المهنية، لكنها تفشل في الحفاظ عليها، الأمر الذي يدفع الكثير من أصحاب المواهب إلى الهجرة بحثًا عن فرص أفضل في الخارج. ومع اتساع هذه الظاهرة، أصبحت تشكل عقبة جدية أمام مساعي التنمية في تلك الدول. يعاني خريجو الجامعات في الدول الإسلامية من البطالة وتدني الرواتب، مما يدفع الكثير منهم إلى البحث عن حياة كريمة لهم ولأسرهم خارج أوطانهم. ونظرًا لضعف مستوى التصنيع في هذه الدول، فإن عددًا كبيرًا من المهندسين لا يجدون فرصًا لتطبيق معارفهم، فيضطر بعضهم للعمل في وظائف مكتبية لا تتناسب مع مؤهلاتهم، بينما يتجه آخرون إلى الهجرة بحثًا عن فرص أفضل. فعلى سبيل المثال، رغم وجود أقسام للهندسة الفضائية في معظم الدول الإسلامية، إلا أن الدول التي تمتلك برامج فضائية متقدمة قليلة جدًا. وبالمثل، نجد أن أقسام هندسة الحاسوب متوفرة في كل مكان، غير أن عدد الدول التي تقوم فعلًا بتصنيع الحواسيب محدود للغاية. العلماء والمهنيون الذين لا يجدون فرصًا لممارسة مهنتهم في بلادهم يضطرون للبحث عن عمل خارجها، غالبًا في الدول الغربية. وتحتاج الدول الإسلامية إلى مثل هذه العقول والمواهب لتعزيز التنمية وتحقيق الازدهار. إلا أن الدول الفقيرة التي استثمرت في إعداد هؤلاء الشباب ترى ثمار هذا الاستثمار تُجنى من قبل الآخرين. فالدول المصدّرة تتحمل تكاليف الاستثمار وفي الوقت نفسه تفقد عوائدها، مما يعني أنها تخسر مرتين. تواجه الدول الإسلامية صعوبة كبيرة في الاحتفاظ بالأساتذة والخبراء المتخصصين. ونتيجة لذلك، تتراجع المشاريع البحثية ومخرجاتها، ويتأثر إعداد الأجيال الجديدة سلبًا. عندما يشاهد الطلاب أمثلة ضعيفة أو يقتنعون بأن النجاح يتطلب مغادرة وطنهم، يقلّ لديهم الدافع لممارسة البحث العلمي داخليًا. وينطبق الأمر نفسه على المجال الثقافي، حيث تُعد هجرة الفنانين والمفكرين المبدعين خسارة كبيرة للدولة. إن هجرة رأس المال الفكري تُضعف أيضًا روح الابتكار والأفكار الجديدة. بهذا الشكل، تصبح هجرة الأدمغة جزءًا من حلقة التخلف المستمرة، فقلة الفرص تدفع إلى الهجرة، والهجرة بدورها تقلّص الفرص المتاحة لمن يبقون في البلاد. أما الدول الغربية المتقدمة، فهي لا ترغب في استقبال العمالة غير الماهرة داخل بلادها، لكنها تُظهر مرونة كبيرة في استقطاب الكفاءات المتميزة. فهذه الدول، التي تستثمر بالفعل في التعليم والبحث العلمي، تعزز ثروتها عبر جذب العقول المتميزة من الخارج دون أن تتحمل أي تكلفة في إعدادهم. بالإضافة إلى ذلك، توفر الدول المتقدمة حوافز اقتصادية جذابة وبيئة حرة، إلى جانب المنح الدراسية، وتشجيع الهجرة، والمشاريع البحثية، وبطاقات الإقامة الدائمة، لتوظيف هؤلاء المهنيين المؤهلين في مراكز البحث والجامعات. ومن الطبيعي أن تسعى هذه الدول للاستفادة من هذا الميزة، كما تحاول دول أخرى القيام بالمثل. كحل لهذه المشكلة، يجب على الدول الإسلامية القيام بإصلاحات شاملة لتعزيز قدراتها العلمية وتشجيع الكفاءات الموهوبة على البقاء وعدم الهجرة. ويشمل ذلك توفير بيئات تعليمية أكثر حرية وإبداعًا، والاستثمار في بنية البحث والابتكار، وتطبيق أساليب إدارة مهنية وعمليات توظيف قائمة على الكفاءة والاستحقاق. وعلى الرغم من أن تركيا وقطر وبعض الدول الأخرى حققت نجاحًا نسبيًا من خلال هذه السياسات التحفيزية، إلا أن معظم الدول الإسلامية لم تتمكن بعد من الحد من هجرة العقول. وفي عصر تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي، يجب اعتبار العقول الماهرة مورداً ثمينًا، لا سلعة تُهدر، لضمان البقاء في طليعة السباق العلمي.

381

| 08 سبتمبر 2025

هل يحتاج العالم العربي إلى تركيا؟

في المقال السابق أشرنا إلى حاجة تركيا للعالم العربي، أما في هذا المقال فسنستعرض التاريخ المشترك بين العرب والترك وأهمية دور تركيا الاستراتيجي في المنطقة. فقد شكل دخول الأتراك في الإسلام قبل اثني عشر قرنًا إضافة قوية للأمة الإسلامية، حيث ساهمت الدولة السلجوقية في ترسيخ الإسلام السني في عهد العباسيين، وتمكن المماليك من صد المغول في المشرق العربي، فيما نشر العثمانيون الإسلام في الأناضول والبلقان وحافظوا على شمال إفريقيا والجزيرة العربية من السيطرة الاستعمارية الغربية لقرون طويلة، ما أدى إلى نشوء روابط متينة بين العرب والترك سياسيًا، واجتماعيًا، وثقافيًا، واقتصاديًا. وعلى مدى أكثر من ألف عام، أصبح العرب والترك قريبين ثقافيًا واجتماعيًا، حتى بدت الجزيرة العربية والأناضول كامتداد جغرافي واحد. واليوم، تُعدّ تركيا جسرًا استراتيجيًا يربط العالم العربي بالقارة الأوروبية ويشكل حلقة وصل بين البحر المتوسط والبحر الأسود، ويكتسب التعاون بين الشعبين أهمية بالغة في ظل التحولات العالمية، مستفيدة من حدودها البرية مع سوريا والعراق وجوارها البحري مع الدول العربية، لتلعب دورًا فاعلًا وبنّاءً في استقرار المنطقة وحل أزماتها بدلًا من تعميق الصراعات. منذ زمن بعيد حرصت الدول العربية على نيل دعم تركيا للقضية الفلسطينية، وقد بدا غياب هذا الدعم في المراحل الأولى جليًا وملحوظًا. غير أن تركيا اليوم تبدي مواقف فاعلة ونشطة، تتجاوز في بعض الأحيان مواقف بعض الدول العربية نفسها، خصوصًا فيما يتعلق بفلسطين وقطاع غزة. ويُعد انزعاج حكومة نتنياهو من موقف أنقرة تجاه غزة ودورها في الملف السوري شاهدًا واضحًا على ذلك. وعلى عكس غالبية دول العالم، لم تتخلَّ تركيا عن المطالب المشروعة للشعب السوري، بل وقفت إلى جانبه، متحملة أعباء سياسية جسيمة، وأصبحت الدولة الأكثر استقبالًا للاجئين السوريين. ولا يزال دعمها وتعاونها في الملف السوري حتى اليوم يشكل عنصرًا حاسمًا لا غنى عنه. سعت تركيا إلى تعزيز تعاونها مع دول الخليج، ولا سيما قطر والمملكة العربية السعودية، في الملف السوري، حيث أسهمت في دعم الاعتراف بالحكومة الجديدة والمساعدة على رفع العقوبات المفروضة عليها، كما برزت شريكًا فاعلًا في جهود إعادة إعمار سوريا. ومن خلال مواقفها السابقة ودعمها الراهن، ساهمت تركيا في منع تقسيم البلاد. وعلى المنوال ذاته، عارضت الاستفتاء على استقلال شمال العراق، فكان لها دور مهم في الحفاظ على وحدة العراق، إلى جانب مساهمتها في تخفيف حدة التوترات الطائفية. وفي المرحلة الراهنة، تدعم تركيا مشروع طريق التنمية في العراق، بما يتيح ربط دول الخليج بأوروبا ويعزز مكانتها الإقليمية والدولية. * تُعد تركيا شريكًا اقتصاديًا مهمًا للدول العربية، وقد شهد حجم التبادل التجاري بين الطرفين في السنوات الأخيرة زيادة كبيرة؛ فبينما كان في منتصف العقد الأول من الألفية حوالي 7 مليارات دولار، اقترب اليوم من 55 مليار دولار. وتمثل تركيا بالنسبة للنفط والغاز الطبيعي العربيين سوقًا مهمًا من جهة، وممرًا آمنًا لنقلهما من جهة أخرى. كما تنفذ الشركات التركية مشروعات كبرى في مناقصات البنية التحتية بالعديد من الدول العربية. وبفضل اقتصادها المستقر والمتنامي باستمرار، تُعد تركيا سوقًا جاذبة للاستثمارات العربية، وتسعى بنشاط إلى استقطاب المزيد منها. وفي المقابل، لتركيا أيضًا استثمارات صناعية وتجارية في الدول العربية، فعلى سبيل المثال بلغت استثمارات الشركات التركية في الجزائر 6 مليارات دولار، أما في العراق فهي تزيد عن ذلك بأربع إلى خمس مرات. لأجل الأمن الإقليمي، تحتاج الدول العربية إلى تركيا. فتركيا تلعب دورًا مهمًا في المنطقة من خلال الحفاظ على حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية أو إشراك وكلائها في الشؤون الداخلية، بالإضافة إلى التعاون في مجالات مثل مكافحة الإرهاب والتهريب والصراعات العرقية. كما أن الجيش التركي القوي وصناعاته العسكرية أصبحا عنصرين مهمين للمنطقة. تستمر الشراكات العسكرية والتعاون الدفاعي مع دول مثل قطر وليبيا في التوسع. كما أن تقدم تركيا في تكنولوجيا الطائرات المسيرة المسلحة يتيح لها إيجاد شركاء في البيع والإنتاج في العديد من الدول العربية. مثلا، سيبدأ الإنتاج للمسيرة بيرقدار آقنيجى في السعودية قريبا. وبالتعاون مع قطر، تدعم تركيا الوساطة في حل الأزمات الإقليمية. أما بالنسبة للسياحة، فيزور ملايين السياح العرب تركيا سنويًا بفضل ضيافتها وغناها الثقافي وقربها الجغرافي. تساهم هذه الزيارات في تعزيز الروابط بين الشعوب وتقويتها. من جهة أخرى، تُعد تركيا مصدرًا مهمًا للأمن الغذائي للدول العربية. كما تدعم تركيا تعليم الأطفال وتنميتهم من خلال وكالتها للتعاون والتنسيق الدولي (TİKA)، والمنح الدراسية، ومدارس المعارف. وتخلق المسلسلات التركية اهتمامًا كبيرًا بين الجمهور العربي وتُسهم في تعزيز التقارب الثقافي. في القرن الجديد، وجدت الدول العربية تركيا قوية ومستقرة كشريك مهم لاستقرارها وتنميتها، وستستمر في اعتبارها كذلك.

726

| 01 سبتمبر 2025

هل تحتاج تركيا إلى العالم العربي؟

الأتراك والعرب شعبان مسلمان مهمان في الشرق الأوسط. لعب العرب دورًا رئيسيًا في ظهور الإسلام وانتشاره في تاريخه المبكر. ومع ذلك، برز الأتراك في أوائل الألفية الثانية الميلادية ولعبوا دورًا في انتشار وتقوية الإسلام (وخاصة الإسلام السني). من الدولة السلجوقية، التي دعمت الخلافة العباسية، إلى المماليك والعثمانيين، استمر اتحاد سياسي طويل وقوي بين الشعبين. خلال هذه الفترة، تشكلت روابط تاريخية وثقافية مهمة بينهما، وتم تحقيق الوحدة الدينية والتشابه اللغوي. وكما يوجد العديد من المواطنين من أصل عربي في تركيا، يوجد أيضًا العديد من الأشخاص من أصل تركي في الدول العربية. بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، اتجهت النخب التركية نحو الغرب، بينما سعت الشعوب العربية إلى التحرر من الاستعمار الغربي. بدأت تركيا تدرك أهمية الشرق الأوسط بشكل أفضل مع فرض العقوبات الغربية (بسبب عملية قبرص) وأزمة النفط على العالم. أدركت تركيا أن الغرب لم يعد ذا فائدة تُذكر لها خلال كلتا الأزمتين. علاوة على ذلك، فإن أقرب جيران تركيا جغرافيًا هم الدول العربية، ويتطلب الوصول إلى الشرق والجنوب المرور عبر المنطقة. في الواقع، كلا الجانبين بحاجة ماسة إلى بعضهما البعض، ولكن في هذا المقال، سنتناول هذه القضية من منظور تركي. يُعدّ العالم العربي محوريًا للتنمية الاقتصادية والاستقرار في تركيا، فهو مصدرٌ مهمٌّ للطاقة وتدفق رؤوس الأموال، بالإضافة إلى كونه سوقًا رئيسية. تستورد تركيا حوالي 12% من وارداتها من الغاز الطبيعي من الدول العربية، ونصف وارداتها من النفط من هذه المنطقة، يتجاوز حجم الاستثمارات العربية في تركيا 10 مليارات دولار، وتستثمر تركيا، بدورها، أكثر من ملياري دولار في الدول العربية. كما تُعدّ الدول العربية أسواقًا مهمةً للصادرات التركية، لا سيما في قطاعات البناء والمنسوجات والأغذية والمعدات التقنية والسياحة. تحتاج تركيا إلى علاقات جيدة مع العالم العربي للحفاظ على أمنها الداخلي والخارجي، للجماعات الكردية والعلوية والمسيحية الموجودة في تركيا حضورٌ قويٌّ في دول أخرى بالشرق الأوسط، كما أن وضعهم الخارجي يؤثر على الوضع الداخلي. فعلى سبيل المثال، بينما تُحاول تركيا حلّ القضية الكردية داخليًا، فإن إيواء أو تشجيع الإرهابيين في الخارج (مثل قسد في سوريا) له عواقب وخيمة. علاوةً على ذلك، فإن تدفق اللاجئين من الشرق الأوسط، وانتشار الإرهاب، والأفكار المتطرفة، يتطلبان اهتمامًا بالغًا. يؤثر استقرار العالم العربي، بشكل عام، على استقرار تركيا كدولة صناعية وتجارية وسياحية. وقد أثرت الحرب الإيرانية العراقية، والحصار الأمريكي على العراق، والحرب الأهلية السورية، والفوضى الإقليمية سلبًا على الاقتصاد التركي وحتى السياسة التركية. واضطرت تركيا إلى مواجهة ملايين اللاجئين، وإرهاب داعش، والهجرة غير الشرعية. وفي الوقت نفسه، تُلحق الاضطرابات والحروب الإقليمية، كتلك الدائرة في غزة وأوكرانيا، ضررًا أكبر من نفعها بالنسبة لتركيا. وتسعى تركيا، التي تكتسب قوة عسكرية، جاهدةً للحفاظ على الاستقرار الإقليمي من خلال تعزيز التعاون الأمني مع الدول العربية الأخرى. كان التعاون بين العراق وسوريا قيّمًا في ظل سعي تركيا إلى حل قضية حزب العمال الكردستاني. وبالمثل، لعبت تركيا دورًا هامًا في منع الساعين إلى تقسيم سوريا (مثل قوات سوريا الديمقراطية والعلويين) من تحقيق أهدافهم. من الأمثلة الرئيسية على قلق تركيا بشأن الأحداث التي تتكشف في جيرانها المباشرين سوريا، التي تشترك معها في أطول حدود. وبينما كان نظام الأسد حليفًا لإيران، فقد دعم زعيم حزب العمال الكردستاني أوجلان وظل لاحقًا غير ودي تجاه تركيا. وخلال الثورة السورية، سلم نظام الأسد المناطق الشمالية لعدو تركيا، حزب العمال الكردستاني، مما مهد الطريق لوصول داعش، والأهم من ذلك، تحويل الشعب السوري إلى لاجئين. وقد أثر هذا سلبًا على تركيا في العديد من المجالات، من الصادرات إلى السياحة، حيث أدى إلى إفقار تركيا بشكل كبير على مدى العقد الماضي. باختصار، ستظل الدول العربية، من الخليج إلى دول شمال أفريقيا الأخرى، مهمة بالنسبة لتركيا من الناحية الاقتصادية والأمنية والسياسية والثقافية.

681

| 25 أغسطس 2025

المخرج الأخير قبل النفق المظلم في غزة

نعيش اليوم المرحلة الأخيرة والأكثر خطورة في أزمة غزة، حيث باتت الأوضاع على مفترق طرق: إما أن تشهد تحسنًا أو انهيارا كاملا. فقد أصبح الحصار، والجوع، وانتشار الأمراض، إلى جانب الهجمات الإسرائيلية، واقعًا لا يُطاق لسكان القطاع. وفي الأسبوع الماضي، اتخذ «مجلس الأمن الإسرائيلي» – في خطوة يصفها كثيرون بالإبادة الجماعية الخطيرة – قرارًا بإعادة احتلال غزة. لتنفيذ مخطط الإبادة يطمح نتنياهو إلى إنهاء المقاومة في غزة تمهيدًا لإقامة شرق أوسط جديد تكون فيه إسرائيل المحور الرئيس. واليوم، يسيطر الاحتلال على ثلاثة أرباع القطاع، ويخطط لنشر السيطرة على الربع الأخير، حيث يقطن أكثر من مليون ونصف إنسان. أثار قرار إسرائيل موجة واسعة من الغضب على الصعيدين الداخلي والخارجي. في الداخل، رفض كل من رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، ووزير الدفاع، ورئيس الأركان العامة هذا القرار، واعتبروه خطة تطهير عرقي قد تتسبب في مقتل الرهائن. كما يواصل أقارب الأسرى الإسرائيليين والمعارضون للحرب تنظيم مظاهرات حاشدة. أما خارجيًا، فقد تصاعدت الانتقادات والضغوط على إسرائيل، إذ أدان حلفاؤها الغربيون – ومن بينهم ألمانيا – هذه الخطوة منذ فترة، فيما أقدمت برلين على تعليق اتفاقيات السلاح لمنع استخدامها في غزة. في الولايات المتحدة، حتى تتصاعد ردود الفعل الموالية لإسرائيل بشكل مستمر، وقد بدأت هذه المواقف تظهر حتى داخل حزب ترامب نفسه. على الصعيد العالمي، تتزايد الانتقادات تجاه إسرائيل ومواطنيها. كانت العديد من الدول الأوروبية قد اعترفت بدولة فلسطين سابقًا، لكن في الأسابيع الأخيرة أعلنت دول كبرى مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، بالإضافة إلى كندا وأستراليا، نيتها الاعتراف بدولة فلسطين. ورغم أن هذا القرار لن يحدث تغييرًا فوريًا في الوضع في غزة، إلا أنه سيحمل تأثيرات قانونية ونفسية كبيرة، والاعتراف بدولة فلسطين يعد أمرًا ترفضه حكومة نتنياهو بشدة. في ظل هذه التطورات، يصبح من الضروري التمسك بالأمل وعدم الاستسلام، مع تكثيف الجهود الدبلوماسية، والقانونية والاقتصادية والإعلامية. وبسبب تصاعد الضغوط الدولية والدبلوماسية، بدأ نتنياهو – ولو بشكل محدود – يسمح ببعض المساعدات الإنسانية. إسرائيل تولي أهمية كبيرة للتأييد العسكري والاقتصادي والدبلوماسي والقانوني الذي تحصل عليه من الغرب، ولذلك تأخذ ردود الفعل هناك بجدية بالغة. ومع ازدياد الضغوط، قد يخفف الحصار أو يلغيه، لذا من الضروري رفع مستوى الضغط في جميع المجالات بشكل كبير. رغم ذلك، يضطر نتنياهو وترامب، الداعم له، إلى أخذ ضغوط الرأي العام بعين الاعتبار. وبسبب هذه الضغوط، مارس ترامب ضغوطًا على نتنياهو الذي كان يصرّ على أن «أطفال غزة لا يموتون جوعًا»، فسمح بدخول بعض المساعدات الإنسانية. تقوم إسرائيل بقتل الصحفيين في غزة لمنع كشف الإبادة الجماعية للعالم. وبفضل جهود مراسلي قناة الجزيرة وقنوات أخرى، تُعرض مأساة غزة على الساحة الدولية. مع تصاعد الضغوط، تزداد عزلة إسرائيل دبلوماسياً ونفسياً، ويواجه حلفاؤها صعوبات متزايدة. وحتى الآن، لم يتمكن نتنياهو من زيارة أي عاصمة سوى واشنطن وبودابست. في هذه المرحلة الحساسة، بدلاً من اليأس والاستسلام، ينبغي علينا تكثيف الضغط على إسرائيل في كل المجالات. يجب أن نستمر في معاقبة الشركات التي تدعم إسرائيل، خاصة عبر حملات المقاطعة. كما أن تنظيم التظاهرات، وتعزيز التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، والحفاظ على قضية غزة في صدارة الاهتمام، أمور في غاية الأهمية. تحاول إسرائيل الحصول على الدعم الاقتصادي والدبلوماسي من الغرب عبر استعراض مظلومية مزيفة، ولكن مع تلاشي هذه الصورة من خلال الحملات الإعلامية، ينهار مخططها. ورغم مظهر عدم الاهتمام، إلا أن ترامب، الطامح لنيل جائزة نوبل، سيأخذ هذا الملف بعين الاعتبار مهما كانت الظروف. تقع المسؤولية الكبرى على عاتق الدول الإسلامية، حيث يجب على منظمة التعاون الإسلامي أن تعقد اجتماعًا عاجلًا بجدول أعمال واضح وتتخذ موقفًا موحدًا وحازمًا إزاء الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل. كما ينبغي كشف الدول التي تمتنع عن تقديم الدعم وإحراجها أمام شعوبها والمجتمع الدولي. وستكون الدول الإسلامية أكثر تأثيرًا وقوة إذا تجاوزت التردد في العمل منفردةً وتبنت قرارات بالإجماع أو بأغلبية لفرض عقوبات صارمة. مع تصاعد الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية على إسرائيل من كل الأطراف، ستجد الأخيرة نفسها مضطرة للتراجع في غزة، وإلا فإن دمار غزة سيبقى وصمة عار في ذاكرة ما يقرب من ملياري مسلم والعالم الحديث.

699

| 13 أغسطس 2025

ثقافة الوقف هي مفتاح بناء الحضارة

لا تُقاس الحضارة بالتقدّم المادي أو التكنولوجي فحسب، بل بمدى ترسيخها لقيم الأخلاق والعدل والتنمية الاجتماعية وسعادة أهاليها. وقد قدّمت الحضارة الإسلامية نموذجًا متوازنًا يجمع بين الجمال المادي والروحي، مستندة إلى مبادئ التكافل والمشاركة لا إلى المصالح الفردية. وكان الوقف من أبرز تجليات هذا النموذج، حيث مثّل وسيلة فعّالة لترسيخ مفاهيم البر والإحسان والصدقة الجارية، عبر تخصيص الأموال والممتلكات لخدمة المجتمع ابتغاءً لرضا الله عز وجل. وقد نوّه القرآن الكريم في مواضع عديدة على أهمية الإنفاق والصدقة الجارية، حيث وعد الله من ينفقون في سبيله بأجر مضاعف، كما في قوله تعالى ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ﴾ (البقرة: 261) وأكد النبي ﷺ على استمرارية الأجر بعد الموت في قوله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له». ومن هذا المنطلق، أصبح الوقف تجسيدًا حيًا لمفهوم العطاء المستمر، وعنصرًا أساسيًا في بناء الحضارة الإسلامية وقيمها الاجتماعية. يركّز الإسلام على نشر الكرم والإحسان، خلافًا للرأسمالية الغربية التي تقيّم الإنسان بماله. في الحضارة الإسلامية، هناك ارتباط قوي بين الكرم وكرامة الإنسان. فصفة «كريم» تُطلق على الشخص الشريف والجواد. مفهوم الوقف، الذي يجمع بين جانبين من الصدقات الجارية المذكورة في الحديث النبوي وهما العلم والخير، وقد بدأ تطبيق هذا المفهوم منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من خلال إنشاء المساجد، والمؤسسات العلمية، وحفر الآبار، وامتد ليشمل رعاية الفقراء والأيتام والعمل على دمجهم في المجتمع، حتى أصبح الوقف جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية. وأسهم هذا النظام في الحفاظ على العلوم الإسلامية والقيم الأخلاقية، وتيسير حياة الناس وتعزيز روح التكافل في المجتمع. لقد أسهمت الأوقاف في الحضارة الإسلامية بشكل كبير في تطور العلم والحكمة، وتحقيق الرفاه والتضامن الاجتماعي. ففي العهدين الأموي والعباسي، امتد دورها ليشمل مؤسسات التعليم كالمـدارس، والمكتبات، والمستشفيات، والخدمات العامة مثل الطرق والجسور. وقد تطور هذا النظام في عصور الأندلس والسلاجقة والمماليك والعثمانيين، ليصبح من الركائز الأساسية لفكرة الدولة الاجتماعية في الحضارة الإسلامية. وفي تراث الأندلس، أدّت الأوقاف دورًا واسعًا شمل التعليم والصحة، وبنية المدن التحتية، وبناء وصيانة قنوات المياه، ودعم المسافرين، ورعاية النساء والأيتام، في إطار منظومة متكاملة لخدمة المجتمع. تُظهر وثائق الوقف العثمانية التي تعود إلى فترة التأسيس أن الهدف الأساسي من الأوقاف كان ابتغاء مرضاة الله وتقديم الدعم للمجتمع. ومع تأسيس نظارة الأوقاف الخيرية عام 1826، أُدخل نظام مركزي أكثر تنظيمًا على مؤسسة الوقف. وقد أدت الأوقاف العثمانية دورًا محوريًا في دعم قضايا الضمان الاجتماعي، من رعاية الفقراء والأيتام والمسافرين، إلى تقديم العون للنساء والمرضى، وانتشرت هذه الأوقاف بشكل واسع ليس فقط في إسطنبول، بل في مختلف الولايات العثمانية. كما ساهمت بدور كبير في تمويل مشاريع البنية التحتية للمدن، خاصة في مجالات التعليم والصحة والخدمات العمرانية، من خلال مؤسسات كالسليمانية، والسليمية، والحسكة. وتشير السجلات الوقفية للسنوات 1908-1909 إلى وجود أكثر من 26 ألف وقف، كما أن ما يقارب 20% من الأراضي الزراعية كانت موقوفة لخدمة مصالح المجتمع. في أواخر العهد العثماني، تم توحيد وزارة الشؤون الشرعية مع وزارة الأوقاف في مؤسسة واحدة. وفي الوقت الحاضر، تعتمد العديد من الدول الإسلامية هذا النموذج، إذ يُستخدم الاسمان معًا أو تتولى وزارة الأوقاف الإشراف على كل من الشؤون الدينية والأوقاف. ومع بروز قسوة الرأسمالية الغربية وإهمالها للفقراء والمستضعفين، بدأ مفهوم العمل الخيري (philanthropy) يزداد قوة وانتشارًا. فقد أنشأ بعض المليارديرات، مثل بيل غيتس، مؤسسات وقفية لإظهار التزامهم بالمسؤولية الاجتماعية في وجه التفاوت الشديد في الثروات، كما دفعت حركات العدالة العالمية كبرى الشركات نحو الانخراط في برامج خيرية أو تأسيس مؤسسات وقفية. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال الحضارة الإسلامية متقدمة في هذا المجال، من حيث الرؤية والتطبيق، بفضل نظام الوقف الذي شجّع منذ قرون على فعل الخير دون أن يقف عائقًا أمام تحقيق الثروة. ولولا هذه المؤسسات، لكانت الحياة في العديد من البلدان الإسلامية الفقيرة أكثر صعوبة ومعاناة. إذا يجب علينا المحافظة على هذا الميراث العظيم وتشجيعه في أوساط الأجيال القادمة.

453

| 06 أغسطس 2025

ثقافة التطوع في زمن المصلحة

التطوع هو أن يكرّس الإنسان وقته وجهده ويقدّم مهاراته للآخرين دون أن يكون ذلك واجبًا عليه ودون انتظار مقابل مادي. وبما أن الإنسان كائن يعيش في جماعة، فهو بحاجة إلى غيره، وتلبية احتياجات الآخرين تُسهم في تيسير الحياة. غير أن الثقافة الرأسمالية الحديثة تدفع الناس إلى الأنانية والسعي وراء المصالح الشخصية بدلاً من تغليب المصلحة الجماعية. لكن الإسلام يشجع على التطوع، كما أن الحياة المعاصرة في أمسّ الحاجة إلى الإسهام التطوعي. فالعمل من أجل مصلحة المجتمع، بدءًا من العائلة الكبرى ووصولًا إلى المجتمع العام، يُعد فضيلةً تساهم في سعادة الفرد وسلام المجتمع، وتشكل علاجًا للعديد من مشكلات المجتمع الحديث. يحظى العمل التطوعي بمكانة راسخة في التقاليد الإسلامية، ويكتسب معنى أسمى عندما يُؤدى ابتغاءً لرضا الله تعالى. ففي الحديث الشريف الذي رواه الطبراني: «أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ»، وأحاديث كثيرة غيره، نجد تشجيعًا واضحًا للمؤمنين على القيام بالأعمال الخيرية غير المفروضة، أي الأعمال التطوعية. وقد نشأ عن هذا الفهم للبر عبر التاريخ الإسلامي إرثٌ وقفي قويّ، حيث كان المسلمون يتسابقون في تلبية حاجات الآخرين. واليوم، نحن بحاجة إلى إحياء هذا الإرث ونقله إلى الأجيال الجديدة. إن العمل التطوعي الذي يتم تحت تأثير الإرادة الحرة، يُسهم في تنمية الفرد على المستوى الشخصي، من خلال إكسابه مهارات التواصل والعمل الجماعي. كما يساعده على الشعور بالقيمة والمعنى، بل ويجعله أكثر امتنانًا عند رؤيته لحاجات الآخرين، مما يؤدي إلى تقليل مستويات التوتر والاكتئاب. وتشير الدراسات إلى أن المتطوعين يتمتعون بمعدلات أعلى من السعادة ومستويات أقل من الاكتئاب. علاوة على ذلك، لا يقتصر التطوع على الأثرياء أو أصحاب العلم، بل يمكن لأي شخص يمتلك وقتًا أو مهارات أن يشارك في الأعمال الخيرية. يكتسب الشباب من خلال مشاركتهم في العمل التطوعي، مهارات حياتية قيّمة تلازمهم طيلة حياتهم. كما تتيح لهم هذه التجارب فرصة التعرف على أشخاص جدد ووجهات نظر مختلفة، مما يوسّع مداركهم ويطوّر طريقة تفكيرهم تجاه العالم. ويُسهم العمل التطوعي كذلك في تنمية صفات القيادة لدى كثير من الشباب. ومن جهة أخرى، فإن العديد من الشركات والمؤسسات تُولي أهمية خاصة للتجارب التطوعية عند تقييم المتقدمين للوظائف، مما يعزّز فرصهم في الحصول على وظائف أفضل أو الترقية المهنية. والأهم من ذلك، أن الشخص الذي يقدم نفعًا للمجتمع يشعر بقيمة أكبر لذاته ويزداد احترامه لنفسه، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على صحته النفسية والعقلية. للتطوع فوائد اجتماعية كثيرة، من أبرزها إتاحة الفرصة للتواصل مع الآخرين وتكوين صداقات جديدة. ونظرًا لازدياد إدمان الهواتف والأجهزة اللوحية، يُعد العمل التطوعي فرصة ذهبية لربط الشباب ببعضهم البعض وتعزيز التفاعل الإنساني بينهم. كما أن فعل الخير يخلق علاقة قوية بين من يُقدّم المساعدة ومن يتلقاها، وبين من ينظمون الجهود لتقديم العون للآخرين. ومن خلال ذلك، يتعزز شعور الانتماء إلى المجموعة أو المجتمع، وتنمو روح التضامن. إن رعاية الناس لبعضهم البعض تُعد ضرورة دائمة في منطقتنا التي لا تخلو من الحروب والأزمات والكوارث الطبيعية، وهي في الوقت ذاته من أبرز نقاط قوة المجتمعات الإسلامية مقارنة بالمجتمعات الغربية. يُعد نقل الخبرات من أبرز أشكال العمل التطوعي، حيث يُساهم المهنيون الناجحون في دعم الشباب الفقراء من خلال تعليمهم وتأهيلهم لسوق العمل. كما أن تطوع المعلمين خارج أوقات الدوام للاهتمام بتعليم الشباب، أو سفر الأطباء إلى مناطق الحروب والمآسي لتقديم العلاج المجاني، يمثل دعمًا كبيرًا للصحة العامة. ومن الأمثلة الملهمة، الجهود التي تبذلها العديد من المؤسسات التطوعية التركية والقطرية لتأمين وصول المياه والأغذية لإخوانهم في أفريقيا. إضافة إلى ذلك، فإن العمل التطوعي بما يتطلبه من نشاط بدني وذهني يسهم في تحسين الصحة العامة للمواطنين، ويعزز من شعورهم بالمسؤولية والانتماء. بكل أسف، في الدول المسلمة سواء كانت غنية أو فقيرة، انتشرت عادة الاعتماد الكامل على الدولة لتلبية كافة الاحتياجات. هذا الأمر يؤدي إلى استسلام المواطنين للكسل وقلة المبادرة. رغم جودة خدمات الدولة، يبقى هناك دائمًا أشخاص داخل البلاد وخارجها يعانون من نقص في احتياجاتهم. لذلك، يلعب المتطوعون دورًا مهمًا كمكملين لهذه الخدمات، ويساهمون في التخفيف من مشكلات مثل التعليم، وحماية البيئة، ومكافحة الفقر. لذا، من الضروري نشر ثقافة التطوع التي تُعد من القيم الأساسية في تراثنا الإسلامي، لأنها لا تقتصر فقط على مساعدة الآخرين، بل تغني حياتنا الشخصية أيضًا.

459

| 30 يوليو 2025

الأزمة الديموغرافية وتراجع الخصوبة في الغرب

رغم أن دول الكتلة الغربية لا تمثل سوى 12% من سكان العالم، فإنها تستحوذ على نحو نصف الدخل العالمي. إلا أن هذه الدول تواجه في الوقت الراهن أزمة سكانية متفاقمة، إذ تُعد من بين أقل الدول في معدلات النمو السكاني، مع ازديادٍ مستمر في نسبة كبار السن. جميع البلدان في الكتلة الغربية لديها معدلات خصوبة أقل من معدل التجديد البالغ 2.1 في المئة. فقد تزعزعت الحياة الأسرية كما فرضتها الثقافة الليبرالية الغربية، وانخفضت معدلات الخصوبة بشكل خطير بسبب الانحرافات الجنسية المختلفة، وبدأ عدد السكان بالتراجع في هذه الدول بالتزامن مع قلة الشباب وكثرة الشيوخ. هناك العديد من الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة، ولها نتائج خطيرة. وقد عدَّ علماء الاجتماع «التمدّن» من أبرز هذه الأسباب؛ ففي حين يرى سكان القرى العاملون في الزراعة وتربية المواشي أن كثرة الأطفال ضمانٌ للحياة، فإن تربية الأطفال في المدينة لم تعد بنفس الجاذبية. كما أن ارتفاع معدلات وفيات الأطفال في الريف كان يدفع الأسر إلى إنجاب عدد أكبر من الأبناء، بينما تؤدي الخدمات الصحية المتقدمة ووسائل تنظيم النسل المتاحة في المدن إلى انخفاض عدد الأطفال المولودين. في الدول الرأسمالية المتقدمة، يُعد التعليم – وخاصةً التعليم المدفوع – عبئًا كبيرًا على كاهل الأسر، مما يجعل تربية الأطفال مسؤولية مالية ثقيلة. وتُشكّل خدمات الحضانة عبئًا إضافيًا، خصوصًا بالنسبة للأمهات العاملات والآباء من ذوي الدخل المحدود. ومع ارتفاع مستوى التعليم، وخاصة لدى النساء، يتأخر سن الزواج، وينخفض عدد الأطفال المولودين. كما تميل النساء العاملات إلى إنجاب عدد أقل من الأطفال. وفي الولايات المتحدة، تؤثر قروض التعليم التي يحصل عليها الطلاب الفقراء من الدولة – والتي يتوجب سدادها لاحقًا – على خطط الزواج، وتُصعّب اتخاذ خطوة الزواج. مع ازدياد مستوى التعليم، تزداد وتيرة تبنّي الثقافة الليبرالية، ويضعف الإيمان بقيمة الأسرة وأهمية إنجاب الأطفال. فهذه الثقافة تشجّع على السعي وراء الحياة المهنية بدلاً من تكوين أسرة، وتروّج لمفاهيم مثل السفر والاستقلالية الشخصية. وفي البيئة الحضرية، ومع انتشار التعليم والإنترنت، تتراجع الالتزامات الدينية والتقاليد الاجتماعية، مما يؤدي إلى ضعف الروابط الأسرية. ونتيجة لذلك، تقلّ الضغوط أو التوقعات المرتبطة بالزواج والإنجاب. كما تُظهر الدراسات أن الفئات العلمانية في الدول الغربية تميل إلى إنجاب عدد أقل من الأطفال مقارنةً بالفئات المحافظة. إن انخفاض معدلات النمو السكاني يؤدي إلى العديد من النتائج الخطيرة، وأبرزها ازدياد نسبة كبار السن، مما يؤدي إلى انخفاض في الإنتاج. كما أن رعاية المسنين وتكاليف الخدمات الصحية تُثقل كاهل خزائن الدول وتزيد العبء المالي على السكان العاملين. وتُشكّل هذه الأعباء المتزايدة تحديًا كبيرًا أمام سياسات دولة الرفاه الاجتماعي المعتمدة في أوروبا. كما أن إنفاق كبار السن واستهلاكهم الاقتصادي ينخفض، مما يؤدي إلى تراجع الحيوية الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، بينما تزداد الحاجة إلى المدارس والإنفاق العام في الدول النامية، فإن الدول المتقدمة تواجه تزايدًا في الحاجة إلى دور رعاية المسنين. لمواجهة المشاكل الناجمة عن شيخوخة السكان، بدأت الدول في تطبيق سياسات تهدف إلى رفع معدلات الولادة، إلا أن هذه السياسات لم تُحدث تأثيرًا كبيرًا. وأصبح من الضروري بالنسبة لمعظم الدول المتقدمة الاعتماد على استقدام المهاجرين من الخارج. وقد أدى قدوم غالبية هؤلاء المهاجرين من دول العالم الإسلامي وأفريقيا وآسيا الفقيرة إلى ارتفاع نسبة السكان من أصحاب الديانات والثقافات المختلفة في المجتمعات الغربية. ونتيجة لذلك، تصاعدت في الغرب النقاشات حول الاندماج، وظهرت توترات ثقافية، كما أدى هذا الظاهرة إلى صعود الأحزاب الشعبوية والعنصرية. ومن جهة أخرى، فإن ارتفاع معدلات الخصوبة لدى الأقليات المسلمة أصبح مصدر قلق إضافي بالنسبة للجماعات العنصرية في الغرب. تقدّم بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا والسويد دعماً متنوعًا لتشجيع الأسر على إنجاب المزيد من الأطفال. وتشمل هذه التدابير إجازة الأمومة، والمساعدات لرياض الأطفال، وإجراءات اقتصادية أخرى، والتي رغم أنها حققت بعض النتائج، إلا أن عكس انخفاض معدلات الخصوبة بعد حدوثه يُعد أمرًا بالغ الصعوبة. فعلى سبيل المثال، ورغم أن الصين قد ألغت سياسة الطفل الواحد في عام 2016، إلا أن ذلك لم يؤدِ إلى زيادة ملحوظة في معدلات الولادة. ومن أجل معالجة هذه المشكلة، قد يكون الحل في تقوية مؤسسة الأسرة، وتعزيز النظرة إلى الطفل كمصدر للبركة، وتقدير دور الوالدين، وتشجيع الزواج المبكر، والعمل على إعادة إحياء مفهوم الأسرة الممتدة في المجتمعات.

510

| 23 يوليو 2025

التصالح التركي الكردي.. ماذا يعني للعالم العربي؟

وصلت تركيا إلى نهاية مشكلة حزب العمال الكردستاني (PKK) التي استمرت أكثر من 40 عاماً، حيث دعا دولت باهتشلي كرئيس الحركة القومية التركية في أكتوبر 2024 التنظيم للتخلي عن السلاح وتسوية القضية الكردية عبر المصالحة. ورد عبدالله أوجلان بترك السلاح وأعلن انتهاء السعي للدولة المستقلة قبل أسبوع كما أعلن الحزب التزامه بالقرار بحفله الرمزي لحرق السلاح في السليمانية في العراق. من بين الأسباب التي دفعت تنظيم PKK إلى التخلي عن السلاح يمكن ذكر تطور الديمقراطية في تركيا ونجاحها العسكري في مكافحة الإرهاب. كما أن تغير الأوضاع في سوريا، وسقوط نظام الأسد، وتولي حكومة جديدة قريبة من تركيا، كان له تأثير واضح، إلى جانب مجيء إدارة ترامب بدلًا من إدارتي أوباما وبايدن اللتين كانتا تقدمان الدعم المالي والعسكري لـ PKK أو قوات سوريا الديمقراطية (قسد). لعب دعم القيادتين في العراق أيضا، سواء حكومة السوداني أو إدارة بارزاني في إقليم كردستان العراق، دورًا مهمًا في هذا التحول. ويُعد تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة عاملًا إضافيًا مؤثرًا. ومن الجدير بالذكر أن إيران، والولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية، كانوا في الوقت نفسه يصنفون حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية، لكنهم كانوا يقدمون له الدعم بشكل مباشر أو غير مباشر داخل تركيا وخارجها. وقد بلغت المفارقة ذروتها حين وعدت إدارة أوباما، بحجة محاربة تنظيم داعش، جناح الحزب في سوريا (قسد) بإقامة دولة لهم في شمال سوريا. بعد أحداث 7 أكتوبر، شهدت المنطقة تغييرات كبيرة في المواقف والتحالفات، انعكست بشكل مباشر على مستقبل حزب العمال الكردستاني وقسد داخل العراق وسوريا، وأضعفت الدعم الدولي الذي كانوا يتلقونه. وبمبادرة من تركيا وبدعم من الولايات المتحدة، توصّلت الحكومة السورية الجديدة إلى اتفاق مع قوات قسد يقضي بإدماجها ضمن النظام السياسي الجديد، مما يمنعها من تأسيس دولة مستقلة ويجبرها على التخلي عن سلاحها. ومع ذلك، تُبدي قوات قسد تحفظًا تجاه إلقاء السلاح، إذ تسعى للاحتفاظ بقدرتها العسكرية ضمن النظام، على غرار نموذج حزب الله في لبنان. ويُعزز هذا الموقف دعم بعض الدول الأوروبية، إلى جانب إسرائيل وإيران، التي تُشجع قسد على عدم التخلي الكامل عن قوتها العسكرية. يشكل هذا الوضع الهش تهديدًا مباشرًا لأمن البلاد، خاصة مع نشاط بعض عناصر النظام السابق الذين لجؤوا إلى مناطق قسد، مما أدى إلى نفاد صبر الحكومة السورية. من جانب آخر، صرح المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، بأن قوات سوريا الديمقراطية تمثل امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، ودعاهم إلى التخلي عن حلم إقامة دولة، وترك السلاح، والمشاركة الفاعلة في عملية السلام في سوريا وتركيا. ورغم محاولاتهم للانفصال عن حزب العمال الكردستاني، إلا أن قوات سوريا الديمقراطية لا تجد أمامها سوى خيار تسليم السلاح، إذ أنها محاصرة من كل الجهات ولا تستطيع الاستمرار دون الدعم الأمريكي. حل مشكلة حزب العمال الكردستاني في تركيا، والتحالف بين الأتراك والأكراد، سيؤثر إيجابياً أيضًا على الدول العربية. لأن هذه العملية ستمنع تفتيت سوريا والعراق، وسيعزز الاستقرار في المنطقة. وفي هذا السياق، كلمة الرئيس التركي أردوغان حول العملية لم تقتصر على توافق ثنائي بين الأتراك والأكراد فقط، بل ذكر تحالفًا ثلاثيًا بين الأتراك والأكراد والعرب. وأشار إلى أن هذا التحالف الثلاثي، كما كان في التاريخ، سيقوي الجميع، مع شكره إدارتي العراق وسوريا على دعمهما للعملية. لعملية المصالحة في تركيا تأثيرات مباشرة على الدول العربية، حيث سيخفف وتيرة الصراع الكردي العربي في العراق وسوريا. وسيتم تبني نهج أكثر تحضراً يقوم على التعاون بين الشعوب الثلاثة، بدلاً من المواقف القومية الضيقة والمستبعدة. بعبارة أخرى، ستحل مكان الانقسامات والتوترات القائمة تحالفات وتعاونات قوية بين الأتراك والعرب والأكراد، مع تعزيز التعاون والتكامل بين دول المنطقة بصورة أعمق. سيؤدي تقارب تركيا مع الجماعات الكردية إلى زيادة الاستقرار الإقليمي وتشجيع التعاون الأمني في المنطقة، بدءاً من سوريا والعراق. كما أن تراجع التطلعات الانفصالية الكردية سيشجع على اندماج المجموعات الشيعية (خاصة في الخليج) والدروز والبربر. ومع تعزيز الاستقرار السياسي في المنطقة، سيتعزز الاستقرار الاقتصادي الذي أعاقه الإرهاب والتوترات الأخرى. ومع تعزيز الاستثمارات والاقتصاد داخل دول المنطقة، سيزداد التعاون الاقتصادي بين تركيا والدول العربية.

528

| 16 يوليو 2025

الهجرة.. ظاهرة لا تزول

منذ عهد آدم عليه السلام، والبشر في حركة دائمة. فعندما كانوا يعيشون كقبائل صيادين وجامعي ثمار، كانوا في تنقل مستمر. ومع الانتقال إلى الزراعة، بدأت بعض المجتمعات مثل مصر القديمة والصين بالاستقرار، ورغم أن الحركة قلت جزئيًا، إلا أن تلك المجتمعات لم تسلم من الحروب والغزوات. وعلى مر التاريخ، استمرت حركة البشر (الهجرة) لأسباب متعددة مثل الحروب، والجفاف، والظروف الاقتصادية، والمعتقدات الدينية. وقد بدأت الهجرة الكبرى للإنسانية من إفريقيا، واستمرت على شكل موجات في فترات مختلفة. كما أن غزو القبائل القادمة من الشرق لأوروبا، ومن بعدهم المغول، أدى إلى حركات سكانية واسعة. ظهور الإسلام وامتداد الفتوحات الإسلامية أدّى إلى موجات هجرة نحو الشرق والغرب. وفي القرون الأخيرة، كان للاستعمار الأوروبي، والحروب، والاحتلالات، والأزمات العنيفة والفقر دور كبير في نشوء حركات هجرة جديدة. وفي القرن العشرين، أسهم انهيار الإمبراطوريات، واحتلال فلسطين، وانقسام ألمانيا والهند، في إجبار ملايين البشر على الهجرة القسرية. أما في الفترات الأخيرة، فإن استمرار الأزمات الاقتصادية والسياسية في إفريقيا والعالم الإسلامي ساهم في استمرار موجات الهجرة أخرى مثل الصومال، وسوريا، والسودان أدّت إلى هجرات غير شرعية بالملايين. تُصنّف الهجرة من حيث النطاق المكاني إلى داخلية وخارجية (دولية)، ومن حيث الوضع القانوني إلى شرعية وغير شرعية، كما تُقسم من حيث الدافع إلى طوعية وقسرية، ومن حيث المدة إلى مؤقتة ودائمة. وتتعدد الأسباب التي تدفع إلى الهجرة داخل الدولة الواحدة أو خارجها، وتشمل عوامل اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وبيئية. من بين الأسباب الاقتصادية، الفقر، والبطالة، وانخفاض مستويات الأجور. كما استخدام الآلات في الزراعة ورغبة إلى الرفاهية يُعدان من العوامل الأساسية التي تدفع سكان الريف إلى الهجرة نحو المدن. تُعدّ الحروب، وانعدام الاستقرار، والقمع، والتمييز من العوامل السياسية وفي الجانب الاجتماعي، فإن ضعف خدمات التعليم والصحة، إضافة إلى التهميش والصراعات العرقية والثقافية، تُعد من الأسباب التي تدفع الأفراد إلى مغادرة أوطانهم. كما تساهم الكوارث الطبيعية، مثل الزلازل والفيضانات، والتصحر، ونضوب الموارد الطبيعية، في تسريع وتيرة الهجرة. على سبيل المثال، الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا في عام 2023 أثّر بشكل مباشر على حياة 14 مليون شخص، وتسبب في أزمة سكن حادة في العديد من المدن التركية. وقد دفعت هذه الأوضاع آلاف الأُسر التركية المقيمة إلى جلب أقاربهم وأطفالهم المتضررين من الزلزال إلى قطر. هناك عوامل تجذب المهاجرين إلى الجهات المعينة في الداخل أو خارج البلد، مثل توفر فرص عمل أفضل، ورواتب أعلى، وبيئة أكثر أمانًا ورفاهية، إلى جانب فرص تعليمية متميزة للأطفال، وأوضاع سياسية أكثر حرية واستقرارًا. كما تلعب عوامل مثل لمّ شمل الأسرة، والمناخ الملائم، وتوفر الموارد الطبيعية دورًا مهمًا في استقطاب الناس نحو تلك المناطق. وتُعتبر قطر من الدول التي تتميز بعوامل جذب قوية، بفضل استقرارها الاقتصادي والاجتماعي وفرصها الواعدة. أما تركيا، فقد أصبحت اليوم محطة عبور ووجهة نهائية في آن واحد. تشكل هجرة الأشخاص داخل الوطن وخارجه تأثيرات كبيرة ومتعددة. يعاني القادمون من المناطق الريفية إلى المدن من صعوبات في التكيف، بالإضافة إلى زيادة الطلب على الخدمات الاجتماعية. يؤثر المهاجرون في الأماكن التي ينتقلون إليها ويتأثرون بظروفها. أما هجرة الكفاءات أو هجرة العقول فتقلل من فرص التنمية في بلدانهم الأصلية. من جهة أخرى، تشكل الأموال التي يرسلها العمال المهاجرون إلى عائلاتهم في بلدانهم، مثل الهند ومصر، مبالغ ضخمة تصل إلى مليارات الدولارات، مما يساهم بشكل كبير في دعم اقتصاد هذه الدول. تُسبب ظاهرة الهجرة توترات بين المهاجرين والسكان المحليين، حيث استغلت بعض الأحزاب السياسية في الغرب هذه القضية لتعزيز خطاب معادٍ للمهاجرين، مما جعلها محورًا للنقاشات حول الهوية والسياسة، مؤثرا على نتائج الانتخابات في الولايات المتحدة وهولندا وإيطاليا، كما حققت الأحزاب اليمينية نجاحات بارزة في انتخابات السويد وفنلندا وألمانيا. يكمن الحل في بناء نظم عادلة على المستويين العالمي والإقليمي للحد من الهجرة، إلى جانب التعامل مع قضايا اللاجئين والمهاجرين بمنهج إنساني رحيم وأسلوب إسلامي يرتكز على العدل. وفيما يتعلق بموجات الهجرة المتزايدة من أفريقيا، فلا بد من تبني رؤية واستراتيجيات جديدة وشاملة تضمن التنمية المحلية. وفي المقال القادم، سنسلط الضوء على ظاهرة الهجرة غير الشرعية، التي تمثل تحديًا أكبر وأكثر تعقيدًا

381

| 09 يوليو 2025

مشكلة العمران العشوائي.. الأسباب والنتائج

العمران العشوائي هو توسع المدن بطريقة غير منظمة وغير قانونية، يتم دون مراعاة احتياجات السكان أو الخطط الحضرية التي تضعها البلديات والمختصون. بسبب ازدياد استخدام الآلات في الزراعة والنمو السكاني المتواصل، بدأ كثير من الأشخاص الذين كانوا يعيشون سابقًا كفلاحين أو بدو بالانتقال إلى المدن. ففي عام 2000، كانت نسبة سكان المدن على مستوى العالم تبلغ 47 %، بينما ارتفعت اليوم إلى 56 %. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن هذه النسبة ستصل إلى 70 % بحلول عام 2050. لكن هذا التوسع الحضري لا يجري دائمًا بشكل منظم أو مخطط، خاصة في الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل، حيث تتسم عملية التوسع غالبًا بالعشوائية والفوضى. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، يعيش أكثر من مليار شخص حول العالم في مناطق حضرية غير منظمة. وتنبع هذه الظاهرة من أسباب متعددة، وتؤدي إلى نتائج خطيرة تؤثر على المجتمعات والبيئة. تتعدد العوامل التي تقف وراء هذا النوع من التوسع، أبرزها استخدام الآلات في الزراعة، وتقلص الأراضي الزراعية، ورغبة الناس في الوصول إلى فرص أفضل في العمل والتعليم والخدمات الصحية. كما أن العجز المالي لدى الفئات الفقيرة عن بناء أو شراء مساكن مناسبة، وضعف أداء الحكومات في التخطيط الحضري وتوفير الخدمات الأساسية مسبقًا، يسهمان في تفاقم المشكلة. وتُضاف إلى هذه الأسباب الهجرات الناتجة عن الحروب والكوارث الطبيعية، وآثار الاستعمار القديمة، إضافة إلى سياسات التهميش التي قد تُمارس ضد السكان الأصليين في بعض المدن. تختلف هذه الأسباب من بلد إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى. وفي كثير من الأحيان، يُعد الفقر في المناطق الريفية سببًا رئيسيًا للهجرة غير المنتظمة إلى المدن. وبسبب تقسيم الأراضي الزراعية بين الورثة عبر الأجيال، أو بسبب نفاد المراعي، يضطر الفلاحون والرعاة إلى الهجرة نحو المدن. وفي بعض الحالات، تؤدي حالات الجفاف أو النزاعات الداخلية إلى نزوح السكان بحثًا عن فرص جديدة في المناطق الحضرية. فعلى سبيل المثال، بعد الأزمة السورية، استقر معظم السوريين الذين هاجروا إلى تركيا في المدن، حتى لو كانوا من سكان القرى في سوريا. كما أن الفساد وسوء الإدارة في بعض الدول يؤديان إلى تفاقم المشكلة، بسبب عدم استعداد المدن لاستيعاب هذا التوسع السكاني. يسبب العمران العشوائي مشكلات عديدة تؤثر على مختلف جوانب الحياة. فمن الناحية الصحية، يعاني سكان هذه المناطق من نقص كبير في الخدمات الأساسية مثل المياه النظيفة وجمع النفايات، مما ينعكس سلبًا على الصحة العامة. وغالبًا ما تُبنى هذه الأحياء في مناطق خطرة مثل مجاري السيول، المنحدرات، أو قرب مكبّات القمامة، مما يجعلها أكثر عرضة للكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات. ويواجه سكان هذه المناطق صعوبات في الحصول على الرعاية الصحية، ويعيشون في عزلة عن الحياة السياسية والمجتمعية. كما ترتفع فيها معدلات البطالة والجريمة، في ظل غياب أو ضعف الإجراءات الأمنية الفاعلة. حل مشكلة السكن العشوائي والتوسع العمراني غير المنظم ليس مستحيلاً، لكنه يتطلب تكاليف مالية كبيرة وإرادة سياسية قوية. توفير خدمات البنية التحتية مثل المياه والصرف الصحي في هذه الأحياء غير المخططة يكلف أكثر مقارنة بالمناطق المخططة. كما أن تدني جودة التعليم في تلك المناطق يؤدي إلى ضعف التحصيل الدراسي، وإذا لم تولِ الحكومات اهتماماً كافياً، فقد تنشأ بين الفقر والجهل حلقة مفرغة يصعب كسرها. لذا، من الضروري اعتماد سياسات دعم وتمكين ذوي الدخل المحدود من الحصول على مساكن في مناطق منظمة، سواء عبر الدعم المالي المباشر أو من خلال إنشاء تعاونيات سكنية. في تركيا، أدت موجات الهجرة في الثمانينيات والتسعينيات إلى ظهور أحياء سكنية عشوائية، لكن منذ عام 2000، تمكنت مؤسسة الإسكان الجماعي الحكومية (TOKİ) من حل هذه المشكلة من خلال بناء عدد كبير من المساكن ذات الجودة العالية والتكلفة المنخفضة، ومن خلال إصلاح الأحياء غير المنظمة وعدم السماح بالبناء غير القانوني الجديد. وبعد الزلزال الذي ضرب خمس محافظات قبل عامين، يُعاد بناء المنازل المدمرة بنفس الطريقة. فيما يتعلق بالتوسع العمراني غير المنظم، فإن دول الخليج في وضع أفضل بكثير مقارنة ببقية الدول العربية. وقطر، ضمن رؤيتها الوطنية لعام 2030، حققت تقدماً كبيراً في تحقيق النمو الحضري المستدام، وحماية البيئة، وتوفير السكن للجميع. ولكن من المتوقع أن تستمر هذه المشكلة في شغل العالم الذي يعاني من الصراعات والاحتباس الحراري وسوء الإدارة.

453

| 02 يوليو 2025

alsharq
في خاصرتي خنجر.. الأمة التي تقرأ جراحها لا تهزم

خنجر في الخاصرة قد لا يبقيك مستقيما لكنه...

1374

| 15 سبتمبر 2025

alsharq
لهذا يرفض الاحتلال حل الدولتين؟

مثّل الانتهاك الإسرائيلي للسيادة القطرية باستهداف قيادات حماس...

783

| 14 سبتمبر 2025

alsharq
الوسيط المُستهدف

شهدت الدوحة مؤخراً حدثاً خطيراً تمثل في قيام...

732

| 14 سبتمبر 2025

702

| 13 سبتمبر 2025

alsharq
انصر أخاك

ها هي القمة العربية الإسلامية تعقد في مدينة...

666

| 15 سبتمبر 2025

alsharq
المسرح السياسي وديكور التعليم

من يراقب المشهد السياسي اليوم يظن أنه أمام...

594

| 18 سبتمبر 2025

alsharq
منصات وزارة العمل.. من الفكرة إلى الأثر

منذ تولي سعادة الدكتور علي بن سعيد بن...

579

| 18 سبتمبر 2025

alsharq
عمري قطر

في أغلب الأحيان تكون المصائب والنوائب لها نتائج...

570

| 15 سبتمبر 2025

alsharq
الحاجة إلى نظام أمني جديد في الشرق الأوسط

لم يعرف الشرق الأوسط الاستقرار منذ مائة عام،...

558

| 15 سبتمبر 2025

alsharq
يا قادة أمتنا.. بلغ السيل الزبى

حين ننظر إلى الدعم الغربي لذلك الكيان المحتل،...

540

| 14 سبتمبر 2025

alsharq
لأجل عينج يا قطر

الأحداث التي فُرضت علينا وإن رفضناها بعد الاعتداء...

525

| 16 سبتمبر 2025

alsharq
أيها القادة.. خذوا حذركم

في خضم هذا العالم المتصارع، حيث لا مكان...

495

| 14 سبتمبر 2025

أخبار محلية