رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

أولو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئاً

تكررت آيات شبيهة المعنى بالآية التي اتخذناها عنواناً لحديث اليوم، وكل الآيات الشبيهة تستنكر التصاق الأبناء بإرث الآباء، وبالطبع ليس كل الإرث، وإنما ذاك المعاكس للحق. هذا إرث باطل يجب تصحيحه، وإلا فمحاربته أولى. هكذا كانت دعوات الأنبياء والمرسلين. يأتي النبي يدعو قومه إلى خير الدنيا والآخرة، يدعوهم إلى نبذ الشرك وعبادة غير الله، فيأتي القوم يتغنون بإرث أسلافهم وأجدادهم، وأنهم على دربهم سائرون. هكذا كان غالبية القدماء.. وهكذا كانت عقلياتهم التي لوثها الشيطان أيما لوثة. المسألة لم تكن كامنة في العقول والألباب فحسب، بل في أعماق القلوب التي في الصدور، عناد وتحجر وتصلب بلا حدود. إن أي عقل بشري سوي، حين يرى الحق والباطل واضحاً أمامه، فإن فطرته تدفعه تلقائياً نحو الحق، وتبعده عن الباطل، إلا إذا اختار هو بنفسه فعل المكابرة والمعاندة، فهكذا كان الأولون مع أنبيائهم. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ). قيل: الآية نازلة في مشركي العرب وكفار قريش، الذين اقتفوا خطوات الشيطان، وقالوا على الله بدون علم ولا برهان، إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله من قرآن، أعرضوا عن ذلك وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والخضوع للرؤساء، كما في التفسير الوسيط للطنطاوي. إذن هو تقليد أعمى مذموم، فليس كل تقليد محمود، إن التقليد في أمور العقيدة والتوحيد، دون علم ودراية كافية بما كان عليه من يتم تقليدهم، أمر مذموم يودي بصاحبه إلى التهلكة. ولهذا رد الله على من قال ونادى باتباع الآباء من منطلق التقليد الأعمى غير السوي، محاط بعناد وكبر وجهل (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون). كمثل الذي ينعـق التقليد الأعمى إذن كما أسلفنا، يؤدي بصاحبه إلى التهلكة إن كان تقليد الآباء والأجداد في أمور العقيدة، وكان أولئك الآباء والأجداد أساساً على ضلالة وكفر.. من هنا وصف الله تعالى هؤلاء المقلدين، الذين ساروا في درب تعطيل العقول، بأنهم مثل أغنام ينعق لها راعيها بالدعاء أن تأتي، أو بالنداء أن تذهب. أغنام لا تفقه شيئاً مما تسمع من الأصوات. (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون). إنّ مثلك يا محمد ومثل الكفار في وعظهم ودعائهم إلى الله عز وجل، كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم - كما قال البغوي في تفسيره - وأن الكافر لا ينتفع بوعظك، إنما يسمع صوتك.. إنها صورة زرية - كما يقول صاحب ظلال القرآن - تليق بهذا « التقليد وهذا الجمود، صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا تعني، بل هم أضل من هذه البهيمة، فالبهيمة ترى وتسمع وتصيح، وهم صمٌ بكمٌ عُمي، ولو كانت لهم آذان وألسنة وعيون ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون، فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خُلقت لها، وكأنهم إذن لم تُوهب لهم آذان وألسنة وعيون. وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره، ويغلق منافذ المعرفة والهداية، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة». ما فائدة الآذان التي لا تسمع الحق، وما فائدة العيون التي لا ترى البراهين الدالة عليه، وما فائدة الألسن التي لا تنطق به؟ وعذرهم في كل ذلك (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا)!. فليس غريباً إذن أن يشبههم الله بالأنعام، بل هم أضل.

243

| 04 سبتمبر 2025

من صدمات يوم القيامة

واحدة من الآيات العظيمة في سورة يونس، تلك التي تصور لك مشهداً من مشاهد القيامة تجعلك بعدها تحتقر العاجلة الفانية، التي يتقاتل بنو آدم عليها وهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، زائلة غير دائمة، مهما عاش فيها بنو آدم سنوات عديدة وأزمنة مديدة. الحياة الدنيا في حقيقتها ما هي إلا ساعة من نهار، مقارنة بما يراه البشر يوم القيامة. حيث سيدرك بنو آدم هذه الحقيقة يومئذ حين يحشرهم ربهم يوم القيامة. إذ ما أن تبدأ المقارنات حتى يتفق الجميع فيما بينهم على المدة (كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم) وليست المشكلة في قصر المدة، بل النتيجة النهائية التي ستتضح جلياً للذين كذبوا بالقيامة ولقاء الله (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين). إنها صدمة من صدمات يوم القيامة للذين كانت الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم.. المحشورون مأخوذون بالمفاجأة - كما يقول صاحب الظلال - شاعرون أن رحلتهم الدنيوية كانت قصيرة قصيرة، حتى لكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف، ثم أسدل الستار. إنهم يجيئون ويذهبون وما يكاد أحدهم ينتهي من التعرف إلى الآخرين، وما تكاد الجماعة فيهم تنتهي من التعرف إلى الجماعات الأخرى، ثم يذهبون. إنه تشبيه لتمثيل قصر الحياة الدنيا، ولكنه يصور حقيقة أعمق فيما يكون بين الناس في هذه الحياة، ثم يرحلون! العبرة إذن، ليست فقط في فهم حقيقة قصر مدة الحياة الدنيا، إن كانت ساعة من نهار أو أكثر فحسب، بل ماذا يقدم المرء منا في هذه الساعة القصيرة، لحياة أبدية طويلة، أو بلا نهاية لها؟ وأسرّوا الندامة إذن وبعد بعد أن يذهل أهل المحشر من إدراك حقيقة أمد الدنيا وكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف بينهم، سيزداد ذهولهم أكثر فأكثر لاسيما الظلمة، من حقيقة هذا اليوم الذي طالما كذبوا وقوعه، بل استهزأوا بمن يتحدث عنه ويعد الناس بالثواب والعقاب فيه.. سوف يُذهل المجرمون (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به) أي لو أن هؤلاء المجرمين الظلمة ملكوا ما في الأرض من كنوزها وثرواتها لأجل أن يفتدي أحدهم نفسه مما ينتظره من عذاب أليم، لما تردد في الفداء.. لكن هيهات هيهات (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ولم يخطر ببالهم - كما يقول الزمخشري في الكشاف - وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه، ما سلبهم قواهم، وبهرهم، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخاً ولا ما يفعله الجازع، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب. أمام المحكمة الإلهية يوم الدين، لا يفلت ظالم، ولن يضيع حق مظلوم (وقُضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) قيل بين المؤمنين والكفار، وقيل بين الرؤساء والأتباع، وقيل بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم، واعلم كما يقول الرازي في مفاتيح الغيب، أن الكفار وإن اشتركوا في العذاب، فإنه لا بد وأن يقضي الله بينهم لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضاً في الدنيا وخانه، فيكون في ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم، وتثقيل لعذاب الباقين، لأن العدل يقتضي أن ينتصف للمظلومين من الظالمين، ولا سبيل إليه إلا بأن يخفف من عذاب المظلومين ويثقل في عذاب الظالمين. أولياء الله لا خوف عليهم من بين تلك المشاهد الصادمة، يأتي فريق مطمئن غير مفزوع ولا خائف. من هو هذا الفريق؟ إنهم ( أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). إنهم في مأمن من صدمات القيامة، ولا يحزنهم الفزع الأكبر، ولا يخافون يوم القيامة حين يخاف الناس.. لكن من هم هؤلاء، أو من هم هؤلاء الذين يسميهم القرآن بالأولياء، والذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ إنهم بكل وضوح كما يقول القرآن (الذين آمنوا وكانوا يتقون). نعم، إنهم الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح والتقوى. الذين راقبوا الله في أعمال القلب والجوارح. روي عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إنّ من عباد اللّه لأناساً ما هُم بأَنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأَنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من اللّه. قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم، وما أعمالهم، فإنّا نحبهم لذلك ؟ قال: «هم قوم تحابوا في اللّه بروحِ اللّه على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فواللّه إنّ وجوههم لنور وإنّهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ ( ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). وقد روي عن عبدالله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وغير واحد من السلف أن أولياء الله الذين إذا رُءوا ذُكِر الله. أي أنهم أولئك الذين يُذكر الله لرؤيتهم، لما عليهم من سمات الصلاح والتقوى والخير.

369

| 28 أغسطس 2025

اتق الله..

ماذا لو أن شخصاً، صديقاً كان أم أبعد في العلاقة من الصداقة والزمالة، جاء ناصحاً لك ومشفقاً أميناً في نصحه وقال: اتق الله؟ كيف هو رد فعلك الفوري؟ في العادة، إن كنتَ صاحب سريرة ونية طيبة، ستعتبر ذلك نصحاً منه لوجه الله، لا يريد منك جزاءً ولا شكورا.. لكن هل كل الناس مثلك، أو من نفس طينتك، كما تقول العامة؟ بالطبع لا.. لأن الناس أمزجة وأذواق وعقليات متنوعة، وبالتالي إن كنت أنت من النوعية التي تتقبل النصيحة، مهما كانت شكلها ومعانيها وشدتها وثقلها، فهناك نوعية أخرى تختلف عنك، تكون بواطنها مليئة بالشكوك والتوترتات والقلق، وليس من السهل عندهم تمرير نصيحة أحد هكذا بالسهولة التي تعاملت أنت معها. تجده لا يقبل النصح غالباً، حتى وإن كان مقتنعاً تمام القناعة أن من ينصحه لا يبتغي منه جميلاً، ولا يقصد إهانته، أو إحراجه، أو أي شيء من ذلكم القبيل. لكن هكذا هي نفسيته ومزاجه. وليته يكره النصيحة ويمضى في حال سبيله لهان الأمر، لكنه يزيد الأمر سوءاً بالنقاش الذي قد يتطور عنده ليكون حاداً مريباً، ويبدأ النقاش ينعطف نحو تطورات تكون غالباً غير محمودة العواقب ! مثل هذا يقول عنه القرآن في مواقف النصيحة والموعظة (أخذته العـزةُ بالإثم). لا يدرك مثل هذا أن الذي نصحه أو قدم له النصح في موقف ما، إنما غايته تذكيره بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه - كما جاء في ظلال القرآن - حيث أنكر أن يُقال له هذا القول؛ واستكبر أن يوجّه إلى التقوى؛ وتعاظمَ أن يُؤخذ عليه خطأ، وأن يُوجّه إلى صواب، وأخذته العزةُ لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير، ولكن بالإثم، فاستعـز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يُذكّر به، وأمام الله بلا حياء منه؛ وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه؛ ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء «. نفوس خبيثة قميئة في باطنها، وإن بدا عليها الجمال والحُسن وحب الخير في ظاهرها. نفوسٌ تستوجب منك حذراً متواصلا. الناصح الحذر اليوم ترى كثيرين من هذا الصنف حولك في بيئة العمل أو خارجه أو حتى بيئتك الاجتماعية القريبة كالبيئة العائلية، حتى صار المرء منا دقيقاً حذراً في مسألة إسداء النصح، أو إن شئت أكثر وضوحاً، في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى صار أحدنا إن أقدم اليوم على النصيحة، يكون حذراً محتاطاً للمسألة، دقيقاً في ألفاظه ومصطلحاته، لئلا تُفهم بصورة غير مرغوبة ولا مقصودة بالأساس، وعلى وجه أخص عبارات أو كلمات قد توحي لمن تُوجّه إليه تلكم الكلمات، أنها تقليل من شأنه، ومحاولة لإحراجه أو نوعاً من الشماتة فيه، كقولك له (اتق الله) أو (خاف الله) كأبرز العبارات التي تُقال في المجالس والمنتديات العامة، حيث يعتقد كثير من المنصوحين أن من يستخدم تلك العبارات آنفة الذكر، إنما يريد إظهارهم أمام الآخرين بقلة العلم الشرعي، أو ضعف إيمان أو غيرها من توهمات وتصورات لا أساس لها. من هنا يمكن القول بأنه مثلما نطالب الناصح دوماً اختيار ألفاظ ومصطلحات وتوقيتات مناسبة للنصح، أو الأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فإنه كذلك مطلوب من المنصوح عدم إساءة الفهم فور تلقيه نصيحة ما، وعدم الارتياب من الموقف، أو إساءة الظن في الناصح، وإنما عليه ضبط النفس قدر المستطاع أولاً، ومن ثم محاولة الاستزادة في توضيح ما يمكن أن يكون قد اختلط عليه، أو استشكل عليه، قبل أن يرتاب أو يسيء الفهم، ويزيد المسألة تعقيداً وهي في الأساس سهلة يسيرة، وما حدثت ووقعت إلا لمنفعته ومصلحته هو قبل غيره. إهداء العـيوب ليكن شعارنا إذن، ونحن في سياق الحديث عن آداب النصيحة، قول الفاروق عمر حين كان يردد:» رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي». وقد يقول أحدكم: وأين نحن من الفاروق عمر؟ نعم، هو تساؤل معقول. فأين نحن من عمر رضي الله عنه؟ لكن مع ذلك، هو وبقية الصحابة، قدوة حسنة للأمة إلى يوم الدين، ومن قبلهم بالطبع، رسولنا الحبيب، عليه الصلاة والسلام. فلا نتعذر بمسألة المقامات، فإنما أولئك العظام من البشر هم قدوات صالحات لنا، نتعلم منهم ونقتدي بهم. إن شخصاً في مقام أمير المؤمنين حين يسأل أصحابه عن عيوبه، هو أمر نادر الحدوث قديماً وحديثاً. لاحظ هاهنا تواضع الفاروق، وهو رئيس دولة عظمى حينها، وأحد العشر المبشرين بالجنة، والوزير الثاني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك كان دوم البحث عمن ينصحه ويبين له عيوبه إن كانت له أو ظهرت منه دون أن يدركها، حتى سأل ودعا بالرحمة لمن يقوم بنصحه، واستخدم كلمة لطيفة عميقة هي (أهدى) كما لو أنه يريد القول بأن من ينصحه فكأنما يقدم له هدية.. وهكذا في ختام هذا الحديث، أدعو نفسي وإياكم لبذل ما نستطيع إليه سبيلاً من جهد، للاقتداء برسولنا الحبيب، عليه الصلاة والسلام أولاً، ومن ثم سلفنا الصالح الراشد، رضي الله عنهم وأرضاهم.

201

| 21 أغسطس 2025

من منا لا يحب المديح؟

يكذب عليك من يقول لك إن صدره واسع رحب يقبل النقد، وإنه في الوقت ذاته لا يهتم بمديح هذا أو ذاك! هذا يخالف الفطرة البشرية. فما من إنسان لا يحب المديح والإطراء، وما من إنسان كذلك يتسع صدره للنقد ويقبله. نفوسنا ذات طاقة محدودة. قد يصبر أحدنا على منتقديه لبعض الوقت، لكن بالطبع ليس كل الوقت. وربما بعضنا لا يميل للمديح، لكن من المؤكد أن نفسه تطرب لمدح من هذا أو ذاك وتلك. هذه هي النفس البشرية، ومن الصعب مقاومتها وضبطها لتسير وفق نظام معين. فهذا ليس بمستطاع أي أحد سوى الأنبياء المعصومين، وبعض أولياء الله الصالحين، وقليلٌ ما هم. هذه خلاصة موضوع اليوم، لكن هناك بعض زيادات وتفصيلات لمن أحب أن يكمل معنا القراءة.. بادئ ذي بدء، لا شيء أن تمدح الآخرين أو العكس، خاصة إن وجدت فيمن تريد مدحه، أو وجد الناس فيك ما يستحق أو يستوجب المدح دون مبالغات، أو مجاملات كاذبة. فقد مُدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يسمع ويرى، بل ليس هو من يحتاج مدحاً من أحد، فيكفيه مدح ربه له في قوله تعالى (وإنك لعلى خُلُق عظيم) فليس بعد هذا المدح من مديح. كما أنه صلى الله عليه وسلم مدح الكثيرين من أصحابه، ولكن مع ذلك في الوقت نفسه، كان يحذرهم من الإفراط في المديح، كما في حديث «إياكم والتمادح، فإنه الذبح». أما لماذا شبّه المدح بالذبح، فلأن الإفراط في هذا العمل من شأنه أن يميت القلب أولاً، ومن ثم هناك احتمالية كبيرة ثانياً، أن يُخرج هذا المديح المستمر، الشخص الممدوح، عن تعليمات دينه، لتراه بعد حين وقد اغتر بأحواله، وربما يبدأ يسيطر عليه شعور كاذب من العُجب والكبر، ليرى نفسه دوماً وأبداً أهلاً للمديح، لا سيما إن كان ممن استهوتهم الدنيا بزينتها وأضوائها وبريقها. مدح الأحياء أم الأموات هذا الأمر لا يقتصر على من يقوم بأعمال دنيوية فحسب، بل يشمل كذلك علماء الدين والدنيا، الأمراء والرؤساء، ومن على شاكلتهم في المستويات والدرجات، العليا منها والدنيا. احذر أن تمدح عالماً، أو مفكراً، أو صاحب رأي، أو رئيساً، أو مرؤوساً، إلا بالقدر الذي يستحقه دون مبالغات ومجاملات، فإنك لا تدري بعد حين من الزمن، طال أم قصُر، ما عساه أن يفعل ويقول. إن أردت مدح صاحب رأي، أو علم، أو رياسة ووجاهة، مدح حق، فليكن لمن مات على هذا الحق. أما قبل ذلك، فالحذر مطلوب. فقد يكون الممدوح اليوم على حق مبين، ثم ينقلب على عقبه بالغد، فيصير ناصراً لباطل هنا أو ظالم هناك، غير مكترث بما كان عليه بالأمس القريب، والقلوب بيد الرحمن، يقلبها كيفما شاء. المدح مطلوب بعض الوقت ولغايات مقصودة. منها تعزيز الممدوح ليستمر على ما تم مدحه عليه، من عمل أو قول. ومنها رسالة للآخرين على الاقتداء بالممدوح في الأمر الذي استوجب مدحه عليه. ومنها إشاعة روح التقدير والمكافأة المعنوية بين الناس، وخاصة إن كان المدح يصدر من رئيس لمرؤوس. لكن يكون خطراً وغير مقبول حين يصل إلى حد المبالغة والإفراط، أو المديح لكل همسة ولمسة. هذا بشكل مختصر كل ما يتعلق بالمديح. النقد لمجرد النقد أما ما يتعلق بالنقد والتقييم، وهو الجانب غير المرغوب عند أغلب البشر، فله قواعده وأصوله أيضاً. فكما أسلفنا بأن النفس الإنسانية تميل إلى المدائح والإطراءات، فإنها تمتعض وتنقبض من الانتقادات وإظهار السلبيات، وإن كانت نقداً بنّاء هادفاً فيه الكثير من الصواب، ورغبة في الإصلاح والتقويم. فهكذا هي النفس البشرية بشكل عام، إلا ما رحم ربي وقليلٌ ما هم تلكم النفوس. فعل النقد الهادف البنّاء لا يحدث إلا بهدف التصحيح والتوجيه، والحيلولة دون وقوع أخطاء مرة أخرى. هذا هو النقد المطلوب. لكن إذا كان أداء فعل النقد لمجرد النقد، وحباً في توبيخ الآخرين، أو من باب الشماتة، فهذا مرض من أمراض القلوب، وفعل غير محبوب ولا مرحب به في أي زمان وأي مكان. لكن مع ذل، فهو مرض يمكن علاجه مع الوقت. وهذا موضوع آخر قد نتحدث فيه في قادم الأيام بإذن الله. رحم الله من أهدى إليّ عيوبي، كما يقول الفاروق عمر، الذي كان يسأل سلمان الفارسي دوماً عن عيوبه، حتى إذا قدم عليه مرة، قال له عمر: ما الذي بلغك عني مما تكرهه؟ قال: أعفني يا أمير المؤمنين فألح عليه. فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وأن لك حُلتين. حُلة بالنهار وحُلة بالليل. قال: وهل بلغك غير هذا؟ قال: لا. قال: أما هذان فقد كفيتهما. قصة الفاروق عمر مع سلمان الفارسي رضي الله عنهما، نموذج لما يجب أن يكون عليه الناقد والمنقود أو المنتَـقـَـد. الشاهد من القصة أن عمر وهو من هو يومئذ، لم يتحفظ أو يضق صدره على ما كان يراه سلمان في فعله، وأنه جزء من ترف وبذخ غير مبرر وهو رئيس للدولة، بل تقبل الفاروق نقد سلمان بصدر رحب، وعالج ما كان يراه سلمان عيباً، فأثبت بذلك الفاروق أنه نعم الرئيس، وأثبت سلمان أنه نعم المرؤوس. وهذا هو المطلوب من الناقد والمنتَقد. الأول يبتغي من نقده وجه الله، وأن يُصلح بنقده. أما الثاني مطلوب منه تقبل النقد الهادف البنّاء، بل وشكر ناقده وتعظيم الأجر له إن كان بالمستطاع، وأقل ذلك الدعاء له (رحم الله من أهدى إليّ عيوبي) كما جاء عن الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، أو كما جاء عنه في مناسبة أخرى (أحب الناس إليّ من رفع إليّ عيوبي). خلاصة القول من جاءك ورفع إليك عيباً، أو مجموعة معايب رآها، فلا تحزن ولا تبتئس، بل أقبل عليه بجوارحك تسمع إليه وتنصت، ثم ادع له بظهر الغيب، وقبل ذلك تشكره وتثني عليه. إن مثل هذا كمثل جوهرة نادرة رزقكها الرازق بغير ميعاد. أفلا تحتاج هذه الجوهرة منك كل رعاية واهتمام؟ الجواب عندك، فانظر ماذا ترى.

306

| 07 أغسطس 2025

هـدم غـزة انكسار للصهينة !

ما يجري في غزة ليس بالغريب في تاريخ أمتنا، ما شهده تاريخنا من كوارث ومذابح ومجازر في الحواضر الإسلامية المختلفة قديماً، كانت أسوأ وأبشع مما يجري الآن في غزة، لكننا أمة تنسى سريعاً، إضافة إلى أنها لا تقرأ تاريخها، فضلاً عن تواريخ الآخرين، وبالتالي لا تستفيد ولا تتعظ من دروس التاريخ الكثيرة المتنوعة. من يقرأ في كارثة اجتياح المغول المتوحشين لعاصمة الخلافة الإسلامية بغداد سنة 656 هجرية، وما كتبه المؤرخون عن مشاهد أربعين يوماً وليلة عاث المغول في بغداد فساداً غير مسبوق لهم مع الآخرين، ليشيب من هوله الولدان. المغول منذ ظهورهم وهم غارقون في القتل والنهب والأسر والهدم.. يصلون ضمن طريقهم إلى دولة خوارزم، فيقتلون رجالها ويسبون نساءها ويأسرون بعض أطفالها. لا شفقة ولا رحمة ولا أخلاق أو شيء من نبل المحاربين والفرسان تضبط أعمالهم وتصرفاتهم.. دولة همجية انطلقت من أقصى شمال الصين لتنطلق نحو الخارج، تنشر ثقافة الموت والهدم والخراب، وتعاند البناء والصناعة والحياة. ما يقع اليوم في غزة العزة، شبيه بتلك التي كتب عنها ابن الأثير، وهي حادثة دخول المغول إلى العالم الإسلامي، واشتغال آلات تدمير الحرث والنسل التترية في حواضرها واحدة بعد أخرى، وصولاً إلى بغداد، فقال وهو يهم بكتابة أحداث تلك الفترة:» لقد بقيت عدة سنين مُعرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسياً. إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. ما أشبه اليوم بالبارحة الفواجع والكوارث التي كسرت بغداد، عاصمة الخلافة الإسلامية أو الدولة العباسية، رغم وجود دول وممالك إسلامية حينها، مثل الدولة الأيوبية في مصر والشام، والدولة المملوكية في مصر والشام أيضاً، والدولة الخوارزمية في آسيا الوسطى، والدولة الغورية في أفغانستان وشمال غرب الهند، بالإضافة إلى الدولة الأموية في الأندلس، هي نفسها تتكرر في غزة ومواقف الدول المسلمة منها، الشبيهة بمواقف الدول والممالك الإسلامية بالأمس مع بغداد، حيث الخلافات والتنافس والتناحر بينها، حيث ترك الجميع يومئذ بغداد تواجه مصيرها، ظناً منهم أن التوحش المغولي سيتوقف بعد كارثة بغداد، فكان ظناً غبياً، واستشرافاً قاصراً للمستقبل. أنهى المغول، بسبب تلكم الأمور مع الأنانية المفرطة التي سيطرت على كل دولة إسلامية، وعلو شعار نفسي نفسي يومئذ، معظم تلك الحواضر، وكان من الممكن أن تواصل الوحشية المغولية طريقها، لولا أن تدارك المسلمون الأمر أخيراً، بفضل الله ثم علماء بارزين لا يخافون في الله لومة لائم كالعز بن عبدالسلام، وقادة صنعهم الله على عينه، كالقائد المظفر سيف الدين قطز، فكانوا سداً حمى الله به حمى الإسلام، وكانت بداية النهاية لتلك القوى المتوحشة. التوحش والتجبر الصهيوني اليوم لا يختلف عن المغولي في تلكم الفترة، فإن كسر غزة يعني مواصلة الصهاينة رحلة التجبر نحو المحيط العربي والإسلامي، ما لم يحدث حادث وتقع عين جالوت جديدة. ظني أن غزة اليوم تعيد سيرة قطز والمماليك المؤمنين ضد المغول الكفرة الفجرة، وتعلن للعالم رغم كل الضغط الممارس عليها من قوى الغرب والشرق، أن هناك نفوساً عظيمة أبية شامخة تأبى الذل، وتفهم لغة وعقلية العدو، وأنها هي التي تمسك بمفاصل القطاع، ولن يخدعها مخادعون سياسيون فجرة من الغرب والشرق. نفوس تربت على العزة والإيمان بأن الله مع المتقين، ومع الصابرين، ومع الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص. هؤلاء لم ولن يفهمهم أي سياسي مخادع، غربيا كان أم عربيا. غزة عين جالوت جديدة لن يفهم هؤلاء الصهاينة والملحدون ومن على شاكلتهم، أن من يعيش في غزة يرجون أن يكونوا ضمن من ذكرهم النبي الكريم في حديثه: «لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم..»، فربما هذا الرجاء في نفوس المجاهدين الغزيين هو الذي دفعهم لهذا الثبات والصمود والشموخ الأسطوري أمام أعداء الله منذ أن نزل وباء الصهيونية على فلسطين. إنّ استرداد الحقوق لا يمكن تحقيقه بمفاوضات عبثية، ومؤتمرات فارغة ووعود كاذبة. وما كان طوفان الأقصى إلا نتاج فهم عميق ووعي تام لتجارب السابقين التاريخية قديماً، ومن ثم في بلاد الأفغان مع الأعداء حديثاً، ودروس أخرى متنوعة من تاريخ هذه الأمة. ولهذا يمكن القول إن غزة ستكون بإذن الله عصية على القاصي والداني، الصليبي منهم أو الصهيوني اليهودي. مثلما انكسرت شوكة المغول في عين جالوت، وكانت بداية النهاية لجحافل الإجرام والدمار، فكذلك ما يحصل الآن في غزة، ستكون بداية نهاية عصر الصهيونية بإذن الله، فلا ترعبنكم مشاهد الهدم والدمار والقتل في غزة، فما جرى في بغداد سنة 656 هجرية لا يمكن مقارنته بغزة، رغم أن النفوس المسلمة عزيزة غالية في كل زمان ومكان، لكن هكذا التحولات التاريخية العظيمة تحتاج تضحيات ودماء وشهداء. وإن ما جرى من دمار وانكسار مادي ونفسي في جيش الصهاينة وحاضنتهم الشعبية منذ بداية طوفان الأقصى، وانكشاف أمرهم ووجههم البشع للعالم كله، ليس بالمكسب الذي يتم التقليل من شأنه، فإنها مؤشرات ودلائل على نهاية هؤلاء المجرمين التي اقتربت كثيراً (ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا).

447

| 24 يوليو 2025

حين يكون مجنون عظمة صاحب قرار

الوهم بحسب التعريف الطبي هو عدم قدرة الفرد على التمييز بين الواقع وما يتخيله. وهو أنواع عديدة لن نسترسل ونتحدث عن تلكم الأنواع سوى نوع واحد هو ما يسمى بوهم العظمة، أو ما يسميه الأطباء بجنون العـظمة، الذين قالوا في تعريفاتهم إنه مزيج من مشاعر وأفكار ناتجة عن شعور مبالغ فيه من القلق، أو الخوف، أو الاضطهاد، أو التهديد، أو التآمر، بحيث تتحول تلك المشاعر أو الوهم بعد حين من الدهر قصير، إلى معتقدات غير حقيقية، لكن يؤمن بها من يعيش هذا الوهم أو جنون العظمة. قد تلعب الجينات أو الصفات الوراثية في صناعة هذا الوهم في الإنسان، لكن العنصر الأهم في ابتلاء المرء بهذا الوهم، هو البيئة المحيطة التي يعيشها من هو مبتلى بهذا المرض النفسي، إن صح وجاز لنا التعبير. فالمشكلات والاضطرابات العائلية، أو ما حولها تزيد من احتمالية أن يُبتلى المرء بهذا الوهم أو وهم العظمة، بحيث تراه بعد الابتلاء، أنه دائم الريبة والشك في الآخرين من حوله حتى يتعمق هذا الوهم عنده، ليبدأ يعتقد أن أي وجهة نظر أو انتقاد يسمعه أو يقرأه، إنما هي إشارات أو رسائل تقصده هو دون غيره، أو أن أفعالهم وأقوالهم لابد أنها موجهة ضده أو تقصده، بالإضافة إلى شعور خفي دائم عنده ويتعمق، مفاده أن دوره في البيئة التي يعيشها مهم، لكنه غير معترف به، وأن هناك من يسعى دوماً للانتقاص من قيمته وشأنه وإحباط جهوده!. إنّ أسوأ السيناريوهات في هذا الأمر، أن يُبتلى بهذا المرض من تؤول إليه الأمور بقدرة قادر ليكون صاحب قرار، كأن يكون رئيس دولة، أو وزيراً في دولته أو مديراً عاماً في شركة أو مؤسسة ما، أو مدير إدارة أو ما شابه من مناصب ذات صلاحيات.. فإن حدث وصار المبتلى بجنون العظمة صاحب قرار في كيان ما، دولة كانت أم وزارة أم شركة أم نحوها، فإن الأجواء مهددة بأن تتسمم وتحيطها سحب القلق والتوتر، وفي الوقت ذاته تنشط جماعات التطبيل أو النفاق، الباحثة عن مصالحها قبل أي شيء، حيث ترى في إحاطة هذا الموهوم بالعظمة، فرصة ذهبية لاحت لهم وربما لا تتكرر، إن هم لم يستغلوها في تحقيق أكبر كمٍ من المكاسب بالشكل المناسب، وفي الوقت المناسب. نموذج لمجنون عـظمة ربما وأنت تقرأ في هذا الموضوع، بدأت في استحضار نماذج من هؤلاء ربما أوقعتك الأقدار يوماً التعامل معهم، أو أنك ما زالت تتعامل معهم، وصرت مجبراً على تحمل الكثير من المعاناة والآلام لظروف حياتية أجبرتك البقاء تحت ظلهم.. قد يكون أفضل مثال تحدث كثيرون عنه وما زالوا، وربما سيأتي من يتحدث عنه مستقبلاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، هو ذاك الفرعون الذي كان في زمن موسى وهارون عليهما السلام. الفرعون الذي ارتكب جرماً لم ولا أظن أحداً من بني البشر سيرتكبه، حتى تساوى هو وإبليس في الدرجة. فأما إبليس فقد استكبر وعصى أمر خالقه لأوهام اعتقد بصحتها، فكان نصيبه الطرد من رحمة الله بشكل قاطع نهائي. وأما فرعون هذا، فقد ادّعى الألوهية ( فقال أنا ربكم الأعلى) ثم جاء في موقف آخر (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري)! هكذا أوصلته أوهامه وجنون العظمة فيه إلى أن يدّعي الألوهية، في سابقة بشرية غير معروفة. هذا الفرعون هو أبرز نموذج بشري أصابه مرض الوهم، أو وهم وجنون العظمة، فكان بلاء على شعب مصر، سواء المصريون أو غيرهم كبني إسرائيل.. الجميع عانى من أوهامه وشكوكه وارتيابه في أغلب من كان حوله قبل غيرهم من عامة الناس، وتلك الأوهام تسببت بالضرورة في معاناة الناس تحت حكمه سنين طويلة، حتى انتشر الرعب والخوف في مملكته، فكان بلاءً وعذاباً مستمراً. النهايات البائسة لمجانين عـظمة استمرت أوهام الفرعون حتى آخر دقائق حياته في مشهد نهائي، أو مشهد وصوله إلى البحر وهو يطارد بني إسرائيل.. فقد كان مشهد انفلاق البحر لبني إسرائيل على يد موسى عليه السلام، مشهداً رهيباً، وإن لم يحضر فرعونُ وجنوده لحظة الانفلاق تلك، التي وبقدرة الله تحول قاع البحر إلى اثني عشر طريقاً يبساً على عدد أسباط بني إسرائيل. يقترب فرعون وجنوده من البحر بعد حدوث الانفلاق، حتى إذا أشرف على الماء، كما جاء في تفسير الطبري، قال أصحاب موسى: يا مكلّم الله، إنّ القوم يتبعوننا في الطريق، فاضرب بعصاك البحر فاخلطه، أي أعده إلى ما كان عليه حتى يكون حاجزاً بيننا وبين هذا المهووس بالعظمة وجنون الارتياب. فأراد موسى أن يفعل، فأوحى الله إليه (أن اترك البحر رَهْوا) أي اتركه على حاله، فإنما أمكرُ بهم، فإذا سلكوا طريقكم أغرقتهم. فلما نظر فرعون المتكبر المتجبر إلى البحر قال: ألا ترون البحر؟ فَرَقَ مني حتى تفتّح لي حتى أُدْرك أعدائي فأقتلهم ! هكذا وصل به الظن والجنون والوهم، فسار هو وجنوده نحو بني إسرائيل، حتى إذا ما انتهى إلى وسط البحر، أوحى الله إلى البحر أن خذ عبدي الظّالم وعبادي الظلمة، فإني قد سلطتك عليهم. فتغطغطت تلك الفرق من الأمواج كأنها الجبال، أي غطست تحت تلك الأمواج. فغرق فرعون وجنوده ولم يخرج أحد من أولئك الظالمين، وفي الطرف المقابل يقف بنو إسرائيل مع موسى وهم ينظرون. نهاية دنيوية بائسة لمجنون عظمة، تنتظره حسابات أخروية أليمة. ولا أقول بأن نهايات كل مهووس أو مجنون عظمة تكون كنهاية فرعون، لكن من المؤكد أن المبتلى بهذا الوهم، والذي يخلو قلبه من إيمان بالله وحُسن ظن به، سيتعمق في أوهامه وجنونه حتى يرتكب آثاماً وكبائر ذنوب، خاصة إن وجد تفاعلاً إيجابياً يؤيد أفعاله وأقواله من لدن زمرة مطبلين أو منافقين منتفعين. ومن المؤكد أيضاً، أن نهايته ستكون بائسة يسجد كثيرون لله شكراً على خروجه من مشهد حياتهم. وللأسف أن أمثاله كثير اليوم كما كان بالأمس، ولا تتسع المساحة ها هنا لحصرهم فضلاً عن ذكرهم.. فاللهم لا تسلّط علينا مجنون عظمة، لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

294

| 17 يوليو 2025

أين اختفى العلماء؟

«إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِثوا ديناراً ولا درهماً، إنّما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر». أو كما قال صلى الله عليه وسلم. العلماء إذن ورثة أنبياء، وليسوا ورثة أغنياء. العلماء بيّن النبي الكريم بحديثه الشريف هذا مكانتهم في الأمة. إنهم في مرتبة رفيعة بعد انتهاء فترة النبوات والرسالات. تلك المرتبة لابد أن تقتضي منهم الحفاظ عليها والقيام بحقها. فهل علماء اليوم كذلك؟ العلماء منذ عهد الخلافة الراشدة وحتى عهد قريب جداً، كان لهم تأثيرهم الإيجابي الفاعل أوقات الأزمات والملمات، كما في أوقات السلم والراحات. كانوا، ولابد أن يكونوا إلى ما شاء الله لهم أن يكونوا، بوصلة تهتدي بها الأمة. فهم الأقدر دوماً على توجيه وتشكيل العقول والألباب وفق ما أمر سبحانه. وهذا ما جعل تأثيرهم في الكثير من المشاهد على مدار تاريخ هذه الأمة، بالغا وفاعلا. ولكن بدأ ذلك التأثير في الضمور والخفوت تدريجياً مع تكاثر الأزمات والمصائب. فماذا جرى لهم خلال السنوات الحالكات الماضيات؟ معظم العلماء كما أسلفنا، كانت مكانتهم محفوظة في الخلافة الإسلامية، وإن عانى البعض من جور بعض الولاة والخلفاء، لكن أغلبهم كانت مكانتهم مرموقة محفوظة في الأمة، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. حتى إذا ما سقطت الخلافة قبل مائة عام، تأثر العلماء من ضمن من تأثر بذلك السقوط أو تلكم المصيبة العظمى، فما كان الحل للم شمل العلماء، إلا عبر جامعات تربوية تعليمية كالأزهر والقيروان وما شابههما، أو اتحادات بعد ذلك وروابط وهيئات كالتي نعايشها اليوم. فهل أجدت نفعاً؟ العلماء بوصلة الأمة التساؤلات كثيرة، وهي دليل على أهمية هذه الفئة في هذه الأمة. وكما أسلفنا بأنهم كالبوصلة، صار نهوضهم نهوضا للأمة، وانتكاستهم انتكاسة لها. ولا أتردد في القول بأننا في العقود الأخيرة صرنا نعيش انتكاسة لعلماء الأمة، أو هكذا يبدو لكثيرين، حتى صار لافتاً للأنظار خفوت نجمهم، وضعف تأثيرهم على عامة الناس. وأحداث غزة من أبرز ما يمكن الاستشهاد بها. إذ لا تأثير فاعلاً لتوصيات ونداءات العلماء في هذه المعركة الحاسمة مع أعداء الله والدين. ولا شك أن لهذا الخفوت وضعف التأثير مسببات. وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن السر الذي أوصل العلماء إلى مستوى لا يتأثر غالبية العامة بهم، لا في السلم ولا في الحرب؟ ولماذا صارت العامة فعلاً لا تتأثر بما يصدر عن العلماء من توجيهات أو نداءات؟ وهل كثرة الأزمات وتسارعها وتنوعها في الأمة، والجهل غير المبرر بالدين الذي يتسع يومياً، جعلت الأحاسيس تتبلد، بحيث لا تنفع معها نصيحة ولا توجيه ولا إرشاد علمائي؟ لن أبالغ إن قلت بأننا نعيش ليلة ظلماء كتلك التي قال أبوفراس الحمداني عن نفسه يوم أسره. فنحن اليوم فعلياً نعيش ليلة ظلماء يُفتقد فيها البدر، أو بدرُ العلماء. والناس حيارى يا ربي هذه الأيام، حتى راحت للشرق وللغرب تجني الآلام. ولا شك أن كل هذا بسبب غياب بدر العلماء، الذين تفرقت بهم السبل وتنوعت مآربهم وغاياتهم حتى انقسموا إلى فئات ثلاث لا رابع لها. فئة صامدة وأغلبها مغيبة في السجون والمعتقلات. وفئة ثانية اختارت الصمت والركون إلى الظل، أملاً في أن يتغير الواقع الحالي بقدرة قادر، فيما فئة ثالثة اختارت الوقوف على أبواب السلاطين، ورضيت أن تبيع آخرتها بدنيا غيرها الفانية، حتى صارت لا تتردد قيد أنملة في أن تشرعن للمتغلبين ما بدا وطاب لهم!. استقلالية العلماء المالية من أكثر المسببات التي جعلت أدوار العلماء تتراجع وتتضاءل، وتحتاج إلى معالجة ما، عدم استقلالهم مالياً عن الدولة لسبب وآخر. إن عدم تمتعهم بهذه الاستقلالية من أسباب تراجع تأثيرهم وفعاليتهم على مستقبل الأوطان والشعوب. اعتماد العالم في لقمة عيشه على راتب حكومي من هنا، ومكافأة من هناك، تجعله بلا زخم أو تأثير، فهو في نظر العامة، موظف حكومي نهاية الأمر، لا يختلف عن أي موظف!. ما عاناه الأئمة والعلماء السابقون كالحسن البصري وأبي حنيفة وابن حنبل والشافعي ومالك وابن تيمية وابن قيم الجوزية، من جور وظلم الولاة والسلاطين، وعدم خضوعهم لأهواء وأمزجة الأنظمة الحاكمة المخالفة لشرع الله، إنما الذي أعانهم على ذلك الثبات والصمود، هو استقلاليتهم المادية أولاً، ولأنهم ثانياً، كانوا يعتبرون أنفسهم ورثة أنبياء. أي أنهم هم الأصل في حياة الأمة، والدولة بعد ذلك، وأنه ما قامت الدولة في الإسلام إلا لحماية الدين، وليس العكس. تأثير العلماء على مستقبل الدول إن استقراءً سريعاً عبر تاريخ الأمة، سنجد كم كان العالم الرباني، صاحب تأثير فاعل بالغ على سياسة ومستقبل الدولة بأكملها. فهذا العز بن عبد السلام، ضمن أحد المواقف الشهيرة في تاريخنا، وفي أهم وأخطر الأوقات التي مرت على الأمة حين واجهت خطراً وتهديداً وجودياً تمثل في عبثية ووحشية المغول، برز نجم الشيخ، الذي لعب دوراً هاماً في تحفيز الشعب ومن قبله الملك قطز، للتصدي لخطر المغول. مما يحكى عنه، أن قطز وهو يستعد للمعركة الفاصلة مع المغول، أمر بجمع الأموال من الرعية ولم يعارضه أحد من العلماء في بلاطه يومها إلا العز بن عبدالسلام، الذي وقف في وجهه وطالبه ألا يأخذ شيئاً من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم، بالمقادير التي تتناسب مع ثرواتهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق على تجهيز الجيش، فإذا لم تكف الأموال، يمكن حينها للملك أن يفرض الضرائب على بقية الناس. فتراجع قطز عن قراره ونزل على حكم الشيخ، الذي أثار كل خطباء وعلماء الأمة يومها وطالبهم بتحفيز الناس على الجهاد، حتى نهض المسلمون في مصر وامتلأت نفوسهم ايماناً كان سبباً في ثباتهم وصمودهم في عين جالوت الفاصلة ودحر المغول للأبد. الشيخ آق شمس الدين، العالم الرباني الذي لعب دوراً مؤثراً في استنهاض همة العثمانيين في تجسيد وتحقيق البشارة النبوية (لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش) نموذج آخر للعالم الرباني المؤثر، حيث كرس جهده في تربية السلطان محمد بن مراد الثاني منذ صغره على هذا الهدف وتلكم الغاية، حتى تحقق فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد ولُقّب بالفاتح العسكري، وصار الشيخ يُعرف بالفاتح المعنوي لهذه المدينة الحصينة. خلاصة ما يمكن أن نختم به هذا الحديث، أنه مثلما ظهر علماء سلاطين على مدار تاريخنا إلى اليوم، فإنه لا يمنع ظهور العز بن عبدالسلام، والحسن البصري، وابن تيمية وآخرين كثر، يصدعون بالحق، لا يخافون في الله لومة لائم. ولقد ثبت بالتجربة أن صلاح هذه الأمة ونهضتها، كما أسلفنا، مقترنان بصلاح ونهضة علمائها، وإن سقوط البعض القليل منهم ودخولهم أجواء السلاطين، لا يعني أنه عدوى تنتقل للغالبية بالضرورة. إن أمة ظهر فيها العز بن عبدالسلام الذي سخره الله لتنجو بفضله سبحانه، ثم بتأثير هذا الشيخ الكبير من خطر الزوال على يد المغول، قادرة على أن تُنجب وتُخرج الآلاف مثله، يعيدون لها مجدها وعزتها. وإنّ سوء حال الأمة اليوم لا يمنع كذلك من التفاؤل بغد أفضل وأجمل، فالله سبحانه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

333

| 10 يوليو 2025

اختر نهايتك المرغـوبة

خلق الله إبليس ليكون نموذجاً للنهاية الخاسرة، ودرساً لبني آدم خلاصته أن العناد والتكبر والحسد، عوامل أساسية مؤدية بالضرورة لنهاية بائسة مؤلمة، وهي كلها توفرت في إبليس ساعة نزول الأمر الإلهي في الملأ الأعلى في زمن ما، بالسجود لآدم عليه السلام. ارتكب هذا المخلوق الناري المسمى إبليس ذنب العصيان بسبب حسده وتكبره على المخلوق الطيني المسمى آدم، ورفضه العودة والإنابة والتوبة، فكان مصيره الطرد النهائي من الرحمة الإلهية إلى يوم القيامة. أما آدم عليه السلام، وحال ارتكابه ذنب العصيان بالأكل من الشجرة المحرمة، بعد أن وسوس إليه الشيطان وزين له الأمر، ندم وتاب، واستغفر وأناب، فكان القبول منه. أي أن آدم عليه السلام، علم ماهية الخطأ، فأدرك من فوره أنه أخطأ، وأن العلاج هو العودة السريعة إلى جادة الصواب والصراط المستقيم، وهذا يعني أنه فكر وقدّر، فاختار مصيره أو نهايته المرغوبة، كما علمه الله، لم يتكبر ولم تأخذه العزة بالإثم. إنه النموذج المثالي للنهاية السعيدة لمرتكب الذنب والمعصية، حال استغفاره وتوبته وإنابته. ومن هنا يتبين أنه رغم قوة وبأس وتأثير الشيطان على الإنسان، إلا أنه أضعف من أن يقرر مصير هذا الإنسان، لأن هذا البشري هو صاحب لب وإرادة وقرار، والله منحه من الإمكانيات أن يختار طريق الهداية أو الغواية، رضا الله أو غضبه، جنته أو ناره. الآيات القرآنية التي تحذرنا من الشيطان وألاعيبه كثيرة، فهذا الشيطان تكمن قوته في مهارته وقدرته على الإغواء والوسوسة والايحاء ليس أكثر. بمعنى أنه لا يملك سلطة عليك، ولا يقدر أن يأمرك مباشرة لفعل الشر، بل هو يدرك مسألة التحدي عند بني آدم حين يأتي وقت التحدي، خاصة إن كان بالقلب إسلام وإيمان. ولهذا هو لا يتحداك، بل جل ما يمكنه القيام به أن يستدرجك ويغويك ويزين لك الأمر، ويسير بك خطوة تتبعها أخرى إن تركت له الحبل على الغارب، حتى تجده وقد حقق غايته. حين يقول لنا سبحانه وتعالى ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) فإنما هو نداء لعباده المؤمنين، يحذرهم من عدوهم الذي لا يكل ولا يمل، وكأنما لسان حال الآية الكريمة يقول: يا عبادي الذين آمنوا بي حق الإيمان، انتبهوا إلى عدو أبيكم آدم، وعدوكم أنتم ومن معكم من المؤمنين إلى يوم الدين. إنكم مادة الصراع الدائم بين الحق والباطل، الخير والشر، الإنسان والشيطان حتى قيام الساعة.. إنكم قصة واضحة بذاتها، يعرف كل منكم دوره فيها بحسب فطرتكم، وعندكم الإلمام الكافي، والقدرة على أن يرسم أحدكم نهايته بنفسه، بعد أن يستعين بالله، ويحذر من خطوات الشيطان. حاول أن تتأمل قوله تعالى في الآية الكريمة التالية التي توضح لك أقصى ما يمكن لإبليس أو الأبالسة القيام به مع بني آدم، وهو الوسوسة والغواية وتزيين الأمور، لا أكثر من تلكم الأفعال. وهذا باعتراف إبليس نفسه يوم القيامة (وقال الشيطان لما قُضي الأمر: إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ۖ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ۖ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم). الشيطان أول من يتبرأ من بني آدم الذين أغواهم ومن أعمالهم. الشيطان الذي هو أصل كل الشرور في الدنيا، يبحث بنفسه عن ذرة رحمة تنقذه مما فيه يومئذ، فهو حين يجد أتباعه من الإنس على اختلاف مذاهبهم وأديانهم ومعتقداتهم، يلومونه على ما هم فيه بسببه، يظهر أمامهم ويبين لهم حقيقة الأمر، والتي تمثلت في تشويه صورة الخير الذي حمله الأنبياء والمرسلون ومن سار على دربهم، وتزيين الشر لهم وغوايتهم حتى اتبعوه دون أي ضغط منه أو أي سلطان له عليهم في الحياة الدنيا. بمعنى آخر، لسان حال الشيطان أو إبليس يقول لهم يومئذ، إنه وبدلاً من قبول دعوة أولئك الخيّرين من الأنبياء والمرسلين والصديقين والصالحين، أبيتم إلا اتباع خطواتي، والسير في دربي الشيطاني، حتى آلت أموركم إلى ما أنتم عليه الآن.. جهنم وبئس المصير. هكذا إذن هو المشهد بكل وضوح. من يتبع خطوات الشيطان، فلا يلومن إلا نفسه. ومن هنا لنحاول بعد الاستعانة بالله، أن نضع الآية الكريمة أمام ناظرينا، لندرك مدى قوتنا في رسم نهاية سعيدة أو شقية لأنفسنا. نسأل الله لنا ولكم العافية.

375

| 26 يونيو 2025

كره الله انبعاثهم

من هؤلاء الذين كره الله خروجهم للجهاد والقتال مع خير خلق الله محمد، صلى الله عليه وسلم ؟ من هم هؤلاء الأشقياء الذين انكشف أمرهم من فوق سبع سماوات، وكره الله وجودهم مع المسلمين في الجهاد، فكره بالتالي المسلمون وجودهم أيضاً ؟ لا شك أنهم قوم لا خير فيهم، أو لا خير يُرجى من ورائهم إن قرروا الانضمام لجيش المسلمين والخروج معهم. فهؤلاء علم الله أن خروجهم لن يكون في صالح عباده المجاهدين المتقين، فلم يرد الله بذلك أن يخرجوا معهم. إنهم الذين نطقوا الشهادة بألسنتهم، ولم تبلغ تأثيرات تلكم الشهادة الراقية إلى قلوبهم، فعاشوا حياة النفاق والشقاق، وكانوا مصدر تشويش وتوتر للمجتمع المسلم، ومصدر كل إشاعة وكل كذبة أو فرية، ومصدرا بالغ التأثير في التخذيل والإرجاف. إنهم أتباع ابن أبي بن سلول، الذين وإن هلك في ذاك الزمان هو ومن معه، فإن قطار النفاق يزداد عدد ركابه في كل زمان ومكان، بل لا زال يسير على خط ابن سلول حتى يوم الناس هذا ! على رغم أن أولئك كانوا من الميسورين مادياً، وباستطاعتهم تجهيز أنفسهم للخروج إلى الجهاد، أو تجهيز آخرين كأضعف الإيمان، إلا أن كل ذلك كان نفاقاً. هم في الحقيقة ما أرادوا الخروج ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عـدة ) وهذا تكذيب لزعمهم أنّهم تهيّأوا للغزو ثم عرضت لهم الأعذار فاستأذنوا في القعود، لأنّ عدم إعدادهم العُدّة للجهاد دلّ على انتفاء إرادتهم الخروج إلى الغزو، كما يقول ابن عاشور في تفسيره. * لماذا كره الله انبعاثهم؟ إنّ الكراهية الإلهية لمجرد وجودهم في ميادين الجهاد مع خير جيل ظهر في الأمة، كانت بمثابة تعليمات للفئة المؤمنة، صريحة ولا تهاون فيها، فإن ما وقع منهم يوم الخروج إلى معركة أحد كمثال بارز، وتأثيرهم على ثلث الجيش حتى انسحب ذلك الثلث وهم في منتصف الطريق، هو أمر ليس باليسير، بل من كبائر الأفعال والذنوب، أو ما نسميه اليوم بالخيانة. وليس من شك أن أمر الانسحاب وخلخلة صفوف الجيش في منتصف الطريق، كان أمراً تم الترتيب له من قبل أولئك المكروه انبعاثهم وانخراطهم في صفوف المجاهدين. أفعالهم الدنيئة تكررت في مشاهد أخرى كادت أن تشق وحدة المجتمع المسلم، وتسببت في مشكلات كانت الدولة المسلمة في غنى عنها وهي في بدايات التكوين. ومن هنا كانت الكراهية الإلهية لوجود أمثال هؤلاء في أي عمل جهادي ضد أعداء الأمة، ثابتة وواضحة. وهذه الكراهية أو الأمر الإلهي لا ريب أنه ساري المفعول حتى يوم الناس هذا، بل إلى قيام الساعة. لقد كره الله انبعاث أهل النفاق في المدينة إلى أي عمل ضد أعداء الله وأعداء رسوله والمسلمين، لأن خروجهم كما يقول سبحانه ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) أي فساداً وشراً وتهويلاً للأمر، والقيام بنشر الجبن والخوف بين الصفوف، بل أكثر من ذلك ( ولأوضعـوا خلالكم يبغونكم الفتنة ) وهو نشر الأكاذيب والإشاعات والقيام بأعمال النميمة والإيقاع بين المجاهدين أنفسهم. وإنّ ما يحدث في غزة منذ السابع من أكتوبر المجيد، يشرح لك تفصيلات ما كان في مجتمع المدينة المنورة آنذاك، وحركة النفاق والتخذيل والإرجاف، سواء من داخل فلسطين المحتلة أم من خارجها ولاسيما الجوار والمحيط العربي، لا تهدأ ولا تتوقف ! ابن سلول في غـزة مشاهد النفاق والتخذيل والإرجاف التي كانت بالمدينة المنورة، هي نفسها التي تحدث أمام أعيننا الآن في غزة، وكيف صار ينتشر خلسة، أولئك الذين كره الله انبعاثهم بين مجاهدي غزة، وكيف صاروا ينشرون الفتن في البيئة الحاضنة لهم، وكيف تقوم وسائل إعلامية فلسطينية وأخرى عربية بتحريف الحقائق، وبث كل ما يعمل على توهين العزائم، وبث اليأس في النفوس.. لهذا كله، كره الله انبعاثهم وانخراطهم في مشاهد غزة الأبية، وبالتالي ليس غريباً أن نرى هذا الجمود العربي المسلم نحو غزة، خاصة في الجوار القريب. ذلك أن ما يقوم به عرب ومعهم فلسطينيون أيضاً، فاق الإجرام اليهودي الصهيوني. فكيف لو دخلت فعلاً قوات عربية بزعم الدفاع عن غزة ؟ لا شك عندي أنها لن تزيد غزة إلا خبالاً، أو فساداً وشراً، ولن تكون تلك القوات سوى عون للمجرم الصهيوني ضد المقاومة، عبر شبكة عملاء وجواسيس وغيرها من أنواع الخبال. إن الآيات التي تحدثت عن فريق ابن سلول قبل ألف وأربعمئة عام، وتكره أي عمل لهم مع المجاهدين، كأنما هي اليوم تتنزل من جديد، تكره أن يتدخل أحد من العرب والمسلمين في غزة، أو يدخل وينضم لصفوف الكتائب المجاهدة هناك بحجة الدفاع.. فلو علم الله فيهم خيراً لكان تحركهم منذ البدايات، ولكن لفساد القلوب وغلبة النفاق والشقاق، حدث هذا التأخير والتباطؤ والتخاذل، وسيكون دخولهم خبالاً ووبالاً على المجاهدين الصابرين. وكأنما الله يريد نصراً لأهل غزة الصابرين المقاومين، لا يشاركهم أو يزعم أحد غيرهم أن له يدا في ذلك النصر.. لب الحديث إنْ نَصَرَ اللهُ مجاهدي غزة بأي صورة من الصور، فالنصر والمجد هم يستحقونهما، لا أحد غيرهم، ولن يكون لأحد من البشر أي فضل عليهم. أما إن حدث العكس، وتأخر النصر لحكمة ربانية، فيكفيهم شرف الجهاد والاستشهاد.. لكن وعد الله نافذ ( إن تنصروا الله ينصركم ) وما من شك في أن أهل غزة يحاولون جهدهم أن ينصروا الله كي ينالوا نصره المؤزر المبين ( ويقولون متى هو، قل عسى أن يكون قريبا).

387

| 12 يونيو 2025

كانوا يسارعون في الخيرات

مشهد يمتدح الله، سبحانه، فيه زكريا وزوجه وابنهما يحيى عليهم السلام جميعا. فقد كانت أسرة مباركة، وكانوا من الخاشعين المتواضعين، المحبين للخير. فقد (كانوا يسارعون في الخيرات) والمسارعة في طاعة الله تعالى، كما يقول الفخر الرازي، من أكبر ما يُمدح المرءُ به، لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة. إذن كانوا يبادرون إلى الخيرات ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، كما يقول ابن سعدي في تفسيره، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها إلا انتهزوا الفرصة فيها (ويدعوننا رَغَباً ورهبا) أي يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوذون بنا من الأمور المرهوب منها، من مضار الدارين، وهم راغبون راهبون لا غافلون، لاهون ولا مدلون (وكانوا لنا خاشعين) أي خاضعين متذللين متضرعين، وهذا لكمال معرفتهم بربهم. قال الإمام الماوردي في قوله تعالى (ويدعوننا رغـباً ورهبا) فيه أربعة أوجه: أحدها رغباً في ثوابنا ورهباً من عذابنا. الثاني رغباً في الطاعات ورهباً من المعاصي. والثالث رغباً ببطون الأكف ورهباً بظهور الأكف. والرابع يعني طمعاً وخوفاً. ويحتمل وجهاً خامساً، أي رغباً فيما يسعون من خير، ورهباً مما يستدفعون من شر. خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوماً فقال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وتثنوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين). في الحديث، نجد سيد الأولين والآخرين يحثنا على المسارعة إلى فعل الخيرات، قبل أن تشغلنا شواغل الدنيا: «بادروا بالأعمال، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعـرض من الدنيا». إن المسارعة لفعل الخيرات من أخلاق المؤمنين الصادقين، ومثل هذه الأعمال دلالة على رجاحة في العقل وسلامة في القلب، فإن إتيان الخير إنما هو نموذج رائع لقيمة العطاء، وغالباً ما يكون العطاء أصعب وأشق على النفس من الأخذ. إنك حين تقوم بالعطاء والمسارعة إلى الخيرات، فإنما تثبت بالدليل أنك مفتاح للخير مغلاق للشر، كما بالحديث: «إنَّ من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإنَّ من الناس ناساً مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه». إضافة إلى ذلك، فإن المسارعة إلى فعل الخيرات، تدخلك تحت مظلة الآية القرآنية العظيمة: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين). أي مديح أجمل وأفضل من أن تكون من أئمة الخير، تسير وفق ما أمر الله، فيرزقك المولى عز وجل نتيجة ذلك، إلهاماً من عنده لفعل الخيرات، ما يعني المزيد من الرضا والبركات عليك، بل ولأنك بفعل الخيرات تلك، صرت تستحق نعمة أخرى من نعم الله التي لا تُعد ولا تُحصى، هي نعمة الحرص على الصلاة وإيتاء الزكاة، من أجل تدخل بعد ذلك ضمن قائمة العابدين، وما أجملها وأزكاها من قائمة. وهل منا من لا يرضى أن يكون اسمه ضمن تلك القائمة العالية الرفيعة؟ لنغتنم مثل هذا اليوم الجليل العظيم ونسارع فيه بالخيرات، بأشكالها المتنوعة. فليس أعظم يوم عند الله من يوم عرفة. لنسأله سبحانه في مثل هذا اليوم تحديداً، العفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة، وطلبات أو حوائج أخرى، دنيوية وأخروية، فهو السميع العليم مجيب الدعوات. وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وكل عام وأنتم بخير.

291

| 05 يونيو 2025

وقد أفلح اليوم من استعلى

يأتي فرعون إلى ساحة التحدي في أزهى حُلة، منتفشاً منتفخاً، حيث سحرته هناك يواجهون سحر موسى أو هكذا اعتقد وهكذا زعموا، لا يتوقع هزيمة معنوية أو مادية من هذا الإسرائيلي الذي لا يكاد يُبين، وخاصة أن سحرته، وهم من هم يومئذ في هذا المجال، ولا يمكن لشخص مثل موسى مقارعتهم وهزيمتهم، يمنّي نفسه بهزيمة موسى عليه السلام أمام الملأ، فلا تقوم له قائمة بعدها، أو هكذا كان يتوهم الفرعون. يدخل السحرة المهرة على فرعون، لا يدور بخلدهم أدنى شك في أنهم منصورون فائزون. ولم لا، وهم أهل الصنعة والخبرة في هذه البلاد، لا ينافسهم أحد؟. فما علموا قبل ذلك أن هناك صاحب خبرة ومهارة في السحر يفوقهم، تدفعهم رغبة شديدة في إنهاء هذا المشهد سريعاً لنيل ما وعدهم فرعون من مكافآت مجزية ومكانة مقربة، كما هي عادة الفراعنة في كل زمان ومكان، حيث شراء الذمم والنفوس بالمال والجاه والمناصب والمكانة. في يوم الزينة، حيث الآلاف المحتشدة، يأتي السحرة منتفشين كالفرعون، ليمارسوا بعض مهاراتهم السحرية مع رجل لا يكاد يعرفونه، أو سمعوا عنه وخبرته ومهارته في مثل صناعتهم تلك، وفي ظنهم أنها دقائق وينتهي هذا المشهد الجماهيري العظيم بهزيمة موسى وكل بني إسرائيل المستضعفين، وانتصار كاسح لفرعون وآله!. لكن ما إن بدأ العرض السحري أمام تلكم الآلاف المؤلفة التي أتت لترى عظمة سحرة فرعون، وهزيمة هذا الذي يزعم أن هناك إلهاً غير الفرعون، فزع السحرة قبل الناس، وهالهم ما رأوه حين ألقى موسى عصاه فتحولت إلى حية حقيقية تسعى وتلقف ما صنعوا من خيالات وتمويهات. هنالك أيقنوا تمام اليقين أن الأمر ليس سحراً، وليس بالذي يعرفه السحرة، بل هو أمر غير معتاد في عالم السحر والشعوذة، بل إن صح التعبير، أمر غير معروف في عالم البشر كله. يقول الفخر الرازي في تفسيره: «وقد حُكي عن السحرة أنهم عند التلقف، أيقنوا بأن ما جاء به موسى عليه السلام، ليس من مقدور البشر من وجوه. أحدها: ظهور حركة العصا على وجه لا يكون مثله بالحيلة. وثانيها: زيادة عظمها على وجه لا يتم ذلك بالحيلة. وثالثها: ظهور الأعضاء عليه من العين والمنخرين والفم وغيرها ولا يتم ذلك بالحيلة. ورابعها: تلقف جميع ما ألقوه على كثرته وذلك لا يتم بالحيلة. وخامسها: عودها خشبة صغيرة كما كانت وشيء من ذلك لا يتم بالحيلة. ثم بين سبحانه وتعالى أن ما صنعوا كيد ساحر والمعنى أن الذي معك يا موسى معجزة إلهية والذي معهم تمويهات باطلة. «والله خير الماكرين» بعد أن بدأ مشهد رمي الحبال، خاف موسى للوهلة الأولى لولا أن ثبته الله (لا تخف إنك أنت الأعلى) فظهرت النتيجة فوراً أمام ذلكم الحشد حين ألقى موسى عصاه لتتحول إلى حية تسعى وتلقف ما صنعوا، حيث خسف الله بصورة فرعون أمام الناس جميعاً عبر مشهد هزيمة السحرة أمام الناس، بل الأكثر إثارة هو مشهد السحرة وهم جميعاً دون أدنى تردد وتفكير، يشهدون أنه لا إله إلا هو، بعد أن رأوا مشهداً ليس هو بالسحر أبداً. فكان ذلك المشهد العجيب إيذاناً بعلو موسى عليه السلام ذاك اليوم، وبداية النهاية للفرعون وآله. مشهد لم يتم التخطيط له أبداً في عالم البشر الدنيوي، بل تم في العالم السماوي العلوي، حيث المكر الإلهي حين يتجسد على أرض الواقع، لا يبقي ولا يذر ظالماً أو مجرماً على حاله. وهكذا كان الحال مع الفرعون الذي أغاظه المشهد كثيراً، وجعلته تائهاً مشوش الفكر للحظات. فكيف انقلبوا سريعاً وانهزموا وهم من هم في الصنعة، ومن بعد أن وعدهم بمكافآت ومنزلة قريبة منه، بل كيف آمنوا برب هارون وموسى دون أن يستأذنوه؟! «فاقض ما أنت قاض» لم يدر بخلد الفرعون أن مثل هذا الأمر لا يحتاج استئذانا من أحد، حتى من فرعون نفسه. فالسحرة بطبيعة الحال ومن هول المشهد، تبين لهم الحق فوراً دون أدنى ريب في نفوسهم، وتحول في الوقت ذاته هذا الفرعون في عيونهم، والذي كانوا يطلبون وده وبعض ما عنده من متع ونعيم الدنيا قبل ساعات قليلة ماضية، تحول إلى شخص لا يستحق أدنى انتباه، بل ربما الندم كان شديداً ساعتئذ عند السحرة على ما فاتهم من سني عمرهم قبل هذا المشهد، حيث الكفر والضلال الذي كانوا عليه، باتباعهم أمر الفرعون طويلاً، وما كان أمر فرعون برشيد. أغاظ المشهد إذن فرعون وجن جنونه، فقرر على الملأ التخلص من هؤلاء (الخونة) كعادة الطغاة والمجرمين حين الانكشاف ودحض حججهم، عبر اتهام المعارضين بالخيانة والتخطيط لقلب نظام الحكم وبقية التهم المعروفة التي تتكرر في كل زمان ومكان! فقرر التخلص منهم ولكن بعد عذاب شديد (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل). فماذا كان رد السحرة الذين دخلوا دين الله منذ لحظات قليلة؟ لم يخف أحد منهم، ولم يهتز لتهديدات الفرعون، فقالوا جميعاً بثقة المؤمنين المطمئنين (فاقض ما أنت قاض). نعم، اصنع يا فرعون ما بدا لك، فأمرك وسلطانك زائلان لا ريب، كما هي الحياة الدنيا زائلة لا ريب فيها. وبذلك الموقف، ضرب أولئك السحرة أروع الأمثلة في الصمود والثبات أمام الطغاة، مهما تبلغ درجة ظلمهم وقهرهم للآخرين. لب الحديث ينتهي المشهد التاريخي (وقد أفلح اليوم من استعلى) حيث أفلح موسى عليه السلام، وقهر فرعون قولاً وفعلاً. انتهى المشهد على عكس ما خطط له فرعون وتمنّاه، فكان العلو والنصر للحق الذي يمثله موسى ومعه هارون عليهما السلام. فالناموس الإلهي لا يتغير، وهو أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، في أي زمان وأي مكان. فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

402

| 29 مايو 2025

أراغبٌ أنت عن آلهتي؟

ليس من السهل على الإنسان أن يكون المقابل للرفق واللين والأدب في التعامل مع أحد من البشر، قسوة وجفوة وغلظة، بل تهديد بالضرب أو السب أو حتى القتل والتصفية.. هكذا كان الوضع مع خليل الرحمن، ابراهيم عليه السلام، وهو يبذل جهده في دعوة أبيه آزر إلى دعوة الحق وترك عبادة الأوثان. وقد كانت دعوته فيها الكثير من الرفق واللين، لكن لم يجد كل ذلك نفعاً في آزر وقومه. في هجمته المضادة، قال لابنه ابراهيم (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) ولم يقل له يا بني مثلاً، كنوع من الرفق مع ابنه الهيّن اللين الحليم، بل سماه باسمه، إشارة إلى أنه غاضب منفعل من دعوته الغريبة عليهم، ثم دعوته له لترك عبادة تلك الآلهة التي هم عليها عاكفون. قال والد إبراهيم له على سبيل التهديد والوعيد، كما يقول الطنطاوي في التفسير الوسيط، أتارك أنت يا إبراهيم عبادة آلهتي، وكارهٌ لتقرّب الناس إليها، ومنفرهم منها؟ لئن لم تنته عن هذا المسلك (لأرجمنّك) بالحجارة وبالكلام القبيح (واهجرني مَلِيّاً) بأن تغرب عن وجهى زمناً طويلاً لا أحب أن أراك فيه ! وهكذا قابل الأب الكافر أدب ابنه المؤمن، بفظاظة وغلظة ثم تهديد ووعيد، وعناد وجهالة، شأن القلب الذى أفسده الكفر. هذه الآية كما ذهب بعض المفسرين إنما حكاها الله تعالى لمحمد، صلى الله عليه وسلم، كما يقول الفخر الرازي، كي يخفف على قلبه ما كان يصل إليه من أذى المشركين، وليعلم أن الجهّال منذ كانوا على هذه السيرة المذمومة. ما أشبه اليوم بالبارحة إن كانت آلهة الأمس مجموعة أوثان أو أشجار أو كواكب أو ما شابه، ولقى بسببها الكثير من المؤمنين البلاء وأشد العذاب، فقط لأنهم لم يرضخوا لما كانت عليه أقوامهم من جهالة وفساد اعتقاد، وكانت قصص الأنبياء أبرز الأمثلة التي تحكي تلك المشاهد الغارقة في الجاهلية، فإن ما يحدث اليوم في عصر العلم والتنوير، أو عصر الاتصالات والتقنيات والمعلومات، لا يختلف البتة عما كانت عليه الأقوام السابقة. لقد تعددت آلهة اليوم وتغيرت، ولم تعد أوثاناً أو أشجاراً، بل صارت على شكل توجهات فكرية أو أحزاب سياسية أو أصحاب قرار وصلاحيات، وعموم الناس في هذا المشهد الجاهلي الفوضوي، حيارى بين تلكم الآلهة المتعددة، ولمن يجب تقديم الولاءات والطاعات، على رغم وضوح الرؤى والرسالات، بعد خاتم الأنبياء والمرسلين. كل بطانة آلهة صارت تهدد الأتباع في وقت من الأوقات بصورة من الصور، إن رأت تململاً أو تحركاً نحو العصيان، وتعيد ترديد عبارات آزر لإبراهيم عليه السلام ( أراغب أنت عن آلهتي ) كأنما التاريخ يعيد نفسه، وإنْ بصور وأشكال وهيئات مختلفة، لكن المضمون واحد. أوثان العصر الحديث من يعارض مديره المتسلط في إدارة أو وزارة أو شركة ما، فإن أولى العبارات التي يسمعها لا يختلف مضمونها عن مضمون ما قاله آزر لإبراهيم، وإن تبدلت الكلمات والحروف. فلا فرق بين (أراغب أنت عن آلهتي) وبين (أتعارض المدير العام أو الصالح العام) ؟! إن ظهر في الأفق معارضٌ لرئيس حكومة أو رئيس دولة، أو ما شابه من المناصب، فإن التهديدات تنهال عليه من كل حدب وصوب. كل جهة بحسب اختصاصها تهدده بمصير غامض مؤلم إن هو عارض، أو رغب عن سياسات الحكومة، أو توجهات الرئيس، أو تطلعات الوزير، أو من هم على شاكلتهم. كلهم يردد نفس المعنى (أراغبٌ أنت عن آلهتي) ؟! الدول التي تدور في الفلك الأمريكي إن تجرأت ورغبت عن سياساتها، وأرادت التحرك بعض الشيء بعيداً عن تلكم السياسات والتوجهات، فإن مصيرها ليس بالذي يسعدها ويسرها، وعواقب المخالفة معروفة ومتنوعة مؤلمة. وبالمثل تلك الدول الدائرة في الفلك الروسي أو الصيني وغيرها من أفلاك القوة والتجبر والتسلط في عالم اليوم. الأمر بالمثل يحدث مع كثير من رموز السياسة والإعلام والفكر والفن في كثير من دول العالم. فما إن تبدأ تلك الرموز بالتحرك أو تعزم على مخالفة سياسات الدولة العميقة في دولها، تجدها فجأة وبقدرة قادر تنكشف أوراقها وملفاتها وتاريخها، وكأنما تلكم الأوراق جُهّزت لمثل هذه الأوقات، فيتم خنقها ووأدها وهي في المهد ! والأمثلة على مشهد آزر مع إبراهيم الخليل عليه السلام أكثر مما يمكن ذكرها أو حصرها ها هنا. هكذا واقع الحال أينما وجهت وجهك. وليس شرطاً أن ترى هذه المشاهد في بقعة جغرافية معينة، بل متناثرة حول هذا الكوكب، من شرقة إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، وإنْ بنسب متفاوتة بحسب العقلية السائدة في كل بقعة جغرافية.. لب الحديث من يجد نفسه في موقف شبيه بموقف الخليل إبراهيم عليه السلام، يواجه بطانة آلهة ما، أو حتى الآلهة نفسها أو الوثن نفسه، فليعلم أنه إن استمر على موقفه، وثبت وصمد، فهو على الصراط المستقيم والحق المبين، وإنْ خسر نفسه وماله وولده والكثير الكثير. إن نبي الله الكريم إبراهيم عليه السلام، اختار أن يخسر كل ما يملك، بل ويخرج من بلده مهاجراً إلى ربه، على أن يتراجع عن صراط الله المستقيم. فلم تفتنه المغريات ولم ترعبه التهديدات. وبالمثل كان الحال مع سيد ولد آدم، عليه الصلاة والسلام، حين ترك ماله وأهله وبلده، وخرج مهاجراً إلى حيث يأمن على نفسه ودينه. هكذا هو الصراع الأبدي بين الحق والباطل. لا يختلف هذا الصراع اليوم عما كان عليه الوضع منذ الأمم الغابرة قبل آلاف السنين. العقلية المتجبرة الفاسدة هي هي، لا تتغير ولا تتبدل تركيبتها، أو إعداداتها الداخلية، وإن تبدّلت الأجسام وتركيباتها، أو إعداداتها الخارجية. وفي قصص الأنبياء الكرام، الكثير الكثير من هذه الدروس والعبر. نعم، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب. ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ).

477

| 22 مايو 2025

alsharq
حكاية «مهندس قطري» وملحمة وطن

على رمالها وسواحلها الهادئة كهدوء أهلها الطيبين حيث...

1098

| 08 سبتمبر 2025

alsharq
مدرب في حارة السقايين

في السنوات الأخيرة، غَصَّت الساحة التدريبية بأسماء وشعارات...

900

| 04 سبتمبر 2025

alsharq
الغدر... آخر أوراق الاحتلال

ما جرى بالأمس لم يكن حدثًا عابرًا، بل...

840

| 10 سبتمبر 2025

alsharq
السكن الحكومي وبنك التنمية

تم إنشاء فكرة الإسكان الحكومي للمواطنين بهدف الدعم...

795

| 07 سبتمبر 2025

alsharq
وقفة مع حق المؤلف

تتموضع حقوق الملكية الفكرية في قلب الاقتصاد المعرفي...

606

| 08 سبتمبر 2025

alsharq
خطأ إداري

عندما تدار الوظيفة بعقلية التسلط وفرض الأمر الواقع،...

597

| 04 سبتمبر 2025

alsharq
مَن حرّك قطعة الجبن؟

غالبية الكتب الفكرية والأدبية والاجتماعية مثل الناس، منها...

516

| 05 سبتمبر 2025

alsharq
حوكمة التدريب.. و(القرعة ترعى)

حين نتحدث عن حوكمة التدريب، فإننا غالبًا نركّز...

513

| 08 سبتمبر 2025

alsharq
قطر.. مركز عالمي للإنسانية والتضامن

كلما وقعت كارثة طبيعية في أي مكان من...

495

| 03 سبتمبر 2025

alsharq
العلاقات العامة.. صوت الجمهور الغائب في مؤسساتنا

العلاقات العامة عالم ديناميكي جميل، متكامل، بعيد عن...

492

| 04 سبتمبر 2025

alsharq
أين جمهورنا؟

أتابع دورينا لأرى النتيجة الحقيقية لما يبذل من...

486

| 05 سبتمبر 2025

alsharq
طفل مُندفع

لا يمكنه السيطرة على انفعالاته؛ وبنبرة تعاطف قالت...

468

| 05 سبتمبر 2025

أخبار محلية