رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ما يجري في غزة ليس بالغريب في تاريخ أمتنا، ما شهده تاريخنا من كوارث ومذابح ومجازر في الحواضر الإسلامية المختلفة قديماً، كانت أسوأ وأبشع مما يجري الآن في غزة، لكننا أمة تنسى سريعاً، إضافة إلى أنها لا تقرأ تاريخها، فضلاً عن تواريخ الآخرين، وبالتالي لا تستفيد ولا تتعظ من دروس التاريخ الكثيرة المتنوعة. من يقرأ في كارثة اجتياح المغول المتوحشين لعاصمة الخلافة الإسلامية بغداد سنة 656 هجرية، وما كتبه المؤرخون عن مشاهد أربعين يوماً وليلة عاث المغول في بغداد فساداً غير مسبوق لهم مع الآخرين، ليشيب من هوله الولدان. المغول منذ ظهورهم وهم غارقون في القتل والنهب والأسر والهدم.. يصلون ضمن طريقهم إلى دولة خوارزم، فيقتلون رجالها ويسبون نساءها ويأسرون بعض أطفالها. لا شفقة ولا رحمة ولا أخلاق أو شيء من نبل المحاربين والفرسان تضبط أعمالهم وتصرفاتهم.. دولة همجية انطلقت من أقصى شمال الصين لتنطلق نحو الخارج، تنشر ثقافة الموت والهدم والخراب، وتعاند البناء والصناعة والحياة. ما يقع اليوم في غزة العزة، شبيه بتلك التي كتب عنها ابن الأثير، وهي حادثة دخول المغول إلى العالم الإسلامي، واشتغال آلات تدمير الحرث والنسل التترية في حواضرها واحدة بعد أخرى، وصولاً إلى بغداد، فقال وهو يهم بكتابة أحداث تلك الفترة:» لقد بقيت عدة سنين مُعرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسياً. إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. ما أشبه اليوم بالبارحة الفواجع والكوارث التي كسرت بغداد، عاصمة الخلافة الإسلامية أو الدولة العباسية، رغم وجود دول وممالك إسلامية حينها، مثل الدولة الأيوبية في مصر والشام، والدولة المملوكية في مصر والشام أيضاً، والدولة الخوارزمية في آسيا الوسطى، والدولة الغورية في أفغانستان وشمال غرب الهند، بالإضافة إلى الدولة الأموية في الأندلس، هي نفسها تتكرر في غزة ومواقف الدول المسلمة منها، الشبيهة بمواقف الدول والممالك الإسلامية بالأمس مع بغداد، حيث الخلافات والتنافس والتناحر بينها، حيث ترك الجميع يومئذ بغداد تواجه مصيرها، ظناً منهم أن التوحش المغولي سيتوقف بعد كارثة بغداد، فكان ظناً غبياً، واستشرافاً قاصراً للمستقبل. أنهى المغول، بسبب تلكم الأمور مع الأنانية المفرطة التي سيطرت على كل دولة إسلامية، وعلو شعار نفسي نفسي يومئذ، معظم تلك الحواضر، وكان من الممكن أن تواصل الوحشية المغولية طريقها، لولا أن تدارك المسلمون الأمر أخيراً، بفضل الله ثم علماء بارزين لا يخافون في الله لومة لائم كالعز بن عبدالسلام، وقادة صنعهم الله على عينه، كالقائد المظفر سيف الدين قطز، فكانوا سداً حمى الله به حمى الإسلام، وكانت بداية النهاية لتلك القوى المتوحشة. التوحش والتجبر الصهيوني اليوم لا يختلف عن المغولي في تلكم الفترة، فإن كسر غزة يعني مواصلة الصهاينة رحلة التجبر نحو المحيط العربي والإسلامي، ما لم يحدث حادث وتقع عين جالوت جديدة. ظني أن غزة اليوم تعيد سيرة قطز والمماليك المؤمنين ضد المغول الكفرة الفجرة، وتعلن للعالم رغم كل الضغط الممارس عليها من قوى الغرب والشرق، أن هناك نفوساً عظيمة أبية شامخة تأبى الذل، وتفهم لغة وعقلية العدو، وأنها هي التي تمسك بمفاصل القطاع، ولن يخدعها مخادعون سياسيون فجرة من الغرب والشرق. نفوس تربت على العزة والإيمان بأن الله مع المتقين، ومع الصابرين، ومع الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص. هؤلاء لم ولن يفهمهم أي سياسي مخادع، غربيا كان أم عربيا. غزة عين جالوت جديدة لن يفهم هؤلاء الصهاينة والملحدون ومن على شاكلتهم، أن من يعيش في غزة يرجون أن يكونوا ضمن من ذكرهم النبي الكريم في حديثه: «لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم..»، فربما هذا الرجاء في نفوس المجاهدين الغزيين هو الذي دفعهم لهذا الثبات والصمود والشموخ الأسطوري أمام أعداء الله منذ أن نزل وباء الصهيونية على فلسطين. إنّ استرداد الحقوق لا يمكن تحقيقه بمفاوضات عبثية، ومؤتمرات فارغة ووعود كاذبة. وما كان طوفان الأقصى إلا نتاج فهم عميق ووعي تام لتجارب السابقين التاريخية قديماً، ومن ثم في بلاد الأفغان مع الأعداء حديثاً، ودروس أخرى متنوعة من تاريخ هذه الأمة. ولهذا يمكن القول إن غزة ستكون بإذن الله عصية على القاصي والداني، الصليبي منهم أو الصهيوني اليهودي. مثلما انكسرت شوكة المغول في عين جالوت، وكانت بداية النهاية لجحافل الإجرام والدمار، فكذلك ما يحصل الآن في غزة، ستكون بداية نهاية عصر الصهيونية بإذن الله، فلا ترعبنكم مشاهد الهدم والدمار والقتل في غزة، فما جرى في بغداد سنة 656 هجرية لا يمكن مقارنته بغزة، رغم أن النفوس المسلمة عزيزة غالية في كل زمان ومكان، لكن هكذا التحولات التاريخية العظيمة تحتاج تضحيات ودماء وشهداء. وإن ما جرى من دمار وانكسار مادي ونفسي في جيش الصهاينة وحاضنتهم الشعبية منذ بداية طوفان الأقصى، وانكشاف أمرهم ووجههم البشع للعالم كله، ليس بالمكسب الذي يتم التقليل من شأنه، فإنها مؤشرات ودلائل على نهاية هؤلاء المجرمين التي اقتربت كثيراً (ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا).
522
| 24 يوليو 2025
الوهم بحسب التعريف الطبي هو عدم قدرة الفرد على التمييز بين الواقع وما يتخيله. وهو أنواع عديدة لن نسترسل ونتحدث عن تلكم الأنواع سوى نوع واحد هو ما يسمى بوهم العظمة، أو ما يسميه الأطباء بجنون العـظمة، الذين قالوا في تعريفاتهم إنه مزيج من مشاعر وأفكار ناتجة عن شعور مبالغ فيه من القلق، أو الخوف، أو الاضطهاد، أو التهديد، أو التآمر، بحيث تتحول تلك المشاعر أو الوهم بعد حين من الدهر قصير، إلى معتقدات غير حقيقية، لكن يؤمن بها من يعيش هذا الوهم أو جنون العظمة. قد تلعب الجينات أو الصفات الوراثية في صناعة هذا الوهم في الإنسان، لكن العنصر الأهم في ابتلاء المرء بهذا الوهم، هو البيئة المحيطة التي يعيشها من هو مبتلى بهذا المرض النفسي، إن صح وجاز لنا التعبير. فالمشكلات والاضطرابات العائلية، أو ما حولها تزيد من احتمالية أن يُبتلى المرء بهذا الوهم أو وهم العظمة، بحيث تراه بعد الابتلاء، أنه دائم الريبة والشك في الآخرين من حوله حتى يتعمق هذا الوهم عنده، ليبدأ يعتقد أن أي وجهة نظر أو انتقاد يسمعه أو يقرأه، إنما هي إشارات أو رسائل تقصده هو دون غيره، أو أن أفعالهم وأقوالهم لابد أنها موجهة ضده أو تقصده، بالإضافة إلى شعور خفي دائم عنده ويتعمق، مفاده أن دوره في البيئة التي يعيشها مهم، لكنه غير معترف به، وأن هناك من يسعى دوماً للانتقاص من قيمته وشأنه وإحباط جهوده!. إنّ أسوأ السيناريوهات في هذا الأمر، أن يُبتلى بهذا المرض من تؤول إليه الأمور بقدرة قادر ليكون صاحب قرار، كأن يكون رئيس دولة، أو وزيراً في دولته أو مديراً عاماً في شركة أو مؤسسة ما، أو مدير إدارة أو ما شابه من مناصب ذات صلاحيات.. فإن حدث وصار المبتلى بجنون العظمة صاحب قرار في كيان ما، دولة كانت أم وزارة أم شركة أم نحوها، فإن الأجواء مهددة بأن تتسمم وتحيطها سحب القلق والتوتر، وفي الوقت ذاته تنشط جماعات التطبيل أو النفاق، الباحثة عن مصالحها قبل أي شيء، حيث ترى في إحاطة هذا الموهوم بالعظمة، فرصة ذهبية لاحت لهم وربما لا تتكرر، إن هم لم يستغلوها في تحقيق أكبر كمٍ من المكاسب بالشكل المناسب، وفي الوقت المناسب. نموذج لمجنون عـظمة ربما وأنت تقرأ في هذا الموضوع، بدأت في استحضار نماذج من هؤلاء ربما أوقعتك الأقدار يوماً التعامل معهم، أو أنك ما زالت تتعامل معهم، وصرت مجبراً على تحمل الكثير من المعاناة والآلام لظروف حياتية أجبرتك البقاء تحت ظلهم.. قد يكون أفضل مثال تحدث كثيرون عنه وما زالوا، وربما سيأتي من يتحدث عنه مستقبلاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، هو ذاك الفرعون الذي كان في زمن موسى وهارون عليهما السلام. الفرعون الذي ارتكب جرماً لم ولا أظن أحداً من بني البشر سيرتكبه، حتى تساوى هو وإبليس في الدرجة. فأما إبليس فقد استكبر وعصى أمر خالقه لأوهام اعتقد بصحتها، فكان نصيبه الطرد من رحمة الله بشكل قاطع نهائي. وأما فرعون هذا، فقد ادّعى الألوهية ( فقال أنا ربكم الأعلى) ثم جاء في موقف آخر (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري)! هكذا أوصلته أوهامه وجنون العظمة فيه إلى أن يدّعي الألوهية، في سابقة بشرية غير معروفة. هذا الفرعون هو أبرز نموذج بشري أصابه مرض الوهم، أو وهم وجنون العظمة، فكان بلاء على شعب مصر، سواء المصريون أو غيرهم كبني إسرائيل.. الجميع عانى من أوهامه وشكوكه وارتيابه في أغلب من كان حوله قبل غيرهم من عامة الناس، وتلك الأوهام تسببت بالضرورة في معاناة الناس تحت حكمه سنين طويلة، حتى انتشر الرعب والخوف في مملكته، فكان بلاءً وعذاباً مستمراً. النهايات البائسة لمجانين عـظمة استمرت أوهام الفرعون حتى آخر دقائق حياته في مشهد نهائي، أو مشهد وصوله إلى البحر وهو يطارد بني إسرائيل.. فقد كان مشهد انفلاق البحر لبني إسرائيل على يد موسى عليه السلام، مشهداً رهيباً، وإن لم يحضر فرعونُ وجنوده لحظة الانفلاق تلك، التي وبقدرة الله تحول قاع البحر إلى اثني عشر طريقاً يبساً على عدد أسباط بني إسرائيل. يقترب فرعون وجنوده من البحر بعد حدوث الانفلاق، حتى إذا أشرف على الماء، كما جاء في تفسير الطبري، قال أصحاب موسى: يا مكلّم الله، إنّ القوم يتبعوننا في الطريق، فاضرب بعصاك البحر فاخلطه، أي أعده إلى ما كان عليه حتى يكون حاجزاً بيننا وبين هذا المهووس بالعظمة وجنون الارتياب. فأراد موسى أن يفعل، فأوحى الله إليه (أن اترك البحر رَهْوا) أي اتركه على حاله، فإنما أمكرُ بهم، فإذا سلكوا طريقكم أغرقتهم. فلما نظر فرعون المتكبر المتجبر إلى البحر قال: ألا ترون البحر؟ فَرَقَ مني حتى تفتّح لي حتى أُدْرك أعدائي فأقتلهم ! هكذا وصل به الظن والجنون والوهم، فسار هو وجنوده نحو بني إسرائيل، حتى إذا ما انتهى إلى وسط البحر، أوحى الله إلى البحر أن خذ عبدي الظّالم وعبادي الظلمة، فإني قد سلطتك عليهم. فتغطغطت تلك الفرق من الأمواج كأنها الجبال، أي غطست تحت تلك الأمواج. فغرق فرعون وجنوده ولم يخرج أحد من أولئك الظالمين، وفي الطرف المقابل يقف بنو إسرائيل مع موسى وهم ينظرون. نهاية دنيوية بائسة لمجنون عظمة، تنتظره حسابات أخروية أليمة. ولا أقول بأن نهايات كل مهووس أو مجنون عظمة تكون كنهاية فرعون، لكن من المؤكد أن المبتلى بهذا الوهم، والذي يخلو قلبه من إيمان بالله وحُسن ظن به، سيتعمق في أوهامه وجنونه حتى يرتكب آثاماً وكبائر ذنوب، خاصة إن وجد تفاعلاً إيجابياً يؤيد أفعاله وأقواله من لدن زمرة مطبلين أو منافقين منتفعين. ومن المؤكد أيضاً، أن نهايته ستكون بائسة يسجد كثيرون لله شكراً على خروجه من مشهد حياتهم. وللأسف أن أمثاله كثير اليوم كما كان بالأمس، ولا تتسع المساحة ها هنا لحصرهم فضلاً عن ذكرهم.. فاللهم لا تسلّط علينا مجنون عظمة، لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
327
| 17 يوليو 2025
«إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِثوا ديناراً ولا درهماً، إنّما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر». أو كما قال صلى الله عليه وسلم. العلماء إذن ورثة أنبياء، وليسوا ورثة أغنياء. العلماء بيّن النبي الكريم بحديثه الشريف هذا مكانتهم في الأمة. إنهم في مرتبة رفيعة بعد انتهاء فترة النبوات والرسالات. تلك المرتبة لابد أن تقتضي منهم الحفاظ عليها والقيام بحقها. فهل علماء اليوم كذلك؟ العلماء منذ عهد الخلافة الراشدة وحتى عهد قريب جداً، كان لهم تأثيرهم الإيجابي الفاعل أوقات الأزمات والملمات، كما في أوقات السلم والراحات. كانوا، ولابد أن يكونوا إلى ما شاء الله لهم أن يكونوا، بوصلة تهتدي بها الأمة. فهم الأقدر دوماً على توجيه وتشكيل العقول والألباب وفق ما أمر سبحانه. وهذا ما جعل تأثيرهم في الكثير من المشاهد على مدار تاريخ هذه الأمة، بالغا وفاعلا. ولكن بدأ ذلك التأثير في الضمور والخفوت تدريجياً مع تكاثر الأزمات والمصائب. فماذا جرى لهم خلال السنوات الحالكات الماضيات؟ معظم العلماء كما أسلفنا، كانت مكانتهم محفوظة في الخلافة الإسلامية، وإن عانى البعض من جور بعض الولاة والخلفاء، لكن أغلبهم كانت مكانتهم مرموقة محفوظة في الأمة، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. حتى إذا ما سقطت الخلافة قبل مائة عام، تأثر العلماء من ضمن من تأثر بذلك السقوط أو تلكم المصيبة العظمى، فما كان الحل للم شمل العلماء، إلا عبر جامعات تربوية تعليمية كالأزهر والقيروان وما شابههما، أو اتحادات بعد ذلك وروابط وهيئات كالتي نعايشها اليوم. فهل أجدت نفعاً؟ العلماء بوصلة الأمة التساؤلات كثيرة، وهي دليل على أهمية هذه الفئة في هذه الأمة. وكما أسلفنا بأنهم كالبوصلة، صار نهوضهم نهوضا للأمة، وانتكاستهم انتكاسة لها. ولا أتردد في القول بأننا في العقود الأخيرة صرنا نعيش انتكاسة لعلماء الأمة، أو هكذا يبدو لكثيرين، حتى صار لافتاً للأنظار خفوت نجمهم، وضعف تأثيرهم على عامة الناس. وأحداث غزة من أبرز ما يمكن الاستشهاد بها. إذ لا تأثير فاعلاً لتوصيات ونداءات العلماء في هذه المعركة الحاسمة مع أعداء الله والدين. ولا شك أن لهذا الخفوت وضعف التأثير مسببات. وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن السر الذي أوصل العلماء إلى مستوى لا يتأثر غالبية العامة بهم، لا في السلم ولا في الحرب؟ ولماذا صارت العامة فعلاً لا تتأثر بما يصدر عن العلماء من توجيهات أو نداءات؟ وهل كثرة الأزمات وتسارعها وتنوعها في الأمة، والجهل غير المبرر بالدين الذي يتسع يومياً، جعلت الأحاسيس تتبلد، بحيث لا تنفع معها نصيحة ولا توجيه ولا إرشاد علمائي؟ لن أبالغ إن قلت بأننا نعيش ليلة ظلماء كتلك التي قال أبوفراس الحمداني عن نفسه يوم أسره. فنحن اليوم فعلياً نعيش ليلة ظلماء يُفتقد فيها البدر، أو بدرُ العلماء. والناس حيارى يا ربي هذه الأيام، حتى راحت للشرق وللغرب تجني الآلام. ولا شك أن كل هذا بسبب غياب بدر العلماء، الذين تفرقت بهم السبل وتنوعت مآربهم وغاياتهم حتى انقسموا إلى فئات ثلاث لا رابع لها. فئة صامدة وأغلبها مغيبة في السجون والمعتقلات. وفئة ثانية اختارت الصمت والركون إلى الظل، أملاً في أن يتغير الواقع الحالي بقدرة قادر، فيما فئة ثالثة اختارت الوقوف على أبواب السلاطين، ورضيت أن تبيع آخرتها بدنيا غيرها الفانية، حتى صارت لا تتردد قيد أنملة في أن تشرعن للمتغلبين ما بدا وطاب لهم!. استقلالية العلماء المالية من أكثر المسببات التي جعلت أدوار العلماء تتراجع وتتضاءل، وتحتاج إلى معالجة ما، عدم استقلالهم مالياً عن الدولة لسبب وآخر. إن عدم تمتعهم بهذه الاستقلالية من أسباب تراجع تأثيرهم وفعاليتهم على مستقبل الأوطان والشعوب. اعتماد العالم في لقمة عيشه على راتب حكومي من هنا، ومكافأة من هناك، تجعله بلا زخم أو تأثير، فهو في نظر العامة، موظف حكومي نهاية الأمر، لا يختلف عن أي موظف!. ما عاناه الأئمة والعلماء السابقون كالحسن البصري وأبي حنيفة وابن حنبل والشافعي ومالك وابن تيمية وابن قيم الجوزية، من جور وظلم الولاة والسلاطين، وعدم خضوعهم لأهواء وأمزجة الأنظمة الحاكمة المخالفة لشرع الله، إنما الذي أعانهم على ذلك الثبات والصمود، هو استقلاليتهم المادية أولاً، ولأنهم ثانياً، كانوا يعتبرون أنفسهم ورثة أنبياء. أي أنهم هم الأصل في حياة الأمة، والدولة بعد ذلك، وأنه ما قامت الدولة في الإسلام إلا لحماية الدين، وليس العكس. تأثير العلماء على مستقبل الدول إن استقراءً سريعاً عبر تاريخ الأمة، سنجد كم كان العالم الرباني، صاحب تأثير فاعل بالغ على سياسة ومستقبل الدولة بأكملها. فهذا العز بن عبد السلام، ضمن أحد المواقف الشهيرة في تاريخنا، وفي أهم وأخطر الأوقات التي مرت على الأمة حين واجهت خطراً وتهديداً وجودياً تمثل في عبثية ووحشية المغول، برز نجم الشيخ، الذي لعب دوراً هاماً في تحفيز الشعب ومن قبله الملك قطز، للتصدي لخطر المغول. مما يحكى عنه، أن قطز وهو يستعد للمعركة الفاصلة مع المغول، أمر بجمع الأموال من الرعية ولم يعارضه أحد من العلماء في بلاطه يومها إلا العز بن عبدالسلام، الذي وقف في وجهه وطالبه ألا يأخذ شيئاً من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم، بالمقادير التي تتناسب مع ثرواتهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق على تجهيز الجيش، فإذا لم تكف الأموال، يمكن حينها للملك أن يفرض الضرائب على بقية الناس. فتراجع قطز عن قراره ونزل على حكم الشيخ، الذي أثار كل خطباء وعلماء الأمة يومها وطالبهم بتحفيز الناس على الجهاد، حتى نهض المسلمون في مصر وامتلأت نفوسهم ايماناً كان سبباً في ثباتهم وصمودهم في عين جالوت الفاصلة ودحر المغول للأبد. الشيخ آق شمس الدين، العالم الرباني الذي لعب دوراً مؤثراً في استنهاض همة العثمانيين في تجسيد وتحقيق البشارة النبوية (لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش) نموذج آخر للعالم الرباني المؤثر، حيث كرس جهده في تربية السلطان محمد بن مراد الثاني منذ صغره على هذا الهدف وتلكم الغاية، حتى تحقق فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد ولُقّب بالفاتح العسكري، وصار الشيخ يُعرف بالفاتح المعنوي لهذه المدينة الحصينة. خلاصة ما يمكن أن نختم به هذا الحديث، أنه مثلما ظهر علماء سلاطين على مدار تاريخنا إلى اليوم، فإنه لا يمنع ظهور العز بن عبدالسلام، والحسن البصري، وابن تيمية وآخرين كثر، يصدعون بالحق، لا يخافون في الله لومة لائم. ولقد ثبت بالتجربة أن صلاح هذه الأمة ونهضتها، كما أسلفنا، مقترنان بصلاح ونهضة علمائها، وإن سقوط البعض القليل منهم ودخولهم أجواء السلاطين، لا يعني أنه عدوى تنتقل للغالبية بالضرورة. إن أمة ظهر فيها العز بن عبدالسلام الذي سخره الله لتنجو بفضله سبحانه، ثم بتأثير هذا الشيخ الكبير من خطر الزوال على يد المغول، قادرة على أن تُنجب وتُخرج الآلاف مثله، يعيدون لها مجدها وعزتها. وإنّ سوء حال الأمة اليوم لا يمنع كذلك من التفاؤل بغد أفضل وأجمل، فالله سبحانه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
360
| 10 يوليو 2025
خلق الله إبليس ليكون نموذجاً للنهاية الخاسرة، ودرساً لبني آدم خلاصته أن العناد والتكبر والحسد، عوامل أساسية مؤدية بالضرورة لنهاية بائسة مؤلمة، وهي كلها توفرت في إبليس ساعة نزول الأمر الإلهي في الملأ الأعلى في زمن ما، بالسجود لآدم عليه السلام. ارتكب هذا المخلوق الناري المسمى إبليس ذنب العصيان بسبب حسده وتكبره على المخلوق الطيني المسمى آدم، ورفضه العودة والإنابة والتوبة، فكان مصيره الطرد النهائي من الرحمة الإلهية إلى يوم القيامة. أما آدم عليه السلام، وحال ارتكابه ذنب العصيان بالأكل من الشجرة المحرمة، بعد أن وسوس إليه الشيطان وزين له الأمر، ندم وتاب، واستغفر وأناب، فكان القبول منه. أي أن آدم عليه السلام، علم ماهية الخطأ، فأدرك من فوره أنه أخطأ، وأن العلاج هو العودة السريعة إلى جادة الصواب والصراط المستقيم، وهذا يعني أنه فكر وقدّر، فاختار مصيره أو نهايته المرغوبة، كما علمه الله، لم يتكبر ولم تأخذه العزة بالإثم. إنه النموذج المثالي للنهاية السعيدة لمرتكب الذنب والمعصية، حال استغفاره وتوبته وإنابته. ومن هنا يتبين أنه رغم قوة وبأس وتأثير الشيطان على الإنسان، إلا أنه أضعف من أن يقرر مصير هذا الإنسان، لأن هذا البشري هو صاحب لب وإرادة وقرار، والله منحه من الإمكانيات أن يختار طريق الهداية أو الغواية، رضا الله أو غضبه، جنته أو ناره. الآيات القرآنية التي تحذرنا من الشيطان وألاعيبه كثيرة، فهذا الشيطان تكمن قوته في مهارته وقدرته على الإغواء والوسوسة والايحاء ليس أكثر. بمعنى أنه لا يملك سلطة عليك، ولا يقدر أن يأمرك مباشرة لفعل الشر، بل هو يدرك مسألة التحدي عند بني آدم حين يأتي وقت التحدي، خاصة إن كان بالقلب إسلام وإيمان. ولهذا هو لا يتحداك، بل جل ما يمكنه القيام به أن يستدرجك ويغويك ويزين لك الأمر، ويسير بك خطوة تتبعها أخرى إن تركت له الحبل على الغارب، حتى تجده وقد حقق غايته. حين يقول لنا سبحانه وتعالى ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) فإنما هو نداء لعباده المؤمنين، يحذرهم من عدوهم الذي لا يكل ولا يمل، وكأنما لسان حال الآية الكريمة يقول: يا عبادي الذين آمنوا بي حق الإيمان، انتبهوا إلى عدو أبيكم آدم، وعدوكم أنتم ومن معكم من المؤمنين إلى يوم الدين. إنكم مادة الصراع الدائم بين الحق والباطل، الخير والشر، الإنسان والشيطان حتى قيام الساعة.. إنكم قصة واضحة بذاتها، يعرف كل منكم دوره فيها بحسب فطرتكم، وعندكم الإلمام الكافي، والقدرة على أن يرسم أحدكم نهايته بنفسه، بعد أن يستعين بالله، ويحذر من خطوات الشيطان. حاول أن تتأمل قوله تعالى في الآية الكريمة التالية التي توضح لك أقصى ما يمكن لإبليس أو الأبالسة القيام به مع بني آدم، وهو الوسوسة والغواية وتزيين الأمور، لا أكثر من تلكم الأفعال. وهذا باعتراف إبليس نفسه يوم القيامة (وقال الشيطان لما قُضي الأمر: إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ۖ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ۖ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم). الشيطان أول من يتبرأ من بني آدم الذين أغواهم ومن أعمالهم. الشيطان الذي هو أصل كل الشرور في الدنيا، يبحث بنفسه عن ذرة رحمة تنقذه مما فيه يومئذ، فهو حين يجد أتباعه من الإنس على اختلاف مذاهبهم وأديانهم ومعتقداتهم، يلومونه على ما هم فيه بسببه، يظهر أمامهم ويبين لهم حقيقة الأمر، والتي تمثلت في تشويه صورة الخير الذي حمله الأنبياء والمرسلون ومن سار على دربهم، وتزيين الشر لهم وغوايتهم حتى اتبعوه دون أي ضغط منه أو أي سلطان له عليهم في الحياة الدنيا. بمعنى آخر، لسان حال الشيطان أو إبليس يقول لهم يومئذ، إنه وبدلاً من قبول دعوة أولئك الخيّرين من الأنبياء والمرسلين والصديقين والصالحين، أبيتم إلا اتباع خطواتي، والسير في دربي الشيطاني، حتى آلت أموركم إلى ما أنتم عليه الآن.. جهنم وبئس المصير. هكذا إذن هو المشهد بكل وضوح. من يتبع خطوات الشيطان، فلا يلومن إلا نفسه. ومن هنا لنحاول بعد الاستعانة بالله، أن نضع الآية الكريمة أمام ناظرينا، لندرك مدى قوتنا في رسم نهاية سعيدة أو شقية لأنفسنا. نسأل الله لنا ولكم العافية.
414
| 26 يونيو 2025
من هؤلاء الذين كره الله خروجهم للجهاد والقتال مع خير خلق الله محمد، صلى الله عليه وسلم ؟ من هم هؤلاء الأشقياء الذين انكشف أمرهم من فوق سبع سماوات، وكره الله وجودهم مع المسلمين في الجهاد، فكره بالتالي المسلمون وجودهم أيضاً ؟ لا شك أنهم قوم لا خير فيهم، أو لا خير يُرجى من ورائهم إن قرروا الانضمام لجيش المسلمين والخروج معهم. فهؤلاء علم الله أن خروجهم لن يكون في صالح عباده المجاهدين المتقين، فلم يرد الله بذلك أن يخرجوا معهم. إنهم الذين نطقوا الشهادة بألسنتهم، ولم تبلغ تأثيرات تلكم الشهادة الراقية إلى قلوبهم، فعاشوا حياة النفاق والشقاق، وكانوا مصدر تشويش وتوتر للمجتمع المسلم، ومصدر كل إشاعة وكل كذبة أو فرية، ومصدرا بالغ التأثير في التخذيل والإرجاف. إنهم أتباع ابن أبي بن سلول، الذين وإن هلك في ذاك الزمان هو ومن معه، فإن قطار النفاق يزداد عدد ركابه في كل زمان ومكان، بل لا زال يسير على خط ابن سلول حتى يوم الناس هذا ! على رغم أن أولئك كانوا من الميسورين مادياً، وباستطاعتهم تجهيز أنفسهم للخروج إلى الجهاد، أو تجهيز آخرين كأضعف الإيمان، إلا أن كل ذلك كان نفاقاً. هم في الحقيقة ما أرادوا الخروج ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عـدة ) وهذا تكذيب لزعمهم أنّهم تهيّأوا للغزو ثم عرضت لهم الأعذار فاستأذنوا في القعود، لأنّ عدم إعدادهم العُدّة للجهاد دلّ على انتفاء إرادتهم الخروج إلى الغزو، كما يقول ابن عاشور في تفسيره. * لماذا كره الله انبعاثهم؟ إنّ الكراهية الإلهية لمجرد وجودهم في ميادين الجهاد مع خير جيل ظهر في الأمة، كانت بمثابة تعليمات للفئة المؤمنة، صريحة ولا تهاون فيها، فإن ما وقع منهم يوم الخروج إلى معركة أحد كمثال بارز، وتأثيرهم على ثلث الجيش حتى انسحب ذلك الثلث وهم في منتصف الطريق، هو أمر ليس باليسير، بل من كبائر الأفعال والذنوب، أو ما نسميه اليوم بالخيانة. وليس من شك أن أمر الانسحاب وخلخلة صفوف الجيش في منتصف الطريق، كان أمراً تم الترتيب له من قبل أولئك المكروه انبعاثهم وانخراطهم في صفوف المجاهدين. أفعالهم الدنيئة تكررت في مشاهد أخرى كادت أن تشق وحدة المجتمع المسلم، وتسببت في مشكلات كانت الدولة المسلمة في غنى عنها وهي في بدايات التكوين. ومن هنا كانت الكراهية الإلهية لوجود أمثال هؤلاء في أي عمل جهادي ضد أعداء الأمة، ثابتة وواضحة. وهذه الكراهية أو الأمر الإلهي لا ريب أنه ساري المفعول حتى يوم الناس هذا، بل إلى قيام الساعة. لقد كره الله انبعاث أهل النفاق في المدينة إلى أي عمل ضد أعداء الله وأعداء رسوله والمسلمين، لأن خروجهم كما يقول سبحانه ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) أي فساداً وشراً وتهويلاً للأمر، والقيام بنشر الجبن والخوف بين الصفوف، بل أكثر من ذلك ( ولأوضعـوا خلالكم يبغونكم الفتنة ) وهو نشر الأكاذيب والإشاعات والقيام بأعمال النميمة والإيقاع بين المجاهدين أنفسهم. وإنّ ما يحدث في غزة منذ السابع من أكتوبر المجيد، يشرح لك تفصيلات ما كان في مجتمع المدينة المنورة آنذاك، وحركة النفاق والتخذيل والإرجاف، سواء من داخل فلسطين المحتلة أم من خارجها ولاسيما الجوار والمحيط العربي، لا تهدأ ولا تتوقف ! ابن سلول في غـزة مشاهد النفاق والتخذيل والإرجاف التي كانت بالمدينة المنورة، هي نفسها التي تحدث أمام أعيننا الآن في غزة، وكيف صار ينتشر خلسة، أولئك الذين كره الله انبعاثهم بين مجاهدي غزة، وكيف صاروا ينشرون الفتن في البيئة الحاضنة لهم، وكيف تقوم وسائل إعلامية فلسطينية وأخرى عربية بتحريف الحقائق، وبث كل ما يعمل على توهين العزائم، وبث اليأس في النفوس.. لهذا كله، كره الله انبعاثهم وانخراطهم في مشاهد غزة الأبية، وبالتالي ليس غريباً أن نرى هذا الجمود العربي المسلم نحو غزة، خاصة في الجوار القريب. ذلك أن ما يقوم به عرب ومعهم فلسطينيون أيضاً، فاق الإجرام اليهودي الصهيوني. فكيف لو دخلت فعلاً قوات عربية بزعم الدفاع عن غزة ؟ لا شك عندي أنها لن تزيد غزة إلا خبالاً، أو فساداً وشراً، ولن تكون تلك القوات سوى عون للمجرم الصهيوني ضد المقاومة، عبر شبكة عملاء وجواسيس وغيرها من أنواع الخبال. إن الآيات التي تحدثت عن فريق ابن سلول قبل ألف وأربعمئة عام، وتكره أي عمل لهم مع المجاهدين، كأنما هي اليوم تتنزل من جديد، تكره أن يتدخل أحد من العرب والمسلمين في غزة، أو يدخل وينضم لصفوف الكتائب المجاهدة هناك بحجة الدفاع.. فلو علم الله فيهم خيراً لكان تحركهم منذ البدايات، ولكن لفساد القلوب وغلبة النفاق والشقاق، حدث هذا التأخير والتباطؤ والتخاذل، وسيكون دخولهم خبالاً ووبالاً على المجاهدين الصابرين. وكأنما الله يريد نصراً لأهل غزة الصابرين المقاومين، لا يشاركهم أو يزعم أحد غيرهم أن له يدا في ذلك النصر.. لب الحديث إنْ نَصَرَ اللهُ مجاهدي غزة بأي صورة من الصور، فالنصر والمجد هم يستحقونهما، لا أحد غيرهم، ولن يكون لأحد من البشر أي فضل عليهم. أما إن حدث العكس، وتأخر النصر لحكمة ربانية، فيكفيهم شرف الجهاد والاستشهاد.. لكن وعد الله نافذ ( إن تنصروا الله ينصركم ) وما من شك في أن أهل غزة يحاولون جهدهم أن ينصروا الله كي ينالوا نصره المؤزر المبين ( ويقولون متى هو، قل عسى أن يكون قريبا).
435
| 12 يونيو 2025
مشهد يمتدح الله، سبحانه، فيه زكريا وزوجه وابنهما يحيى عليهم السلام جميعا. فقد كانت أسرة مباركة، وكانوا من الخاشعين المتواضعين، المحبين للخير. فقد (كانوا يسارعون في الخيرات) والمسارعة في طاعة الله تعالى، كما يقول الفخر الرازي، من أكبر ما يُمدح المرءُ به، لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة. إذن كانوا يبادرون إلى الخيرات ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، كما يقول ابن سعدي في تفسيره، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها إلا انتهزوا الفرصة فيها (ويدعوننا رَغَباً ورهبا) أي يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوذون بنا من الأمور المرهوب منها، من مضار الدارين، وهم راغبون راهبون لا غافلون، لاهون ولا مدلون (وكانوا لنا خاشعين) أي خاضعين متذللين متضرعين، وهذا لكمال معرفتهم بربهم. قال الإمام الماوردي في قوله تعالى (ويدعوننا رغـباً ورهبا) فيه أربعة أوجه: أحدها رغباً في ثوابنا ورهباً من عذابنا. الثاني رغباً في الطاعات ورهباً من المعاصي. والثالث رغباً ببطون الأكف ورهباً بظهور الأكف. والرابع يعني طمعاً وخوفاً. ويحتمل وجهاً خامساً، أي رغباً فيما يسعون من خير، ورهباً مما يستدفعون من شر. خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوماً فقال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وتثنوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين). في الحديث، نجد سيد الأولين والآخرين يحثنا على المسارعة إلى فعل الخيرات، قبل أن تشغلنا شواغل الدنيا: «بادروا بالأعمال، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعـرض من الدنيا». إن المسارعة لفعل الخيرات من أخلاق المؤمنين الصادقين، ومثل هذه الأعمال دلالة على رجاحة في العقل وسلامة في القلب، فإن إتيان الخير إنما هو نموذج رائع لقيمة العطاء، وغالباً ما يكون العطاء أصعب وأشق على النفس من الأخذ. إنك حين تقوم بالعطاء والمسارعة إلى الخيرات، فإنما تثبت بالدليل أنك مفتاح للخير مغلاق للشر، كما بالحديث: «إنَّ من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإنَّ من الناس ناساً مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه». إضافة إلى ذلك، فإن المسارعة إلى فعل الخيرات، تدخلك تحت مظلة الآية القرآنية العظيمة: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين). أي مديح أجمل وأفضل من أن تكون من أئمة الخير، تسير وفق ما أمر الله، فيرزقك المولى عز وجل نتيجة ذلك، إلهاماً من عنده لفعل الخيرات، ما يعني المزيد من الرضا والبركات عليك، بل ولأنك بفعل الخيرات تلك، صرت تستحق نعمة أخرى من نعم الله التي لا تُعد ولا تُحصى، هي نعمة الحرص على الصلاة وإيتاء الزكاة، من أجل تدخل بعد ذلك ضمن قائمة العابدين، وما أجملها وأزكاها من قائمة. وهل منا من لا يرضى أن يكون اسمه ضمن تلك القائمة العالية الرفيعة؟ لنغتنم مثل هذا اليوم الجليل العظيم ونسارع فيه بالخيرات، بأشكالها المتنوعة. فليس أعظم يوم عند الله من يوم عرفة. لنسأله سبحانه في مثل هذا اليوم تحديداً، العفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة، وطلبات أو حوائج أخرى، دنيوية وأخروية، فهو السميع العليم مجيب الدعوات. وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وكل عام وأنتم بخير.
306
| 05 يونيو 2025
يأتي فرعون إلى ساحة التحدي في أزهى حُلة، منتفشاً منتفخاً، حيث سحرته هناك يواجهون سحر موسى أو هكذا اعتقد وهكذا زعموا، لا يتوقع هزيمة معنوية أو مادية من هذا الإسرائيلي الذي لا يكاد يُبين، وخاصة أن سحرته، وهم من هم يومئذ في هذا المجال، ولا يمكن لشخص مثل موسى مقارعتهم وهزيمتهم، يمنّي نفسه بهزيمة موسى عليه السلام أمام الملأ، فلا تقوم له قائمة بعدها، أو هكذا كان يتوهم الفرعون. يدخل السحرة المهرة على فرعون، لا يدور بخلدهم أدنى شك في أنهم منصورون فائزون. ولم لا، وهم أهل الصنعة والخبرة في هذه البلاد، لا ينافسهم أحد؟. فما علموا قبل ذلك أن هناك صاحب خبرة ومهارة في السحر يفوقهم، تدفعهم رغبة شديدة في إنهاء هذا المشهد سريعاً لنيل ما وعدهم فرعون من مكافآت مجزية ومكانة مقربة، كما هي عادة الفراعنة في كل زمان ومكان، حيث شراء الذمم والنفوس بالمال والجاه والمناصب والمكانة. في يوم الزينة، حيث الآلاف المحتشدة، يأتي السحرة منتفشين كالفرعون، ليمارسوا بعض مهاراتهم السحرية مع رجل لا يكاد يعرفونه، أو سمعوا عنه وخبرته ومهارته في مثل صناعتهم تلك، وفي ظنهم أنها دقائق وينتهي هذا المشهد الجماهيري العظيم بهزيمة موسى وكل بني إسرائيل المستضعفين، وانتصار كاسح لفرعون وآله!. لكن ما إن بدأ العرض السحري أمام تلكم الآلاف المؤلفة التي أتت لترى عظمة سحرة فرعون، وهزيمة هذا الذي يزعم أن هناك إلهاً غير الفرعون، فزع السحرة قبل الناس، وهالهم ما رأوه حين ألقى موسى عصاه فتحولت إلى حية حقيقية تسعى وتلقف ما صنعوا من خيالات وتمويهات. هنالك أيقنوا تمام اليقين أن الأمر ليس سحراً، وليس بالذي يعرفه السحرة، بل هو أمر غير معتاد في عالم السحر والشعوذة، بل إن صح التعبير، أمر غير معروف في عالم البشر كله. يقول الفخر الرازي في تفسيره: «وقد حُكي عن السحرة أنهم عند التلقف، أيقنوا بأن ما جاء به موسى عليه السلام، ليس من مقدور البشر من وجوه. أحدها: ظهور حركة العصا على وجه لا يكون مثله بالحيلة. وثانيها: زيادة عظمها على وجه لا يتم ذلك بالحيلة. وثالثها: ظهور الأعضاء عليه من العين والمنخرين والفم وغيرها ولا يتم ذلك بالحيلة. ورابعها: تلقف جميع ما ألقوه على كثرته وذلك لا يتم بالحيلة. وخامسها: عودها خشبة صغيرة كما كانت وشيء من ذلك لا يتم بالحيلة. ثم بين سبحانه وتعالى أن ما صنعوا كيد ساحر والمعنى أن الذي معك يا موسى معجزة إلهية والذي معهم تمويهات باطلة. «والله خير الماكرين» بعد أن بدأ مشهد رمي الحبال، خاف موسى للوهلة الأولى لولا أن ثبته الله (لا تخف إنك أنت الأعلى) فظهرت النتيجة فوراً أمام ذلكم الحشد حين ألقى موسى عصاه لتتحول إلى حية تسعى وتلقف ما صنعوا، حيث خسف الله بصورة فرعون أمام الناس جميعاً عبر مشهد هزيمة السحرة أمام الناس، بل الأكثر إثارة هو مشهد السحرة وهم جميعاً دون أدنى تردد وتفكير، يشهدون أنه لا إله إلا هو، بعد أن رأوا مشهداً ليس هو بالسحر أبداً. فكان ذلك المشهد العجيب إيذاناً بعلو موسى عليه السلام ذاك اليوم، وبداية النهاية للفرعون وآله. مشهد لم يتم التخطيط له أبداً في عالم البشر الدنيوي، بل تم في العالم السماوي العلوي، حيث المكر الإلهي حين يتجسد على أرض الواقع، لا يبقي ولا يذر ظالماً أو مجرماً على حاله. وهكذا كان الحال مع الفرعون الذي أغاظه المشهد كثيراً، وجعلته تائهاً مشوش الفكر للحظات. فكيف انقلبوا سريعاً وانهزموا وهم من هم في الصنعة، ومن بعد أن وعدهم بمكافآت ومنزلة قريبة منه، بل كيف آمنوا برب هارون وموسى دون أن يستأذنوه؟! «فاقض ما أنت قاض» لم يدر بخلد الفرعون أن مثل هذا الأمر لا يحتاج استئذانا من أحد، حتى من فرعون نفسه. فالسحرة بطبيعة الحال ومن هول المشهد، تبين لهم الحق فوراً دون أدنى ريب في نفوسهم، وتحول في الوقت ذاته هذا الفرعون في عيونهم، والذي كانوا يطلبون وده وبعض ما عنده من متع ونعيم الدنيا قبل ساعات قليلة ماضية، تحول إلى شخص لا يستحق أدنى انتباه، بل ربما الندم كان شديداً ساعتئذ عند السحرة على ما فاتهم من سني عمرهم قبل هذا المشهد، حيث الكفر والضلال الذي كانوا عليه، باتباعهم أمر الفرعون طويلاً، وما كان أمر فرعون برشيد. أغاظ المشهد إذن فرعون وجن جنونه، فقرر على الملأ التخلص من هؤلاء (الخونة) كعادة الطغاة والمجرمين حين الانكشاف ودحض حججهم، عبر اتهام المعارضين بالخيانة والتخطيط لقلب نظام الحكم وبقية التهم المعروفة التي تتكرر في كل زمان ومكان! فقرر التخلص منهم ولكن بعد عذاب شديد (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل). فماذا كان رد السحرة الذين دخلوا دين الله منذ لحظات قليلة؟ لم يخف أحد منهم، ولم يهتز لتهديدات الفرعون، فقالوا جميعاً بثقة المؤمنين المطمئنين (فاقض ما أنت قاض). نعم، اصنع يا فرعون ما بدا لك، فأمرك وسلطانك زائلان لا ريب، كما هي الحياة الدنيا زائلة لا ريب فيها. وبذلك الموقف، ضرب أولئك السحرة أروع الأمثلة في الصمود والثبات أمام الطغاة، مهما تبلغ درجة ظلمهم وقهرهم للآخرين. لب الحديث ينتهي المشهد التاريخي (وقد أفلح اليوم من استعلى) حيث أفلح موسى عليه السلام، وقهر فرعون قولاً وفعلاً. انتهى المشهد على عكس ما خطط له فرعون وتمنّاه، فكان العلو والنصر للحق الذي يمثله موسى ومعه هارون عليهما السلام. فالناموس الإلهي لا يتغير، وهو أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، في أي زمان وأي مكان. فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
447
| 29 مايو 2025
ليس من السهل على الإنسان أن يكون المقابل للرفق واللين والأدب في التعامل مع أحد من البشر، قسوة وجفوة وغلظة، بل تهديد بالضرب أو السب أو حتى القتل والتصفية.. هكذا كان الوضع مع خليل الرحمن، ابراهيم عليه السلام، وهو يبذل جهده في دعوة أبيه آزر إلى دعوة الحق وترك عبادة الأوثان. وقد كانت دعوته فيها الكثير من الرفق واللين، لكن لم يجد كل ذلك نفعاً في آزر وقومه. في هجمته المضادة، قال لابنه ابراهيم (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) ولم يقل له يا بني مثلاً، كنوع من الرفق مع ابنه الهيّن اللين الحليم، بل سماه باسمه، إشارة إلى أنه غاضب منفعل من دعوته الغريبة عليهم، ثم دعوته له لترك عبادة تلك الآلهة التي هم عليها عاكفون. قال والد إبراهيم له على سبيل التهديد والوعيد، كما يقول الطنطاوي في التفسير الوسيط، أتارك أنت يا إبراهيم عبادة آلهتي، وكارهٌ لتقرّب الناس إليها، ومنفرهم منها؟ لئن لم تنته عن هذا المسلك (لأرجمنّك) بالحجارة وبالكلام القبيح (واهجرني مَلِيّاً) بأن تغرب عن وجهى زمناً طويلاً لا أحب أن أراك فيه ! وهكذا قابل الأب الكافر أدب ابنه المؤمن، بفظاظة وغلظة ثم تهديد ووعيد، وعناد وجهالة، شأن القلب الذى أفسده الكفر. هذه الآية كما ذهب بعض المفسرين إنما حكاها الله تعالى لمحمد، صلى الله عليه وسلم، كما يقول الفخر الرازي، كي يخفف على قلبه ما كان يصل إليه من أذى المشركين، وليعلم أن الجهّال منذ كانوا على هذه السيرة المذمومة. ما أشبه اليوم بالبارحة إن كانت آلهة الأمس مجموعة أوثان أو أشجار أو كواكب أو ما شابه، ولقى بسببها الكثير من المؤمنين البلاء وأشد العذاب، فقط لأنهم لم يرضخوا لما كانت عليه أقوامهم من جهالة وفساد اعتقاد، وكانت قصص الأنبياء أبرز الأمثلة التي تحكي تلك المشاهد الغارقة في الجاهلية، فإن ما يحدث اليوم في عصر العلم والتنوير، أو عصر الاتصالات والتقنيات والمعلومات، لا يختلف البتة عما كانت عليه الأقوام السابقة. لقد تعددت آلهة اليوم وتغيرت، ولم تعد أوثاناً أو أشجاراً، بل صارت على شكل توجهات فكرية أو أحزاب سياسية أو أصحاب قرار وصلاحيات، وعموم الناس في هذا المشهد الجاهلي الفوضوي، حيارى بين تلكم الآلهة المتعددة، ولمن يجب تقديم الولاءات والطاعات، على رغم وضوح الرؤى والرسالات، بعد خاتم الأنبياء والمرسلين. كل بطانة آلهة صارت تهدد الأتباع في وقت من الأوقات بصورة من الصور، إن رأت تململاً أو تحركاً نحو العصيان، وتعيد ترديد عبارات آزر لإبراهيم عليه السلام ( أراغب أنت عن آلهتي ) كأنما التاريخ يعيد نفسه، وإنْ بصور وأشكال وهيئات مختلفة، لكن المضمون واحد. أوثان العصر الحديث من يعارض مديره المتسلط في إدارة أو وزارة أو شركة ما، فإن أولى العبارات التي يسمعها لا يختلف مضمونها عن مضمون ما قاله آزر لإبراهيم، وإن تبدلت الكلمات والحروف. فلا فرق بين (أراغب أنت عن آلهتي) وبين (أتعارض المدير العام أو الصالح العام) ؟! إن ظهر في الأفق معارضٌ لرئيس حكومة أو رئيس دولة، أو ما شابه من المناصب، فإن التهديدات تنهال عليه من كل حدب وصوب. كل جهة بحسب اختصاصها تهدده بمصير غامض مؤلم إن هو عارض، أو رغب عن سياسات الحكومة، أو توجهات الرئيس، أو تطلعات الوزير، أو من هم على شاكلتهم. كلهم يردد نفس المعنى (أراغبٌ أنت عن آلهتي) ؟! الدول التي تدور في الفلك الأمريكي إن تجرأت ورغبت عن سياساتها، وأرادت التحرك بعض الشيء بعيداً عن تلكم السياسات والتوجهات، فإن مصيرها ليس بالذي يسعدها ويسرها، وعواقب المخالفة معروفة ومتنوعة مؤلمة. وبالمثل تلك الدول الدائرة في الفلك الروسي أو الصيني وغيرها من أفلاك القوة والتجبر والتسلط في عالم اليوم. الأمر بالمثل يحدث مع كثير من رموز السياسة والإعلام والفكر والفن في كثير من دول العالم. فما إن تبدأ تلك الرموز بالتحرك أو تعزم على مخالفة سياسات الدولة العميقة في دولها، تجدها فجأة وبقدرة قادر تنكشف أوراقها وملفاتها وتاريخها، وكأنما تلكم الأوراق جُهّزت لمثل هذه الأوقات، فيتم خنقها ووأدها وهي في المهد ! والأمثلة على مشهد آزر مع إبراهيم الخليل عليه السلام أكثر مما يمكن ذكرها أو حصرها ها هنا. هكذا واقع الحال أينما وجهت وجهك. وليس شرطاً أن ترى هذه المشاهد في بقعة جغرافية معينة، بل متناثرة حول هذا الكوكب، من شرقة إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، وإنْ بنسب متفاوتة بحسب العقلية السائدة في كل بقعة جغرافية.. لب الحديث من يجد نفسه في موقف شبيه بموقف الخليل إبراهيم عليه السلام، يواجه بطانة آلهة ما، أو حتى الآلهة نفسها أو الوثن نفسه، فليعلم أنه إن استمر على موقفه، وثبت وصمد، فهو على الصراط المستقيم والحق المبين، وإنْ خسر نفسه وماله وولده والكثير الكثير. إن نبي الله الكريم إبراهيم عليه السلام، اختار أن يخسر كل ما يملك، بل ويخرج من بلده مهاجراً إلى ربه، على أن يتراجع عن صراط الله المستقيم. فلم تفتنه المغريات ولم ترعبه التهديدات. وبالمثل كان الحال مع سيد ولد آدم، عليه الصلاة والسلام، حين ترك ماله وأهله وبلده، وخرج مهاجراً إلى حيث يأمن على نفسه ودينه. هكذا هو الصراع الأبدي بين الحق والباطل. لا يختلف هذا الصراع اليوم عما كان عليه الوضع منذ الأمم الغابرة قبل آلاف السنين. العقلية المتجبرة الفاسدة هي هي، لا تتغير ولا تتبدل تركيبتها، أو إعداداتها الداخلية، وإن تبدّلت الأجسام وتركيباتها، أو إعداداتها الخارجية. وفي قصص الأنبياء الكرام، الكثير الكثير من هذه الدروس والعبر. نعم، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب. ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ).
504
| 22 مايو 2025
لو أن أحدنا على سبيل الافتراض، امتلك بقدرة قادر، أدوات لازمة للاطلاع على عقول ألف شخص في نفس اللحظة. فماذا سيجد؟ لا شك سيجد الكثير من الأفكار التي تدور في عقول أولئك الألف في اللحظة ذاتها. ولا شك كذلك أنها مختلفة، ولكن لا يمنع أن يحدث تشابه وتوافق بين تفكير عشرة أو عشرين أو مائة في اللحظة ذاتها. لكن بشكل عام، لا يمكن أن يكون الجميع في اللحظة ذاتها تدور فكرة واحدة بذاتها في أذهانهم. ما قصة اليوم؟ الأصل في التكوين البشري أو كما خلق الله سبحانه البشر أنهم مختلفون، ليس في المظاهر الخارجية من أحجام وأشكال وألوان فحسب، بل حتى الداخلية، وأقصد الصفات والطباع والأخلاقيات والعقائد والتوجهات والأفكار والرؤى والطموحات.. أحد أولئك الألف إنسان، إن أحببنا الرجوع إليهم مرة أخرى، سنجده وقد شغل باله أمر وظيفته، وكيف يحافظ عليها بعد تلقيه تهديداً من مديره المباشر بالفصل خلال أسبوع، إن لم يقم بكذا وكذا.. فيما آخر تراه في اللحظة ذاتها وقد انشغل بأمر طفل له مصاب بمرض عضال، لا يدري كيف يخرجه من ذلكم المرض بعد أن أخبره الأطباء عن تقديمهم أقصى ما يمكن تقديمه له.. وقد تجد ثالثاً انشغل تفكيره بكيفية تدبير بعض طعام لأهله الجياع منذ أمس الأول، ورابع يعمل عقله في الانتقام من شخص أساء له وسلب أمواله بالاحتيال، فيما خامس قد تجده في اللحظة ذاتها يعيد شريط أيامه، وكيف ظلم نفسه بالبعد عن الله، وسادس وسابع وألف وهكذا. كل أحد من أولئك الألف تجده وقد انشغل بهمه أو قضيته أو مسألته.. قد يتوافق بعض منهم في التفكير بنفس الأمر وفي اللحظة ذاتها دون اتفاق أو معرفة سابقة، بل ربما تفصلهما مساحات جغرافية شاسعة. لكن الشاهد من كل هذا أن الأصل في البشر أنهم مختلفون في كثير من الأشياء، أو هكذا خلقهم الله عز وجل. أحدنا عالم بذاته المثال الافتراضي أعلاه، يمكن أن يكون نموذجاً لبيان حقيقة حياتية مهمة مفادها أن كل أحد منا له نظرته الخاصة للأمور والأشياء. كل واحد منا يختلف عن الآخر في التفكير، التخطيط، التعامل مع الناس والأشياء، ويختلف في الفهم والإدراك، وكذلك في النظرة للحياة وغيرها كثير كثير.. وهذا الاختلاف أو هذا التباين بين البشر رحمة، بل هو سر من أسرار جماليات الحياة. كل واحد منا عالم بذاته.. له شخصيته المتفردة ونكهته وذوقه وصفاته وغيرها من أمور لا تتشابه مع أحد، وقد تتقاطع مع آخرين في أمور متشابهات، لكن مع ذلك سيظل كل واحد منا يختلف عن الآخر.. فكل واحد منا، كما أنه خلقه الخالق متفرداً ومتميزاً عن غيره في كثير من النواحي الفسيولوجية أو التكوين الحيوي له، فكذلك يتميز بآرائه ونظراته، فأنت لك نظرة تجاه أمر ما تختلف عن نظرة الآخر، حتى لو كان هذا الآخر من أقرب المقربين إليك. أخ أو أخت أو زوجة أو حتى أحد أبنائك. لكن الأهم من كل هذه الاختلافات مسألة العقيدة. وهديناه النجدين الله سبحانه قادر على أن يجعل كل عباده على ملة واحدة أو دين واحد، لا يعجزه شيء سبحانه (وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَٰحِدَةً) لكن ليست هذه هي الحكمة من خلق البشر، بل خلق الله الإنسان وهداه النجدين، نجد الخير ونجد الشر، وترك له الاختيار ليقرر مصيره الأخروي. الحكمة التي أقيم عليها نظامُ هذا العالم، كما يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير، اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلاً للتطوّح بهم في مسلك الضّلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلال، فلا شكّ أن حكمة الله اقتضت هذا النظام في العقل الإنساني، لأنّ ذلك أوفى بإقامة مراد الله تعالى من مساعي البشر في هذه الحياة الدنيا الزائلة المخلوطة، لينتقلوا منها إلى عالم الحياة الأبديّة الخالصة. إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فلو خلق الإنسان كذلك لما كان العمل الصالح مقتضياً ثواب النعيم، ولا كان الفساد مقتضياً عقاب الجحيم. يأتي الإنسان إلى هذه العاجلة وفطرته سليمة، أو على الإعداد الرباني، مسلماً موحداً وعلى العهد الذي قطعه على نفسه في عالم الذر ألا يعبد إلا الله، لا يشرك به شيئا. حتى إذا ما بدأ يعي ما حوله ويدرك، تراه يسير وفق أمه وأبيه، إما على دين الفطرة، أو يتهوّد أو يتنصّر أو إلى غير ذلك من معتقدات فاسدة. وهذا قوله تعالى (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) يعني في الأديان والملل والمذاهب. لبّ الحديث البشر مختلفون في أشياء كثيرة، مثلما يتفقون في أشياء أخرى، لكن المهم أن يفهم كل منا الآخر، وأنه لا يمكن دفع الناس لأن يكونوا نسخاً من بعض. لكن النقطة الأهم من كل هذا الحديث ألا يختلف الناس على حقيقة كونية واحدة لا ثاني لها، مفادها أن هناك إلها وربا واحدا لا شريك له، وأنه خلقهم لعبادته هو لا غيره، والعمل لأجل نيل مرضاته والفوز بجناته. هذه هي الحقيقة التي يجب ألا يختلف البشر حولها، وهذا سر وجودهم في هذه الحياة. ولأنهم اختلفوا لسبب وآخر، ظهرت ملل ونحل، ومذاهب وعقائد ما أنزل الله بها من سلطان. نسأل الله ختاماً أن يثبت قلوبنا على دينه وطاعته، فلا حول لنا ولا قوة إلا به.
300
| 15 مايو 2025
إنّ اليوم الذي يفر المرء من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، يوم لم تعهده الخلائق أجمعين طوال حياتها. يومٌ لا مثيل له، يؤمن به من يؤمن، ويكفر به من يكفر. لكنه حق وواقع لا ريب فيه، أو هكذا الاعتقاد عند النفس المؤمنة المطمئنة. من شدة الكرب في ذاك اليوم، ستكون عبارة (نفسي نفسي) هي السائدة بين الثقلين، الإنس والجان.. روي أن الفاروق عمر رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: خوّفنا، يريد منه موعظة تخشع لها قلوبهم. فقال كعب: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده، لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبياً لأتت عليك ساعات لا تهمك إلا نفسك، وإنّ لجهنم زفرةً لا يبقى مَلَكٌ مُقرب، ولا نبي مُرسل منتخب، إلا وقع جاثياً على ركبتيه، حتى إبراهيم خليل الرحمن، يقول: يا رب لا أسألك إلا نفسي، وإنّ تصديق ذلك الذي أنزل الله عليكم (يوم تأتي كلُ نفس تُجادل عن نفسها). المجادلة هاهنا بمعنى المحاجّة والمدافعة، والسعي في الخلاص من أهوال ذلك اليوم الشديد - كما جاء في التفسير الوسيط للطنطاوي - الذي يضيف قائلاً بأن المتأمل في هذه الجملة الكريمة، يراها تشير بأسلوب مؤثر بليغ إلى ما يعتري الناس يوم القيامة من خوف وفزع، يجعلهم لا يفكرون إلا في ذواتهم، ولا يهمهم شأن آبائهم أو أبنائهم! عواطف الدنيا وهي تختفي في الدنيا، وحين النوازل والمصائب - سلمنا الله وإياكم منها جميعاً - نجد المرء منا إن رأى نازلة أو مصيبة قد حلت بأحد أهله أو المقربين منه على سبيل المثال، يردد مقولات وعبارات مألوفة، كأن يقول له أو لها، سأفديك بنفسي، إن كان الفداء يفيد في إبعاد المصيبة أو الكارثة عنك. تعبيرات تدل على مواقف إنسانية فطرية مفهومة ومقبولة، وعواطف بشرية موجودة بين الناس. الأب قد يضحي بوقته وماله وصحته وعافيته لأجل حياة كريمة عزيزة لأبنائه، والأم بالمثل وزيادة. لكن ما بال الأمر يتغير تماماً يوم القيامة؟ أين موضع كل هذه العواطف الجياشة، وأين كل تلكم المشاعر الأبوية أو الأخوية؟ بالطبع الوضع أصعب مما نتصور ونتخيل، بل سيكون صعباً قاسياً كما في الأحاديث والآثار النبوية، يصل بالإنسان إلى درجة يتحول حينها إلى كتلة من الأنانية العميقة وفي أبشع صورها، هذا إن أردنا وصف بعض وليس كل ما سيحدث.. نعم، نفسي نفسي ولا أحد غيري، أو هكذا لسان حال كل أحد من الجن والإنس، فإن كانت تسمى أنانية، فلتكن ! فاليوم لا هدايا ولا عطايا، بل حساب وكتاب، وكل نفس بما كسبت رهينة. اقرأ مشهداً من مشاهد ذلكم اليوم إن شئت، حين (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ). سيأتي مجرم من المجرمين من بعد أن يرى من المصاعب والمشاق والأهوال يومها ليفدي نفسه مما هو فيه، ولن يجد حرجاً أو مشقة أبداً في تسمية من يريد أن يضحي بهم لأجل إنقاذ نفسه، على سبيل الافتراض أن الفدية مسموح بها يومئذ، فيبدأ بأحب أحبابه، من أهله وولده! تخيل أنه لن يطلب أحداً من عماله أو موظفيه أو أصدقائه أو تابعيه.. إنه ولكي يخرج من المحنة التي هو فيها، لن يمانع أبداً يومها أن يؤخذ بالأثمن أو بالأحب فالأحب والأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته !! لن يمانع أن يؤخذ أحد أبنائه أو زوجته، بل سينسى حتى إخوته جميعهم، ويقبل أن يؤخذ أحدهم أو جلهم إلى العذاب، مقابل إطلاق سراحه هو! المشهد خارج الوصف بل لا يمكن حتى تخيله. سلّمنا الله وإياكم من تلك المواقف والمشاهد. نفسي نفسي إنّ الاهتمام بالنفس في الحياة الدنيا ليس فيه ما يعيب، بل مطلوب وبشدة إن كان بقصد المحافظة عليها في العاجلة، وإنقاذها من مشاهدها المتنوعة غير المألوفة. إنه مفهوم ديني، بمعنى أنك جئت للدنيا فرداً، وستذهب عنها فرداً، وستُحشر فرداً، وستحُاسب فرداً. لا أحد معك أو ينفعك أو يشفع لك كما كان الحال في الدنيا. فإنك ذلك اليوم، لا ينفعك مال ولا بنون إلا إن أتيت الله بقلب سليم. ومن هنا يأتي مفهوم الاهتمام بالنفس أولاً وقبل الغير في حياتك الدنيا، لأنك محاسب على ما تقوم به. إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. في الدنيا قد تقصر وتهمل في واجباتك الأسرية أو الوظيفية أو غيرها من مهام حياتية متنوعة، لكن غالباً ستجد من يشفع لك ويخرجك من ورطة قد تقع فيها بسبب ذلكم التقصير والإهمال، أو على أقل تقدير، قد تجد من يخفف عنك بعض ما أنت عليه. لكن يوم التغابن، يوم المحاسبة، قد تتوسل إلى ولدك أو زوجك أو أمك وأبيك أن يمنحوك بعض ما لديهم من حسنات، أو تطلب منهم أن ينصتوا إليك لحظات تشرح لهم وضعك البائس، وكلك رجاء أن ترق قلوبهم لك بعض الشيء، فلن تجد منهم آذاناً صاغية، أو قلوباً واعية، بل تراهم يهربون منك، الذي ربما كنت قد بذلت الغالي والنفيس في الدنيا من أجلهم ! الأمر هنالك سيختلف تماماً تماماً. ولا أظن أحداً في حياتنا الدنيا عنده تلك المقدرة على وصف ما سيكون حال الناس حينها.. إنه يوم ليس كأي يوم، ثقيل على الكافرين غير يسير، تبلغ الأمور فيه من الشدة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تُخاصم الروح الجسد ! نسأل الله لنا ولكم العافية، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه، وخير أعمالنا خواتيمها، وأن يجعلنا من الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب.. آمين.
495
| 08 مايو 2025
الإجرام والتوحش اليهودي الصهيوني المستمر على غزة، الواقع على الأطفال والنساء وكبار السن، هو تكرار لسيناريوهات تاريخية حدثت مع أقوام وشعوب تعرضت لطغاة ومتجبرين، أهلكوا الحرث والنسل. لكن في نهاية الأمر، ذهب الجميع إلى خالقهم، الأبرياء مثلما الطغاة والظلمة. لكن ما يهمنا ها هنا، الظلمة المجرمون الذين هلكوا وغادروا الحياة الدنيا، تلعنهم الملائكة والناس أجمعون، وهذا ما سيكون عليه كل ظالم متكبر جبّار لا يؤمن بيوم الحساب، كالظلمة المتجبرين من اليهود الصهاينة وأمثالهم كثير اليوم، وهم موضوع حديثنا اليوم. هذا الإجرام اليهودي الصهيوني الذي زاد وفاق وحشية عما كان قبل عقود عدة مضت، لابد أن له حداً سيقف عنده بقدرة قادر، ولن يتجاوزه أكثر وإن قتل وشرد ودمر. فإن ما فعله الشيوعيون من مذابح ومجازر في بلاد المسلمين أيام لينين وستالين وبقية مجرمي السوفييت، أو ما فعله موسوليني في ليبيا، أو الفرنسيون في الجزائر، أو ما فعله قبلهم جنكيز خان وهولاكو بخوارزم وبغداد وحواضر إسلامية أخرى، كلها بدأت وانتهت، وانتهى معها كل أولئك المجرمين، عليهم من الله ما يستحقون، لكن رغم ذلكم الإجرام بقي الإسلام والمسلمون، وهذه هي الحقيقة الناصعة التي سعى كل أولئك المجرمين نحو طمسها، وحاولوا جهدهم لإزالتها. لكن الله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ما يفعله اليهود الصهاينة المتوحشون في غزة اليوم، فعل مثله كثيرون عبر التاريخ كما أسلفنا، من فرس وروم ومغول ومن جاء بعدهم في القرن الفائت، شيوعيين ونازيين وفاشيين. لكن ما يهمنا نهاية الأمر، أنه لا يصح إلا الصحيح ولا يسود إلا الحق، حتى وإن علا وتجبر الباطل وساد حيناً من الدهر، طال أم قصر. هذه نقطة أولى. النقطة الثانية في موضوعنا أن يقيننا بالله وبنصره لعباده المؤمنين نهاية الأمر ليس فيه أدنى شك، وهو ما يجعلنا نرى نهاية هؤلاء المتوحشين، وإن وقفت معهم قوى الأرض جميعاً الآن. يقين كل مؤمن بالله يفيد أن نهاية أولئك المجرمين ستكون ذليلة بائسة، ولن تكون أقل بؤساً وذلة وقهراً مما لقاه أسلافهم من الملك الكلداني نبوخذ نصر، أو الإمبراطور الروماني قسطنطين العظيم، فالجزاء من جنس العمل. وإن ما يقوم به اليهود الصهانية في غزة من إجرام، لن ينساه أهل غزة أولاً، وسيتم رد الصاع صاعين وربما أكثر (وتلك الأيام نداولها بين الناس). فقدان الأمان النقطة الأهم في هذا الموضوع والتي يجب السعي إلى تجسيدها على أرض الواقع، أفراداً ومؤسسات وفي كل العالم الإسلامي، وبكل الوسائل والطرق المتاحة، هي العمل على هدف محدد خلاصته (ألا يجد أي يهودي متصهين مجرم له يد فيما يجري بغـزة، ذرة أمن وأمان، أينما حل وارتحل). أما كيف يكون ذلك؟ إليكم الآتي.. لابد من العمل على كشف كل مجرم في وسائل الإعلام المختلفة، وبيان دوره في جرائم الحرب المرتكبة. والعمل كذلك بكل الطرق والوسائل الممكنة على ألا يدخل أي يهودي متصهين بلداننا العربية المسلمة، تحت أي بند أو شعار، تجارة أو سياحة أو رياضة، وإن دخل فلابد أن يشعر بأنه شخص غير مرحب به، بل وأكثر من هذا، أن يشعر بالقلق الدائم على حياته وأنه مستهدف. لابد أن يستشعر كل يهودي متصهين فاجر كذاب، ذلك الشعور المقلق، بل ليس وحده فحسب، بل كل من يتعاطف معهم من صهاينة العرب والمسلمين، المطبعين منهم أو السائرين في الطريق للتطبيع أو من هم في طور التفكير به! لابد أن يشعر كل عربي أو مسلم متصهين، أنهم عناصر منبوذة في مجتمعاتهم، من بعد أن خلت نفوسهم من أبسط أخلاقيات العربي المسلم، وفرغت من أي مشاعر نخوة ورجولة، قبل أن نقول بأن ضمائرهم ضمرت وماتت، وخلت قلوبهم من الإيمان كذلك، لأن تلكم الأفعال والسلوكيات لا يمكن أن تصدر عن قلوب بها ذرة إيمان. ما الآليات المطلوبة؟ من الطبيعي أن يسأل سائل وكيف العمل لتحقيق ذلك، أو ما الآليات المقترحة؟ بالنسبة للأفراد، ليس هناك غير وسائل التواصل المتنوعة، التي أثبتت جدوى وفعالية وتأثيرا كبيرا في الكثير من الأزمات والمشكلات، ولاسيما منذ أن بدأ العدوان اليهودي الصهيوني والمستمر على غزة. كل أحد صاحب حساب في منصة من المنصات المعروفة، يمكنه أن يساهم في كشف المطبعين الظاهرين أو من يتخفون تحت أسماء مستعارة، أو الساعين إلى الترويج للتطبيع بشكل غير مباشر. إضافة إلى ذلك، مطلوب العمل على كشف كل مجرم يهودي صهيوني يستعرض في حساباته جرائمه أو جرائم من معه من المجرمين في غزة، والعمل على نشر تلك الصور في كافة المنصات وبكل اللغات الممكنة، والإبلاغ عنهم مع بيان خطرهم وكيانهم المزعوم على الإنسانية، وأنهم ليسوا أكثر من وباء، أو مرض عضال لابد من إنقاذ البشرية منهم، ووضع حد صارم لهم. إضافة إلى ذلك، الحضور بفعالية في كل تجمع أو أنشطة جماهيرية، رياضية كانت أم فنية أم غيرها، من أجل تأكيد وحشية هذا الكيان، وكشف وجهه الخبيث للعالم. الشعوب دوماً تلعب أدواراً مؤثرة حين تبدأ تعي ما عليها من أدوار في معارك الحق والباطل. والشعوب العربية المسلمة مطلوب منها الكثير في هذه المرحلة التاريخية الفاصلة الحاسمة، فمن المعيب أن تتحرك شعوب الأمم الأخرى بفعالية وتأثير كبيرين ملحوظين، فيما تنشغل الشعوب المعنية بالأمر بقضايا هامشية وتوافه من الأمور كثيرة ومتنوعة. فإن كانت الحكومات تسعى لكل ذلك الكم من الإلهاء لشعوبها، لحاجات في نفوسها ونفوس من بيدهم مقاليد أمورها، فليس من المنطق أن تسير الشعوب وراءها كقطيع يُقاد نحو مذبح! التحديات كبيرة نعم هناك مصاعب ومشكلات وتحديات كثيرة سوف تخلقها الحكومات، كالقمع أو الاعتقال أو تعريض الناشطين لكل أنواع التهديد، وهذا أمر متوقع بل هو حاصل الآن في كثير من الأقطار العربية والمسلمة وللأسف، حتى صار واضحاً للعيان أن ما يجري الآن لأجل سيادة عصر يهودي صهيوني، وهذا ما يستدعي فعلياً تحرك الشعوب بالتوازي مع هذا العمل اليهودي الصهيوني عبر عناصر ناشطة فاعلة، وقيادات اجتماعية واعية، واستخدام واع وذكي فاعل لكل الوسائل والطرق المتاحة، لمجابهة ذلك العمل الشيطاني الخبيث، الذي طال أكثر من اللازم. لنعمل ونجتهد أكثر وأكثر الآن وقبل فوات الكثير من الأوان. «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون».
486
| 01 مايو 2025
هذه قاعدة من قواعد العمل في الدنيا، أوضحها سبحانه لبني آدم جميعاً، حيث الجزاء من جنس العمل (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها). أي أن ما تقوم به أيها الإنسان من عمل طيب، سيكون مردوده الطيب عليك، وبالمثل العمل السيئ. إنها سنة من السنن الإلهية في هذا الكون. العمل الصالح لا يأتي إلا بالصالح من النتائج والعواقب، والعمل السيئ لا شك أنه شؤم ولا يأتي بنتائج تسر صاحبه، لا دنيا ولا آخرة. يقول الشيخ أبوبكر الجزائري في تفسيره (إن أحسنتم) أي أحسنتم في طاعة الله وطاعة رسوله بالإخلاص فيها وبأدائها على الوجه المشروع لها، (أحسنتم لأنفسكم) أي أن الأجر والمثوبة والجزاء الحسن يعود عليكم لا على غيركم (وإن أسأتم) أي في الطاعة فإلى أنفسكم سوء عاقبة الإساءة. الآية جاءت ضمن سياق الحديث عن بني إسرائيل، الذين كانت أعمالهم وتعاملهم مع أنبيائهم والشعوب الأخرى بين مد وجزر. عمل صالح كان يديم لهم سلطانهم على الأرض حيناً من الدهر. ثم تتطور الأمور عندهم بصورة وأخرى، فكانت تتجه أعمالهم إلى النوع الطالح الضار السيئ حيناً من الدهر، فكانت تلكم الأعمال الطالحة غير الطيبة من أصلها، تطيح بهم وسلطانهم في الأرض، يتيهون سنوات وسنوات. ها هنا حكى الله عنهم، كما جاء في مفاتيح الغيب للرازي، أنهم لما عصوا، سلط عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصروا على المعصية فقد أساؤوا إلى أنفسهم. لا يمنع أن نذكر ها هنا باختصار ذلكم المد والجزر الذي كان عليه بنو إسرائيل في تاريخهم، لنصل إلى ما هم عليه اليوم، كي تتبين حقيقة هذه النوعية من البشر أكثر فأكثر للغافلين من هذه الأمة، وهم كُثُر، وكيفية التعامل معها. ذكر ابن عاشور في تفسيره، التحرير والتنوير، أن اليهود بعد أن عادوا إلى أورشليم وجددوا مُلكهم ومسجدهم في زمن داريوس الفارسي الذي أطلق لهم التصرف في بلادهم التي غلبهم عليها البابليون، فمكثوا على ذلك مائتي سنة من سنة 530 إلى سنة 330 قبل الميلاد، ثم أخذ مُلْكُهم في الانحلال بهجوم البطالسة ملوك مصر على أورشليم، فصاروا تحت سلطانهم إلى سنة 166 قبل الميلاد، إذ قام قائد من إسرائيل اسمه ميثيا وكان من اللاويين، فانتصر لليهود وتولى الأمر عليهم وتسلسل المُلك بعده في أبنائه في زمن مليء بالفتن إلى سنة أربعين قبل الميلاد. دخلت المملكة تحت نفوذ الرومانيين وأقاموا عليها أمراء من اليهود، ثم تمردوا للخروج على الرومانيين، فأرسل قيصر بالجيوش في حدود سنة أربعين بعد الميلاد، فخربت أورشليم واحترق المسجد، وتم أسر نيف وتسعين ألفاً من اليهود، وقُتل منهم في تلك الحروب نحو ألف ألف، ثم استعادوا المدينة وبقي منهم شرذمة قليلة إلى أن وافاهم الإمبراطور الروماني أدريانوس، فهدمها وخربها ورمى قناطير المِلح على أرضها كيلا تعود صالحة للزراعة، وذلك سنة 135 للميلاد. وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض، وتفرقوا في الأرض ولم تخرج أورشليم من حكم الرومان إلا حين فتحها المسلمون في زمن عمر بن الخطاب سنة 16 للهجرة، صُلحاً مع أهلها وهي تسمى يومئذ إيلياء. هؤلاء القوم أو غيرهم من ظلمة وفسّاق الأرض اليوم، يبدو أنه ليس لديهم للتاريخ مساحة في حياتهم للتأمل والاتعاظ من سير الأولين الغابرين، لاسيما اليهود المتصهينين الذين لم تتوقف آلات القتل والإجرام عندهم منذ أن أدخلتهم بريطانيا ثم أمريكا إلى الأرض التي بارك الله حولها. إنهم من فساد إلى آخر، ومن ظلم إلى ما هو أكثر ظلما. وإن ما يجري في غزة، إنما ظلم لن يتركه الحق تبارك وتعالى هكذا يمضي، بل سيكون لهذا الظلم والظلمة وأعوانهم، يوم قادم لا ريب فيه، في الدنيا أولاً ثم الآخرة. الشاهد من الحديث كله، وخلاصة ما أروم إليه من هذا السرد السريع للتاريخ وربطه بآيات القرآن الكريم، أن الآية الكريمة (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) حتى وإن كانت ضمن سياق الحديث عن بني إسرائيل، القوم الذي أرهقوا أنبياء الله ورسله، إلا أنها لكل قوم وملة، في كل زمان ومكان، بل لكل إنسان يعيش عمره المقدّر في هذه الحياة الدنيا. إنها تثبت وتقرر القاعدة الحياتية التي ذكرناها في المقدمة، وخلاصتها أن الإنسان إن أحسن فإنما يُحسن لنفسه، وإن أساء فإنما على نفسه. فكل أحد منا يأتي يوم القيامة فردا. إنها القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة؛ كما يقول سيد قطب في ظلاله. القاعدة التي تجعل عمل الإنسان كله له، بكل ثماره ونتائجه. وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل، منه تنتج، وبه تتكيف؛ وتجعل الإنسان مسؤولاً عن نفسه، إن شاء أحسن إليها، وإن شاء أساء، لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء.
1509
| 24 أبريل 2025
مساحة إعلانية
ليش ما يمديك؟! بينما ممداني زهران، الشاب ذو...
17202
| 11 نوفمبر 2025
العلاقة العضوية بين الحلم الإسرائيلي والحلم الأمريكي تجعل...
8634
| 10 نوفمبر 2025
في عالم تتسابق فيه الدول لجذب رؤوس الأموال...
8142
| 13 نوفمبر 2025
ماذا يعني أن يُفاجأ أولياء أمور بقرار مدارس...
8046
| 11 نوفمبر 2025
تستضيف ملاعب أكاديمية أسباير بطولة كأس العالم تحت...
3555
| 11 نوفمبر 2025
على مدى أكثر من ستة عقود، تستثمر الدولة...
2994
| 11 نوفمبر 2025
تشهد الصالات الرياضية إقبالا متزايدا من الجمهور نظرا...
2100
| 10 نوفمبر 2025
تحليل نفسي لخطاب سمو الأمير الشيخ تميم بن...
1629
| 11 نوفمبر 2025
عندما صنّف المفكر خالد محمد خالد كتابه المثير...
1158
| 09 نوفمبر 2025
يبدو أن البحر المتوسط على موعد جديد مع...
1086
| 12 نوفمبر 2025
شكّلت استضافة دولة قطر المؤتمر العالمي الثاني للتنمية...
1035
| 09 نوفمبر 2025
يشهد العالم اليوم تحولاً جذريًا في أساليب الحوكمة...
894
| 10 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية