رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس من السهل على الإنسان أن يكون المقابل للرفق واللين والأدب في التعامل مع أحد من البشر، قسوة وجفوة وغلظة، بل تهديد بالضرب أو السب أو حتى القتل والتصفية.. هكذا كان الوضع مع خليل الرحمن، ابراهيم عليه السلام، وهو يبذل جهده في دعوة أبيه آزر إلى دعوة الحق وترك عبادة الأوثان. وقد كانت دعوته فيها الكثير من الرفق واللين، لكن لم يجد كل ذلك نفعاً في آزر وقومه. في هجمته المضادة، قال لابنه ابراهيم (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) ولم يقل له يا بني مثلاً، كنوع من الرفق مع ابنه الهيّن اللين الحليم، بل سماه باسمه، إشارة إلى أنه غاضب منفعل من دعوته الغريبة عليهم، ثم دعوته له لترك عبادة تلك الآلهة التي هم عليها عاكفون. قال والد إبراهيم له على سبيل التهديد والوعيد، كما يقول الطنطاوي في التفسير الوسيط، أتارك أنت يا إبراهيم عبادة آلهتي، وكارهٌ لتقرّب الناس إليها، ومنفرهم منها؟ لئن لم تنته عن هذا المسلك (لأرجمنّك) بالحجارة وبالكلام القبيح (واهجرني مَلِيّاً) بأن تغرب عن وجهى زمناً طويلاً لا أحب أن أراك فيه ! وهكذا قابل الأب الكافر أدب ابنه المؤمن، بفظاظة وغلظة ثم تهديد ووعيد، وعناد وجهالة، شأن القلب الذى أفسده الكفر. هذه الآية كما ذهب بعض المفسرين إنما حكاها الله تعالى لمحمد، صلى الله عليه وسلم، كما يقول الفخر الرازي، كي يخفف على قلبه ما كان يصل إليه من أذى المشركين، وليعلم أن الجهّال منذ كانوا على هذه السيرة المذمومة. ما أشبه اليوم بالبارحة إن كانت آلهة الأمس مجموعة أوثان أو أشجار أو كواكب أو ما شابه، ولقى بسببها الكثير من المؤمنين البلاء وأشد العذاب، فقط لأنهم لم يرضخوا لما كانت عليه أقوامهم من جهالة وفساد اعتقاد، وكانت قصص الأنبياء أبرز الأمثلة التي تحكي تلك المشاهد الغارقة في الجاهلية، فإن ما يحدث اليوم في عصر العلم والتنوير، أو عصر الاتصالات والتقنيات والمعلومات، لا يختلف البتة عما كانت عليه الأقوام السابقة. لقد تعددت آلهة اليوم وتغيرت، ولم تعد أوثاناً أو أشجاراً، بل صارت على شكل توجهات فكرية أو أحزاب سياسية أو أصحاب قرار وصلاحيات، وعموم الناس في هذا المشهد الجاهلي الفوضوي، حيارى بين تلكم الآلهة المتعددة، ولمن يجب تقديم الولاءات والطاعات، على رغم وضوح الرؤى والرسالات، بعد خاتم الأنبياء والمرسلين. كل بطانة آلهة صارت تهدد الأتباع في وقت من الأوقات بصورة من الصور، إن رأت تململاً أو تحركاً نحو العصيان، وتعيد ترديد عبارات آزر لإبراهيم عليه السلام ( أراغب أنت عن آلهتي ) كأنما التاريخ يعيد نفسه، وإنْ بصور وأشكال وهيئات مختلفة، لكن المضمون واحد. أوثان العصر الحديث من يعارض مديره المتسلط في إدارة أو وزارة أو شركة ما، فإن أولى العبارات التي يسمعها لا يختلف مضمونها عن مضمون ما قاله آزر لإبراهيم، وإن تبدلت الكلمات والحروف. فلا فرق بين (أراغب أنت عن آلهتي) وبين (أتعارض المدير العام أو الصالح العام) ؟! إن ظهر في الأفق معارضٌ لرئيس حكومة أو رئيس دولة، أو ما شابه من المناصب، فإن التهديدات تنهال عليه من كل حدب وصوب. كل جهة بحسب اختصاصها تهدده بمصير غامض مؤلم إن هو عارض، أو رغب عن سياسات الحكومة، أو توجهات الرئيس، أو تطلعات الوزير، أو من هم على شاكلتهم. كلهم يردد نفس المعنى (أراغبٌ أنت عن آلهتي) ؟! الدول التي تدور في الفلك الأمريكي إن تجرأت ورغبت عن سياساتها، وأرادت التحرك بعض الشيء بعيداً عن تلكم السياسات والتوجهات، فإن مصيرها ليس بالذي يسعدها ويسرها، وعواقب المخالفة معروفة ومتنوعة مؤلمة. وبالمثل تلك الدول الدائرة في الفلك الروسي أو الصيني وغيرها من أفلاك القوة والتجبر والتسلط في عالم اليوم. الأمر بالمثل يحدث مع كثير من رموز السياسة والإعلام والفكر والفن في كثير من دول العالم. فما إن تبدأ تلك الرموز بالتحرك أو تعزم على مخالفة سياسات الدولة العميقة في دولها، تجدها فجأة وبقدرة قادر تنكشف أوراقها وملفاتها وتاريخها، وكأنما تلكم الأوراق جُهّزت لمثل هذه الأوقات، فيتم خنقها ووأدها وهي في المهد ! والأمثلة على مشهد آزر مع إبراهيم الخليل عليه السلام أكثر مما يمكن ذكرها أو حصرها ها هنا. هكذا واقع الحال أينما وجهت وجهك. وليس شرطاً أن ترى هذه المشاهد في بقعة جغرافية معينة، بل متناثرة حول هذا الكوكب، من شرقة إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، وإنْ بنسب متفاوتة بحسب العقلية السائدة في كل بقعة جغرافية.. لب الحديث من يجد نفسه في موقف شبيه بموقف الخليل إبراهيم عليه السلام، يواجه بطانة آلهة ما، أو حتى الآلهة نفسها أو الوثن نفسه، فليعلم أنه إن استمر على موقفه، وثبت وصمد، فهو على الصراط المستقيم والحق المبين، وإنْ خسر نفسه وماله وولده والكثير الكثير. إن نبي الله الكريم إبراهيم عليه السلام، اختار أن يخسر كل ما يملك، بل ويخرج من بلده مهاجراً إلى ربه، على أن يتراجع عن صراط الله المستقيم. فلم تفتنه المغريات ولم ترعبه التهديدات. وبالمثل كان الحال مع سيد ولد آدم، عليه الصلاة والسلام، حين ترك ماله وأهله وبلده، وخرج مهاجراً إلى حيث يأمن على نفسه ودينه. هكذا هو الصراع الأبدي بين الحق والباطل. لا يختلف هذا الصراع اليوم عما كان عليه الوضع منذ الأمم الغابرة قبل آلاف السنين. العقلية المتجبرة الفاسدة هي هي، لا تتغير ولا تتبدل تركيبتها، أو إعداداتها الداخلية، وإن تبدّلت الأجسام وتركيباتها، أو إعداداتها الخارجية. وفي قصص الأنبياء الكرام، الكثير الكثير من هذه الدروس والعبر. نعم، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب. ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ).
477
| 22 مايو 2025
لو أن أحدنا على سبيل الافتراض، امتلك بقدرة قادر، أدوات لازمة للاطلاع على عقول ألف شخص في نفس اللحظة. فماذا سيجد؟ لا شك سيجد الكثير من الأفكار التي تدور في عقول أولئك الألف في اللحظة ذاتها. ولا شك كذلك أنها مختلفة، ولكن لا يمنع أن يحدث تشابه وتوافق بين تفكير عشرة أو عشرين أو مائة في اللحظة ذاتها. لكن بشكل عام، لا يمكن أن يكون الجميع في اللحظة ذاتها تدور فكرة واحدة بذاتها في أذهانهم. ما قصة اليوم؟ الأصل في التكوين البشري أو كما خلق الله سبحانه البشر أنهم مختلفون، ليس في المظاهر الخارجية من أحجام وأشكال وألوان فحسب، بل حتى الداخلية، وأقصد الصفات والطباع والأخلاقيات والعقائد والتوجهات والأفكار والرؤى والطموحات.. أحد أولئك الألف إنسان، إن أحببنا الرجوع إليهم مرة أخرى، سنجده وقد شغل باله أمر وظيفته، وكيف يحافظ عليها بعد تلقيه تهديداً من مديره المباشر بالفصل خلال أسبوع، إن لم يقم بكذا وكذا.. فيما آخر تراه في اللحظة ذاتها وقد انشغل بأمر طفل له مصاب بمرض عضال، لا يدري كيف يخرجه من ذلكم المرض بعد أن أخبره الأطباء عن تقديمهم أقصى ما يمكن تقديمه له.. وقد تجد ثالثاً انشغل تفكيره بكيفية تدبير بعض طعام لأهله الجياع منذ أمس الأول، ورابع يعمل عقله في الانتقام من شخص أساء له وسلب أمواله بالاحتيال، فيما خامس قد تجده في اللحظة ذاتها يعيد شريط أيامه، وكيف ظلم نفسه بالبعد عن الله، وسادس وسابع وألف وهكذا. كل أحد من أولئك الألف تجده وقد انشغل بهمه أو قضيته أو مسألته.. قد يتوافق بعض منهم في التفكير بنفس الأمر وفي اللحظة ذاتها دون اتفاق أو معرفة سابقة، بل ربما تفصلهما مساحات جغرافية شاسعة. لكن الشاهد من كل هذا أن الأصل في البشر أنهم مختلفون في كثير من الأشياء، أو هكذا خلقهم الله عز وجل. أحدنا عالم بذاته المثال الافتراضي أعلاه، يمكن أن يكون نموذجاً لبيان حقيقة حياتية مهمة مفادها أن كل أحد منا له نظرته الخاصة للأمور والأشياء. كل واحد منا يختلف عن الآخر في التفكير، التخطيط، التعامل مع الناس والأشياء، ويختلف في الفهم والإدراك، وكذلك في النظرة للحياة وغيرها كثير كثير.. وهذا الاختلاف أو هذا التباين بين البشر رحمة، بل هو سر من أسرار جماليات الحياة. كل واحد منا عالم بذاته.. له شخصيته المتفردة ونكهته وذوقه وصفاته وغيرها من أمور لا تتشابه مع أحد، وقد تتقاطع مع آخرين في أمور متشابهات، لكن مع ذلك سيظل كل واحد منا يختلف عن الآخر.. فكل واحد منا، كما أنه خلقه الخالق متفرداً ومتميزاً عن غيره في كثير من النواحي الفسيولوجية أو التكوين الحيوي له، فكذلك يتميز بآرائه ونظراته، فأنت لك نظرة تجاه أمر ما تختلف عن نظرة الآخر، حتى لو كان هذا الآخر من أقرب المقربين إليك. أخ أو أخت أو زوجة أو حتى أحد أبنائك. لكن الأهم من كل هذه الاختلافات مسألة العقيدة. وهديناه النجدين الله سبحانه قادر على أن يجعل كل عباده على ملة واحدة أو دين واحد، لا يعجزه شيء سبحانه (وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَٰحِدَةً) لكن ليست هذه هي الحكمة من خلق البشر، بل خلق الله الإنسان وهداه النجدين، نجد الخير ونجد الشر، وترك له الاختيار ليقرر مصيره الأخروي. الحكمة التي أقيم عليها نظامُ هذا العالم، كما يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير، اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلاً للتطوّح بهم في مسلك الضّلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلال، فلا شكّ أن حكمة الله اقتضت هذا النظام في العقل الإنساني، لأنّ ذلك أوفى بإقامة مراد الله تعالى من مساعي البشر في هذه الحياة الدنيا الزائلة المخلوطة، لينتقلوا منها إلى عالم الحياة الأبديّة الخالصة. إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فلو خلق الإنسان كذلك لما كان العمل الصالح مقتضياً ثواب النعيم، ولا كان الفساد مقتضياً عقاب الجحيم. يأتي الإنسان إلى هذه العاجلة وفطرته سليمة، أو على الإعداد الرباني، مسلماً موحداً وعلى العهد الذي قطعه على نفسه في عالم الذر ألا يعبد إلا الله، لا يشرك به شيئا. حتى إذا ما بدأ يعي ما حوله ويدرك، تراه يسير وفق أمه وأبيه، إما على دين الفطرة، أو يتهوّد أو يتنصّر أو إلى غير ذلك من معتقدات فاسدة. وهذا قوله تعالى (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) يعني في الأديان والملل والمذاهب. لبّ الحديث البشر مختلفون في أشياء كثيرة، مثلما يتفقون في أشياء أخرى، لكن المهم أن يفهم كل منا الآخر، وأنه لا يمكن دفع الناس لأن يكونوا نسخاً من بعض. لكن النقطة الأهم من كل هذا الحديث ألا يختلف الناس على حقيقة كونية واحدة لا ثاني لها، مفادها أن هناك إلها وربا واحدا لا شريك له، وأنه خلقهم لعبادته هو لا غيره، والعمل لأجل نيل مرضاته والفوز بجناته. هذه هي الحقيقة التي يجب ألا يختلف البشر حولها، وهذا سر وجودهم في هذه الحياة. ولأنهم اختلفوا لسبب وآخر، ظهرت ملل ونحل، ومذاهب وعقائد ما أنزل الله بها من سلطان. نسأل الله ختاماً أن يثبت قلوبنا على دينه وطاعته، فلا حول لنا ولا قوة إلا به.
273
| 15 مايو 2025
إنّ اليوم الذي يفر المرء من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، يوم لم تعهده الخلائق أجمعين طوال حياتها. يومٌ لا مثيل له، يؤمن به من يؤمن، ويكفر به من يكفر. لكنه حق وواقع لا ريب فيه، أو هكذا الاعتقاد عند النفس المؤمنة المطمئنة. من شدة الكرب في ذاك اليوم، ستكون عبارة (نفسي نفسي) هي السائدة بين الثقلين، الإنس والجان.. روي أن الفاروق عمر رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: خوّفنا، يريد منه موعظة تخشع لها قلوبهم. فقال كعب: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده، لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبياً لأتت عليك ساعات لا تهمك إلا نفسك، وإنّ لجهنم زفرةً لا يبقى مَلَكٌ مُقرب، ولا نبي مُرسل منتخب، إلا وقع جاثياً على ركبتيه، حتى إبراهيم خليل الرحمن، يقول: يا رب لا أسألك إلا نفسي، وإنّ تصديق ذلك الذي أنزل الله عليكم (يوم تأتي كلُ نفس تُجادل عن نفسها). المجادلة هاهنا بمعنى المحاجّة والمدافعة، والسعي في الخلاص من أهوال ذلك اليوم الشديد - كما جاء في التفسير الوسيط للطنطاوي - الذي يضيف قائلاً بأن المتأمل في هذه الجملة الكريمة، يراها تشير بأسلوب مؤثر بليغ إلى ما يعتري الناس يوم القيامة من خوف وفزع، يجعلهم لا يفكرون إلا في ذواتهم، ولا يهمهم شأن آبائهم أو أبنائهم! عواطف الدنيا وهي تختفي في الدنيا، وحين النوازل والمصائب - سلمنا الله وإياكم منها جميعاً - نجد المرء منا إن رأى نازلة أو مصيبة قد حلت بأحد أهله أو المقربين منه على سبيل المثال، يردد مقولات وعبارات مألوفة، كأن يقول له أو لها، سأفديك بنفسي، إن كان الفداء يفيد في إبعاد المصيبة أو الكارثة عنك. تعبيرات تدل على مواقف إنسانية فطرية مفهومة ومقبولة، وعواطف بشرية موجودة بين الناس. الأب قد يضحي بوقته وماله وصحته وعافيته لأجل حياة كريمة عزيزة لأبنائه، والأم بالمثل وزيادة. لكن ما بال الأمر يتغير تماماً يوم القيامة؟ أين موضع كل هذه العواطف الجياشة، وأين كل تلكم المشاعر الأبوية أو الأخوية؟ بالطبع الوضع أصعب مما نتصور ونتخيل، بل سيكون صعباً قاسياً كما في الأحاديث والآثار النبوية، يصل بالإنسان إلى درجة يتحول حينها إلى كتلة من الأنانية العميقة وفي أبشع صورها، هذا إن أردنا وصف بعض وليس كل ما سيحدث.. نعم، نفسي نفسي ولا أحد غيري، أو هكذا لسان حال كل أحد من الجن والإنس، فإن كانت تسمى أنانية، فلتكن ! فاليوم لا هدايا ولا عطايا، بل حساب وكتاب، وكل نفس بما كسبت رهينة. اقرأ مشهداً من مشاهد ذلكم اليوم إن شئت، حين (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ). سيأتي مجرم من المجرمين من بعد أن يرى من المصاعب والمشاق والأهوال يومها ليفدي نفسه مما هو فيه، ولن يجد حرجاً أو مشقة أبداً في تسمية من يريد أن يضحي بهم لأجل إنقاذ نفسه، على سبيل الافتراض أن الفدية مسموح بها يومئذ، فيبدأ بأحب أحبابه، من أهله وولده! تخيل أنه لن يطلب أحداً من عماله أو موظفيه أو أصدقائه أو تابعيه.. إنه ولكي يخرج من المحنة التي هو فيها، لن يمانع أبداً يومها أن يؤخذ بالأثمن أو بالأحب فالأحب والأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته !! لن يمانع أن يؤخذ أحد أبنائه أو زوجته، بل سينسى حتى إخوته جميعهم، ويقبل أن يؤخذ أحدهم أو جلهم إلى العذاب، مقابل إطلاق سراحه هو! المشهد خارج الوصف بل لا يمكن حتى تخيله. سلّمنا الله وإياكم من تلك المواقف والمشاهد. نفسي نفسي إنّ الاهتمام بالنفس في الحياة الدنيا ليس فيه ما يعيب، بل مطلوب وبشدة إن كان بقصد المحافظة عليها في العاجلة، وإنقاذها من مشاهدها المتنوعة غير المألوفة. إنه مفهوم ديني، بمعنى أنك جئت للدنيا فرداً، وستذهب عنها فرداً، وستُحشر فرداً، وستحُاسب فرداً. لا أحد معك أو ينفعك أو يشفع لك كما كان الحال في الدنيا. فإنك ذلك اليوم، لا ينفعك مال ولا بنون إلا إن أتيت الله بقلب سليم. ومن هنا يأتي مفهوم الاهتمام بالنفس أولاً وقبل الغير في حياتك الدنيا، لأنك محاسب على ما تقوم به. إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. في الدنيا قد تقصر وتهمل في واجباتك الأسرية أو الوظيفية أو غيرها من مهام حياتية متنوعة، لكن غالباً ستجد من يشفع لك ويخرجك من ورطة قد تقع فيها بسبب ذلكم التقصير والإهمال، أو على أقل تقدير، قد تجد من يخفف عنك بعض ما أنت عليه. لكن يوم التغابن، يوم المحاسبة، قد تتوسل إلى ولدك أو زوجك أو أمك وأبيك أن يمنحوك بعض ما لديهم من حسنات، أو تطلب منهم أن ينصتوا إليك لحظات تشرح لهم وضعك البائس، وكلك رجاء أن ترق قلوبهم لك بعض الشيء، فلن تجد منهم آذاناً صاغية، أو قلوباً واعية، بل تراهم يهربون منك، الذي ربما كنت قد بذلت الغالي والنفيس في الدنيا من أجلهم ! الأمر هنالك سيختلف تماماً تماماً. ولا أظن أحداً في حياتنا الدنيا عنده تلك المقدرة على وصف ما سيكون حال الناس حينها.. إنه يوم ليس كأي يوم، ثقيل على الكافرين غير يسير، تبلغ الأمور فيه من الشدة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تُخاصم الروح الجسد ! نسأل الله لنا ولكم العافية، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه، وخير أعمالنا خواتيمها، وأن يجعلنا من الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب.. آمين.
411
| 08 مايو 2025
الإجرام والتوحش اليهودي الصهيوني المستمر على غزة، الواقع على الأطفال والنساء وكبار السن، هو تكرار لسيناريوهات تاريخية حدثت مع أقوام وشعوب تعرضت لطغاة ومتجبرين، أهلكوا الحرث والنسل. لكن في نهاية الأمر، ذهب الجميع إلى خالقهم، الأبرياء مثلما الطغاة والظلمة. لكن ما يهمنا ها هنا، الظلمة المجرمون الذين هلكوا وغادروا الحياة الدنيا، تلعنهم الملائكة والناس أجمعون، وهذا ما سيكون عليه كل ظالم متكبر جبّار لا يؤمن بيوم الحساب، كالظلمة المتجبرين من اليهود الصهاينة وأمثالهم كثير اليوم، وهم موضوع حديثنا اليوم. هذا الإجرام اليهودي الصهيوني الذي زاد وفاق وحشية عما كان قبل عقود عدة مضت، لابد أن له حداً سيقف عنده بقدرة قادر، ولن يتجاوزه أكثر وإن قتل وشرد ودمر. فإن ما فعله الشيوعيون من مذابح ومجازر في بلاد المسلمين أيام لينين وستالين وبقية مجرمي السوفييت، أو ما فعله موسوليني في ليبيا، أو الفرنسيون في الجزائر، أو ما فعله قبلهم جنكيز خان وهولاكو بخوارزم وبغداد وحواضر إسلامية أخرى، كلها بدأت وانتهت، وانتهى معها كل أولئك المجرمين، عليهم من الله ما يستحقون، لكن رغم ذلكم الإجرام بقي الإسلام والمسلمون، وهذه هي الحقيقة الناصعة التي سعى كل أولئك المجرمين نحو طمسها، وحاولوا جهدهم لإزالتها. لكن الله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ما يفعله اليهود الصهاينة المتوحشون في غزة اليوم، فعل مثله كثيرون عبر التاريخ كما أسلفنا، من فرس وروم ومغول ومن جاء بعدهم في القرن الفائت، شيوعيين ونازيين وفاشيين. لكن ما يهمنا نهاية الأمر، أنه لا يصح إلا الصحيح ولا يسود إلا الحق، حتى وإن علا وتجبر الباطل وساد حيناً من الدهر، طال أم قصر. هذه نقطة أولى. النقطة الثانية في موضوعنا أن يقيننا بالله وبنصره لعباده المؤمنين نهاية الأمر ليس فيه أدنى شك، وهو ما يجعلنا نرى نهاية هؤلاء المتوحشين، وإن وقفت معهم قوى الأرض جميعاً الآن. يقين كل مؤمن بالله يفيد أن نهاية أولئك المجرمين ستكون ذليلة بائسة، ولن تكون أقل بؤساً وذلة وقهراً مما لقاه أسلافهم من الملك الكلداني نبوخذ نصر، أو الإمبراطور الروماني قسطنطين العظيم، فالجزاء من جنس العمل. وإن ما يقوم به اليهود الصهانية في غزة من إجرام، لن ينساه أهل غزة أولاً، وسيتم رد الصاع صاعين وربما أكثر (وتلك الأيام نداولها بين الناس). فقدان الأمان النقطة الأهم في هذا الموضوع والتي يجب السعي إلى تجسيدها على أرض الواقع، أفراداً ومؤسسات وفي كل العالم الإسلامي، وبكل الوسائل والطرق المتاحة، هي العمل على هدف محدد خلاصته (ألا يجد أي يهودي متصهين مجرم له يد فيما يجري بغـزة، ذرة أمن وأمان، أينما حل وارتحل). أما كيف يكون ذلك؟ إليكم الآتي.. لابد من العمل على كشف كل مجرم في وسائل الإعلام المختلفة، وبيان دوره في جرائم الحرب المرتكبة. والعمل كذلك بكل الطرق والوسائل الممكنة على ألا يدخل أي يهودي متصهين بلداننا العربية المسلمة، تحت أي بند أو شعار، تجارة أو سياحة أو رياضة، وإن دخل فلابد أن يشعر بأنه شخص غير مرحب به، بل وأكثر من هذا، أن يشعر بالقلق الدائم على حياته وأنه مستهدف. لابد أن يستشعر كل يهودي متصهين فاجر كذاب، ذلك الشعور المقلق، بل ليس وحده فحسب، بل كل من يتعاطف معهم من صهاينة العرب والمسلمين، المطبعين منهم أو السائرين في الطريق للتطبيع أو من هم في طور التفكير به! لابد أن يشعر كل عربي أو مسلم متصهين، أنهم عناصر منبوذة في مجتمعاتهم، من بعد أن خلت نفوسهم من أبسط أخلاقيات العربي المسلم، وفرغت من أي مشاعر نخوة ورجولة، قبل أن نقول بأن ضمائرهم ضمرت وماتت، وخلت قلوبهم من الإيمان كذلك، لأن تلكم الأفعال والسلوكيات لا يمكن أن تصدر عن قلوب بها ذرة إيمان. ما الآليات المطلوبة؟ من الطبيعي أن يسأل سائل وكيف العمل لتحقيق ذلك، أو ما الآليات المقترحة؟ بالنسبة للأفراد، ليس هناك غير وسائل التواصل المتنوعة، التي أثبتت جدوى وفعالية وتأثيرا كبيرا في الكثير من الأزمات والمشكلات، ولاسيما منذ أن بدأ العدوان اليهودي الصهيوني والمستمر على غزة. كل أحد صاحب حساب في منصة من المنصات المعروفة، يمكنه أن يساهم في كشف المطبعين الظاهرين أو من يتخفون تحت أسماء مستعارة، أو الساعين إلى الترويج للتطبيع بشكل غير مباشر. إضافة إلى ذلك، مطلوب العمل على كشف كل مجرم يهودي صهيوني يستعرض في حساباته جرائمه أو جرائم من معه من المجرمين في غزة، والعمل على نشر تلك الصور في كافة المنصات وبكل اللغات الممكنة، والإبلاغ عنهم مع بيان خطرهم وكيانهم المزعوم على الإنسانية، وأنهم ليسوا أكثر من وباء، أو مرض عضال لابد من إنقاذ البشرية منهم، ووضع حد صارم لهم. إضافة إلى ذلك، الحضور بفعالية في كل تجمع أو أنشطة جماهيرية، رياضية كانت أم فنية أم غيرها، من أجل تأكيد وحشية هذا الكيان، وكشف وجهه الخبيث للعالم. الشعوب دوماً تلعب أدواراً مؤثرة حين تبدأ تعي ما عليها من أدوار في معارك الحق والباطل. والشعوب العربية المسلمة مطلوب منها الكثير في هذه المرحلة التاريخية الفاصلة الحاسمة، فمن المعيب أن تتحرك شعوب الأمم الأخرى بفعالية وتأثير كبيرين ملحوظين، فيما تنشغل الشعوب المعنية بالأمر بقضايا هامشية وتوافه من الأمور كثيرة ومتنوعة. فإن كانت الحكومات تسعى لكل ذلك الكم من الإلهاء لشعوبها، لحاجات في نفوسها ونفوس من بيدهم مقاليد أمورها، فليس من المنطق أن تسير الشعوب وراءها كقطيع يُقاد نحو مذبح! التحديات كبيرة نعم هناك مصاعب ومشكلات وتحديات كثيرة سوف تخلقها الحكومات، كالقمع أو الاعتقال أو تعريض الناشطين لكل أنواع التهديد، وهذا أمر متوقع بل هو حاصل الآن في كثير من الأقطار العربية والمسلمة وللأسف، حتى صار واضحاً للعيان أن ما يجري الآن لأجل سيادة عصر يهودي صهيوني، وهذا ما يستدعي فعلياً تحرك الشعوب بالتوازي مع هذا العمل اليهودي الصهيوني عبر عناصر ناشطة فاعلة، وقيادات اجتماعية واعية، واستخدام واع وذكي فاعل لكل الوسائل والطرق المتاحة، لمجابهة ذلك العمل الشيطاني الخبيث، الذي طال أكثر من اللازم. لنعمل ونجتهد أكثر وأكثر الآن وقبل فوات الكثير من الأوان. «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون».
441
| 01 مايو 2025
هذه قاعدة من قواعد العمل في الدنيا، أوضحها سبحانه لبني آدم جميعاً، حيث الجزاء من جنس العمل (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها). أي أن ما تقوم به أيها الإنسان من عمل طيب، سيكون مردوده الطيب عليك، وبالمثل العمل السيئ. إنها سنة من السنن الإلهية في هذا الكون. العمل الصالح لا يأتي إلا بالصالح من النتائج والعواقب، والعمل السيئ لا شك أنه شؤم ولا يأتي بنتائج تسر صاحبه، لا دنيا ولا آخرة. يقول الشيخ أبوبكر الجزائري في تفسيره (إن أحسنتم) أي أحسنتم في طاعة الله وطاعة رسوله بالإخلاص فيها وبأدائها على الوجه المشروع لها، (أحسنتم لأنفسكم) أي أن الأجر والمثوبة والجزاء الحسن يعود عليكم لا على غيركم (وإن أسأتم) أي في الطاعة فإلى أنفسكم سوء عاقبة الإساءة. الآية جاءت ضمن سياق الحديث عن بني إسرائيل، الذين كانت أعمالهم وتعاملهم مع أنبيائهم والشعوب الأخرى بين مد وجزر. عمل صالح كان يديم لهم سلطانهم على الأرض حيناً من الدهر. ثم تتطور الأمور عندهم بصورة وأخرى، فكانت تتجه أعمالهم إلى النوع الطالح الضار السيئ حيناً من الدهر، فكانت تلكم الأعمال الطالحة غير الطيبة من أصلها، تطيح بهم وسلطانهم في الأرض، يتيهون سنوات وسنوات. ها هنا حكى الله عنهم، كما جاء في مفاتيح الغيب للرازي، أنهم لما عصوا، سلط عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصروا على المعصية فقد أساؤوا إلى أنفسهم. لا يمنع أن نذكر ها هنا باختصار ذلكم المد والجزر الذي كان عليه بنو إسرائيل في تاريخهم، لنصل إلى ما هم عليه اليوم، كي تتبين حقيقة هذه النوعية من البشر أكثر فأكثر للغافلين من هذه الأمة، وهم كُثُر، وكيفية التعامل معها. ذكر ابن عاشور في تفسيره، التحرير والتنوير، أن اليهود بعد أن عادوا إلى أورشليم وجددوا مُلكهم ومسجدهم في زمن داريوس الفارسي الذي أطلق لهم التصرف في بلادهم التي غلبهم عليها البابليون، فمكثوا على ذلك مائتي سنة من سنة 530 إلى سنة 330 قبل الميلاد، ثم أخذ مُلْكُهم في الانحلال بهجوم البطالسة ملوك مصر على أورشليم، فصاروا تحت سلطانهم إلى سنة 166 قبل الميلاد، إذ قام قائد من إسرائيل اسمه ميثيا وكان من اللاويين، فانتصر لليهود وتولى الأمر عليهم وتسلسل المُلك بعده في أبنائه في زمن مليء بالفتن إلى سنة أربعين قبل الميلاد. دخلت المملكة تحت نفوذ الرومانيين وأقاموا عليها أمراء من اليهود، ثم تمردوا للخروج على الرومانيين، فأرسل قيصر بالجيوش في حدود سنة أربعين بعد الميلاد، فخربت أورشليم واحترق المسجد، وتم أسر نيف وتسعين ألفاً من اليهود، وقُتل منهم في تلك الحروب نحو ألف ألف، ثم استعادوا المدينة وبقي منهم شرذمة قليلة إلى أن وافاهم الإمبراطور الروماني أدريانوس، فهدمها وخربها ورمى قناطير المِلح على أرضها كيلا تعود صالحة للزراعة، وذلك سنة 135 للميلاد. وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض، وتفرقوا في الأرض ولم تخرج أورشليم من حكم الرومان إلا حين فتحها المسلمون في زمن عمر بن الخطاب سنة 16 للهجرة، صُلحاً مع أهلها وهي تسمى يومئذ إيلياء. هؤلاء القوم أو غيرهم من ظلمة وفسّاق الأرض اليوم، يبدو أنه ليس لديهم للتاريخ مساحة في حياتهم للتأمل والاتعاظ من سير الأولين الغابرين، لاسيما اليهود المتصهينين الذين لم تتوقف آلات القتل والإجرام عندهم منذ أن أدخلتهم بريطانيا ثم أمريكا إلى الأرض التي بارك الله حولها. إنهم من فساد إلى آخر، ومن ظلم إلى ما هو أكثر ظلما. وإن ما يجري في غزة، إنما ظلم لن يتركه الحق تبارك وتعالى هكذا يمضي، بل سيكون لهذا الظلم والظلمة وأعوانهم، يوم قادم لا ريب فيه، في الدنيا أولاً ثم الآخرة. الشاهد من الحديث كله، وخلاصة ما أروم إليه من هذا السرد السريع للتاريخ وربطه بآيات القرآن الكريم، أن الآية الكريمة (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) حتى وإن كانت ضمن سياق الحديث عن بني إسرائيل، القوم الذي أرهقوا أنبياء الله ورسله، إلا أنها لكل قوم وملة، في كل زمان ومكان، بل لكل إنسان يعيش عمره المقدّر في هذه الحياة الدنيا. إنها تثبت وتقرر القاعدة الحياتية التي ذكرناها في المقدمة، وخلاصتها أن الإنسان إن أحسن فإنما يُحسن لنفسه، وإن أساء فإنما على نفسه. فكل أحد منا يأتي يوم القيامة فردا. إنها القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة؛ كما يقول سيد قطب في ظلاله. القاعدة التي تجعل عمل الإنسان كله له، بكل ثماره ونتائجه. وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل، منه تنتج، وبه تتكيف؛ وتجعل الإنسان مسؤولاً عن نفسه، إن شاء أحسن إليها، وإن شاء أساء، لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء.
1461
| 24 أبريل 2025
هل من الطبيعي أن ترى شباباً مسلمين من الجنسين وفي بلاد المسلمين، تسألهم عن عدد ركعات صلاة المغرب، فيتلعثم البعض، ويتردد آخر، ويخطئ الباقي؟! هل من الطبيعي أن لا يدري كثير من المسلمين، لاسيما الجيل الشاب، عدد أركان الإسلام؟ هل من الطبيعي ألا يعرف الناس أسماء الأنبياء؟ هل من الطبيعي ألا يشعر كثير من المسلمين عن معاناة مسلمين آخرين في مشارق الأرض ومغاربها ؟ هل من الطبيعي أن يعيش جيل مسلم شاب على تفاهات الأشياء والأولويات في فوضى عارمة عنده؟ هل وصلنا إلى مرحلة غربة الإسلام أو صار الإسلام غريبا؟ هل نعيش زمن اختفاء الإسلام بحيث لا يبقى منه سوى كلمة التوحيد؟ الأسئلة لا تنتهي .. * نعم، الأسئلة لا تنتهي ولكن الأمر لا شك أنه مؤلم أولاً، ومن ثم مخيف ومحبط في الوقت نفسه ثانياً، ويدعو بالتالي إلى كثير تأمل وتدبر ثالثاً، ثم رابعاً وأخيراً، أهمية أن يتحول ذلكم التأمل والتدبر إلى برامج وخطط عملية واقعية، تصحح تلك المشاهد وتعيدها إلى طبيعتها، عبر آليات ووسائل وجهات رسمية تنفذها وأخرى شعبية تعاونها. شخصياً لا أريد ولا أتمنى أن يكون هذا الزمن الذي نعيشه هو ما حدّث به الصحابي الكريم حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، عن الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وهو يصف مشهداً مؤلماً وغريباً في الوقت نفسه وسيصل إليه المسلمون حتماً في زمن ما، حيث لا يعرف الناس حينها ما الإسلام، فضلاً عن معرفة أحكامه وشرائعه وتفاصيل أخرى ! فماذا قال حذيفة في رواية له عن الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم؟ قال :» يُدْرَسُ الإسلامُ، كما يُدْرَسُ وشْيُ الثوب، حتى لا يُدْرَى ما صيامٌ ؟ ولا صلاة ولا نُسك ولا صدقة، ويُسْرَى على كتاب الله في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخُ الكبيرُ، والعجوزُ يقولون: أدركْنا آباءَنا على هذه الكلمة، يقولون : لا إله إلا الله، فنحن نقولها ..» إلى آخر الحديث. أي أن الإسلام سوف يُدْرسُ كما يُدْرسُ وشْيُ الثوب، أي تنمحي آثاره وتعاليمه كما تنمحي نقوش الثوب مع الزمن وتختفي. * الشاهد من الموضوع أن التساؤلات المطروحة في مقدمة المقال، لا يمنع مانع من ربطها بهذا الحديث، واعتبارها مؤشرات على أننا ربما نعيش فعلاً هذا الزمن الذي تحدث عنه الرسول الكريم، أو ربما نكون في بدايات تشكّل هذا الزمن أو العهد الذي ستنمحي آثار وتعاليم الإسلام فيه. التقنية في خدمة الإسلام حرفياً لا شيء يمنع أن يكون هذا الزمن هو المعني في الحديث، ولكن سيكون غريباً بعض الشيء. وجه الاستغراب يأتى من كيفية وصول مسلم إلى مستوى معرفي هابط لا يدري فيه عن الدين سوى لا إله إلا الله، بل ربما لا يدري إن كان مسلماً أو ماذا يعني أن يكون مسلماً، في وقت نشهد طفرة علمية معرفية وتقنية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، والمرشحة لأن تتطور سريعاً سريعاً في قادم العقود وليست القرون، وبشكل لا يعلم مداها إلا الله. اليوم مثلاً، ومن بعد ثورتي التقنيات والمعلومات اللتين بدأتا منذ أكثر من عشرين عاماً، صار أمر التعليم والتعلم أكثر يسراً وسهولة، والبحث عن المعلومة لا تأخذ منك جهداً كالذي كان قبل ثلاثة أو أربعة عقود مثلاً، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي أبرز مؤشرات هذا التطور المتسارع.. فكيف والحال المعرفي والتقني هكذا، ويحدث للمسلمين ما يحدث من جهل بالدين وحقائقه وأساسياته ؟ كيف لمسلم أن يصل إلى ذلكم الفقر المعرفي فيما يتعلق بدينه، واليوم بفضل الله ثم التقنيات المعلوماتية والتواصلية، صار جُل العالم يعرف عن الإسلام والمسلمين أكثر مما مضى، وصار أمر البحث أو الوصول إلى معرفة الإسلام غاية في السهولة، ويحصل الباحث على مبتغاه في أي زمان وأي مكان؟ لقد اهتدى الآلاف إلى هذا الدين بفضل التقدم العلمي والمعرفي الذي نعيشه الآن، ثم صارت تتعلم وتتفقه ذاتياً في الدين عبر هذه الوسائل، دون حاجة للتواصل البشري مع أساتذة وعلماء وفقهاء وغيرهم ممن لهم علم ودراية بالدين وتفاصيله، إلا بعد حين من الزمن. المسلمون يجهلون دينهم أيُعقل بعد كل هذا وفي ظل هذا التقدم المعرفي المذهل أن يجهل المسلم أبسط أساسيات دينه؟ نعم، يمكن أن يصل المسلمون إلى هذا المستوى الهابط في معرفة دينهم، والرسول الكريم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى. ولا شيء يمنع حدوث ما أخبرنا به صلى الله عليه وسلم، وإن كان في اعتقادي رغم ذلك، يحتاج الأمر لبعض الوقت، لكن لا أظنه طويلا ! لو تتأمل معي وتمعن النظر في تلك الجهود المستمرة النشطة، والخطط المحكمة، التي تُبذل هنا وهناك لسلخ المسلمين عن دينهم وعقيدتهم وثقافتهم في مواقع جغرافية شتى، لاسيما العربية منها، وإغراقهم بشتى الملذات والملهيات أو المنغصات والمشكلات، حتى رأينا فعلياً مسلمين لا يدري أحدهم عن دينه سوى لا إله إلا الله في مثل هذا الوقت من التقدم العلمي والمعرفي والتقني البشري الهائل، لوجدت أن من كُنّا نعتقدهم المقصودين في أحاديث آخر الزمان والذين سيأتون بعد قرون عدة أو آلاف السنين من الآن، ما هم إلا نحن مسلمي اليوم ! ماذا يعني هذا؟ يعني أهمية التنبه لخطر مشهد يُراد له أن يتجسد على أرض الواقع، وقد بدأت آثاره بالظهور فعلياً، ومن المحتمل أن تتعمق أكثر فأكثر ما لم نتدارك هذا المشهد ونصححه. نحن اليوم في خطر اتساع دائرة الجهل بالدين، رغم التقدم العلمي والمعرفي والتقني الهائل، والتي من المفترض أن تزيد مستخدميها علماً ونوراً وفهماً، لكن الواقع الحالي للمسلمين يقول غير هذا. علماء وفقهاء الدين توزعت بهم السبل ما بين اتجاه البعض للانزواء والبحث عن الأمان، أو تورط قسم آخر مع القصور ودواوين السلاطين، أو قسم ثالث أراد الإصلاح، فوجد نفسه في غياهب السجون والمعتقلات، وقسم رابع أخير صار ضررهم أكثر من نفعهم. بينما في الوقت ذاته ينتشر دعاة على أبواب جهنم، وتنتشر وتتراكم الأفكار الفاسدة والفلسفات والملهيات هنا وهناك، عن أيماننا وشمائلنا، ومن فوقنا وتحتنا، بل من كل اتجاهات أرضنا ! فاللهم قنا شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن. وعلّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.
609
| 17 أبريل 2025
بادئ ذي بدء، يمكن القول وفق حساباتنا البشرية، إن ما يحدث من صمود وقدرة المقاومة الإسلامية في غزة على البقاء فاعلاً مؤثراً ميدانياً وسياسياً إلى يوم الناس هذا، على رغم قوة العدو المادية والفارق الهائل بين الطرفين في العدد والعتاد، والدعم الغربي اللامحدود، إلا التسليم والإيمان بأن هناك أمراً ما، يجعل هذه الفئة القليلة المؤمنة ثابتة صامدة، رغم كل الأذى الذي لحق بها وبحاضنتها الشعبية، بل إضافة إلى الصمود، تقارع العدو وتلحق الكثير من الأذى به وبشكل غير مسبوق في تاريخهما. لابد أن هناك بعد كل ما جرى حتى اليوم، أمراً ما في الطريق لأن يحدث ويقع لا محالة.. لن تكون كل هذه التضحيات بلا مشهد قادم يسر المؤمنين، ويكون في الوقت نفسه حسرة على الكافرين ومن معهم من منافقين ومخذلين ومرجفين. إنك حين ترى تحرك قوى رسمية وشعبية، على شكل دول ومؤسسات ومنظمات وجماهير من خارج الملة والإقليم تناصر الحق الفلسطيني، على رغم أن ما يجري قد جرى عشرات المرات، لابد وأن تتساءل عن السر في هذا، ولماذا لم يهدأ العالم؟ الجواب بكل اختصار، أن تدبيراً إلهياً للأحداث جار تفعيله، وهذا التدبير الإلهي هو من يدير هذه الحراكات والحشود، لا يريد لها أن تقف، وفي الوقت نفسه، يدبّرُ أمور المقاومين، ويخلخل صفوف الأعداء والمساندين لهم، ليقضي الله أمراً كان مفعولا، ولا يعلم جنود ربك إلا هو. موجة الإرجاف والتخذيل ما دفعني للحديث عن موضوع اليوم، على رغم كل ما يحدث في العالم من حراك وتفاعل إيجابي مع الحاصل في غزة، وضد الصهيونية وجرائمها، والمجرمين المساندين لها على شكل أفراد وأحزاب ودول، على رغم كل ذلك، أخذت تتصاعد وبشكل فاجر وقح، موجة صهينة غير مسبوقة في عالمنا العربي تحديداً، أو إن صح التعبير، موجة نفاق وتخذيل وإرجاف في الأرض. بدأت رموز متصهينة، كانت إلى تجنب الظهور الكاشف أقرب وإلى زمن قريب، لكن مع تصاعد العدوان على غزة، وبدلاً من أن يتخافت ويختفي صوت أولئك المتصهينين أكثر، وجدناهم يخرجون من جحورهم في جرأة بالغة، يثرثرون هنا وهناك، ينشرون أراجيف وأكاذيب، وصاروا إلى تأييد العدوان ودعمه أقرب. وليت الأمر وقف عند هؤلاء المرجفين والمخذلين من المفكرين والمثقفين بحسب زعمهم، بل بدأ في المنافسة آخرون. حيث دخل هذا النطاق، مشتغلون بالدين على اختلاف درجاتهم وهيئاتهم ووظائفهم ومذاهبهم، فصاروا أشد تشويشاً وتخويفاً وإرجافاً. إن ما يقوم به بعض أولئك المشتغلين بالدين، واستخدام مصطلحات شرعية في غير محلها ووقتها، إنما يأتي في وقت حرج أمست المقاومة بأشد الحاجة إلى كل جهد بشري من المسلمين قبل غيرهم في صدهم لهذا العدوان الصهيوني المتوحش. فما يقوم به بعض علماء الأمة هنا وهناك من جهود لصالح المقاومة، وإن كانت لا ترقى للمستوى المطلوب، إلا أنه رغم ذلك، تجد كثيراً من أولئك المشتغلين بالدين المرجفين والمخذلين، قد زاد نشاطهم في التصدي لتلك الجهود المتواضعة وكأنهم مأمورون بالدفاع عن الصهاينة وتخذيل المقاومة، حتى لم يعد المتابع يفرق بينهم وبين كوهين أو أفيخاي ومردخاي!. هذه الأصوات النشاز، وإن صدرت من ملتحين أو أصحاب عمائم قبل غيرهم من المتصهينين العرب، لابد من التعامل الجاد والحازم معها، فلم يعد الوقت مناسباً للمداراة والمداهنة، فالحق أحق أن يُتّبع. نقول للمرجف والمخذّل، وإن كان ذا قامة علمية أو غيرها، أنت مخطئ وأنك إلى التخذيل والإرجاف أقرب، إن لم تكن أنت منهم. خذوا الحكمة من يهود لا وقت للمجاملات والدبلوماسيات الكاذبة. لابد أن يتكاتف جمهور الحق ضد هؤلاء، أسوة باليهود الصهاينة في هذا المجال، حيث تلاحظ أن المنظمات واللوبيات الصهيونية لا تهدأ ولا تستكين في سبيل كتم وقمع الأصوات المخالفة لروايتها ورؤاها وبكل الطرق والوسائل.. لابد إذن أن نواجه كل أولئك المرجفين والمخذّلين بحملات مماثلة، نكشف فساد توجهاتهم، وسوء فهمهم، ولا يمنع كذلك أن نغلظ القول فيهم، فقد بلغ السيل الزبى. إنّ حكمة اليهود المتصهينين - إن صح وجاز لنا وصف أعمالهم بالحكمة - هدفها الأسمى تبنّي العالم لروايتهم المزيفة، وردع كل من توسوس له نفسه أن يحيد عن النهج الذي مضوا عقوداً في رسمه والتخطيط له. تلك الحكمة، مطلوب أن نتبناها في مجتمعاتنا كذلك، والبدء ببناء وصناعة أوراق من الضغط كثيرة ضد كل متصهين أو من يتوسم فيه التصهين، أو كل مخذّل ومرجف، كائناً من كان، بحيث تكون تلكم الأوراق رادعة لهم أن يبثوا الأراجيف والشائعات ضد قيم الأمة وأهدافها الكبرى، أو المساهمة بأقوال وأفعال التخاذل والتخوين والإرجاف، وملاحقتهم بكل الوسائل وكشفهم للعلن. * لم يعد الوقت يسمح بأكثر من هذا الهدوء في التعامل مع ثلة المتصهينين والمرجفين والمخذّلين، فالأمة تجرعت بما فيه الكفاية من الآلام، وأصابها من المصائب الكثير الكثير، وقد كان المرجفون والمتخاذلون والمدلسون والمتصهينون من أبرز الأسباب، ومرجع ذلك في ظني، عدم الأخذ على أيديهم وردعهم من جانب الأمة عبر مؤسساتها المتنوعة، الشعبية قبل الرسمية، في الوقت المناسب، الأمر الذي دعاهم إلى التعمق في أراجيفهم وأكاذيبهم وتدليساتهم، دون أدنى حياء، أو اعتبار لدين، أو قيم، أو أعراف. صدق من وصف غزة بأنها كاشفة فاضحة، فقد كشفت حرفياً أعداء الأمة من الداخل قبل الخارج، وعرفنا الصادق والأمين من الكاذب واللئيم. وأحسب أن كل هذا الحاصل الآن إنما بفضل من الله، ثم الإخوة المجاهدين في غزة، أصحاب الطوفان الجارف، وحاضنتهم الشعبية الصامدة الأبية، التي نسأل الله لهم صبراً وجبراً وقوة، وأن ينصرهم على عدو الله وعدوهم، ويرينا في مغول العصر، يوماً أسود كيوم عاد وثمود، يشفي به صدور قوم مؤمنين. قولوا اللهم آمين.
390
| 10 أبريل 2025
الشيخ عبدالقادر الجيلاني الذي قال عنه ابن تيمية رحمه الله أنه من أعظم مشايخ زمانه أمراً بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشايخ أمراً بترك الهوى والإرادة النفسية، لعب دوراً مهماً هو وشيخه الإمام أبو حامد الغزالي رحمهما الله، في تهيئة جيل كامل سيكون على يديه تحويل مسار الأمة من مسار الذلة والهزيمة، إلى مسار النصر والعزة.. وبما أن الجميع مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فما الفكرة إذن من تضييع الأوقات والجهود سدى على خلافات مذهبية أو فكرية، وهناك أراض إسلامية محتلة، وعلى رأسها الأقصى المبارك، يعيث فيها الأعداء فساداً؟ هكذا كان الهم عند الغزالي والجيلاني ومن بعدهما الكثير من المصلحين والمجددين.. * واصل الشيخ الجيلاني السير على خطى شيخه الإمام الغزالي إذن لتوحيد الجهود وضبط البوصلة الإسلامية لتتجه نحو الأقصى، حيث استمر في انشاء وتعزيز مدارس تعلم الدين تحت شعار ( لكل مذهبه الفقهي والفكري، والهدف الأسمى هو تحرير القدس من الصليبيين ) حتى إذا ما انتهى المسلمون من تحقيق الهدف الأسمى، واستقرت الأمور، يمكن فتح المجال حينها لمناقشات فكرية وفقهية وغيرها، إن كان الهدف منها الوصول إلى مشتركات وتفاهمات. أما وأراضي المسلمين مغتصبة، فالانشغال عن تحريرها، لاشك هو منكر عظيم لابد من وضع حد له وتغييره بكل الوسائل الممكنة. عبر تلك العقلية أو النهج، نشأ جيل كامل تربى على تلك المفاهيم في مدارس الغزالي والجيلاني، بعد أن انتشرت في حواضر المسلمين الرئيسية مثل بغداد ودمشق والقاهرة، حتى كان أغلب جند ووزراء ومستشاري الملك العادل نور الدين زنكي من خريجي تلك المدارس، حتى بدا أن الجيل يقترب إلى الجاهزية المطلوبة لتحقيق الأهداف الكبرى للأمة، لكنه يحتاج إلى قائد تربى على النهج نفسه يكمل بهم المسير، فكان هو القائد صلاح الدين الأيوبي، الذي تربى على يد القائد الرباني نور الدين زنكي، فكان النصر وتحرير الأرض بفضل من الله. العدو القديم المتجدد * تدور الأيام ويتفرق المسلمون من جديد، وتضيع نفس الأرض، وتغير العدو هذه المرة. فبعد بعد أن كانت تعيش البؤس والظلم تحت حكم الصليبيين الضالين، تضيع الأمانة بعد سبعة قرون بفعل فاعلين، ومؤامرات متآمرين من غرب وشرق، وتراخ وتخاذل وتهاون من أهل الديار من المسلمين، ليظهر عدو قديم متجدد، اليهود الصهاينة، يكملوا مسير الضالين.. تبدأ فوراً محاولات جهادية مقاومة للعدو اليهودي المتصهين، لكن لم تكن بالمستوى المؤهل لتحرير الأرض، فقد كانت بين مد وجزر، فيما العدو يشتد عدداً وعدة. يأكل من الأرض ما يستطيع بين الحين والحين، حتى تعملق وسيطر وتجبّر.. فكان لزاماً العودة مجدداً لإحياء المفهوم القديم الذي نشره الإمام الغزالي ومن بعده الإمام الجيلاني، والذي على نهجهم سار مجددون كُثُر ومنهم الإمام البنّا، ثم بعدهم يتولى الأمر الشيخ أحمد ياسين، رحمهم الله جميعاً، والذي تتلمذ على منهج الإخوان المسلمين الذي أسسه الإمام حسن البنا، وكلهم طلاب مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم. * لعب الإخوان دوراً في الحفاظ على ما تبقى من فلسطين، ومنه قطاع غزة. لكن تكرار محنتهم في مصر عام 1954 ساهم في إضعاف الوجود المصري العسكري في غزة ليحتلها اليهود الصهاينة، ما جعل فكرة المقاومة المسلحة تنضج من جديد في غزة في سبتمبر 1967، وكان من أبرز المنادين بفكرة التجمع وتأسيس حركة مناهضة مسلحة للاحتلال، هو الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، بعد أن كان مفهوم مواجهة العدو المتغطرس وتحرير الأرض لا يمكن أن تتم إلا بالقوة، واضحة له وضوح الشمس في رابعة النهار. كان الشيخ ياسين رحمه الله يدرك أن أمر المقاومة المسلحة لعدو كافر متجبر متغطرس، تتطلب تربية إيمانية جهادية وصناعة رجال مؤمنين صادقين، كما كانت المدارس الغزالية والجيلانية ومدارس علماء ربانيين مجاهدين من بعدهما. هذا المفهوم الواضح عند الشيخ ياسين، الذي كان مصاباً بالشلل الرباعي، هو الذي صنع فكرة مقاومة العدو بقوة الساعد والسلاح، بعد التوكل على الله واتخاذ ما يلزم من أسباب القوة، والعمل على تمهيد المسار لتحرير الأرض، حيث اهتم الإخوان في غزة بقيادة الشيخ أحمد ياسين بالبناء التربوي، وفي الوقت نفسه بالبناء الجهادي المادي والمعنوي، بانتظار اللحظة المناسبة التي كانت يوم التاسع من ديسمبر 1987 حين وقعت حادثة دهس متعمدة لأربعة عمال فلسطينيين، فكانت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والتي أدت إلى أن تشهد الأراضي الفلسطينية غلياناً مشهوداً، ثم يبلغ التوتر حداً أنذر بانفجار أو وقوع حدث ما سيكون له تأثيرٌ بعيد المدى.. فكان ذلكم الحدث هو ولادة حماس، الذي ستلعب دور صلاح الدين الأيوبي بإذن الله. حرب غزة هي البداية لم يمض عامان ونصف العام حتى شكلت حماس جناحها العسكري ليحل محل كتائب « المجاهدون الفلسطينيون» وتم تسمية الكتائب الجديدة تحت مسمى كتائب عز الدين القسام، تيمناً وتقديراً للمجاهد السوري الأصل، عز الدين القسام الذي بذر البذور الأولى لفكرة الجهاد المسلح ضد المحتل، وكان من أشعل فتيل الثورة الفلسطينية الأولى ضد المحتلين عام 1935. الجيل المجاهد في غزة الذي نشأ خلال العقود الثلاثة الماضية على يد الشيخ أحمد ياسين، قضى الآلاف منهم شهداء في مقاومة العدو اليهودي المتصهين، لكن ما زالت هناك آلاف مؤلفة من ذلك الجيل، الذي تربى على حب الجهاد والاستشهاد ينتظر دوره، وآلاف مؤلفة أخرى تنتظر دخول تلك المدارس الإيمانية.. ومع ذلك، فإن تحرير الأقصى وكل فلسطين، بحاجة لآلاف أخرى من أقطار مسلمة تتربى في تلك المدارس وعلى ذلك النهج، تكون جيشاً مؤمناً ربانياً ينتظر قائدا ربانيا على غرار صلاح الدين، أو سيف الدين قطز أو محمد الفاتح وأمثالهم، يقودون هذا الجيش لتحرير الأرض التي بارك الله حولها. استسلام حماس ضمن سياق الحديث عن غزة وأحداثها، لابد من الإشارة إلى طرفة من طرائف المطبعين المتخاذلين، طرحهم فكرة استسلام حماس والتخلي عن أسلحتها، كأبرز شروط عودة الهدوء إلى القطاع ووقف العدوان، لأجل العيش في سلام وإخاء ونماء، والتحول إلى مقاومة سلمية كدويلة أوسلو العباسية، بدلاً من مقاومة مسلحة لا تنفع بل تضر، أو هكذا الزعم وهكذا الدعاية الإعلامية المضادة. لكن لم يدر بخلد كل أولئك أن هذا الجيل لا يرى ما يرون، ولا يفهم ما يفهمون. ولعل هذا يكشف لك سر التكاتف الصهيوصليبي مع الهندوسي مع بعض العربي المتخاذل ضد غزة، أو حماس تحديداً، باعتبارها آخر حركة مقاومة سنيّة في العالم الإسلامي، وشعلة جهادية نشطة من الممكن أن تكون هادية لكل الأمة النائمة أو المنوّمة، لتزيد من مشاعلها الجهادية، وهذا بالتالي دفع كل أولئك الذئاب اللئام للتكاتف من أجل اطفاء هذه الشعلة وبكل الطرق والوسائل، من قبل أن تنير العالم المسلم المظلم.. * خلاصة الحديث، أن المفهوم واضح، والمنهج أوضح، والمدارس الربانية اشتغلت فعلياً في غزة طوال ثلاثة عقود مضت، والمطلوب المزيد منها حول غزة فالأبعد ثم الأبعد، فقد حان أوان مقاومة الظلم والظلام اليهودي المتصهين وكل من يقف في صفه أو يدور في فلكه، بكل الوسائل الممكنة، وقوة السلاح بالطبع على رأس تلك الوسائل. إنّ ما جرى في غزة منذ السابع من أكتوبر الفائت، نعتقد أنها كانت البداية الفعلية لتجسيد دروس التربية الإيمانية الجهادية ومقاومة الظلم على أرض الواقع، وإنه مهما فجر وتجبّر هذا العدو ومن معه، فإن فجورهم وتجبرهم الآن أشبه بالتحركات الأخيرة اليائسة للغريق. نعم إن هذا العدو يغرق، وسيغرق كثيرون معه بإذن الله، وإن بدا للعيان أنه منتصر متفوق، فالعبرة دوماً بالخواتيم. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
861
| 03 أبريل 2025
هذه واحدة من الآيات العظيمة في سورة يونس، تصور لك مشهداً من مشاهد القيامة تجعلك تحتقر هذه العاجلة الفانية مرات ومرات. فانية يتقاتل بنو آدم عليها وهي في الحقيقة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا تدوم طويلاً مهما بلغ عمرها، ومهما عاش فيها بنو آدم سنوات عديدة وأزمنة مديدة. الحياة الدنيا في حقيقتها ما هي إلا ساعة من نهار، مقارنة بما يراه البشر يوم القيامة. حيث سيدرك بنو آدم متأخرين جداً هذه الحقيقة حين يحشرهم ربهم يوم القيامة، وهم في ذهول من أمرهم، يتساءلون عن سرعة ما جرى لهم وبينهم في الحياة الدنيا ( كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم. قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ). * إنها صدمة من صدمات يوم القيامة للذين كانت الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم.. المحشورون مأخوذون بالمفاجأة - كما يقول سيد قطب في تفسير ظلال القرآن - شاعرون أن رحلتهم الدنيوية كانت قصيرة قصيرة، حتى لكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف، ثم أسدل الستار. إنهم يجيئون ويذهبون وما يكاد أحدهم ينتهي من التعرف إلى الآخرين، وما تكاد الجماعة فيهم تنتهي من التعرف إلى الجماعات الأخرى، ثم يذهبون. إنه تشبيه لتمثيل قصر الحياة الدنيا، ولكنه يصور حقيقة أعمق فيما يكون بين الناس في هذه الحياة، ثم يرحلون ! * لاحظ في آيات كثيرة أن البشر يوم القيامة، حين يتساءلون بينهم أو يسألهم سائلا كم كانت مدة لبثهم في الحياة الدنيا، وإن كان قد عاش أحدهم مئات السنين، ستراه يقول: يوماً أو بعض يوم ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين)، وفي مواضع أخرى تقل المدة لتصل إلى ساعة من نهار ( كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ). هل يعني هذا أن البشر سيدركون متأخرين معنى الوقت، وما هي قيمة الحياة الدنيا إلى جانب الحياة الآخرة ؟ أم أن النوم بالنسبة للنائم ومثله الموت بالنسبة للميت، هو دخول للإنسان إلى حالة يمكن تسميتها بحالة اللا زمن، بحيث لا يدري ولا يشعر النائم أو الميت بالمدة التي قضاها الأول في نومه، والثاني في قبره؟ وبغض النظر عن ماهية الإجابات، إلا أننا هاهنا لسنا في محاولة لفهم فلسفة الوقت أو الزمن ومعناه، بقدر ما هي محاولة للفت النظر إلى نعمة الوقت، أو النعمة المغبون فيها كثير من الناس كما في الحديث الصحيح ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) والفراغ المقصود في الحديث ها هنا يتمثل في إضاعة الوقت سدى، أو في غير ما فائدة تعود على الإنسان، وخاصة إذا علمنا أننا نعيش في دنيا فانية عاجلة، لا تساوي ساعة من نهار، أو يوماً أو بعض يوم مقارنة بالحياة الحقيقية في الآخرة. * حين تتأمل قوله تعالى ( وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ) وقوله تعالى ( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) وهو طول مدة يوم القيامة، لا أشك أن هذه الأرقام ستجعلك أو المفترض أن تجعلك تحتقر الحياة الدنيا مرات ومرات، كما أسلفنا، وبالتالي تجعلك تخفف من التعلق بها أو بشيء فيها، فإن أقصى ما يمكن أن يعيشه الإنسان منا، ولو بلغ أكثر من مائة عام، فإنها فترة لا تساوي ساعة من نهار !! *هل تتخيل معنى هذا؟ الحياة مدتها ساعة من نهار يجهد الإنسان نفسه، وتمضي الساعات والأيام من عمره يفنيها فيما لا يعود عليه بنفع في حياة حقيقية أخروية تنتظره؟ أ لمثل هذه الحياة القصيرة يترك حياة أخروية تنتظره ؟ حياة بلا ساعات وبلا أيام أو بلا زمن؟ لاشك أن الأمر بحاجة إلى مزيد تأمل، وعميق فهم، وإعادة نظر في قيمة الحياة الحقيقية المنتظرة، التي تستحق أن يبذل الإنسان كل دقيقة وثانية من واقعه الدنيوي في بناء مستقبله الأخروي. *خلاصة الحديث إن العبرة ليست فقط في فهم حقيقة قصر مدة الحياة الدنيا، إن كانت ساعة من نهار أو أكثر فحسب، بل ماذا يقدم المرء منا في هذه الساعة القصيرة، لحياة أبدية طويلة، أو بلا نهاية لها؟ هذا ما يجب تأمله طويلاً وعميقاً، وخاصة ونحن في أواخر شهر التأمل، شهر القرآن. عسى الله أن يتقبل منا ومنكم صلاتنا وصيامنا وقيامنا ودعاءنا وصالح أعمالنا. إنه سميع عليم مجيب الدعوات.
516
| 27 مارس 2025
كيف يأمن الناس أن تسير حياتهم طبيعية وهم في غواية وضلال مبين؟ كيف يهدأ لهم بال وتستقيم أمورهم أو يريدونها مستقيمة وهم في اعوجاج وبُعد عن الصراط المستقيم؟ كيف يأمن الناس أن يكونوا على الشاكلة التي كان عليها الأمم السابقة الغابرة التي اندثرت وانتهت من الوجود، دون قليل تأمل وتدبر؟ ألم يهلك الله الأولين بسبب كفرهم وجحودهم وعصيانهم ؟ فما الذي تغير وجعل الأمم اللاحقة تأمن ألا يصيبها ما أصاب أولئك الغابرين؟ لاشك أن مرضاً ما أصاب البشرية أو علة تجعلهم على طريق الغابرين يسيرون. * إنها الغفلة، لا غيرها من علل أو أمراض. الغفلة التي تعيشها البشرية بين حين وآخر بتزيين الشيطان لهم أمورهم، وبث الأمان والاطمئنان في نفوسهم، وهم ربما يكونون قاب قوسين أو أدنى من عذاب مهلك قريب قادم، قد يأتيهم وهم نائمون أو هم في قمة اليقظة. العذاب إن جاء أو نزل، لن يوقفه نوم أو حتى يقظة ( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ). * الأمم اليوم بكل أطيافها الدينية أو العقائدية، تعيش غفلة كاملة الأركان. لم تعد أمم اليوم تفرق عن الأمم الغابرة. هي العقليات تتكرر، والنفسيات كذلك. الأمم السابقة الهالكة غفلت عن دورها في الحياة، وتناست ما لأجله خلقها الله، وكذبت الأنبياء والمرسلين، وانكرت المعجزات المختلفة التي جاء بها الرسل الكرام وهم يرونها ويسمعونها دون حواجز أو سواتر، حتى حق عليهم القول، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. أمم اليوم أو هذا العصر، لا تختلف كثيراً عن أولئك الغابرين. التكذيب والجحود والنكران، فضلاً عن الاعتداء على القيم والفطرة الإنسانية، وزيادة شهوة القتل والنهب وإهلاك الحرث والنسل وغيرها من موبقات ومساوئ الأخلاق. والغرابة أن كلها تزداد مع ازدياد وانتشار العلم وسهولة الحياة، ما ينذر باحتمالية تكرار ما وقع قديماً للأمم الغابرة. فما جدوى علم لا ينفع ولا يمنع من الهلاك نهاية الأمر؟ *من كان يعتقد في قوم عاد وهم أقوى أهل الأرض يومئذ في الجسم والعلم والإمكانات، أن تنتهي حياتهم وحضارتهم وكل ما قضوا وأفنوا أعمارهم في بنائه وتشييده والتفاخر به خلال أسبوع واحد بأيامه ولياليه، حتى صاروا كأعجاز نخل منقعر، بعد أن كانت أجسامهم في الطول والعرض والقوة العضلية ما لا يمكن وصفها وتخيلها، حتى وصل الأمر بهم حيناً أن قالوا ( من أشد منا قوة ) من فرط الثقة بقواهم المختلفة، وثقتهم في الواقع كانت في محلها فعلاً، لكنها ثقة عمياء بعيدة عن الحق. *ومن كان يعتقد أن قوم ثمود وهم في القوة والإمكانات كقوم عاد، أن تنتهي قصة حياتهم بصيحة واحدة، والتي يقال إنها صوت فاق الحد الذي تستطيع الأذن البشرية تحمله، ومن شدتها رجفت الأرض من تحتهم، فانتهت كل تلكم الحضارة الثمودية في دقائق معدودات ؟ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون، أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون.. الآية الكريمة – كما جاء في التفسير الوسيط - تحذر الناس من الغفلة عن طاعة الله، وتحثهم على التيقظ والاعتبار « فقد خوفهم سبحانه بنزول العذاب بهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة، وهو حال النوم بالليل، وحال الضحى بالنهار، لأنه الوقت الذي يغلب على المرء التشاغل فيه باللذات «. * الآيات نزلت بعد اشتداد مواجهات المشركين في مكة مع الفئة المؤمنة القليلة الصابرة، تقول للنبي الكريم « أفأمن يا محمد هؤلاء الذين يكذّبون الله ورسوله ويجحدون آياته - كما جاء في جامع البيان للطبري - استدراج الله إياهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحة الأبدان ورخاء العيش، كما استدرج الذين قصّ عليهم قصصهم من الأمم قبلهم «. الآيات وإن كانت تنبيهاً لأهل مكة، وهم يجحدون بآيات الله ويعادون رسوله الكريم، فهي كذلك تنبيه لكل من يأتي بعدهم إلى يوم الدين. ذلك أن الغفلة أمرها عظيم، ومآلاتها خسران مبين.
282
| 20 مارس 2025
يُعلن إبليس بسبب طرده من الجنة ومن رحمة الله، الحرب على آدم وذريته، ويكشف تفاصيل المخطط الخاص بتلك الحرب التي ستقع بعد قليل ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ). هكذا أعلن بكل جرأة ووضوح رؤية، لكنه إعلان اليائس الذي فقد كل أمل في أن يرجع إلى ما كان عليه، حين كان في الملأ الأعلى مكرماً مع الملائكة الكرام البررة. لكن السؤال ها هنا بعد مضي آلاف السنين: هل نجح إبليس وذريته في هذا المخطط؟ وماذا كان يعني إبليس من أن أكثر بني آدم لن يكونوا من الشاكرين لك يا رب ؟ بادئ ذي بدء، يمكن القول إن هذا التحدي أو هذا المخطط الإبليسي قديم قدم البشرية. ذلك أن معسكر الباطل والظلم والفساد في سعي مستمر، وعمل دؤوب لضرب معسكر الحق والإيمان أو معسكر الخير بشكل عام. لكن مع ذلك، لا يمكن القول إن إبليس حقق نجاحاً في هذا الأمر أو هذا المخطط أو هذا التحدي، وفي الوقت ذاته أيضاً، لا يمكن القول إنه أخفق، أو لم ينجح، أو لم يقدر على تحقيق ما أعلن عنه منذ قديم الزمن. إن نظرة على أحوال بني آدم منذ هابيل وقابيل، ستجد فعلاً أكثرهم غير شاكرين لله، غير حامدين له، غير متنبهين لألاعيب وأساليب الشيطان، بل تجد أكثر بني آدم يتبعون خطوات الشيطان، خطوة بخطوة رغم كثرة التحذيرات الإلهية.. لكن هكذا هم البشر. * تساؤل آخر قد يتبادر إلى الذهن وقبل أن نتعمق أكثر ونحن نتأمل هذا الأمر: هل كان إبليس على علم بشيء من الغيب ليقول إن بني آدم سيكون أكثرهم غير شاكرين؟ بالطبع لم يكن يعلم الغيب أو بعضاً منه. لكن كل ما بدر منه أو قاله في التحدي، كان ظناً منه، فوافق الواقع كما في قوله تعالى ( ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ). لكن المهم في المسألة، أن إبليس – كما في تفسير الثعالبي – أخبر بأن سَعَايَتَهُ تفعل ذلك ظَنًّا منه، وتوسُّماً في خِلقة آدم حين رأى خِلقته من أشياء مختلفة، فعلم أنه ستكونُ لهم شيمٌ تقتضي طاعته، كالغلّ، والحسد، والشهوات، ونحو ذلك. عَلِم إبليس نقاط الضعف في بني آدم، وأدرك أو فهم تركيبتهم النفسية، وبالتالي أدرك أن مهمته لن تكون عسيرة في دفعهم بعيداً عن الصراط المستقيم، إن هو استطاع استغلال طبيعة بني آدم، أو تركيبتهم النفسية الطامعة الجامحة، والراغبة في كل جديد ومثير وغريب، وسهولة استثارتهم وجذبهم نحو سبيله عبر الشهوات المتنوعة المفطورين عليها. * لكن في الوقت ذاته، يدرك الشيطان أن الأمر ليس بالسهولة المأمولة، بل صعب وعسير، فليس كل بني آدم على الشاكلة التي يتمناها أو كما يتوقع. فهناك فريق من بني آدم، على رغم قلتهم مقارنة بالفريق الكبير المتبع لخطوات الشيطان، لن يكون له عليهم سلطان، مهما حاول وتفنن في أساليبه وطرق الإقناع. إنهم الذين اعتصموا بحبل الله، واتبعوا الصراط المستقيم، وأدركوا مآلات اتباع خطوات الشيطان. إن الصراع بين الخير والشر قديم، بل قصة طويلة ما بدأت لتنتهي سريعاً.. إبليس أقسم أن يجلس لبني آدم كل مجلس وكل موضع، ولا يترك منهم أحداً ( قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) أي " لأترصدن لآدم وبنيه على طريق الحق وسبيل النجاة، كما يترصد قطاع الطرق للسائرين فيها – كما جاء في تفسير الوسيط للطنطاوي - فأصدنهم عنها وأحاول بكل السبل أن أصرفهم عن صراطك المستقيم، ولن أتكاسل عن العمل على إفسادهم وإضلالهم". هكذا ديدن الشيطان وذريته مع بني آدم. *لكن مع ذلك كله، يأتيه الجواب الجلي الواضح من رب العالمين ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ). وفي هذا الجواب تتضح معالم المعركة بين النفس البشرية والنفس الشيطانية. لكن خلاصتها أن كل إنسان منا بيده القرار أن يكون في معسكر الخير أم معسكر الشر. يكفيك حتى تتخذ قرارك وتتحدى الشيطان، أن تتأمل قوله تعالى في الآية الكريمة التي توضح لك أقصى ما يمكن لإبليس أو الأبالسة القيام به مع بني آدم ( وقال الشيطان لما قُضي الأمر: إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ۖ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ۖ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم). هكذا هو المشهد بكل وضوح. إنه يوسوس ويزين لك فقط وهو يدرك أنك خاسر نهاية الأمر إن اتبعته، وسيكون أول من يتنصل عن مسؤولية خسارتك آخرتك. سيقول لك أمام العالمين بأنه لم يجبرك على شيء، لكن عرض عليك أمراً وأمرين وثلاثة وألفين، فلم تمانع من السير خلفه في أغلب ما عرض عليك من الأمور حتى خسرت آخرتك ( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ). *خلاصة الحديث: من يتبع خطوات الشيطان، فلا يلومن إلا نفسه. وهذا يدفعنا أن نحاول أنا وأنت وذاك وتلك في شهر التأمل هذا، شهر القرآن، أن نضع الآية الكريمة أمام ناظرينا، كي ندرك مدى قوتنا وإرادتنا في رسم النهاية السعيدة التي نطمح إليها، ونمنع الشيطان أن يرسم لنا النهاية الشقية التي يسعى إليها هو وذريته. اعلم أن القرار بأيدينا وليس بيد شيطان أو غيره.
567
| 13 مارس 2025
لا شك أن كل أحد منا معرّض للفتن، وكل أحد- تبعاً لذلك- قابل للسقوط أو الصمود. لكن وقوع العلماء، من بين كل فئات المجتمع، وقت الفتن والمحن، أشد ضررا على الأمة، وخاصة أننا في زمن الاتصالات وسرعة انتشار الخبر والمعلومة، وبالتالي الخطأ الذي يقع من شخصيات يثق العامة بها، لاسيما علماء الدين، ضرره كبير، مهما تكن محاولات التصحيح والترقيع بعده. إن كثرة الظهور الإعلامي وسيطرة شهوة نيل الشهرة والبقاء تحت الأضواء، أمر في غاية الخطورة لمن لا يحسن التعامل مع كل تلك الأمور بحكمة واعتدال، وأتحدث ها هنا عن كل النوعيات من البشر، سياسيين وفنانين ومفكرين ومعهم علماء دين أو دنيا كذلك. فإن تلك الأمور مثلما ترفع الشخص إلى مستويات ومراتب عليا، قادرة أن توقعه أسفل سافلين، فيفقد أكثر مما كسب وجمع. لقد ساعدت التقنية في الاتصالات والمعلومات اليوم على كشف الكثيرين، وساعدت على رصد كل ما كان منهم وما هو كائن الآن، وصار بالإمكان تسجيل وحصر ما كان عليه أحدهم قبل وبعد. وحديثي هاهنا تحديداً عن علماء أو مشتغلين بالدين، لأن سقوطهم كما أسلفنا، ضرره كبير، ليس عليهم فحسب، بل على الآلاف المؤلفة من العامة الذين وثقوا بهم وعلمهم في سالف الأيام، واحتمالية أن يكون هؤلاء العلماء أو المشتغلون بالدين، عامل تشكيك عند البعض في الدين نفسه، وهو الضرر الأكبر. ليس مطلوباً ولا واجباً ممن استهوتهم الشهرة الإعلامية، والظهور المستمر في المنصات الإعلامية المختلفة، التحدث في كل مجال، أو خوض بحار لا يجيدون السباحة فيها، وخصوصاً علماء الدين باعتبارهم ورثة الأنبياء، كما في حديث طويل «إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، إنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذَه أخذ بحظ وافر». وبالتالي يُفترض أنهم على منهج وسبيل الأنبياء يسيرون، أي الحرص كل الحرص على عدم فتح أي ثغرة يمكن أن يتسلل الشك منها إلى نفوس العامة بعدم خوض ما لا يجيدون فيه، وخاصة أننا نعيش عصر التخصص، بما في ذلك الدين. هذه نقطة أولى. النقطة الثانية أن من يقبل الظهور الإعلامي من علماء الدين والبقاء في الأضواء، رغبة في نشر العلم الشرعي وتثقيف الناس وتوعيتهم بأساسيات وفروع دينهم، ألا ينزلق في متاهات ودروب مجالات أخرى تتطلب علماً وفهماً ودراية ووعياً ومتابعة، وألا يتم استدراجه إلى مناطق يتم استنطاقه بطريقة وأخرى لأجل منفعة فئة معينة، ولو على حساب سمعته وشهرته ومستقبله. إن من يقبل الظهور الإعلامي المستمر من علماء دين أو غيرهم من الشخصيات العامة، عليه أن يكون حصيفاً ذكياً حكيماً، لا يخدعه مخادع من الإعلاميين أو المنصات الإعلامية التي تبحث عن الرواج والشهرة على حساب الآخرين. لا شيء أن يظهر أحدنا في المنصات الإعلامية، إن كان يملك فهماً ودراية بالموضوعات التي سيتحدث عنها، بشرط ألا يكون الظهور رضوخاً لضغوطات سياسية أو طمعاً في مكاسب مالية أو رغبة للتوافق والسير وفق المزاج العام السائد في المجتمع، فالكثرة لا تعني الصواب دوماً. الظهور الإعلامي له مكاسبه المتنوعة دون شك. فمن يكتسب شهرة إعلامية تجده ضيفاً دائماً على المنصات هنا وهناك، مع ما يصاحب ذلك من مكاسب مادية تزيد مع ازدياد الشهرة. لكن الخطورة هاهنا لمن لا يتنبه سريعاً لكثرة ظهوره، أن تلكم الكثرة تعني دفعه واقترابه نحو محرقة تنسف ماضيه وربما مستقبله، ما لم يقف ويهدأ حيناً من الدهر، وإلا ستبدأ شهرته فعلياً بالتآكل والضمور تدريجياً، وخاصة إن بدأت تصدر عنه آراء أو مواقف تتصادم مع المزاج العام أو تعمل على اختلاف وانشقاق الناس. * نعم للظهور الإعلامي بشرط الثبات على الحق، ومع الحق في كل زمان ومكان، مهما بدا الباطل جذاباً أو مؤثراً، وهذا أمر أجده غاية في الصعوبة نظراً لاختلاف المواقف والتوجهات بين الحين والحين، ولأنه يحتاج قوة إيمان ووضوح رؤية وثباتا على المبادئ. وقلما تجد هذه النوعية من الثابتين في زمننا هذا، لأن أحدهم إما أن يكون من النوعية التي تخاف على نفسها وأهلها ومالها، وتظن أن قول الحق سيكلفها الكثير، فاختارت الصمت، باعتبار أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. وإما من النوعية التي تثبت ولا تتزحزح عن الحق قيد أنملة، مهما اختلفت الظروف والمواقف والتوجهات وكانت الضغوط، وبالتالي تجدها إما أن أفواهها قد كُممت أو أقلامها كُسرت بصورة وأخرى، أو تجدها في غياهب السجون! والأمثلة عبر تاريخنا أكثر مما يمكن حصره وذكره في هذه المساحة. لكن الله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
735
| 06 مارس 2025
مساحة إعلانية
ماذا لو اهتزت الدوحة؟ ماذا لو تحوّل الأمان...
1665
| 11 سبتمبر 2025
ما جرى بالأمس لم يكن حدثًا عابرًا، بل...
1356
| 10 سبتمبر 2025
انطفاء ألسنة لهب الغارات على مساكن قيادات من...
1347
| 12 سبتمبر 2025
لم تكن الغارة الإسرائيلية على الدوحة أول أمس،...
1266
| 11 سبتمبر 2025
في يوم الثلاثاء 2025/9/9 تعرضت دوحة الخير الى...
1200
| 12 سبتمبر 2025
إجماع عربي وعالمي على مكانة قطر في المجتمع...
1200
| 10 سبتمبر 2025
على رمالها وسواحلها الهادئة كهدوء أهلها الطيبين حيث...
1176
| 08 سبتمبر 2025
لا يمكن النظر إلى الضربة الإسرائيلية التي استهدفت...
1005
| 11 سبتمبر 2025
تم إنشاء فكرة الإسكان الحكومي للمواطنين بهدف الدعم...
861
| 07 سبتمبر 2025
شنت إسرائيل أمس الأول عدوانًا على عاصمة قطر،...
792
| 11 سبتمبر 2025
يحكي لي أحد الأصدقاء قصة حدثت لأحد أبنائه...
696
| 09 سبتمبر 2025
تتموضع حقوق الملكية الفكرية في قلب الاقتصاد المعرفي...
612
| 08 سبتمبر 2025
مساحة إعلانية