رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لا يتحقق النصر والانتصار في المعارك العسكرية بالحسابات المادية من خلال القتل والتدمير وحتى عبر الإبادة الجماعية للطرف الآخر، بفضل تفوقه الكمي والنوعي عتادا وعدة؛ وإنما حسابات النصر الإستراتيجي لها مظان أخرى. فالحرب الإسرائيلية على غزة أرادها الاحتلال الغاشم حرب إبادة للشعب الفلسطيني وتدميرا كاملا للحياة المدنية حتى يكتب التاريخ يوما أنه كان هناك شعب وكانت هناك مدن وأرياف تنبض بالحياة. أما وقد أرادت إسرائيل قتل روح وفكرة المقاومة في الفلسطينيين باعتبار ذلك هدفا إستراتيجيا ومقدما على كثير من أهدافها العسكرية، فإن هذه الحرب أكدت خيار وخيرية المقاومة، وخطل وعبثية ما يسمى بالسلام والتطبيع مع إسرائيل أو حتى مزاعم خيار الدولتين. فأي مقاومة لا تختار رفع البندقية في وجه جبروت الاحتلال تعتبر جزءًا من مشروع إسرائيل في المنطقة وإحدى أدواتها وتلعب دورا وظيفيا في خدمة المشروع الاستيطاني الاستعماري لهذا الكيان الغاصب. إذ أن المشروع الإستراتيجي الإسرائيلي يتطلب وجود أدوات تساعد على إطالة الجدل والمماحكة وبالتالي التمكّن من شراء الوقت، بينما تمضي مشاريع الاستيطان على الأرض وبناء القوة العسكرية، والعمل على إزاحة القضية الفلسطينية من الأجندتين الإقليمية والدولية. ومن الناحية الفلسفية، فلو لم تكن هناك مقاومة لما وجدت أي علاقات قوة لأن كل شيء، سوف يصبح مسألة طاعة وحسب، فعلى المرء أن يستخدم علاقات القوة من اللحظة التي يصبح فيها في وضعية العجز عن فعل ما يريد، ومن ثمّ فإن المقاومة تأتي أولا وهي تبقى فوق كل قوى الصيرورة، وتجبر باقي علاقات القوة الواقعة تحت تأثيرها على التغيّر. وطالما نشأت جرأة على اعتراض الباطل، فإنه تكون هناك مقاومة قد تشكلت. وإرادة الاعتراض تعني بالضرورة اليقين بالحق المشروع، فالمقاومة نضال وجهاد مشروع وليست مشروع سلطة سياسة ذات مصلحة ضيقة وظرفية. والفئة المقاومة تعيش في كبدٍ حتى تحقق حريتها إذ أن الحرية منال صعب، وليس من السهل أن تلتزم وأن تفعل، فغالب الناس ما تكتفي باليقين النظري بضرورة الانعتاق. إنها خطوة ما قبل عقبة بن نافع، وإن شئت خطوة ما قبل تشي جيڤارا، فيجب أن يتخطى المقاوم خوفَه من الموت ليمتلك كل قوة وألق المقاومة. عندها (وفق للفلاسفة)؛ يحدث التحرر من النفس الأمارة بالخوف وتحرر الآخرين وتخلق النموذج، أي عندما يمارس المقاوم فعل الحرية، يخرجه ذلك من حياته الذهنية إلى حياته الجسدية الوظيفية. لقد قضت المقاومة الفلسطينية الباسلة على فكرة أن لإسرائيل جيشا لا يقهر، وألحقت ضررا كبيرا بمزاعم الردع لديها والتي ظلت تتفاخر إسرائيل بها. بل شككت المقاومة على قدرة الدولة الإسرائيلية على الاستمرار حتى في المدى المتوسط دعك من المدى البعيد. كذلك فإن جزءا مهما من نجاح دولة الاحتلال الإسرائيلي في الترويج لسوق سلاحها وخبرتها في مجال الأمن والمخابرات، ظل قائما على صورة جيشها الذي لا يقهر، فانحطت هذه الصورة وتداعت بدون شك. ومن المعطيات المهمة لحرب غزة، أن المقاومة خرجت من اطار فعل التفجيرات المنفردة والمتباعدة في عمق دولة الاحتلال وتلكم مسألة تثير جدلا كبيرا ظل يكبح التعاطف مع القضية الفلسطينية، إلى اطار الحرب المنظمة. وضربت المقاومة مثلا فريدا في صمودها أمام آلة الاحتلال العسكرية لأطول فترة من أي حرب خاضتها دولة الاحتلال على الإطلاق. وعلى المستوى الدولي، غرقت الإدارة الأمريكية في محاولات موازنة دعمها لإسرائيل مع الضغوط المحلية والإقليمية والدولية لإنهاء الجرائم الإسرائيلية، فتراجعت قدرتها على التأثير دوليا، وتمدد آخرون للسعي إلى توسيع نفوذهم، كروسيا والصين. وتشكل هنالك ضغط كبير على العلاقات الأميركية الإسرائيلية. كما برز اتجاه لدى عدد من الدول للتفكير في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهذا ما أخفقت في تحقيقه السلطة الفلسطينية التي فشلت كذلك في وضع القضية الفلسطينية في أعلى الأجندة الدولية. وضمن اعترافات الداخل الإسرائيلي بعيدا عن مغالطات وتكتيكات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قال وزير العدل الأسبق حاييم رامون إن الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة انتهت بهزيمة إستراتيجية لإسرائيل. مؤكدا أن إسرائيل لم تحقق أيا من الأهداف التي حددتها من الحرب. ومن ضمن ذلك الهدف الرئيس وهو انهيار المقاومة الفلسطينية عسكريا، مضيفا أنها لا تزال واقفة على قدميها. وعضد تصريحات رامون موقع «والا» ناقلا عن نائب رئيس الأركان الإسرائيلي السابق يائير غولان قوله: «إننا عالقون في غزة دون أهداف حقيقية أو إستراتيجية للخروج. أما الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي بيّن في مقال له بصحيفة هآرتس أن الجميع كان يعرف منذ البداية أنه لن يتحقق نصر في هذه الحرب، وأعتبر غزو رفح فكرة مرعبة، وهي قد لا تعدو مجرد تعطش للدماء، وتعبير عن كراهية الفلسطينيين ورغبة في الانتقام من هجوم السابع من أكتوبر. وأضاف بأن الذين يظنون أن نصرا ما سيتحقق من خلال غزو رفح هم أناس أشرار ومتوهمون.
849
| 14 أبريل 2024
ليس من بعد جرائم دولة الاحتلال الإسرائيلي في غزة ذنب، فليس بعد الكفر ذنب غير أن جريمة اغتصاب حرية الإعلام لها أهمية خاصة ليس لأنها إضافة لجرائم إسرائيلية ضجت بها الضمائر الحيّة حول العالم، ولكن لأنها تفضح ما يسمى بالعالم الحر. ففي عالم اليوم العبثي تمثل المنظومة الغربية إمبراطورية ضخمة ومُلكا عضودا يحكم العالم، عبر وسائل عديدة ومتنوعة تبدأ باستخدام الأقنعة واستراتيجية الإلهاء، بل وقد تنتهي بوضع الأقنعة جانباً والتنكر لدعاوي الإنسانية وحقوقها وتحطيم صنم الحرية الإعلامية إذ أن المناخ الإعلامي الحر والمتنوع ركيزة أساسية لأي ديمقراطية ليبرالية مدعاة. بيد أنه عندما تضطر إسرائيل والمنظومة الغربية الداعمة لكشف الأقنعة فإن المقاومة تكون قد نجحت في صمودها وسيرها في طريق النصر المحفوف بالتضحيات الجسام. فلم يكن العالم ليكذّب الصور التلفزيونية الحية القادمة من غزة، صور جرحت كبرياء الغطرسة الإسرائيلية وعرّت الشعارات الإنسانية المدعاة. لقد نقلت تلك الصور الحية بشاعة قتل الآلة الحربية الإسرائيلية الممنهج الذي شمل الأطفال والنساء قبل الرجال، فقد دحضت الحقيقة المجردة الرواية الإسرائيلية الملفقة. وفي هذا الصدد اتسمت التغطية الإعلامية لقناة مثل قناة الجزيرة بكثافة غير معتادة وتدفق غير مسبوق للأخبار والتقارير والصور. ولم تنجح معها مزاعم حكومة الاحتلال الإسرائيلي بإقناع أحد بأن حربها على غزة هي حرب بين الحضارة والبربرية لأن الصورة التلفزيونية المباشرة أثبتت العكس تماما. لقد شهد العالم تصويت الكنيست الإسرائيلي الاثنين الماضي لصالح قانون يسمح لرئيس الحكومة الإسرائيلية بحظر وسائل إعلام أجنبية تضر بالأمن في إسرائيل، وكان المقصود على وجه التحديد قناة الجزيرة حتى أن القانون سُمي بـ «قانون الجزيرة». والسبب أن الحقيقة المجردة التي ظلت تنقلها قناة الجزيرة هي عند حكومة الاحتلال «تقارير متحيزة». ويسمح القانون بحظر بث القناة ووقف مراسليها ومصادرة أي معدات وممتلكات تخصها. وبعيد اجازة القانون قال حزب الليكود في بيان؛ إن بنيامين نتنياهو سيتخذ إجراءً فوريا لإغلاق قناة الجزيرة وفقا للإجراءات المنصوص عليها في القانون. وقال نتنياهو بعد مصادقة القانون مباشرة «إن قناة الجزيرة لن تبث من إسرائيل بعد اليوم وحان الوقت لطردها». ومضت دولة الاحتلال الإسرائيلي في غيها وهي تصادم قيما على أساسها تسوّق المنظومة الغربية هذه الدولة الشريرة، لعلمها بأن أقصى إدانة يمكن أن تقع عليها من حاضنتها الغربية هي التعبير عن القلق وربما القلق العميق. وبالفعل قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض بُعيد إجازة القانون: إنه «إذا صحت التقارير الواردة عن عزم إسرائيل إغلاق مكتب شبكة الجزيرة الإخبارية، فسيكون ذلك أمرا مقلقا للغاية». وهكذا فعلت الحكومة الألمانية حيث قال متحدث باسم وزارة الخارجية: «تلقينا بقلق نبأ القانون الإعلامي الإسرائيلي الجديد». وحتى الأمم المتحدة أبدت «قلقها» وهي نعامة فتخاء عندما يتعلق الأمر بإدانة إسرائيل أو المنظومة الغربية، وأسد على الشعوب المستضعفة والقاطنة في عالم جعلوه ثالثا. فقد علق المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة على الخطوة الإسرائيلية بقوله: «هذا أمر مثير للقلق كأي تقييد لحق الصحفيين بالعمل». وتتجاهل الحكومات الغربية وبالضرورة إسرائيل شهادات لصحفيين غربيين انحازوا لمنيتهم ولضميرهم الإنساني وقد قالوا كلمتهم في ما يجري في غزة والذي جاء مطابقا لما ظلت قناة الجزيرة تبثه من حقائق الأوضاع الإنسانية في غزة جراء حرب الإبادة التي تقوم بها دولة الكيان الإسرائيلي. بل أن كاتبا بريطانيا محترما مثل بيتر أوبورن يؤكد أن جهود «الجزيرة» تدحض الأكاذيب الإسرائيلية التي تسربل بها الإعلام الغربي وأضحى متبنيا للرواية الغربية. يقول أوبورن: «إن فيلما وثائقيا بثته قناة الجزيرة عن هجوم 7 أكتوبر 2023، الذي نفذته المقاومة الفلسطينية، يكشف الادعاءات الكاذبة والملتهبة عن ذلك الهجوم والكيفية التي شقت بها هذه الأكاذيب طريقها إلى الصحافة السائدة في بريطانيا». مؤكدا في مقال له بموقع «ميدل إيست آي» البريطاني، أن الفيلم، الذي أنتجته وحدة التحقيقات في «الجزيرة»، بأنه رصين، وواضح، ودقيق. وأوضح الكاتب أن فيلم «الجزيرة» يكشف أن القصص الإسرائيلية الملتهبة بشدة، سواء كانت تتعلق بادعاءات الاغتصاب الجماعي أو قطع رؤوس الأطفال وحرقهم، غير مدعومة بالأدلة وأنها أكاذيب مباشرة، ومع ذلك، فقد مهدت للهجوم الإسرائيلي الذي أعقب ذلك على غزة، والذي وصفته محكمة العدل الدولية بأنه من المحتمل أن يكون إبادة جماعية. وخلص أوبورن إلى أن وسائل الإعلام الرئيسية في بريطانيا وثقت الرواية الإسرائيلية الملفقة وروجت لها ووجهت اتهامات بسوء النية لمن يشكك فيها. إن الذي تضطلع به قناة الجزيرة يتصادم مع تريد وسائل الإعلام الغربية التي ترضع من ثدي الصهيونية العالمية، ولذلك يمكن فهم الحملات التي ظلت تتعرض لها «الجزيرة» منذ انطلاقتها في نوفمبر 1996. وقد أشار المفكر الأمريكي المعاصر نعوم تشومسكي إلى الطرق التي تستعملها وسائل الإعلام الغربية وتشمل بالضرورة الإعلام الإسرائيلي، للسيطرة على الشعوب عبر استراتيجيات أساسية، منها استراتيجية الإلهاء، وهي عنصر أساسي في التحكّم بالمجتمعات، وهي تتمثل في تحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل المهمة والتغييرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، ويتم ذلك عبر وابل متواصل من الإلهاءات والمعلومات التافهة. فهذه الاستراتيجية ضرورية أيضا لمنع العامة من الاهتمام بالمعارف الضرورية في ميادين مختلفة منها ميدان السياسة بحيث تكون العامة منشغلة، دون أن يكون لها أي وقت للتفكير فيما هو أهم. وتعمد هذه الوسائل الإعلامية إلى مخاطبة العامة كمجموعة أطفال صغار، من خلال رسائل كثيرا ما تقترب من مستوى التخلّف الذهني، وكأن المشاهد طفل صغير أو معوق ذهنيا. ومن الأساليب التي ذكرها تشومسكي، استثارة العاطفة بدل الفكر، إذ أن استثارة العاطفة تقنية كلاسيكية تستعمل لتعطيل التحليل المنطقي، وبالتالي الحس النقدي للأشخاص. كما أنّ استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور للاوعي حتى يتم زرعه بأفكار، رغبات، مخاوف، نزعات، أو سلوكيات.
771
| 06 أبريل 2024
في كل العقود والأزمان الماضية وكذلك اللاحقة، وفي ظل مختلف أنظمة الحكم من اليمين إلى اليسار، ظلت الأهداف الأمريكية تجاه السودان وكثير من الدول ذات السمات المتماثلة واحدة لا تتغير وتتلخص في إضعاف السودان خدمة لإستراتيجية «أمن إسرائيل» التي تقوم على القضاء على كل عناصر القوة في الأمة العربية والاسلامية. فضلا عن ضمان السيطرة على ثروات السودان وابعاد روسيا والصين عنها واستغلالها عند الحاجة إليها عاجلا أو آجلا. وما يقع فيه السياسيون في السودان على وجه التحديد أنهم يعتقدون بأنهم قادرون على اللعب مع واشنطن في هامش سياستها القائمة والمبنية على المصالح، والاجتهاد في التقليل من تضارب المصالح. غير أن الأمر أكبر من كونه تضارب مصالح، إذ إن مصالح واشنطن في تفكيك السودان ومحوه من الخارطة وتحويله إلى دويلات 5 أو أكثر. وعليه فليس هناك أصلا هامش يمكن اللعب فيه إلا إذا تماهى شخص مع أهدافها تماما. ومما لاشك فيه أن السودان يحتل مكانة محورية في التفكير الإستراتيجي الأمريكي بالنظر إلى موقعه الجغرافي، وموارده الاقتصادية المتعددة، بما في ذلك مخزونه من الثروات النفطية والمعدنية لا سيما اليورانيوم، فضلا عن امتلاكه مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية ومصادر متنوعة من الموارد المائية. ومن المؤكد أن السودان يقع في قلب أتون الصراع الاستراتيجي الدولي، وهو صراع يدور حول الطاقة والمياه والأراضي الزراعية والموقع الإستراتيجي. وكل هذه الموصفات تؤهله ليكون قوة عظمى تهدد إسرائيل بالدرجة الأولى وتمنع واشنطن نفسها من سرقة هذه الثروات وتجييرها لصالحها بالكامل. نهاية فبراير الماضي أعلنت واشنطن عن تعيين مبعوث خاص من قبلها إلى السودان وذكر تصريح أمريكا رسميا أن المبعوث سيقوم في إطار منصبه بتنسيق السياسة الأمريكية بشأن السودان وتعزيز جهودها الرامية إلى إنهاء الأعمال العدائية وضمان وصول المساعدات الإنسانية بلا عوائق ودعم الشعب السوداني في سعيه إلى تحقيق طموحاته بالحرية والسلام والعدالة. ونوه توم بيرييلو في أول إفادة صحيفة له بأن حجم الأزمة في السودان لم يلق انتباها دوليا أو إعلاميا، سواء كان ذلك من الصحافة الغربية، أو الأفريقية أو العربية أو غيرها. بيد أنه مضى يطعن في ظل الفيل عوضا عن طعن الفيل نفسه، فلم يسم الأشياء بأسمائها، حين أقر بأن تداعيات الحرب في السودان شملت علامات المجاعة في مختلف أنحاء البلاد. وأنه سمع عن فظائع مروعة، ضد النساء والأطفال، وأعمال تجنيد قسري وحتى عبودية. فرغم أن تقارير أمريكية وصحفية ورسمية وأممية كانت قد أشارت إلى ذلك، لكنه قال «سمع» في محاولة لتجنب الإقرار الكامل ومن ثم الحديث عن الفاعل، الذي تود الإدارة الأمريكية أن يظل مجهولا وتتفرق جرائمه بين أطراف الصراع. وأضاف مشككا في انتصارات الجيش السوداني على متمردي مليشيا الدعم السريع بقوله: «على أي شخص اعتقد أن الطريق ممهد لأي من الطرفين لتحقيق انتصار واضح، أن يدرك بوضوح تام في هذه المرحلة أن الوضع ليس كذلك». فالولايات المتحدة لا تريد انتصارا للجيش السوداني لأن ذلك يقف ضد هدفها الاستراتيجي تفكيك البلاد شذرا مذرا، وفي ذات الوقت تريد أن تنافق وتتجنب الاحراج إذا ما وقفت علنا مع القوات المتمردة بسبب جرائمها ضد الإنسانية التي سارت بها رياح الحقيقة الدامغة. ويتحدث عن استئناف محادثات منبر جدة التي رعتها بلاده شراكة مع السعودية، لكنه يتجنب ذكر حقيقة أن فشلها كان بسبب رفض التمرد تنفيذ ما اتفق عليه وهو خروج عناصره من بيوت المواطنين والمستشفيات وجميع الأعيان المدنية والتي ما زال يحتلها إلا تلك التي أجبر على الهروب منها في المناطق التي أعاد الجيش سيطرته عليها كمدينة أمدرمان الضلع الغربي لعاصمة البلاد الخرطوم. وربما لا تتحرج واشنطن من دعم ما تسميه بالقوى المدنية وهي مجموعة أقلية سمت نفسها (قحت) قبل أن تجدد جلدها وتسمي نفسها (تقدم) وهي تمثل الذراع السياسي للتمرد وكانت سببا في دفع المليشيا للقيام بمغامرتها في منتصف ابريل الماضي ظنا منها أن دباباتها ستحملهم إلى كراسي الحكم ومن ثم يتمكن هذا التحالف الآثم من تفكيك الجيش القومي واحلال المليشيا محله. وفي محاولة يائسة نصبت المليشيا بتنسيق ودعم من ذراعها السياسي (تقدم) ما اسمته بإدارة مدنية في حاضرة ولاية الجزيرة. واستهدفت رفع الروح المعنوية المنهارة لعناصر المليشيا التي ظلت تتجرع كؤوس الهزيمة يوما بعد يوم من قوات الجيش، خاصة بعد اخفاقها في تحقيق ذلك عبر المغامرات العسكرية بعد معركة الاذاعة. والمدهش أنه كيف تستطيع هذه المليشيا إدارة ولاية بمساحتها أكثر من ٢٧ ألف كيلو متر مربع ويسكنها أكثر من ٥ ملايين نسمة، وهي لم تستطع تشغيل الإذاعة القومية رغم احتلالها لها لما يقرب من العام؟. هذا هو المشروع الأمريكي بعينه والهادف إلى محو الدولة السودانية بوضعيتها الجيوسياسية الحالية من خارطة دول العالم. وواشنطن هي ذاتها الدولة التي تساند اليوم الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة وتبررها وتبرئ اسرائيل فيها من ارتكاب أية جرائم حرب وتفصح عن مواقف باهتة ونفاقية عندما تحاصر بجرائم إسرائيل في غزة. ولعل واشنطن اليوم مستاءة من تأخر مخططها، بفضل الإرادة الوطنية السودانية التي يحرسها جيش قوي أمين على أمن وسلامة الوطن؛ ففي العام 2007 أفصح الجنرال الأمريكي المتقاعد ويسلي كلارك الذي شعاره «عندما لا تمتلك سوى المطرقة فإنك سترى جميع الأشياء حولك مسامير»، عن مخططهم في نادي الكومنولث في كاليفورنيا في منشور بعنوان «حان وقت القيادة» باسم الواجب والشرف والوطن، وروي فيه كيف أن مسؤولا في هيئة الأركان في عام 2001 كشف عن مخطط استراتيجي سري لوزارة الدفاع الأمريكية لمهاجمة وتدمير 7 دول في غضون 5 سنوات. وأوضح أن الدول المقصودة هي العراق وسوريا ولبنان وليبيا والصومال والسودان وإيران.
933
| 30 مارس 2024
تجتهد كاميرات التلفزة لنقل حجم الأضرار على أهل فلسطين لا سيما سكان غزة، والناجمة عن الحرب الهمجية التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي عليهم، غير أن حجم الابتلاء عظيم جدا لا يعلمه ولا يحسه إلا أهل غزة وحدهم. ولو قضت محكمة العدل الدولية سنوات عجافا لمحاكمة إسرائيل على جرائم الإبادة والتطهير العرقي في غزة لما أحاطت بجزء يسير منها ولو تركت تحكم دون تأثير سياسي سلبي عليها لما استطاعت أن تنزل الأحكام المستحقة الرادعة والناجزة على المجرم. إن التوصيف الرباني لمصائب أهل فلسطين عموما وغزة خاصة، أنها ابتلاء من الله تعالى لهم بالجهاد في سبيله، وفيه صنوف من الأذى والابتلاء بالقول والفعل، وأذى في الأموال بنقصها وهلاكها، وفي الأنفس بالجروح الغائرة والأسقام المهلكة والأوجاع والقتل. والحرب ابتلاء اجتماعي بالضراء، إذ إن أثره يشمل المجتمع كله، صغيره وكبيره صحيحه ومريضه، فهو غير مقصور على فرد أو أفراد بعينهم. هذا الابتلاء العظيم يحتاج لطاقة إيمانية عظيمة تمكن من اجتيازه بل تمكن من النصر في نهاية المطاف، نصر لا يتصوره أحد بالحسابات الإنسانية وموازين القوى على الأرض. هذه الطاقة تتمثل في اليقين باختيار الله للمبتلين ظرفيا ومكانيا واليقين بنصره. وما البلاء الذي يبليه شباب ورجال المقاومة ويشهد به العالم ويقف مذهولا من بسالتهم وثباتهم وصمودهم، إلا نصر لله وابتغاء نصره (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). إنهم يعلموننا من منصة الأستاذية تلك المعادلة الإيمانية: «الصبر واليقين طريق النصر والتمكين». تلك المعادلة الإيمانية نطقت بها الآيات القرآنية، وشهدت بها الحوادث التاريخية، وصدقتها الوقائع الحاضرة، وتحكي وتثبت كذلك في وقائع الحرب على غزة الحالية والمستقبلية. إن ميزان القوة العسكرية المادية بين إسرائيل ومقاومة غزة تبدو المقارنة فيه عصية وربما مستحيلة من غير الأخذ في الاعتبار سلاح اليقين الذي تنفرد به المقاومة دون عدوها الغاصب، ولذلك قلبت عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر الماضي الموازين تماما. لقد تحدثت مصادر غربية معنية بالشؤون العسكرية وهي تبدي دهشتها دون أن تضع في حساباتها (سلاح المقاومة الخفي)، مشيرة إلى أن التوازن العسكري بين إسرائيل والمقاومة قد اختل بشكل كبير على الرغم من أن إسرائيل «تمتلك قوات مسلحة راسخة ومتقدمة تقنيا، فضلا عن معدات حديثة وقدرات استخباراتية وبنية تحتية دفاعية موثوقة وقدرات استخباراتية متقدمة. وتشتهر إسرائيل بابتكاراتها التكنولوجية ولديها صناعة دفاعية قوية. وقد طورت تقنيات عسكرية متقدمة، بما في ذلك أنظمة الدفاع الصاروخي مثل القبة الحديدية، ومقلاع داوود والسهم. ويعتبر سلاح الجو الإسرائيلي - وفقا لتلك المصادر المتخصصة - من أكثر القوات الجوية تقدما وجاهزية للقتال في العالم، إذ يعتبر أحد أكثر القوات الجوية تقدما من الناحية التكنولوجية في العالم، فهو مزود بمقاتلات الشبح إف-35، وبمجموعة واسعة من القنابل الذكية التي تصيب الأهداف بأقل قدر من الأضرار الجانبية، وبمنظومة عمليات يرتكز على الشبكة العنكبوتية يتم فيها استخدام المستشعرات على عدة مستويات لاكتشاف الأهداف وإصابتها. ولها قوة بحرية على الرغم من صغر حجمها نسبيا مقارنة ببعض القوات البحرية الأخرى، إلا أنها حديثة ومجهزة بقوارب صواريخ وغواصات وسفن دورية. وليس هذا فحسب فإن إسرائيل تقف وراءها الولايات المتحدة الأمريكية أكبر قوة عسكرية في العالم ودول أوروبا وتجد الدعم العسكري واللوجستي والاستخباراتي والسياسي. إن تلك المصادر «العليمة» غير قادرة على حساب سلاح المقاومة الخفي وهو اليقين، وعلى الرغم من أن المقاومة طورت كذلك سلاحها التقني والصاروخي وأوجعت عدوها، إلا أن سلاحها الخفي ظل هو الأهم والقادر على الإخلال بتوازن القوى المادية العسكرية. واليقين في اللغة العلم الذي لا شك معه. وفي الاصطلاح اعتقاد النصر بأنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا، مطابقا للواقع غير ممكن الزوال. واليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون. ووفقا للحسابات البشرية المادية فإن أي نصر مرتبط بما يتوفر من قوة؛ لأن الحقيقة هي مطابقة العقل والأشياء؛ عندما يكون العقل ملائمًا للأشياء. واليقين هو حالة العقل الذي يعرف كيف يمتلك الحقيقة: فهو بالتالي تأثير الحقيقة على الذات. فاليقين لا ينافي الجهل الذي نقيضه العلم، بل الشك. واليقين فيه حياةٌ للقلب وقوّة وطمأنينة له. زيادةُ الإيمان وقوّته؛ فالعلاقة بين اليقين والإيمان بالله علاقة تكامليّة، كلّ واحد منهما يُؤدّي إلى وجود الآخر؛ فلا إيمانَ من غير يقينٍ بالله، ولا يقين قويٌّ بالله من غيرِ إيمانٍ به، والعمل الصالح تُرجمان ذلك كلّه. وإذا رسخ الإيمان في القلب، وإذا تعمّق اليقين في النفس أنتج ذلك طاقة نووية من الصبر على ما يقّدره الله تعالى من البلاء، وينبثق عن ذلك الثبات الذي يحير الأعداء، ثم لا يلبث ليل الظلم والطغيان أن ينبلج بفجر النصر والعز والتمكين لأهل الإيمان والاستحقاق، ولا تلبث قوى إسرائيل ومن يحالفها أن تذهب ريحها، وتتفرق صفوفها، وأن يصبح بأسها بينها شديداً، وأن تكون حصاداً للأيدي المتوضئة تخلص منها فلسطين وأهلها وتدرأ شرورها عنهم. ولا يدوم الصبر، ولا يستمر الثبات إلا عندما يكون القلب موصولاً بالله، والثقة عظيمة في نصره، واليقين لا يعتريه الشك في وعده تعالى، (يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى الآخرة). ومن بشريات النصر أن اليقين يجلب طمأنينة في القلوب، وسكينة في النفوس، وثباتا في الأقدام. وهذا ما تثبته المقاومة الباسلة يوما بعد (ألا إن نصر الله قريب).
1560
| 23 مارس 2024
فظاعة جرائم مليشيا الدعم السريع في السودان جعلت الناس يستعجلون الجيش لحسم هذه المليشيا، فالجرائم التي ارتكبتها لا يكاد المرء يحصيها ولا يعدها، ولا يتخيلها حتى منتجو أفلام الرعب. وربما الجيش كان أكثر استعجالا لحسم المعركة لكن المعطيات على الأرض كانت تشير إلى أن المعركة ستطول طالما كان الهدف الأسمى الحفاظ على أرواح المواطنين والجنود والبنى التحتية. وبالضرورة يتطلب ذلك خطة عسكرية احترافية ثمنها كثير من الوقت. ولعل حديث قادة الجيش كان منذ بداية المعركة التي اندلعت في 15 ابريل الماضي، بأن المعركة ستطول وان الاستراتيجية التي اعتمدوها تختلف عن النهج والطريقة التي تقاتل بها مليشيا الدعم السريع؛ فالأخيرة قوات قليلة التدريب ولا تهتم قيادتها بحياة وسلامة عناصرها، فهم عندهم مجرد كم، مثله مثل أي عتاد عسكري. وقد مرت المعركة بالنسبة للجيش بثلاث مراحل؛ الاولى مرحلة امتصاص الصدمة حيث المليشيا فاجأت الجميع بمغامرتها غير المحسوبة النتائج، المرحلة الثانية التمركز وأخذ وضعية الدفاع، أما المرحلة الاخيرة هي مرحلة الهجوم وهي المرحلة التي بدأ الجيش يحقق فيها انتصاراته. وفي كل هذه المراحل كان هدف الحفاظ على ارواح المواطنين والجنود والبنيات الاساسية مقدما على هدف تحقيق أي نصر محدود. وخلال هذه المراحل قصد الجيش كذلك استنزاف قوة وعتاد المليشيا وربما الدعم الخارجي قد أسهم في طول أمد الاستنزاف. بيد أن ما ساعد الجيش كثيرا قرار المليشيا الهجوم على ولاية الجزيرة وسحب جزء كبير من قواتها من الخرطوم لدعم ذلك الهجوم. وولاية الجزيرة منطقة سهلية مترامية الاطراف وليس فيها اهداف عسكرية كثيرة ولذا تورطت المليشيا فيها واستنفدت قوتها العسكرية دون أن يكون في مقابل ذلك تحقيق اهداف عسكرية ملموسة. ومع مرور الوقت وطول امد الحرب التي اعتقدتها المليشيا وداعموها انها ستكون خاطفة، واجه الدعم الخارجي مشاكل لوجستية ومع تحسن اداء الجيش كما ونوعا في استخدام الطيران التقليدي والمسيّر تمكن الجيش من استهداف مخازن وقوافل الدعم الخارجي، فضلا عن انشغال دولة ممر الدعم بأزمة سياسية داخلية مسلحة. كما أن تورط المليشيا في جرائم الحرب وتصاعد الادانات الدولية لها جعل منها تنظيما بلا مشروعية اخلاقية وغير ذي جدوى ليتبنى أي مشروع سياسي لحكم البلاد وكل ذلك قلل من تدفق الدعم الخارجي. على صعيد آخر ظل الجدل في صالونات السياسيين يدور حول الحرب والسلام تدفع به الأجندات الخارجية قبل الداخلية. ولأن عادة السياسيين الجدل، والجدل عندهم مطلوب في ذاته لإخفاء الحقائق والقفز فوقها، أحيانا بمهارة وكثيرا من الأحيان بسذاجة، وصولا إلى تعكير المياه للصيد فيها صيدا آثما. ولذلك فإن موضوع الحرب والسلام ظلوا يشعلون فيه عمدا جدلا يفوق جدل (البيضة أولا أم الدجاجة)، حتى يظن الظّان أن منشأ جدل الحرب والسلام هو عوالم غارقة في الميتافيزيقيا. ولا يعلم السياسيون أنه حتى معضلة جدل (البيضة أم الدجاجة أولا) قد وصل فيها العلماء إلى حقائق قد تحبط هذا الجدل الفلسفي، غير أنهم لا يزالون في غيهم سادرين. فلو أن بعض السياسيين في السودان يجادلون لشيء في نفس يعقوب بأن السلام يسبق الحرب بمعنى أنه لو قامت حرب ما فعلى المُعتدى عليه أن يوقفها ويلقي سلاحه ليأتي السلام!. هذه هي الدعوى المرتبكة التي يرفعها بعضهم من خارج الحدود تحت شعار (لا للحرب). وفي هذا قلب للمنطق ورغائبية عاصفة متوثبة. فالحرب التي تُفرض على شعب آمن مطمئن وهو الطرف المُعتَدى عليه لا يعقبها سلام إلا برد المعتدي وتدمير قدرته على الإيذاء وارتكاب الجرائم. إذن في هذه الحالة فإن كان بيض الدجاج سبق الدجاج، فإن ذلك يتوقف على طبيعة البيض، وسنقول انها بيضة دجاجة إن كانت تحتوي على دجاجة بداخلها، فإذا ما وضعت الحمامة بيضة وفقست معطية خفاشا، فإنها ستكون بالتأكيد بيضة خفاش، لا بيضة حمامة. (والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء!) كما قال الشاعر محمد الفيتوري في قصيدته (ياقوت العرش). لقد وضعت المواثيق الدولية قانونا للحرب وحق الحرب؛ حيث إن قانون اللجوء إلى الحرب هو القواعد القانونية الدولية التي تنظم اللجوء إلى القوة، أما قانون الحرب فهو القواعد القانونية التي تحكم العلاقة بين المتحاربين، أثناء وما بعد الحرب. السلام هو أكثر من مجرد غياب العنف. ففي حين أن الفترة التي تلي توقف القتال والعودة إلى الحياة الطبيعية أمر مرحب به، فإن الاستقرار غالباً ما يخفي حقيقة أن المظالم أو الأسباب الأخرى للنزاع لم تتم معالجتها وقد تطفو إلى السطح مجدداً. ولذلك لابد أن يرتكز بناء السلام على التعامل مع الأسباب الكامنة وراء اقتتال الناس فيما بينهم في المقام الأول إلى جانب دعم المجتمعات لإدارة خلافاتها ونزاعاتها دون اللجوء إلى العنف. فاﻟﺴﻼم ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻘﺮار واﻻﻃﻤﺌﻨﺎن اﻟﺬي ﻳﻌﻴﺸﻪ المجتمع واﻷﻓﺮاد وﻳﺘﻤﺘﻊ اﻟﻔﺮد ﻓﻴﻪ ﺑﻜﺎﻓﺔ ﺣﻘﻮﻗﻪ ويمارس واﺟﺒﺎﺗﻪ واﻟﺘﺰاﻣﺎﺗﻪ دون ﺿﻐﻂ أو إﻛﺮاه. ويتحول السلام لاحقا لفعل ايجابي حين يعيش جميع أفراد المجتمع في أمن وسكينة، دون خوف أو تهديد بالعنف، وليس ذلك طوعا أو بالتمني إنما بحماية القانون الصارم وبأنظمة عدالة موثوقة. وهنا يتحقق السلام المجتمعي الذي هو خلاصة سلام سياسي واقتصادي وفكري وعقائدي، فهو الاتفاق على خطوط عريضة تشكل مبادئ، وتتعمق فتصبح قيماً تقبلها مختلف الشرائح والطبقات. ويتمحور السلام المجتمعي حول تطوير العلاقات الشخصية والجماعية والسياسية البناءة، عبر الحدود العرقية والدينية والطبقية والقومية والعنصرية. وهو كذلك التفاهم الجوهري على القضايا التي تكتسب أهمية قصوى والاعتراف بها وتطبيقها وجعلها أشبه بالسلوك اليومي.
918
| 16 مارس 2024
ليس بالضرورة أن يعلن الجيش السوداني تقدمه أو انتصاره على مليشيا الدعم السريع المتمردة عليه، فلربما ذلك يشكك في روايته أو سرديته باعتبار أن أي طرف من الأطراف في أي حرب، يزعم دائما انتصاره أو تفوقه على خصمه. بيد أن هناك وقائع سياسية من لدن أطراف أخرى تدور في مضمار الخصوم للجيش السوداني تدلل وتؤشر إلى تقدمه وتفوقه الميداني؛ فهناك تحركات على مستويات مختلفة إقليمية ودولية لإنقاذ مليشيا الدعم السريع من مصير محتوم وانهيار وشيك، فهناك تحركات دولية على مستوى مجلس الأمن الدولي عبر دعوة لوقف إطلاق النار خلال شهر رمضان الكريم وكأنما يحل رمضان على السودان وحده ولا يحل على غزة المكلومة، وكذلك هناك حديث متصاعد حول فتح ممرات آمنة لتمرير المساعدات الإنسانية (السم في العسل) عبر تشاد. وهي كلها دعوات حق يراد بها باطل، وبالتوازي مع ذلك هناك تحركات وورش سياسية للمجموعة السياسية السودانية الداعمة للتمرد، بدفع وتسهيل إقليمي متدثرة بمشاركة عدد من عناصر (مجتمع الميم) لمغازلة التنظيمات الدولية الداعمة لـ»حقوق» المثليين. وصوّت مجلس الأمن الدولي الجمعة الماضي على مشروع قرار يدعو جميع الأطراف إلى وقف فوري للأعمال العدائية قبل شهر رمضان. كما دعا إلى السماح بوصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن وبدون عوائق، بما في ذلك عبر الحدود وعبر خطوط المواجهة. ولا تزال تجربة شريان الحياة راسخة في الذاكرة الوطنية السودانية، حين تبنت الأمم المتحدة المشروع، فكان دعما وانقاذا لحركة انفصال جنوب السودان حينذاك بقيادة جون قرنق. وفي الوقت الذي ما زالت مليشيا الدعم السريع تحتل المستشفيات وبيوت المواطنين بينما أحكمت قوات الجيش السوداني حصارها وبدأت تعاني من نقص الغذاء، رفعت قيادتها الصوت عاليا بطلب وقف إطلاق النار وإدخال المعونات الإنسانية لانقاذ عناصرها ودس الامداد العسكري فيها لتواصل إجرامها ضد المواطنين. وما يؤكد نفاق المجتمع الدولي الذي جعل من مجلس الأمن احدى آلياته، أنه لم يستطع دعوة دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى وقف إطلاق النار في غزة خلال شهر رمضان، وكأن هذا الشهر لا يزور الأراضي الفلسطينية!. وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن الجمعة في خطابه السنوي حول حالة الاتحاد: «إن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة بحلول بداية شهر رمضان يبدو صعبا». وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد وجه خلال اجتماع لمجلس الأمن نداءً إلى جميع الأطراف في السودان لاحترام قيم رمضان من خلال وقف الأعمال العدائية بمناسبة هذا الشهر. وبالطبع فإن قيم رمضان واحدة في كل مكان، كما زمانه واحد في كل مكان بالضرورة. ويشار إلى أن بريطانيا المستعمر السابق للسودان كانت من سعى لمشروع القرار وتبنى تلك الدعوة. ولعل هذه الدعوة الحقة في ظاهرها جعلت كلا من روسيا والصين تقفان موقفا سلبيا، فتتحفظان وتمتنعان عن التصويت. في ذات الوقت نقل السودان عبر مندوبه في الأمم المتحدة ترحيب بلاده بدعوة الأمين العام، لكنه طرح تساؤلات موضوعية عن كيفية القيام بذلك في حين تواصل مليشيا الدعم السريع هجماتها ضد المدنيين بلا انقطاع، داعيا إلى تقديم آلية للتنفيذ. في موازاة ذلك نظمت قوى الحرية والتغيير (قحت) السودانية التي غيرت جلدها إلى (تقدم) في الأسبوع الماضي بكمبالا عاصمة أوغندا، ورشة قالت إنها لـ»الاصلاح الأمني والعسكري» بمشاركة عملاء لمخابرات أجنبية، وهي ورشة قديمة جديدة تستهدف تفكيك الجيش السوداني، حيث بدأت ما قبل الحرب في منتصف ابريل الماضي. والجديد أنها عقدت في دولة أجنبية، وليتخيل الناس عقد ورشة في دولة أجنبية بغرض معلن وهو تفكيك جيش دولة أخرى ودون حضور أي ممثلين للجيش!. ولجذب منظمات دعم المثليين واستجداء دعمها ولتوجه ضغوطها نحو حكومات مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، أمّت الورشة عناصر من (مجتمع الميم) بسموتهم وهيئاتهم المعروفة حيث تغيب الفواصل بين الذكر والأنثى. وربما من متسائل بريء يسأل عن من أحق بالتفكيك جيش وطني عمره مائة عام أم مليشيا مجرمة وإرهابية تمردت على الدولة وظلت مسخرة لأهداف أسرية وقبلية؟!. وذات الورشة عقدت قبيل الحرب داخل السودان بذات الأهداف لكنها بدت مستترة وغير سافرة بترتيب ومشاركة فاعلة من (قحت)، ولم يكن الجيش راضيا عن ورقة قدمها ممثل مليشيا الدعم السريع لكونها لم تتناول خطوات دمجها داخل الجيش. وكان الجيش يشدد مرارا على دمج هذه القوات. بيد أن قائد المليشيا محمد حميدتي كان قد دعا إلى تأجيل دمج قواته بدعم ومباركة من (قحت) التي بدت فيما بعد كجناح سياسي للتمرد. يشار إلى أنه في العام قبل الماضي، وعلى أعتاب شهر «الفخر» كما يُسمِّيه أنصار مجتمع المثليين والمتحوِّلين جنسيا حول العالم، وقفت اللوحات الإعلانية الجذابة في أكثر المناطق حيوية بلندن وأمستردام ونيويورك، موجِّهة رسائلها إلى الجمهور بأن يقوموا بزيارة دولة الاحتلال الإسرائيلي باعتبارها «أفضل مكان في العالم للاحتفال بأسبوع فخر مختلف»، يتضمَّن قضاء إجازة ممتعة على شواطئ المدن الإسرائيلية أو سهرة ليلية في النوادي الخاصة بالمثليين في إسرائيل التي ترحب بجميع الأديان واللغات والهويات الجنسية حسبما تروج له تل أبيب. وتفتخر إسرائيل بأنها أكثر الدول انفتاحا تجاه مجتمع المثليين والمتحولين جنسيا في الشرق الأوسط اليوم. ولطالما لعبت إسرائيل ورقة أنها الدولة الليبرالية الوحيدة في المنطقة العربية التي تُهيمن عليها نظم سلطوية ومحافظة دينيا. وفي هذا السياق، فإنها استخدمت «انفتاحها الجنسي» ورقة جذب أمام الشباب «المقهور جنسيا» في العالم العربي لتكون جزءًا من تلك السياسة الدعائية في المنطقة.
1131
| 10 مارس 2024
أينما وجدت الموارد والثروات وجدت الصراعات، ولو أن روائيا فذا عبقريا شاطح الخيال أراد أن يروي قصة أرض منكوبة بالأزمات والصراعات لما بلغ خياله واقع القارة الأفريقية، ورغم أن خيال الروائيين في كل الأحوال يتفوق على الواقع غير أن واقع أفريقيا المرير لا يضاهيه خيال بشري ولو بعث الناس في الأرض حاشرين ليأتوا بكل روائي جِهباذ. ولو تركنا خارطة الصراعات الأفريقية إلى ما قبل 10 سنوات مضت واكتفينا بالحاضر لما اتسع المجال لعدها وذكرها؛ فاليوم القارة تئن تحت وطأة صراعات دموية في أثيوبيا والصومال والسودان وليبيا وتشاد والنيجر، هذا غير بؤر الصراعات النائمة في معظم بلاد القارة. إن التخلف الذي تعيشه أقطار القارة الأفريقية ما هو إلا نتاج لتراكم أوضاع تاريخية مرتبطة بدخول الاستعمار إلى القارة. فعلى سبيل المثال فإن التخلف الاقتصادي ليس بسبب نقص الموارد الطبيعية؛ ولكن بسبب عجز الحكومات الأفريقية بعد الاستقلال عن إدارة الموارد التي تزخر بها القارة. فهذه الموارد سبب الاستعمار بشكله التقليدي السابق وبشكله الحديث عبر وكلاء من أبناء القارة. بيد أن الاستقرار والأمن والسلام والديمقراطية ضد مصالح المستعمرين، فتلك البيئة تستدعي الانتباه للثروات والموارد واستثمارها لصالح أصحابها وإدارتها إدارة رشيدة تمنع استغلالها وسرقتها من الطامعين والاستعماريين. في رواندا ظلت قبيلتا الهوتو والتوتسي متعايشتين وفقا للنظم الأفريقية التقليدية إلى أن جاء الاستعمار البلجيكي فقامت الحرب الدموية بين القبيلتين (1990 - 1993)، على خلفية تداعيات انحياز المستعمر البلجيكي لقبيلة التوتسي (20% من تعداد سكان البلاد) على حساب قبيلة الهوتو (80%)، فيما ركّزت الكنيسة جهودها على فصيل دون آخر، فأصبح مثلا الهوتو كاثوليك والتوتسي بروتستانت كما أصبح التوتسي أنفسهم «أنجلوفون»، والهوتو «فرانكفون»، وتركّز التعليم والسلطة في أيدي أقلية ممثلة في التوتسي. ولذا لا نستغرب حديث الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت مِل (1806 – 1873) فليسوف الحقبة الاستعمارية، بأن الاستعمار من باب الحسنات أينما وجد الاستبداد في الحكم. وهو تبرير رغائبي لخطيئة استعمار واستعباد الغير، وذلك أمر وصمت به النظم السلطوية التقليدية في أفريقيا زوراً وبهتاناً في نظر أبنائها. صحيح لم تكن النظم السياسية التقليدية في أفريقيا ما قبل الاستعمار نظماً ديمقراطية بالمفهوم الغربي الحديث، لكنها كانت ملائمة على الأقل لطبيعة القارة ولم ينتج عنها تلكم الإشكاليات والصراعات الماثلة. وكتب رئيس كينيا الأسبق جومو كينياتا مؤلفه الشهير «في مواجهة جبل كينيا» ليُبيّن فيه ما أسماها «ديمقراطية جماعة الكيكيو» التقليدية، وهي في رأيه ديمقراطية سحقها الاستعمار. في العموم ساد أفريقيا ما قبل الاستعمار نمطان أساسيان للسلطة والحكم: النمط الأول؛ قبائل ذات كيانات متعددة بنظم سياسية مختلفة تحكم نفسها بنفسها. أما النمط الثاني؛ فهو قبائل تخضع لحكم أو حماية قبائل أخرى، سواء طوعاً أو كرهاً. لكن بعد الاستعمار أصبحت الانقلابات العسكرية الآلية الرئيسية لانتقال وتبادل السلطة في أفريقيا. وأفريقيا قارة متعددة القبائل واللغات والأعراق والأديان وعوضا من أن يكون هذا التنوع مصدر قوة فإن النظم السياسية ما بعد الاستعمار التقليدي فشلت في إدارته، ومن ثمّ تحول هذا التعدد إلى عامل ضعف استثمر فيه المستعمر لتنفيذ مخططاته وأطماعه. وعلى سبيل المثال لا يذكر السودان إلا وتذكر خيراته الزراعية والحيوانية والمائية، فضلا عن مخزونات هائلة من المعادن أبرزها الذهب، ويزخر إقليم دارفور وحده بكميات هائلة من اليورانيوم. لكن هذه الثروات لا تنعكس على اقتصاد البلاد بسبب سوء إدارتها من جانب النظم السياسية التي تعاقبت على الحكم منذ الاستقلال، فعدم الاستقرار السياسي كان السمة الغالبة لفترة ما بعد الاستعمار منذ العام 1956. وهكذا الحال في قارة أفريقيا التي تعتبر مستودعا مهما للمواد الأولية، ولم يكد يتم استغلال ما يزيد عن الطبقة السطحية من أرضها إلى اليوم. ولأن الحدود بين الدول الأفريقية أقامها الاستعمار الأوروبي وهو كان يتقاسم أراضي القارة فكانت أزمة استمر أثرها الكارثي حتى اليوم، وفي معظم الأحوال كان الحد الفاصل بين كل دولة وجارتها خطا لتقطيع القبيلة الواحدة إلى نصفين وكثيرا ما نجد مواطني قبيلة حدودية هم أقرب لأبناء عمومتهم في الدولة الأخرى من مواطنيهم في الدولة التي ينتمون لها. اليوم كل من أثيوبيا والسودان وتشاد تربط بينهم قبال مشتركة، السودان وأثيوبيا من جانب والسودان وتشاد من جانب آخر. وانعكس هذا الارتباط على حالة الأمن والاستقرار في كل بلد على حدة. ومع وجود بؤر الصراع النائمة في أثيوبيا وتشاد، كان المنطق يقول إن الصراع الذي نشب في السودان ابريل الماضي لا محالة ممتد إلى الجارتين أثيوبيا وتشاد ما لم تتعاون الحكومات على فرض الأمن والاستقرار وألا تكون دولة من الدول جزءًا من الصراع الداخلي للدولة الأخرى فإن لم تكن داعمة للاستقرار والأمن فلتلتزم الحياد. إذ أن أي نشاط عسكري سالب لأي من الدول الثلاث مع طرف ثالث يهدد الأمن والسلم في الدولة الأخرى. وقبيل اندلاع الحرب في السودان زار رئيس تشاد الخرطوم سرا مشتكيا من نشاط مشبوه لمليشيا الدعم السريع السودانية على الحدود مع دولة أفريقيا الوسطى المجاورة للبلدين، حيث أقام قائد مليشيا الدعم السريع بالتعاون مع مجموعة فاغنر معسكرات لتدريب المعارضة التشادية قرب الحدود السودانية مع أفريقيا الوسطى، في مخطط للإطاحة بحكمه. لكن اليوم للمفارقة هناك الآلاف من عناصر المعارضة التشادية، والذين دربتهم فاغنر في أفريقيا الوسطى يقاتلون حاليا مع المليشيا في الخرطوم، منهم زعيم معارض تشادي الذي هدد من داخل الخرطوم قائلا: «إنهم بعد إسقاط البرهان في الخرطوم سينتقلون إلى العاصمة انجمينا للسيطرة على تشاد».
498
| 04 مارس 2024
رغم المحاولات الإعلامية الدعائية لمليشيا الدعم السريع المتمردة على الدولة السودانية منذ منتصف ابريل الماضي، للتغطية على الجرائم التي ترتكبها ضد المواطنين السودانيين، إلا أن شناعة جرائمها نوعا وكما جعلت من تلك المحاولات أمرا مستحيلا. فقد بدت الرسالة الإعلامية لدى المليشيا، رسالة سياسية دعائية ونشاطا مصمما للتأثير على المتلقين بقصد إقناعهم بما لا يتفق والعقل السليم والمنطق الرشيد بغرض التغطية على الجرائم سعيا وراء منع تصنيف المليشيا باعتبارها منظمة إرهابية. والدعاية كما هو معلوم محاولة كسب مظهر الصدق، وليس بالضرورة أن تكون الرسالة صادقة فالمهم كسب ثقة المتلقي الضحية المراد إقناعه؛ فهي بالضرورة نشاط منظم يمارس على الرأي العام، لجعله يقبل بكل ما هو مغاير للحقيقة الجلية، خصوصا في المجالين السياسي أو العسكري. وهكذا تعرف الدعاية السياسية أيضا بأنها سلوك طرق وأساليب مختلفة، لإخفاء الحقائق أو التدخل في تفسيرها أو حتى قلبها. وفي ظل تصاعد موجة الإرهاب أصبح الإعلام نهبا لمحاولات الجماعات الإرهابية لتطويعه واستغلال امكاناته التكنولوجية تحقيقا لأهدافها السياسية غير المشروعة عبر التباس الأيدلوجيا، بيد أن الجماعات الإرهابية تقصد الالتباس في ذاته وتفتعله، مثل التكييف الايديولوجي والجهوي بغطاء سياسي في أحيان كثيرة. وينغمس تفكير هذه الجماعات المنحرفة في الماضي أكثر من معايشة الحاضر والتخطيط للمستقبل، كما تحتفي بالموت أكثر مما تحتفي بالحياة. وفي تناقض بيّن، تتكلم باسم المجتمع وفي ذات الوقت تشكّك في أهلية هذا المجتمع، فالمجتمع عندها لا يجدر به أن يكون شريكا في ممارسة السلطة ولا في ممارسة حقوقه الديمقراطية. ولحسن الحظ أن تقريرا أمميا بشأن ارتكاب مجازر في إقليم دارفور، كان قد قطع قول كل خطيب، وأفاد التقرير المقدم إلى مجلس الأمن الدولي بأن نحو 15 ألف شخص قتلوا في مدينة واحدة في منطقة غرب دارفور منذ اندلاع التمرد، في أعمال عنف عرقية نفذتها مليشيا الدعم السريع. ونقلت مقاطع مصورة، دفن أبرياء أحياءً وذبح آخرين في مشاهد هزت الضمير الإنساني هزاً عنيفاً. وعلى إثر ذلك طالبت وزارة الخارجية السودانية، بتصنيف مليشيا الدعم السريع منظمة إرهابية. وفي ذات الوقت تسعى لجنة حكومية سودانية لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي لاقرار هذا التصنيف على مليشيا الدعم السريع. وتعرف اللجنة باسم «اللجنة الوطنية لجرائم الحرب وانتهاكات مليشيا الدعم السريع» وشُكّلت بقرار من رئيس مجلس السيادة الانتقالي، حيث شرعت في إعداد مذكرة قانونية بتوقيع المدعي العام لجمهورية السودان، وهو أيضا رئيس هذه اللجنة. وبالفعل دونت اللجنة بلاغات تحت مواد من القانون الجنائي السوداني شملت الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة العرقية في ولاية غرب دارفور، وأصدرت أوامر بالقبض على قادة ومنسوبي مليشيا الدعم السريع والمتعاونين معها. ولعل اجراءات تصنيف المليشيا منظمة إرهابية لا علاقة لها بأصل الخلاف السياسي الذي كان مدخلا لاندلاع الحرب، فقد تطور سريعا جرم المليشيا من استخدام العنف للاستيلاء على السلطة والتمرد على الدولة، إلى استهداف عرقي وجرائم ضد المدنيين شملت كل مناطق النزاع والاستعانة بالمقاتلين الأجانب من دول الجوار بل وحتى مقاتلي فاغنر الروسية. وبينما تستهدف في العادة الجهات العسكرية المتنازعة الأهداف العسكرية للخصوم، إلا أن مليشيا الدعم السريع ظلت تستهدف المواطنين وبيتوهم ومتلكاتهم، وبالتالي فإن هذه السلوك يدخل في اطار الإرهاب الممنهج. وللإرهاب سياقات عديدة على مستوى الصراع الدولي أو الصراعات الداخلية، وقد اصبح يستخدم سياسيا كوسيلة للقهر والتصنيف التعسفي دون مبررات واقعية. وذلك مثل المماهاة بين الإسلام والإرهاب، مثل ما قال به المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون بأن «حدود الإسلام دموية وكذا احشاءه». وأغفل هنتنجتون القراءة الموضوعية لحقيقة الدين الإسلامي وحضارته، وفي مقابل ذلك ركّز على قراءة الأوضاع السياسية التي تقوم فيها الأنظمة المستبدة والجماعات الإرهابية بالدور الأساسي، ولذا لم يبن نظريته على رؤية موضوعية للحضارة الإسلامية التي لا يمثلها بالضرورة لا الإرهاب ولا الاستبداد. غير أن الإرهاب يشتمل على مجموعة من التهديدات المعقدة، وفق منظمة الإنتربول الدولي، مثل الجريمة المنظمة في مناطق الصراع، والمقاتلين الإرهابيين الأجانب. وتندرج هذه الأنشطة في سياق القرار 1540(2004) الصادر عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقرّ بالدور الحاسم لسلطة الدول في مراقبة الحدود وجهود إنفاذ القانون. ولعل الذي يقلق أن هناك جهات ودولا تبدو قرار تصنيفها للجهات الإرهابية له قوة معنوية وتنفيذية أقوى بكثير من تصنيف واجراءات منظمة الأمم المتحدة، وهنا تظهر اشكالية الاستخدام السياسي من قبل تلك الدول ضد دول أخرى أو ضد جماعات، ما يثير الجدل حول تعريف الإرهاب والفرق بينه وبين أعمال المقاومة ضد الاحتلال. فالعالم يعطي أهمية متعاظمة للقوائم التي تصدرها الولايات المتحدة الأمريكية التي تشمل الدول والمنظمات المشمولة بتصنيف الإرهاب وفقا للرؤية الأمريكية المنسجمة مع مصالحها واستراتيجياتها الدولية. ويتولى وزير الخارجية ووزير الخزانة الأمريكية بالتعاون مع وزير العدل، تقديم الأدلة والبيانات إلى الكونغرس الذي بدوره يوافق أو يعترض على تصنيف المنظمة أو الجماعة في لائحة الإرهاب وفقاً للمادة (219) من قانون الهجرة والجنسية الأمريكي. ولكي يتم تصنيف أي جهة كمنظمة إرهابية، يجب أن تكون أجنبية ومنخرطة في أنشطة إرهابية، وتشكل أنشطتها تهديداً للأمن القومي الأمريكي أو أمن مواطني الولايات المتحدة. وبعد صدور قرار التصنيف تقوم وزارة الخارجية والخزانة الأمريكية بإعداد سجل عن الفرد أو المنظمة المعنية وتجميد أرصدة واصول الجهة او الفرد في الولايات المتحدة أو في المؤسسات الخاضعة لنفوذ وسيطرة أمريكيين وإخطار المؤسسات المالية الأمريكية بقرار الحظر وطلب حجز أرصدة الفرد أو الكيان. ويبقى التصنيف ساري المفعول حتى يتم إلغاؤه رسميا من قبل الحكومة الأمريكية أو انتهاء فترة صلاحية القرار أو إبطاله وفقا للقانون الأمريكي.
492
| 26 فبراير 2024
لم تكن التطورات الميدانية والعسكرية الأخيرة للحرب في السودان التي تشير إلى تقدم كبير ومحسوب الخطى للجيش السوداني هي أبلغ أهمية من الانتصار الأخلاقي الذي حققه الجيش السوداني على مليشيا الدعم السريع المتمردة عليه منذ منتصف ابريل الماضي. إذ أن القضاء على هذه المليشيا خلال أسابيع قليلة تمت التضحية به لأجل تقليل الخسائر وسط المدنيين وهم من تستهدفهم المليشيا بشكل رئيسي في أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وشمل ذلك الهدف الأخلاقي التقليل من الخسائر وسط ضباط وجنود الجيش، بالإضافة إلى تقليل الخسائر في المواقع الحيوية والاستراتيجية والبنى التحتية. في المقابل كانت المليشيا تستهدف المواطنين وتدمير البنى التحتية والمؤسسات العامة عن قصد وسوء نية وتدفع بآلاف من عناصرها في عمليات انتحارية وكأن حياتهم ودماؤهم بلا ثمن في سبيل تحقيق أهداف آثمة لقيادة المليشيا وأسرة أل دقلو ومن يقف خلفهم من وراء البحار والصحاري. لقد كانت هذه الحرب أكبر من كونها حربا غير تقليدية أو حرب مدن، لكونها تأسست على قدر كبير من الغدر والخيانة. كان الموقف العملياتي قبل الحرب يشير إلى وجود نحو 100 ألف من عناصر المليشيا في العاصمة المثلثة الخرطوم بكامل عتادهم وتسليحهم بينما كان في الطريق إليهم آلاف أخرى تحركت نحوهم ولم يكن وجودهم في معسكرات خارج العاصمة وإنما كانوا جزءًا لا يتجزأ من التي عُهد إليها بتأمين المؤسسات الحيوية، بينما لم يتجاوز عدد قوات الجيش نحو 37 ألفا بالعاصمة الخرطوم بينما البقية تحرس ثغور وأصقاع البلاد المنتشرة في 18 ولاية فيما تعادل مساحة إقليم دارفور وحدها مساحة فرنسا. ولذا كانت الخرطوم كلها بسكانها ومؤسساتها رهينة لدى المليشيا ساعة إطلاقها الرصاصة الأولى للحرب، وهي تظن أن إستلام السلطة سيكون خلال بضع ساعات بل كثير من الخبراء العسكريين حول العالم اندهشوا بعد إفشال الجيش السوداني هذا المخطط الإجرامي المحكم. ولعل ما يشير إلى السيطرة شبه الكاملة للجيش للعاصمة الخرطوم وصول رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش نهاية الأسبوع المنصرم إلى المسافة صفر التي تفصل بين قوات الجيش وفلول عناصر المليشيا المتقهقهرة في مدينة أمدرمان الجزء الغربي من العاصمة الخرطوم، وتفقد قواته ومخاطبتهم ومباركة انتصارهم وتقدمهم. في موازاة ذلك بلغ استعداد وجاهزية المقاومة الشعبية ذروته بل بعضها انتظمت في الصفوف الأمامية جنبا إلى جنب مع قوات الجيش. ولابد من الإشارة هنا إلى أن هذه المقاومة في تكوينها تشبه تكوين الجيش باعتباره مؤسسة قومية، من حيث أنها ضمت كل السودانيين باختلاف توجهاتهم، تقف من وراءها رموز ثقافية وفكرية ونخبوية من مختلف التيارات السياسية. وليست البندقية التي تحملها المقاومة الشعبية، بندقية سياسية كما كان الحال في الحركات السياسية المسلحة بدءًا من حركات جنوب السودان وانتهاءً بحركات دارفور، إذ ارتبطت بأهداف سياسية جهوية ومناطقية وتحولت أهداف أغلبها إلى سعي لاقتسام السلطة بقوة السلاح. إن التلاحم القوي بين الجيش والمواطنين ومقاومتهم الشعبية، فوت فرصة الترويج لمحاولة انقلابية ضمن الحرب النفسية ضد الجيش لصالح المليشيا من وراء البحار والتي تتورط فيها مؤسسات إعلامية بعينها. وبدا خبر الانقلاب ساذجا بالنظر إلى استحالة قيام محاولة انقلابية في الظروف الموضوعية الحالية، ومن لديه علم متواضع بالظروف المواتية للانقلاب العسكري يعلم أن بقاء الجيش في حالة استعداد مائة بالمائة بسبب حالة الحرب التي يخوضها، يصعب معها تنفيذ أي انقلاب. كما أن المناطق التي عادة ما يستهدفها الإنقلابيون مثل الإذاعة والتلفزيون وقيادة الجيش والحاميات العسكرية بالعاصمة كثير منها محل نزاع وبدون فعالية تذكر حتى في حال الاستيلاء عليها، إذ أن أجهزة الدولة وقيادتها لا وجود لها حاليا بالعاصمة وانتقلت إلى مدينة بورتسودان في شرق البلاد. ويبدو أن ما حدث هو اجتهاد حميد من بعض الضباط في منطقة أمدرمان تحت قبضة سلطان الحماس الزائد وفي اطار هامش صلاحية الضباط الميدانيين اتخاذ قرارات وتحركات ميدانية دون الرجوع إلى القيادات العليا. لكن ذلك أدى للاستفسار والتحقيق في الأمر وفق النسق المتبع ضمن قوانين الضبط والربط في الجيش، وقد عاد الضباط لعملهم الميداني في قيادة وحداتهم، فالواقعة مضى عليها نحو عشرة أيام عند الترويج للخبر. وبالتوازي مع العمل العسكري الميداني جرت مفاوضات قيل أنها انعقدت في المنامة على أساس منبر جدة، مع دخول وسطاء جدد. وترى الحكومة السودانية أنه لا بأس من تحقيق السلام عبر التفاوض إن التزمت مليشيا الدعم السريع بما تم الاتفاق عليه في منبر جدة وهو وقف حرب المليشيا ضد المدنيين والخروج من مساكنهم وكل الأعيان المدنية التي تحتلها وإلا تستمر خطة الجيش في حصارهم وقطع الامداد عنهم حتى تستلم تماما كما يحدث الآن في مدينة أمدرمان. وعلى ما يبدو أن نطاق هذه المفاوضات منحصر في الجانب العملياتي والإنساني ولا يشمل أي مفاوضات سياسية. وقد أعلنت الحكومة أن التفاوض السياسي سيكون داخل السودان ويشمل كل القوى السياسية وليس من بينها المليشيا كجهة إعتبارية، لكونها فاقدة لأي مشروعية سياسية بسبب جرائمها فضلا عن حلها وتصنيفها منظمة إرهابية وصدرت تجاه قيادتها اتهامات وادانات دولية. ويشمل حوار الداخل ترتيبات الفترة الانتقالية ومتطلباتها والدخول مباشرة في إجراء انتخابات ولن تستغرق العملية وقتا طويلا. إن الحوار الذي جرى لم يكن تنازلا ولا ضعفا بل هو جزء من اسلحة المعركة المستخدمة لإعادة الأمن والإستقرار إلى ربوع البلاد لاسيما وأن الجيش هو الطرف الاقوى ظرفيا وبالتالي فهو الكاسب سلما أو حربا. بيد أن من المهم أن ينتبه الجيش لما يحاك عبر التفاوض من خلال ما يسمى بمسار العمل الإنساني، فكثيرا ما كان مثل هذا المسار طوقا يستخدمه الداعمون الخارجيون لعملائهم في مثل هذه النزاعات، فالمليشيا الان مهزومة أخلاقيا وعسكريا وتحتاج لمثل هذا الطوق لإنقاذها.
882
| 10 فبراير 2024
سمة الحياة السياسية الغالبة هي الصراع؛ ولكنه قد يتخذ أشكالا وأدوات مدمرة تقوض المجتمع والدولة. ولحصر الصراع السياسي في نطاق السلمية والقانون والحدود المقبولة، فلابد من دستور محترم ومؤسسات قوية تحميه. وقد يتفوق المجتمع السياسي على الدستور والقوانين المنظمة إن سادت الأخلاق في ظل إعلاء لقيمة الوطن والمجتمع. ولعل المجتمع السياسي وتنظيماته المختلفة هم الأكثر عرضة للوقوع في شباك إغراءات المتربصين بأمن واستقرار الدولة والمجتمع. فتُنصب شباك الاصطياد عبر المال الأجنبي المشروط بتنفيذ أجندته، ويظن من يقع في هذه الشباك أن المال هو الطريق المعبد للقضاء على الخصوم وأيسر من طريق الانتخابات الصعب الذي لا يجيد السير فيه إلا من استجاب برنامجه لتطلعات الناخبين. ضجت الساحة السياسية السودانية الأسبوع الماضي بجدل كثيف حول اعتراف تنظيمات سياسية بتلقي دعم مالي من منظمات أجنبية وربما طغى على أخبار العمليات العسكرية بسبب التمرد على الدولة الذي تقوده مليشيا الدعم السريع. وقالت الناطقة باسم مجموعة «تقدم» في إفادتها التي فجرت الجدل، انهم يتلقون الدعم المادي لتمويل أنشطتهم السياسية من المعهد الديمقراطي الوطني الأمريكي المعروف اختصارا بـ”NDI”ومنظمة أخرى كندية وقالت انها منظمات غير حكومية تعمل على دعم الديمقراطية في الدول الافريقية. و»تقدم» هي ذاتها «قحت» تحالف الحرية والتغيير الذي تسيد الساحة السياسية بعد الاطاحة بنظام الرئيس عمر البشير في ابريل 2019. ويذكر الناس أن «قحت» عندما كانت تحكم خلال فترة حكومة عبد الله حمدوك، أن نائبة مدير المعونة الأمريكية أحد أجهزة تجنيد الجواسيس، كانت قد أعلنت عن تخصيص 100 مليون دولار لمنظمات «قحت». كما خصص الأوروبيون 7 ملايين يورو سنوياً لحمدوك وطاقمه، باعتراف الذين عملوا مع حمدوك في مجلس الوزراء. ومعروف أن العمل السياسي نشاط حساس جدا لا يجب أن يكون تمويله بغير اشتراكات العضوية أو من متبرعين وطنيين من العضوية أو عبر استثمارات مشروعة تتمتع بكامل الشفافية مثل إصدار الصحف ودور النشر، وذلك لارتباطه بالأمن الوطني. فحتى التمويل الذي يأتي من جهات داخلية يمكن أن يطعن في نشاط المؤسسة الحزبية فما بال الأمر إن جاء من منظمات وكيانات أجنبية؟ فلا يعفي أن الممول الأجنبي منظمة غير حكومية أو أنها تتدثر بعناوين براقة مثل دعم الديمقراطية والسلام. والمؤسسة الأمريكية التي ذكرتها المتحدثة باسم «تقدم» وهي ”NDI”، كان الغرض من إنشائها هو تنفيذ سياسات الحزب الديمقراطي الأمريكي في العالم عبر الأحزاب السياسية والمنظمات وترأسها مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة وكانت من أشد المؤيدين لغزو العراق وأعتبرت قتل الأطفال العراقيين ثمنا لتنفيذ سياسات بلادها في العراق. وعوضا أن يمول الحزب الديمقراطي الأمريكي الأحزاب السياسية والمنظمات في دول العالم بشكل مباشر كان معهد ”NDI” وسيطا ليرفع الحرج عن الأحزاب التي تمتد يدها لاستلام العون المقدم. ويذكر تقرير صحفي أن «كثيرا مما تقوم به المنظمات اليوم كان يتم في السابق بشكل سري على يد الاستخبارات المركزية الأمريكية». وكذلك الحزب الجمهوري الأمريكي لديه مؤسسة على نسق ”NDI” باسم المعهد الجمهوري للدولي تعرف اختصار بـ «IRI”. إن الحساسية تجاه هذا النوع من التمويل لها ما يبررها عبر أمثلة وتجارب حية استخدم فيها هذا النوع من التمويل في أغراض سياسية، ومخابراتية. فتاريخ المخابرات المركزية الامريكية يحوي مئات الأمثلة المشبوهة عبر تمويل الانقلابات، والأحزاب والمؤسسات الإعلامية. لقد ظلت على الدوام الشروط السياسية للمساعدات الأمريكية هي أداة لتحقيق الإصلاحات السياسية الشكلية، ولم تسفر عن أي إصلاحات سياسية حقيقية. وفي كثير من الأحيان دعمت هذه المساعدات بقاء النظم القمعية الحليفة للولايات المتحدة التي جاءت إلى السلطة بالوسائل العسكرية وحافظت على وجودها بفضل هذه المساعدة ودعمت شرعيتها من خلال السماح بالتعددية الحزبية والمنافسة غير المتكافئة في الانتخابات التي شابها الكثير من الانتهاكات السياسية مثل التزوير وقمع المعارضة. إن للصـندوق الوطني للديمقراطية «NDI” تاريخا طويلا في التحريض على الثورات الملونة ضد البلدان المعادية. فقد كشفت وثائق مبكرة للصندوق الوطني للديمقراطية عن أنشطة قام بها الصندوق بشكل رئيسي في أوروبا الشرقية لهدم سلطة الدولة في وقت مبكر من أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. كما كان عاملا تمكينيا مهما وراء «الربيع العربي». ففي مصر واليمن والأردن والجزائر وسوريا وليبيا ودول أخرى، قدم الصندوق الوطني للديمقراطية دعما ماليا لأفراد وجماعات مؤيدة لأمريكا من خلال دعم أنشطة تدعي مناصرة المرأة وحرية الصحافة وحقوق الإنسان. المراقبون السياسيون يجزمون بأن الولايات لا تهتم بتحقيق أي تحول سياسي في دولة من الدول إلا إذا كان هذا التحول يتفق مع مصالحها وأطماعها. ولذلك أتبعت سياسة انتقائية في تعاملها مع النظم في العالم الثالث لاسيما في الدول الأفريقية. بل كانت نتائج هذه السياسة دخول العديد من الدول الأفريقية في حروب أهلية وإقليمية، حيث حظيت بعض النظم التي تنتمي إلى جماعة أثنية بعينها بالمساعدات في مواجهة الجماعات الأخرى، وهذا ما أدى لتمزيق النسيج الوطني. ولتعلم التنظيمات السياسية في العالم الثالث وأفريقيا أن التحول الديمقراطي المنشود لا يمكن فرضه من الخارج، إذ أنه عملية تفاعلية وطنية ومخاض تجارب من واقع المجتمع المحلي، ولو صدق الممولون الغربيون، وهذا أمر مشكوك فيه تماما فإنه من الصعب تطبيق الاتجاه الديمقراطي الغربي على الدول الأفريقية والعالم الثالث، فلكل تطوره السياسي والاجتماعي الخاص به.
873
| 03 فبراير 2024
الإرادة الشعبية مصطلح يستخدم في العديد من السياقات المختلفة، ويمكن تعريفها بتعريفات واصطلاحات عديدة لكنها لا تخرج عن كونها تمثل العقل الجمعي لمجتمع من المجتمعات أو لشعب من الشعوب. فهي رأي الشعب، والرأي العام، وصوت الشعب، وروح الشعب. والمصطلح الأكثر شيوعاً والأكثر صدى في العالم العربي هو الجمهور العربي أو حـرفياً الشارع العربي. وتحظى الإرادة الشعبية بأهمية كبيرة في السياسة، حيث يتم الاعتماد عليها في اتخاذ القرارات على مستوى إدارة الدولة في حالة الحكم الرشيد لا السلطوي الديكتاتوري. وتؤدي الإرادة الشعبية إلى انبثاق مشروع وطني وربما مشروع إقليمي عربي أو إسلامي. وكلما ازدادت إرادة الشعوب تماسكا وحيوية كلما انعكس ذلك عليها ازدهارا وتنمية وانحسر كذلك التدخل الأجنبي بشكل مباشر أو عبر وكيل محلي، وكلما تهاوت الإرادة الشعبية وغيبت وقهرت، رتع التدخل الأجنبي وسرق ثروات الشعوب وجعلها شيعا يزيق بعضها بأس بعض. وعندما تغيب الإرادة الشعبية فإن الحاجة لإصلاح اجتماعي تكون ملحة، عبر التثقيف والتعليم بأدوات الإعلام ومؤسسات التربية والتعليم. وقد يمثل الرأي العام الإرادة الشعبية في مرحلتها الأولى والأساسية، فالرأي العام بحاجة إلى ديناميكية تنفيذية ليغدو إرادة شعبية تحدث فعلا وتغييرا. ويمكن اعتبار الرأي العام مجموعة الضغوط والأحكام التي تصدرها الجماهير على عمل ما، وهو تيار يسير عبر الجماهير، ثم تتشكّل عنه طاقة لها فعالية في عمليات التغيير الاجتماعي. وقد تكون الانتخابات ديناميكية مهمة لتجسيد الإرادة الشعبية من اختيار ممثلي الشعب في البرلمان أو اختيار رأس الدولة. ومع كون الرأي العام يبدو كائناً هُلاميا قبل مرحلة الإرادة الشعبية، لكنه بالغ التأثير خاصة إذا تسلّح هذا الكائن بالوعي والقُدرة على التميّيز، وفارق صفوف الأُمية واللامبالاة والانسياق الأعمى خلف شعارات أو مقولات مذوّقة. ويمكن أن يعتبر الرأي العام صورة من صور السلوك الجماعي تمخضت عن جدل بين أفراد متعددين تعنيهم المسألة التي يتعلق بها هذا السلوك أو هذه المناقشة ويتجهون لتحقيق هدف أو غاية مشتركة. إن الرأي العام قوة ذات أثر كبير في حياة الناس اليومية؛ فهو الذي يؤازر هيئات الخدمة العامة وهو الذي يرعى التقاليد الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية أو يتنكر لها، وينفخ في الروح المعنوية أو يُثبّطها. وقد عرف الفكر السّياسي والاجتماعي الرأي العام بمفاهيم مختلفة كإرادة الأمة، ومشيئة الشعب. بيد أن الإرادة الشعبية إما تتمخض عن برلمان منتخب وممثلا تمثيلا حقيقيا، أو ترتضي نظام حكم يمثل الإرادة الشعبية ويستجيب لها طوعا وكرها، أو أن ينتج عن مصادمة الإرادة الشعبية ثورة شعبية إلا إذا لم تسرق ويغير مسارها كما في ما عرف بثورات الربيع العربي آخرها ما يحدث في تونس وبشكل أكثر مأساوية في السودان. ويُعتبر الرأي العام مظهراً مباشراً لوجود المجتمع السّياسي، ويرتبط بالوعي السّياسي لدى شعب من الشعوب. فينشأ الرأي العام نتيجة لنشأة الوعي السّياسي لدى الجماهير، ويساعدها الرأي العام في إعمال الفكر وإبداء وجهات النظر تجاه ما يُثار من جدل ونقاش حول القضايا العامة التي تمس المصالح الجوهريّة للشعب. تاريخيا تبلور الرأي العام العربي قبل الإسلام من خلال بعض المؤسسات القبلية، كمجلس الملأ، أو مجلس شورى القبيلة، المتكون من رؤساء الأقوام أو الأسر الممثلين لقبائلهم، كدار الندوة التي اتخذت مركزاً يجتمع فيه شيوخ قريش إذا ما طرأ لهم أمر ما. وكان سوق عُكاظ الشهير صورةً حيةً من صور مؤسسات الرأي العام كوعاءٍ أوسع يجمعُ كل عرب الجزيرة العربية. وكان سوقا حددت قريش زمانه ومكانه (في الأشهر الحُرم وفي مكان بين الطائف ومكة) بعد أن رأت أن الخطر يهددها من الأحباش وغيرهم. وأراد رؤساؤها جمع العرب على كلمة واحدة ضد هذا الغرض وغيره بعد عام الفيل. وعُكاظ بهذا تُعتبر ندوة سياسيّة كبرى تقضى فيها أمور كثيرة بين القابل: فمن أراد إعلان حربٍ على قومٍ أعلنها في هذا السوق. وهناك علاقة جدلية تربط السلطة السياسية والفكرية والاجتماعية بوسائل الإعلام، هي علاقة تحكمها المصالح المتبادلة بين هذه الأطراف ووسائل الإعلام في الدول الديمقراطية، بينما تحكم تلك العلاقة التوجهات السياسية والفكرية والاجتماعية للدول غير الديمقراطية والتي لا تزال تسيطر على وسائل الإعلام بشكل مباشر أو غير مباشر. وتشير مُعطيات إحدى نظريات الإعلام إلى أنه كلما تبنّت وسائل الإعلام اتجاهاً ثابتاً ومتسقاً من إحدى القضايا لبعض الوقت، فإن الرأي العام يتحرك في اتجاه وسائل الإعلام نفسها. وينبني الرأي العام على ما تبثُّه وسائل الاتصال الجماهيرية بشكل أساسي. ويصعب تصور مثل هذا الرأي في مجتمع لا توجد فيه هذه الوسائل بشكل واضح. إن وسائل الاتصال الجماهيرية سواء كانت في البلدان ذات الطبيعة الليبرالية أو التي تقوم على أساس ملكية الدولة، أو في البلدان المسماة بالنامية، هذه الوسائل وثيقة الصلة، ولو بدرجات متفاوتة، بمؤسسة الدولة. ومع انتشار وتطور وسائل الإعلام تكنولوجيا لا سيما عبر وسائل التواصل الإعلامي تبرز مشكلات المواد الكاذبة قصدا أو بدون قصد ومحاولات الأنظمة السياسية احتلال عقل الجماهير وتسخيره لخدمة مصالح الأنظمة الحاكمة لا مصالح الجماهير عبر الإعلام لنصل إلى حقيقة مرة وهي تزوير الإرادة الشعبية. وهناك سؤال مُلحٌّ وهو هل فعلا أن الرأي العام في النظام الديمقراطي هو الذي يقرر، أم أن وسائل الإعلام هي التي تقرر ما ينبغي لهذا الرأي العام أن يقرره مع إيهامه بأنه صاحب المبادرة والحرية المطلقة في قراره؟. نعم إلا إذا عملت وسائل الإعلام بدون نوايا سيئة أو غدت أداة طيعة لدى النخب الحاكمة وذلك بأن تعمل على تحقيق أكبر قدر من التأثير المعرفي والعاطفي والسلوكي ويزداد ذلك عندما تقوم هذه الوسائل بوظائف نقل المعلومات بصدقية وبشكل متميز مكثف.
720
| 27 يناير 2024
ما كان لأحد أن يتصور أن خلل المعايير الذي يضرب بالقيم والأخلاق في هذا العالم المضطرب أن يصل للحد الذي يتجول فيه قائد عصابة للقتل والنهب والاغتصاب، بين ردهات اجتماعات لقمة رؤساء دول منظمة «الإيقاد»، ثم يسمى ذلك بحثا عن السلام. فلم تدع «الايقاد” للسودان بُدا من اتخاذ قرار صائب بتجميد عضويته في هذه المنظمة المتهالكة التي مضت في غيها متعمدة العبث بأمن واستقرار البلاد ومس سيادتها الوطنية. وكان تجاهل المنظمة لقرار السودان، الذي كان قد نقله إليها رسميا بوقف انخراطه وتجميد تعامله معها في أي موضوعات تخص الوضع الراهن في البلاد، القشة التي قصمت ظهر البعير. بل إن بيان قمة كمبالا حمل عبارات تنتهك سيادة السودان، وتستفز مشاعر ضحايا الفظائع التي ترتكبها المليشيا المتمردة وذووهم. وأكد السودان بأنه غير ملزم ولا يعنيه كل ما يصدر من «الإيقاد” فيما يخص شأنه. ولعل ما يقتضي البحث عن السلام أو أن يتجشم رؤساء دول الاجتماع للصلح بين طرفين هو أن تكون هناك قضية سياسية أو مطالب سياسية لطرف من الأطراف له مشروعية سياسية نتيجة لهذه المطالب أو القضايا السياسية؛ أما تأتي عصابة أو مليشيا مسلحة ليس لها مشروع سياسي وتفعل في المدنيين الآمنين ما فعله المغول والتتر في غابر الزمان، ثم يستقبل قائدها استقبال الرؤساء ويحتفى به احتفاء الكرام، فهذا ما أتت به منظمة «الإيقاد» التي تركت مكافحة الجراد لتخوض في هذا الوحل وتنال من سيادة دولة عضو ومؤسسة لهذا التجمع الذي فقد البوصلة تماما. لقد تجاهلت «الإيقاد» عمدا جرائم مليشيا الدعم السريع في المواطنين السودانيين، وهي جرائم وثقها أفراد المليشيا بأنفسهم غباء أو مجاهرة بالسوء وتحديا لكل الأعراف والقيم. فهل كانت تلكم المجاهرة لعلمهم بأن منظمة (محترمة) يمكن أن توفر لهم ملاذا وغطاءً سياسيا؟. في نهاية القمة التي عقدت في أوغندا قال قائد مليشيا الدعم السريع وهو شخصية ما زالت الشكوك تحوم حول حياته أو موته، عقب مشاركته في تلك القمة: (إن القمة كانت فرصة لتقديم شرح مفصل لرؤساء دول المنظمة بشأن أسباب نشوب الأزمة في السودان). إذن استمعت «»الإيقاد»» إلى القاتل وهو يزعم بأنه هو الضحية. المدهش أن «الإيقاد» لم يسبق لها دعوة على سبيل المثال دعوة زعيم حركة التقراي الأثيوبية رغم أنها حركة ذات مشروع سياسي وليس لديها سجل إجرامي تجاه المواطنين العزل. وحتى القمة الأخيرة في أوغندا رفضت أثيوبيا حضورها لأنها أدرجت مناقشة مشكلتها مع الصومال الناتجة عن توقيع أديس أبابا اتفاقا عسكريا مع جمهورية أرض الصومال المنفصلة من جانب واحد من الصومال ولم تحظ بأي اعتراف دولي حتى الآن. واعتبر ذلك الاتفاق غير قانوني، وخارج نطاق القواعد الدولية، وعُدّ تعديا على سيادة الصومال، وتهديدا لوحدته واستقلاله. وظلت أثيوبيا وهي عضو فاعل في «الإيقاد» تتفاخر بأن قضياها ممنوعة من التدويل ولا تسمح بمس سيادتها الوطنية. فالسيادة الوطنية التي يتمتع بها السودان تقضي أن يحدد السودان كيف يتم حل مشاكله ومن يضطلع بها ممن يثق فيهم إذا اقتضى. كما أي وساطة في أي نزاع أو خلاف تقتضي موافقة الطرفين ولا يمكن فرض الوساطة على طرف من الأطراف. حتى الأمم المتحدة لا تستطيع فرض حلولها إلا عبر البند السابع الذي يتطلب اجراءات تشمل موافقة الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن الدولي. وتقول المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة، انه (ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطات الداخلية لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخلّ بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع). وتتأبط «الإيقاد» مبادرة بايعاز خارجي تمس السيادة الوطنية السودانية فقد اقترحت مبادرة بآليات لا يمكن أن يقبلها الجيش السوداني اذ تُخِلُّ بالتوازن العسكري، مثل نزع السلاح من العاصمة التي تضم أهم مقرات الجيش الأساسية. وكذلك مقترح بحظر الطيران ومنها وآخر بإدخال قوات افريقية للسودان دون التشاور معه وكلها مقترحات تمس بسيادة البلاد.
507
| 22 يناير 2024
مساحة إعلانية
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات...
4503
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه،...
3369
| 29 سبتمبر 2025
بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون...
1344
| 28 سبتمبر 2025
أُنّشِئت الأمم المتحدة في العام ١٩٤٥م بعد الحرب...
1197
| 28 سبتمبر 2025
في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ...
1068
| 02 أكتوبر 2025
من أخطر ما يُبتلى به التفكير البشري أن...
1059
| 29 سبتمبر 2025
منذ أكثر من مائة عام ارتُكبت واحدة من...
885
| 30 سبتمبر 2025
في لحظة صفاء مع النفس، يطلّ النسيان عليَّ...
843
| 30 سبتمبر 2025
كم مرة قلت «نعم» في العمل بينما في...
669
| 02 أكتوبر 2025
كيف نحمي فرحنا من الحسد كثيرًا ما نسمع...
612
| 30 سبتمبر 2025
في فجرٍ قطريّ عليل، كان البحر يلمع بألوان...
609
| 30 سبتمبر 2025
لسنا متشائمين ولا سلبيين في أفكارنا وتوقعاتنا ولكن...
573
| 03 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تابع الأخبار المحلية والعالمية من خلال تطبيقات الجوال المتاحة على متجر جوجل ومتجر آبل