رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
فظاعة جرائم مليشيا الدعم السريع في السودان جعلت الناس يستعجلون الجيش لحسم هذه المليشيا، فالجرائم التي ارتكبتها لا يكاد المرء يحصيها ولا يعدها، ولا يتخيلها حتى منتجو أفلام الرعب. وربما الجيش كان أكثر استعجالا لحسم المعركة لكن المعطيات على الأرض كانت تشير إلى أن المعركة ستطول طالما كان الهدف الأسمى الحفاظ على أرواح المواطنين والجنود والبنى التحتية. وبالضرورة يتطلب ذلك خطة عسكرية احترافية ثمنها كثير من الوقت. ولعل حديث قادة الجيش كان منذ بداية المعركة التي اندلعت في 15 ابريل الماضي، بأن المعركة ستطول وان الاستراتيجية التي اعتمدوها تختلف عن النهج والطريقة التي تقاتل بها مليشيا الدعم السريع؛ فالأخيرة قوات قليلة التدريب ولا تهتم قيادتها بحياة وسلامة عناصرها، فهم عندهم مجرد كم، مثله مثل أي عتاد عسكري. وقد مرت المعركة بالنسبة للجيش بثلاث مراحل؛ الاولى مرحلة امتصاص الصدمة حيث المليشيا فاجأت الجميع بمغامرتها غير المحسوبة النتائج، المرحلة الثانية التمركز وأخذ وضعية الدفاع، أما المرحلة الاخيرة هي مرحلة الهجوم وهي المرحلة التي بدأ الجيش يحقق فيها انتصاراته. وفي كل هذه المراحل كان هدف الحفاظ على ارواح المواطنين والجنود والبنيات الاساسية مقدما على هدف تحقيق أي نصر محدود. وخلال هذه المراحل قصد الجيش كذلك استنزاف قوة وعتاد المليشيا وربما الدعم الخارجي قد أسهم في طول أمد الاستنزاف. بيد أن ما ساعد الجيش كثيرا قرار المليشيا الهجوم على ولاية الجزيرة وسحب جزء كبير من قواتها من الخرطوم لدعم ذلك الهجوم. وولاية الجزيرة منطقة سهلية مترامية الاطراف وليس فيها اهداف عسكرية كثيرة ولذا تورطت المليشيا فيها واستنفدت قوتها العسكرية دون أن يكون في مقابل ذلك تحقيق اهداف عسكرية ملموسة.
ومع مرور الوقت وطول امد الحرب التي اعتقدتها المليشيا وداعموها انها ستكون خاطفة، واجه الدعم الخارجي مشاكل لوجستية ومع تحسن اداء الجيش كما ونوعا في استخدام الطيران التقليدي والمسيّر تمكن الجيش من استهداف مخازن وقوافل الدعم الخارجي، فضلا عن انشغال دولة ممر الدعم بأزمة سياسية داخلية مسلحة. كما أن تورط المليشيا في جرائم الحرب وتصاعد الادانات الدولية لها جعل منها تنظيما بلا مشروعية اخلاقية وغير ذي جدوى ليتبنى أي مشروع سياسي لحكم البلاد وكل ذلك قلل من تدفق الدعم الخارجي.
على صعيد آخر ظل الجدل في صالونات السياسيين يدور حول الحرب والسلام تدفع به الأجندات الخارجية قبل الداخلية. ولأن عادة السياسيين الجدل، والجدل عندهم مطلوب في ذاته لإخفاء الحقائق والقفز فوقها، أحيانا بمهارة وكثيرا من الأحيان بسذاجة، وصولا إلى تعكير المياه للصيد فيها صيدا آثما. ولذلك فإن موضوع الحرب والسلام ظلوا يشعلون فيه عمدا جدلا يفوق جدل (البيضة أولا أم الدجاجة)، حتى يظن الظّان أن منشأ جدل الحرب والسلام هو عوالم غارقة في الميتافيزيقيا. ولا يعلم السياسيون أنه حتى معضلة جدل (البيضة أم الدجاجة أولا) قد وصل فيها العلماء إلى حقائق قد تحبط هذا الجدل الفلسفي، غير أنهم لا يزالون في غيهم سادرين.
فلو أن بعض السياسيين في السودان يجادلون لشيء في نفس يعقوب بأن السلام يسبق الحرب بمعنى أنه لو قامت حرب ما فعلى المُعتدى عليه أن يوقفها ويلقي سلاحه ليأتي السلام!. هذه هي الدعوى المرتبكة التي يرفعها بعضهم من خارج الحدود تحت شعار (لا للحرب). وفي هذا قلب للمنطق ورغائبية عاصفة متوثبة. فالحرب التي تُفرض على شعب آمن مطمئن وهو الطرف المُعتَدى عليه لا يعقبها سلام إلا برد المعتدي وتدمير قدرته على الإيذاء وارتكاب الجرائم. إذن في هذه الحالة فإن كان بيض الدجاج سبق الدجاج، فإن ذلك يتوقف على طبيعة البيض، وسنقول انها بيضة دجاجة إن كانت تحتوي على دجاجة بداخلها، فإذا ما وضعت الحمامة بيضة وفقست معطية خفاشا، فإنها ستكون بالتأكيد بيضة خفاش، لا بيضة حمامة. (والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء!) كما قال الشاعر محمد الفيتوري في قصيدته (ياقوت العرش).
لقد وضعت المواثيق الدولية قانونا للحرب وحق الحرب؛ حيث إن قانون اللجوء إلى الحرب هو القواعد القانونية الدولية التي تنظم اللجوء إلى القوة، أما قانون الحرب فهو القواعد القانونية التي تحكم العلاقة بين المتحاربين، أثناء وما بعد الحرب. السلام هو أكثر من مجرد غياب العنف. ففي حين أن الفترة التي تلي توقف القتال والعودة إلى الحياة الطبيعية أمر مرحب به، فإن الاستقرار غالباً ما يخفي حقيقة أن المظالم أو الأسباب الأخرى للنزاع لم تتم معالجتها وقد تطفو إلى السطح مجدداً.
ولذلك لابد أن يرتكز بناء السلام على التعامل مع الأسباب الكامنة وراء اقتتال الناس فيما بينهم في المقام الأول إلى جانب دعم المجتمعات لإدارة خلافاتها ونزاعاتها دون اللجوء إلى العنف. فاﻟﺴﻼم ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻘﺮار واﻻﻃﻤﺌﻨﺎن اﻟﺬي ﻳﻌﻴﺸﻪ المجتمع واﻷﻓﺮاد وﻳﺘﻤﺘﻊ اﻟﻔﺮد ﻓﻴﻪ ﺑﻜﺎﻓﺔ ﺣﻘﻮﻗﻪ ويمارس واﺟﺒﺎﺗﻪ واﻟﺘﺰاﻣﺎﺗﻪ دون ﺿﻐﻂ أو إﻛﺮاه. ويتحول السلام لاحقا لفعل ايجابي حين يعيش جميع أفراد المجتمع في أمن وسكينة، دون خوف أو تهديد بالعنف، وليس ذلك طوعا أو بالتمني إنما بحماية القانون الصارم وبأنظمة عدالة موثوقة. وهنا يتحقق السلام المجتمعي الذي هو خلاصة سلام سياسي واقتصادي وفكري وعقائدي، فهو الاتفاق على خطوط عريضة تشكل مبادئ، وتتعمق فتصبح قيماً تقبلها مختلف الشرائح والطبقات. ويتمحور السلام المجتمعي حول تطوير العلاقات الشخصية والجماعية والسياسية البناءة، عبر الحدود العرقية والدينية والطبقية والقومية والعنصرية. وهو كذلك التفاهم الجوهري على القضايا التي تكتسب أهمية قصوى والاعتراف بها وتطبيقها وجعلها أشبه بالسلوك اليومي.
Bien hecho España
مع احترامنا لجميع الدول التي ساندت أهل غزة والحكومات التي كانت تدين وتندد دائماً بسياسات إسرائيل الوحشية والإبادة... اقرأ المزيد
198
| 27 أكتوبر 2025
التوظيف السياسي للتصوف
لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح فارقا مهما بين شيئين: الأول هو «التصوف» الذي تختلف الناس... اقرأ المزيد
105
| 27 أكتوبر 2025
عن خيبة اللغة!
يحدث أحيانًا أن يجلس الكاتب أمام بياض الورق أو فراغ الشاشة كمن يقف في مفترق لا يعرف أي... اقرأ المزيد
165
| 27 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6336
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5091
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3825
| 21 أكتوبر 2025