رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

قراءة في فوز حزب العمال البريطاني

ربما كان فوز حزب العمال البريطاني في انتخابات الخميس الماضي متوقعاً لدى الكثيرين، غير أن هذا الفوز الكاسح لم يكن متوقعاً حتى لدى أكثر المتفائلين في حزب العمال نفسه. فقد حصل الحزب على أكثر من نصف مقاعد البرلمان (مجلس العموم)، بحصوله على 326 مقعداً من 650 مقعداً هي اجمالي عدد مقاعد البرلمان، فيما حصل في آخر انتخابات على 365 مقعداً. بينما حقق حزب المحافظين الذي حكم بريطانيا لسنوات عجاف على أسوأ نتيجة انتخابية له منذ مطلع القرن العشرين، حيث حصل فقط على 131 فحتى حظه في معارضة قوية بدا ضعيفاً. ومع هذا الفوز الكبير لحزب العمال لا يبدو أن سفينته ستبحر في بحر هادئ غير لجي لا يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، إذ أن أغلبية مقدرة من البريطانيين لم تعد تثق في الأحزاب السياسية ولا تؤمن بها، في يوم الانتخابات سألت سائق تاكسي ظل يعمل في هذه المهنة أكثر من 25 عاماً، كيف يسير التصويت فأجاب باستياء بأنها لا تعنيه فكلهم من طينة واحدة لا فرق بين حزب وآخر، وكلهم كذابون وأضاف ألتي اليوم كيف بدت مراكز الاقتراع خالية؟. وقد يكون كلامه غير دقيق وفيه تعميم لكني شخصياً شهدت مركزاً في منطقة فيها كثافة سكانية بدون صفوف، وقد هيأت نفسي لذلك. الأمر الآخر الذي قد يشير إلى هذه الحقيقة تقدم نحو 460 مرشحاً مستقلاً في عموم بريطانيا أي أنهم ينافسون على نحو 70% من البرلمان، وجزء منهم انشقوا أو أبعدوا عن أحزاب كانوا يمثلونها سابقاً لأسباب مختلفة، مثل زعيم حزب العمال السابق جيرمي كوربن، وآخرون لم ينتموا سياسياً من قبل، بيد أن العامل المشترك لزيادة عدد المستقلين هو تصاعد وتيرة ضعف الثقة في الأحزاب السياسية. وقد يسأل سائل لماذا نجح كير ستارمر - الذي عيّنه الملك تشارلز الثالث رسميا رئيسا للوزراء الجمعة - فيما فشل جيرمي كوربن زعيم حزب العمال السابق أو أبعد؟ المعروف أن كوربن صاحب خبرة أكبر من ستارمر، غير أن كوربن كان صلباً في مواقفه السياسية، وهذا ما جعل الدولة العميقة أو ما يعرف بــ(إستابلشمنت) وهي النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي القائم المتحكم في بريطانيا بما في ذلك قصر باكنغهام، أن يعتبر (متطرفاً). وقد أراد ستارمر أن يعدل سياسات خلفه كوربن في محاولة للتماهي مع (الإستابلشمنت) أو أن (الإستابلشمنت) قد جاءت به، ووضعت له برنامجه السياسي. وقد يصبح ستارمر نسخة جديدة من رئيس حزب العمال الأسبق توني بلير الذي حكم بريطانيا لفترتين، وكان حينذاك حزب العمال وكأنه يحكم بسياسات حزب المحافظين، وهو الحزب الذي ترضى عنه (الإستابلشمنت) بكل تأكيد. لذلك يعتقد المراقبون أن ستارمر ومنذ تسلمه زعامة حزب العمال قبل أربع سنوت، عمل على التحول بدفة الحزب من خط كوربن لجعله أكثر (وسطية)، لأجل أن يصبح أكثر قابلية لدعم (الإستابلشمنت). ولعل خسارة النائب الشهير جورج غالاوي لمقعده في هذه الانتخابات يشير إلى تحكم (الإستابلشمت)، فغالاوي صاحب مواقف (متشددة) تشبه مواقف كوربن ويشترك الإثنان في دعمهم المطلق للقضية الفلسطينية، وقد سحب ستارمر دعم حزب العمال له في هذه الانتخابات في اطار خطة التماهي التي اعتمدها. والسؤال هل ينتصر ستارمر لمهنيته وتخصصه ويدعم حقوق الإنسان في غزة، فالرجل تخصص بعد حصوله على شهادة المحاماة، في الدفاع عن حقوق الإنسان؟، والإجابة أن الرجل سيتخذ مواقف أفضل قليلا من المحافظين من القضية الفلسطينية لكنها ستظل رمادية لا تسمن ولا تغني من جوع. يشار إلى أن نجاح ستارمر تأسس على فشل المحافظين؛ فقد أثار تعاقب الأزمات منذ عدة سنوات العواصف على حزب المحافظين تطلعا كبيراً من البريطانيين إلى التغيير، من الانقسامات الناجمة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكسيت» في ديسمبر 2020، إلى إدارة جائحة كورونا، فضلا عن الأسعار المرتفعة ومستويات الفقر العالية والنظام الصحي العام المتهالك، والتغيير المستمر لرؤساء حكومة المحافظين ، فقد اسقط البرلمان تريزا ماي وبوريس جونسون، وليز تراس التي حكمت لمدة شهر واحد، ما دفع المحافظين إلى الإقرار بأنهم لا يسعون للفوز وإنما فقط يسعون للحد من حدة فوز حزب العمال.

711

| 07 يوليو 2024

الاتحاد الأفريقي والسودان.. «حوار الطرشان»

حوار الطرشان هو حالة تباحث يفترض أنها حتمية لا مناص منها بين جهتين لا يفهم بعضُهما بعضًا؛ والسبب العطب إما في كلتا الجهتين، أو في إحداهما. إن الحوار يعنى فى الأصل أنك مستعد للأخذ والعطاء، وأنك تبدأ معتقداً أن رأيك صواب ولكنه يحتمل الخطأ، ورأى غيرك خطأ ولكنه يحتمل الصواب، هكذا يمكن للحوار أن يبدأ وأن يكون مجدياً. لكن في «حوار الطرشان» تسيطر الرغبة الجامحة في الانتصار الصفري، فلا مكان للعقل ولا للمنطق، بل اتباع النظرة الضيقة، وربما الارتهان لقوى تدير المشهد خلف الكواليس لمصلحتها التي غالباً هي ضد مصلحة الطرفين المنغمسين في «حوار الطرشان». رشح من ضمن ما رشح في سياق سائبة الاخبار أن الاتحاد الأفريقي الذي يصر بعض المتنفذين فيه أن يبقى بئراً معطلةً وقصراً مشيداً، قد شكّل لجنة برئاسة الرئيس الاوغندي رئيس الدورة الحالية لمجلس السلم والأمن الأفريقي، لعقد لقاء جديد بين رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، ومحمد حمدان حميدتي قائد مليشيا الدعم السريع الذي يعتبر في أغلب المظان أنه في عداد الموتى. فمن مِن المتابعين لمسرح الاحداث في السودان لا يدرك أن الزعم بحضور حميدتي لأي لقاء يكاد يرقى لأن يكون تضليلاً سياسياً. كما أن الاتحاد الأفريقي منحاز حتى أخمص قدميه للمليشيا عبر مواقف جاءت تترا منذ بدء هذه الحرب بل منذ ما قبل ذلك؛ إذ كان جزءاً من الإشكال السياسي الذي أشعل الحرب. ولم يأل هذا الاتحاد جهداً في تسجيل فشل تلو فشل في أهم قضايا القارة التي تصدى لها وآخرها أزمة النيجر. وكيف لمن سارت الرياح بانحيازه المفضوح للطرف المعتدي أن يتقدم صفوف التوسط؟!.. لقد ظل استخدام تعبير “مسرح السياسة” باعتباره صيغة بلاغية تختزل وتشبّه ما يدور في دهاليز السياسة وكأنه عمل مسرحي، فالأعمال المسرحية تحاول محاكاة الواقع باستخدام اللا معقول من قول، وفعل لجذب جمهور المتفرجين؛ لكننا يبدو اليوم في حضرة مسرح سياسي أفريقي واقعاً لا تشبيهاً. فما هي فرص نجاح هذا التحرك الأفريقي المتأخر، والحرب على المواطن لا على الجيش تسجل انتهاكات فظيعة؟. الإجابة سلبية، إذ تبدو هذه الفرص صفرية وعدمية؛ فمن ناحية يجمّد الاتحاد عضوية السودان، وهنا تتجسّد حالة «حوار الطرشان»، إذ كيف تقود وساطة مع الدولة موضوع الوساطة وأنت تغلق أبواب الحوار حيث إنها ممنوعة بحكم التجميد المتعسف من حضور كل النقاشات والحوارات التي تدور في أروقة الاتحاد بخصوص شأنها الداخلي؟!. كما يتجاهل الاتحاد صعوبة أو استحالة لقاء البرهان – حميدتي، فالأخير تهرب من لقاء سابق دعت له منظمة الإيقاد لدول شرق ووسط أفريقيا، وعبر البرهان عن استعداده لحضور اللقاء – ربما لقناعته باستحالة عقد لقاء بين حيٍّ وآخر ميت – لكن حميدتي أو من يتقمص شخصيته اعتذر لـ»الإيقاد» بحجة واهية في آخر لحظة. يشار إلى أن تجميد عضوية السودان في الاتحاد جاء بعد فض الشراكة السياسية التي كانت قائمة بين الجيش السوداني، وما عرف بقوى الحرية والتغيير (قحت) عقب سقوط نظام الرئيس عمر البشير في ابريل 2019، واستقالة رئيس الحكومة عبد الله حمدوك. بيد أن الاتحاد تبنى رواية (قحت) واعتبر ذلك انقلاباً عسكرياً يقتضي تجميد العضوية. فهل انقلب البرهان رئيس مجلس السيادة على نفسه ثم عاد ونصب نفسه مرة أخرى رئيساً لمجلس السيادة؟. ولماذا تعترف الأمم المتحدة بسلطة البرهان، ويمثل بلاده في اجتماعات الجمعية العامة التي تمثل قمة لرؤساء العالم، ولا يعترف به الاتحاد الأفريقي؟. وهل كان حمدوك منتخباً ديمقراطياً من الشعب أم جاءت به تلك الشراكة السياسية المعطوبة التي ضمت الجيش، وقلة سياسية استطاعت الاستثمار في الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بالرئيس البشير؟. ولو تم تعيين اليوم رئيس وزراء جديد على رأس حكومة مدنية بصيغة اتفاق شراكة مماثل، وربما أوسع قاعدة من حكومة حمدوك، فهل ذلك سيدعو الاتحاد لفك تجميد عضوية السودان؟. المؤشرات تشير الى أن ذلك لن يحدث لأن الاتحاد مرتهن لسياسات محاور إقليمية ودولية داعمة لمليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي (قحت) التي عُدّلت وراثياً لتصبح تنسيقية (تقدم). لقد فقد الاتحاد الافريقى معظم مصادر تمويله الأفريقية بعد رحيل زعيم ليبيا معمر القذافي، وغدا يعتمد في تمويل أنشطته على الدول المانحة، وبالتالى أصبح مقيداً بتنفيذ أجندات المانحين، ودعم مواقفهم ضد الدول الأعضاء، وقد تغلغل التأثير الأجنبى في هياكل الاتحاد وأجهزته الداخلية لا سيما مجلس الأمن والسلم، أهم مؤسسات الاتحاد. ولذا فقد أصبح الاتحاد مخلبا من مخالب النظام الدولي الإمبريالي، تستخدمه الدول المتنفذة متى وكيف ما شاءت.

513

| 30 يونيو 2024

تساؤلات واستفهامات حول «الجنائية الدولية»

منذ أن بدأت المحكمة الجنائية الدولية عملها في يوليو 2002 ظلت تطاردها الاتهامات باستخدامها سياسياً من قبل بعض الأطراف الدولية المتنفذة. ومع انتخاب المدعي الجديد للمحكمة في فبراير 2021 كريم خان ثالث مدعي عام، يحاول الرجل جاهداً أن يضع المحكمة في مسار قانوني وقضائي بحت، بيد أنه غدا يسير في طريق شديد الوعورة ويراهن البعض على أن الرجل إذا ما أصر على السير فيه سيجد نفسه مبعداً، أو على الأقل لن يحظى بإعادة انتخابه. ولعل الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها محكمة العدل الدولية يناير الماضي تجاه قادة دولة الاحتلال الإسرائيلي بسبب جرائمهم في غزة، مثلت نوعاً من الضغط المعنوي الكبير على المحكمة الدولية الجنائية وسببت لها حرجاً أو تحدياً كبيراً. وربما ذلك ما دعا خان لاحقا الطلب في مايو الماضي باستصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت. على ذمة مواقع وصحف سودانية تناقلت الأسبوع الماضي خبراً مثيراً مفاده بأن كريم خان سيطلب من المحكمة الجنائية سحب أوامر القبض عن الرئيس السوداني السابق عمر البشير ووزير دفاعه عبد الرحيم حسين ووالي شمال كردفان أحمد هارون، متى ما كان ذلك مناسباً، ووفقا للقانون. وضمن ما أفادت به تلك الصحف والمواقع؛ أن السبب الذي نقلته عن خان هو: أن البينات غير كافية لتقديم البشير، أو عبد الرحيم، أو هارون إلى المحاكمة. وشدد خان على أنه مستقل ولا يتدخل أحد في عمله. وحتى تتأكد صحة هذه الأنباء؛ فإن صحت، فإن كيمياء السياق الدولي - دبلوماسياً وإعلامياً - لا يسمح بنشر وتداول مثل هذه الأخبار بشكل واسع ومكثف، وتبقى في اطار التعتيم بسبب أن الإطار السياسي الذي تأسست عليه الحيثيات لا يزال يحكم كثيراً من تفاعلات الحاضر، فضلاً عن أن نظام الحكم صاحب المصلحة في الترويج والاحتفاء بذلك غير موجود، وبالتالي لا وجود لآلة إعلامية، أو عقل سياسي يقوم بذلك. في ذات الوقت يخضع المتهم علي كوشيب للمحاكمة أمام الدائرة الابتدائية الأولى -المحكمة الجنائية الدولية منذ 5 أبريل 2022 بناء على مذكرة القبض الصادرة ضده منذ عام، وهو مطلوب سلم نفسه طوعاً في يونيو 2020. وحتى الآن استدعى الادعاء ضده 56 شاهداً للمثول أمام المحكمة غير أن اصدار حكم نهائي ما زال يبدو بعيداً؛ رغم أن تقرير المحكمة الأخير ذكر أنه: من المحتمل أن تنتهي محاكمته في منتصف يونيو الجاري. بل تردد أن المحكمة تنظر في طلب براءة جزئية لصالحه من 4 تهم من جملة 31 اتهاماً مدوناً ضده. ولعل خان على علم بما يجري حالياً في السودان الذي يبدو أن السلطات هناك قد أبدت تعاوناً مع المحكمة في اطار ترى أنه يحفظ سيادة البلاد ويستوعب تحفظاتها. ويبدو أن هذا التعاون (المحدود) قد بنى جسراً من الثقة بين الحكومة السودانية والمحكمة على الأقل من طرف خان تحديداً. فآخر تقرير لأنشطة مكتبه للفترة من أغسطس 2023 إلى يناير 2024 المحكمة ذكر بأن الحكومة السودانية قامت بتعيين جهة تنسيق جديدة للتعاون في أكتوبر 2023 ووافقت على إصدار التأشيرات لدعم بعثة لممثلي المكتب كان من المقرر القيام بها إلى بورتسودان، لكنها أرجئت من جانب المحكمة. كما أفاد التقرير بأن بعض طلبات المحكمة الموجهة للحكومة السودانية أصبحت متقادمة ولم تعد ضرورية بحكم تطور النزاع الدائر في السودان اليوم. وقفة تأمّل: ما الذي يدعو لإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مارس الماضي، متهما بارتكاب جريمة حرب في أوكرانيا؛ بينما ينجو الرئيس الأمريكي السابق (بوش) من ذلك رغم الجرائم ضد الإنسانية في عهده في كل من العراق وأفغانستان؟!.

825

| 23 يونيو 2024

تجاهل دولي مفضوح لجرائم المليشيا

ما زالت مليشيا الدعم السريع الإرهابية في السودان تؤكد استهدافها المواطنين العزل بالقتل والاغتصاب والنهب في صور بشعة لم يكن يمكن تصورها إلا في عصور بائدة، ومن لدن قوات مثل التتر والمغول. التقارير الدولية والأممية سارت بها رياح الإعلام ولم تعد الحقيقة خافية على أحد. أحدث المجازر الدامية كانت في قرى ود النورة بولاية الجزيرة، وحلة الشيخ السماني بولاية سنار؛ فهاتان الولايتان بوسط البلاد، أصبحتا موبوءتين بذئاب منفردة وكلاب مسعورة من عناصر هذه المليشيا، تهجم على حين غرة على هذه القرى الآمنة المطمئنة. فقرية صغيرة قد لا يتعدى سكانها ألف شخص تفقد نحو 200 من أهلها نتيجة لهجوم غادر مباغت من جانب المليشيا. إن سلوك هذه المليشيا أصبح محيراً ويدل على خلل نفسي ما، وهو سلوك ناتج عن فقدان التوازن العقلي. فلا تتوانى عناصر المليشيا في تسجيل وتوثيق جرائمها بنفسها وهي تبدي سعادتها بذلك. فقد أظهرت مقاطع مبثوثة من جانبهم إجبار مواطنين اختطفتهم على تقليد نباح الكلاب، ومرة أخرى صوت القطط، وهم يرددون في تهكم وسخرية: «نحن لم نسمع، ارفعوا أصواتكم». ومن قبل وثّقوا لعمليات اغتصاب ارتكبوها وقد تناوبوا على الضحية. إن الجرائم التي ترتكبها هذه الميليشيا ليست أقل بأي حال من جرائم مخزية تندرج في إطار الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، وهذه كلها جرائم تتعارض مع القوانين الدولية في المجال الإنساني. ومع كون الأزمة السودانية في مجملها يلازمها تجاهل وصمت دوليان - دبلوماسي وإعلامي - غير أن ما يبدو من الاهتمام يلفه فيه قدر كبير من الريبة، والشك حول دوافعه ونواياه؛ فبينما تكاد تغرق ولاية كولاية الجزيرة في جرائم المليشيا الدامية، نجد أن هناك تجاهلاً مريباً مقابل اهتمام بيّن لما يجري في إقليم دارفور لاسيما مدينة الفاشر، وولاية الجزيرة هي أكبر ولاية سودانية بالكثافة السكانية بعد ولاية الخرطوم، إذ يسكنها نحو 8 ملايين نسمة. ولعل القوى الدولية والإقليمية التابعة لها، ترى أن دارفور تشكل محوراً مهما في مشروع تفكيك الدولة السودانية وجعلها أثراً بعد عين، ليقف السودانيون حينذاك كما وقف امرؤ القيس على أطلال منزل محبوبته حزيناً باكياً بسِقْطِ اللِّوى بين الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ. ولولا أن مجلس الأمن غدا مشلولاً بسبب تنافر القوى الدولية صاحبة اليد العليا في استصدار قراراته، بسبب انغماسها في حرب عالمية مستترة في أوكرانيا، لتوالت قرارات المجلس تحت البند السابع بشأن دارفور ولما أبقت ولا ذرت. بالأمس القريب طالب مجلس الأمن الدولي، مليشيا الدعم السريع بإنهاء حصارها لمدينة الفاشر عاصمة إقليم دارفور. ودعا المجلس في إطار ضمن مشروع قرار صاغته بريطانيا وحظي بتأييد 14 عضواً في المجلس مع امتناع روسيا عن التصويت، إلى الوقف الفوري للقتال في الفاشر وما حولها وانسحاب المقاتلين. ومنتصف الشهر الماضي، أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن «قلقه الشديد» إزاء المعارك الدائرة في الفاشر. ومن جانبه أعرب مدعي المحكمة الجنائية كريم خان عن قلقه البالغ إزاء الاتهامات المتعلقة بارتكاب جرائم دولية واسعة النطاق في الفاشر ومحيطها. وناشد خان الشهود في السودان بإرسال الأدلة لمساعدة التحقيق العاجل الذي فتحه مكتبه بشأن اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في منطقة دارفور. بيد أن ذلك لم يشمل الحديث عن انتهاكات المليشيا في ولاية الجزيرة وهي لا تقل فظاعة بل تتفوق عليها في بعض الأحيان. ويتم في حالة دارفور الحديث عن أطراف ومحاولة اتهام الجيش بنصيب من هذه الجرائم حتى يمهد مشروع التفكيك، فالجيش هو العقبة الكبرى أمام هذا المخطط المكشوف.

729

| 16 يونيو 2024

أزمة السودان.. الحل خارج الصندوق

لعل الأزمة السودانية الماثلة تنحصر في شقين أساسيين: الأول عسكري وأمني، والثاني سياسي له أبعاد وارتباطات خارجية. ولو تركنا الشق العسكري والأمني جانباً باعتبار أن متطلبات حله واضحة وجلية، ولا نقاش حولها ولا تحتاج لتفكير خارج الصندوق؛ فإن تعقيد الأزمة في شقها السياسي، بلغ درجة لم يعد معها الحل متوفراً داخل الصندوق أو في داخل الأطر التقليدية، حيث ذات الأمراض السياسية الموروثة التي أدمنتها النخب السياسية منذ ما بعد استقلال البلاد في 1956، لازالت تمُد لسانها. إن الشق العسكري والأمني من الأزمة متعلق بتمرد عسكري مدعوم إقليمياً ودولياً، ليأخذ أبعاد الغزو الأجنبي بجدارة، وهو الأخطر على الاطلاق على الأمن القومي للبلاد، وقد سبب أزمة وجودية لكيان الدولة السودانية منذ نشأتها. ولا سبيل لحل أزمة الشق العسكري، إلا عبر الحسم العسكري، حيث لا خيارات، أو مساومات سياسية، يمكن أن تجد لها مكاناً حين التعاطي مع أزمة تتعلق بالأمن القومي، وبوجودية الدولة السودانية. والحسم العسكري يمثل قاعدة صلبة لأي مقاربة سياسية غير تقليدية في الشق السياسي للأزمة، وهو مرتبط داخلياً بالجيش الوطني وعقيدته القتالية، وكذلك بالوعي الوطني الذي يتمظهر في أعلى درجاته في المقاومة الشعبية المسلحة. ولحسن الحظ أن الحسم العسكري في هذا الجانب قد قطع شوطاً مقدراً. عقب عام من التمرد العسكري تحولت القوة المتمردة إلى عصابات تنهب وتقتل وتغتصب، بينما حيّد الجيش - حتى الآن - قوتها الصلبة، فلم تعد تمتلك بنية اتصالية ولا مقرات عسكرية، تستطيع تقديم الدعم اللوجستي والامداد العسكري، وفقدت ما يقارب مائة ألف من عناصرها البشرية. ولقد هُزمت هذه القوة المتمردة (مليشيا الدعم السريع) أخلاقياً قبل أن تُهزم عسكرياً، بسبب جرائمها الإرهابية التي أدانتها تقارير دولية وأممية. والهزيمة الأخلاقية تستتبعها بالضرورة غياب أي مشروعية سياسية يمكن أن تتيح لها أو لداعميها، مجال الدخول ضمن المقاربة السياسية المتعلقة بحل الأزمة في شقها السياسي، فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف. ومن باب ما هو حتمي ومعلوم بالضرورة، وبسبب البعد الدولي والإقليمي التآمري لهذا التمرد؛ فإن الجيش في إطار واجبه الدستوري وحربه المشروعة، لابد وأن يسعى لتعضيد، ولربما خلق تحالفات عسكرية إستراتيجية دائرتها الجغرافية أوسع من الفضاء الإقليمي، وتستوعب الشرق بكل آفاقه وكذا الغرب إن نحّى جانباً التباغض والتدابر. أما الحل لهذه الأزمة في شقها السياسي؛ فيقع بالدرجة الأولى على كاهل القوى السياسية التي يتحمل بعضها كثيراً من وزر هذه الحرب ومآلاتها في البلاد، وقد جعلت من نشاطها السياسي الخارجي منصة إعلامية وسياسية في إطار حملة هزيمة الجيش ودعم المليشيا، وتلكم قوى لا سبيل للتعاطي معها إلا جنائياً وقضائياً. عدا ذلك فقد جاء الوقت لتتبنى القوى السياسية حلاً غير تقليدي تتحرر فيه وتتشافى من أمراضها المزمنة؛ فهي رغم زعمها – كلها أو بعضها - بأنها تحمل مشروعاً ديمقراطياً، إلا أنها تعتمد نهجاً إقصائياً تجاه بعضها البعض وتحكمها المعادلة الصفرية. وهي تعني أن يرتبط مكسبك بالضرورة بخسارة الطرف الآخر. والأسوأ حين يعتقد صاحب ذلك النهج الاقصائي أن ذلك لابد أن يكون مُطلقا أي: مكسبًا كاملا مقابل خسارة كاملة. بينما المعادلة غير الصفرية في اطار قبول الآخر تتيح للطرفين أو لكل الأطراف الربح، وبالتالي تسود البيئة السياسية الراشدة. إذ إنه في هذه الحالة - المغايرة للمعادلة الصفرية - تستقر حالة التوازن في الحقوق والواجبات بين الاطراف وهي سبب رئيس في تحقيق الاستقرار في مجتمع من المجتمعات. إن تقبل الآخر يعني ببساطة احترام الآخر وتقدير وتفهم ما لديه من مفاهيم وأفكار وتقاليد وقيم. بل إن تقبل الآخر يرتبط بقبول الذات بكل ما فيها من قوة وضعف، فإذا تقبلت نفسك وذاتك فلا شك أنك ستقبل الآخر. لا سبيل أن تدعو فئة سياسية واحدة أو حتى تحالف سياسي لإقصاء طرف سياسي، وتحريم العمل السياسي عليه تحت أي مسوغ من المسوغات. من غير الحكمة أن تظل بعض القوى السياسية تجتر مواقفها المتصلبة، وتستخدم ذات الخطاب الاقصائي مع خصومها السياسيين.

684

| 09 يونيو 2024

المعارضة السودانية .. حرب المبادرات

اختلاف الرأي لا يُفسد للوطن قضية بطبيعة الحال، إلا أن بعض عُصاة وطنهم ممن تأخذهم العِزةُ برأيهم المخالف لا يتوانون في بيع مواقفهم للخارج بيعا بخساً فاسداً كبيع الحصاة؛ فأينما وقعت الحصاة فللبائع بمدى وقعها دراهم معدودة. وبيع الحصاة: نوع من البيع الفاسد حيث يبيع البائع من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة. الأسبوع الماضي أنهت معارضة الحصاة السودانية مؤتمراً لها في عاصمة خارجية، وقالت إنها ناقشت في تلك العاصمة المغاضبة لوطنهم المكلوم بعقوقهم؛ قضايا وطنية «مصيرية» بينما كل الشعب السوداني في الداخل باختلاف آرائهم مخرطون لأجل هدف واحد جمعهم بجانب جيشهم لصد ميليشيا الدعم السريع مغول العصر الحديث ومكافحة جرائمها واعتداءاتها. ثم يهرفون يحدثونك عن قضايا الوطن على موائد اللئام ويزعمون أن تلكم محاولات بريئة مخلصة لجلب الديمقراطية للوطن. الغالبية الغالبة من ذات هذه المعارضة تطفلت بالأمس على حراك صنعه شباب في 2019 لم يدركوا مآلاته الكارثية، ودون إجابات في غمرة توثبهم عن أسئلة مثل: كيف سيكون إسقاط النظام؟ وما هو البديل الذي يريده الشعب؟. بل كان هناك سؤال جوهري ومهم، وهو ما هو الخطّ الفاصل بين إسقاط النظام وبين عدم إغراق الوطن في الدماء والفوضى وربما إزالته من خريطة العالم. بيد أن السارقين كانوا غارقين في ديماغوجية مستخدمين أساليب مضللة لكسب ود الشباب بهدف الاستئثار بالسلطة والقرار وحماية المصالح الشخصية والضيقة باسم السياسة. ومعارضة السودان التي غطت بصيرتها برسن سلمته للطامعين الخارجيين كانت مثلها مثل معظم المعارضات العربية من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم، وظنوا عبثاً أنهم يحسنون صنعاً. لقد نقضت تلك المعارضات غزلها بيدها، وكانت سبب فشل مشاريعها السياسية البائسة بعد سقوط الأنظمة التي ناصبتها العداء؛ فقد صبت جل اهتمامها في نقد الحكومات القائمة والتشهير بها وفضح فسادها فضلاً عن إدمان الشعارات والخطب الديماغوجية، دون أن يكون لها مشروع بديل للحكم والإصلاح حال وصولها إلى سدة الحكم. إن تجربة المعارضات التي قدمت للسلطة إما عبر دبابة المحتل أو بدعمه عبر المال والرشا السياسية، كانت سبب تدهور الأوضاع المريع في العراق واليمن وليبيا والسودان بالضرورة. واتضح أن الديكتاتورية في العراق كانت أفضل من الديمقراطية الأمريكية التي جاءتهم على ظهور الدبابات. وقفت المعارضة العراقية بكل فصائلها الجهوية، والمذهبية مؤيدة وداعمة للاحتلال الأمريكي وتفكيك الجيش الوطني، ولم يفتح الله عليها بكلمة حق وأخذ عداؤها الشديد لنظام صدام حسين عقلها. إن أفضل المبادرات الخارجية تجاه السودان، تبنتها أطراف لم يخرج موقفها من الحرب المفروضة على السودان عن إطار الحياد السلبي الذي تحاول من خلاله تلك الأطراف أو ذلك الطرف، استيعاب أو تجنب مصادمة مواقف إقليمية ودولية داعمة بشدة لميليشيا الدعم السريع وضالعة بالكامل في مخطط تفكيك الدولة السودانية؛ بدءا باستهداف جيشها الوطني الذي يقاتل لأجل الحفاظ على كيان الدولة في ظروف بالغة التعقيد، ودون ظهير أو حتى اعتراف بالتشخيص الصحيح للأزمة في السودان؛ والقائم على أن ما يجري تمرد سافر على الجيش ومحاولة انقلابية على السلطة بدعم خارجي مفضوح. يجب ألا تتجاوز أي مبادرة مثمرة هذه الحقائق التي لا جدال حولها. إن جل استخبارات دول الجوار التي يهمها أمر السودان، تعلم تمام العلم خطورة انهيار الدولة السودانية على أمنها القومي الاستراتيجي، ولذا يأمل السودانيون أن يتم التعاطي مع الملف السوداني وفقا لهذا المنظور. وعليه فإن التفاوض القائم على حقيقة الأزمة والمؤدي لتراجع الميليشيا عما قامت به هو الموقف الصحيح، ولا حديث البتة عن مصالحة تتجاوز الجرائم المرتكبة أو تفضي إلى الإفلات من العقاب، مع العلم الجيش مؤسسة سياسية حتى يتم التفاوض على مسائل ذات طبيعة سياسية.

522

| 03 يونيو 2024

حرب السودان.. 3 تحديات ماثلة

إن الحرب القائمة اليوم على الدولة السودانية ليست انقلابا كلاسيكيا داخليا ولا حربا عادية تشنها دولة من الدول؛ وإنما الأمر أعقد بكثير وأشد مضاضة من وقع الحسام المهندي. فهي خليط يجمع بين أطماع قوى دولية وبين أدوات إقليمية ومحلية باستخدام كافة أنواع الأسلحة بكل مظانها العسكرية والسياسية والاقتصادية. وفرضت الحرب على البلاد تحديات سياسية ودستورية واقتصادية. الأمر الذي يتطلب مواجهتا بشجاعة وعبر حلول شاملة وغير تقليدية. إن ضعف الدولة السودانية خلال سنوات ما قبل الحرب وخضوعها للتدخلات الخارجية خاصة في فترة حكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، قد أغرى دولا مجاورة وإقليمية للتدخل في الشأن السوداني وتغليب مصالحها الآنية على علاقاتها التأريخية الممتدة وبارتضائها أن تكون أدوات في خدمة القوى الدولية الكبرى. وانسحب هذا الضعف على أداء كابينة السلطة إذ اتسم أداء وزارة الخارجية بالضعف البائن، ولم تكن بمستوى التحديات الكبيرة والاستثنائية التي تواجهها البلاد. ولعل فشل اتفاق ايصال المساعدات الانسانية مع حركة عبد العزيز الحلو المتمردة والمرتبطة عضويا بدولة جنوب السودان، ليس إلا مثالا حيا لهذا الضعف. فقد وقعت الحكومة السودانية ضحية دعوات خادعة من دولة الجنوب التي رعت التفاوض برفع مستوى التفاوض ليذهب نائب القائد العام للجيش مباشرة دون أن يفسح المجال للطواقم الأمنية والعسكرية انجاز مسودة للاتفاق. وكان ذلك أمرا ملحا لأن الطرف المقابل ظل أحد عتاة تجار الحروب، وقد كان هدفه تجيير المساعدات الانسانية لصالحه وعندما أرادت قوى دولية إفشال الاتفاق لقطع الطريق أمام أي مكاسب سياسية لحكومة السودان، عرضت عليه ما يفوق مكاسب الاستيلاء على المساعدات الإنسانية فاشترط جلوس مليشيا الدعم السريع طرفا في المفاوضات حتى تكسب مشروعية سياسية وأخلاقية وفق ما تريد قوى إقليمية ودولية. ولعل الوضع الدستوري القائم حاليا في البلاد يعاني من اختلال واضح، ويقف عقبة أمام علاقات خارجية سوية وتتسم بالندية. ويقوم الوضع الدستوري الراهن على ما عرف بالوثيقة الدستورية – وهي لا تستحق هذا الوصف - وهي في أساسها اتفاق سياسي بين الجيش وقوى مدنية خدمتها ظروف غير موضوعية جعلتها تتصدرت المشهد السياسي بعد ابريل 2019. لكن هذا الاتفاق تعرض للانهيار في 25 أكتوبر 2021 ومن ثم تم تجميد بعض بنود هذه الوثيقة بموافقة وتأييد من بعض المكونات المدنية الموقعة عليها حيث انقسمت لفريقين؛ الأول منجاز للجيش والآخر منحاز للأجندة الخارجية. وبالاضافة إلى الجوانب السلبية المتعلقة بالحالتين السياسية والدستورية، وقع اقتصاد البلاد في مأزق هذه التعقيدات لاسيما الناتجة عن الحرب المستعرة اليوم؛ فقد توقفت كل القطاعات الانتاجية التي كانت توفر العملة الصعبة للخزانة العامة في مجالات الزراعة والصناعة والنفط والمعادن خاصة إنتاج وصادرات الذهب. بل ان الأمر ارتقى ليصبح حربا اقتصادية لا تقل آثارها عن المعركة العسكرية. وبدا واضحا أن من بين خطط التخريب الاقتصادي: ضخ كميات كبيرة من العملة المحلية المزورة واستخدامها في شراء سلع وحصائل الصادر، فضلاً عن شراء تحويلات المغتربين من العملات الحرة، الأمر الذي أدى إلى تحويل العملات الأجنبية لمخازن للإدخار مع زيادة الضغط على السوق. إنه ينتظر من الحكومة السودانية المبادرة الفورية لمعالجة هذه الملفات الثلاثة: السياسية والدستورية والاقتصادية؛ ففي المجال السياسي لابد من السعي العاجل والدؤوب لتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة التي لا يُستثنى منها إلا منسوبو مليشيا الدعم السريع الإرهابية. ولابد من الدفع والطرق في إتجاه تحقيق أكبر قدر ممكن من التوافق السياسي من خلال ملتقى وطني تُجمع فيه كافة الكيانات السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني. وتأتي حتمية هذه المصالحة الوطنية بغرض تضميد الجراح والتعويض وجبر الضرر على أرضية محاسبة كل من أجرم في حق الشعب، وسرق ونهب وأغتصب، وقتل، فيعاقب العقاب المستحق عبر محاكمات عادلة ونزيهة. ولا مجال للدخول في أي نوع من المساومات على أساس سياسي وليست هناك أي سلطة في وضع يسمح له بالتجاوز لا عن الحق العام ولا عن الحق الخاص. فمن نافلة القول إن البداية الصحيحة لوطن آمن تحرسه سيادة القانون ومن قبل خطوات عملية بناء السلام الاجتماعي لابد أن تقوم على أساس عدم الافلات من العقاب. ومن المهم تعضيد وتشجيع كل ما يمتص ويخفف حدة الاستقطاب والاحتقان السياسي ويُبرز ويحترم التنوع ويدعو للتعايش والقبول والاعتراف بالآخر والتحاور للإتفاق على كليات واحترام القانون. كما لابد من النظر في مستقبل المقاومة الشعبية وضرورة تنظيمها وتقنينها باعتبارها قوة احتياط عسكرية، وذراع أمني خدمي رقابي تعبوي يشارك في تأمين وإنجاح فترتي الانتقال والتأسيس. إن تحقيق التوافق الوطني يتطلب نجاحه توفيق الحالة الدستورية مما يقتضي المسارعة إلى إنهاء حالة الانتقال والنفاذ الى أساس دستوري يقوم عليه البناء الكلي للفترة الانتقالية، ويمكن في ذلك التفكير الجاد في العودة الى دستور 2005م الذي أجمعت عليه كل القوى السياسية، فالأصل في البناء الدستوري أن يقوم على قاعدة الرضا السياسي. وغير أن تعديل الوضع الدستوري مهم للتوافق الوطني الداخل، فإنه يستقطب الاعتراف الخارجي، ويعيد للسودان دوره الفاعل في المؤسسات الإقليمية والدولية. في الملف الاقتصادي تحتاج الحكومة الى إنشاء خلية طوارئ مع وضع خطة اقتصادية إسعافية عاجلة لتحريك عجلة الإنتاج، بأولوية قصوى للقطاعات الإنتاجية وبخاصة الزراعة والثروة الحيوانية فى الولايات المستقرة وهي تشكل أغلبية. ومع أهمية الإجراءات الأمنية والقانونية فهي ليست كافية لمكافحة وتحجيم المضاربة في العملة، إذ يلزم وضع سياسات تحفيزية لزيادة الإنتاج والصادر وترشيد الاستهلاك وتخفيف الضغط على النقد الأجنبي غير المهم أو غير المبرر.

768

| 25 مايو 2024

القمة العربية.. خيبة أمل سودانية

لم يكن السودان الذي يعيش أخطر أزمة وجودية في تاريخه تكاد تعصف به تماما وتجعله من التاريخ، سعيدا ببيان القمة العربية الأخيرة التي التأمت الأسبوع الماضي في البحرين. وكان ينظر لها باعتبارها أول قمة تصادف هذا المنعطف الذي يمر به فتصاعدت آماله فيها حتى لامست عنان سمائه المكفهرة. وتضمنت الفقرة الخاصة بالسودان في بيان القمة كامل التضامن مع السودان، في الحفاظ على سيادته واستقلاله ووحدة أراضيه والحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية وفي طليعتها القوات المسلحة (الجيش القومي)، لكن البيان حث في ذات الحكومة السودانية ومليشيا (قوات الدعم السريع) المتمردة على الجيش، على ما أسماه بالانخراط الجاد والفعال مع مبادرات تسوية الأزمة ومن بينها منبر جدة ودول الجوار وغيرها، من أجل إنهاء الصراع الدائر واستعادة الأمن والاستقرار في السودان وإنهاء محنة الشعب السوداني الشقيق. ولأن بيانات الجامعة العربية وقراراتها لا تنحاز إلى الصواب طالما هناك عضو واحد فقط له اعتراض ما لشيء في نفس يعقوب، فإنها تخرج مشوهة لاستيعاب ذلك الاعتراض ارضاءً لمن يخالف الصواب وحتى الأغلبية؛ فإن البيان في هذه الفقرة تجاوز وتغاضى عن قرار طليعة مؤسسات الدولة السودانية وهي القوات المسلحة كما أقر بذلك البيان نفسه، وهو حل (قوات الدعم السريع) التي تحولت إلى مليشيا إرهابية ترتكب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وهذا ليس توصيف الحكومة السودانية فحسب وانما جاءت هذه الحقائق المؤلمة الذي استدعت هذا التوصيف في تقارير للأمم المتحدة وتقارير صحفية لمؤسسات إعلامية دولية معتبرة وذات مصداقية عالية. لكن بيان الجامعة دعا اعتسافا الجيش السوداني لإجراء (تسوية) مع المليشيا لحل الصراع، وهذا يعني تجاوز الجرائم والقفز إلى مقاربة سياسية تعطي المليشيا مشروعية أخلاقية مفقودة قبل أن تعطيها مشروعية سياسية تعيد بها انتاج الأزمة مستقبلا. وكان من المأمول إدانة تمردها على القوات المسلحة ثم ارتكابها جرائمها الارهابية ليس ضد القوات المسلحة فحسب وإنما ضد المواطن الأعزل الذي طرده من بيته واغتصبت عرضه ونهبت أمواله. ولو وضعت أي دولة في العالم نفسها في موضع الدولة السودانية لما وافقت على مثل هذه المقاربة الظالمة. وكان وزير الخارجية السوداني الذي مثل بلاده في القمة قد قال في كلمة السودان في القمة إن الدخول في تفاوض مع المليشيا دون تنفيذ ما اتفق عليه قبل أكثر من عام في جدة ومواصلة انتهاك القانون الإنساني الدولي يعد حرثا في البحر. كما لم يشر بيان القمة إلى أي معالجات مقترحة للتخفيف من آثار الحرب الإنسانية أو أي محاولة لتقديم أي نوع من العون للسودانيين الذين لجأوا للدول الأخرى لا سيما العربية منها ويعانون من أوضاع إنسانية صعبة. وذلك فإن لسان حال الرأي العام السوداني يقول حسنا فعل السودان بعدم مشاركته على مستوى قيادته العليا واستثمر رئيس مجلس السيادة وقته في المتابعة الميدانية لسير المعارك ضدّ المليشيا المجرمة. إن هناك إحساسا مرّا لدى السودانيين بأن بعضا من الدول العربية تنظر للأزمة في السودان بأنها مجرد مشكلة أفريقية أو شبه عربية أو أنه صراع غير إستراتيجي ولا يتعلق بأمن المنطقة العربية فلا يقتضي التعامل معه كذلك. ويبدو أن الجامعة العربية تنخرط بوعي أو بغير وعي في المخطط الدولي الغربي الإستراتيجي الهادف إلى تجزئة وتفتيت الدول العربية ذات الوزن الجيوسياسي الغنية بالثروات الطبيعية والبشرية ليبقى دورها تلطيف المخطط والتمهيد له وتمرير وشراء الوقت اللازم لانجازه عبر الانهاك العام ومن خلال الجيل الرابع من الحروب غير المتماثلة الذي يتمظهر في خلق حروب داخل الدول المستهدفة عبر مليشيات جهوية وعنصرية تؤدي لإعلان انفصال أقاليم تابعة لها فتحقق تلك الدول الاستعمارية بذلك هيمنتها وإرادتها من غير أن تبعث بجندي واحد إلى أرض المعركة وإراقة دمه وتراق عوضا عن ذلك دماء أبناء الدولة المستهدفة.

678

| 19 مايو 2024

الأحزاب ومحاذير الأجندات الخارجية

شهدت الساحة السودانية المفعمة بأثقال الحرب وتداعياتها، حراكا سياسيا كبيرا يصب في إطار دعم الجيش الوطني في مواجهة مليشيا الدعم السريع المتمردة على الوطن بشعبه ومقوماته التاريخية والحضارية، بيد أن ذلك الحراك اتخذ منصة خارجية الأمر الذي قلل من مردوده السياسي لصالح هزيمة التمرد وعودة الأمن والاستقرار لربوع البلاد وعودة ملايين السودانيين، ما بين لاجئ في الخارج ونازح في الداخل، وكذلك عودة العافية للاقتصاد الذي وقفت عجلته تماما وبلغ الجنيه السوداني دركا من الانخفاض أمام الدولار لم يبلغه من قبل في تاريخه. وقعت الأسبوع الماضي 55 كتلة وقوى سياسية ومدنية ومجتمعية سودانية مساندة للجيش السوداني ميثاقا في القاهرة لحل الأزمة والتأسيس لمرحلة انتقالية والدعوة إلى آلية دولية وإقليمية لحل الأزمة وفي ذلك استسلام للدول الخارجية وتدويل بيدي لا بيد عمرو. وبخصوص الفترة الانتقالية تحدثت هذه القوى عن شراكة عسكرية مدنية في مجلس السيادة ومع أنها أقرت حكومة وحدة وطنية من كفاءات سياسية ومهنية من دون محاصصات حزبية، إلا أن شراكتها في مجلس السيادة التي تحدثت عنها تعترضها تحديات عملية ومفاهيمية، إذ إن اختيار 3 أشخاص أعضاء في مجلس السيادة من بين 55 كتلة يشكل بيئة ملائمة لشيطان التفاصيل، فضلا عن أنه كان من المأمول أن تترك أي شراكة للمدنيين في أي مستوى من مستويات الحكم في الفترة الانتقالية جانبا لتحدد الانتخابات في نهاية الفترة الانتقالية أوزان القوى السياسية دون استعجال أو تكالب على كراسي السلطة أيا كان مستواها، سيما وأن من بين هذه القوى حركات ما زالت تحمل السلاح ولم يتم دمجها في الجيش كما نصت الاتفاقيات الموقعة معها، مما يعني أنها لم تتحول بعد إلى مكونات سياسية مدنية تتساوى مع القوى الأخرى التي لا تحمل السلاح. لقد كان التساؤل المُلح في ذهن السودانيين الذين لم تعد ثقتهم في الأحزاب على ما يرام، هو ما عيب التشاور والاجتماع في حضن الوطن، سيما وأن الموضوع هو الوطن وقضاياه المُلحة؟. والمدهش أن هذه القوى على وفاق مع الحكومة وتدعم الجيش في حربه ضد المليشيا، فما الذي منع عقد هذا الاجتماع أو المؤتمر في الداخل؟. ولطالما كان هذا المؤتمر قد انعقد في الخارج فيحق لكل سوداني وطني أن يسأل عن تمويله، ومن موّله وما مصلحة الممول؟. وهل انعقاده في الخارج يعني أنه بمعزل عن التأثير الخارجي المرتبط بأجندة الآخر؟. ومع ذلك كله لا يبدو أن هناك خلافا بين المعسكر الوطني في عمومه حول أهمية الحراك السياسي الذي انعقد في القاهرة وكونه يصب في دعم معسكر الجيش وإحباط مخططات معسكر المليشيا السياسي المتمثل في مجموعة (تقدم) بزعامة رئيس الوزراء السابق المستقيل، وأن النقد إليه ينبع من منطلقات وطنية وأكثر من ذلك منطلقات مبدئية وذلك لا ينقص من قدره شيئا بل يزيده قوة مع مظان استفادته من النقد واستيعابه لأهمية الملاحظات التي شملها هذا النقد الحميد. ولو انعقد هذا الحراك بالداخل، كيف يمكن توقع مردوده السياسي الداعم للحرب ضد المليشيا الإجرامية؟. أقلها كانت ستبقى مجموعة (تقدم) وحدها هي التي تتسول الخارج وفنادقه ونثرياته. يحمد لحراك الكتلة الديمقراطية أنه أحبط مزاعم مجموعة (تقدم) المتورطة بالكامل في الأجندة الخارجية، بأنها القوى المدنية والسياسية الوحيدة التي تناضل لأجل الديمقراطية والحكم المدني. ولعل ذلك يهزم المشروع الخارجي ويكبح أي طموحات عسكرية للاستئثار بالسلطة. كما أن بروز 55 كتلة سياسية ومجتمعية يدحض الفكرة التي تسوق من لدن الخارج المتربص بأن الصراع في السودان هو صراع بين أنصار النظام السابق والجيش من ناحية وبين السياسيين المكافحين لأجل حكم مدني ديمقراطي.

273

| 12 مايو 2024

السودان.. ما سر ضوضاء الفاشر؟

مع تراجع أخبار المعارك بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع المتمردة، لا سيما في منطقة العاصمة المثلثة ووسط البلاد في ولاية الجزيرة، يبرز سؤال عن أسباب التركيز الدولي على المناوشات حول مدينة الفاشر في شمال غرب البلاد وهي عاصمة إقليم دارفور بولاياته المختلفة؟. فقدت حذرت وزارة الخارجية الأمريكية الأسبوع الماضي من هجوم وصفته بالوشيك على الفاشر. فإن كان للجيش أسبابه في احاطة تحركاته بالغموض لأسباب استخباراتية وعسكرية وهذا نهج استراتيجي تتبعه الجيوش المحترفة، فإن المليشيا تريد عكس ذلك بإحداث فرقعات إعلامية ترفع بها الروح المعنوية لعناصرها وتغطي بها على تراجعها العسكري وربما انهيارها الوشيك. بيد أن الجهات الدولية التي تقف وراء التركيز الأخير على ما يدور حول الفاشر تتفق تكتيكيا مع أهداف المليشيا التي تمثل أداة وظيفية ومخلب قط لتنفيذ أهداف استراتيجية عاجلة وآجلة بشأن مستقبل السودان ومستقبل المنطقة، وسينتهي دور هذه المليشيا باكتمال أدائها لوظيفتها. وبعد ما يئست المليشيا من تحقيق أي نصر أو حتى الاحتفاظ بمواقعها في وسط البلاد بما في ذلك العاصمة القومية تقهقرت إلى معاقلها التقليدية في دارفور حيث يعتبر هذا الإقليم من مناطق الهشاشة الأمنية منذ عقود مضت ومع عدم قدرة المليشيا على إدارة المناطق التي دخلتها في دارفور وتَقطّع أوصالها في إقليم بمساحة فرنسا، لم يبق لها غير عبث الاستثمار إعلاميا وسياسيا في أي اشتباك لها مع الجيش. ولعل الورطة الكبرى للمليشيا في دارفور اعلان القائد القبلي موسى هلال زعيم ما يعرف بمجلس الصحوة الثوري، انحيازه لقوات الجيش السوداني داعيا كل منسوبيه للانسحاب من صفوف المليشيا وهو يمثل أحد بطون القبيلة التي تنحدر منها أسرة قائد المليشيا ودائرته المقربة. وبالفعل أعلن قائد عسكري كبير انشقاقه من مليشيا الدعم السريع وانضمامه إلى مجلس الصحوة. وتمتلك قوات هلال نفس مميزات عناصر المليشيا إذ تمتاز بالشراسة والخبرة بتضاريس جغرافية إقليم دارفور. وإذا أخذنا في الاعتبار حركات دارفور المسلحة الأخرى التي انحازت للجيش لتقاتل بجانبه، فإننا نجد بالاضافة لجهدها العسكري على الأرض أنها تمثل مكونات اجتماعية تصنف إفريقية بينما تمثل قوات مجلس الصحوة مكونات اجتماعية تصنف عربية، وبهذا نجد أن المليشيا أصبحت معزولة اجتماعيا حتى في معاقلها التقليدية كما فقدت بجرائمها ضد الانسانية أي مشروعية أخلاقية وبالضرورة أي مشروعية سياسية. وتبدو الفاشر مدينة ذات أهمية استراتيجية، حيث يوجد بها مقر قيادة الفرقة 16 التابعة للجيش السوداني وهي من أكبر الفرق العسكرية. وتعتبر الفاشر المدينة الكبيرة الوحيدة التي يمكن الوصول إليها من مدن شمال البلاد إلى إقليم دارفور فهي المدخل الوحيد لقوافل المساعدات الإنسانية القادمة من ميناء بورتسودان، وبذلك تشكل الفاشر مركزا للمساعدات الإنسانية في دارفور. إن الحرب الجارية في السودان حرب تآمرية تم التخطيط لها بعناية داخليا وإقليميا ودوليا، بهدف تفكيك بنية الدولة السودانية على غرار العراق وذلك باستهداف مؤسساتها القومية ممثلة في الجيش والأجهزة الأمنية وضرب النسيج الاجتماعي وطمس الهوية السودانية ليمهد للسيطرة على البلاد والاستفادة من مواردها وموقعها الجغرافي. وفي هذا الاطار تسعى بعض القوى الإقليمية لتتأبط ورقة السودان وهي لاهثة في هيجاء التطبيع مع إسرائيل عارضة خدماتها على القوى الدولية لتلعب أدوارا وظيفية في هذا المخطط اللئيم. إن سيناريو التدخل العسكرى في السودان يؤمل فيه أن تكون دارفور الثغرة التي تنفذ من خلالها جحافل التدخل العسكرى الأجنبي. ولذلك ينتظر سقوط دارفور بالكامل بيد المليشيا بسقوط الفاشر وإعلان فصل الإقليم لتتحرك القوى الدولية المتربصة معلنة انتهاء الدور الوظيفي للمليشيا والتدخل تحت مبررات إنسانية ومزاعم حماية المدنيين وحماية الأمن والسلم الدوليين.

777

| 05 مايو 2024

اللعب مع الكبار.. مقومات وفنيات

لابد وأن يكون لأي طموح إستراتيجي لأي دولة من دول «الهامش» الدولي، أبعد من الارتباط بروسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية لا في المدى البعيد، ولا حتى في المديين القريب أو المتوسط. إن التفكير في اللعب مع الكبار بدون مقومات، مخاطرة أعيت كثيرا من الدول، بل أعيت تجمعات إقليمية عملاقة بحجم دول مثل مجموعة دول عدم الانحياز – 120 دولة - وانتهت تجربتها إلى شبه زوال إن لم يكن فشلا ماثلا. فلعبة التوازن بين القوتين الدوليتين تلزمها مواصفات معينة؛ فالدولة الهادفة إلى اللعب بدون مخاطر في هذا الحيز البرمودي عليها أن تكون في موقع قوة فكرية، حيث يمكنها التأثير في علاقات القوة. وأن تكون لديها حرية الحركة وغير مرتبطة بأي من الأطراف المتصارعة ارتباطا يحد من حركتها على المستوى الإقليمي على الأقل. ولعل هدف صيانة الأمن القومي لأي دولة تبدو تائهة في بحر الترسانات العسكرية شرقا وغربا، هو الداعي للبحث عن وسائل وأدوات غير القوة العسكرية لإحداث التوازن ومنع طغيان الآخر. فعند ظهور الدولة القومية إلى الوجود لأول مرة بمفهومها الجيوسياسي المعاصر، كان الأمن القومي متعلقا بحدودها الجغرافية وغالبا ما كانت تلك الحدود حدودا طبيعية، كالجبال والبحار والصحاري والغابات. بيد أن هذا المفهوم تطور مع تشابك مصالح الدول وتقاطعها وعبورها للحدود، ليغدو المجال الأمني للدول متسعا ويزيد مداه باطراد. ولهذا برزت مصطلحات مثل الاحتواء والردع والتوازن في سياق مقاربات الأمن القومي للدول. ولعل الانتشار الكثيف للأسلحة والتطور النوعي الذي شهده عالم اليوم، أدى إلى تعديلات في النظام الدفاعي للدول وكذلك ثوابتها التقليدية الموروثة. اليوم هناك مظاهر مفجعة من الدمار والبؤس والموت المجاني بسبب الحروب التي أصبحت تغطي معظم العالم ولا تكاد تستثني بقعة أو فجا عميقا؛ تتطاول الحروب وتنتشر رغم ثبات عبثيتها في تحقيق الأهداف السياسية لا سيما الأطماع في ثروات أوطان الآخرين. والذين لا يفتقرون إلى القوة العسكرية التي تزاحم الكبار وتحد من تغولهم وافترائهم، يجدون في لعبة توازن الأضداد في العلاقات الدولية موئلا وملاذا. غير أن هذا الخيار مرهون النجاح فيه بتوفر مقومات وتقنيات أساسية وضرورية. على أساس أن الترسانات النووية والأساطيل البحرية العسكرية وأسراب الطائرات المقاتلة لم تعد المعيار الوحيد لقوة تأثير دولة من الدول؛ فعبر القوة الناعمة تكتسب الدولة قوة معنوية تبدو جلية في تجسيد الأفكار والمبادئ والأخلاق وعبر دعم مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن، الأمر الذي يفرض احترام الآخر. ويقصد بالقوة الناعمة كذلك توظيف أدوات الإقناع والاستمالة والابتعاد عن أساليب الضغط والترهيب في إدارة العلاقات الدولية؛ كأدوات الدبلوماسية العامة، وتوظيف الأبعاد الثقافية والتعليمية والإبداعية. وحتى الدول الكبرى لا تستغني عن القوة الناعمة وتلهث لهثا وراء امتلاك أسبابها، على سبيل المثال تحدث الرئيس الصيني في العام 2007 مؤكدا بأن الصين بحاجة إلى زيادة قوتها الناعمة. وليس سرا أن الدول المتقدمة عسكريا هي ذاتها التي تتصدر قائمة الدول الحائزة على القوى الناعمة، مثل الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة واليابان وفرنسا وسويسرا وأستراليا والسويد والدنمارك وكندا. إقليميا حوّل سلاح القوة الناعمة الذي تستخدمه إسرائيل عبر التطبيع دولا مطبعة إلى دول فاعلة في المجهود الحربي الإسرائيلي وكان هذا قمة النجاح الإسرائيلي في اختراق الأمن القومي العربي. اليوم إسرائيل موجودة بقوة في الحرب الدائرة في السودان الذي يمثل البوابة الجنوبية للوطن العربي عبر وكالائها ومنفذي أهدافها وسياساتها الخبيثة. لكن لحسن الحظ عندما تكون النوايا الحقيقية شريرة عادة وتستتر بأقنعة لإخفاء الشّر وتسوّق عبثا لخير لا وجود له، فإنه سرعان ما تتداعى تلك الأقنعة وتنجلي الحقيقة. في عالم اليوم العبثي تمثل المنظومة الغربية إمبراطورية ضخمة ومُلك عضودا يحكم العالم أو يحاول حكمه، لا سيما ذلك الذي تسميه هذه المنظومة بالعالم الثالث. وهذه المنطقة بالذات تحيط بها قوى إقليمية ذات تأثير سالب عليها إذا ما كانت هناك حالة عداء وتنافر، والعكس يكون صحيحا. غير أن كيانا واحدا لا تنطبق عليه هذه القاعدة وهو دولة الإحتلال الإسرائيلي في فلسطين، فلا مجال إلا وأن تصنف وبشكل إستراتيجي، عدوا يحذر مكره. لأنها في الأساس دولة مصطنعة تمثل رأس الرمح في استهداف المنطقة . إن ضرورات التزود بمقومات وفنيات بدائل القوة العسكرية وحتى مع توفرها، يبدو خيارا حتميا لا سيما مع الفشل الكبير الذي يطوق مجلس الأمن وكثير من أذرع الأمم المتحدة ظهر جليا في العقود الأخيرة حين أكدت معظم الدول في أكثر من مناسبة، أن الأمم المتحدة بشكل عام ومجلس الأمن الدولي تحديداً يمر بواحدة من أخطر الأزمات التي واجهته منذ إنشائه بعد إفراغه من مضمونه وانتزعت صلاحياته ومهامه الأصلية، في ظل هيمنة دول بعينها على القرار العالمي.

294

| 29 أبريل 2024

دولة فلسطين والمسرحية الأممية

حتى لو نجح مشروع قرار مجلس الأمن الدولي الخميس الماضي باعتماد العضوية الكاملة لدولة فلسطين وهو أمر بدا منذ البداية مستحيلا في ظل قواعد اللعبة الأممية القذرة، فإن ذلك ما كان ليحرر فلسطين أو يوقف الطغيان الإسرائيلي. بيد أن الحراك الذي حدث لم يكن بسبب عمل دبلوماسي ناعم أو بسبب صحوة ضمير دولي إنساني، ولكن كان بسبب مقاومة فلسطينية باسلة مستبسلة. إن الأمم المتحدة بهياكلها ومنظماتها لا تعدو أن تكون هيئة لإدارة وإخراج مسرحية دولية تتخذ من الأمن والسلام وحقوق الإنسان وقودا للإلهاء والاستمرار في تزيين الشر والظلم والطغيان. منذ ما يزيد على نصف قرن كشف العميل الأمريكي في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مايلز كوبلاند في كتابه (لعبة الأمم) والذي نفدت طبعته اللندنية الأولى في ثلاثة أيام فقط، عن أن علاقة كثير من الحكام مع القوى العظمى تلزمهم باتخاذ قرارات لا تمثل مصالح شعوبهم، وعليهم إقناع شعوبهم بأنها لصالح الوطن والشعب. كما أشار الكتاب الذي لم يهتز العالم في تاريخه - ولا يزال- لكتاب مثله، إلى أن أساس لعبة الأمم هو أن الكل – ما دون القوى العظمى – خاسر فلا أحد من الحكام دائم في الحكم ولكن أساس اللعبة في كم من السنوات سيظل جالسا على كرسي السلطة ولو آن أوان الخروج من السلطة كيف سيخرج. فهذه هي القواعد التي تدار بموجبها مسرحية الأمم المتحدة. في عام 2017 أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 128 عضوا مشروع قرار عربي إسلامي يرفض القرار الأمريكي باعتبار مدينة القدس عاصمة لدولة الكيان الإسرائيلي. غير أنه في موازاة ذلك أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية قبل ذلك بأيام قرارا لمجلس الأمن الدولي يدين ذات القرار الكارثي الذي أصدرته واشنطن، وذلك باستخدام حق النقض (الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن. والمعروف أن مجلس الأمن (فقط 15 عضوا) أحد أهم أجهزة الأمم المتحدة وله سلطة قانونية على حكومات الدول الأعضاء لذلك تعتبر قراراته ملزمة لها. بينما قرارات الجمعية العامة للامم المتحدة (193 عضوا) تتمتع فقط بتأثير معنوي وليس ملزما، ولا تستطيع أن تُجبر أي دولة من دول العالم بتنفيذ مضمون قراراتها. وبالتالي لم يكن لقرار الجمعية بشأن القدس أي إلزام لواشنطن المتجبرة، بينما قرار مجلس الأمن هو الذي كان سيكون ملزما لكنها أبطلته بحق الفيتو. لقد ظلت الأمم المتحدة بأذرعها المختلفة كقصر مشيد وبئر معطلة، فبالرغم من انشائها في أكتوبر 1945 إلا أن حصيلة نجاحاتها صفرية أو متواضعة في أحسن الأحوال ولا تتناسب مع حجم الأموال المنفقة ولا مع حجم الزخم الاعلامي المصاحب لأنشطتها. فلم تكن إلا مطية للقوى الكبرى وآلية لصياغة المبررات واجتراح المسوغات لتحقيق أطماع هذه القوى وسيطرتها على الدول الضعيفة وفرض رؤاها السياسية عليها. في الفاصل المسرحي الذي جرى الخميس الماضي استبق مسؤول أمريكي التصويت وقطع قول كل خطيب، وصرح بأن الولايات المتحدة ستعارض طلب فلسطين الحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة. وخلال تصويت مجلس الأمن الدولي على مشروع القرار الذي قدمته الجزائر وافقت 12 دولة من أصل 15 على القرار. بينما امتنعت بريطانيا وسويسرا، واعترضت الولايات المتحدة مستخدمة حق الفيتو باعتبارها إحدى الدول الخمس الدائمة العضوية في المجلس. وسارعت إسرائيل بتهنئة واشنطن على هذا الموقف الداعم والمساند لحربها الهمجية ضد الشعب الفلسطيني. ففي حين تصرح الولايات المتحدة بأنها تدعم حل الدولتين، ترفض قرارا يمثل العالم بأغلبية ساحقة لاعتماد عضوية كاملة لدولة فلسطين، وكذلك الحال مع بريطانيا التي امتنعت عن التصويت وهو موقف يدعم إسرائيل في ظل هذا الاجماع الدولي. ولو أن واشنطن كانت يوما صادقة في أفعالها لقلنا إن الفيتو الذي ظلت تطعن به الشعوب المستضعفة فعل غير نزيه وغير أخلاقي وإنه يكشف تناقضات السياسة الأمريكية لأنها تدعي نفاقا أنها تدعم حل الدولتين رغم أنه ليس حلا مثاليا بل مجحفا، وفي ذات الوقت تمنع المؤسسة الدولية من تنفيذ هذا الحل حتى في جانبه النظري. ومع تعظيم واشنطن لدور الأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر بمصالحها، لكنها في هذه الحالة أعطت الأهمية لإسرائيل ورأت أن يؤخذ الاعتراف بعضوية كاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة من جلادها (إسرائيل)، وهذا هو المستحيل بعينه.œ

1263

| 22 أبريل 2024

alsharq
كبار في قفص الاتهام.. كلمة قطر أربكت المعادلات

في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو...

4038

| 25 سبتمبر 2025

alsharq
في وداع لطيفة

هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات...

3585

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
بائع متجول

يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن...

3522

| 26 سبتمبر 2025

alsharq
الفن ضد الدمار

تواجه المجتمعات الخارجة من النزاعات المسلحة تحديات متعددة،...

1482

| 26 سبتمبر 2025

alsharq
ماذا يعني سقوط الفاشر السودانية بيد قوات الدعم السريع؟

بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون...

1224

| 28 سبتمبر 2025

alsharq
فلسطين والكيان والأمم المتحدة

أُنّشِئت الأمم المتحدة في العام ١٩٤٥م بعد الحرب...

1170

| 28 سبتمبر 2025

alsharq
الكلمات قد تخدع.. لكن الجسد يفضح

في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه،...

1158

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
قطر في الأمم المتحدة.. السيادة والإنسانية

يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودا ويخططون لاغتيال...

1047

| 24 سبتمبر 2025

alsharq
حين يُستَبدل ميزان الحق بمقام الأشخاص

‏من أخطر ما يُبتلى به التفكير البشري أن...

1032

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
غزة.. حين ينهض العلم من بين الأنقاض

في قلب الدمار، حيث تختلط أصوات الأطفال بصفير...

936

| 23 سبتمبر 2025

alsharq
الأمير يكشف للعالم حقيقة الكيان الإسرائيلي

صاحب السمو أمام الأمم المتحدةخطـــــاب الثبـــــات علــى الحــــــق.....

903

| 24 سبتمبر 2025

alsharq
حضور فاعل للدبلوماسية القطرية

تعكس الأجندة الحافلة بالنشاط المكثف لوفد دولة قطر...

825

| 25 سبتمبر 2025

أخبار محلية