رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

السردية الغربية بشأن الصين

يمكن وصف نمط وشكل العلاقات بين الغرب (الولايات المتحدة، وأوروبا، وحلفائهم)، وبين الصين منذ عقد تقريبا، بأوصاف متعددة، كالتنافسية، أو العدائية، أو الصراعية. وعلى كل الأحوال فهي ليست طيبة أو جيدة، ومتوترة باستمرار. وذلك التنافس أو العداء قد يكون مفهوما، لأن الصين باتت تشكل تهديدا رئيسيا للقيادة العالمية لواشنطن، وتهديدا خطيرا أيضا للنموذج الغربي الليبرالي، وتهديداً خاصا لحلفاء واشنطن الآسيويين. وعلى إثر ذلك، فبجانب تحالفات تلك القوى المعادية للصين لتقويض صعودها وخطورتها؛ تتبنى تلك القوى سردية خاصة بشأن الصين. سعى الغرب بقيادة واشنطن منذ نهاية الحرب الباردة، إلى معاداة أي دولة مناهضة للنموذج أو الأفكار الغربية، وقد تباينت شدة العداء بحسب درجة مصالح الغرب مع تلك الدول، إذ ارتبطت واشنطن بعلاقات وثيقة مع دول شمولية في المنطقة وخارجها على خلفية مصالح حيوية لها مع تلك الدول. إذن نخلص أن الغرب يمارس معايير مزدوجة بشأن قيمه وأفكاره الليبرالية، وهذا يوحي أن الغرض الرئيسي هو الهيمنة والتحكم في الدول والشعوب. ناهيك عن ذلك، هو ضرب الغرب ذاته بهذه القيم عرض الحائط، لاسيما واشنطن، إثر الحروب غير العادلة وغير المشروعة الكثيرة التي خاضتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فضلا عن التضييق الذي يعاني منه المهاجرون والأقليات خاصة المسلمة في أوروبا. وعلى خلفية ذلك، بنى الغرب سردية حول الصين، تتمحور حول ثلاثة أركان رئيسية: الأولى، الصين القوة التعديلية التي تسعى لتغيير النظام الدولي بالعنف والإكراه والقوة العسكرية وبناء نظام دولي جديد تحت قيادتها، والاستيلاء على المصالح السيادية للدول الآسيوية. والثاني، الصين التي تقوم بتقوية اقتصادها بأساليب غير نزيهة وبسرقة التقنيات الغربية وبراءات الاختراع والممارسة التجارية غير العادلة. وأخيرا، الصين الوحش الشمولي المغلق ذو الحزب الواحد أكبر منتهك لحقوق الإنسان في العالم. وحقيقة الأمر، يشوب السردية الغربية حول الصين، الكثير من المغالطات. لا يمكن إنكار أن الصين تسعى جدياً للقيادة العالمية. ومع ذلك، عند عمل مقارنة بين مساعي بكين للهيمنة ومساعي الغرب القديمة للهيمنة، نلاحظ بونا شاسعا. إذ تسعى الصين للهيمنة من منطلق أو بأسلوب غير مسبوق لقوة صاعدة في التاريخ، يستند على الترويج لنموذج متعدد الأبعاد يعكس ماضي وحاضر الصين، بحيث يمزج بين تاريخ وحضارة وثقافة الصين السلمي التعاوني الرابط بين أواصر الحضارات القديمة، كما جسدتها "المملكة الوسطى" وطريق الحرير القديم. وحاضر الصين المعاصر من حيث الازدهار والتنمية الاقتصادية الهائلة، والابتعاد كليا عن العسكرة والتدخل في شئون الدول. إذ بينما يصف الغرب الصعود الصيني بالعنيف أو غير السلمي، لا تستحوذ الصين على قواعد عسكرية خارجية عدا واحدة في جيبوتي لأغراض لوجستية ولمكافحة الإرهاب والقرصنة. في حين تنتشر مئات القواعد العسكرية للغرب في جميع أنحاء العالم. تقدم الصين نموذجها الخاص في القيادة العالمية على أساس ما يسميه أتباع "الجرامشية" "الهيمنة الرضائية أو المقبولة". أي بتصدير نموذجها السلمي التعاوني التنموي، ستقبل الدول أو ترتضي طواعية القيادة الصينية، لأن تلك القيادة ستلبي طموحاتهم وتحترم سيادتهم ومصالحهم الحيوية. وتجسد مبادرة الحزام والطريق الأداة الرئيسية للقيادة الصينية ذلك بصورة كبيرة، إذ تجاوز أعضاؤها حتى كتابة هذه السطور 200 دولة من مختلف العالم وتشمل دولا غربية. انضمام هذا العدد الكبير من الدول للمبادرة، والعدد مرشح للزيادة الكبيرة، هو أبلغ رد على باقي السرديات الغربية حول الصين. فكثير من تلك الدول، انضمت للمبادرة لأجل المكاسب الاقتصادية والمالية والتكنولوجية الكبيرة التي تتحصل عليها من الصين. رغم عدم تبني الصين النموذج الغربي الديمقراطي. ومع ذلك، تشهد مستويات الرفاهية في الصين معدلات مرتفعة تفوق دولا غربية. وهذا يشير بوضوح أن النموذج الغربي ليس فقط هو الطريق الوحيد للتنمية والرفاهية والازدهار. ملخص القول أن تركيز الغرب الشديد على الترويج لسردية خاصة موجهة تحديدا تجاه الصين، وتضخيمها بشكل كبير، يوحي بأن الغرض يتجاوز مسألة الدفاع عن استمرار سمو النموذج الغربي وحقوق الإنسان والتجارة الدولية الحرة وغيرها. إذ إن الغرض الرئيسي هو إدامة الهيمنة الغربية، وتقويض أكبر تهديد لها.

1542

| 24 مايو 2023

لماذا حقق أردوغان المفاجأة؟

جزمت جل التحليلات، وكذلك معظم خبراء الشأن التركي في المنطقة وخارجها، أن الاستحقاق الرئاسي التركي سيكتب نهاية تاريخ أردوغان السياسي الذي مكث في السلطة عشرين عاما بالتمام. وذلك على خلفية أمرين رئيسيين، وبعض الأمور الفرعية، وهما، توحد المعارضة خلف المرشح كليجدار أوغلو لإسقاط أردوغان. والثاني، هو التدهور الكبير الذى يعاني منه الاقتصاد التركي، لاسيما الليرة التركية منذ ثلاثة أعوام تقريبا. فضلا عن ذلك، ثمة أمور أخرى، ومنها، اشتياق الناخب التركي للتغيير، التعامل الحكومي غير المرضي مع كارثة الزلازل، تدهور العلاقات الخارجية لتركيا... وغيرها. ومع ذلك، حقق أردوغان المفاجأة بحصده نحو 49.34 % من أصوات الناخبين. بينما حصد منافسه القوي كليجدار أوغلو نحو 44.90 %. ليتنافس الرجلان في جولة إعادة آخر مايو، فرص أردوغان للفوز فيها أوفر بكثير. لاستبيان أسباب تحقيق أردوغان للمفاجأة، ينبغي توضيح حقيقتين رئيسيتين: أولاهما، هي طبيعة النظام السياسي التركي، إذ هو نظام متجذرة فيه العلمانية بشكل راسخ، ديمقراطي على نحو كبير جدا. ولعل نتيجة الاستحقاق الرئاسي خير دليل على ذلك، حيث لم تتقدم المعارضة بتظلمات رسمية تشكك في نتائج الانتخابات، ولم تمارس الحكومة ضغوطا، أو تلاعبات للتأثير على الناخب والمعارضة. والثاني، هو طبيعة الناخب التركي، إذ في أغلبه الأعظم- أي بقطع النظر عن انتمائه الفكري أو القومي - يعنيه أولا وأخيراً الاقتصاد ولقمة العيش. وقد جاءت نتيجة الجولة الأولى من الاستحقاق الرئاسي لتترجم عمليا ما سبق، وتفند معها بعض الأساطير والمغالطات الشائعة عن تركيا ونظامها السياسي والاقتصادي. إذ عكست نتيجة الاستحقاق تراجعا محدودا في ثقة الناخب التركي في سياسات أردوغان الاقتصادية، وفى مستقبل الاقتصاد التركي عامة تحت قيادة أردوغان. وفي صدد ذلك، يمكننا القول، إن غالبا ما تحدث مقاربات غير علمية أو دقيقة بين الاقتصاد التركي، واقتصادات بعض الدول التي تعاني من انهيار كبير. إذ رغم تراجع الاقتصاد التركي، والتدهور الحاد في الليرة التركية. لكن ما يتم عدم الإشارة إليه كثيرا، أو يتم التغاضي عنه، هو قوة الاقتصاد التركي في حد ذاته، ودواعمه الصلبة الراسخة لاسيما قاعدته الصناعية الضخمة، والتي ساهم أردوغان بصورة كبيرة على مدار ثلاثة عقود في توسيعها وتعزيزها. والتي لا تزال تترجم - رغم أزمة الاقتصاد التركي - في صادرات تركية تناهز مليارات الدولارات، بالتوازي مع عائدات ضخمة جراء السياحة التركية النشطة. وعلى الجانب الآخر، ما يتم تجاهله أيضا، هو برامج الضمانات الاجتماعية والصحية السخية جدا التي يتلقاها الناخب التركي من حكومة أردوغان. بالإضافة إلى الزيادات المتوالية في الرواتب، وتوفير فرص العمل، وتوسيع قاعدة الإسكان الاجتماعي للمحدودين. واستنادا إلى هذه الحقائق، تتبدد لدينا بعض الأساطير الشائعة، وتأتي على رأسها، أسطورة الحاضنة الإسلامية المحافظة القوية الداعمة لأردوغان. لا شك أن أردوغان وحزبه يتمتع بشعبية لدى الأوساط المحافظة في تركيا، لكنها ليست بالضخمة كما يصور البعض، ويعنى معظمها في المقام الأول الأداء والتحسن الاقتصادي. علاوة على ذلك، هناك بعض الشخصيات والتيارات السياسية المحافظة التي تزيد شعبيتها عند تلك الأوساط المحافظة شعبية أردوغان. فضلا عن ذلك، أن النظام التركي- كما أسلفنا - يعمل وفق أسس علمانية راسخة يحترمها الجميع، وفي مناسبات لا تحصى أقر أردوغان شخصيا وعلنا أنه إسلامي يعمل في نظام علماني يستوعب الجميع. وربما قد نسينا أن أردوغان قد فاز في معركته الانتخابية الأولى عام 2002، ببرنامج انتخابي يتوعد بالتحسن الاقتصادي واحترام العلمانية، بعد عقود سوداء عاشتها تركيا جراء انقلابات عسكرية متتالية وفساد حاد، وانهيار اقتصادي تام. ومع إقرارنا أن العامل الاقتصادي هو العامل الحاسم وسيزال على المدى المتوسط، لنجاح أردوغان أو غيره. إلا أن ثمة بعض الإنجازات الأخرى التي تحسب لأردوغان، والتي يجب قراءتها من منظور الناخب التركي، وليس من عدسات غربية. ويأتي من أهمها، نجاح أردوغان في تعزيز وزن تركيا على المستوى العالمي والإقليمي والجيوسياسى أيضا. إذ ما نحسبه مناكفات تركية متهورة مع حلف الناتو وأوروبا وبعض الدول الإقليمية، يحسب الناخب التركي باعتزاز، وباعتباره أيضا حرصا وسعيا واقعيا من دولته على تأمين مصالحها وصيانة أمنها، وتعزيز هوية وكرامة تركيا. إذ إن أردوغان بسياساته قد ناطح الكبار مثل فرنسا في شرق المتوسط، والولايات المتحدة في شمال سوريا. علاوة على ذلك، لدى أردوغان مواقف صارمة فيما يتعلق بقضية جزيرة قبرص، ومحاربة التمرد الكردي وحركاته المسلحة، وتعد تلك قضايا قومية حاسمة للأتراك. وزد على ذلك، تمكن أردوغان من تحجيم نفوذ المؤسسة العسكرية، إذ إن تغولها يثير مخاوف الأتراك بصورة كبيرة لاسيما مناصري العلمانية والليبراليين والاشتراكيين وتعيد ذاكرة سوداء لتركيا، وتهدم بالأساس أركان العلمانية الراسخة التي وضعها أتاتورك. ملخص القول، تحقيق أردوغان المفاجأة يكمن ببساطة في استمرار ثقة قطاع عريض من الأتراك في سياسات أردوغان الاقتصادية - التي أدخلت تركيا إلى نادي العشرين الكبار - والمكاسب التي يتحصلون عليها جراء ذلك. إلى جانب، الرضا العام عن سياسات أردوغان الداخلية والخارجية، أي المحافظة على أسس العلمانية، وتعزيز مكانة تركيا خارجيا. وبطبيعة الحال، يبدو جليا أن تكتل المعارضة لن يتمكن من تقديم بدائل مقنعة.

2277

| 17 مايو 2023

هيمنة الدولار: توضيح لبعض الحقائق

الحديث عن انتهاء هيمنة الدولار على الاقتصاد والتجارة العالمية، سواء بسبب تراجع قوة الاقتصاد الأمريكي، أو بسبب تحد متعمد من جانب القوى الدولية الكبرى وتحديدا الصين، ليس بالجديد. ومنذ اشتعال الحرب الروسية-الأوكرانية، زادت وتيرة هذا الحديث بقوة، بسبب توالي التداعيات الداعمة لذلك، كان آخرها الأخبار شبه المؤكدة عن انضمام السعودية إلى مجموعة «بريكس» بحلول الصيف المقبل. حيث إن انضمام الرياض للمجموعة من شأنه - كما يتداول الحديث عنه - تعظيم بيع النفط بسلة عملات غير الدولار. أو تحديدا انتهاء عصر «البترودولار». مسألة انتهاء هيمنة الدولار، والتحدي المتعمد لتلك الهيمنة، مسألة شائكة وغاية في التعقيد والإجابة عنها ليست بتلك البساطة كما يتصور الكثيرون. وذلك عند تفحص مجموعة من الحقائق الرئيسية وتوخي الموضوعية والحيادية عند اختبارها وتقييمها عملياً دون تدخلات وانحيازات عاطفية وتضليلية. ثمة حقيقة باتت راسخة لا يمكن لعاقل أن ينفيها أو يتجاهلها، وهي انحسار هيمنة الدولار «بدرجة قليلة» في التعاملات التجارية والمصرفية الدولية، نظير ازدهار عملات دولية جديدة أبرزها «اليوان الصيني». فالدولار إذن ما زال العملة المهيمنة في النظام التجاري والمصرفي العالمي، وستستمر هذه الهيمنة لمدة طويلة ربما لعام 2050. وزد على ذلك، من الصعب جدا إيجاد بديل للدولار، أو أن تحل عملة أخرى مكانه كعملة مهيمنة. لأن ذلك سيعني إحداث تحول تام في النظام والبنية المصرفية والتجارية العالمية وأنظمة الدفع والتحول الإلكترونية، التي تأسست وترسخت على الدولار. وبالطبع هذا سيناريو من الصعب تصوره وسيحدث إرباكا شديدا في النظام الاقتصادي العالمي سيؤثر بالسلب الشديد على الجميع. إذ لا يزال الدولار يحتل نصيب الأسد في سلة عملات احتياطيات دول العالم، وديونها أيضا بما في ذلك الدول ذات العملات الدولية الرائدة والمنافسة للدولار كاليابان ودول أوروبا والصين. فالأخيرة تعد ثاني أكبر مشتر لسندات الخزانة الأمريكية، وتستحوذ على ما يقرب من ثلاثة تريليونات دولار كاحتياطي نقد أجنبي. علاوة على ذلك، لا يزال الدولار المهيمن على نظام التحويلات والمقاصات الدولية وأنظمتها الرئيسية. وتلك الحقائق بشأن استمرار هيمنة الدولار الحتمية تجبرنا بلا شك على إعادة النظر حول حقيقية التحدي المتعمد من جانب بعض القوى لكسر هيمنة الدولار. وحقيقة الأمر أن ما تقوم به تلك القوى، خاصة الصين، في شأن ذلك يمكن وصفه بالمساعي الحثيثة للتخفيف من وطأة هيمنة الدولار، وليس السعي مطلقاً إلى انهياره تماماً. لأن انهيار الدولار ستكون عواقبه وخيمة للغاية على اقتصادات تلك القوى بما في ذلك الصين ثاني أكبر حائز على سندات الخزانة الأمريكية. ربما الحقيقة التي يتغافل عنها الكثيرون أن سعي تلك القوى للتخفيف من هيمنة الدولار، يتأتى بالأساس لحماية اقتصاداتهم ومصالحهم الخاصة. هذا بالإضافة إلى بروز مجموعة من المتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية الكبرى التي دفعتهم لذلك. تندفع تلك القوى في المقام الأول نحو ذلك إثر تفاقم فجوة الثقة في الاقتصاد الأمريكي والدولار، خاصة بعد الحرب الروسية-الأوكرانية. حيث في ظل أزمة التضخم الرهيبة التي يئن منها الاقتصاد الأمريكي، اضطر الفيدرالي الأمريكي إلى رفع معدلات الفائدة أكثر من مرة على التوالي لكبح جماح التضخم. مما كان له تبعات خطيرة على الاقتصاد العالمي لاسيما التضخم العالمي ومديونيات دول العالم المقومة بالدولار، وربما يتجه العالم نحو ركود تضخمي عام 2024 إذا استمرار الفيدرالي في رفع معدلات الفائدة. وبالتالي للتخفيف من وطأة هذا التضخم الذي ألحق ضرراً بالغا بتلك القوى، يجب الحد من هيمنة الدولار في التعاملات والمدفوعات الدولية عبر الدفع بسلة عملات بديلة، لا سيما اليوان حيث تعد الصين أكبر مصدر ومستثمر ودائن عالمي. ولعل ذلك ما يفسر مساعي الصين لتخفيض حيازتها من السندات الأمريكية في 2023. فضلا عن ذلك، قد وجدت تلك القوى أن هيمنة الدولار ستشكل عائقا أمام تحديهم للعقوبات الدولية، وتحديهم لفك الهيمنة الأمريكية على دول الجنوب والعالم الثالث، كذلك هيمنة الدولار في التحكم في الأسعار العالمية للطاقة والمواد الأساسية. لذلك، نجد على سبيل المثال، أن الهند حليف واشنطن الوثيق قد وافقت على شراء النفط بالروبل الروسي. كما تعزز الصين من مكانة اليوان في تعاملات دول مبادرة الحزام والطريق، لاستكمال نجاح المبادرة. خلاصة الأمر في تلك المسالة أن التخفيف من وطأة هيمنة الدولار لا تخلو بلا شك من أبعاد جيوسياسية، على المدى البعيد، لاسيما من جانب الصين وربما السعودية التي تعمل على زيادة استقلالية قرارها السياسي والخارجي. لكن بأي حال من الأحوال، ان استمرار هيمنة الدولار أو بتعبير آخر استقراره يصب في مصلحة تلك القوى في المقام الأول، خاصة الصين. فانهيار الدولار سيمثل للصين كارثة اقتصادية عظمى، إذ ستنخفض قيمة السندات والديون الدولارية التي بحوزتها بشكل كارثي. كما سيصاب الاقتصاد العالمي بالشلل والارتباك الشديد تكون الصين مصنع العالم أعظم ضحاياه. والأخطر من ذلك بالنسبة للصين، هو احتمالية تخفيض صادراتها بشكل كبير جدا على المدى الطويل نظير ارتفاع الصادرات الأمريكية المنخفضة القيمة بالدولار. ولهذا السبب تتعمد الصين دائما خفض قيمة اليوان كصمام أمان لصادرات صينية واسعة لاسيما للولايات المتحدة التي تستقبل ما يناهز 15% من حجم الصادرات الصينية. بالإضافة بالطبع إلى هروب الاستثمارات الأجنبية من الصين إلى الولايات المتحدة. وكلمة أخيرة، ان النظام النقدي والمالي العالمي قد يتجه صوب نظام «عملات تعددي» في المستقبل البعيد. لكن رغم ذلك، فإن ذلك يشكل خطرا على الاقتصاد العالمي وليس في مصلحته مطلقا. فاستمرار هيمنة الدولار والتي قد تأتت نتاج أوضاع دولية بعد الحرب العالمية الثانية، سيمثل صمام الأمان لاستقرار النظام الاقتصادي العالمي، لأن الدولار ومن ورائه قوة الاقتصاد الأمريكي أصبحا متداخلين ومترابطين في كل مناحي النظام الاقتصادي الدولي بما في ذلك اقتصادات جميع دول العالم.

3246

| 03 أبريل 2023

تداعيات الحرب الأوكرانية على الاتحاد الأوروبي

غدت أوروبا واتحادها الواسع، أكثر مناطق العالم تأثرا بل وانكشافاً تجاه أية أزمة دولية. إذ كلما واجه الاتحاد الأوروبي أزمة عالمية، طفا على السطح بقوة وبسرعة رهيبة مدى الهشاشة والتناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي تعتري الاتحاد الأوروبي ومؤسساته ومنظومة قيمة وتشريعاته ونخبه الرئيسية. بحيث تنذر بتفكك لهذا الاتحاد ربما خلال العقود الثلاثة القادمة. بدأت معالم الانكشاف الحقيقي لهشاشة الاتحاد عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية عام 2008، وسقوط ثلاث دول أوروبية في شبح الإفلاس، كان أفدحهم اليونان. مما اضطر الاتحاد إلى التدخل عبر حزم إنقاذ مالية بضغوط ألمانية فرنسية قدرت بالمليارات. وكشفت هذه الأزمة أن الأساس الاقتصادي الذي بني عليه الاتحاد يعتريه الكثير من العوار والغموض أيضا. إذ ضم الاتحاد في منظومته دولا هشة اقتصاديا خاصة دول شرق أوروبا، أصبحت عبئا على الدول الاقتصادية الكبيرة كألمانيا، ويماطل حتى الآن مع تركيا الأقوى اقتصاديا بكثير من دول شرق أوروبا، بشان عضويتها الكاملة في الاتحاد. وهذا يؤكد أن غرض التوسع المفرط للاتحاد ينبع من منطلقات سياسية وإيديولوجية محضة باعتباره "ناديا مسيحيا" لحماية الهوية الأوروبية (العلمانية-المسيحية-الليبرالية)، وإضعاف روسيا على وجه التحديد. لكن ما كشفته الأزمة أيضا قد برهن على هشاشة هذه المنطلقات. حيث أدت سياسة الإنقاذ المالي للاتحاد إلى تصاعد الغضب الشعبي في الدولة الغنية تجاه مغزى مساعدات هذه البلدان والتي يتحمل تكلفتها المواطن العادي دافع الضرائب. وتطور هذا الغضب إلى تنامي شكوك شعبية وأكاديمية تجاه جدوى استمرار الاتحاد في حد ذاته. لكن كان الأخطر على الإطلاق هو أن الأزمة كانت بمنزلة الفرصة الذهبية لصعود شعبية اليمين المتطرف في أوروبا. وحلت أزمة اللاجئين في عام 2015، لتعمق الانكشاف الأوروبي على نحو ملفت. إذ دب خلاف كبير بين دول الاتحاد حول مسألة استقبال لاجئي الشرق الأوسط والذين قد تجاوزا آنذاك المليونين. وكانت تلك الأزمة أيضا، البداية الحقيقية لتفكير بريطانيا في الخروج نهائيا من الاتحاد، كما ساهمت الأزمة في احتلال اليمين المتطرف مكانة متقدمة جدا في أوروبا. إذن، قد كشفت الأزمة أن الأساس الليبرالي والأيديولوجي للاتحاد كان يعتريه خلل فادح من الأساس. إذ تم إعلاء الهوية الوطنية على هوية الاتحاد أو الهوية "الأوروبية الجامعة"، كما تم إعلاء المصالح القومية الضيقة بشان استقبال اللاجئين وما يمثله ذلك من تداعيات وأعباء اجتماعية واقتصادية، على مصالح الاتحاد العليا. وأخيرا مدى هشاشة القيم الليبرالية والذي جسدها الصعود القومي لليمين المتطرف. ويرى البعض، أن أزمة كوفيد-19 قد مثلت أخطر الأزمات الكاشفة للهشاشة الكامنة للاتحاد، بل لأزمة المنظومة الليبرالية -القيمية للغرب عموما. حيث ضربت دول الاتحاد لاسيما الكبرى جميع القيم الليبرالية التعاونية عرض الحائط، باحثة كل دولة بمفردها بشكل أناني مفرط عن طوق النجاة من هذه الأزمة الكارثية الوجودية. حيث أغلقت دول الاتحاد حدودها تجاه بعضها البعض، وتآمرت على بعضها البعض من أجل الاستحواذ على المستلزمات الطبيبة والوقائية لمواجهة الأزمة. بالإضافة، كشفت الأزمة على عمق هشاشة النظم الصحية والاجتماعية والاقتصادية لدول الاتحاد في مواجهة الأزمة. ولعل الدرس المستفاد الذي كشفه حال أوروبا في مواجهة الأزمة، أن القيم الليبرالية التي تأسس عليها الاتحاد ويتشدق بها ويريد فرضها على الآخرين، والتي تشمل حقوق الإنسان، والديمقراطية، والتعاون المؤسسي، وحرية التجارة، سرعان ما تذهب إلى أدراج الرياح، وتطفو الواقعية السياسية البرجماتية أمام مواجهة خطر هائل بوزن أزمة كوفيد. ونحن نرى، أن الحرب الأوكرانية تعد أخطر الأزمات الكاشفة تماما لهشاشة الاتحاد الأوروبي ومنظومة قيمه. في أعقاب اندلاع الحرب برزت ثلاثة تطورات شديدة الخطورة. أولها، الهشاشة والانكشاف الأمني الخطير لأوروبا، وهو ما تجسد في إعلان ألمانيا عن نيتها في إعادة تسليح نفسها بسبب تغول الخطر الروسي. كما أعلنت دول أخرى كفنلندا عن رغبتها الانضمام إلى حلف الناتو. وجاءت تلك الإعلانات بعدما عجز حلف الناتو ومن ورائه الولايات المتحدة عن إيقاف التمدد الروسي في أوكرانيا. وهو ما اسهم في زيادة قناعات دول الاتحاد الكبرى خاصة ألمانيا وفرنسا بأن الاستمرار في الاعتماد على الحماية الأمريكية وحلف الناتو كذلك، مجرد لهث وراء السراب. وتبني دول أوروبية لخطط لإعادة تسليح جيوشها، يمثل في واقع الأمر إرباكا شديدا للاتحاد وآليات التعاون والتنسيق بين دوله، كما سيعيد أوروبا إلى حالة من التوترات والمشاحنات، ويزيد من انزواء وأنانية تلك الدول بسبب الكلفة الباهظة للأمن والعسكرة. والتطور الثاني، هو وصول اليمين المتطرف منفردا إلى سد الحكم في بعض الدول الأوربية كإيطاليا والسويد. بعدما وصل الناخب الأوروبي إلى قناعة تامة بفشل النخبة التقليدية المعتادة على مواجهة الأزمات لاسيما الاقتصادية التي خلفتها أزمة كوفيد، وأزمة الهجرة التي فاقمت من حالة الهلع من طمس الهوية الوطنية. وتفرد اليمين بالقرار السياسي سيترتب عليه أمور كثيرة غاية في الخطورة، ومنها الضغط بشان تقليص التعاون مع الاتحاد الأوروبي وربما الانسحاب منه تماما مقابل البحث بصورة ضيقة على المصالح الذاتية، التضييق على الحريات والحقوق خاصة للمهاجرين العرب والمسلمين. وعلى صعيد آخر، ربما الضغط لإعطاء روسيا المزيد من التنازلات بما في ذلك الأراضي الأوكرانية بأكملها. والتطور الثالث، أزمة الطاقة، وهذه الأزمة على وجه الخصوص قد كشفت لأوروبا خطورة مسالة الطاقة ونقصد الطاقة التقليدية (النفط والغاز) على الوضع الاقتصادي والاجتماعي لأوروبا برمته. فبسبب أزمة الطاقة، ارتفع التضخم في أوروبا إلى مستويات قياسية، واضطرت بعض الدول إلى تقليص قطع التيار الكهربائي لعدة ساعات يوميا. بينما لجت دول أخرى إلى العودة لاستخدام الفحم. وعلى إثر ذلك، أدت أزمة الطاقة إلى دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم سياساته الداخلية والخارجية حول أمن الطاقة، بعد الفشل الذريع في إيجاد سبل الحل عبر الطاقة البديلة. إذ تفكر بعض الدول الأوروبية في التوسع في استثمارات الطاقة التقليدية داخليا وخارجيا، وهو ما يعني رمي جميع المبادرات والسياسات المتعلقة بخفض التلوث والانبعاثات الحرارية من وراء الظهر، إزاء ضرورة توفير الطاقة بشتى السبل لحماية الأوروبيين من تداعيات شتاء أوربي قارص. وعلى نحو آخر، دفعت أزمة الطاقة الأوروبيين إلى إعادة تموضع في السياسة الخارجية وتعزيز الصلات بأي دولة ستزود أوروبا بالطاقة، رامية وراء ظهرها أيضا أية شوائب تدعيها متعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية قد تعكر صفو تلك الصلات. عندما تم تأسيس الاتحاد الأوروبي أكبر تكتل كونفدرالي في العالم وازدهر اقتصاديا بعد الحرب الباردة، جادل البعض أن تجربة الاتحاد الناجحة قد قطعت الشك باليقين بانتهاء عصر الواقعية الذي سادت فيه الحروب العالمية والصراعات الجيوسياسية والعسكرية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى انتهاء الحرب الباردة على الأراضي الأوروبية. حيث دخل العالم إثر نجاح الاتحاد الأوروبي، العصر الليبرالي الذي يسوده السلم والتعاون والمنفعة الاقتصادية. لكن أثبت واقع العالم بعد الحرب الباردة، أن سيادة العصر الليبرالي مجرد وهم كبير. وأن الاتحاد الأوروبي مجرد شكل من أشكال الواقعية السياسية، تكشفت تدريجيا بمرور الوقت.

3003

| 18 يناير 2023

بوتين وشبح الحرب النووية

يمثل قرار الرئيس بوتين إعلان التعبئة الجزئية للقوات العسكرية الروسية الذي أصدره قبل فترة منعطفا خطيرا للغاية في تطور الحرب الروسية في أوكرانيا. إذ يحمل القرار مدلولات عدة أخطرها أرجحية استخدام بوتين للسلاح النووي. وجاء هذا القرار نتيجة للهزائم التي تتلقاها القوات الروسية في أوكرانيا، أو بالأحرى الصعوبة البالغة التي تواجهها روسيا في حسم هذه الحرب. وتضاربت التقارير في هذا الصدد والتي وصلت إلى حد التأكيد على مقتل ما يقرب من 30 ألف جندي روسي في أوكرانيا، وإلحاق خسائر للقوات الروسية تقدر بنحو 80 مليار دولار أمريكي. وعموما، ما هو مؤكد مقتل عدد لا بأس به من الجنود الروس في أوكرانيا، وخسائر باهظة على مستوى العتاد والمعدات، وتمكن القوات الأوكرانية من استعادة بعض المناطق من روسيا. بالإضافة إلى الخسائر التي يتلقاها الاقتصاد الروسي بسبب العقوبات. ويكمن نجاح القوات المسلحة الأوكرانية والمقاومة الأوكرانية في الحرب في أمرين، الأول وهو الدعم العسكري والاستخباراتي القوي الذي تتلقاه من الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة. والثاني، الأهم والحاسم في تقديرنا، وهو "عدم عدالة" الحرب الروسية في أوكرانيا. يشير لنا التاريخ عبر الحروب القديمة والمعاصرة الكثيرة التي شهدها، أن الحروب غير العادلة عادة ما تنتهى بالهزيمة. فعندما تزج قوات نظامية في حروب تشعر أنها غير عادلة أو غير مبررة أو غير منطقية، تنعدم في هذه القوات الحماسة والروح القتالية العالية، ولا تجد هذه القوات السند الكافي لها من متطوعين جدد مستعدين للتضحية بأرواحهم في سبيل قضيتهم العادلة كهزيمة معتدٍ غازي أو استعادة أرض مغتصبة. والعكس صحيح تماما، عندما تنخرط قوات نظامية في حرب عادلة لاستعادة أرض مغتصبة، تقاتل بروح قتالية انتحارية، وتتشكل يوميا مقاومة شعبية باسلة انتحارية مساندة للقوات النظامية. وتستمر هذه المقاومة في استنزاف القوة المحتلة حتى آخر قطرة دم حتى ولو استتب الأمر للمحتل تماما. فروسيا ذاتها قد نجحت في هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية بسبب الروح القتالية العالية جدا للجنود الروس. وانتهت تلك الإمبراطوريات الاستعمارية على مدار التاريخ بفضل المقاومة الشرسة وحروب الاستنزاف. وربما ذلك ما يفسر حتى الآن سبب تعثر القوة العسكرية الجبارة لروسيا في أوكرانيا أمام الجيش الأوكراني متواضع القدرات. إذ تحارب القوات النظامية الأوكرانية بروح قتالية خطيرة، وتتشكل يوميا في أوكرانيا مقاومة جبارة لمقاومة الغزو الروسي. وشاهد على ذلك أيضا، التقارير المؤكدة باستعانة بوتين بالمرتزقة والمساجين وقوات فاجنر لمساندة القوات الروسية في أوكرانيا قبل إعلان التعبئة الجزئية. وبخلاف الروح القتالية المنخفضة للقوات الروسية في أوكرانيا التي تعكس شعورهم بعدم عدالة ومنطقية الحرب، انعكس عدم عدالة الحرب أيضا في مناحٍ عدة، منها ما نقلته مؤخرا تقارير عن هروب الكثير من الشباب الروس خارج البلاد بعد إعلان قرار التعبئة، فشل المناشدات والإغراءات الروسية للشباب الروسي قبل قرار التعبئة بالتطوع في الحرب، تململ قطاع عريض من الشعب الروسي من الحرب وتبعاتها من عقوبات اقتصادية وعزلة خارجية، وأخيراً ارتفاع الأصوات المنتقدة لهذه الحرب من أقرب حلفاء بوتين، وهذا ما وضح جليا في قمة "شنغهاي" الأخيرة، عندما ألمحت كل من الهند والصين بخطورة الاستمرار في هذه الحرب. أعلن بوتين التعبئة الجزئية والتي تتضمن الزج بما يقرب من 300 ألف جندي روسي في الحرب، اعتقادا منه أن السبب الرئيسي في التفوق النسبي للقوات الأوكرانية هو الدعم العسكري الذي تتلقاه من حلف الناتو والولايات المتحدة. وإن كان ذلك صحيحا نسبيا؛ إلا أنه يتجاهل عن عمد أو غير عمد حقيقة عدم عدالة الحرب. وهذه الحقيقة هي التي ستؤدي إلى إلحاق هزائم أخرى بالجيش الروسي في أوكرانيا، وستزيد من حجم وقوة المقاومة الأوكرانية الشعبية. لاسيما في ضوء عدم استعداد قوات الاحتياط الروسية لهذه الحرب سواء عسكريا ومعنويا. وفي ضوء سيناريو هزيمة روسية أخرى شبه متوقعة في أوكرانيا، فمن المرجح بشدة أن يلجأ بوتين إلى الخيار النووي. سبق وأن هدد بوتين ومساعدوه في بداية الحرب باللجوء إلى الخيار النووي ضد حلف الناتو، وترافق مع قرار التعبئة الجزئية نفس التهديد. وتهديد بوتين لابد أن يؤخذ على محمل الجد لعدة أسباب رئيسية، أهمها شخصية بوتين ذاتها أو ما يسمى في علم السياسة النسق العقيدي للقادة. إذ هو شخصية تتسم بالتهور، لا تقبل الهزيمة، حالم بعودة الإمبراطورية السوفيتية، يكن عداء شديدا للغرب ولأوروبا تحديدا. وسبب آخر ذو صلة وهو أن هزيمة بوتين في أوكرانيا هي بمثابة نهاية أسطورته السياسية للأبد، وهذا ما يرجح تمسكه بسياسة الأرض المحروقة، إما كل شيء أو لا شيء. وربما يعتقد بوتين أيضا استخدام السلاح النووي ولو تكتيكيا أو بصورة بسيطة سيردع الغرب تماما، والعكس هو الصحيح، إذ سيجر العالم إلى حرب عالمية ثالثة. وختاما يمكن القول إن الحروب غير العادلة تنتهي معظمها بالهزيمة، وهذا في تصورنا لن يتقبله بوتين بسهولة، الذي زج قواته في الحرب واثقا بانتصار سريع يعقبه مناكفة لدولة أخرى من دول الاتحاد السوفيتي السابقة في إطار حلم عودة أمجاد الاتحاد السوفيتي. وإزاء تعثر هذا الحلم، وتآكل شرعيته الداخلية والخارجية، ربما سيضطر إلى الخيار النووي، وعندها ستكون شرارة البدء للحرب العالمية الثالثة. ويبقى أمل وحيد في تقديرنا، تجلى في قمة شنغهاي الأخيرة، لمنع الكارثة النووية، وهو دخول حلفاء بوتين بكل ثقلهم، وخاصة الصين على خط الحرب، لإثناء بوتين عن استكمال هذه الحرب العبثية، والخروج بصفة تحفظ ماء الوجه له.

2127

| 17 أكتوبر 2022

متى ستضم الصين تايوان؟

يعد ضم الصين لتايوان بأي شكل ما، وغالبا، سيكون بالقوة أمرا محسوما ولا فصال فيه لدى الصين. فتايوان هي الخط الأحمر الرئيسي للصين. فمنذ إعلان جمهورية الصين الشعبية عام 1949، لم يتزحزح قيد أنملة الشعور الشعبي والرسمي والفكري القومي الراسخ بأن تايوان جزء أصيل من الوطن الأم يجب استرجاعه وضمه تحت حكومة وطنية واحدة. وإلى جانب الشعور القومي الجارف الذي لا يستطيع الحزب الشيوعي الحاكم أو أي رئيس صيني أن يتحداه أو يسير عكس اتجاه؛ ثمة أبعاد جيوسياسية وجيواقتصادية تربط بين تايوان واستكمال مسيرة صعود الصين كقوة عظمى في النظام الدولي. إذ أن تمتع الجزيرة بموارد طبيعية هائلة وبنية صناعية متميزة خاصة في المجال التكنولوجي، فضلا عن موقعها الاستراتيجي في شرق آسيا المطل على المحيط الهادي وبحر الصين الشمالي والجنوبي؛ يجعلها حاسمة جدا لترسيخ النفوذ العسكري والاقتصادي للصين في آسيا. ولنفس تلك المزايا الاستراتيجية الجبارة الحاسمة لصراع الزعامة الدولية، ليس من السهل أن تتخلى الولايات المتحدة عن تايوان وتجعلها فريسة سهلة للصين، حتى وإن كانت في أضعف حالتها. قضية ضم الصين لتايوان مسألة حاسمة أيضا لدى كبار المفكرين الاستراتيجيين في العالم، بل إن الولايات المتحدة تعي جيدا ذلك. لكن السؤال المطروح من قبل هؤلاء المفكرين، متى سيحدث هذا الضم؟. يشهد التوتر بين الصين والولايات المتحدة على تايوان تصاعدا لافتا منذ تولي إدارة ترامب الرئاسة. وتزايد هذا التوتر ربما بشكل غير مسبوق منذ مجيء إدارة بايدن. كدلالة على تصاعد مخاوف واشنطن من إصرار الصين على ضم الجزيرة بالقوة. وفي سبيل ثني الصين عن ذلك، عمق بايدن من وتيرة التطبيع غير الرسمي، والمساعدات العسكرية لتايوان، وحرك مدمرات بحرية بالقرب من الجزيرة، كما صرح في أكثر من مناسبة-وهو الأخطر بالنسبة للصين- عن عدم تواني الولايات المتحدة في استخدام القوة العسكرية ضد الصين حال غزوها لتايوان. وأخيرا، جاءت زيارة "نانسي بيلوسي" المثيرة للجدل لتايوان، لتثير حالة مزعجة جدا من التوتر بين القوتين. تلقت بكين خطوات بايدن التصعيدية، لا سيما زيارة بيلوسي على أنها ضوء أخضر أمريكي لتايوان للتمسك بالانفصال، وانحراف خطير عن سياسة الصين الواحدة التي تشبثت بها واشنطن منذ السبعينيات. لذا، جاء رد الصين سريعا وحاسماً جدا من خلال خطوات تصعيدية عسكرية واقتصادية غير مسبوقة ضد تايوان. وأوحى التصعيد العنيف للصين للكثيرين بأن ضم الصين لتايوان أصبح على مرمى حجر، بل ذهب بعضهم بالقول بأن ما اتخذته الصين من خطوات عسكرية واسعة ضد تايوان يمثل المرحلة الأولى من مراحل عملية الضم. ويعزز البعض تصوراته بالحرب الأوكرانية التي أظهرت جليا التراجع الأمريكي أمام روسيا الأقل قوة من الصين. لا شك أن التصعيد الصيني العنيف تجاه تايوان، يعكس ضمنيا تحديا صينيا أكثر صراحة وقوة لواشنطن بسبب نمو قوة الصين، كما يعكس أيضا الإصرار الصيني الراسخ الأبدي بشأن عدم التنازل عن تايوان. ومع ذلك، من الصعب وصف هذا التصعيد بأنه المرحلة الأولى أو القرار النهائي للصين لضم تايوان. بل أفضل ما يمكن وصفه بشأن هذا التصعيد هو بداية التصعيد "الحاسم والعلني والصريح" للصين لضم تايوان على المدى البعيد، أي بعد عقد من الزمان أو أكثر. والشاهد على ذلك، تراجع العمليات العسكرية للصين نسبيا تجاه تايوان بعد زيارة بيلوسي، وتبني مسار آخر لمعاقبة تايوان يرتكز على العقوبات الاقتصادية. إذ يمكن القول أن ثمة تحديات كثيرة بعضها جوهري، تعيق ضم الصين لتايوان على المدى القريب. ويتمحور أهم تحدٍ جوهري في تعادل ميزان القوة نسبيا بين الولايات المتحدة والصين خاصة العسكري. يشير استقراء التاريخ الواقعي للحروب الكبرى أو العالمية أو بين القوى العظمى، أن هذه الفئة من الحروب المدمرة تندلع عندما تتصرف قوة عظمى بحماقة شديدة توصف "بالانتحار" عبر الإفراط التوسع أو استخدام القوة كألمانيا النازية، أو الاتحاد السوفيتي عندما استنزفت قوته في غزو أفغانستان. أو عندما تستشعر القوى العظمى أن ميزان القوة قد تأرجح لصالحها بشكل كبير، وبالتالي تنخرط في صراع عسكري واسع متيقنة أن الانتصار هو حليفها في نهاية المطاف، ومثال على ذلك تورط الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية لتيقنها من انتصارها على دول المحور. استطاعت الصين عبر عقود من التنمية الاقتصادية والتطور العسكري والتوسع السياسي العالمي من تضييق فجوة القوة الشاملة مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، يمكن القول إن ميزان القوة بين القوتين-رغم التراجع الأمريكي- لايزال متعادلا نسبيا. بل إنه من زاوية القوة العسكرية تتفوق الولايات المتحدة بدرجة ما على الصين. وفضلا عن ذلك، تتميز الصين على خلاف أية قوى صاعدة في التاريخ بالصبر والحذر الشديد، والاعتماد بشكل كبير على الوسائل الاقتصادية والقوة الناعمة لتحقيق الهيمنة العالمية. وعليه، فتصرف الصين بشكل انتحاري لأجل تايوان أو غيرها من خطوطها الحمراء ليس وارداً في قاموس الصين السياسي مطلقاً. وعلى الجانب الآخر، تعي الصين جيدا أن ضم تايوان في ظل تعادل ميزان القوة مع الولايات المتحدة، ليس فقط مسألة غير مضمونة النجاح خاصة في ظل شبكة تحالفات واشنطن الأمنية والعسكرية القوية في آسيا الذي يطورها بايدن بقوة، بل أيضا ستصيب القوة الاقتصادية والقوة الناعمة ومصداقية الصين الإقليمية والعالمية في مقتل شديد، يعرقلها عشرات السنين عن حلم الهيمنة العالمية. وربما ينطبق ذلك على الولايات المتحدة، فهي أيضا لا تريد الانتحار من أجل تايوان في ظل ميزان قوة متعادل مع الصين. لذلك، يفهم سياسات بايدن الرامية تجاه تايوان بأنها رادعة للصين للاستمرار في تقبل سياسة الصين الواحدة بنظامين وليس ضمها. ثمة أيضا بعض التحديات الأخرى الحالية التي تعيق من سيناريو الضم القريب، نذكر منها، تركيز الصين على استعادة عافية اقتصادها الذي تضرر بشدة بسبب أزمة كورونا، وهذا يتطلب توفير مناخ إقليمي مستقر. ومن التحديات كذلك، توتر علاقاتها مع الهند والذي يخفي في طياته صراعا على النفوذ في آسيا. نخلص مما سبق أن ضم الصين لتايوان أمر سيحدث مؤكدا لكن على المدى البعيد، فعلى المدى القريب يقف تعادل توازن القوة مع واشنطن على وجه الخصوص عائقا ثقيلا أمام سيناريو ضم. لكن ما يمكن الجزم به أن الصراع الأمريكي الصيني على تايوان قد دخل في منعطف تصعيدي خطير يعكس في طياته معادلة توازن القوة، ويحمل في طياته أيضا ضم صيني مؤكد لتايوان خلال المستقبل عبر صراع مسلح أكيد ستنخرط فيه الصين عندما تتيقن تماما من الانتصار.

2535

| 22 أغسطس 2022

هل الحرب العالمية الثالثة على وشك الاندلاع؟

يحبس العالم حاليا أنفاسه مترقباً غزوا روسيا وشيكا لأوكرانيا. ويرى عدد كبير من المراقبين أن هذا الغزو في حال حدوثه سيشعل حربا عالمية ثالثة. وعالمية أو شاملة من منظورهم؛ لأنها ستكون ضد جبهتين تمثلان القوى العسكرية الكبرى في العالم، الأولى جبهة روسيا - الصين وربما إيران، والثانية جبهة الولايات المتحدة وأوروبا وحلف الناتو وأوكرانيا. ويوحي التصعيد العسكري الكبير المتصاعد للأزمة الأوكرانية لاسيما من جانب روسيا التي تحشد قرابة المائة ألف جندي على الحدود الأوكرانية؛ بأن احتمالات اندلاع الحرب أو الغزو الروسي لأوكرانيا أضحى وشيكا جدا. ومع ذلك، ففي تقديرنا المتواضع، أن احتمالات اندلاع الحرب بعيدة نسبياً. وقبل الحديث عن الأسباب الجوهرية التي من شأنها جعل أي حديث عن حرب عالمية ثالثة بسبب أوكرانيا أمرا مستبعدا تماما. يمكن القول ان ثمة بعض التطورات التي حدثت مؤخراً والتي تشير إلى قرب انفراجة في الأزمة. إذ في خضم هذا التصعيد العسكري والكلامي الشديد بين روسيا والولايات المتحدة وأوروبا. صدرت عن بعض المسؤولين الأوروبيين تصريحات تدعو للتهدئة وضرورة تغليب الحوار في إشارة واضحة للرغبة الأوروبية التامة في عدم اندلاع هذه الحرب. على جانب آخر، ألمح بعض المسؤولين في الناتو إلى إمكانية الاستجابة إلى بعض المطالب الروسية. وعلى نفس المنوال، قال بايدن إن هناك أملا في حل الأزمة دبلوماسيا. وأخيراً، كرر بوتين وعوده بعدم غزو أوكرانيا وقام بسحب قواته من جزيرة القرم. وحقيقة الأمر، أن كل تلك التصريحات الداعية إلى تهدئة الأزمة لا تنبع فقط من الإدراك التام بالعواقب الوخيمة للغاية للحرب على أوروبا والاقتصاد العالمي، بل أيضا من صعوبة انخراط القوى الغربية في حرب شاملة مع روسيا بسبب أوكرانيا، خاصة وأن روسيا جادة في غزو أوكرانيا. حيث يمكن القول ان بوتين قد انتصر فعليا في هذه الأزمة. وفيما يتعلق بالأسباب الجوهرية فيمكن القول، إن حربا عالمية ثالثة بسبب أوكرانيا طرفاها الرئيسيان الولايات المتحدة وروسيا، أمر مستبعد للغاية. فمن حيث المبدأ، فالولايات المتحدة القوى العسكرية الأكبر في العالم تشهد حالة من التراجع على كافة المستويات، أي ليس لديها استعداد مطلقاً لخوض حرب لأجل أوروبا عامة وليس أوكرانيا فقط، ستؤدى من ضمن جملة أسباب إلى المزيد من إضعافها وتشويه صورتها الدولية وتقوية القوة الصينية في المقابل. وعلى الجانب الآخر وهو الأمر الأهم، أن التهديد الرئيسي للولايات المتحدة أصبح الصين بلا أدنى مجال للشك، ومناطق التهديد الرئيسية أصبحت تنحصر في منطقتين رئيسيتين تقريبا: بحر الصين الجنوبي وتايوان. إذ أن هيمنة الصين على تلك المنطقتين تعنى انتزاع الصين للهيمنة الدولية من يد الولايات المتحدة. ومن ثم، من المرجح ألا تتوانى الولايات المتحدة في الدخول في حرب عالمية ثالثة مع الصين وحلفائها لعرقلة الهيمنة العالمية للصين. والتاريخ للأسف يشير بوضوح لذلك، فانتقال القيادة الدولية من القوى المهيمنة إلى القوى الصاعدة يجب أن يحسم بحرب عالمية. أحد الأسباب الجوهرية أيضا، أن الصين في المقابل من المستبعد للغاية أن تنضم إلى روسيا في أية حرب لها، خاصة في أوروبا. لأنها من أكبر المتضررين في حالة اندلاع أية حرب. والصين على نحو عام لا تحبذ خيارات القوة العسكرية إلا في حالات الضرورة القصوى عندما يتعلق الأمر بمصالحها السيادية الرئيسية (تايوان، بحر الصين الجنوبي، هونج كونج، التبت). وأخيراً، يجب وضع أوروبا في المعادلة، إذ تعانى من ضعف شديد وهناك شبه فقدان للثقة بين أوروبا والولايات المتحدة. هذا إلى جانب اعتماد أوروبا شبه التام على الغاز الروسي، حيث لا بديل متاحا لديها في الوقت الراهن. ونخلص مما سبق، أن الحديث عن حرب عالمية ثالثة لأجل أوكرانيا ما هو محض خيال بحت. فمن الوارد حدوث غزو روسي لأوكرانيا، لكنه سيمر دون رد فعل قوى أو عسكري تحديدا من جانب القوى الغربية، مثلما حدث عندما غزت روسيا جورجيا في 2008، في عز غطرسة وجبروت الولايات المتحدة بقيادة (بوش الابن). اندلاع حرب عالمية ثالثة وارد جدا وإن كان في المستقبل البعيد، وسيكون مسرحه الرئيسي آسيا، وطرفاه الأصليان الولايات المتحدة والصين، وبواعثه الرئيسية حسم القيادة العالمية.

16557

| 20 فبراير 2022

التغير المناخي في معادلة الصراع الصيني-الأمريكي

عقب انتهاء الحرب الباردة، جادل الليبراليون ومناصروهم أن القضايا والظواهر العالمية الجديدة الناجمة عن العولمة والتغيرات الهيكلية في بنية النظام الدولي، كقضية الإرهاب الدولي، انتشار السلاح النووي، الجريمة المنظمة، الهجرة، وقضية التغير المناخي؛ سوف تضيق مساحات الصراع والتناحر الجيوسياسى والعسكري بين الدول الكبرى، بحيث تجبرهم على التعاون. وهذا لا ينبع فقط من الخطورة البالغة لتلك القضايا على العالم والأمن الإنساني العالمي والسلم والأمن الدوليين، بل أيضا في الصعوبة البالغة في اضطلاع دولة عظمى مهما عظمت قوتها بالتصدي لها بمفردها. ومنذ أن برزت بقسوة التداعيات الوخيمة للغاية غير المسبوقة للاحتباس الحرارى العالمي في الصيف الماضي، حيث تأثر العالم كله تقريبا من هذه التداعيات، وامتدت هذه التداعيات إلى مناطق كانت مستبعدة من هذه التداعيات وخصوصا أوروبا التي شهدت في الصيف الماضي موجات فيضانات وجفاف. لا حديث في العالم سوى كيفية التصدي لقضية التغير المناخي والسيطرة على الاحتباس الحرارى. إذ بحسب المختصين في حال ارتفاع درجة الحرارة واحدا ونصف درجة مئوية عن المعدلات الحالية، ربما سيؤدى ذلك إلى اختفاء دول بأكملها كسويسرا نتيجة ذوبان الجليد. وجاء الإسراع في عقد قمة "جلاسكو" الأخيرة برعاية الأمم المتحدة على خلفية بلوغ تداعيات التغير المناخي إلى مستويات خطيرة جدا يهدد البشرية جمعاً، مما يستدعى تكاتف المجتمع بشكل عاجل. وواقع الأمر أن مخرجات جلاسكو بشان المناخ مخرجات طموحة للحد من الانبعاثات الكربونية وغاز الميثان في حال الالتزام بها. وما أعطى أملاً كبيراً لتحقيق هذه المخرجات الطموحة خاصة مسألة "الحياد الكربوني". هو الإعلان الأمريكي-الصيني المشترك بشأن الموافقة على التعاون بينهما خلال العقد القادم بشأن التغير المناخي، حيث تعهد الطرفان بالعمل معا للحيلولة دون ارتفاع درجات الحرارة بمقدار 1.5 درجة مئوية وفقا لمقررات قمة باريس للمناخ 2015. ولا شك أن التعاون الأمريكي-الصيني الجاد بشأن المناخ يمثل الأمل الحقيقي للسيطرة على الاحتباس الحرارى، ليس فقط بسبب أن الدولتين هما الأكثر إنتاجاً في العالم للغازات الدفيئة. بل أيضا في قدراتهما الكبيرة وبوسائل شتى على دفع المجتمع الدولي على الالتزام بأية مقررات أممية طموحة للتصدي للتغير المناخي. في أعقاب البيان الأمريكي-الصيني المشترك، وإعادة التأكيد عليه في القمة الافتراضية التي جمعت بايدن وبينج عقب قمة جلاسكو؛ تعالت نبرات متفائلة للغاية مؤكدة أن قضية التغير المناخي سوف تدفع بالعلاقات الأمريكية-الصينية إلى مسار تعاوني، تهمش فيه القضايا الصراعية الكثيرة بين الطرفين لصالح أولوية التعاون للتصدي للتهديد الخطير للتغير المناخي كتهديد "وجودي" للبشرية كلها. لاسيما وأن التعاون بين الجانبين في مسألة التغير المناخي قد عقب توتر شديد على خلفية أزمة "تايوان". وواقع الأمر أن هذه النبرات التفاؤلية يكتسيها الكثير جدا من المبالغة وعدم الواقعية. فبلا أدنى شك، أن كلا الجانبين يستشعران جيداً التهديد الوجودي للاحتباس الحرارى. ومع ذلك، فمن الصعب للغاية أن تتغلب قضية التغير المناخي على مناخ الحرب الباردة بين الطرفين، والذى أججه بايدن سريعا عبر إحياء تحالف "كواد" الأمنى الرباعى، وتحالف "أكوس" النووي. وفى حقيقة الأمر نحن أمام قوتين إحداهما وهى الصين تسعى حثيثاً بلا هوادة للهيمنة العالمية على حساب الولايات المتحدة، في حين تسعى الأخيرة وبلا هوادة أيضا إلى إضعاف طموح الصين في الهيمنة العالمية. ومن هذا المنطلق، فمسألة التغير المناخي تندرج على نحو كبير في هذا الصراع على الهيمنة الدولية، وهى مسألة "وجودية" لكلا الطرفين. فعلى الرغم من التعهدات الكثيرة التي قطعتها الصين على نفسها للحد من الانبعاثات الدفينة، والتي من بينها "صفر" انبعاثات كربونية بحلول 2060. ومع ذلك، قد تتخلى الصين عن بعض من هذه الوعود لضمان استمرار معدلات الإنتاج والتصنيع الكبيرة للصين والقائمة على استهلاك معدلات رهيبة من الوقود الأحفوري والفحم، وذلك لضمان استمرار تفوقها الاقتصادي الذى تعول عليه تقريبا لانتزاع الهيمنة الدولية من الولايات المتحدة. وعلى الجانب الآخر، يواجه بايدن إشكالية كبرى وهى صعوبة إقناع اللوبي النفطي في واشنطن بالحد من إنتاج الوقود الصخري. ومن ناحية أخرى، من الصعب للغاية على الطرفين الاستغناء عن قطاعات ملوثة خاصة في مجال التكنولوجيا في ظل الصراع على الريادة التكنولوجية العالمية بين الجانبين. وعلى منحى آخر، إن الاعتماد التام على الطاقة البديلة في التصنيع والنقل-وإن كان الدولتان تشرعان الآن في ذلك- يحتاج لمبالغ طائلة للغاية ربما تتجاوز التريليونات من الدولارات، ولن تكون باستطاعتها أن تحل محل الطاقة التقليدية خاصة في مجال التشغيل العسكري. وواقع الأمر أيضا، أن قضايا الصراع المتعددة للغاية بين الجانبين كقضية تايوان، وبحر الصين الجنوبي، والحرب التجارية، وطريق الحرير الجديد؛ هي قضايا غاية في التشابك والتعقيد من الصعب للغاية أن يقضى التعاون بين الجانبين في مجال التغير المناخي على أفق الصراع على هذه القضايا. وختاما نقول، إن قضية التغير المناخي ربما ستلطف حدة التوتر بين الجانبين، لكنها لن تقضى على طبيعة هذا التوتر الذى لا يندرج ضمن التنافس، بل صراع وجودي على الزعامة الدولية. ومن ثم، فمستقبل قضية التغير المناخي مرهون إلى حد كبير بمسار الحرب الباردة بين واشنطن وبكين.

2870

| 28 نوفمبر 2021

هل تستعد الصين لملء الفراغ في أفغانستان؟

تتجه الأنظار الآن وبقوة شديدة جداً إلى الصين كونها المرشح رقم واحد لملء الفراغ في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي. إذ إنه بمقدار ما يمنح الانسحاب الأمريكي من أفغانستان فرصاً كبيرة للصين، بمقدار ما يطرح تحديات كبيرة لها أيضا. وفي سياق توازي كافتي الفرص والتحديات للصين جاء الحديث بقوة عن الصين لتكون المرشح رقم واحد لملء الفراغ في أفغانستان. وما دعم ذلك أيضا، هو محادثات الصين المعلنة وغير المعلنة مع قادة طالبان بعد إعلان بايدن الانسحاب من أفغانستان، والتي تكللت باستضافة وزير الخارجية الصيني قائد طالبان الملا عبد الغني برادر قبل ثلاثة أسابيع من الانسحاب الأمريكي. ويكمن التحدي الرئيسي للصين من الفراغ في أفغانستان الناجم عن الانسحاب الأمريكي في تحويل المناطق الحدودية المجاورة للصين ذات الأغلبية المسلمة الإيغورية إلى قاعدة لتصدير المجاهدين أو الفكر الجهادي أو تعزيز التواصل بين مجاهدي أفغانستان والتنظيمات الإرهابية المتعددة في أفغانستان مع الحركات الانفصالية الإيغورية. ويتفاقم التحدي الصيني في إطار سياقين، الأول - حملة القمع الرهيبة التي تمارسها الصين على مسلمي الإيغور، والثاني- الأهمية الإستراتيجية الكبرى التي تلعبها المناطق ذات الأغلبية المسلمة وإقليم شينجاينج على وجه التحديد في مبادرة طريق الحرير الجديد، مما قد يسفر عن ذلك زيادة التهديدات الإرهابية لمصالح الصين في المبادرة من أجل الانتقام لمسلمي الإيغور. وفي ذات السياق يمكن القول، إن مصالح الصين في باكستان في إطار مبادرة الحرير ليس بمنأى أيضا عن التهديدات الإرهابية الناجمة من أفغانستان. على الجانب الآخر، يمنح الانسحاب الأمريكي من أفغانستان فرصاً كبيرة للصين، إذ تخطط الصين ومنذ فترة طويلة لضم أفغانستان إلى طريق الحرير الجديد، إذ إن موقع أفغانستان هام جدا لاستكمال ربط طرق المبادرة الرئيسية بباكستان وآسيا الوسطى. وكانت الصين قد أشارت سابقا عن سعيها لعمل ممرات ربط تربط بين الحدود الغربية للصين وتمر عبر أفغانستان حتى باكستان. وفي ذات السياق أيضا، تتجه أنظار الشركات الصينية للعمل في أفغانستان التي تحتوي على موارد طبيعية هائلة. وبالتالي نخلص مما سبق، أن لدى الصين حقاً مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية شديدة الحيوية في أفغانستان تجعلها الدولة صاحبة المصلحة الأولى في أفغانستان. ومع ذلك، فمسألة قيام الصين بملء الفراغ في أفغانستان أو أن تحل محل الولايات المتحدة- كما يبشر العشرات من الكتاب وكأن الأمر قد حسم تماماً - ليس بالأمر السهل على الصين خصيصاً. فمن جانب، ربما لا تبشر عودة طالبان لحكم أفغانستان بوضع أمني وسياسي مستقر في أفغانستان حتى الآن. ومن جانب آخر أكثر موضوعية، إن أحد ثوابت السياسة الصينية الراسخة هو عدم التوسع أو التمدد عسكريا خارج حدودها، بل وأيضا عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى والانجرار في أية أزمات داخلية أو إقليمية. إذن، السؤال المطروح الآن كيف ستتعاطى الصين مع تلك الفرص والتحديات لا سيما الأخيرة دون الانجرار في مستنقع تدخل عسكري في أفغانستان؟. يبدو من تحركات الصين الأخيرة أن الصين تراهن على أمرين متدخلين: الأول- توثيق علاقاتها مع طالبان والاعتراف بها التي تستطيع جزئيا- من منظور الصين - تحقيق استقرار نسبي في أفغانستان في المناطق التي تسيطر عليها، كما تراهن الصين على تعاون طالبان مع الصين لإنجاز طموحاتها الاقتصادية في أفغانستان وتأمينها في نفس الوقت. الثاني- تراهن الصين على دور قوي لباكستان في أفغانستان لما لباكستان من قدرة كبيرة على السيطرة على الحركات الجهادية المتطرفة. ومن منظورنا أن رهانات الصين لن يصيبها النجاح الكبير لعدة أسباب رئيسية، ربما أهمها صعوبة تحقيق استقرار سياسي وأمني طويل الأمد في أفغانستان تحت سيطرة حكومة طالبان، حيث من المرجح بشدة أن تعود أفغانستان إلى أجواء الحرب الأهلية تحت سيطرة طالبان. إذ فبحسب العديد من التقارير الأمنية يستعد خصوم طالبان، وهم كثر وأقوياء ومنهم نجل الملا "أحمد شاه مسعود"، للدخول في مواجهات عسكرية مع طالبان. على الجانب الآخر، في ظل استمرار حملة القمع الرهيبة التي تمارسها الحكومة الصينية ضد مسلمي الإيغور، من الصعب للغاية أن تمنع باكستان الحركات الجهادية العديدة والقوية ومنهم القاعدة عن مهاجمة الصين أو الجهاد ضد الصين نصرة لمسلمي الإيغور. ومن المعروف أيضا، أن العديد من تلك الحركات الجهادية خصوم لطالبان، وخارج سيطرة باكستان تماما وتسيطر على مقاطعات في أفغانستان ولديها مقاتلون بالمئات. الصين حقا ستواجه معضلة إزاء التعامل مع أفغانستان تجعلنا نصدق التحليلات المنتشرة التي تقول إن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وسماحها بعودة طالبان للحكم بكل سهولة ما هو إلا خطة أمريكية متعمدة لخلق بؤرة توتر مزمنة لكل من روسيا والصين. ماذا ستفعل الصين تجاه تلك المعضلة؟ هل ستضطر في نهاية المطاف لتمديد حضورها العسكري في أفغانستان وهي تعلم جيدا أن تحقيق أي انتصار في أفغانستان ضرب من المستحيل؟.

2875

| 07 سبتمبر 2021

مستقبل أفغانستان

لم يكن من المستغرب على الإطلاق السيطرة السريعة جدا لطالبان على كابول ثم العودة لحكم أفغانستان منذ إعلان بايدن الانسحاب المبكر الكامل غير المشروط من أفغانستان، بل يمكن الجزم أيضا أن الولايات المتحدة كانت على يقين تماما بعودة طالبان السريعة للحكم وصعوبة صمود الجيش الأفغاني الذي صرفت عليه المليارات أمام طالبان القوية جدا على الأرض والمسيطرة على مناطق أفغانية كثيرة إبان وجود القوات الأمريكية. إذن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هل عودة طالبان لحكم أفغانستان يعني عودة أفغانستان لما قبل 2001؟. أي عودة لتطبيق متطرف للغاية للحكم الإسلامي بعيدا تماما عن تعاليم الإسلام الوسطية السمحة أرجع أفغانستان إلى ما قبل العصور الوسطى، ودعم وإيواء للتنظيمات المسلحة وخاصة القاعدة، وأخيرا حروب داخلية طاحنة بين الفصائل الإسلامية. منذ سيطرتها على كابول، أطلق قادة طالبان وخاصة متحدثها الرسمي "ظبى الله مجاهد" جملة تصريحات تطمينية مؤداها وجود تغير جذري في فكر وأسلوب طالبان في حكم وإدارة البلاد. إذ من التصريحات الهامة في هذا الصدد هو العمل على مشاركة جميع الفصائل الأفغانية في إدارة البلاد وعدم انفراد طالبان بالسلطة، السماح للمرأة بالمشاركة في الحياة السياسية والسماح بتعليم المرأة وتخفيف القيود المتعلقة بتطبيق الشريعة الإسلامية. فمن منظورنا أن تلك التصريحات تعمدت بها طالبان تهدئة مخاوف المجتمع الدولي حتى تستكمل سيطرتها على حكم أفغانستان بهدوء وتلقى بعض الدعم الدولي، ولم تكن موجها للشعب الأفغاني. وللتذكرة أيضا لم تفِ طالبان بأية وعود قطعتها على نفسها أثناء مفاوضاتها مع الولايات المتحدة من أجل الانسحاب. والأهم من ذلك، تعتبر طالبان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان انتصارا للحركة. إذن، لا نتوقع مع الهيمنة التامة لطالبان على السلطة حدوث تغير جذري في إدارتها للحكم، لا سيما حدوث أي تغير في مسألة الحكم الإسلامي المتشدد للغاية لأن قادة الحركة وأنصارها لا يزالون يحملون الفكر المتشدد ويطبقونه في المناطق التي تخضع لسيطرتهم. وبناء على ذلك أيضا، فإن استمرار طالبان في دعم وإيواء الحركات الجهادية الكثيرة جدا العاملة في أفغانستان وخاصة تنظيم القاعدة أمر مؤكد بلا أدنى مجال للشك. على الرغم من الوعود التي قطعتها طالبان على نفسها بعدم السماح باستخدام أفغانستان لشن هجمات مسلحة خاصة من قبل القاعدة، وكذلك تعهدها بعدم السماح بتحويل أفغانستان لمراكز تدريب وإيواء للتنظيمات الجهادية. وفي تلك المسألة على وجه الخصوص، يمكن القول إنه بخلاف الدعم المتوقع لطالبان لتلك التنظيمات الجهادية هنالك واقع آخر أن تلك التنظيمات وخاصة القاعدة قوية ومسيطرة جدا على الأرض أو في مناطق أفغانية كثيرة ولها أتباع بالمئات. وبالتالي، ستواجه طالبان صعوبة بالغة للغاية في السيطرة على تلك التنظيمات. يبقى في هذا الصدد الإشكالية الكبرى المدمرة لأفغانستان وشعبها تماما، وهي ربما العودة المخيفة للحروب الأهلية الداخلية في أفغانستان تحت حكم طالبان. إذ يمكن القول إن سيطرة تامة قوية لطالبان على حكم أفغانستان لا يعنى حكم مستقر لها ولأفغانستان. فقادة طالبان أنفسهم بينهم انقسامات حول أسلوب وإدارة البلاد تحت الحكم الإسلامي. كما أن طالبان لديها خصوم كثيرون أقوياء على الأرض من بينها حركات جهادية وأمراء حرب إلى جانب خصومها من الأقليات العرقية الأخرى كالطاجيك والأوزبك. بل والأخطر من ذلك أيضا، أن بين الحركات الجهادية العاملة في أفغانستان انقسامات وخلافات حادة ورواسب عدائية قديمة تنذر بصراعات مسلحة طاحنة بينهما. ويجدر الإشارة أيضا أن التناحر والصراع بين الحركات الجهادية المتشددة سمة ثابتة لتلك الحركات والشاهد على ذلك الصراع بين القاعدة وداعش والنصرة في سوريا. وبناء على ذلك، لن يكن بمقدور طالبان الحيلولة دون حروب داخلية طاحنة في أفغانستان فحسب، بل أيضا ستكون الحركة شريكاً رئيسياً في هذه الحروب، بحيث لن تتحول أفغانستان إلى دولة فاشلة بالمعنى المتعارف عليه في العلوم السياسية، بل إلى "اللا دولة" على الإطلاق وساحة لحروب داخلية طاحنة غير معلوم مستقبلها. يبقى أخيرا الإشارة إلى أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان سيحول أفغانستان إلى ساحة لصراعات إقليمية، مما يضيف من عوامل عدم الاستقرار إلى مستقبل أفغانستان. إذ من المتوقع أن تستخدم باكستان أفغانستان عبر حلفائها من التنظيمات الجهادية وخاصة شبكة حقاني لمهاجمة الهند. ومن ناحية أخرى، فالصين على وجه الخصوص تخشى مع عودة طالبان أن تتحول المناطق الحدودية الأفغانية المجاورة لها إلى قاعدة لمهاجمة الصين وضرب مصالحها على خلفية قضية اضطهاد الإيغور. ولدى روسيا مخاوف أيضا من عودة طالبان للحكم وتتركز من دعم طالبان للتنظيمات الجهادية المناوئة لروسيا في آسيا الوسطى. وفي الختام أن أفغانستان تحت حكم طالبان فأتوقع أن تعود إلى ما قبل 2001 يضاف إلى ذلك عامل البعد الإقليمي ومحاولة سيطرة القوى الكبرى المجاورة لأفغانستان عليها مما يزيد من عوامل عدم الاستقرار لمستقبل أفغانستان. أما بخصوص الولايات المتحدة، فلا نتوقع أية ردود فعل على ما سيؤول إليه الوضع المستقبلي في أفغانستان لأنها تركت أفغانستان ومتيقنة تماما لهذا المستقبل للتفرغ لأولوياتها القصوى وهي إضعاف الصعود الصيني.

3551

| 24 أغسطس 2021

مبادرة بايدن لمنافسة طريق الحرير.. الدلالات والتحديات

عقدت قمة مجموعة السبع الكبار خلال الشهر الماضي، وناقشت موضوعات عدة، لكن كان الموضوع الأبرز على الإطلاق الذي خرجت به هذه القمة، اقتراح بايدن على المجموعة خطة عالمية عملاقة للاستثمار في البنية التحتية، يشترك فيها ما يسمى تحالف الديمقراطيات، لمنافسة مبادرة طريق الحرير العملاقة التي أطلقتها الصين في 2013. يتفق المراقبون والمتخصصون في الشأن الأمريكي، أن تحجيم نفوذ الصين المتضخم في النظام الدولي واحد من المقاصد الرئيسية التي يشترك فيها الديمقراطيون والجمهوريون، فكلاهما يختلفان بشدة في أمور عدة على الصعيدين الداخلي والخارجي، بشكل قد عمق من انقسام الأمة الأمريكية. ومع ذلك، يبقى تقويض الصعود الصيني هدفا استراتيجيا أسمى لكليهما باعتباره التهديد الاستراتيجي الأعظم للهيمنة الأمريكية في النظام الدولي منذ انتهاء الحرب الباردة. لذلك، خيب بايدن مبكرا جميع التوقعات المتفائلة حول علاقات أمريكية - صينية أكثر هدوءًا، بعد حقبة غير مسبوقة من التوتر في العلاقات بين البلدين خلال عهدة ترامب الأولى. ففي غضون الأسابيع الأولى من ولايته، أعلن بايدن صراحة عن نيته تشكيل تحالف دولي من الديمقراطيات لمواجهة النفوذ الصيني، أعقب ذلك زيارة لوزير الدفاع الأمريكي أوستن إلى آسيا لإحياء ما يسمى تحالف (كواد) وتوسيعه بقصد تشكيل (ناتو آسيوي) للتضييق على الصين في آسيا. إعلان إدارة بايدن المبكر جدا والمفاجئ عن تقليص حضورها العسكري في منطقة الخليج مقابل الباسيفيك، وانسحابها غير المشروط من أفغانستان يأتي في سياق التركيز التام لإدارة بايدن على تقويض الصين مقابل شرق أوسط لم يعد ذا أهمية استراتيجية كبرى لواشنطن. تمثل مبادرة بايدن البديلة لطريق الحرير أحدث مساعي الولايات المتحدة - وليست الأخيرة - لتقويض الحضور الصيني العالمي الذي نما بشكل مطرد عبر مبادرة الحرير، فالصين قد تمكنت عبر المبادرة من تعزيز حضورها الاقتصادي في أكثر من 70 دولة بما في ذلك دول أوروبية. ومن ثم، أضحت المبادرة - رغم كونها اقتصادية - أكبر تهديد استراتيجي للنفوذ العالمي لواشنطن، ولعل ذلك ما أدركته واشنطن متأخراً بسبب غموض أهداف الصين ونواياها الحقيقية من هذا التوسع الاقتصادي العملاق، فهذا التوسع الاقتصادي سيُترجم بلا أدنى شك لنفوذ جيوسياسي وحضور عسكري وهذا ما بدأ يلاحظ بشدة في أفريقيا. وتتسق مبادرة بايدن البديلة مع نهجه العام المعلن لمواجهة الصين، والذي يستند إلى تشكيل التحالفات والنهج الدبلوماسي. وعليه، فالمبادرة - حال تنفيذها - ستشكل أهم سياسات الولايات المتحدة لتقويض مساحات النفوذ الجيواقتصادي والجيوسياسي التي حازتها الصين عبر مبادرة الحرير بشكل سلمي وهادئ، خاصة وأن الكثير من دول المبادرة بدأت تعاني مما يسمى "فخ الديون" الصيني الناشئ عن المبادرة، ودول أخرى بدأت تتشكك في نوايا الصين وأهدافها الحقيقية حول توسعها الاقتصادي عبر المبادرة. ومع ذلك، فنجاح تلك المبادرة لا يزال يواجه عقبات وتحديات جمة. أعلنت دول قمة السبع - التي اتفقت من حيث المبدأ وبشكل متردد على المبادرة - عن رصد 40 مليار دولار أمريكي لتمويل مبادرة بايدن البديلة. وهذا التمويل المرصود بالطبع لا يستطيع منافسة التمويل الصيني للمبادرة الذي تجاوز التريليون دولار أمريكي. لكن ما هو أهم أن دول القمة - رغم تضاؤل هذا التمويل - قد أعربت بشكل غير مباشر عن ترددها بشأن مشاركتها في هذا التمويل. تواجه المبادرة تحديا آخر وهو توحيد الرؤى الغربية حول منافسة الصين، ليس فقط عبر المبادرة بل عموما. فالدول الأوروبية رغم اتفاقها مع واشنطن حول ضرورة التصدي للصين، إلا أنها ليست متفقة فيما بينها حول درجة الخطورة التي تمثلها الصين عليها، وسبل تلك المواجهة. فالمواجهة الأمريكية للصين تتمحور بشكل أساسي حول المنافسة على الزعامة الدولية، بينما تنبع مخاوف بعض الدول الأوروبية من فقدان استقلالها بسبب اعتمادها المتزايد على الصين، بعض الدول الأوروبية الأخرى خاصة فرنسا مشكلتها مع الصين تتمحور حول ملف حقوق الإنسان. الأهم من كل ذلك، أن جميع الدول الأوروبية ترتبط مع الصين بعلاقات قوية وتعتمد عليها بشكل كبير في بعض الصناعات التكنولوجية، ناهيك عن الاستثمارات الأوروبية الضخمة في الصين. إذن، فأقصى ما تسعى إليه الدول الأوروبية خاصة الكبرى منها كألمانيا، تقليص اعتمادها الاقتصادي على الصين وليس تقويض نفوذ الصين العالمي، وحث الصين على تحسين ملف حقوق الإنسان خاصة ملف الإيغور كهدف ثانوي لتخفيف الضغط عليها من منظمات حقوق الإنسان الأوروبية. ويبقى تحد آخر، ويكمن في صعوبة فك ارتباطات الصين الاقتصادية عبر المبادرة التي تقدر بالمليارات في الكثير من دول المبادرة، التي من بينهما دول عديدة حليفة لواشنطن لا سيما في منطقة الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، تنشئ الصين في دول مجلس التعاون عبر المبادرة الكثير من الموانئ الاستراتيجية ومشروعات بنية تحتية عملاقة، ولا بديل حتى الآن أمام دول المبادرة سوى الصين التي تمتلك التمويل الكافي لتمويل مشروعات البنية التحتية العملاقة، خاصة في ظل الأزمة المالية الكبرى التي تعاني منها الدول الغربية، والشروط القاسية التي تضعها المؤسسات الغربية على التمويل والإقراض. ختاماً، يمكن القول: تمثل مبادرة بايدن البديلة خطة طموحة لتقويض مبادرة الحرير، لكنها قد جاءت متأخرة للغاية في ظل استفحال مبادرة الحرير، علاوة على ذلك تواجه المبادرة تحديات كثيرة جمة تنبئ بصعوبة تنفيذها على الإطلاق.

4045

| 06 يوليو 2021

البعد القومي: البعد الغائب في تفسير الصراع الأمريكي الروسي الصيني

انتهاء الحرب الباردة في التسعينيات من القرن المنصرم بشكل غير متوقع على الإطلاق، أي دون قطرة دماء ولا تحرك لآلة عسكرية؛ قد أثار حيرة كبيرة لدى علماء العلاقات الدولية والعلوم السياسية بشأن تفسير ذلك. أعقاب انتهاء الحرب الباردة مباشرة تفجرت صراعات عرقية وقومية داخلية في أغلبها كثيرة، فاقمت بدورها من حيرة هؤلاء العلماء. ظهرت بعد انتهاء الحرب الباردة منظورات فكرية أشهرها ما يسمى المنظور البنائي حاولت إيجاد تفسير لذلك. خرج المنظور البنائي على وجه الخصوص باستنتاج مؤداه أن ما يحرك التعاون والصراع في النظام الدولي هو البعد الأيديولوجي أو الفكري الذى يتم تأسيسه اجتماعياً. وليس البعد المادي ومضامين القوة والنفوذ والهيمنة كما رسخته ما يسمى المنظورات الوضعية في العلاقات الدولية وأشهرها على الإطلاق المنظور الواقعي. بل ان البعد المادي في حد ذاته ومضامينه الكثيرة يتم تحديده وبناؤه في سياقات البعد الأيديولوجي ومضامينه الكثيرة أيضا كالقومية والثقافة والانتماء والتاريخ والهوية. استنادا إلى المنظور البنائي استقر لدينا بأن انهيار الاتحاد السوفيتي كان نتاجا مباشرا لضعف الانتماء للمنظومة الاشتراكية وتطلع شعوبه للتحرر منها والحلم بالنموذج الليبرالي الغربي والرفاهية الاقتصادية. إذن فالبعد الأيديولوجي قد أدى إلى انهيار الاتحاد من داخله دون حرب عسكرية كبرى بين واشنطن وموسكو. وعلى نفس المنوال أيضا، تفجر الحروب والصراعات القومية كحرب البلقان وحرب كوسوفو في بعد انهيار الاتحاد كان مردها الأساسي الأبعاد العرقية والهوية والدينية وليست حروبا على أراض ونفوذ وقوة في حد ذاتها. تأسيس حلف الناتو في حد ذاته يحمل بعدا هوياتيا صارخا إذ هو تحالف مجموعة الدول الغربية المسيحية - العلمانية بالأساس. الإرهاب الدولي أيضا لن نستطيع إسقاط البعد الأيديولوجي بشأن تكوينه وتوسعه، إذ محركه الأساسي منظومة الأفكار الراديكالية المشتركة التي تجمع أعضاءها عبر قارات العالم المختلفة. انفردت الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بزعامة النظام الدولي كقوة واحدة عظمى في النظام الدولي. ورغم الضعف الشديد الذي كانت عليه كل من روسيا والصين حينئذ. ومع ذلك، ظلت الولايات المتحدة متخوفة بشأن نوايا كليهما وتحديدا محاولة إعادة دورهما في النظام الدولي كدول كبرى مناهضة للهيمنة الأمريكية. سعت الولايات المتحدة بشتى الطرق لاحتواء كلتا الدولتين. فبصدد روسيا عملت واشنطن على المزيد من إضعافها عبر توسيع حلف الناتو على أطرافها وضم أعضاء من محيطها الإقليمي إلى الاتحاد الأوروبي. كما حاولت أيضا إقناع روسيا بالانضمام إلى حلف الناتو أو تحويلها كأي دولة أوروبية تابعة للمنظومة الغربية. تعنت روسيا "المسيحية" على مدار عقد تقريبا في الانزواء والذوبان في المنظومة الغربية "المسيحية/ العلمانية" حتى مجيء بوتين القوى في الألفية الجديدة، لا تفسير له إلا من خلال سطوة البعد القومي على عقول النخب الروسية وقطاع عريض جدا من الروس. إذ لا تزال تلك النخب والشعوب ترى في روسيا دولة عظمى وتستحق مكانة ريادية في أوروبا بل الهيمنة على أوروبا، ومكانة رائدة في النظام الدولي تضاهى به مكانة واشنطن. أما بصدد الصين، فقد تخيلت واشنطن أنها قادرة على تحويل الصين إلى يابان أو سنغافورة أخرى في آسيا عندما تخلت الصين عن سياسة العزلة والانغلاق لماو تسى تونج وتبنت الانفتاح الاقتصادي الليبرالي، أي دول تابعة للمنظومة الغربية الليبرالية. لذلك، دعمت الصين اقتصاديا وضمتها إلى منظمة التجارة العالمية وحولت معظم صناعاتها واستثماراتها هناك. ما كان من محصلة إلا تقوية الصين اقتصاديا إلى حدودها القصوى وتحولها رويدا رويدا إلى قوى مهيمنة في آسيا تتطلع إلى زعامة النظام الدولي وتنافس بشراسة واشنطن بل وتتحدى قيمها ومؤسساتها الاقتصادية ودورها العسكري في آسيا. وعلى غرار روسيا، ما من تفسير من ذلك إلا البعد القومي ومضامينه الكثيرة كالبعد التاريخي والثقافي المهيمن على النخب الصينية الحاكمة ومعظم الصينيين. على اعتبار أن الصين حضارة تاريخية حكمت آسيا في لحظة تاريخية، ولديها قيمها وثقافها وهويتها التاريخية المتميزة وتستحق الريادة على آسيا بل والعالم كله. وصول زعماء قوميين أقوياء كبوتين في روسيا وشى جين بينج في الصين قد أعاد تأجيج الأبعاد القومية بشكل كبير لدى شعوبهما. فكلاهما لديهما تطلعات بعودة ودور قوى إقليمي ودولي. وكلاهما أيضا يحظى بشعبية واسعة حقيقية وساحقة، على عكس ما يصور الإعلام الغربي على وجه التحديد. في هذه اللحظة الراهنة، يقف العالم على أعتاب صراعين ساخنين جدا: الأول - التصعيد بين روسيا وأوكرانيا. والتصعيد بين الصين والولايات المتحدة في الباسيفيك وإن كان يدور بشكل أكثر هدوءًا. وواقع الأمر فكلا التصعيدين هو صراع أمريكي- روسي- صيني بالأساس. فالتصعيد الروسي- الأوكراني كاشف جدا للبعد الأيديولوجي والقومي الحاكم لعقلية روسيا والغرب على السواء، فهو صراع على أدوار ومكانة وهيمنة بين قوة "روسيا" ترى في نفسها قوة كبرى مستقلة عن الغرب ويدعم اغلب الشعب الروسي ذلك. وبين قوة أخرى "الولايات المتحدة" ترى في قيمها ونموذجها الحضاري الأفضل الذى يجب أن يسود أوروبا. وبين شعب منقسم "الشعب الأوكراني" بين هويتين شرقية وغربية. وعلى نفس المنوال أيضا، الصين التي تتطلع بفضل منظومة قيمها الخاصة إلى ريادة النظام الدولي وتقويض دور الولايات المتحدة في النظام الدولي. ما يمكن الخلوص إليه، أن البعد القومي سيظل طاغيا وحاكما للصراع الأمريكي الروسي الصيني. كل يرى في نفسه الأجدر بالزعامة الدولية بفضل تميزه القومي، وما من صراع جزئي أو طرفي بينهما تجارى أو اقتصادي أو عسكري إلا وهناك بعد قومي يشكله ويحركه. ولمزيد من توضيح ذلك، لماذا ترتبط الولايات المتحدة بعلاقات وثيقة جدا مع إنجلترا الإمبراطورية السابقة، ولماذا لا تتحدى الأخيرة دور واشنطن في النظام الدولي، ببساطة شديدة جدا بسبب غياب البعد القومي الأيديولوجي عن المعادلة.

5251

| 06 مايو 2021

alsharq
بائع متجول

يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن...

5904

| 26 سبتمبر 2025

alsharq
كبار في قفص الاتهام.. كلمة قطر أربكت المعادلات

في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو...

5595

| 25 سبتمبر 2025

alsharq
في وداع لطيفة

هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات...

4470

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
الكلمات قد تخدع.. لكن الجسد يفضح

في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه،...

3327

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
الفن ضد الدمار

تواجه المجتمعات الخارجة من النزاعات المسلحة تحديات متعددة،...

1596

| 26 سبتمبر 2025

alsharq
ماذا يعني سقوط الفاشر السودانية بيد قوات الدعم السريع؟

بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون...

1320

| 28 سبتمبر 2025

alsharq
فلسطين والكيان والأمم المتحدة

أُنّشِئت الأمم المتحدة في العام ١٩٤٥م بعد الحرب...

1185

| 28 سبتمبر 2025

alsharq
حين يُستَبدل ميزان الحق بمقام الأشخاص

‏من أخطر ما يُبتلى به التفكير البشري أن...

1059

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق

منذ أكثر من مائة عام ارتُكبت واحدة من...

840

| 30 سبتمبر 2025

alsharq
خطاب صريح أقوى من السلاح

• كلنا، مواطنين ومقيمين، والعالم يدرك مكانة قطر...

831

| 25 سبتمبر 2025

alsharq
حضور فاعل للدبلوماسية القطرية

تعكس الأجندة الحافلة بالنشاط المكثف لوفد دولة قطر...

831

| 25 سبتمبر 2025

alsharq
النسيان نعمة أم نقمة؟

في لحظة صفاء مع النفس، يطلّ النسيان عليَّ...

819

| 30 سبتمبر 2025

أخبار محلية