رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

هل تستعد الصين لملء الفراغ في أفغانستان؟

تتجه الأنظار الآن وبقوة شديدة جداً إلى الصين كونها المرشح رقم واحد لملء الفراغ في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي. إذ إنه بمقدار ما يمنح الانسحاب الأمريكي من أفغانستان فرصاً كبيرة للصين، بمقدار ما يطرح تحديات كبيرة لها أيضا. وفي سياق توازي كافتي الفرص والتحديات للصين جاء الحديث بقوة عن الصين لتكون المرشح رقم واحد لملء الفراغ في أفغانستان. وما دعم ذلك أيضا، هو محادثات الصين المعلنة وغير المعلنة مع قادة طالبان بعد إعلان بايدن الانسحاب من أفغانستان، والتي تكللت باستضافة وزير الخارجية الصيني قائد طالبان الملا عبد الغني برادر قبل ثلاثة أسابيع من الانسحاب الأمريكي. ويكمن التحدي الرئيسي للصين من الفراغ في أفغانستان الناجم عن الانسحاب الأمريكي في تحويل المناطق الحدودية المجاورة للصين ذات الأغلبية المسلمة الإيغورية إلى قاعدة لتصدير المجاهدين أو الفكر الجهادي أو تعزيز التواصل بين مجاهدي أفغانستان والتنظيمات الإرهابية المتعددة في أفغانستان مع الحركات الانفصالية الإيغورية. ويتفاقم التحدي الصيني في إطار سياقين، الأول - حملة القمع الرهيبة التي تمارسها الصين على مسلمي الإيغور، والثاني- الأهمية الإستراتيجية الكبرى التي تلعبها المناطق ذات الأغلبية المسلمة وإقليم شينجاينج على وجه التحديد في مبادرة طريق الحرير الجديد، مما قد يسفر عن ذلك زيادة التهديدات الإرهابية لمصالح الصين في المبادرة من أجل الانتقام لمسلمي الإيغور. وفي ذات السياق يمكن القول، إن مصالح الصين في باكستان في إطار مبادرة الحرير ليس بمنأى أيضا عن التهديدات الإرهابية الناجمة من أفغانستان. على الجانب الآخر، يمنح الانسحاب الأمريكي من أفغانستان فرصاً كبيرة للصين، إذ تخطط الصين ومنذ فترة طويلة لضم أفغانستان إلى طريق الحرير الجديد، إذ إن موقع أفغانستان هام جدا لاستكمال ربط طرق المبادرة الرئيسية بباكستان وآسيا الوسطى. وكانت الصين قد أشارت سابقا عن سعيها لعمل ممرات ربط تربط بين الحدود الغربية للصين وتمر عبر أفغانستان حتى باكستان. وفي ذات السياق أيضا، تتجه أنظار الشركات الصينية للعمل في أفغانستان التي تحتوي على موارد طبيعية هائلة. وبالتالي نخلص مما سبق، أن لدى الصين حقاً مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية شديدة الحيوية في أفغانستان تجعلها الدولة صاحبة المصلحة الأولى في أفغانستان. ومع ذلك، فمسألة قيام الصين بملء الفراغ في أفغانستان أو أن تحل محل الولايات المتحدة- كما يبشر العشرات من الكتاب وكأن الأمر قد حسم تماماً - ليس بالأمر السهل على الصين خصيصاً. فمن جانب، ربما لا تبشر عودة طالبان لحكم أفغانستان بوضع أمني وسياسي مستقر في أفغانستان حتى الآن. ومن جانب آخر أكثر موضوعية، إن أحد ثوابت السياسة الصينية الراسخة هو عدم التوسع أو التمدد عسكريا خارج حدودها، بل وأيضا عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى والانجرار في أية أزمات داخلية أو إقليمية. إذن، السؤال المطروح الآن كيف ستتعاطى الصين مع تلك الفرص والتحديات لا سيما الأخيرة دون الانجرار في مستنقع تدخل عسكري في أفغانستان؟. يبدو من تحركات الصين الأخيرة أن الصين تراهن على أمرين متدخلين: الأول- توثيق علاقاتها مع طالبان والاعتراف بها التي تستطيع جزئيا- من منظور الصين - تحقيق استقرار نسبي في أفغانستان في المناطق التي تسيطر عليها، كما تراهن الصين على تعاون طالبان مع الصين لإنجاز طموحاتها الاقتصادية في أفغانستان وتأمينها في نفس الوقت. الثاني- تراهن الصين على دور قوي لباكستان في أفغانستان لما لباكستان من قدرة كبيرة على السيطرة على الحركات الجهادية المتطرفة. ومن منظورنا أن رهانات الصين لن يصيبها النجاح الكبير لعدة أسباب رئيسية، ربما أهمها صعوبة تحقيق استقرار سياسي وأمني طويل الأمد في أفغانستان تحت سيطرة حكومة طالبان، حيث من المرجح بشدة أن تعود أفغانستان إلى أجواء الحرب الأهلية تحت سيطرة طالبان. إذ فبحسب العديد من التقارير الأمنية يستعد خصوم طالبان، وهم كثر وأقوياء ومنهم نجل الملا "أحمد شاه مسعود"، للدخول في مواجهات عسكرية مع طالبان. على الجانب الآخر، في ظل استمرار حملة القمع الرهيبة التي تمارسها الحكومة الصينية ضد مسلمي الإيغور، من الصعب للغاية أن تمنع باكستان الحركات الجهادية العديدة والقوية ومنهم القاعدة عن مهاجمة الصين أو الجهاد ضد الصين نصرة لمسلمي الإيغور. ومن المعروف أيضا، أن العديد من تلك الحركات الجهادية خصوم لطالبان، وخارج سيطرة باكستان تماما وتسيطر على مقاطعات في أفغانستان ولديها مقاتلون بالمئات. الصين حقا ستواجه معضلة إزاء التعامل مع أفغانستان تجعلنا نصدق التحليلات المنتشرة التي تقول إن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وسماحها بعودة طالبان للحكم بكل سهولة ما هو إلا خطة أمريكية متعمدة لخلق بؤرة توتر مزمنة لكل من روسيا والصين. ماذا ستفعل الصين تجاه تلك المعضلة؟ هل ستضطر في نهاية المطاف لتمديد حضورها العسكري في أفغانستان وهي تعلم جيدا أن تحقيق أي انتصار في أفغانستان ضرب من المستحيل؟.

2890

| 07 سبتمبر 2021

مستقبل أفغانستان

لم يكن من المستغرب على الإطلاق السيطرة السريعة جدا لطالبان على كابول ثم العودة لحكم أفغانستان منذ إعلان بايدن الانسحاب المبكر الكامل غير المشروط من أفغانستان، بل يمكن الجزم أيضا أن الولايات المتحدة كانت على يقين تماما بعودة طالبان السريعة للحكم وصعوبة صمود الجيش الأفغاني الذي صرفت عليه المليارات أمام طالبان القوية جدا على الأرض والمسيطرة على مناطق أفغانية كثيرة إبان وجود القوات الأمريكية. إذن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هل عودة طالبان لحكم أفغانستان يعني عودة أفغانستان لما قبل 2001؟. أي عودة لتطبيق متطرف للغاية للحكم الإسلامي بعيدا تماما عن تعاليم الإسلام الوسطية السمحة أرجع أفغانستان إلى ما قبل العصور الوسطى، ودعم وإيواء للتنظيمات المسلحة وخاصة القاعدة، وأخيرا حروب داخلية طاحنة بين الفصائل الإسلامية. منذ سيطرتها على كابول، أطلق قادة طالبان وخاصة متحدثها الرسمي "ظبى الله مجاهد" جملة تصريحات تطمينية مؤداها وجود تغير جذري في فكر وأسلوب طالبان في حكم وإدارة البلاد. إذ من التصريحات الهامة في هذا الصدد هو العمل على مشاركة جميع الفصائل الأفغانية في إدارة البلاد وعدم انفراد طالبان بالسلطة، السماح للمرأة بالمشاركة في الحياة السياسية والسماح بتعليم المرأة وتخفيف القيود المتعلقة بتطبيق الشريعة الإسلامية. فمن منظورنا أن تلك التصريحات تعمدت بها طالبان تهدئة مخاوف المجتمع الدولي حتى تستكمل سيطرتها على حكم أفغانستان بهدوء وتلقى بعض الدعم الدولي، ولم تكن موجها للشعب الأفغاني. وللتذكرة أيضا لم تفِ طالبان بأية وعود قطعتها على نفسها أثناء مفاوضاتها مع الولايات المتحدة من أجل الانسحاب. والأهم من ذلك، تعتبر طالبان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان انتصارا للحركة. إذن، لا نتوقع مع الهيمنة التامة لطالبان على السلطة حدوث تغير جذري في إدارتها للحكم، لا سيما حدوث أي تغير في مسألة الحكم الإسلامي المتشدد للغاية لأن قادة الحركة وأنصارها لا يزالون يحملون الفكر المتشدد ويطبقونه في المناطق التي تخضع لسيطرتهم. وبناء على ذلك أيضا، فإن استمرار طالبان في دعم وإيواء الحركات الجهادية الكثيرة جدا العاملة في أفغانستان وخاصة تنظيم القاعدة أمر مؤكد بلا أدنى مجال للشك. على الرغم من الوعود التي قطعتها طالبان على نفسها بعدم السماح باستخدام أفغانستان لشن هجمات مسلحة خاصة من قبل القاعدة، وكذلك تعهدها بعدم السماح بتحويل أفغانستان لمراكز تدريب وإيواء للتنظيمات الجهادية. وفي تلك المسألة على وجه الخصوص، يمكن القول إنه بخلاف الدعم المتوقع لطالبان لتلك التنظيمات الجهادية هنالك واقع آخر أن تلك التنظيمات وخاصة القاعدة قوية ومسيطرة جدا على الأرض أو في مناطق أفغانية كثيرة ولها أتباع بالمئات. وبالتالي، ستواجه طالبان صعوبة بالغة للغاية في السيطرة على تلك التنظيمات. يبقى في هذا الصدد الإشكالية الكبرى المدمرة لأفغانستان وشعبها تماما، وهي ربما العودة المخيفة للحروب الأهلية الداخلية في أفغانستان تحت حكم طالبان. إذ يمكن القول إن سيطرة تامة قوية لطالبان على حكم أفغانستان لا يعنى حكم مستقر لها ولأفغانستان. فقادة طالبان أنفسهم بينهم انقسامات حول أسلوب وإدارة البلاد تحت الحكم الإسلامي. كما أن طالبان لديها خصوم كثيرون أقوياء على الأرض من بينها حركات جهادية وأمراء حرب إلى جانب خصومها من الأقليات العرقية الأخرى كالطاجيك والأوزبك. بل والأخطر من ذلك أيضا، أن بين الحركات الجهادية العاملة في أفغانستان انقسامات وخلافات حادة ورواسب عدائية قديمة تنذر بصراعات مسلحة طاحنة بينهما. ويجدر الإشارة أيضا أن التناحر والصراع بين الحركات الجهادية المتشددة سمة ثابتة لتلك الحركات والشاهد على ذلك الصراع بين القاعدة وداعش والنصرة في سوريا. وبناء على ذلك، لن يكن بمقدور طالبان الحيلولة دون حروب داخلية طاحنة في أفغانستان فحسب، بل أيضا ستكون الحركة شريكاً رئيسياً في هذه الحروب، بحيث لن تتحول أفغانستان إلى دولة فاشلة بالمعنى المتعارف عليه في العلوم السياسية، بل إلى "اللا دولة" على الإطلاق وساحة لحروب داخلية طاحنة غير معلوم مستقبلها. يبقى أخيرا الإشارة إلى أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان سيحول أفغانستان إلى ساحة لصراعات إقليمية، مما يضيف من عوامل عدم الاستقرار إلى مستقبل أفغانستان. إذ من المتوقع أن تستخدم باكستان أفغانستان عبر حلفائها من التنظيمات الجهادية وخاصة شبكة حقاني لمهاجمة الهند. ومن ناحية أخرى، فالصين على وجه الخصوص تخشى مع عودة طالبان أن تتحول المناطق الحدودية الأفغانية المجاورة لها إلى قاعدة لمهاجمة الصين وضرب مصالحها على خلفية قضية اضطهاد الإيغور. ولدى روسيا مخاوف أيضا من عودة طالبان للحكم وتتركز من دعم طالبان للتنظيمات الجهادية المناوئة لروسيا في آسيا الوسطى. وفي الختام أن أفغانستان تحت حكم طالبان فأتوقع أن تعود إلى ما قبل 2001 يضاف إلى ذلك عامل البعد الإقليمي ومحاولة سيطرة القوى الكبرى المجاورة لأفغانستان عليها مما يزيد من عوامل عدم الاستقرار لمستقبل أفغانستان. أما بخصوص الولايات المتحدة، فلا نتوقع أية ردود فعل على ما سيؤول إليه الوضع المستقبلي في أفغانستان لأنها تركت أفغانستان ومتيقنة تماما لهذا المستقبل للتفرغ لأولوياتها القصوى وهي إضعاف الصعود الصيني.

3560

| 24 أغسطس 2021

مبادرة بايدن لمنافسة طريق الحرير.. الدلالات والتحديات

عقدت قمة مجموعة السبع الكبار خلال الشهر الماضي، وناقشت موضوعات عدة، لكن كان الموضوع الأبرز على الإطلاق الذي خرجت به هذه القمة، اقتراح بايدن على المجموعة خطة عالمية عملاقة للاستثمار في البنية التحتية، يشترك فيها ما يسمى تحالف الديمقراطيات، لمنافسة مبادرة طريق الحرير العملاقة التي أطلقتها الصين في 2013. يتفق المراقبون والمتخصصون في الشأن الأمريكي، أن تحجيم نفوذ الصين المتضخم في النظام الدولي واحد من المقاصد الرئيسية التي يشترك فيها الديمقراطيون والجمهوريون، فكلاهما يختلفان بشدة في أمور عدة على الصعيدين الداخلي والخارجي، بشكل قد عمق من انقسام الأمة الأمريكية. ومع ذلك، يبقى تقويض الصعود الصيني هدفا استراتيجيا أسمى لكليهما باعتباره التهديد الاستراتيجي الأعظم للهيمنة الأمريكية في النظام الدولي منذ انتهاء الحرب الباردة. لذلك، خيب بايدن مبكرا جميع التوقعات المتفائلة حول علاقات أمريكية - صينية أكثر هدوءًا، بعد حقبة غير مسبوقة من التوتر في العلاقات بين البلدين خلال عهدة ترامب الأولى. ففي غضون الأسابيع الأولى من ولايته، أعلن بايدن صراحة عن نيته تشكيل تحالف دولي من الديمقراطيات لمواجهة النفوذ الصيني، أعقب ذلك زيارة لوزير الدفاع الأمريكي أوستن إلى آسيا لإحياء ما يسمى تحالف (كواد) وتوسيعه بقصد تشكيل (ناتو آسيوي) للتضييق على الصين في آسيا. إعلان إدارة بايدن المبكر جدا والمفاجئ عن تقليص حضورها العسكري في منطقة الخليج مقابل الباسيفيك، وانسحابها غير المشروط من أفغانستان يأتي في سياق التركيز التام لإدارة بايدن على تقويض الصين مقابل شرق أوسط لم يعد ذا أهمية استراتيجية كبرى لواشنطن. تمثل مبادرة بايدن البديلة لطريق الحرير أحدث مساعي الولايات المتحدة - وليست الأخيرة - لتقويض الحضور الصيني العالمي الذي نما بشكل مطرد عبر مبادرة الحرير، فالصين قد تمكنت عبر المبادرة من تعزيز حضورها الاقتصادي في أكثر من 70 دولة بما في ذلك دول أوروبية. ومن ثم، أضحت المبادرة - رغم كونها اقتصادية - أكبر تهديد استراتيجي للنفوذ العالمي لواشنطن، ولعل ذلك ما أدركته واشنطن متأخراً بسبب غموض أهداف الصين ونواياها الحقيقية من هذا التوسع الاقتصادي العملاق، فهذا التوسع الاقتصادي سيُترجم بلا أدنى شك لنفوذ جيوسياسي وحضور عسكري وهذا ما بدأ يلاحظ بشدة في أفريقيا. وتتسق مبادرة بايدن البديلة مع نهجه العام المعلن لمواجهة الصين، والذي يستند إلى تشكيل التحالفات والنهج الدبلوماسي. وعليه، فالمبادرة - حال تنفيذها - ستشكل أهم سياسات الولايات المتحدة لتقويض مساحات النفوذ الجيواقتصادي والجيوسياسي التي حازتها الصين عبر مبادرة الحرير بشكل سلمي وهادئ، خاصة وأن الكثير من دول المبادرة بدأت تعاني مما يسمى "فخ الديون" الصيني الناشئ عن المبادرة، ودول أخرى بدأت تتشكك في نوايا الصين وأهدافها الحقيقية حول توسعها الاقتصادي عبر المبادرة. ومع ذلك، فنجاح تلك المبادرة لا يزال يواجه عقبات وتحديات جمة. أعلنت دول قمة السبع - التي اتفقت من حيث المبدأ وبشكل متردد على المبادرة - عن رصد 40 مليار دولار أمريكي لتمويل مبادرة بايدن البديلة. وهذا التمويل المرصود بالطبع لا يستطيع منافسة التمويل الصيني للمبادرة الذي تجاوز التريليون دولار أمريكي. لكن ما هو أهم أن دول القمة - رغم تضاؤل هذا التمويل - قد أعربت بشكل غير مباشر عن ترددها بشأن مشاركتها في هذا التمويل. تواجه المبادرة تحديا آخر وهو توحيد الرؤى الغربية حول منافسة الصين، ليس فقط عبر المبادرة بل عموما. فالدول الأوروبية رغم اتفاقها مع واشنطن حول ضرورة التصدي للصين، إلا أنها ليست متفقة فيما بينها حول درجة الخطورة التي تمثلها الصين عليها، وسبل تلك المواجهة. فالمواجهة الأمريكية للصين تتمحور بشكل أساسي حول المنافسة على الزعامة الدولية، بينما تنبع مخاوف بعض الدول الأوروبية من فقدان استقلالها بسبب اعتمادها المتزايد على الصين، بعض الدول الأوروبية الأخرى خاصة فرنسا مشكلتها مع الصين تتمحور حول ملف حقوق الإنسان. الأهم من كل ذلك، أن جميع الدول الأوروبية ترتبط مع الصين بعلاقات قوية وتعتمد عليها بشكل كبير في بعض الصناعات التكنولوجية، ناهيك عن الاستثمارات الأوروبية الضخمة في الصين. إذن، فأقصى ما تسعى إليه الدول الأوروبية خاصة الكبرى منها كألمانيا، تقليص اعتمادها الاقتصادي على الصين وليس تقويض نفوذ الصين العالمي، وحث الصين على تحسين ملف حقوق الإنسان خاصة ملف الإيغور كهدف ثانوي لتخفيف الضغط عليها من منظمات حقوق الإنسان الأوروبية. ويبقى تحد آخر، ويكمن في صعوبة فك ارتباطات الصين الاقتصادية عبر المبادرة التي تقدر بالمليارات في الكثير من دول المبادرة، التي من بينهما دول عديدة حليفة لواشنطن لا سيما في منطقة الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، تنشئ الصين في دول مجلس التعاون عبر المبادرة الكثير من الموانئ الاستراتيجية ومشروعات بنية تحتية عملاقة، ولا بديل حتى الآن أمام دول المبادرة سوى الصين التي تمتلك التمويل الكافي لتمويل مشروعات البنية التحتية العملاقة، خاصة في ظل الأزمة المالية الكبرى التي تعاني منها الدول الغربية، والشروط القاسية التي تضعها المؤسسات الغربية على التمويل والإقراض. ختاماً، يمكن القول: تمثل مبادرة بايدن البديلة خطة طموحة لتقويض مبادرة الحرير، لكنها قد جاءت متأخرة للغاية في ظل استفحال مبادرة الحرير، علاوة على ذلك تواجه المبادرة تحديات كثيرة جمة تنبئ بصعوبة تنفيذها على الإطلاق.

4057

| 06 يوليو 2021

البعد القومي: البعد الغائب في تفسير الصراع الأمريكي الروسي الصيني

انتهاء الحرب الباردة في التسعينيات من القرن المنصرم بشكل غير متوقع على الإطلاق، أي دون قطرة دماء ولا تحرك لآلة عسكرية؛ قد أثار حيرة كبيرة لدى علماء العلاقات الدولية والعلوم السياسية بشأن تفسير ذلك. أعقاب انتهاء الحرب الباردة مباشرة تفجرت صراعات عرقية وقومية داخلية في أغلبها كثيرة، فاقمت بدورها من حيرة هؤلاء العلماء. ظهرت بعد انتهاء الحرب الباردة منظورات فكرية أشهرها ما يسمى المنظور البنائي حاولت إيجاد تفسير لذلك. خرج المنظور البنائي على وجه الخصوص باستنتاج مؤداه أن ما يحرك التعاون والصراع في النظام الدولي هو البعد الأيديولوجي أو الفكري الذى يتم تأسيسه اجتماعياً. وليس البعد المادي ومضامين القوة والنفوذ والهيمنة كما رسخته ما يسمى المنظورات الوضعية في العلاقات الدولية وأشهرها على الإطلاق المنظور الواقعي. بل ان البعد المادي في حد ذاته ومضامينه الكثيرة يتم تحديده وبناؤه في سياقات البعد الأيديولوجي ومضامينه الكثيرة أيضا كالقومية والثقافة والانتماء والتاريخ والهوية. استنادا إلى المنظور البنائي استقر لدينا بأن انهيار الاتحاد السوفيتي كان نتاجا مباشرا لضعف الانتماء للمنظومة الاشتراكية وتطلع شعوبه للتحرر منها والحلم بالنموذج الليبرالي الغربي والرفاهية الاقتصادية. إذن فالبعد الأيديولوجي قد أدى إلى انهيار الاتحاد من داخله دون حرب عسكرية كبرى بين واشنطن وموسكو. وعلى نفس المنوال أيضا، تفجر الحروب والصراعات القومية كحرب البلقان وحرب كوسوفو في بعد انهيار الاتحاد كان مردها الأساسي الأبعاد العرقية والهوية والدينية وليست حروبا على أراض ونفوذ وقوة في حد ذاتها. تأسيس حلف الناتو في حد ذاته يحمل بعدا هوياتيا صارخا إذ هو تحالف مجموعة الدول الغربية المسيحية - العلمانية بالأساس. الإرهاب الدولي أيضا لن نستطيع إسقاط البعد الأيديولوجي بشأن تكوينه وتوسعه، إذ محركه الأساسي منظومة الأفكار الراديكالية المشتركة التي تجمع أعضاءها عبر قارات العالم المختلفة. انفردت الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بزعامة النظام الدولي كقوة واحدة عظمى في النظام الدولي. ورغم الضعف الشديد الذي كانت عليه كل من روسيا والصين حينئذ. ومع ذلك، ظلت الولايات المتحدة متخوفة بشأن نوايا كليهما وتحديدا محاولة إعادة دورهما في النظام الدولي كدول كبرى مناهضة للهيمنة الأمريكية. سعت الولايات المتحدة بشتى الطرق لاحتواء كلتا الدولتين. فبصدد روسيا عملت واشنطن على المزيد من إضعافها عبر توسيع حلف الناتو على أطرافها وضم أعضاء من محيطها الإقليمي إلى الاتحاد الأوروبي. كما حاولت أيضا إقناع روسيا بالانضمام إلى حلف الناتو أو تحويلها كأي دولة أوروبية تابعة للمنظومة الغربية. تعنت روسيا "المسيحية" على مدار عقد تقريبا في الانزواء والذوبان في المنظومة الغربية "المسيحية/ العلمانية" حتى مجيء بوتين القوى في الألفية الجديدة، لا تفسير له إلا من خلال سطوة البعد القومي على عقول النخب الروسية وقطاع عريض جدا من الروس. إذ لا تزال تلك النخب والشعوب ترى في روسيا دولة عظمى وتستحق مكانة ريادية في أوروبا بل الهيمنة على أوروبا، ومكانة رائدة في النظام الدولي تضاهى به مكانة واشنطن. أما بصدد الصين، فقد تخيلت واشنطن أنها قادرة على تحويل الصين إلى يابان أو سنغافورة أخرى في آسيا عندما تخلت الصين عن سياسة العزلة والانغلاق لماو تسى تونج وتبنت الانفتاح الاقتصادي الليبرالي، أي دول تابعة للمنظومة الغربية الليبرالية. لذلك، دعمت الصين اقتصاديا وضمتها إلى منظمة التجارة العالمية وحولت معظم صناعاتها واستثماراتها هناك. ما كان من محصلة إلا تقوية الصين اقتصاديا إلى حدودها القصوى وتحولها رويدا رويدا إلى قوى مهيمنة في آسيا تتطلع إلى زعامة النظام الدولي وتنافس بشراسة واشنطن بل وتتحدى قيمها ومؤسساتها الاقتصادية ودورها العسكري في آسيا. وعلى غرار روسيا، ما من تفسير من ذلك إلا البعد القومي ومضامينه الكثيرة كالبعد التاريخي والثقافي المهيمن على النخب الصينية الحاكمة ومعظم الصينيين. على اعتبار أن الصين حضارة تاريخية حكمت آسيا في لحظة تاريخية، ولديها قيمها وثقافها وهويتها التاريخية المتميزة وتستحق الريادة على آسيا بل والعالم كله. وصول زعماء قوميين أقوياء كبوتين في روسيا وشى جين بينج في الصين قد أعاد تأجيج الأبعاد القومية بشكل كبير لدى شعوبهما. فكلاهما لديهما تطلعات بعودة ودور قوى إقليمي ودولي. وكلاهما أيضا يحظى بشعبية واسعة حقيقية وساحقة، على عكس ما يصور الإعلام الغربي على وجه التحديد. في هذه اللحظة الراهنة، يقف العالم على أعتاب صراعين ساخنين جدا: الأول - التصعيد بين روسيا وأوكرانيا. والتصعيد بين الصين والولايات المتحدة في الباسيفيك وإن كان يدور بشكل أكثر هدوءًا. وواقع الأمر فكلا التصعيدين هو صراع أمريكي- روسي- صيني بالأساس. فالتصعيد الروسي- الأوكراني كاشف جدا للبعد الأيديولوجي والقومي الحاكم لعقلية روسيا والغرب على السواء، فهو صراع على أدوار ومكانة وهيمنة بين قوة "روسيا" ترى في نفسها قوة كبرى مستقلة عن الغرب ويدعم اغلب الشعب الروسي ذلك. وبين قوة أخرى "الولايات المتحدة" ترى في قيمها ونموذجها الحضاري الأفضل الذى يجب أن يسود أوروبا. وبين شعب منقسم "الشعب الأوكراني" بين هويتين شرقية وغربية. وعلى نفس المنوال أيضا، الصين التي تتطلع بفضل منظومة قيمها الخاصة إلى ريادة النظام الدولي وتقويض دور الولايات المتحدة في النظام الدولي. ما يمكن الخلوص إليه، أن البعد القومي سيظل طاغيا وحاكما للصراع الأمريكي الروسي الصيني. كل يرى في نفسه الأجدر بالزعامة الدولية بفضل تميزه القومي، وما من صراع جزئي أو طرفي بينهما تجارى أو اقتصادي أو عسكري إلا وهناك بعد قومي يشكله ويحركه. ولمزيد من توضيح ذلك، لماذا ترتبط الولايات المتحدة بعلاقات وثيقة جدا مع إنجلترا الإمبراطورية السابقة، ولماذا لا تتحدى الأخيرة دور واشنطن في النظام الدولي، ببساطة شديدة جدا بسبب غياب البعد القومي الأيديولوجي عن المعادلة.

5263

| 06 مايو 2021

بايدن والناتو الآسيوي

بدا مبكرا للغاية أن الصين ستكون محور أولوية وتركيز إدارة بايدن تماماً وأن باقي الملفات الأخرى ستتضاءل بدرجات متفاوتة. في مستهل تصريحات إدارة بايدن المهمة والجادة التي جاءت في غضون شهر فقط من تولى بايدن إدارة البيت الأبيض، خرجت الإدارة بتأكيدات عن التزامها بإعادة إحياء وتقوية ما يسمى حوار أو تحالف "كواد" الأمني الرباعي في الباسيفيك الذى يضم كلا من أمريكا واليابان والهند وأستراليا. على إثر هذه التأكيدات، قال بايدن بعبارات صريحة وواضحة أثناء زيارته إلى البنتاجون في فبراير، إن أمريكا على أتم استعداد لمواجهة الصين حتى عسكريا عند الضرورة. كما أعلن عن إنشاء فرقة عمل صينية جديدة تضم مزيجا من الخبراء في مختلف المجالات تابعة للبنتاجون مهمتها مراجعة نهج أمريكا الشامل وليس العسكري فقط تجاه الصين. في مارس عقدت أول قمة افتراضية لوزراء خارجية دول "كواد" تم مناقشة موضوعات عدة فيها كأزمة كورونا وخطوات لتعزيز التعاون الشامل. لم يصدر بيان صريح عن الصين خلال تلك القمة، لكن نُظر إلى هذه القمة على أنها أول رسالة تحذيرية رادعة للصين من قبل إدارة بايدن، وأن عزم إدارة بايدن في تقوية هذا التحالف الأمني الرادع للصين جاد وحقيقي الذى أهمله ترامب رغم أن إدارته هي التي من دشنته كبديل عن إستراتيجية محور آسيا-باسيفيك التي أطلقها أوباما. في غضون أيام قليلة عن انتهاء القمة الافتراضية استهل ديفيد أوستن وزير الدفاع الأمريكي أولى جولاته الخارجية بزيارة دول تحالف "كواد" إلى جانب كوريا الجنوبية. حملت تلك الزيارة في أعين المراقبين إشارة صريحة عن نية إدارة بايدن النهوض بهذا التحالف ليكون نواة لتشكيل "ناتو آسيوي" موسع تنضم إليه دول أخرى في المستقبل للتصدي للصين. على إثر ذلك، يمكن القول إن بايدن قد يكون خالف ترامب في كل شيء عدا التصعيد الجاد والحاسم ضد الصين. لكن ما يميز الرجلين في إدارة الصراع مع الصين يكمن في أساليب وتكتيكات إدارة هذا الصراع. فبينما فضل ترامب أسلوب المواجهة الأحادي، يفضل بايدن سياسة تشكيل التحالفات والمواجهة الجماعية للصين. الصين لا تمثل تحديا عاديا لأمريكا أو تناكفها في بعض القضايا ومصالحها الحيوية، بل تمثل التهديد الاستراتيجي الأعظم لأمريكا منذ انتهاء الحرب الباردة، تهديداً لو استمر على هذه الوتيرة ستفقد أمريكا مكانتها كقوى عظمى على النظام الدولي في غضون عقد بالكثير. لذلك، يلاحظ أن التصعيد مع الصين قد بدأ مبكراً جدا ومتدرج بمقدار حجم التهديد الذى تفرضه الصين، فإدارة بوش الابن الجمهورية اعتبرت الصين منافسا لأمريكا، وجاءت إدارة أوباما الديمقراطية لتطلق سياسة محور آسيا الضخمة لتقويض الصعود الصيني. ترامب الذى شهدت في ولايته العلاقات الأمريكية-الصينية توترات غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين البلدين قد اعتبر الصين صراحة تهديدا استراتيجيا تريد السيطرة على النظام الدولي. وها هي إدارة بايدن الديمقراطية بدأت نهجها التصعيدي مع الصين مبكراً للغاية من خلال زيارة أوستن بنية تشكيل الناتو الآسيوي. الناتو الآسيوي ليس أداة بايدن الوحيدة لمواجهة الصين، وربما لا يستهدف أيضا إيصال هذه المواجهة إلى الحد العسكري. بل رسالة رادعة للصين لاسيما وأنه يضم دولة بثقل الهند تنخرط في تنافس استراتيجي حاد مع الصين حول الهيمنة في المحيط الهندي. حال توسع هذا الناتو ليضم دولا آسيوية أخرى وتحديدا دول محيط بحر الصين الجنوبي الشديدة الذعر من القوة الصينية المتصاعدة، سيكون بمثابة ضربة قوية للنفوذ الصيني السياسي والاقتصادي في آسيا. وربما هذا ما تراهن عليه إدارة بايدن التي لا تريد بالفعل الدخول في مواجهة عسكرية ساخنة مع الصين على كافة ملفات شائكة بينهما وتحديدا ملفى تايوان وبحر الصين الجنوبي، بل فقط تحجيم الصعود الصيني وقوتها المتنامية في آسيا على كافة الأصعدة. في واقع الأمر أيضا، إن نجاح هذا الناتو لا يزال حبيس عدة رهانات. رهان مدى جدية والتزام أمريكا تجاه هذا الناتو والمستمد من خبرة إدارة أوباما على وجه التحديد التي بدأت قوية جدا تجاه التزامها باستراتيجية محور آسيا ثم فتر هذا الحماس تدريجيا. كذلك، رهان مدى نجاح واشنطن في إقناع دول آسيوية ترتبط بعلاقات اقتصادية متينة مع الصين بالانضمام لهذا الناتو. وربما نجاح هذا الناتو أيضا يرتهن بمدى قدرته على تركيع الصين فعليا التي أصبحت قوية بالدرجة الكافية بحيث تستطيع تحدى أية تهديدات ولو عسكرية إذا تم المساس بمصالحها الحيوية، وربما الصين هي الأخرى قد تتمكن من تقويض هذا الناتو عبر تشكيل تحالف موازٍ له. الاحتمالات مفتوحة على كافة الأصعدة، لكن سيظل التصعيد الساخن العنوان الرئيسي لوصف العلاقات بين البلدين مهما اختلفت الإدارات والأساليب على مدار الأعوام القادمة حتى يتم حسم معركة الزعامة على النظام الدولي لاحدهما.

4602

| 23 مارس 2021

من بريكست إلى ترامب.. عقد الشعبوية الغربية القادم

"أمريكا أولاً"، "لن تحكمنا بروكسل"، "لن تتحول فرنسا إلى إمارة إسلامية"، "هولندا لنا" وغيرها من المفردات والشعارات الكثيرة رفعها وروجها أصحابها من التيارات اليمينية والشعبوية المتطرفة في خضم ما عصف بأوروبا من أزمات بدءا من الأزمة المالية العالمية 2008، ورويدا رويدا تخللت تلك المفردات أذهان الملايين من الغربيين حتى أوصلت بعضا من أصحابها في نهاية المطاف إلى الحكم بشكل منفرد، أو المشاركة فيه، أو التأثير على مجمل السياسات الداخلية والخارجية الغربية بشكل أو بآخر. الأحزاب والتيارات اليمينية والشعبوية المتطرفة خفت نجمها على نحو كبير بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مع مطلع التسعينيات بدأ نجمها يسطع عبر منحى بطيء للغاية، وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية أخذ نجمها في السطوع السريع لتشكل واقعا جديدا تزاحم وتنافس به التيارات السياسية الغربية اليمينية واليسارية الغربية العريقة بأجنحتها المعتدلة المتنوعة. أفرز هذا الواقع الجديد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تصاعد شعبية حزب البديل من أجل ألمانيا وتمكنه من انتزاع مقاعد من حزب ميركل في بعض الولايات الألمانية، حصد حركة خمس نجوم في إيطاليا المركز الثاني في الانتخابات البرلمانية السابقة، نفس الحال في هولندا 2017، وصول الأحزاب الشعبوية إلى الحكم في المجر، التصاعد الكبير لشعبية حركة اليمين في البرتغال ومن المتوقع انفرادهم بتشكيل الحكومة القادمة، التنامي الكبير لشعبية "ماري لوبان" في فرنسا ومن المرجح أيضا وصولها إلى رئاسة فرنسا في الانتخابات الرئاسية القادمة. ما حصدته التيارات الشعبوية من نتائج متقدمة للغاية، والواقع الغربي المتأثر بوجودها كالبريكست كأوضح مثال، الذي قاده تلك التيارات بقوة، ينبئ أن العقد القادم في الغرب سيكتسي بالشعبوية على نحو شبه تام. أسباب صعود الشعبوية في أوروبا متعددة، أهمها: التوحش المفزع للرأسمالية الغربية الذي نجم عنه ارتفاع مطرد في نسب الفقر والبطالة، تفاقم أعداد اللاجئين والمهاجرين، لاسيما من العرب والمسلمين، والذي بدوره فجر هواجس بشأن الهوية. فشل النخب السياسية التقليدية في معالجة الأزمة المالية وأزمة المهاجرين، بالإضافة إلى انقسامها وفسادها وخطابها السياسي التقليدي، تنامي "السوشيال ميديا" والتي من خلالها أصبح بمقدور التيارات اليمينية الترويج لأفكارها وشعاراتها بحرية وسهولة. في خضم جملة هذه الأسباب، علاوة على تمكن التيارات اليمينية من استغلالها ببراعة، لاسيما اللعب على وتر الهوية الأوروبية وضياع الفرص الاقتصادية بسبب أزمة اللاجئين وحرية التجارة والاحتكارات لصالح النخب الاقتصادية؛ بات اليمين المتطرف يكتسب أرضية شعبية يوما بعد يوم حتى أصبح قاب قوسين أو أدنى من التفرد بالحكم في أوروبا جميعها. جائحة كورونا بدورها أكسبت تلك التيارات المزيد من الشعبية بعد الفشل الرهيب للنخب الأوروبية الحاكمة والاتحاد الأوروبي على السواء من التصدي لها. وصل ترامب إلى البيت الأبيض عبر شعار "أمريكا أولاً" وأجندة شعبوية سياسية واضحة تكن العداء للأجانب والمهاجرين ودور أمريكا الواسع في العالم، جملة الأسباب التي أوصلت ترامب الشعبوي إلى البيت الأبيض تقريبا نفسها في أوروبا، فالقاعدة الشعبية العريضة لترامب أغلبها من البيض الإنجيليين الذين تفاقمت لديهم هواجس بشأن الهوية، ويعاني الكثير منهم لاسيما في الولايات التي يغلب عليها الطابع الريفي من وطأة الرأسمالية المتوحشة. خسر ترامب الرئاسة الأمريكية، لكن ترك وراءه تيارا شعبويا واسعا البعض يطلق عليه "الترامبية"، لم ينشئه في واقع الأمر لكن عمقه عبر سياساته خلال أربع سنوات. مظاهر هذه الترامبية بدأت مبكرا جدا في التشكيك الواسع لأنصاره في نتيجة الانتخابات الأمريكية، مرورا باقتحام مبنى الكونجرس وصولا لتنامي الأصوات الشعبية والحزبية المعارضة لمحاكمته للمرة الثانية في الكونجرس. العقد القادم في الغرب سيكتسي بالشعبوية بما لا يدع مجالا للشك، لا سيما في خضم التداعيات الاقتصادية والسياسية التي ستتركها جائحة كورونا. على الصعيد الأوروبي، ستغير تلك الشعبوية من المشهد الداخلي والخارجي لأوروبا على نحو شبه جذري، فإذا كانت الشعبوية اليد الطولى في البريكست، فليس من المستغرب أن نشهد إيطاكست، ويوناكست، ربما تفككك الاتحاد الأوروبي برمته كما يتوقع نفر هائل من الخبراء، الشعبوية أيضا ستشكل ضربة قاتلة للديمقراطية الليبرالية الراسخة في أوروبا عبر سياستها المعادية للأجانب والمهاجرين والأقليات ونظام السوق الحر، لاسيما أيضا وأن النخبة الأوروبية المعتدلة ستنحو جزئيا إلى سياسات شعبوية أو تتحالف معهم كما الحال في إيطاليا لكسب المزيد من الأرضية الشعبية. أما على صعيد السياسة الخارجية ربما تقوم تلك التيارات بعزل دولها حتى عن جيرانها الأوروبيين، بل وفتح جراح قديمة تعود بأوروبا إلى أجواء مشحونة أشبه بعشرينيات القرن العشرين، وإن كانت بدأت بالفعل بسبب جائحة كورونا والتعاطي الأناني للدول الأوروبية الكبرى معها. الوضع في أمريكا ربما يكون أصعب، الترامبية حقا أحد مظاهر انقسام الأمة الأمريكية الحاد. الحديث المتواتر الآن عن انقسامات حادة داخل الحزب الجمهوري، وعزم ترامب تأسيس حزب قومي جديد مستغلاً الكتلة التصويتية الرهيبة التي حصدها رغم خسارته. رغم سعي بايدن إلى نقض عهد ترامب برمته، وهذا ما وضح من أوامره التنفيذية التي تخطت الأربعين خلال شهر محاولاً من خلال بعضها لملمة جراح الانقسام، إلا أن معاجلة هذا الانقسام أو بالأحرى استقطاب أنصار الترامبية يحتاج إلى معالجة جملة الأسباب التي ساهمت في تنامي الشعبوية بهذا الشكل المذهل، وهو أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، لاسيما مع تحدي التنامي المطرد للمهاجرين والأقليات التي ساهمت على نحو كبير في وصول بايدن ذاته إلى الرئاسة، ناهيك عن صعوبة إيقاف الرأسمالية المتوحشة للشركات الأمريكية، والفساد المستشري بين النخب السياسية الأمريكية، واحتكار الإعلام من قبل اليمين. الشعبوية في الغرب في تنامٍ مطرد خلال العقد القادم ستحول بدورها المشهد السياسي الغربي لاسيما ديمقراطيته وهيكله الليبرالي على نحو شبه جذري.

4106

| 23 فبراير 2021

مشهد الكابيتول: ديمقراطية أمريكا الجريحة

مشهد اقتحام أنصار ترامب لمبنى الكابيتول قلب الديمقراطية الأمريكية مشهد ربما نادرا ما يحدث حتى فيما يسمى جمهوريات الموز. بلا أدنى مجال للشك، سيترك هذا المشهد جراحا عميقة وتساؤلات أعمق حول مصداقية ورسوخ الديمقراطية الأمريكية. حمل الكثير من المراقبين والمسؤولين الأمريكيين، بما في ذلك بايدن وعدد من رؤساء أمريكا السابقين، ترامب المسؤولية الكاملة عن هذا المشهد الذي وصفوه بوصمة العار في تاريخ أمريكا. قد يكون الأغرب من ذلك، أصوات بعض المراقبين المعظمة برسوخ المؤسسات الدستورية والديمقراطية الأمريكية، التي أقرت نتيجة فوز بايدن في ظل هذه الأجواء المشحونة، ثم سرعان ما عزلت ترامب بعد مشهد الكابيتول انتظارا لمحاكمته بالتحريض على العنف. تحميل ترامب المسؤولية كاملة عن مشهد الكابيتول به مغالطة وإعماء لحقائق جوهرية ذات أبعاد وسياقات داخلية عميقة يمر بها المجتمع الأمريكي منذ أكثر من عقدين. وصول ترامب ذاته إلى سدة البيت الأبيض هو نتاج حتمي لتلك الأبعاد والسياقات المعبرة عن حالة انقسام حاد خطير داخل المجتمع الأمريكي. لا شك أن ترامب وصول إلى سدة البيت الأبيض عبر الآليات الإجرائية الديمقراطية الدستورية (صناديق الانتخابات/ المجمع الانتخابي). لكن ليس المشكلة في ذلك، بل في طريقة وصوله إلى البيت الأبيض التي جاءت عبر أجندة شعبوية معادية للهجرة لاسيما من البلدان الإسلامية، انعزالية متطرفة للغاية، تعكس مزاج قطاع عريض جدا من الأمريكيين، خاصة البيض الأنجليكان. إذن، فالصح الذى يجب أن يقال، إن وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وليس ترامب في حد ذاته، عبر قاعدة تصويت واسعة للغاية، كان كاشفاً لتصدع كبير في النموذج الديمقراطي الأمريكي، وقيمه الليبرالية الراسخة. إذ أصبح المجتمع الأمريكي دون أدنى مبالغة مجتمعا منقسما بين فريقين كبيرين، الفريق الأنجلوسكسونى الأبيض الإنجيلي، وفريق المهاجرين والأقليات واليسار والسود. مع العلم أيضا، أن هذا الانقسام المجتمعي قد امتدت تداعياته على الانقسام الحزبي داخل واشنطن. فكثير من أفكار ترامب المتطرفة تلقى رواجا بين الديمقراطيين. التداعيات على المستويين الداخلي والخارجي يصعب تصور أن أمريكا بعد 6 يناير ستكون هي ذاتها قبل هذا التاريخ، مصداقية الديمقراطية الأمريكية ورسوخها اهتزت على نحو كبير في الداخل الأمريكي. مشهد اقتحام الآلاف من انصار ترامب بكل حماسة وجرأة لمبنى الكابيتول غير عابئين بالعواقب القانونية، وقبلها تشكيك الملايين من انصار ترامب في نتيجة الانتخابات، لا يمكن وصفه إلا بان جوهر الديمقراطية الأمريكية، وليس مؤسساتها وآلياتها الإجرائية في مأزق حقيقي. وخطورة هذا الأمر، أن المؤسسات والآليات وحدها لا يمكن أن تداوى جروح 6 يناير، بل والأهم من ذلك، لا يمكن أن تعالج الانقسام المجتمعي الحاد في أمريكا. فجوهر الديمقراطية الحقيقي، يكمن في قيمها الليبرالية العليا والتي من ضمن ما تشمل احترام حقوق الأقليات، المساواة التامة، احترام المعارضة، المشاركة وغيرها. لا ننسى أن ترامب قد حصد على 70 مليون صوت في الاستحقاق الأخير، بزيادة 11 مليون صوت على استحقاق 2016، وتلك النتيجة في حد ذاتها كبيرة جدا في تاريخ الجمهوريين الانتخابي، لكنها مقلقة للغاية إذ تعكس تنامى الجنوح الشعبوى اليمينى المتطرف المناهض تماما للقيم الليبرالية وجوهر الديمقراطية الأمريكية الحقيقي. وبالتالي، من يرى بأن ترامب سيحكم أمريكا خارج البيت الأبيض محق إلى حد كبير بعد حصوله على هذه النتيجة المذهلة، بل من ذهب أبعد من ذلك بالقول إن مشهد الكابيتول بداية لسلسلة مشاهد ستتوالى أكثر عنفاً وربما تفضى إلى توترات وصدامات داخلية شعبية، كنتيجة لتصاعد التطرف اليمينى الشعبوى محق أيضا على نحو كبير. مشهد الكابيتول، سيكون بلا أدنى شك، بداية لانكسار دور أمريكا الخارجي التقليدي كمروج للديمقراطية، أو كما يسميه أحد المعلقين "دور ناصح الديمقراطية". أجندة نشر الديمقراطية أحد أهم العوامل التي ارتكزت عليها السياسة الخارجية الأمريكية عبر عقود للضغط على خصومها، وتحقيق مآربها الضيقة الخاصة. الرئيس المنتخب بايدن، وضع أجندة نشر الديمقراطية كأحد أهم أولوياته، داعيا إلى العودة إلى حقبة تقليدية أعمق للديمقراطية الأمريكية. بايدن لا يدعو إلى ذلك من باب عشقه للتحول الديمقراطي في الأنظمة السلطوية، بل كتمهيد للضغط على أبرز خصومه وبالتحديد روسيا والصين، وتمزيق الثقة بين تلك الأنظمة وشعوبها، التي لا تزال ترى في أمريكا الحلم المتكامل الذى تتطلع إليه تلك الشعوب للعيش فيه. مشهد الكابيتول المأساوي، وضع بايدن في موقف لا يحسد عليه بشأن دور ناصح الديمقراطية، فكيف سيضغط على تلك الأنظمة، أو يجرؤ فقط على نطق أي حرف ذات صلة بنشر الديمقراطية، بعدما شهد قلب الديمقراطية الأمريكية هذا المشهد العبثي، وقبله مشهد اكثر عبثية بشأن مجريات الانتخابات الأمريكية، والشكوك الكبيرة التي تحوم حول مصداقيتها. قبل يوم من اقتحام الكابيتول، قبضت شرطة هونج كونج على أكثر من 50 من مناصري الديمقراطية، وردت الخارجية الأمريكية ببيان إدانة لهذه الخطوة، ودعمها التام للديمقراطية في هونج كونج. واليوم تحاكم الولايات المتحدة مقتحمي الكابيتول بتهمة الفوضى والاعتداء على المؤسسات الأمريكية، كما عزل الكونجرس ترامب بتهمة التحريض على العنف، رغم أن دعوته لأنصاره لم تتعد مجرد حثهم على الاعتراض على نتائج الانتخابات. هذا المشهد الذى يضاف إلى سلسلة المشاهد العبثية، أظهرت مدى الازدواجية الأمريكية حينما يتعلق الأمر بداخلها. النموذج الديمقراطي الأمريكي كالأسد الجريح، لم يعد قادرا على توحيد الداخل، ولا دعم أجندة الخارج. وللحق أيضا، ليس فقط النموذج الديمقراطي الأمريكي هو من يعانى من اهتزاز وتآكل كبير، بل الديمقراطيات الغربية الأوروبية أيضا بسبب تنامى اليمين المتطرف والحركات الشعبوية. وربما مع الصعود الكبير للصين وروسيا في النظام الدولي سيمر العالم بفترة ردة كبيرة عن الديمقراطية.

3831

| 19 يناير 2021

عودة الاتفاق النووي الإيراني.. الفرص والتحديات

صرح الرئيس المنتخب جو بايدن أكثر من مرة أثناء حملته الانتخابية بالعودة السريعة إلى الاتفاق النووي الإيراني الذى أبرمته إدارة أوباما مع إيران في 2015، الذي ألغته إدارة ترامب في 2018، في حال عودة امتثال طهران لبنود الاتفاق. الديمقراطيون عموما، وليس بايدن فقط، لديهم رؤية خاصة مفادها إمكانية إقناع إيران بالتخلي عن برنامجها النووي إذا أعطيت الأخيرة ضمانات قوية بالنهوض باقتصادها وفك عزلتها مع الاعتراف بدورها الإقليمي في المنطقة. ففي سياق ذلك، وجه بايدن انتقادات لاذعة لترامب على خلفية الانسحاب من الاتفاق، واصفا قرار الانسحاب بالمتهور ولن يقوض طموحات إيران النووية. رغم النبرة الحماسية لـ"بايدن"، والتي تقابلها تصريحات خجولة من قبل طهران بشأن إمكانية العودة، إلا أن العودة السريعة للاتفاق لن تكون بالأمر السهل، حيث جرت الكثير من المتغيرات والتحديات على أصعدة عدة جعلت فرص العودة للاتفاق ضئيلة للغاية، بعدما فرض ترامب عقوبات اقتصادية قاسية غير مسبوقة على طهران شملت "تصفير صادرات النفط الإيرانية" كبدتها خسائر بمليارات الدولارات، وإدراج الحرس الثوري الإيراني وحزب الله على لائحة العقوبات الأمريكية إلى جانب عقوبات تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، وتطوير الصواريخ الباليستية ودعم الإرهاب، من غير المتوقع أن تقبل طهران العودة للاتفاق دون الرفع الفوري لهذه العقوبات، بل ربما قد تذهب أبعد من ذلك مطالبة بتعويضات بمليارات الدولارات عن تلك الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها جراء تصفير النفط، ورفع اسم الحرس الثوري وحزب الله اللبناني من قائمة العقوبات. تلك الشروط من الصعب للغاية أن تلبيها إدارة بايدن بشكل كامل في ظل هيمنة جمهورية على مجلس الشيوخ، وتأييد قطاع لابأس به من الديمقراطيين في مجلس النواب لهذه العقوبات خاصة المتعلقة بحقوق الإنسان ودعم الإرهاب وإزالة حزب الله اللبناني من لائحة العقوبات. لم يخرج عن طهران تصريحات رسمية في هذا الشأن خاصة من قبل الرئيس حسن روحاني الداعم بشدة للعودة للاتفاق، لكن وضع روحاني الآن يختلف كليا عن وضعه في 2015، حيث يواجه معارضة قوية من المحافظين في الانتخابات المقرر إجراؤها في يونيو 2021، مما سيضطره إلى التشدد في تلك المطالب لكسب أرضية شعبية في ظل ترجيحات قوية بفوز المحافظين، ناهيك عن ذلك، ففوز المحافظين في حد ذاته الرافضين لأية اتفاق نووي من الأساس، سيجعل العودة للاتفاق أمراً شبه مستحيل. مؤخراً، جرت أيضا عدة متغيرات جوهرية تصعب على نحو كبير العودة للاتفاق، أو بعبارة أكثر صراحة ستشدد من موقف إيران حيال برنامجها النووي؛ واحدة من أهم هذه المتغيرات التصعيد الإيراني-الإسرائيلي على خلفية اغتيال العالم النووي فخري زادة واستهداف إسرائيل لأهداف إيرانية في سوريا. تعرف إسرائيل جيدا أن إثارة هذه الأزمات من شأنها دفع طهران إلى حالة تصعيد مما يعيق أية تقارب بين واشنطن وطهران. وإن كانت إيران معروفة بـ(برجماتيتها) العالية، إلا أن تخلي إيران تماما عن الانتقام خاصة لمقتل زادة وقبله قاسم سليماني أمر غير مقبول على الإطلاق للشارع الإيراني والدوائر المتشددة داخل إيران، وهذا ما وعد به أيضا روحاني بقوله بأن الرد سيكون في الوقت المناسب. وبالتالي، انتزاع إدارة بايدن من طهران ضمانات قوية بعدم الانتقام من إسرائيل، أو من كلا الطرفين بعد التصعيد أمر مشكوك فيه إلى حد بعيد، لاسيما وأن سياسة التصعيد الإسرائيلية تجاه طهران لن تتوقف تحت ذرائع شتى. أحد الأسباب الرئيسية المرجحة لتصلب موقف إيران تجاه برنامجها النووي هو موجة التطبيع التي تضرب المنطقة حاليا، لاسيما التطبيع بين كل من إسرائيل والإمارات والبحرين، والتي تنظر إليه طهران على أنه تحالف خليجي-إسرائيلي عسكري موجه إليها، فمؤخرا خرجت تصريحات إسرائيلية رسمية عن عزم إسرائيل نشر منظومة دفاع صاروخي في الإمارات هذا بالتزامن مع موافقة واشنطن على بيع طائرات أف 35 للإمارات، في إطار هذه التطورات سيصعب على طهران التخلي عن برنامجها النووي خوفا من ضربة أمريكية-إسرائيلية بمساعدة خليجية في المستقبل لإزالة النظام. خاصة، وذلك بحسب الوكالة أن إيران قد باتت قريبة جدا من امتلاك سلاح نووي بعدما تمكنت من استئناف تخصيب اليورانيوم لمستويات عالية جدا بعد انسحاب ترامب من الاتفاق قدرت بثمانية أضعاف الكمية المخصبة منذ 2015. مجموعة التحديات السابقة، وخاصة التصعيد الإسرائيلي ضد إيران على اعتبار أن سيناريو امتلاك إيران لسلاح نووي أمر لن تسمح به إسرائيل على الإطلاق، تعقد على نحو كبير من فرص عودة الاتفاق خلال إدارة بايدن، بل ربما تجعل إقامة اتفاق نووي دائم في المستقبل أمر مستبعد للغاية في ظل تعاقب إدارات أمريكية جمهورية على البيت الأبيض في المستقبل. يبقى رهان وحيد من الممكن أن يجعل عودة الاتفاق ممكنا خلال إدارة بايدن -وإن كان مرحليا أيضا على الأرجح- وهو الوضع الاقتصادي الصعب لإيران الذى ازداد سوءا بسبب أزمة كورونا، ففي ظل هذا الوضع قد تقبل إيران رفع الحظر على تصدير النفط لأجل انتعاشة سريعة لاقتصادها، مدركة أيضا أن الاتفاق بمثابة اعتراف أمريكي بدورها ونفوذها في منطقة الخليج وسوريا في ضوء تراجع الأهمية الاستراتيجية للمنطقة لأمريكا.

3670

| 29 ديسمبر 2020

بايدن والقيادة الأمريكية الدولية من الخلف

عندما قرأت البرنامج الرئاسي للمرشح الديمقراطي جو بايدن منذ ما يقرب من عام، استرعى انتباهي بشدة مقدمة هذا البرنامج، الذي شدد فيه على استعادة القيادة الأمريكية الدولية التي تراجعت بشدة بسبب سياسات ترامب الانعزالية، وعكس بايدن ذلك أثناء حملته الانتخابية وبعد فوزه عبر تأكيده على أن أولويته هي استعادة الدور القيادي لأمريكا في النظام الدولي، فابدين الذي يوصف بوريث أوباما الشرعي، أو كما يعلق الكثير من المراقبين "الحقبة الثالثة لإدارة أوباما"، كان من أشد الداعمين لتقليص دور الولايات المتحدة في النظام الدولي، أو التخلي عن فكرة "القيادة الاستثنائية" لأمريكا في النظام الدولي. إذن فالسؤال المنطقي هنا، أي قيادة يقصد السيد بايدن؟ وكيف سيستعيدها؟ وما أهدافها؟. عندما يتم الإشارة إلى القيادة الأمريكية في النظام الدولي التي بدأت فعلياً مع سقوط الاتحاد السوفييتي، فنحن بصدد الحديث عن "القيادة الاستثنائية"، والتي تتمحور تقريباً حول ثلاثة ثوابت: دعم النظام الاقتصادي الليبرالي العالمي ومؤسساته الرئيسية، لعب دور شرطي العالم والتدخل عسكرياً وسياسياً بقوة في كل أزماته، وأخيراً استخدام القوة العسكرية دون تردد ضد أية قوة أينما كانت تلوح فقط بتهديد المصالح الأمريكية الحيوية أو الإخلال بقواعد النظام الدولي. فهل هذه هي القيادة التي يقصدها بايدن؟، والجواب بالقطع "لا"، أعطى بايدن تلميحات واضحة بخصوص هذه القيادة المزعومة تتمحور حول التخلي عن النزعة الأحادية لإدارة ترامب وإعادة النهج الدبلوماسي التعددي، وإعادة بناء الثقة في تحالفات أمريكا التقليدية خاصة مع أوروبا. من خلال ذلك، يمكن استنتاج أن بايدن لا يقصد على الإطلاق القيادة الاستثنائية، بل استمراراً للقيادة الدولية من الخلف التي ابتدعتها إدارة أوباما، وعكستها أيضا إدارة ترامب بصور ودرجات مختلفة. من منظور واقعي، تدركه جيداً دوائر صنع القرار في واشنطن، أن فكرة القيادة الاستثنائية لأمريكا في النظام الدولي لم تعد ممكنة ولا مجدية، لاسيما لعب دور شرطي النظام الدولي، فالاقتصاد الأمريكي لم يعد بمقدوره تحمل أعباء هذا الدور، ولا الرأي العام الأمريكي بعد كارثة حرب العراق مستسيغ هذا الدور، ولا طبيعة النظام الدولي الحالي "الشديدة التعقد" مهيأة لضمان فعالية هذا الدور. ضف على ذلك، أن صعود الصين القوى في النظام الدولي قد أصبح الشغل الشاغل للولايات المتحدة، ولعل ذلك قد يكون أهم أسباب التخلي عن فكرة القيادة الاستثنائية، خاصة أن منطق استخدام القوة دون تردد ضد الصين التي تهدد بالفعل دور ونفوذ الولايات المتحدة التقليدي في آسيا، أضحى أمراً شبه مستحيل مع منافس يمتلك قوة عسكرية تضاهى القوة العسكرية لأمريكا. إذن لماذا يصر بايدن على قيادة دولية من الخلف، وما أهدافها ومدى فاعليتها في تحقيق هذه الأهداف؟ على الرغم من تحمس بايدن الشديد لتقليص دور الولايات المتحدة في النظام الدولي، فهذا لا يعنى انسحابها تماماً من المشهد الدولي عبر سياسات انعزالية كتلك التي أتخذها سلفه كانسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة اليونسكو، وتوتير العلاقات بشدة مع حلفاء واشنطن التقليديين كالاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، فضلاً عن سياسات ترامب شديدة التعسف تجاه حلف الناتو. وفى ذلك، يرى بايدن والديمقراطيون عموماً أن هذا النهج الانعزالي لترامب قد أضر بشدة بصورة الولايات المتحدة واقتصادها، بل والأهم من منظورهم هو ترك فراغ كبير في الساحة الدولية استغلته الصين بكفاءة لتوطيد هيمنتها الدولية، فمؤخراً وقعت 15 دولة بينها الصين واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا على اتفاقية "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة"، والتي أتت كنتيجة للفراغ الاقتصادي والسياسي الذي خلفته سياسات ترامب الانعزالية. من هذا المنطلق، نستطيع أن نستنتج، أن الهدف الأسمى لبايدن من قيادة أمريكية من الخلف، هو تشكيل تحالف دولي يضم حلفاء واشنطن التقليديين لتقويض مساحات نفوذ الصين في النظام الدولي، وليس لمحاربة الصين، وهذا ما أشار إليه بايدن صراحة عبر قوله إن مواجهة الصين تستلزم تشكيل تحالفات دولية، يبقى الهدف الثاني، وهو الحفاظ على صبغة "اسمية/ أخلاقية" لدور الولايات المتحدة القيادي في النظام الدولي، وهذا سيتأتى عبر استعادة دور الولايات المتحدة عبر أخذ المبادرة والمشاركة القوية في القضايا الدولية الأكثر إلحاحاً خاصة قضية التغير المناخي. ونستطيع التأكيد في هذا الصدد، أن تحقيق كلا الهدفين، سيكون عبر مساهمة ومشاركة قوية لحلفاء واشنطن، لتبقى الولايات المتحدة "اسمياً" قائداً وداعماً من الخلف لتحالفات تشاركية، وهذا بدوره من المؤكد أن يحقق بفاعلية نوعا ما أهداف الولايات المتحدة، خاصة تقويض نفوذ الصين، لكن في المقابل سيكون مخيباً للغاية لحلفاء واشنطن خاصة الأوروبيين في ظل ما تواجه من أزمات أمنية مستجدة، وعلى صعيد الأزمات الدولية خاصة في مشهدنا الإقليمي التعس، فلن تبدو أية مظاهر لقيادة أمريكية على الإطلاق. ثوابت القيادة الاستثنائية لأمريكا خاصة دور شرطي العالم والانخراط العسكري الواسع في كل أزمات العالم البعيدة عن حدود الولايات المتحدة، واستخدام القوة دون تردد، قد ولت بلا رجعة، فأقصى ما تسعى إليه واشنطن هو استمرار قيادتها على النظام الدولي عبر الدبلوماسية والتعددية والقوة الناعمة مع تحمل حلفائها عبء المشاركة الأمريكية، بالتوازي مع تحويل التركيز العسكري الكامل على الباسفيك بهدف ردع طموحات الصين العسكرية والإقليمية، والانجرار في مواجهة عسكرية "على مضض" معها إذا استدعت الضرورة القصوى ذلك.

4073

| 08 ديسمبر 2020

alsharq
حدود العنكبوت

حينَ شقَّ الاستعمار جسدَ الأمة بخطوطٍ من حديد...

3894

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
انخفاض معدلات المواليد في قطر.. وبعض الحلول 2-2

اطلعت على الكثير من التعليقات حول موضوع المقال...

2238

| 03 نوفمبر 2025

alsharq
العالم في قطر

8 آلاف مشارك بينهم رؤساء دولوحكومات وقادة منظمات...

2145

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
حين يصبح النجاح ديكوراً لملتقيات فوضوية

من الطرائف العجيبة أن تجد اسمك يتصدر أجندة...

1317

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
السودان.. حوار العقل العربي مع مُشعِلي الفتنة

في السودان الجريح، لا تشتعل النيران في أطراف...

1227

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
الكفالات البنكية... حماية ضرورية أم عبء؟

تُعدّ الكفالات البنكية بمختلف أنواعها مثل ضمان العطاء...

972

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
خطاب سمو الأمير خريطة طريق للنهوض بالتنمية العالمية

مضامين ومواقف تشخص مكامن الخلل.. شكّل خطاب حضرة...

969

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
نظرة على عقد إعادة الشراء

أصدر مصرف قطر المركزي في التاسع والعشرين من...

942

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
نحو تفويض واضح للقوة الدولية في غزة

تسعى قطر جاهدة لتثبيت وقف اطلاق النار في...

879

| 03 نوفمبر 2025

alsharq
عمدة نيويورك

ليس مطلوباً منا نحن المسلمين المبالغة في مسألة...

864

| 06 نوفمبر 2025

alsharq
الطاعة عز.. والقناعة غنى

الناس في كل زمان ومكان يتطلعون إلى عزة...

834

| 07 نوفمبر 2025

alsharq
المزعجون في الأرض 1-3

وجهات ومرافق عديدة، تتسم بحسن التنظيم وفخامة التجهيز،...

756

| 05 نوفمبر 2025

أخبار محلية