رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

شهر على عدوان غزة.. التقييم والسيناريوهات

يدخل العدوان الصهيوني الوحشي المتواصل على قطاع غزة شهره الثاني، والذي خلف قرابة العشرة آلاف شهيد أغلبهم من النساء والأطفال، ومئات الآلاف من المصابين، وتدمير هائل في البنى التحتية لغزة، والتسبب في أزمة إنسانية غير مسبوقة في القطاع، قد تفضي إلى قتل الآلاف حال استمرارها. بعد شهر من العدوان المتواصل شديد الوحشية على غزة، فإن أول سؤال بديهي يجب طرحه هو ماذا تريد إسرائيل من وراء ذلك، وهل حققت شيئا مما تريده؟ يتبدى من التصرفات الجنونية لإسرائيل على القطاع، فضلا عن التصريحات الغريبة والمتضاربة لقادة إسرائيل. هناك حالة من التخبط في تحديد الأهداف أو لنقل الأولويات مترافقة مع حالة من الانتقام العشوائي رداً على أكبر هزيمة في تاريخ إسرائيل. إذ ان إسرائيل تارة تعلن عن غزو بري شامل لم يتم حتى الآن، وتارة تعلن عن استمرار العمليات حتى يتم تحرير الرهائن، وتارة أخرى تقول ان العمليات ستستمر حتى يتم القضاء على حماس، ومن ناحية أخرى تقوم بإرسال تحذيرات ومناشدات لأهالي غزة للزحف إلى الجنوب. وسبب هذا التخبط الإسرائيلي يرجع بالأساس إلى صعوبة تحقيق أي هدف رئيسي والتكلفة الباهظة لتحقيقه أيضا. فالغزو البري صعب للغاية وتكلفته الاقتصادية والبشرية والسياسية عالية، ومسألة ترحيل سكان القطاع إلى الجنوب، حتى يتم غزو بري امن للقضاء على حماس، أو ضرب شمال القطاع بالقنابل والأسلحة الثقيلة، يبدو خيارا مستحيلا. ونجزم أن سيناريو ترحيل سكان القطاع إلى الجنوب هو الخيار شبه المتاح أو المتفق عليه في إسرائيل حتى الوقت الراهن رغم الصعوبة البالغة، وما من تفسير مقنع للكم الهائل من الضربات الوحشية ضد سكان القطاع إلا محاولة بائسة لترحيل سكان القطاع إلى الجنوب. نخلص مما سبق أن إسرائيل لم تحقق أي هدف رئيسي خلال هذا الشهر من القصف الوحشي غير المسبوق على القطاع. بل على العكس من ذلك، فإسرائيل تجني يوميا خسائر فادحة في الاقتصاد تقدر بنحو مليار شيكل، والمزيد من الضغوط والعداء العالمي الرسمي والشعبي. وإزاء ذلك أيضا فنحن أمام ثلاثة سيناريوهات رئيسية في غزة، قد يبدو من الصعب جدا ترجيح احدها: الأول-استمرار العمليات أو الغارات الإسرائيلية على القطاع لكن بوتيرة أقل وحشية وبشكل انتقائي، أملا في إجبار حماس على تحرير الرهائن كهدف أول، ثم إجبارها على الخروج من غزة وتنصيب حكومة جديدة في القطاع. وقد تفكر إسرائيل هذا السيناريو خلال الأسابيع القادمة بعد تيقنها من صعوبة الغزو البري. الثاني- استمرار العمليات الوحشية لأسابيع قليلة أملا في نزوح المزيد من أهالي غزة إلى الجنوب، ثم يعقبها غزو بري شامل يفضي إلى حرب طويلة الأمد مع حركة حماس. يمكن أن نطلق على هذا السيناريو سيناريو «الحرب المفتوحة» على مستوى الجبهات والوقت. إذ سيفضي حتما إلى تدخل أطراف خارجية في الصراع لاسيما حركات المقاومة مساندة لحماس. علاوة على أن هزيمة حماس في القطاع ليس بالأمر السهل. وعلى نحو عام، غالبا ما تنهزم الجيوش النظامية في حروبها ضد الحركات والجماعات شبه النظامية أو ما يطلق عليها حروب الشوارع والعصابات. الثالث- وهو سيناريو صعب التحقيق لكنه ممكن، ويتمحور في عقد صفقة لتبادل الرهائن بين حماس وإسرائيل مع توافر ضمانات بهدنة طويلة الأمد. ومن الوارد أن تجبر إسرائيل على هذا السيناريو -الشديد المرارة لها- إذا ضغطت الأطراف الحليفة على إسرائيل لعقد الصفقة لاسيما الولايات المتحدة، مع تزايد نزيف الخسائر في الاقتصاد الإسرائيلي مع الاستمرار في العمليات العسكرية دون جدوى، علاوة على تزايد الضغوط الداخلية داخل إسرائيل. من الواضح حتى من البداية أن خيارات إسرائيل صعبة ومحدودة، فإسرائيل أمام أكبر تحد في تاريخها ردا على أكبر هزيمة في تاريخها. فأي سيناريو من السيناريوهات السابقة حتى الثالث تكلفته باهظة جدا على إسرائيل. فإذا أجبرت على عقد صفقة مع حماس، سيعني ذلك لإسرائيل انتصار المقاومة وتشجيع باقي حركات المقاومة في المنطقة على ضرب إسرائيل. فضلا عن ضعف المصداقية الداخلية في مشروع دولة إسرائيل ذاتها، فالمجتمع الإسرائيلي مجتمع مهاجرين وجله يحمل جنسيات أخرى، ويعيش في إسرائيل بشكل شبه مؤقت استنادا على أمرين الأمن والرفاهية. وعلى هذا الأساس، نميل نسبيا إلى ترجيح السيناريو الثاني. إذ بعد طوفان الأقصى يرى قادة إسرائيل أن إسرائيل في حالة صراع للبقاء على كافة المستويات، ويدعمها القوى العظمى في العالم الولايات المتحدة وعدد من القوى الدولية الكبرى كإنجلترا وفرنسا.

1278

| 12 نوفمبر 2023

المكاسب الصينية الروسية من طوفان الأقصى

على الرغم من أن عملية طوفان الأقصى والمأساة الجارية الآن في غزة والتي دخلت فعليا إلى حالة الحرب، تشكل تحديا خطيرا لأطراف كثيرة حتى الداعمة لإسرائيل خاصة الولايات المتحدة، إلى جانب كل الدول المجاورة لإسرائيل مثل مصر والأردن. وبعض الشيء تمثل تحديا لإيران ولعدد من دول الخليج. لكن مع ذلك، ثمة بعض الأطراف الخارجية تستفيد وستستفيد الكثير جدا من تلك العملية، ويأتي على رأس هذه الأطراف كل من الصين وروسيا. اتبعت كل من بكين وموسكو السياسة التقليدية المتوازنة المعتادة من كليهما تجاه طوفان الأقصى، وذلك من قبيل الدعوة لوقف إطلاق النار، العودة إلى طاولة المفاوضات، دعم الجهود الإنسانية في غزة، التشديد على حل الدولتين. إذ من غير المتصور والمتوقع أيضا أن تقوم الدولتان بتوجيه إدانة قوية لإسرائيل، وذلك في سياق السياسة المتوازنة التي يتبعانها في المنطقة، إلى جانب بعض الاعتبارات المصلحية الأخرى. ومع ذلك، فالميزة الرئيسية لتلك السياسة المتوازنة تكمن في عدم اعتبارهما لحركة حماس وغيرها من حركات المقاومة جماعات إرهابية. تتلاقى المكاسب الصينية الروسية الناجمة عن الطوفان إلى حد بعيد. ونقطة التلاقي الأساسية تكمن بصورة كبيرة في العامل الأمريكي المتورط بدعمه التام لإسرائيل. من واقع الوجود الأمريكي القوى في المنطقة منذ حرب الخليج الثانية، ثم حروبها الطويلة في أفغانستان والعراق. تيقنت كل من روسيا والصين، خاصة الأخيرة، أن تورط واشنطن في المنطقة يساهم مساهمة قوية في تمكين صعودهما في آسيا، بمجرد انطلاق شرارة طوفان الأقصى، أعلنت إدارة بايدن على الفور إرسال أكبر حاملة طائرات إلى شرق المتوسط، ثم أعلنت عن إرسال حاملة أخرى. ويعنى ذلك، أن واشنطن قد أدركت تماما أن إسرائيل في خضم خوض حرب إقليمية واسعة تتجاوز غزة، ومن المحتمل أن تنجر واشنطن فيها. ويمكن القول، إنه من الواضح جلياً أن عملية طوفان الأقصى ستدوم طويلا وستكون لها العديد من التداعيات الإقليمية. فمن الواضح أن إسرائيل لن تتخلى عن مسعى القضاء على حماس، أو على أقل تقدير طرد حماس من القطاع وتنصيب حكومة جديدة هناك مع سيطرة عسكرية خفيفة على القطاع. ويشى ذلك بعودة قوية للتورط الأمريكي في المنطقة سيدوم بعض السنوات، وبالنسبة للصين وروسيا تخفيف التركيز الأمريكي على آسيا. وبالنسبة لروسيا تحديدا، تقليص الدعم الأمريكي-الغربي لأوكرانيا خاصة العسكري مقابل تحويل كامل الدعم لإسرائيل التي تعد ولاية أمريكية. طوفان الأقصى أيضا أحرج واشنطن بشكل كبير جدا، إذ أظهرت سياسة الكيل بمكيالين لواشنطن فيما يتعلق بحقوق الإنسان، ففي الوقت الذى لا تتوقف فيه عن إدانة الصين بشأن الانتهاكات المرتكبة بحق الأقلية الإيغورية المسلمة، وإدانة موسكو عن جرائم الحرب في أوكرانيا؛ تتغاضى عن جرائم الحرب الرهيبة التي تقترفها إسرائيل في غزة، وكان قد تجلى ذلك في حادثة قصف كنيسة المعمدانيين في غزة. ويعنى ذلك، أن طوفان الأقصى ستجبر واشنطن التوقف عن توجيه إدانات مستمرة لكل من بكين وموسكو فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان. علاوة على، تقويض القوة الناعمة لواشنطن في العالم والمنطقة، مقابل تعزيز القوة الناعمة لهما خاصة في المنطقة.

2163

| 07 نوفمبر 2023

زلزال الأقصى المدوي ..العبر والتداعيات

ما حدث في صباح يوم السابع من أكتوبر، مفاجأة مدوية لم يكن يتوقعها أحد على الإطلاق حتى أكثر الناس تفاؤلاً. والمفاجأة لا تكمن في هجوم المقاومة المسلحة حماس في حد ذاته، إذ هذا كان متوقعا من حركة مقاومة تقاوم احتلالا غاشما.. بل في طبيعة وتكتيك وحجم وتداعيات الهجوم. فعملية طوفان الأقصى هي بحق زلزال مدو لإسرائيل. فحماس تلك المنظمة العسكرية التي لا تمتلك أعداد وقدرات القوات النظامية، قد باغتت إسرائيل صباح يوم السابع من أكتوبر براً وبحراً وجواً، ونجحت في اختراق حدود إسرائيل، وقهر القبة الحديدية، والتغلغل إلى المستوطنات في غلاف غزة وأسر أكثر من 100 إسرائيلي بينهم مجندون، وقتل ما يناهز 3 آلاف. وبالتالي، في تقديرنا، تعد عملية طوفان الأقصى أقسى هزيمة لإسرائيل في تاريخها. إذ تختلف عملية طوفان الأقصى عن جميع الحروب النظامية وغير النظامية مع إسرائيل. في نجاح منظمة وليس جيشا نظاميا، من اختراق إسرائيل بسهولة، وأسر عدد كبير من الإسرائيليين بسهولة أيضا، فضلا عن عدد القتلى الذي يقارب عدد قتلى إسرائيل في حروبها مع منظمات المقاومة منذ التسعينيات. ولعل أهم من هذا وذاك، أن طوفان الأقصى، قد حطم أساطير متوترة عن إسرائيل، طالما روجت لها إسرائيل في سياق حربها النفسية مع العرب، وللأسف قد صدقناها. حيث حطمت أسطورة حدود إسرائيل المنيعة التي لا يمكن اختراقها المجهزة بأخطر تقنيات الرصد والمراقبة، وأسطورة الجيش الذي لا يمكن أن يقهر من منظمة غير نظامية، وأسطورة القبة الحديدية التي من المستحيل أن تسمح بمرور صاروخ عابر للقارات وليس صاروخا متوسط المدى بالمساس بتل أبيب، حيث أمطرت صواريخ حماس تل أبيب ومعظم مدن إسرائيل بعشرات الصواريخ. وأخيراً، أسطورة العبقرية والنفاذ الخارقة للاستخبارات الإسرائيلية. ومن البديهي بعد استعراض العبر، طرح السؤال الرئيسي، ما هي دوافع حماس من العملية؟ قد كتب سيل من التحليلات والآراء حول دوافع حماس من العملية. ومع احترامنا الشديد لتلك الآراء، التي بعض منها وجيه. نرى أن دوافع حماس لا تحتاج إلى بحث معمق لسبر أغوار تخمينات وتكهنات تخرج الأصل عن سياقه. حماس حركة مقاومة ضد كيان احتلال ولها ثوابت وأهداف رئيسية وراسخة. وبالتالي فالعملية في حد ذاتها غير مفاجئة، بل المفاجأة هي التطور الكبير النوعي في تكتيك وأسلوب حماس العسكري. ومن الآراء التي نقدرها، شعور حماس ومعها جميع حركات المقاومة أن وضع القضية يزداد سوءاً بالتوازي مع تصاعد قوة اليمين المتطرف في إسرائيل، تحريك قضية الأسرى، وتقويض موجة التطبيع المتصاعدة في المنطقة. التداعيات : بالنظر أن عملية طوفان الأقصى، عملية استثنائية للغاية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، أو إسرائيل، أو المقاومة الفلسطينية...قل ما شئت. فإن تداعياتها أيضا ستكون استثنائية ومتعددة. وثمة بعض التداعيات المؤكدة وأخرى محتملة بنسبة كبيرة. التداعيات المؤكدة، ونذكر أهمها: - طوفان داخلي مواز داخل إسرائيل يطال كافة المستويات، لاسيما السياسية والعسكرية. فمن المؤكد بعد أن هز طوفان الأقصى كرامة ومصداقية وصورة إسرائيل السياسية والعسكرية، أن تقوم إسرائيل بمراجعة شاملة على مستوى التخطيط العسكري سيشمل محاسبة النخب العسكرية الحالية حسابا عسيرا، والإطاحة بهم، والدفع بنخب جديدة. وعلى المستوى السياسي، فقدان ائتلافات اليمين التي تحكم إسرائيل لعقود المصداقية الشعبية، وعلى الأرجح القضاء على أسطورة نتنياهو للأبد. - عودة الزخم الإقليمي والدولي بالقضية الفلسطينية. وتعد تلك المسالة-في تقديرنا- أبرز إيجابيات طوفان الأقصى على الإطلاق. منذ اندلاع ما تسمى انتفاضات الربيع العربي في 2011، تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية على الأجندتين الإقليمية والدولية إلى مستوى متدن للغاية. وفي خضم موجات التطبيع في المنطقة، تعمق هذا التراجع، حتى بدا أن القضية الفلسطينية لم تعد قضية العرب الأولى. لاسيما في ظل أحاديث وتسريبات عن تسوية هزيلة للغاية للقضية مقابل التطبيع. والمفارقة التي سنشهدها خلال الأسابيع القادمة الناجمة عن طوفان الأقصى، هو التصعيد المتطرف العنيف من إسرائيل ضد قطاع غزة جنبا إلى جنب مع تسابق المساعي والمبادرات لاسيما من جانب الغرب للتهدئة وعودة المسار التفاوضي والسياسي أو السلمي. فالعقلاء لاسيما من أصدقاء إسرائيل، باتوا على قناعة راسخة أن النهج العنيف والتهميش المطلق للقضية، واستمرار انتهاك حقوق الفلسطينيين ومقدساتهم؛ لن يجعل إسرائيل في مأمن، ويجب أن يعاد المسار التفاوضي من جديد وبشكل أكثر جدية مما سبق. - تقويض مساعي إسرائيل في استقطاب يهود الشتات إلى إسرائيل، بل ستشهد إسرائيل موجة هروب لآلاف اليهود الذين يحملون جنسيات أخرى. - تقويض موجة التطبيع في المنطقة، فبعد طوفان الأقصى من الصعب أن يسير التطبيع بنفس الوتيرة السريعة السابقة.

1467

| 12 أكتوبر 2023

الصين والقيادة الدولية الحميدة

قبل أيام، أصدرت الصين وثيقة بيضاء مهمة شديدة الأهمية تحت مسمى «المصير المشترك للمجتمع العالمي: أعمال واقتراحات الصين». استعرضت فيها رؤية الصين لبناء عالم أفضل في ظل القيادة الصينية، وليس الهيمنة الصينية. إذ انصب تركيز الوثيقة على رفض الصين لفكرة أو مصطلح «الهيمنة»، التي وصفتها -طبقا للوثيقة- بكونها مرادفا لاحتكار القوة المطلقة والتسيد على الآخرين، وعقلية المباراة الصفرية، والتوسع عبر القوة العسكرية. مقابل ذلك، استعرضت الوثيقة نهج القيادة الدولية الحميدة أو الرشيدة للصين، المستند الى طرح الصين نفسها للعالم كصانع للتنمية المفيدة لنفسها وللآخرين، والعمل على تعزيز فرص متساوية للنمو والازدهار للجميع في ظل نظام معولم. وهذا في حد ذاته سيساهم في توطيد السلام والاستقرار في العالم، ويقضى على عقلية المباراة الصفرية والصراعات الجيوسياسية. تحدثنا كتب تاريخ العلاقات الدولية عن أنماط متعددة من الهيمنة العالمية. فهناك النمط الشائع «الهيمنة العسكرية الواقعية» التي تفرض فيها القوة المهيمنة هيمنتها على العالم بالقوة العسكرية والأساليب القسرية كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وهناك نمط «الهيمنة الليبرالية» وفيها تسعى القوة المهيمنة على فرض هيمنتها عبر نموذج وأدوات ومؤسسات اقتصادية عالمية، وتعد الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة نموذجا لتلك الهيمنة وذلك من خلال فرض النظام النيوليبرالى العالمي وهيمنة الدولار ومؤسسات بريتونوودز (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي). وهناك نمط فريد وهو الذى تتبعه الصين حاليا وهو «الهيمنة الجرامشية، أو المقبولة». وهذا النمط أقرب للقيادة عنه كونه هيمنة. إذ يستند هذا النمط الى طرح القوة الساعية للقيادة العالمية نموذجا وأدوات ومبادرات تنموية وحضارية واقتصادية تتسم بقدر كبير من المعقولية والرشادة والعدالة، وهو ما يدفع الدول إلى الانضمام إليها طواعية وليس جبراً لشعورهم أنها تحقق مصالحهم وتعظم مكاسبهم وتحافظ على أمنهم وسيادتهم. أو عبارة أخرى، يتنامى شعورهم أن مصلحتهم متوافقة مع مصلحة القوة القائدة الحميدة. والسؤال المثار الآن، لماذا تتعمد الصين تبنى هذا النموذج للهيمنة؟ وإلى أي مدى نجحت في تطبيقه؟ وتتعمد الصين اتباعه لثلاثة أسباب رئيسية واحدة منها ذكرتها صراحة في الوثيقة، وهى إدراك الصين الحكيم لدروس التاريخ حيث انتهى مصير القوة الساعية إلى الهيمنة عبر الإكراه العسكري للانتحار مثل الاتحاد السوفيتي وألمانيا النازية، كما أن استدامة هذه الهيمنة مستحيل بسبب القوة المضادة التي ستنشأ للقضاء عليها. والثاني هي تقاليد وثقافة وتاريخ الصين السلمية المعادية لمسالة فرض الهيمنة جبراً. فالصين كانت إمبراطورية في القرون الوسطى عبر نشر ثقافتها وتأثير طريق الحرير القديم. وأخيرا، هو امتلاك الصين لمخزون من الخبرات والتجارب والأدوات القديمة والحديثة التي تمنحها المقدرة على إنجاح خططها للقيادة الدولية الحميدة. إذ غدت الصين في غضون عقدين قوة اقتصادية تنموية جبارة، مما أهلها بان تكون نموذجا فريدا للنمو والتنمية-ليس غربيا- يحتذى به في العالم. وأصدرت الصين الوثيقة، وهى متسلحة بنجاحها الواسع خلال عقد في جذب معظم دول العالم في الفلك الصيني طواعية. فمبادرة الحزام والطريق التي تعد اهم مبادرة صينية لتعزيز القيادة الدولية الحميدة للصين، يبلغ عدد أعضائها حاليا نحو 150 دولة. فمن خلال المبادرة، ازدهرت اقتصادات العديد من أعضائها، وساهمت الصين في تطوير البنى التحتية للكثير من الدول، لاسيما لدول مجلس التعاون الخليجي. كما استحوذت دول المبادرة على احدث التكنولوجيا الصينية كشبكة جى 5. وهناك أيضا تجمع البريكس الذى تقوده الصين، حيث يتوسع باطراد فمؤخرا انضمت إليه خمس دول من بينهم ثلاث عربية، كما يتلقى التجمع طلبات للانضمام من عشرات الدول. وناهيك عن ذلك، ففي ظل القيادة الحميدة للصين، تطرح الصين نفسها كمبادر لحل التحديات العالمية الخطيرة وعلى رأسها قضية التغير المناخي. ففي إطار مبادرة الحزام والطريق، تدعم الصين معظم المشروعات الخضراء. كما تطرح الصين نفسها كوسيط عالمي صانع للسلام، إذ قدمت العديد من المقترحات لإصلاح الأمم المتحدة. كما نجحت وساطتها في تطبيع العلاقات بين إيران والسعودية. والحديث عن منجزات القيادة العالمية الحميدة للصين يحتاج إلى عشرات الكتب في حقيقة الأمر. لكن الشاهد في الأمر، أن الصين قد بات قائدا عالميا حميدا وبمحض رغبة وإرادة معظم دول العالم، التي تنضم إلى مبادرات ومشروعات الصين طواعية لشعورها بانها الوسيلة الأمثل لتحقيق مصالحها وتعظيمها. وهذا في حد ذاته سيساهم في استدامة القيادة الدولية للصين ربما لقرون، وانتقال النظام الدولي إلى القيادة الصينية المطلقة أو التعددية القطبية بشكل سلس وليس عنيفا كالعادة، لأن أصدقاء وحلفاء خصوم الصين الرئيسيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة، هم أيضا باتوا يدورن في فلك القيادةالحميدةللصين.

2418

| 03 أكتوبر 2023

الاحتجاجات الغاضبة ومستقبل نظام الأسد

مع عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، والتي سبقتها حالة من الهدوء الداخلي، وسيطرة هشة للنظام السوري على بعض المناطق بدعم روسي إيراني. قد جزم الكثيرون أن ملف الأزمة السورية قد طوي بلا رجعة، وأن نظام الأسد باق في السلطة إلى الأبد. ولم يمر شهران على عودة سوريا للجامعة، حتى تفاجأ الجميع بعودة الحالة الثورية السورية عبر احتجاجات غاضبة مستمرة حتى الآن شملت بعض المناطق كدرعا ودير الزور، وبعضها مناطق موالية تاريخيا لنظام الأسد كالسويداء، وآخذة في الاتساع، وتتوحد على شعار «إسقاط النظام». اندلعت الاحتجاجات الأخيرة على إثر رفع الدعم عن المحروقات، وزيادات وصلت إلى الضعف على بعض السلع على رأسها الخبز. ومع ذلك، تعكس الاحتجاجات الأخيرة حالة غضب عالية من الشعب السوري ضد نظام الأسد متراكمة منذ 2011. يحكم نظام الأسد سوريا بلا أدنى شرعية حرفيا، بعدما تسببت سياسة الأرض المحروقة التي أتبعها لإخماد الثورية الشعبية، فيما يقرب من 4 ملايين قتيل، وملايين من الجرحى، والآلاف المعتقلين، وما يناهز 7 ملايين نازح. علاوة على فقدان سيطرة النظام على ثلثي سوريا. بالإضافة إلى اقتصاد منهار تماما وعملة متهاوية وبنية تحتية مدمرة. وبالتالي، ليس من المستغرب أن تتعاود الحالة الثورية في سوريا ضد نظام فاقد تماما لأي شرعية. بعبارة أخرى، من الصعب أن يتقبل الشعب السوري وجود نظام الأسد في السلطة بعد هذا الدمار الوحشي الذي سببه، ويحكم بدعم مباشر خارجي. ولعل ذلك ما أثبتته الاحتجاجات الأخيرة. فلا شك أن الاقتصاد السوري المنهار هو القشة التي قصمت ظهر البعير، وسيسرع في تآكل ما تبقى من النظام من جانب بعض المؤيدين له، وهو ما وضح من احتجاجات بعض القبائل والمناطق المؤيدة تقليديا للأسد. لكن نلاحظ من واقع الاحتجاجات أنه تم رفع علم الثورة السورية أمام الحشود الأمنية الحكومية، كما أن المحتجين حتى من الموالين، يرفعون شعار رحيل النظام، وإجراء إصلاحات سياسية واسعة، والإفراج عن المعتقلين. إذن نحن أمام بوادر ثورة أخرى أسوة بثورة 2011، مبعثها هو شعور السوريين بانسداد أية أمل في حل اقتصادي شامل من جانب النظام للوضع الاقتصادي المتردي يخفف عن السوريين معاناتهم الاقتصادية البائسة، ويمحو ولو جزئيا تراكم الغضب من النظام. وفيما يبدو أن لدى السوريين شعورا قويا بأن جميع الإجراءات التي اتخذها النظام خلال الفترة الماضية، لم تؤت ثمارها، ولن تؤتي. وعلى رأسها عودة سوريا لجامعة الدول العربية. إذ كان متوقعا أن يصاحب هذه الخطوة انتعاش في حجم التجارة السورية مع العرب، تنعكس إيجابا على الاقتصاد السوري الذي يواجه مستويات غير مسبوقة من الركود والفساد. فضلا عن ذلك، يواجه النظام حاليا بعض التحديات المؤثرة بصورة كبيرة على بقائه، ولعل أهمها صعوبة الاعتماد على الدعم الروسي والإيراني العسكري والاقتصادي كما في السابق. فالاقتصاد الإيراني يعاني بشدة، علاوة على سعي إيران لتخفيف دعمها الخارجي للموالين في تقاربها مع السعودية. وروسيا منشغلة في مستنقع أوكرانيا وإعادة ترتيب جماعة فاجنر التي تعتمد عليها في مهامها الخارجية. ويواجه النظام تحديا آخر تزامن مع الاحتجاجات وهو تفاقم الصراعات الداخلية المسلحة خاصة بين القبائل العربية وقوات قسد الكردية المدعومة من أمريكا والمسيطرة على الشمال السوري الغني بالموارد. ومن شأن تلك الصراعات توسيع نفوذ تلك القبائل والجماعات على حساب النظام، مما يفاقم من أزمة السيطرة الفعلية للأسد على سوريا وشرعيته. خلاصة القول، يحكم نظام الأسد بدون شرعية حقيقية ويواجه بتحديا اقتصاديا عسيرا للغاية، وهو ما عكسته الاحتجاجات الأخيرة. إذ رغم أن مبعثها الرئيسي هو الاقتصاد المتهرئ، إلا أنها قد عبرت عن حالة الغضب المتراكم منذ 2011. وبالتالي، تعد تلك الاحتجاجات أيضا مؤشرا قويا على أن نظام الأسد من الصعب أن يستمر في السلطة لفترة طويلة، إذ هي مؤشر قوي أيضا على أفق ثورة قوية قادمة قريبا أعنف من ثورة 2011.

843

| 19 سبتمبر 2023

تحديات البريكس العظمى

تأسست مجموعة البريكس سنة 2009 وكان إعلان تأسيسها من قبل مؤسسيها الأربع آنذاك «الصين، الهند، روسيا، البرازيل» واضحاً تماماً وهو تأسيس نظام دولي متعدد وكسر الهيمنة الأحادية الأمريكية على النظام السياسي والاقتصادي العالمي من أجل تحقيق قدر أعلى من العدالة والتوازن في العالم. وفى القمة الأخيرة للمجموعة أغسطس 2023 التي انعقدت في جنوب أفريقيا، تم الإعلان عن الحدث الأهم منذ تأسيس المجموعة وهو ضم خمسة أعضاء جدد وهى «السعودية، إثيوبيا، مصر، الأرجنتين، الإمارات، إيران». وبهذا الضم أصبحت المجموعة أكبر تجمع اقتصادي عالمي معبر عن الكتلة الجنوبية أو الشرقية في النظام الدولي. عند الحديث عن البريكس ومستقبلها، واجب الإشارة إلى أمر هام رئيسي يمثل المنطلق الرئيسي لتحديات البريكس، ويكمن في ضرورة التمييز ما بين أهداف الصين على حده من البريكس، وما بين أهداف باقي أعضائها بما في ذلك المنضمون حديثا. وبلا أية مواربة تتحد كل أعضاء البريكس على ضرورة تأسيس نظام دولي متعدد يكسر الهيمنة الغربية على العالم، بل إن كينونة الأعضاء الخمس المنضمين حديثا للمجموعة تعكس بجلاء رؤيتهم الثاقبة بشأن التغيرات الكبرى التي تحدث في العالم لاسيما التراجع الملفت للقوة الأمريكية والصعود الكبير للقوة الآسيوية. بينما تتمايز أهداف الصين من البريكس، حيث تعول الصين على المجموعة كأداة رئيسية لمجابهة الولايات المتحدة، وتعزيز موقعها كقائد للنظام العالمي الجديد. لذا، تعد الصين أكثر أعضاء المجموعة تحمساً لضم أعضاء جدد، لتشكيل جبهة موسعة مجابهة لتحالفات واشنطن الدولية، فالأعضاء الخمس الجدد للمجموعة كان بعضهم محل اعتراض من جانب الهند والبرازيل، وتم ضمهم بفضل ضغوط صينية. وتأسيسا على ذلك، يمكن التمييز بين تحديين رئيسين يواجهان مستقبل البريكس. الأول هو قدرة البريكس على التحول إلى أداة صينية لمجابهة الولايات المتحدة في ظل القيادة الصينية الفعلية للمجموعة. تتفق أعضاء المجموعة على أهمية كسر الهيمنة الأمريكية المطلقة والتوجه نحو التعددية، لكنها بلا أدنى شك غير راغبة في تحويل المجموعة إلى أداة صينية بالوكالة لمحاربة واشنطن. وقد سبق وألمح بعض قادة البريكس لذلك. لكن الأهم، أن اثنين من أهم قادة المجموعة (الهند والبرازيل) هم حلفاء وثيقون لواشنطن، هذا بخلاف بعض الأعضاء الجدد. ولكى تتحول المجموعة إلى أداة صينية تماما، وهو سيناريو مستبعد، يجب أن تتغلب على بعض التحديات، أهمها على الإطلاق إخضاع الهند للهيمنة الصينية. إذ يعد الصراع الهندي الصيني العتيد واحدا من أكبر تحديات البريكس عموما. ومن المفارقات الغريبة جدا في العلاقات الدولية أن يجتمع في تحالف قوتين متنافستين شبه متكافئتين يجمع بينهما عدد لا يحصى من التناقضات والخلافات. وهذا الصراع لا يحول فقط دون هيمنة صينية مطلقة على المجموعة، بل يهدد استمرار وتوسع المجموعة أيضا. وإلى جانب ذلك، فمن الصعب أيضا إخضاع البرازيل وعدد من أعضاء المجموعة للهيمنة الصينية التامة، أو الضغط على توجهاتهم وسياستهم باتجاه المدار الصيني أو إحداث تنافر مع واشنطن. أما التحدي الثاني وهو الأهم، فيكمن في قدرة البريكس على كسر الهيمنة الغربية لاسيما الاقتصادية في النظام الدولي. وحقيقة الأمر أن وجود البريكس سيما بعد عملية توسعه الأخيرة سيحدث قدر كبير من التوازن، ويحد نوعا ما الهيمنة الغربية. ومع ذلك، أمام البريكس الكثير من التحديات والعقبات السياسية والاقتصادية لكسر الهيمنة الغربية تماما. فلكى يتحول إلى تكتل صلب بإمكانه تحدى المؤسسات الغربية، يحتاج البريكس إلى توافق تام بين أعضائه، لاسيما فيما يتعلق بالمصالح الاقتصادية. لكن بخلاف تضارب المصالح والرؤى والتوجهات بين أعضائه، ترتبط بعض دول البريكس ارتباطا وثيقا بالغرب ومؤسساته، ويصعب عليها فك هذا الارتباط. فالاتحاد الأوروبي أكبر تجمع مؤسسي في العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كان قوام تأسيسه الرئيسي الهوية الدينية المشتركة وتوحد الرؤى والمصالح السياسية والاقتصادية بين أعضائه. علاوة على ذلك، لا تتمتع دول البريكس عدا دول قليلة على رأسها الصين، بالقوة الاقتصادية الكافية لدفع التجمع خطوات أوسع لتحدى المؤسسات الغربية. فدول البريكس لاسيما بعض المنضمة حديثاً، والعديد الراغب في الانضمام، تهرول تجاه البريكس أملا في تحسين وضعها الاقتصادي المنهار خاصة عبر الاستحواذ على أكبر قدر من القروض. حيث تهرول في الجانب المقابل الغربي في الوقت عينه لنفس الغرض. والضربة القاضية للهيمنة الغربية تتأتى أو تتلخص في القدرة على كسر هيمنة الدولار الأمريكي، إذ اكثر من 80% من التجارة والتسويات الدولية مقيمة بالدولار. فضلا عن أن استمرار هيمنة الدولار هو السند الرئيسي لاستمرار الهيمنة الأمريكية. وتتحدث دول البريكس عن عزمها تأسيس عملة موحدة، ووفقا لتقديرات أكبر المراكز الاقتصادية في العالم، يعد هذا المسعى ضربا من المستحيل. فتأسيس عملة موحدة عملية غاية التعقيد، ويجب أن يسبقها سلسلة من العمليات والإجراءات الاقتصادية الطويلة والمعقدة أيضا. فالاتحاد الأوروبي قد أسس عملته الموحدة بعض قرابة 3 عقود من تأسيس الاتحاد، ولم تنضم لها عدة اقتصادات قوية أوروبية. وحالة البريكس أشد تعقيدا من حالة الاتحاد الأوروبي، وذلك من حيث اختلالات هيكلية اقتصادية واسعة بين أعضائه، خلافات سياسية ومصلحية عميقة. ملخص القول، يعد البريكس خطوة متقدمة على صعيد منظومة التحالفات الدولية من شأنها تسهيل التعاملات التجارية بين أعضائه، وبشكل أكثر وضوحا سوق واسع يخدم الصين في المقام الأول. ومن شأنه أيضا الحد نسبيا من الهيمنة الغربية. ومع ذلك، لايزال أمامه الكثير من التحديات العسيرة لكسر الهينة الغربية التامة وترسيخ نظام دولى تعددي حقيقي.

924

| 12 سبتمبر 2023

مستقبل فاغنر بعد مقتل زعيمها

في أعقاب مقتل زعيم فاغنر «بريغوجين» في حادثة تحطم الطائرة، والذي يبدو بشكل كبير بأنه عقاب له كان متوقعا بعد إعلان تمرده على موسكو وتحدي الرئيس بوتين شخصياً. برز سيل من التحليلات المتنوعة حول مستقبل فاغنر بعد مقتل مؤسسها وزعيمها. وثمة اتجاهان رئيسيان لتلك التحليلات، الأول والذي يرى بانتهاء فاغنر نهائيا، أما الثاني فيجادل باستمرارها لكن وفق قواعد وضوابط جديدة تنظم علاقاتها بالكرملين، ونمط القيادة داخلها، ومهامها الخارجية. ويستند أنصار التحليل القاضي بانتهاء فاغنر نهائيا إلى أمرين يبدوان ذات وجاهة عالية، الأول- وهو «تحدي القيادة» بعد فقدان الحركة للقيادة القوية بعد مقتل زعيمها ومؤسسها «الأب الروحي» للحركة القادر على تنظيمها وإدارة عملها والتحكم في عملها تماما وفرض النفوذ التام على أفرادها، وحلقة الوصل الرئيسية بين الحركة والكرملين. فالحركة تعد ميليشيا عسكرية شبه مستقلة، أي تعمل باستقلالية نوعا ما عن سلطة الكرملين. ليس هذا فحسب، بل قتل مع بريغوجين في حادثة تحطم الطائرة، اثنان من أبرز قادة الحركة، منهما الرجل الثاني في الحركة. أما الثاني فيكمن في إدراك موسكو بمدى الخطورة الشديدة لوجود ميليشيات عسكرية غير نظامية تعمل خارج الإطار المؤسسي التنظيمي للدولة، بعدما أعلنت الحركة التمرد وزحفت بقوتها في مشهد لاستعراض القوة إلى قلب موسكو. وبالرغم من وجاهة هذا التحليل، سيما الشق المتعلق بخطورة تضخم قوة فاغنر على روسيا، فربما استوعبت موسكو أيضا درس السودان بعد تحويل «ميليشيا الدعم السريع» السودان إلى خراب وفوضى عارمة في غضون شهرين. ومع ذلك، فالسيناريو الأرجح بقوة هو استمرار الحركة لكن وفق قواعد جديدة تماماً. والداعم الرئيسي لرجحان هذا السيناريو هو الأهمية الكبيرة التي غدت تلعبها فاغنر لتحقيق مآرب روسيا الخارجية، وخصوصا في مسألة دعم مصالح روسيا وتمديد نفوذها في الدول الضعيفة أو الفاشلة أو المنهارة سياسيا واقتصاديا. فبواسطة فاغنر ساهمت موسكو في بقاء نظام الأسد في سوريا، ودعم حفتر في ليبيا، وتمديد النفوذ الروسي، والاستحواذ على الثروات في أفريقيا. إذن، غدت فاغنر ورقة لا يمكن لموسكو الاستغناء عنها وذلك في سياق الحروب الهجينة التي تتبناها موسكو كعقيدة. بعبارة أخرى، من الصعب أن تلغى موسكو اعتمادها على هذا النمط من أساليب الحروب الذي حقق لها نتائج مبهرة، خاصة في هذا الوقت التي تنشغل فيه بحربها القوية مع أوكرانيا التي استنفدت فيها عددا لا بأس به من قوتها وتحتاج إلى المزيد بحسب مصادر استخباراتية متعددة. ستستمر فاغنر على الأرجح، خاصة أن لديها خبرة قتالية واسعة وعدد كبير من المقاتلين يقدر بنحو 10 آلاف مقاتل، وعدم وجود بديل بل ومن الصعب توافره حاليا، لكن وفق ضوابط جديدة ستحددها موسكو، ومن المؤكد أن تتمحور حول ثلاثة ضوابط رئيسية: الأولى- ولعله الأهم، انتقاء قيادة جديدة للحركة تدين بالولاء التام الأعمى لموسكو. ولعلها مهمة صعبة لموسكو حيث تريد زعيما يمتلك مقومات القيادة بوزن بريغوجين، لكن لا يمتلك الطموح والاستعداد للتمرد على موسكو مرة ثانية لاسيما وانه يقود قوة عسكرية شبه نظامية تعمل بشكل شبه مستقل. ولعل مقتل بريغوجين كان من ضمن أهدافه تخويف القيادة الجديدة من عقوبة التمرد. الثاني- فرض مزيد من السيطرة المباشرة على الحركة من جانب الأجهزة الأمنية الروسية، بحيث تكون الحركة أشبه بحركة نظامية أو فرع نظامي من أفرع القوات الأمنية والعسكرية الروسية، وذلك لضمان ولائها التام لموسكو. إذ كان من المحفزات الرئيسية لتمرد فاغنر الأخير هو شعور قادتها ومقاتليها بالاستقلالية عن موسكو، بل وصل هذا الشعور بالتفوق على الجيش الروسي، وأنهم أصحاب الفضل في انتصارات موسكو في أوكرانيا، وهو ما حدا بهم للزحف إلى قلب موسكو بكل ثقة وجراءة. ويقتضى ذلك من موسكو، الإشراف والمراقبة الشاملة على اختيار مقاتلي الحركة، وأسلوب التجنيد، ومراقبة المهام، والعمل وفق تعليمات موسكو المباشرة في تنفيذ أية مهمة. الثالث- تقليص مهمات فاغنر في الخارج، والإشراف التام لموسكو عليها، والمقصود بالتقليص هنا هو عدم الزج بالحركة في كل مهمات موسكو الخارجية، بل قصرها على مهمات محددة ولفترة قصيرة تحت مراقبة وإشراف تام من موسكو، للحيلولة دون تضخيم قوة فاغنر بشكل واسع يصيبها بالغرور والتمرد على موسكو كما حدث في أوكرانيا. إذ تشير بعض التقارير الأمنية إلى تضخم قوة ونفوذ فاغنر السياسي والاقتصادي بشكل مرعب في بعض البلدان الأفريقية، مما قد يخرج فاغنر من قدرة السيطرة الروسية، ويربك سياساتها ومصالحها في تلك الدول.

990

| 05 سبتمبر 2023

توسع البريكس ونظام دولي متعدد الأقطاب

في قمة البريكس الأخيرة التي انعقدت في جنوب أفريقيا، تم الإعلان رسميا عن ضم ست دول جديدة للتجمع في يناير 2024، وهي (السعودية، الإمارات، إيران، مصر، إثيوبيا، الأرجنتين). وبهذا التوسع الجديد غدت البريكس تكتلا اقتصاديا- سياسيا عملاقا معبرا بحق عن تدشين النظام الدولي متعدد الأقطاب في النظام الدولي، وانتهاء حقبة الأحادية القطبية الأمريكية رسمياً. فبهذا التوسع الجديد، أصبحت البريكس تستحوذ تقريبا على أكثر من نصف الناتج العالمي، وتضم أكثر من ربع سكان الأرض، وتستحوذ على نفس النسبة من احتياطات الموارد الطبيعية. ومن ثم، فالبريكس في طريقها، لاسيما في ضوء طلبات الانضمام المتزايدة من الكثير من الدول، أن تتفوق على مجموعة السبع، وربما الاتحاد الأوروبي. وتهافت الدول على الانضمام للبريكس يشي بأمور كثيرة، من أهمها، الرغبة في تدشين نظام دولي متعدد الأقطاب والحد من الأحادية الأمريكية التي أضرت العالم. القناعة الجازمة بان مركز التوازن الاقتصادي والسياسي العالمي قد انتقل فعليا إلى الصين باعتبارها ضمنيا قائدة التجمع. كذلك، الشعور بان عبر البريكس ستتمكن من التخلص نهائيا من أزماتها المزمنة، وكذلك التقدم في حل الأزمات العالمية الخطيرة لاسيما أزمة التغير المناخي. لذا يلاحظ أن موافقة البريكس على ضم كل من إيران والسعودية يعتبر مكافأة على خطوات التصالح الرسمية بين البلدين. كذلك، فإن ضم مصر وإثيوبيا ربما يمهد لحل نهائي-عبر التجمع- لأزمة سد النهضة الخطيرة بين البلدين. يضاف إلى ذلك أن ضم الأرجنتين يدلل بجلاء على فشل النظام الاقتصادي الغربي على حل الأزمة الاقتصادية الطاحنة للأرجنتين التي تئن منها منذ عقود. توسع البريكس يؤسس رسميا إلى نظام دولي متعدد، ولا يمهد إلى أحادية قطبية جديدة بقيادة الصين كما تذهب بعض الآراء. وهذا في حد ذاته أمر صحي للغاية للعالم، فعلى مدار التاريخ كان الوضع الطبيعي دائما ثنائيا أو متعدد الأقطاب، أما الأحادية فكانت استثنائية للغاية، وتلك الاستثنائية كانت تدفع العالم إلى توترات متعددة مع قوى أخرى غير راضية عن الهيمنة الاستثنائية، وتنشئ مظالم وانحرافات لا حصر لها في العالم. بروز البريكس كتكتل مواز للتكتلات الغربية، من شأنه أن يكون له العديد من الانعكاسات الإيجابية الكثيرة-في تقديرنا- ولعل من أبرزها، تقليص حد التوترات والحروب في النظام الدولي لاسيما بين بكين وواشنطن، أو على أقل تقدير تأجيل تلك الحرب الحتمية إلى أجل غير مسمى. إذ أن التكتلات والتحالفات القوية المتعددة تنشئ حالة صلبة من الردع وتوازن القوة المساهم في إحلال السلام. ناهيك عن أن- وذلك كسمة أساسية في النظام التعددي- الدول المنضمة للبريكس هي أيضا شريك استراتيجي للغرب. ومن ثم، من الصعب أن تشكل قوة مهيمنة في تكتل تحالف لمحاربة الآخر. فمن أبرز مزايا النظام الدولي المتعدد هي منح الدول درجات اعلى من التحرك والمناورة في النظام الدولي، بل تمكينها من إبراز دورها وفرض نفوذها في بعض القضايا. ومن المزايا الرئيسية الأخرى شديدة الأهمية هي إرساء نظام دولي اقتصادي أكثر توازنا وعدلاً. فمع تنامي قوة البريكس، ستضعف بالتوازي الهيمنة الغربية بمؤسساتها على النظام الاقتصادي الدولي الذي تسبب في حدوث اختلالات فادحة في العالم، وأودى بدول إلى حافة الانهيار والفوضى العارمة وأخرى إلى إعلان الإفلاس. كذلك، ستضعف الهيمنة الساحقة للدولار الأمريكي، وما يترتب على تلك الهيمنة كنظام العقوبات الغربي-المجحف في الكثير من الأحيان-، والهيمنة على سوق النفط العالمي، ومبيعات السلاح. أي تراجع للسطوة الأمريكية المطلقة المستمدة معظمها من الدولار. وأخيراً، على الأرجح في ضوء البريكس أن يحدث انفراجة واسعة للكثير من الأزمات الدولية الشائكة، وعلى رأسها الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث إن استمرار هذه الحرب سيعيق من نمو التكتل ويضرب مصداقيته في مقتل. علاوة على أن الصين راغبة بالفعل في إنهاء هذه الحرب المنهكة لقوة روسيا، والمساهمة في حشد تكتلات مضادة بقيادة واشنطن ضد الصين.

1311

| 29 أغسطس 2023

انقلاب النيجر ومستقبل فرنسا في الساحل الأفريقي

حظي الانقلاب العسكري في النيجر بزخم إعلامي ودولي ربما غير مسبوق، رغم أن الانقلابات في أفريقيا وخاصة في منطقة الساحل وغرب أفريقيا أمر معتاد سنويا. ومرد هذا الزخم يكمن في الأساس بالانعكاسات الواسعة الجذرية لهذا الانقلاب. إذ يسطر لحقبة أو بالأحرى لخريطة جديدة من مراكز النفوذ والهيمنة في الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا. إن أول ما طرحه هذا الانقلاب من سؤال لا يزال مطروحا حتى الآن، هو هل يمثل هذا الانقلاب بداية النهاية لانحسار النفوذ الفرنسي التاريخي في منطقة الساحل، مقابل بداية لحقبة نفوذ روسي صيني؟. من واقع مجريات وأحداث الانقلاب، حدث هذا الانقلاب ضد الرئيس «محمد بازوم» حليف فرنسا الوثيق، من جانب جناح عسكري رافض للهيمنة والتمدد الفرنسي في النيجر، ونال هذا الانقلاب تأييدا شعبيا واسعا، وذلك في ظاهرة نادرة الحدوث في أفريقيا. ويأتي هذا الانقلاب بعد أشهر قليلة من انقلابات مماثلة في مالي وبوركينا فاسو من أجنحة عسكرية معادية لفرنسا، حيث اضطرت فرنسا إثر هذه الانقلابات إلى سحب قواتها العسكرية من تلك الدول. على الرغم من الثراء الشديد لدول الساحل بما في ذلك النيجر بالموارد الطبيعية حيث تمتلك احتياطيات هائلة من المعادن النادرة كاليورانيوم والذهب؛ ومع ذلك تئن شعوب هذه الدول من الفقر المدقع. وتجزم شعوب هذه الدول أن المستفيد الوحيد من هذه الثروات فرنسا والنخب الحاكمة المتحالفة معها أو المدعومة منها. لذا، تراكمت عبر عقود درجات عالية من الغضب والسخط ضد فرنسا من جانب هذه الشعوب، إذ أصعب شيء قد يواجه المرء هو شعوره بالاستغلال دون مقابل يذكر، ففرنسا والغرب عامة يستغل تلك الدول اقتصاديا وأمنيا لمحاربة الإرهاب المهدد لمصالحه دون مقابل، بل ويتركها فريسة لنخب شديدة القمع والفساد. ومما سبق يمكن القول، إن انقلاب النيجر الذي سبقه عدة انقلابات مماثلة يمثل بلا أدنى مجال للشك، بداية لانحسار النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل، وذلك بسبب اتحاد إرادة هذه الشعوب مع إرادة نخب عسكرية قوية متذمرة على إنهاء النفوذ الفرنسي. ونحن هنا لا نغفل أن تلك النخب قد يكون لها تطلعات بتوثيق التحالف مع قوى أخرى كروسيا أو الصين، وكذلك نوايا للبقاء الأبدي في السلطة ووأد أية محاولات لانتقال مدنى ديمقراطي حقيقي، كحال الانقلابات العسكرية على مدار التاريخ وخاصة في أفريقيا. لكن الشاهد في الأمر أن القطيعة التامة لهذه النخب مع فرنسا قد باتت أمرا لا يمكن النكوص عنه. ولعل ما حدث بعد الانقلاب من تطورات عدة تعد بمثابة شواهد قوية على انحسار النفوذ الفرنسي في الساحل وغرب أفريقيا عموما، ومن أهمها عدم نجاح فرنسا ومن ورائها واشنطن في محاولة تدخل عسكري ضد القوات الانقلابية عبر منظمة «الإيكواس» أو مجموعة غرب أفريقيا، التي أعلنت استعدادها للتدخل فور الانقلاب. وللعلم، لدى كل دولة من دول الإيكواس دوافع وحسابات مختلفة من التدخل العسكري. فإذا كانت ذريعة الإيكواس هي الحفاظ على المسار الديمقراطي وعودة الشرعية؛ فواقع الأمر أن دول الإيكواس مثل السنغال وسيراليون وساحل العاج المحكومة من نخب تابعة لفرنسا، تخشى بشدة من انقلابات مماثلة خاصة وأن لديها نخبا عسكرية وسياسية معادية لفرنسا. كما أن نيجيريا لها حسابات مختلفة تماما تتداخل فيها اعتبارات داخلية وزعامة إقليمية، والأعجب من ذلك أن ممثل نيجيريا في الإيكواس من الرافضين للتدخل. والصاعقة الأكبر للغرب، كانت الرفض التام لكل من مالي وبوركينا فاسو وغينيا التدخل، بل إعلانهم المحاربة بجانب القوات الانقلابية ضد الإيكواس. خلاصة الأمر، أن تدخل الإيكواس في النيجر قد غدا أمرا مستبعدا وهذا يتضح من كم الانقسامات والتوترات (عدم حسم الأمر) في قمم الإيكواس التي انعقدت عقب الانقلاب. ويشير ذلك بجلاء إلى مدى تدهور النفوذ الفرنسي والغربي عموما في تلك المنطقة الحيوية، إذ قبل عقد من الزمان كانت الإيكواس تتحرك بمجرد مكالمة هاتفية من وزير الخارجية الفرنسي، كما أن جميع تدخلات الإيكواس السابقة كالتدخل في زامبيا وليبيريا وغينيا بيساو كانت بضوء أخضر فرنسي. ويتبقى نقطة أخيرة تعد شاهدا قويا على تراجع النفوذ الفرنسي عامة وليس في الساحل فقط، وهي المعارضة الدولية لأي تدخل عسكري في النيجر، حيث عارضت روسيا التدخل، كذلك إيطاليا، وبعض الدول الصديقة لفرنسا مثل الجزائر. خلاصة القول، إن النفوذ الفرنسي في الساحل على المحك، فبحسب نظرية الدومينو، تنتقل الظاهرة إذا حدثت في مكان ما بسرعة البرق كالعدوى إلى أقرب جوار جغرافي لديه جميع المقومات لانتقال الظاهرة. وبالتالي، فعلى الأرجح أن انقلاب النيجر هو مقدمة لسلسلة انقلابات في دول غرب أفريقيا والساحل تعاني من حنق شديد شعبيا ونخبويا من النفوذ الفرنسي، لتصفية ما تبقى من نفوذ فرنسي وإحلال قوى جديدة غيرها وغالبا ستكون الصين عبر النفوذ الاقتصادي الهادئ.

2829

| 22 أغسطس 2023

السودان ومقومات الوساطة الناجحة

مضى قرابة أربعة أشهر على اندلاع أزمة الصراع المسلح الطاحنة في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، دون ظهور أية بوادر على إنهاء الصراع المدمر لوحدة السودان وجواره الإقليمي العربي والإفريقي، بل حتى لم تفلح أية جهود في ترسيخ هدنة مؤقتة لهذا الصراع. فأزمة الصراع السوداني، بخلاف كونها أزمة ثقة عميقة وتحدي إرادة بين قوتين مسلحتين شبه متكافئين؛ تتداخل فيها اعتبارات عرقية، وبنيوية، ومصلحية، واقتصادية، وخارجية شديدة التعقيد. وجميع تلك الاعتبارات، لاسيما تشابك وتداخل جهات خارجية عدة لديها مصالح متنوعة متعارضة في الأزمة، يفسر لنا إلى حد بعيد فشل جميع الجهود المحمودة حتى الآن في إنهائها، بل وصعوبة إنهائها في المنظور القريب. باختصار تعد الأزمة السودانية واحدة من الأزمات الشديدة التعقيد العصية على الحل. تتطلب كل أزمة وسيطا من طراز معين، ويمتلك سمات ومقومات معينة، وربما الأهم خبرة تراكمية واسعة قد اكتسبها عبر تدخله كوسيط في هذه الأزمات. ومن واقع مجريات الأزمة السودانية، وحالة السودان المعقدة عموما، فثمة خمسة مقومات رئيسية يجب توافرها في أي وسيط أو وساطة جادة لإنهاء تلك الأزمة. الأولى، خبرة تراكمية كبيرة كوسيط اضطلع في أزمات مشابهة، ونجح في إنهائها. الثانية، قدرة كبيرة على التواصل والتفاهم مع جميع الفرقاء بما في ذلك الجماعات غير النظامية. الثالثة، التمتع بشبكة علاقات دولية وإقليمية واسعة والقدرة الكبيرة على التأثير في تلك العلاقات وتشكيل قناعتها. الرابعة، امتلاكه للقدرات والموارد الكبيرة والمهارة في توظيف تلك القدرات للتأثير بفعالية على مجريات المباحثات واطراف الصراع. وأخيراً، وتعد مسألة مفصلية في الأزمة السودانية، التمتع بالحياد التام والنزاهة، مما يكسبه ثقة كبيرة لدى أطراف الصراع كأساس لإنهاء الأزمة. اكتسبت دولة قطر سمعة دولية وإقليمية واسعة كونها واحدة من أبرز وأنشط الوسطاء الدوليين، حيث اضطلعت الدوحة بالوساطة في أكثر من 10 صراعات دولية معقدة، وحققت نجاحات في إنهاء هذه الصراعات لفتت إليها أنظار العالم. وكان آخر تلك النجاحات، تمكن الدوحة من إنهاء الصراع الطويل بين طالبان والولايات المتحدة في أفغانستان، والذي قد توج بتوقيع اتفاق الدوحة بين الجانبين في 2020. اضطلاع قطر في هذه الوساطات المتعددة وإنهاؤها، قد جاء بعد جهود وساطات غير موفقة استمرت لأعوام لإنهاء تلك الصراعات. جعلت قطر الوساطة من أهم مرتكزات السياسة الخارجية القطرية، وقوتها الناعمة، ولعل ذلك ما يفسر النجاح المبهر لدور قطر. لكن علاوة على ذلك، يتأتى هذا النجاح المبهر بصورة أكبر من امتلاك قطر لجميع مقومات الوسيط القادر على التوسط وإنهاء الأزمات والصراعات الأشد تعقيداً-السابق ذكرها- والنابعة بالأساس من مرتكزات ومقومات السياسة الخارجية القطرية بصفة عامة. والتي تتلخص في الانفتاح على الجميع وتنويع الشراكات، التركيز على القوة الناعمة، العمل على دعم الاستقرار الإقليمي والدولي، المساهمة الفعالة في البرامج الأممية الخاصة بالتنمية والتصدي للتحديات، الحياد وعدم التدخل في شئون الدول، محاربة ونبذ التعصب والإرهاب، والوقوف على مسافة واحدة بين أطراف الصراعات، ودعم العمل والتعاون العربى والخليجي المشترك، والدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية في المحافل الدولية. ومما تقدم، يمكن القول وبدون أية محاباة أو مواربة، إن الأزمة السودانية المتصاعدة اشتعالا وتعقيدا، في أمس الحاجة إلى وساطة من طراز وخبرة «الوساطة القطرية». فأزمة الثقة العميقة بين أطراف السودان تحتاج وسيطا محايدا نزيها موثوقا، ليس لديه مآرب أو مطامع من قريب أو بعيد في السودان. وقادر في الوقت عينه على تقريب وجهات النظر بين الطرفين واقتراح حلول توافقية في مهمة تبدو مستحيلة. كما تستلزم الأزمة وسيطا يمتلك من الصبر والخبرة والحنكة الشديدة للتعاطي بفعالية من جميع فرقائها، وقطر ليست بجديدة عن واقع السودان فالوساطة القطرية لإنهاء أزمة دارفور الشائكة للغاية عام 2008 خير شاهد على ذلك، وليست بجديدة أيضا في التعامل باحترافية شديدة مع الجماعات غير النظامية. حيث نجحت قطر عبر وساطاتها في إقناع جماعات ومنظمات شبه نظامية شديدة الانغلاق والتعسف كحركة طالبان بالانخراط في مباحثات نزاع مستمرة والقبول بحلول وسط لحل تلك النزاعات وإدامة السلام.

2400

| 08 أغسطس 2023

الحرب الأوكرانية وقضية التغير المناخي

توصف مشكلة التغير المناخي وبخاصة قضية الاحترار العالمي أو الاحتباس الحراري كتهديد وجودي للبشرية، وثاني أخطر تهديد وجودي عالمي بعد السلاح النووي. ففي مؤتمر صحفي عقد الأسبوع الماضي، نبه الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش» من انتقال العالم من حقبة الاحترار العالمي إلى حقبة «الغليان العالمي» بتجاوز متوسط درجة الحرارة 1.5 درجة. ففي يوليو الحالي سجلت الأرض أعلى درجات حرارة في التاريخ. وظهرت معالم الغليان العالمي في كم الكوارث الخطيرة التي ألحقت في مناطق عديدة على الكوكب في صيف 2023، ففي اليونان على سبيل المثال، اندلعت حرائق غابات غير مسبوقة. وفي آسياشهدت درجات الحرارة ارتفاعات غير مسبوقة مخلفة حرائق في منشآت صناعية وفيضانات عارمة. كم أعلنت بعض الدول الأوروبية حالة الطوارئ بعدما تجاوزت درجة الحرارة 45 درجة، مخلفة ذوبان أجزاء من جليد جبال الألب. وتقريبا لم تلفت دولة في العالم من التأثيرات الخطيرة الناجمة عن الغليان العالمي. قبيل الحرب الروسية-الأوكرانية لم تكن جهود ومساعي المجتمع الدولي للتصدي لقضية الاحترار العالمي تسير على أفضل حال، إذ كانت بطيئة للغاية، وغير فعالة في أغلبها. فكثير من الدول خاصة الغربية قد قطعت أشواطاً جيدة في مسألة الطاقة البديلة، وتبنت دول أخرى جهودا لزرع مساحات واسعة خضراء، وعملت بعض الدول الكبرى خاصة الصين والولايات المتحدة والهند على تقليص درجات محدودة من الانبعاثات الكربونية الناجمة عن النشاط الصناعي. اندلعت الحرب الأوكرانية في فبراير2022، مخلفة واقعا عالميا جديدا أكثر إرباكاً، حيث تبدلت الأولويات لدى الدول، وتغيرت الحسابات السياسية والاقتصادية والجيوسياسية العالمية بصورة شبه تامة. وكان من أخطر الإفرازات الخطيرة لهذا الواقع الجديد وهو التدهور الحاد لما تبقى من جهود محدودة للتصدي للاحترار العالمي. ولعل أخطر ما خلفته الحرب الأوكرانية، هو تدشين واقع جيوسياسى عالمي شديد التصارع على الطاقة لاسيما الطاقة التقليدية «النفط». برهنت الحرب الأوكرانية أن النفط لا يزال المرتكز الرئيسي للطاقة العالمية، بل هو المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي. فغياب حصص النفط الروسية قد أسهمت في ارتفاعات عالمية في مستويات التضخم وأيضا في نشوء أزمة غذاء عالمية. وعليه، بدأت الدول في التركيز على تأمين احتياجاتها من النفط والبحث عن التنقيب عن المزيد، بل بدأت بعض الدول الأوروبية في إعادة استخدام الفحم الملوث الأول للبيئة، وهو ما يمثل ضربة قاصمة للجهود السابقة للحد من التلوث وتطوير جهود الطاقة البديلة. وعلى هذا الأساس أيضا، من الصعب تصور أفق للتعاون بين الدول في مسألة الحد من الاحتباس الحرارى في ضوء الأفق المتوقع للتنافس الشديد بين الدول على النفط. حيث بات النفط مرادفا للاستقلال السياسي وتأمين الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. من الصعب للغاية دفع المجتمع الدولي للتصدي للاحترار العالمي دون دفة قيادة أمريكية-صينية مشتركة لجهود المجتمع الدولي. بل إن قضية التغير المناخي على وجه الخصوص كانت من القضايا الرئيسية التي كان يعول عليها الأمريكيون والصينيون لإحداث توازن في علاقات التنافس بينهما، وعدم انجرار العلاقات بينهما إلى حرب عالمية ثالثة، نظراً لحتمية التعاون بينهما لحماية الكوكب. وحقيقية الأمر أن الحرب الأوكرانية قد أدت إلى تشديد حدة المنافسة بين واشنطن وبكين، إذ يلاحظ التعنت الأمريكي في بعض القضايا الخلافية خاصة قضية تايوان بعد الحرب، خوفاً من تكرار سيناريو أوكرانيا هناك. والحرب الأوكرانية على وجه العموم قد شددت من حدة التنافر والصراع بين المعسكرين الغربي بقيادة واشنطن والشرقي بقيادة بكين، لأن الفوز في أوكرانيا سيكون بمثابة لحظة فارقة في تشكيل نظام دولي جديد بقيادة بكين أو استدامة الحالي بقيادة واشنطن. وفي خضم هذا الصراع، سيكون الصراع الطاقة والموارد الطبيعية عموما أمرا حاسما لكلا الطرفين. إذ نلحظ على سبيل المثال، تراجع الصين نسبيا عن خطط تخفيض الانبعاثات الكربونية واللجوء إلى الفحم في بعض الصناعات. وعلى الجانب الآخر، قيام الولايات المتحدة بزيادة معدلات إنتاج النفط الصخري لتأمين احتياجاتها من النفط، والاستفادة من الأسعار المرتفعة. ولا يفوتنا في صدد ذلك التذكير أن كل قوة تسعى إلى المحافظة على قوة اقتصادها الدعامة الرئيسية في ميزان القوة مع الطرف الآخر، وبالتالي ستمضي في استخدام الطاقة التقليدية دون أي اكتراث لمسألة الاحترار العالمي وتبعاته الخطيرة. ملخص القول، شكلت الحرب الأوكرانية ضربة قاصمة لجهود المجتمع العالمي لمكافحة ظاهرة الاحترار العالمي. فناهيك عن حجم التلوث الخطير الناجم من الحرب التي ربما ستستمر لبضع سنوات، خلفت الحرب واقع جيوسياسي شديد التنافس على الطاقة التقليدية خاصة النفط، كما خلفت واقعا جيوسياسيا شديد التنافس في العالم يصعب معه تصور أية جهود دولية رامية للتصدي للاحتباس الحراري والتي كانت هزيلة بحيث أوصلت العالم في صيف 2023 إلى الغليان العالمي.

1461

| 01 أغسطس 2023

مناورات بحر اليابان ودق طبول الحرب

يجري الجيشان الروسي والصيني حاليا مناورات بحرية عسكرية ضخمة مشتركة لأول مرة في بحر اليابان قد تستمر لبضعة أيام. وفي واقع الأمر إن قراءة تلك المناورات لاسيما وانها تجرى بين البلدين في موقع جديد لأول مرة وهو بحر اليابان، ينبغي أن يكون من منظور وسياقات أوسع وأعمق. فتلك المناورات ليست تأكيدا على التحالف الروسي- الصيني كما يذهب البعض، وليست أيضا رداً على المناورات الثلاثية الأخيرة بين واشنطن وطوكيو وكوريا الجنوبية، والتي جاءت ردا على تجارب كوريا الشمالية الصاروخية. بل هي بكل وضوح تأكيد على حشد واستعداد كل معسكر للمعركة الكبرى الحاسمة التي ستجرى رحاها في المحيط الهادئ والباسيفيك. لم تنشئ الحرب الروسية- الأوكرانية نظاماً دولياً جديداً، حيث إن تأسيس نظام دولي جديد له شروط ومظاهر محددة أكثر راديكالية ووضوحا- بل أسهمت في تشديد حدة الصراع بين المعسكرين الرئيسيين في النظام الدولي: المعسكر الغربي بقيادة واشنطن ويضم حلفاءها الأوروبيين واليابان وكوريا الجنوبية والهند وأستراليا. والمعسكر الشرقي بقيادة الصين ويضم روسيا وكوريا الشمالية وإيران وبيلاروسيا. ومدعاة تشديد حدة الصراع تكمن بشكل أساسي من تفاقم مخاوف المعسكر الغربي من هيمنة المعسكر الشرقي على النظام الدولي بعدما اجتاحت روسيا أوكرانيا وهددت ولا تزال باستخدام السلاح النووي ضد الناتو وأوروبا، وهذا سيناريو كان قد استبعده الغرب بصورة كبيرة. لذا، فبخلاف ازدياد التعاون والتضامن بين المعسكر الغربي بعد الحرب الأوكرانية والذي تجسد عمليا في الدعم العسكري الواسع لأوكرانيا؛ قامت اليابان بإصدار وثيقة استراتيجية جديدة تعلن فيها التخلي عن سياسة عدم التسليح ورصد مبالغ هائلة لإعادة تسليح نفسها، وعلى غرار اليابان كانت ألمانيا برصدها ما يناهز الـ 50 مليار يورو في إطار إعادة التسليح. كما أصدر الاتحاد الأوروبي البوصلة الاستراتيجية الرامية لتعزيز التعاون العسكري الأوروبي وتحقيق الاستقلالية الأمنية على المدى البعيد. وعلى جهة أخرى، قام حلف الناتو بعمل عدة مراجعات رامية لزيادة الإنفاق وإعادة التموضع في أوروبا، واستكمال عمليات التوسع الشرقي. ففي قمته الأخيرة قد اعلن رسميا عن ضم السويد، والتي سبقتها فلندا بالانضمام، كما أعلن عن بحث ضم أوكرانيا وجورجيا في المستقبل. ويجدر الذكر أن السويد وفنلندا كانتا من الدول المحايدة منذ الحرب العالمية الثانية الرافضة تماما للانضمام إلى أية تحالفات عسكرية. وتسعى كل من روسيا والصين من مناورات اليابان، إلى إرسال العديد من الرسائل خاصة للولايات المتحدة. وأهمها، أننا مستعدون للمعركة في طول وعرض المحيط الهادئ وليس حول بحر الصين الجنوبي والباسيفيك فقط. هذا علاوة على الأهمية البحرية والاستراتيجية لبحر اليابان، كما أن سياسة حشد التحالفات التي برع فيها بايدن لن تخيفنا ولن تردعنا. وربما تلك الرسالة تعنى أكثر الصين عن روسيا. فروسيا على وجه الخصوص ترمى إلى إرسال رسالة للغرب مفادها أننا ما زالنا قادرين على المواجهة وإدارة الصراعات على حدودنا الشرقية، ولن يكسرنا تقدمنا البطيء في أوكرانيا، ولا الانشقاقات الداخلية كتمرد فاجنر. وربما ترمى روسيا من تلك المناورات إلى الضغط على الغرب وتأكيد استمرارية التحالف مع الشريك الصيني القوى، لإيقاف دعمه العسكري لأوكرانيا الذي تطور إلى تزويد أوكرانيا بطائرات ومضادات صواريخ حديثة. ولا نستبعد أيضا رسائل روسية لليابان مفادها استمرار تمسكنا بالسيادة على الأرخبيل البحري المتنازع عليه مع اليابان، وذلك في ضوء إعادة التسليح الضخمة التي تجريها طوكيو حاليا، لاسيما وان المناورات تجرى بالقرب من اليابان ذاتها. ومن المهم التأكيد على أن إعادة تسليح اليابان بالأساس موجه ضد القوة الصينية وعنادها تجاه الجزر المتنازع عليها مع اليابان في بحر الصين الشرقي. ونافلة القول، في تقديرنا أن مناورات بحر اليابان تمثل شريط البداية لطبول الحرب العالمية الثالثة، حيث ستعقبها سلسلة من المناورات المضادة، والتحالفات الجديدة ستفضى حتما إلى الصدام الأكبر المرتقب بين المعسكرين. فالمعسكر الشرقي على وجه الخصوص يشعر بالقوة الكافية لتحدى الغرب بقيادة واشنطن والسير بخطوات ثابتة نحو القيادة الدولية المستحقة كما يظن. ولعل أكبر دليل على ذلك هو تحدى بكين واشنطن بشكل غير مسبوق في تايوان وبحر الصين الجنوبي. ويعلمنا التاريخ أن الحروب العالمية الكبرى غالبا ما تسبقها مشاحنات رهيبة وتحالفات وحشد معارك وطرف قائد يسعى إلى إدامة قيادة، وطرف صاعد يتحدى بقوة القائد لا يتزعزع عن حلم تبوؤ القيادة الدولية المستحقة نظير امتلاكه كل مقومات القوة القائدة.

1248

| 25 يوليو 2023

alsharq
«أنا الذي حضر العربي إلى ملعبي»

-«المتنبي» حاضراً في افتتاح «كأس العرب» - «أبو...

2466

| 07 ديسمبر 2025

alsharq
خيبة تتجاوز الحدود

لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب...

2280

| 10 ديسمبر 2025

alsharq
القيادة الشابة VS أصحاب الخبرة والكفاءة

عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا...

1200

| 09 ديسمبر 2025

alsharq
هل نجحت قطر؟

في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل...

780

| 10 ديسمبر 2025

alsharq
النضج المهني

هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل...

675

| 11 ديسمبر 2025

alsharq
أنصاف مثقفين!

حسناً.. الجاهل لا يخدع، ولا يلبس أثواب الحكمة،...

660

| 08 ديسمبر 2025

alsharq
الإسلام منهج إصلاح لا استبدال

يُتهم الإسلام زورًا وبهتانًا بأنه جاء ليهدم الدنيا...

591

| 07 ديسمبر 2025

alsharq
اليوم الوطني.. مسيرة بناء ونهضة

أيام قليلة تفصلنا عن واحدٍ من أجمل أيام...

588

| 08 ديسمبر 2025

alsharq
العرب يضيئون سماء الدوحة

شهدت قطر مع بداية شهر ديسمبر الحالي 2025...

570

| 07 ديسمبر 2025

alsharq
النهايات السوداء!

تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى...

567

| 12 ديسمبر 2025

alsharq
تحديات تشغل المجتمع القطري.. إلى متى؟

نحن كمجتمع قطري متفقون اليوم على أن هناك...

531

| 11 ديسمبر 2025

alsharq
معنى أن تكون مواطنا..

• في حياة كل إنسان مساحة خاصة في...

525

| 11 ديسمبر 2025

أخبار محلية