رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في قمة البريكس الأخيرة التي انعقدت في جنوب أفريقيا، تم الإعلان رسميا عن ضم ست دول جديدة للتجمع في يناير 2024، وهي (السعودية، الإمارات، إيران، مصر، إثيوبيا، الأرجنتين). وبهذا التوسع الجديد غدت البريكس تكتلا اقتصاديا- سياسيا عملاقا معبرا بحق عن تدشين النظام الدولي متعدد الأقطاب في النظام الدولي، وانتهاء حقبة الأحادية القطبية الأمريكية رسمياً. فبهذا التوسع الجديد، أصبحت البريكس تستحوذ تقريبا على أكثر من نصف الناتج العالمي، وتضم أكثر من ربع سكان الأرض، وتستحوذ على نفس النسبة من احتياطات الموارد الطبيعية. ومن ثم، فالبريكس في طريقها، لاسيما في ضوء طلبات الانضمام المتزايدة من الكثير من الدول، أن تتفوق على مجموعة السبع، وربما الاتحاد الأوروبي. وتهافت الدول على الانضمام للبريكس يشي بأمور كثيرة، من أهمها، الرغبة في تدشين نظام دولي متعدد الأقطاب والحد من الأحادية الأمريكية التي أضرت العالم. القناعة الجازمة بان مركز التوازن الاقتصادي والسياسي العالمي قد انتقل فعليا إلى الصين باعتبارها ضمنيا قائدة التجمع. كذلك، الشعور بان عبر البريكس ستتمكن من التخلص نهائيا من أزماتها المزمنة، وكذلك التقدم في حل الأزمات العالمية الخطيرة لاسيما أزمة التغير المناخي. لذا يلاحظ أن موافقة البريكس على ضم كل من إيران والسعودية يعتبر مكافأة على خطوات التصالح الرسمية بين البلدين. كذلك، فإن ضم مصر وإثيوبيا ربما يمهد لحل نهائي-عبر التجمع- لأزمة سد النهضة الخطيرة بين البلدين. يضاف إلى ذلك أن ضم الأرجنتين يدلل بجلاء على فشل النظام الاقتصادي الغربي على حل الأزمة الاقتصادية الطاحنة للأرجنتين التي تئن منها منذ عقود. توسع البريكس يؤسس رسميا إلى نظام دولي متعدد، ولا يمهد إلى أحادية قطبية جديدة بقيادة الصين كما تذهب بعض الآراء. وهذا في حد ذاته أمر صحي للغاية للعالم، فعلى مدار التاريخ كان الوضع الطبيعي دائما ثنائيا أو متعدد الأقطاب، أما الأحادية فكانت استثنائية للغاية، وتلك الاستثنائية كانت تدفع العالم إلى توترات متعددة مع قوى أخرى غير راضية عن الهيمنة الاستثنائية، وتنشئ مظالم وانحرافات لا حصر لها في العالم. بروز البريكس كتكتل مواز للتكتلات الغربية، من شأنه أن يكون له العديد من الانعكاسات الإيجابية الكثيرة-في تقديرنا- ولعل من أبرزها، تقليص حد التوترات والحروب في النظام الدولي لاسيما بين بكين وواشنطن، أو على أقل تقدير تأجيل تلك الحرب الحتمية إلى أجل غير مسمى. إذ أن التكتلات والتحالفات القوية المتعددة تنشئ حالة صلبة من الردع وتوازن القوة المساهم في إحلال السلام. ناهيك عن أن- وذلك كسمة أساسية في النظام التعددي- الدول المنضمة للبريكس هي أيضا شريك استراتيجي للغرب. ومن ثم، من الصعب أن تشكل قوة مهيمنة في تكتل تحالف لمحاربة الآخر. فمن أبرز مزايا النظام الدولي المتعدد هي منح الدول درجات اعلى من التحرك والمناورة في النظام الدولي، بل تمكينها من إبراز دورها وفرض نفوذها في بعض القضايا. ومن المزايا الرئيسية الأخرى شديدة الأهمية هي إرساء نظام دولي اقتصادي أكثر توازنا وعدلاً. فمع تنامي قوة البريكس، ستضعف بالتوازي الهيمنة الغربية بمؤسساتها على النظام الاقتصادي الدولي الذي تسبب في حدوث اختلالات فادحة في العالم، وأودى بدول إلى حافة الانهيار والفوضى العارمة وأخرى إلى إعلان الإفلاس. كذلك، ستضعف الهيمنة الساحقة للدولار الأمريكي، وما يترتب على تلك الهيمنة كنظام العقوبات الغربي-المجحف في الكثير من الأحيان-، والهيمنة على سوق النفط العالمي، ومبيعات السلاح. أي تراجع للسطوة الأمريكية المطلقة المستمدة معظمها من الدولار. وأخيراً، على الأرجح في ضوء البريكس أن يحدث انفراجة واسعة للكثير من الأزمات الدولية الشائكة، وعلى رأسها الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث إن استمرار هذه الحرب سيعيق من نمو التكتل ويضرب مصداقيته في مقتل. علاوة على أن الصين راغبة بالفعل في إنهاء هذه الحرب المنهكة لقوة روسيا، والمساهمة في حشد تكتلات مضادة بقيادة واشنطن ضد الصين.
1299
| 29 أغسطس 2023
حظي الانقلاب العسكري في النيجر بزخم إعلامي ودولي ربما غير مسبوق، رغم أن الانقلابات في أفريقيا وخاصة في منطقة الساحل وغرب أفريقيا أمر معتاد سنويا. ومرد هذا الزخم يكمن في الأساس بالانعكاسات الواسعة الجذرية لهذا الانقلاب. إذ يسطر لحقبة أو بالأحرى لخريطة جديدة من مراكز النفوذ والهيمنة في الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا. إن أول ما طرحه هذا الانقلاب من سؤال لا يزال مطروحا حتى الآن، هو هل يمثل هذا الانقلاب بداية النهاية لانحسار النفوذ الفرنسي التاريخي في منطقة الساحل، مقابل بداية لحقبة نفوذ روسي صيني؟. من واقع مجريات وأحداث الانقلاب، حدث هذا الانقلاب ضد الرئيس «محمد بازوم» حليف فرنسا الوثيق، من جانب جناح عسكري رافض للهيمنة والتمدد الفرنسي في النيجر، ونال هذا الانقلاب تأييدا شعبيا واسعا، وذلك في ظاهرة نادرة الحدوث في أفريقيا. ويأتي هذا الانقلاب بعد أشهر قليلة من انقلابات مماثلة في مالي وبوركينا فاسو من أجنحة عسكرية معادية لفرنسا، حيث اضطرت فرنسا إثر هذه الانقلابات إلى سحب قواتها العسكرية من تلك الدول. على الرغم من الثراء الشديد لدول الساحل بما في ذلك النيجر بالموارد الطبيعية حيث تمتلك احتياطيات هائلة من المعادن النادرة كاليورانيوم والذهب؛ ومع ذلك تئن شعوب هذه الدول من الفقر المدقع. وتجزم شعوب هذه الدول أن المستفيد الوحيد من هذه الثروات فرنسا والنخب الحاكمة المتحالفة معها أو المدعومة منها. لذا، تراكمت عبر عقود درجات عالية من الغضب والسخط ضد فرنسا من جانب هذه الشعوب، إذ أصعب شيء قد يواجه المرء هو شعوره بالاستغلال دون مقابل يذكر، ففرنسا والغرب عامة يستغل تلك الدول اقتصاديا وأمنيا لمحاربة الإرهاب المهدد لمصالحه دون مقابل، بل ويتركها فريسة لنخب شديدة القمع والفساد. ومما سبق يمكن القول، إن انقلاب النيجر الذي سبقه عدة انقلابات مماثلة يمثل بلا أدنى مجال للشك، بداية لانحسار النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل، وذلك بسبب اتحاد إرادة هذه الشعوب مع إرادة نخب عسكرية قوية متذمرة على إنهاء النفوذ الفرنسي. ونحن هنا لا نغفل أن تلك النخب قد يكون لها تطلعات بتوثيق التحالف مع قوى أخرى كروسيا أو الصين، وكذلك نوايا للبقاء الأبدي في السلطة ووأد أية محاولات لانتقال مدنى ديمقراطي حقيقي، كحال الانقلابات العسكرية على مدار التاريخ وخاصة في أفريقيا. لكن الشاهد في الأمر أن القطيعة التامة لهذه النخب مع فرنسا قد باتت أمرا لا يمكن النكوص عنه. ولعل ما حدث بعد الانقلاب من تطورات عدة تعد بمثابة شواهد قوية على انحسار النفوذ الفرنسي في الساحل وغرب أفريقيا عموما، ومن أهمها عدم نجاح فرنسا ومن ورائها واشنطن في محاولة تدخل عسكري ضد القوات الانقلابية عبر منظمة «الإيكواس» أو مجموعة غرب أفريقيا، التي أعلنت استعدادها للتدخل فور الانقلاب. وللعلم، لدى كل دولة من دول الإيكواس دوافع وحسابات مختلفة من التدخل العسكري. فإذا كانت ذريعة الإيكواس هي الحفاظ على المسار الديمقراطي وعودة الشرعية؛ فواقع الأمر أن دول الإيكواس مثل السنغال وسيراليون وساحل العاج المحكومة من نخب تابعة لفرنسا، تخشى بشدة من انقلابات مماثلة خاصة وأن لديها نخبا عسكرية وسياسية معادية لفرنسا. كما أن نيجيريا لها حسابات مختلفة تماما تتداخل فيها اعتبارات داخلية وزعامة إقليمية، والأعجب من ذلك أن ممثل نيجيريا في الإيكواس من الرافضين للتدخل. والصاعقة الأكبر للغرب، كانت الرفض التام لكل من مالي وبوركينا فاسو وغينيا التدخل، بل إعلانهم المحاربة بجانب القوات الانقلابية ضد الإيكواس. خلاصة الأمر، أن تدخل الإيكواس في النيجر قد غدا أمرا مستبعدا وهذا يتضح من كم الانقسامات والتوترات (عدم حسم الأمر) في قمم الإيكواس التي انعقدت عقب الانقلاب. ويشير ذلك بجلاء إلى مدى تدهور النفوذ الفرنسي والغربي عموما في تلك المنطقة الحيوية، إذ قبل عقد من الزمان كانت الإيكواس تتحرك بمجرد مكالمة هاتفية من وزير الخارجية الفرنسي، كما أن جميع تدخلات الإيكواس السابقة كالتدخل في زامبيا وليبيريا وغينيا بيساو كانت بضوء أخضر فرنسي. ويتبقى نقطة أخيرة تعد شاهدا قويا على تراجع النفوذ الفرنسي عامة وليس في الساحل فقط، وهي المعارضة الدولية لأي تدخل عسكري في النيجر، حيث عارضت روسيا التدخل، كذلك إيطاليا، وبعض الدول الصديقة لفرنسا مثل الجزائر. خلاصة القول، إن النفوذ الفرنسي في الساحل على المحك، فبحسب نظرية الدومينو، تنتقل الظاهرة إذا حدثت في مكان ما بسرعة البرق كالعدوى إلى أقرب جوار جغرافي لديه جميع المقومات لانتقال الظاهرة. وبالتالي، فعلى الأرجح أن انقلاب النيجر هو مقدمة لسلسلة انقلابات في دول غرب أفريقيا والساحل تعاني من حنق شديد شعبيا ونخبويا من النفوذ الفرنسي، لتصفية ما تبقى من نفوذ فرنسي وإحلال قوى جديدة غيرها وغالبا ستكون الصين عبر النفوذ الاقتصادي الهادئ.
2811
| 22 أغسطس 2023
مضى قرابة أربعة أشهر على اندلاع أزمة الصراع المسلح الطاحنة في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، دون ظهور أية بوادر على إنهاء الصراع المدمر لوحدة السودان وجواره الإقليمي العربي والإفريقي، بل حتى لم تفلح أية جهود في ترسيخ هدنة مؤقتة لهذا الصراع. فأزمة الصراع السوداني، بخلاف كونها أزمة ثقة عميقة وتحدي إرادة بين قوتين مسلحتين شبه متكافئين؛ تتداخل فيها اعتبارات عرقية، وبنيوية، ومصلحية، واقتصادية، وخارجية شديدة التعقيد. وجميع تلك الاعتبارات، لاسيما تشابك وتداخل جهات خارجية عدة لديها مصالح متنوعة متعارضة في الأزمة، يفسر لنا إلى حد بعيد فشل جميع الجهود المحمودة حتى الآن في إنهائها، بل وصعوبة إنهائها في المنظور القريب. باختصار تعد الأزمة السودانية واحدة من الأزمات الشديدة التعقيد العصية على الحل. تتطلب كل أزمة وسيطا من طراز معين، ويمتلك سمات ومقومات معينة، وربما الأهم خبرة تراكمية واسعة قد اكتسبها عبر تدخله كوسيط في هذه الأزمات. ومن واقع مجريات الأزمة السودانية، وحالة السودان المعقدة عموما، فثمة خمسة مقومات رئيسية يجب توافرها في أي وسيط أو وساطة جادة لإنهاء تلك الأزمة. الأولى، خبرة تراكمية كبيرة كوسيط اضطلع في أزمات مشابهة، ونجح في إنهائها. الثانية، قدرة كبيرة على التواصل والتفاهم مع جميع الفرقاء بما في ذلك الجماعات غير النظامية. الثالثة، التمتع بشبكة علاقات دولية وإقليمية واسعة والقدرة الكبيرة على التأثير في تلك العلاقات وتشكيل قناعتها. الرابعة، امتلاكه للقدرات والموارد الكبيرة والمهارة في توظيف تلك القدرات للتأثير بفعالية على مجريات المباحثات واطراف الصراع. وأخيراً، وتعد مسألة مفصلية في الأزمة السودانية، التمتع بالحياد التام والنزاهة، مما يكسبه ثقة كبيرة لدى أطراف الصراع كأساس لإنهاء الأزمة. اكتسبت دولة قطر سمعة دولية وإقليمية واسعة كونها واحدة من أبرز وأنشط الوسطاء الدوليين، حيث اضطلعت الدوحة بالوساطة في أكثر من 10 صراعات دولية معقدة، وحققت نجاحات في إنهاء هذه الصراعات لفتت إليها أنظار العالم. وكان آخر تلك النجاحات، تمكن الدوحة من إنهاء الصراع الطويل بين طالبان والولايات المتحدة في أفغانستان، والذي قد توج بتوقيع اتفاق الدوحة بين الجانبين في 2020. اضطلاع قطر في هذه الوساطات المتعددة وإنهاؤها، قد جاء بعد جهود وساطات غير موفقة استمرت لأعوام لإنهاء تلك الصراعات. جعلت قطر الوساطة من أهم مرتكزات السياسة الخارجية القطرية، وقوتها الناعمة، ولعل ذلك ما يفسر النجاح المبهر لدور قطر. لكن علاوة على ذلك، يتأتى هذا النجاح المبهر بصورة أكبر من امتلاك قطر لجميع مقومات الوسيط القادر على التوسط وإنهاء الأزمات والصراعات الأشد تعقيداً-السابق ذكرها- والنابعة بالأساس من مرتكزات ومقومات السياسة الخارجية القطرية بصفة عامة. والتي تتلخص في الانفتاح على الجميع وتنويع الشراكات، التركيز على القوة الناعمة، العمل على دعم الاستقرار الإقليمي والدولي، المساهمة الفعالة في البرامج الأممية الخاصة بالتنمية والتصدي للتحديات، الحياد وعدم التدخل في شئون الدول، محاربة ونبذ التعصب والإرهاب، والوقوف على مسافة واحدة بين أطراف الصراعات، ودعم العمل والتعاون العربى والخليجي المشترك، والدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية في المحافل الدولية. ومما تقدم، يمكن القول وبدون أية محاباة أو مواربة، إن الأزمة السودانية المتصاعدة اشتعالا وتعقيدا، في أمس الحاجة إلى وساطة من طراز وخبرة «الوساطة القطرية». فأزمة الثقة العميقة بين أطراف السودان تحتاج وسيطا محايدا نزيها موثوقا، ليس لديه مآرب أو مطامع من قريب أو بعيد في السودان. وقادر في الوقت عينه على تقريب وجهات النظر بين الطرفين واقتراح حلول توافقية في مهمة تبدو مستحيلة. كما تستلزم الأزمة وسيطا يمتلك من الصبر والخبرة والحنكة الشديدة للتعاطي بفعالية من جميع فرقائها، وقطر ليست بجديدة عن واقع السودان فالوساطة القطرية لإنهاء أزمة دارفور الشائكة للغاية عام 2008 خير شاهد على ذلك، وليست بجديدة أيضا في التعامل باحترافية شديدة مع الجماعات غير النظامية. حيث نجحت قطر عبر وساطاتها في إقناع جماعات ومنظمات شبه نظامية شديدة الانغلاق والتعسف كحركة طالبان بالانخراط في مباحثات نزاع مستمرة والقبول بحلول وسط لحل تلك النزاعات وإدامة السلام.
2388
| 08 أغسطس 2023
توصف مشكلة التغير المناخي وبخاصة قضية الاحترار العالمي أو الاحتباس الحراري كتهديد وجودي للبشرية، وثاني أخطر تهديد وجودي عالمي بعد السلاح النووي. ففي مؤتمر صحفي عقد الأسبوع الماضي، نبه الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش» من انتقال العالم من حقبة الاحترار العالمي إلى حقبة «الغليان العالمي» بتجاوز متوسط درجة الحرارة 1.5 درجة. ففي يوليو الحالي سجلت الأرض أعلى درجات حرارة في التاريخ. وظهرت معالم الغليان العالمي في كم الكوارث الخطيرة التي ألحقت في مناطق عديدة على الكوكب في صيف 2023، ففي اليونان على سبيل المثال، اندلعت حرائق غابات غير مسبوقة. وفي آسياشهدت درجات الحرارة ارتفاعات غير مسبوقة مخلفة حرائق في منشآت صناعية وفيضانات عارمة. كم أعلنت بعض الدول الأوروبية حالة الطوارئ بعدما تجاوزت درجة الحرارة 45 درجة، مخلفة ذوبان أجزاء من جليد جبال الألب. وتقريبا لم تلفت دولة في العالم من التأثيرات الخطيرة الناجمة عن الغليان العالمي. قبيل الحرب الروسية-الأوكرانية لم تكن جهود ومساعي المجتمع الدولي للتصدي لقضية الاحترار العالمي تسير على أفضل حال، إذ كانت بطيئة للغاية، وغير فعالة في أغلبها. فكثير من الدول خاصة الغربية قد قطعت أشواطاً جيدة في مسألة الطاقة البديلة، وتبنت دول أخرى جهودا لزرع مساحات واسعة خضراء، وعملت بعض الدول الكبرى خاصة الصين والولايات المتحدة والهند على تقليص درجات محدودة من الانبعاثات الكربونية الناجمة عن النشاط الصناعي. اندلعت الحرب الأوكرانية في فبراير2022، مخلفة واقعا عالميا جديدا أكثر إرباكاً، حيث تبدلت الأولويات لدى الدول، وتغيرت الحسابات السياسية والاقتصادية والجيوسياسية العالمية بصورة شبه تامة. وكان من أخطر الإفرازات الخطيرة لهذا الواقع الجديد وهو التدهور الحاد لما تبقى من جهود محدودة للتصدي للاحترار العالمي. ولعل أخطر ما خلفته الحرب الأوكرانية، هو تدشين واقع جيوسياسى عالمي شديد التصارع على الطاقة لاسيما الطاقة التقليدية «النفط». برهنت الحرب الأوكرانية أن النفط لا يزال المرتكز الرئيسي للطاقة العالمية، بل هو المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي. فغياب حصص النفط الروسية قد أسهمت في ارتفاعات عالمية في مستويات التضخم وأيضا في نشوء أزمة غذاء عالمية. وعليه، بدأت الدول في التركيز على تأمين احتياجاتها من النفط والبحث عن التنقيب عن المزيد، بل بدأت بعض الدول الأوروبية في إعادة استخدام الفحم الملوث الأول للبيئة، وهو ما يمثل ضربة قاصمة للجهود السابقة للحد من التلوث وتطوير جهود الطاقة البديلة. وعلى هذا الأساس أيضا، من الصعب تصور أفق للتعاون بين الدول في مسألة الحد من الاحتباس الحرارى في ضوء الأفق المتوقع للتنافس الشديد بين الدول على النفط. حيث بات النفط مرادفا للاستقلال السياسي وتأمين الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. من الصعب للغاية دفع المجتمع الدولي للتصدي للاحترار العالمي دون دفة قيادة أمريكية-صينية مشتركة لجهود المجتمع الدولي. بل إن قضية التغير المناخي على وجه الخصوص كانت من القضايا الرئيسية التي كان يعول عليها الأمريكيون والصينيون لإحداث توازن في علاقات التنافس بينهما، وعدم انجرار العلاقات بينهما إلى حرب عالمية ثالثة، نظراً لحتمية التعاون بينهما لحماية الكوكب. وحقيقية الأمر أن الحرب الأوكرانية قد أدت إلى تشديد حدة المنافسة بين واشنطن وبكين، إذ يلاحظ التعنت الأمريكي في بعض القضايا الخلافية خاصة قضية تايوان بعد الحرب، خوفاً من تكرار سيناريو أوكرانيا هناك. والحرب الأوكرانية على وجه العموم قد شددت من حدة التنافر والصراع بين المعسكرين الغربي بقيادة واشنطن والشرقي بقيادة بكين، لأن الفوز في أوكرانيا سيكون بمثابة لحظة فارقة في تشكيل نظام دولي جديد بقيادة بكين أو استدامة الحالي بقيادة واشنطن. وفي خضم هذا الصراع، سيكون الصراع الطاقة والموارد الطبيعية عموما أمرا حاسما لكلا الطرفين. إذ نلحظ على سبيل المثال، تراجع الصين نسبيا عن خطط تخفيض الانبعاثات الكربونية واللجوء إلى الفحم في بعض الصناعات. وعلى الجانب الآخر، قيام الولايات المتحدة بزيادة معدلات إنتاج النفط الصخري لتأمين احتياجاتها من النفط، والاستفادة من الأسعار المرتفعة. ولا يفوتنا في صدد ذلك التذكير أن كل قوة تسعى إلى المحافظة على قوة اقتصادها الدعامة الرئيسية في ميزان القوة مع الطرف الآخر، وبالتالي ستمضي في استخدام الطاقة التقليدية دون أي اكتراث لمسألة الاحترار العالمي وتبعاته الخطيرة. ملخص القول، شكلت الحرب الأوكرانية ضربة قاصمة لجهود المجتمع العالمي لمكافحة ظاهرة الاحترار العالمي. فناهيك عن حجم التلوث الخطير الناجم من الحرب التي ربما ستستمر لبضع سنوات، خلفت الحرب واقع جيوسياسي شديد التنافس على الطاقة التقليدية خاصة النفط، كما خلفت واقعا جيوسياسيا شديد التنافس في العالم يصعب معه تصور أية جهود دولية رامية للتصدي للاحتباس الحراري والتي كانت هزيلة بحيث أوصلت العالم في صيف 2023 إلى الغليان العالمي.
1443
| 01 أغسطس 2023
يجري الجيشان الروسي والصيني حاليا مناورات بحرية عسكرية ضخمة مشتركة لأول مرة في بحر اليابان قد تستمر لبضعة أيام. وفي واقع الأمر إن قراءة تلك المناورات لاسيما وانها تجرى بين البلدين في موقع جديد لأول مرة وهو بحر اليابان، ينبغي أن يكون من منظور وسياقات أوسع وأعمق. فتلك المناورات ليست تأكيدا على التحالف الروسي- الصيني كما يذهب البعض، وليست أيضا رداً على المناورات الثلاثية الأخيرة بين واشنطن وطوكيو وكوريا الجنوبية، والتي جاءت ردا على تجارب كوريا الشمالية الصاروخية. بل هي بكل وضوح تأكيد على حشد واستعداد كل معسكر للمعركة الكبرى الحاسمة التي ستجرى رحاها في المحيط الهادئ والباسيفيك. لم تنشئ الحرب الروسية- الأوكرانية نظاماً دولياً جديداً، حيث إن تأسيس نظام دولي جديد له شروط ومظاهر محددة أكثر راديكالية ووضوحا- بل أسهمت في تشديد حدة الصراع بين المعسكرين الرئيسيين في النظام الدولي: المعسكر الغربي بقيادة واشنطن ويضم حلفاءها الأوروبيين واليابان وكوريا الجنوبية والهند وأستراليا. والمعسكر الشرقي بقيادة الصين ويضم روسيا وكوريا الشمالية وإيران وبيلاروسيا. ومدعاة تشديد حدة الصراع تكمن بشكل أساسي من تفاقم مخاوف المعسكر الغربي من هيمنة المعسكر الشرقي على النظام الدولي بعدما اجتاحت روسيا أوكرانيا وهددت ولا تزال باستخدام السلاح النووي ضد الناتو وأوروبا، وهذا سيناريو كان قد استبعده الغرب بصورة كبيرة. لذا، فبخلاف ازدياد التعاون والتضامن بين المعسكر الغربي بعد الحرب الأوكرانية والذي تجسد عمليا في الدعم العسكري الواسع لأوكرانيا؛ قامت اليابان بإصدار وثيقة استراتيجية جديدة تعلن فيها التخلي عن سياسة عدم التسليح ورصد مبالغ هائلة لإعادة تسليح نفسها، وعلى غرار اليابان كانت ألمانيا برصدها ما يناهز الـ 50 مليار يورو في إطار إعادة التسليح. كما أصدر الاتحاد الأوروبي البوصلة الاستراتيجية الرامية لتعزيز التعاون العسكري الأوروبي وتحقيق الاستقلالية الأمنية على المدى البعيد. وعلى جهة أخرى، قام حلف الناتو بعمل عدة مراجعات رامية لزيادة الإنفاق وإعادة التموضع في أوروبا، واستكمال عمليات التوسع الشرقي. ففي قمته الأخيرة قد اعلن رسميا عن ضم السويد، والتي سبقتها فلندا بالانضمام، كما أعلن عن بحث ضم أوكرانيا وجورجيا في المستقبل. ويجدر الذكر أن السويد وفنلندا كانتا من الدول المحايدة منذ الحرب العالمية الثانية الرافضة تماما للانضمام إلى أية تحالفات عسكرية. وتسعى كل من روسيا والصين من مناورات اليابان، إلى إرسال العديد من الرسائل خاصة للولايات المتحدة. وأهمها، أننا مستعدون للمعركة في طول وعرض المحيط الهادئ وليس حول بحر الصين الجنوبي والباسيفيك فقط. هذا علاوة على الأهمية البحرية والاستراتيجية لبحر اليابان، كما أن سياسة حشد التحالفات التي برع فيها بايدن لن تخيفنا ولن تردعنا. وربما تلك الرسالة تعنى أكثر الصين عن روسيا. فروسيا على وجه الخصوص ترمى إلى إرسال رسالة للغرب مفادها أننا ما زالنا قادرين على المواجهة وإدارة الصراعات على حدودنا الشرقية، ولن يكسرنا تقدمنا البطيء في أوكرانيا، ولا الانشقاقات الداخلية كتمرد فاجنر. وربما ترمى روسيا من تلك المناورات إلى الضغط على الغرب وتأكيد استمرارية التحالف مع الشريك الصيني القوى، لإيقاف دعمه العسكري لأوكرانيا الذي تطور إلى تزويد أوكرانيا بطائرات ومضادات صواريخ حديثة. ولا نستبعد أيضا رسائل روسية لليابان مفادها استمرار تمسكنا بالسيادة على الأرخبيل البحري المتنازع عليه مع اليابان، وذلك في ضوء إعادة التسليح الضخمة التي تجريها طوكيو حاليا، لاسيما وان المناورات تجرى بالقرب من اليابان ذاتها. ومن المهم التأكيد على أن إعادة تسليح اليابان بالأساس موجه ضد القوة الصينية وعنادها تجاه الجزر المتنازع عليها مع اليابان في بحر الصين الشرقي. ونافلة القول، في تقديرنا أن مناورات بحر اليابان تمثل شريط البداية لطبول الحرب العالمية الثالثة، حيث ستعقبها سلسلة من المناورات المضادة، والتحالفات الجديدة ستفضى حتما إلى الصدام الأكبر المرتقب بين المعسكرين. فالمعسكر الشرقي على وجه الخصوص يشعر بالقوة الكافية لتحدى الغرب بقيادة واشنطن والسير بخطوات ثابتة نحو القيادة الدولية المستحقة كما يظن. ولعل أكبر دليل على ذلك هو تحدى بكين واشنطن بشكل غير مسبوق في تايوان وبحر الصين الجنوبي. ويعلمنا التاريخ أن الحروب العالمية الكبرى غالبا ما تسبقها مشاحنات رهيبة وتحالفات وحشد معارك وطرف قائد يسعى إلى إدامة قيادة، وطرف صاعد يتحدى بقوة القائد لا يتزعزع عن حلم تبوؤ القيادة الدولية المستحقة نظير امتلاكه كل مقومات القوة القائدة.
1230
| 25 يوليو 2023
بعد مرور قرابة العام والنصف على الاجتياح الروسي لأوكرانيا، لا تزال مسألة فعالية العقوبات الغربية على روسيا مثار تباين واسع. فتلك العقوبات الشديدة والشاملة التي فرضها الغرب- والتي ربما قد راهن على ردع روسيا لإنهاء هذا الغزو سريعا - لم تؤتِ ثمارها بعد. ناهيك عن ذلك، تتضارب التحليلات والتوقعات بشأن مدى تأثير تلك العقوبات على الاقتصاد الروسي، وجدوى استمرارها، وكذلك تأثيرها المستقبلي على نظام بوتين والحرب بصفة عامة. نالت مسألة العقوبات الاقتصادية الدولية خلال العقدين الماضيين مساحة واسعة من الاهتمام الأكاديمي، وتنوعت المقاربات التحليلية لدراسة هذه الظاهرة مستندة على سوابق متعددة للعقوبات الغربية تحديدا ومنها التي فرضت على جنوب أفريقيا، وكوبا، وكوريا الشمالية والعراق، وإيران. وتشابهت مستخلصات تلك المقاربات إلى حد بعيد بشأن مدى الفعالية الحقيقية لظاهرة العقوبات، والتي ستساعدنا إلى حد بعيد في فك لغز فعالية العقوبات الغربية على روسيا. المستخلص أو الحقيقة الأولى والرئيسية التي خلصت إليها تلك المقاربات كان مفادها «صعوبة تحقيق العقوبات أهدافها المتوخاة بصورة فورية في أغلب الأحيان». وهل يعني ذلك أن خيار العقوبات خيار فاشل دائما؟ ليس ذلك بالضبط، بل كل ما في الأمر أن الرهان عليها لتحقيق أهداف سريعة أو فورية وحاسمة رهان غير صائب غالبا. ويعزى ذلك إلى أسباب متعددة ومنها مهارة وقدرة النظام المستهدف بالعقوبات على الالتفاف والتحايل عليها بدعم الحلفاء، صلابة الاقتصاد المستهدف، عدم اكتراث النظام المستهدف بالتأثيرات الشديدة الناجمة على شعبه ما دامت لم تشكل تلك العقوبات تهديداً شديدا على شرعية نظامه، وأخيراً البعد الإنساني المرعى عند تفعيل العقوبات حيث غالبا ما يُتوخى تحقيق التوازن ما بين معاقبة واستهداف النظام وأفراده في حد ذاته، وما بين عدم تشديد العقوبات لدرجة معينة تتسبب في كارثة إنسانية كمنع تصدير بعض المنتجات الغذائية الرئيسية. ويعد بعد التوازن من أكبر أسباب فشل العقوبات في تحقيق أهدافها المرجوة بصورة فورية أو عدم الوصول إليها نهائيا، لاسيما التخلص من نظام شديد القمع والانغلاق والعدوانية كنظام كوريا الشمالية، ونظام صدام حسين في التسعينيات. وبإسقاط هذه الأسباب على نظام بوتين لا نحتاج إلى عصف ذهني شديد وبيانات وتخمينات مرهقة لاستبيان فشل رهان العقوبات الغربية في إيقاف عمليات روسيا العسكرية في أوكرانيا الممتدة منذ أكثر من عام بشكل فوري وحاسم. فرض الغرب على روسيا قائمة عقوبات متنوعة شملت حظر استيراد النفط والغاز، وتصدير المنتجات التكنولوجية، وتجميد أرصدة بنكية، ووقف التعامل المصرفي على نظام سويفت. ورغم تضرر الاقتصاد الروسي بالطبع، إلا أنه لم يتأثر بالدرجة التي كان يتوقعها الغرب. إذ يكفي القول في ذلك إن روسيا لا تزال تصدر النفط والغاز - المصدر الرئيسي لدخلها القومي - إلى حلفائها من أكبر المشترين خاصة الصين والهند، وبكميات كبيرة. خلاصة الأمر في تلك النقطة، أن رهان الغرب على العقوبات لإنهاء الحرب لن يتحقق غالبا في المدى القريب. وهذا يدفعنا إلى المستخلص الثاني العاكس للأول ومفاده «نجاعة العقوبات في تحقيق أهدافها أو بعض منها، أو إحداث تحرك أو تحول إيجابي في الأزمة على المدى البعيد وبشكل متدرج». استنادا إلى سوابق العقوبات الغربية، نجد أنها قد ساهمت بفضل وطأتها واستمرارها في إحداث اختراق ملموس لأزمات كبيرة لكن على المدى البعيد. فالعقوبات الأمريكية المستمرة لسنوات على إيران- على سبيل المثال - كانت من أهم أسباب دفع النظام الإيراني لإبرام الاتفاق النووي مع إدارة أوباما. وكانت كوريا الشمالية قوب قوسين من إبرام اتفاق مع إدارة ترامب للتخلي عن برنامجها النووي بفضل وطأة العقوبات. فمهما كانت صلابة النظام الاقتصادي المستهدف من العقوبات، ومهارة نظامه وشبكة تحالفاته التي تمكنه من التحايل عليها، فلن يستطيع اقتصاد هذا النظام الصمود والرسوخ بنفس الوتيرة على المدى الطويل في نظام دولي معولم وتحديات اقتصادية وأمنية وبيئية متلاحقة تضرب العالم بوتيرة مستمرة. ومن ثم، سيتفاجأ هذا النظام بين ليلة وضحاها أن شرعيته وبقاءه قد بات على المحك بفضل الاحتجاجات المستمرة، والتذمر العام حتى بين نختبه الحاكمة. وبالتالي، سيضطر غالبا إلى إحداث تحول كبير تجاه الأزمة المسببة للعقوبات لضمان بقائه في السلطة. أو قد تؤدي الاحتجاجات المستمرة وحالة التذمر العام إلى ثورة أو انقلاب عسكري لإنهاء هذا النظام. ولعل ذلك أيضا ما يراهن عليه مسؤولون وأكاديميون غربيون كثر. ويستشهدون في ذلك بظهور بوادر على التصدع البطيء التدريجي لنظام بوتين بفضل العقوبات. والتي منها بيانات من جهات مرقومة تشير إلى ركود نوعي في الاقتصاد الروسي، وحالة من الاستياء لدى الشعب الروسي من استمرار الحرب، وتململ بعض الحلفاء كالصين من استمرار الحرب، واستيراد النظام لأسلحة ليست بعالية الكفاءة من حلفائه لسد عجز فجوة التسليح. وأخيراً، تمرد قوات فاجنر الأخير العاكس لارتباك واضح وربما تذمر في أوساط النخبة العسكرية الروسية. إذن نخلص مما سبق بشأن فعالية العقوبات الغربية على روسيا، هو عدم نجاحها المطلق في إيقاف استمرار العمليات العسكرية لروسيا في أوكرانيا على المدى القريب، بل ستستمر تلك العمليات وبقوة على الأقل أكثر من عام إضافي. مقابل ذلك، هو نجاحها المؤكد في إحداث حلحلة في تلك الأزمة أو الحرب على المدى البعيد- وقد ظهرت بعض بوادر ذلك بالفعل - حال استمرارها بنفس القوة التضامنية الغربية. وهنا يجب أن نشير أن استمرار وطأة العقوبات الغربية على روسيا قد يدفع إلى السيناريو الأكثر كارثية وهو لجوء روسيا إلى السلاح النووي، وليس الحلحلة الإيجابية. لكن فيما يبدو لا خيار أمام الغرب إلا الاستمرار في العقوبات وبقوة كما كانت خياره الرئيسي إزاء روسيا النووية.
1350
| 11 يوليو 2023
شكلت الحرب الأوكرانية منعطفاً مفصلياً بشأن إعادة النظر لأهمية وخطورة ملف الطاقة عموما للدول سواء التقليدية أو المتجددة. بل يمكن القول دون أية مواربة إن الطاقة ستمثل أحد أهم المحددات الرئيسية للصراع الجيوسياسى العالمي خلال الفترة القادمة. تسببت الحرب الأوكرانية في أزمة حادة في سوق الطاقة العالمي، استتبعها مباشرة ارتفاع حاد في أسعار الطاقة، وتضخم رهيب وارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع الاستراتيجية، وارتباك شديد أيضا في اقتصادات دول العالم. أدت التداعيات الكارثية لأزمة الطاقة إلى حدوث مراجعة شاملة موضوعية لسياسات الدول التي تتبعها لتأمين أمن الطاقة، وطرحت هذه المراجعات أسئلة استراتيجية من أهمها، هل حان الوقت لتسريع الاعتماد على الطاقة البديلة عبر ضخ المزيد من المليارات في البحوث والتطوير؟ هل بالفعل نستطيع الاستغناء عن النفط الأحفوري قريبا؟ وماذا عن الغاز الذي تتحكم فيه روسيا؟ وهل نعيد التفكير في الطاقة النووية كبديل؟.. وغيرها من التساؤلات.ومن قراءة تلك المراجعات لاسيما المراجعات الأوروبية، يتبين أنها قد استنتجت استمرار أهمية النفط الأحفوري والغاز وصعوبة الاعتماد على الطاقة البديلة في المستقبل القريب لكن مع العمل في اسرع وقت ممكن على تبنى استراتيجيات قوية للاعتماد على الطاقة البديلة. وقد قادت تلك الاستنتاجات إلى استفاقات استراتيجية أعمق تتلخص في ثلاثة: أهمية وخطورة الطاقة كمصدر رئيسي لقوة الدولة ونفوذها الخارجي، والخطورة الشديدة لمسألة الاعتماد المتبادل في مجال الطاقة (حتمية الاستقلالية التامة في الطاقة)، وخطورة ورقة الطاقة على الأمن القومي الشامل للدولة. وعلى هذا النحو يرتسم سيناريو صراع جيوسياسى قاتم يلوح في الأفق في العالم. فعلى إثر الحرب الأوكرانية، نشب خلاف حاد بين أمريكا وأوروبا حول أسعار النفط والغاز. كذلك، لم تنصع الهند للعقوبات الغربية على روسيا لاستمرار تدفق الغاز الروسي. وأيضا، ترددت بعض من دول أوروبا الشرقية في مسألة فرض العقوبات على روسيا بسبب إمدادات الطاقة. وأيضا قد تنامى نفوذ مجموعة «أوبك بلاس» بقيادة السعودية في النظام الدولي. والأمثلة تطول. وعلى إثر الهواجس الاستراتيجية للدول حول الطاقة، لاسيما السعي الحثيث نحو الاستقلالية الطاقوية، ستشتد وتيرة الصراعات الجيوسياسية في العالم وتتطور بعضها لصراعات عسكرية كمبعث رئيسي للسيطرة على مناطق الطاقة الاستراتيجية، كذلك للسيطرة على مصادر الموارد الطبيعية اللازمة لإنتاج الطاقة البديلة. إذ يلوح في أفق صراع أمريكى-صيني-روسى للهيمنة على القطب الشمالي ذات الموارد الطبيعية الهائلة. كما سيحتدم الصراع في الفضاء السيبرانى للاستحواذ على تقنيات وأسرار الطاقة العادية والبديلة. ووسط ذلك، ستصبح الطاقة ورقة مساومة استراتيجية بيد الدول، وأداة رئيسية للاستقطاب وتشكيل تحالفات استراتيجية وانفكاك أخرى، وتأجيج صراعات داخلية، وتنامى ظاهرة المليشيات غير النظامية «المرتزقة». إذ أن من مهام فاجنر الرئيسية لاسيما في أفريقيا السطو على الموارد الطبيعية هناك. وأيضا، تلعب ورقة الطاقة والموارد الطبيعية دوراً رئيسيا في تأجيج الصراع واستدامة في السودان بقيادة قوات الدعم السريع الغير نظامية. وفوق كل ذلك، ستتصدع تماماً المسعى الدولية الحثيثة للتصدي لظاهرة الاحتباس الحرارى. جهود قطرية لتهدئة وطأة الصراع ليس غريبا عن قطر بفضل قيادتها الرشيدة أن تشتم رائحة الصراعات الكامنة وتستبق الأحداث بالمبادرة لإنهاء تلك الصراعات وتخفيف وطأتها إلى أقصى درجة ممكنة. إذ بفضل ريادتها الدولية في سوق الطاقة وبالأخص في سوق الغاز العالمي، قد قامت-حتى قبل الحرب الأوكرانية- بخطوات دبلوماسية وعملية استباقية من شأنها التخفيف من حدة الصراعات الناجمة عن الطاقة. ومن أبرزها، على سبيل المثال لا الحصر، التأكيد المستمر على خطورة تسييس ملف الطاقة وهو ما تجلى عموما من موقفها المحايد من الحرب الأوكرانية. والإعلان المستمر عن ضخ المزيد من إنتاج الغاز العالمي وبأسعار معقولة للتخفيف من حدة نقص الطاقة، واستدامة حصص الطاقة لدول العالم لاسيما الدول الأوروبية والآسيوية بعد تهديدات انقطاع إمدادات الغاز الروسي. ولأن الغاز الطبيعي-فحسب مراجعات الدول- سيستمر لفترة طويلة محوريا لا غنى عنه في أمن الطاقة خاصة انه غير ملوث؛ فالجهود القطرية الحثيثة تصب في صميم استقرار سوق الطاقة العالمي وتبديد الصراعات الجيوسياسية في المستقبل المنظور والمتوسط. فالجهود القطرية مثلت استعواضا مثاليا للغاز الروسي وما نتج عنه من تجاذبات وضغوطات ومساومات. علاوة على ذلك، لا جدال بأن جهود قطر تمثل حجر الأساس الذى قد يبنى عليه لجهود رامية لسياسات تعاونية دولية في مجال الطاقة. ملخص القول، يتجه النظام الدولي بلا أدنى شك إلى صراع جيوسياسى قاتم على الطاقة، لأنها قد أصبحت المرتكز الرئيسي لضمان الاستقلالية وصيانة الأمن القومي بعد صدمة الحرب الأوكرانية. ولعل بارقة الأمل البارزة حتى الآن للحيلولة دون تفاقم صراع جيوسياسى حاد على الطاقة، يبرز في جهود أو نهج قطر المرتكز على استبعاد ملف الطاقة عن التسييس واللجوء إلى الحوار والتعاون المشترك لتأسيس أطر أوسع وأشمل لتهدئة المخاوف الطاقوية للدول وتعزيز الاعتماد المتبادل الشامل لاسيما في مجال الطاقة المتجددة.
2433
| 04 يوليو 2023
بغض النظر عما اذا كان تمرد فاغنر حركة مسرحية تكتيكية إلا أنها تكشف لنا عن طبيعة كيان المليشيات الموازية للدولة هي وأمثالها كقوات الدعم السريع السودانية وغيرها من تجارب «قوات المرتزقة غير النظامية» أفريقية ولاتينية، وأنه من المحال ترويض الوحش والسيطرة التامة عليه بعد تربيته وتثمينه إلى حد التخمة. فالثمن الباهظ هو غالبا تدمير وانقسام الأوطان وفوضى عارمة ربما تمتد لعقود. تنشئ بعض الأنظمة السلطوية قوات مرتزقة مسلحة لدواع عدة، ومن بينها، ضمان النظام السلطوي الحاكم الولاء التام لمجموعة مسلحة غير نظامية، أو موازية للقوات المسلحة النظامية، خشية من انقلاب الثانية عليه، سيما إن كانت شرعية هذا النظام على المحك. أو لأجل تنفيذ عمليات قذرة من الصعب أن ترتكبها القوات النظامية، أو السعي لعدم التضحية بالقوات النظامية في حروب ومعارك خارجية طائشة. وربما تجسد قوات فاغنر حاصل الأسباب السابقة. إذ ظهرت هذه القوات في الصورة للمرة الأولى في مساندتها للقوات الأوكرانية الانفصالية عام 2014. وبزغ نجمها بوتيرة أعلى في الحرب الأهلية السورية عام 2015، حيث ساهمت بشكل كبير في مساعدة نظام الأسد للانتصار على قوات المعارضة الداخلية، ثم بعد ذلك في ليبيا لمساندة قوات حفتر ضد الحكومة الشرعية عام 2019. وقد نشرت تقارير موثقة عن انتشار قوات فاغنر في بلاد أفريقية عدة لمهام قتالية. وتمثل الحرب الروسية الحالية في أوكرانيا المنعطف الأهم والمفصلي لفاغنر. إذ منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، تضطلع فاغنر بالدور الأكبر في المعارك في أوكرانيا لاسيما للسيطرة على المناطق والمقاطعات العصية التي تواجه بمقاومة أوكرانية عنيفة مثل «باخموت». وقبل نحو أسابيع، ظهر زعيم فاغنر في مقطع مصور على «يوتيوب» غاضبا جداً من عدم إمداد قواته بالذخيرة اللازمة، والظروف الصعبة لجنوده، ملقياً باللوم العنيف على تخاذل وزير الدفاع الروسي ورئيس أركانه. وتوالت فيديوهات وتصريحات أخرى تعرج على نفس المشكلة ومشكلات أخرى مثل مقتل عدد كبير من قوات فاغنر، وعدم تلقي القوات المستحقات المالية المطلوبة. ثم جاءت اللحظة الحاسمة يوم الجمعة الماضي، عندما أذاع قائد فاغنر في مقطع مصور عن عزمه ترك أوكرانيا والزحف نحو موسكو ولم تمر سوى 24 ساعة حتى تم الإعلان عن إنهاء الأزمة بين روسيا وفاغنر عبر وساطة بيلاروسية، تم الاتفاق فيها على عودة قوات فاغنر إلى معسكراتها. تمرد فاغنر الجريء مدعاة أيضا لانعكاسات خطيرة على أرض الواقع، وفي المستقبل، ونذكر أهمها باختصار: •يوحى وربما يشير بجلاء، انقلاب فاغنر بعد عدة أسابيع من الشكاوى المتكررة من العسكريين الروس، قناعة قوية تولدت لدى فاغنر بتخبط وربما عجز روسي عن إدارة المعارك في أوكرانيا وتوفير الذخيرة اللازمة، حيث تسير المعارك بعكس ما توقعت روسيا. إذ واجهت روسيا في أوكرانيا مقاومة أوكرانية عنيفة ودعما غربيا تاما لأوكرانيا. إذ كانت تصورات بوتين ويشاركه عدد لا يستهان به من المحللين العسكريين بسقوط أوكرانيا والسيطرة التامة على كييف العاصمة في غضون شهرين منذ اندلاع المعارك. وربما كل ذلك، قد حفز فاغنر للتمرد على روسيا من منطلق الزهو بالقوة ولا نستبعد كذلك تواصلا استخباراتيا غربيا مع فاغنر للانقلاب على بوتين خشية من سيناريو نووي. • انقلاب فاغنر والمهادنة الروسية معها، تشير بجلاء إلى تضرر الاقتصاد الروسي بفضل العقوبات الغربية. إذ يفقد بوتين رويدا رويدا أهم أسلحته الاقتصادية التي قد اعتمد عليها لمواجهة الغرب في أوكرانيا، واستدامة شرعيته الداخلية. • التمرد يعنى انتصارا معنويا كبيرا لأوكرانيا والغرب، وهو ما سيساهم في استئناف أوكرانيا والغرب الحرب بقوة. إذ إن أول معالم هزيمة الخصم تتأتى من انقسام أو انهيار الجبهة الداخلية. جملة أخيرة، غدت فاغنر وحشا يصعب ترويضه والسيطرة عليه وفي جميع الحالات ستكون من أكبر المساهمين في حقبة عصيبة ستمر بها روسيا في المستقبل.
1431
| 27 يونيو 2023
قال أحد خبراء الأمن السيبرانى في ثمانينيات القرن الماضي - وذلك قبل أن يشهد هذا الفضاء وأدواته هذا التطور المذهل- إن الفضاء السيبرانى سيكون في المستقبل ساحة الحرب الرئيسية بين الدول. يوفر الفضاء السيبرانى للدول والجماعات المتطرفة والقراصنة كثيرا من الميزات التي لا يوفرها أية مجال آخر للصراعات. يأتي في مقدمتها-ولعل أهمها جميعاً- ميزة طمس الهوية الشخصية والمكانية. بمعنى، أن الدولة التي تتعرض لهجمات أو حرب سيبرانية تجد صعوبة بالغة للغاية في معرفة الدولة الفعلية وكذلك الشخص الفعلي المنفذ لتلك الهجمات. حيث ينفذ تلك الهجمات أشخاص "مجهولو الهوية" في فضاء غير مرئي. والأخطر من ذلك، أن هؤلاء الأشخاص أو تلك الدول المتورطة في الهجمات تقوم بتنفيذها عبر تقنيات إعادة توجيه عبر دول عدة، بحيث يتعسر للغاية تحديد المصدر الحقيقي للهجمات. من الميزات الرئيسية الأخرى، هي سهولة التنفيذ والاختراق والسرعة في التنفيذ. إذ كما نقرأ عادة من روايات تشير بتمكن قراصنة مراهقين من اختراق شبكات معلوماتية حساسة لدول عظمى. يضاف إلى ذلك أن السرعة الفائقة التي تنفذ بها الهجمات تتسبب في إرباك شديد وصعوبة في تحديد مصدرها ومحاسبة مرتكبيها. خلال الأعوام القليلة الماضية، احتل الفضاء السيبرانى مساحة مهمة في إطار الصراع بين واشنطن وبكين الممتد على ساحات كثيرة. بل يمكنا الجزم بأن الفضاء السيبرانى سيكون بمثابة ساحة الصراع الرئيسية خلال الفترة المقبلة لأنه محدد رئيسي للتفوق والانتصار في الساحات الأخرى. غالبا ما تسارع واشنطن في توجيه اتهامات لبكين بعمل عمليات سيبرانية ضد مؤسسات ومنشآت أمريكية أو لأصدقاء واشنطن، وعادة بغرض التجسس وسرقات بيانات حساسة. وكان أحدث هذه الاتهامات في أول يونيو عبر مايكروسوفت وتحالف "العيون الخمس" اللذين قد اتهما الصين باختراق منشآت حساسة للاتصالات وغيرها من خلال هجمات سيبرانية. وعادة ما توجه واشنطن الاتهامات، بما في ذلك الأخيرة، دون تقديم أدلة مقنعة على تورط الصين في ضوء التحديات العسيرة للتيقن من المنفذ الفعلي للهجمات. ولكن على الجانب الآخر، لا يمكن تبرئة الصين تماما من التورط في هجمات سيبرانية في السابق تجاه واشنطن وغيرها، والعكس صحيح. الشاهد في الأمر، أن المواجهة بين الطرفين في الفضاء السيبرانى أصبحت مفتوحة وشبه علانية أو رسمية، كأي ساحة صراع أخرى. ويعزى ذلك، إلى جانب الميزات الكبيرة التي توفرها تلك الساحة، إلى رغبة الطرفين الحثيثة في عدم الصدام الخشن أو العسكري والذى قد يدفع العالم كله إلى حافة الهوية. إذ تخبرنا "واقعية ميرشايمر" أن القوة العظمى المتصارعة على الهيمنة، قوة عقلانية تلجأ إلى الحسم العسكري عندما تنقطع سبل الخيارات الأخرى. فالحرب الباردة بين واشنطن وموسكو قد انتهت دون حسم عسكري، بسبب التفوق الناعم والاقتصادي لواشنطن. وعلى هذا المنوال، فعبر الفضاء السيبرانى يسعى كل طرف إلى اختراق وكشف نقاط ضعف الآخر وتحويلها إلى ميزة نسبية له. إذ على سبيل المثال، تسعى الصين عبر الفضاء السيبرانى وهجماته لاختراق وإضعاف الأنظمة العسكرية التكنولوجية المتطورة التي تتلقاها تايوان من واشنطن. وبالتالي المناورة بالملف التايوانى تمهيدا لضمها للصين دون حسم عسكري شديد الضراوة. ونفس الأمر يحدث ضد الأنظمة العسكرية الأمريكية المتطورة في بحر الصين الجنوبي. وبالمثل أيضا، اختراق بيانات حساسة تتعلق بالتطور التكنولوجي والصحة والاقتصاد والصناعات العسكرية واستخدامها وتحويلها لنقاط قوة نسبية، دون صدام عسكري أو في إطار الصراع الناعم للهيمنة. ويوفر الفضاء السيبرانى أيضا قدرة على التشهير ونشر الإشاعات وتأجيج الحرب المعلوماتية. وبالتالي يوفر هذه الفضاء فرصا عظيمة للدولتين لإضعاف القوة الناعمة للآخر، أو إضعاف شرعية الآخر، أو إحداث إرباك سياسي داخلي. وبطبيعة الحال، كل تلك الأمور ستساهم في عرقلة الآخر في سباق الهيمنة العالمية دون صدام عسكري أو حرب اقتصادية شرسة قد تتطور إلى حرب عسكرية. ونذكر هنا، حملة التشهير والإشاعات والمبالغات الأمريكية التي اطلقتها عبر الفضاء السيبرانى تجاه الصين في بدايات أزمة وباء كوفيد-19. وكان بغرض تحميل الصين مسؤولية عالمية عن نشأة الوباء وانتشاره.
1383
| 20 يونيو 2023
في ضوء التنامي الواسع للعلاقات الخليجية-الصينية والذى يسير بالتوازي مع التراجع الواضح للتركيز الاستراتيجي الأمريكي للولايات المتحدة في المنطقة، وفى منطقة الخليج تحديداً. وهذا في ظل أيضا اشتداد حدة الصراع بين الصين وواشنطن والغرب عموماً. غدا السؤال الهام الآن الذى بدأ يتواتر بقوة، هل منطقة الخليج ودولها على أعتاب مرحلة جديدة من التحالف الاستراتيجي الشامل مع الصين، مقابل انفكاك تدريجي للتحالف التاريخي الاستراتيجي بين واشنطن ودول الخليج؟. وفى الأعوام القليلة المنصرمة، تحركت دول الخليج بشكل مستقل، أو لنقل بشكل مناهض إلى حد ما، في ملفات وقضايا عدة، لرؤى وأهواء واشنطن. بصورة أوحت بإيذان تلك المرحلة الجديدة لمنطقة الخليج. ولعل من أبرزها، موقف دول الخليج الحيادي من الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك استقلالية القرار الخليجي بقيادة السعودية في أوبك بلس، تحول دول الخليج إلى التصنيع العسكري والسعي نحو امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية... وغيرها من المواقف. وفى حقيقة الأمر، وإن كانت تلك المواقف تشى بجلاء إلى استقلالية القرار الخليجي أو لكن صرحاء تمرد جريء على الوصاية الأمريكية التقليدية للخليج. لكنها لا تعكس كلياً أفول الشراكة الاستراتيجية بين الخليج والغرب. إذ لاتزال واشنطن القوة العسكرية الرئيسية في الخليج، وترتبط بعلاقات أمنية واقتصادية استراتيجية مع دول الخليج. لكن ما هو أهم من ذلك، أن تلك المواقف لا تعكس أيضا انحيازا تاما لبكين أو لغيرها من القوى كروسيا، بل تعكس زيادة في استقلالية القرار الخليجي مستند على زيادة القوة النسبية لدول الخليج، وتنامى الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الخليج، والقراءة الموضوعية الواقعية لتوازنات القوى عالميا. وبالتالي نخلص، أن الحديث عن اصطفاف أو انحياز خليجي تام للصين، مقابل تنافر في الشراكة الخليجية الغربية، حديث غير موضوعي. إذ يبدو واضحا أن دول الخليج في سعى لإقامة توازن في علاقاتها مع الطرفين. يستند التوازن على عدة معطيات أهمها، طبيعة ونمط النظام الدولي القائم، والعلاقات الدولية والإقليمية. وقدرة وإمكانات ومهارة الدولة على إقامة التوازن. النظام الدولي الراهن هو بحق نظام متعدد الأقطاب والقوى والمصالح والتحديات، وهو الأمر الذى قد جعل دول الخليج بمقدورها المناورة في علاقاتها الخارجية وتنويع شراكاتها، والتأثير على مجريات قضايا وأحداث عالمية كالحرب الأوكرانية عبر ورقة الطاقة. وعلى الجانب المقابل، أصبحت منطقة الخليج ودولها مركز قوى عالميا لا يستهان به بفضل قوته الاقتصادية وثروته النفطية واستثماراته الخارجية المتنوعة وقوته الناعمة. مما سهل أيضا على دول الخليج تحقيق توازن معقول في علاقاتها الخارجية مستندة في ذلك على قدرة ورؤية حكامه الثاقبة في الارتقاء بقوة البلاد وتحسين سمعتها الدولية وتوسيع شبكة تحالفاتها الدولية والإقليمية. ولعل أبلغ مثال على ذلك، نجاح قطر بعد منافسة شرسة في استضافة كأس العالم لعام 2022، مما أسهم في الارتقاء بسمعة قطر عالميا وتعضيد قوتها الناعمة وشبكة أصدقائها وتحالفاتها. وفى ضوء ما سبق، نعيد التأكيد أن دول الخليج بصدد إقامة توازن عملي واقعى في علاقاتها مع الجميع. أما فيما يتعلق بالعلاقات مع بكين وواشنطن. فكل ما سبق، علاوة على واقع المنطقة وظروف دول الخليج، يحتم على دول الخليج الاستمرار في التوازن متسلحة بأن كلا الطرفين في حاجة ماسة إليها أيضا. وخلاصة القول، استطاعت دول الخليج، ولا تزال تستطيع، إقامة علاقات متوازنة بين بكين وواشنطن مطلوبة وحيوية، استنادا إلى التغيير الكبير الواضح في شكل العلاقات الدولية، وزيادة قوة وأهمية منطقة الخليج. ولعل هذا التوزان سيكون أكبر ضامن لدول الخليج للحيلولة دون الاصطفاف التام مجبرة لطرف على حساب الآخر في سياق الحرب الباردة المستعرة بين الطرفين على قيادة النظام الدولي.
1542
| 13 يونيو 2023
يشهد القاصي والداني أن الصين نجحت فيما عجزت عنه أطراف كبرى عدة سابقة إقليمية ودولية، في إحداث تقارب أو تطبيع في العلاقات بين الرياض وطهران في اختراق دبلوماسي في المنطقة غير مسبوق وغير متوقع. وعليه، يركز هذا المقال على الدروس العملية المستفادة من الوساطة الصينية في اختراق هذه القضية الشديدة الحساسية والتعقيد وذات الأبعاد والانعكاسات والصلات الإقليمية والدولية. وتعددت الرؤى بالقطع عن سر نجاح الصين في تحقيق هذا الاختراق، ولأجل التبصر بصورة أعمق، علينا سرد أبرز ما تمتاز به الوساطة الصينية. وهي اختصاراً، الصبر الشديد، عدم الاحتكام مطلقا إلى لغة الإكراه والتهديد، التركيز على جوانب الاتفاق والمصالح المشتركة وتنميتها في ظل قراءة عملية متأنية لمصالح وتحديات الأطراف الرئيسية، التحفيز والتطلع إلى المكاسب جراء التعاون والتقارب. ولأنه صراع طويل مليء بالتحديات والتناقضات والعداء ، فلابد إذن أن نهج الوساطة الصينية في حد ذاته قد مثل العامل الرئيسي في إنجاح التقارب السريع والمفاجئ بين طهران والرياض. إذ بحسب ما سرب ونشر عملت بكين على إقناع الجانبين على التركيز على الجوانب والمصالح المشترك التي يمكن أن تجمعهم وتحقيق أقصى استفادة منها لاقتصادهم وشعوبهم، وهي كثيرة ويأتي في مقدمتها الطاقة والتجارة . وعليه أيضا، ربما قد نجحت الصين في إقناع الجانبين بترك الإشكاليات والتناقضات الحادة بينهم، والتنافس الحاد بينهم أيضا في أزمات المنطقة، جانباً في ضوء القراءة الذكية العملية للصين لواقع العالم والمنطقة وتحديات طهران والرياض الرئيسية في الوقت الراهن وهي في معظمها تحديات اقتصادية. واستنادا إلى ذلك، نستخلص الدرس الأول والأهم من الوساطة الصينية، وهو الاهتمام على "إدارة الصراع" وليس "حل الصراع". بالقطع أن الصراع أو التنافس المعقد بين طهران والرياض لن يحل بين ليلة وضحاها، وربما لن تجد بعض القضايا العالقة بينهما سبيلا للحل مطلقا لنكن صرحاء. وبالتالي، فإدارة الصراع بينهما هو السبيل الوحيد المتاح، كما ارتأت الصين، لإحداث اختراق تقارب بين الجانبين. ويرتكز نهج "إدارة الصراع" التي تبرع فيه الصين، على إقناع أطراف الصراع على التركيز على مساحات المصالح وعوامل التقارب المشتركة، كخطوة أساسية لحل التناقضات والصراعات المعقدة رويدا رويدا أو تواريها مع الزمن الطويل تلقائيا. بل أن زيادة التعاون والتقارب ستكون مساهما رئيسيا في حل هذه التناقضات وتخفيف وطأتها. ولعل الكثير من الصراعات في العالم تدار بمنطق الإدارة وليس الحل، فالصين ذاتها في إدارة صراع مع واشنطن والهند واليابان. والحديث عن إدارة الصراع وأهميته وآليات عمله يحتاج إلى صفحات من الكتب لكننا نكتفي بما أشرنا إليه. والدرس الثاني ذات الأهمية الكبيرة أيضا وهو المتعلق بكينونة الوسيط، وفى هذه الحالة فهي الصين، وتحديدا نجاحها والتزامها أن تكون قوى خارجية في المنطقة على قدر كبير من الحياد، لديها نهج خاص في سياستها في المنطقة يرتكز على تعميق التعاون الاقتصادي والقوة الناعمة، استطاعت أيضا أن تكون نموذجا جاذبا في التنمية الاقتصادية، وملبيا لطموحات الكثير من تطلعات دول المنطقة خاصة دول مجلس التعاون كما أعلنتها في رؤاها الاستراتيجية كرؤية 2030 للسعودية. وبناء على ذلك، نستنتج بأن الوسيط الذي يريد أن يحقق اختراقا في قضية شائكة معقدة للغاية، حتى ولو من منطق إدارة الصراع، فيجب أن يتمتع بمواصفات خاصة وذات جاذبية كبيرة، تخلق له مساحات واسعة من السلاسة والمرونة في إقناع أطراف الصراع، حاصل القول، رسخت الصين عبر الوساطة بين طهران والرياض لنهج جديد سينسحب على معظم أزمات المنطقة الملتهبة يرتكز على "إدارة الصراع" وليس "حل الصراع". ويجد هذا النهج استجابة كبيرة بسبب طبيعة ودور الصين التنموي الحيادي في المنطقة، المنافي تقريبا لجميع أدوار القوى الأخرى خاصة دور واشنطن.
1233
| 06 يونيو 2023
المتابع عن كثب لتطور المشهد الداخلي السوداني منذ الإطاحة بعمر البشير، ثم إبرام اتفاق تقاسم السلطة بين المكونين المدني والعسكري وتشكيل مجلس السيادة الانتقالي؛ كان بالضرورة سيخرج بنتيجة مبكرة مفادها: هيمنة جلية للغاية للمكون العسكري على حاضر المرحلة الانتقالية ومستقبل السودان عامة، وصراع محتوم-مترتب على ذلك، ومن الصعب توقع توقيت حدوثه- بين الجيش وقوات الدعم السريع. منذ اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم في منتصف أبريل، سعت أطراف متعددة داخلية وخارجية للتهدئة والتوسط، كما طرح وسطاء مبادرات محمودة للحل. ومع ذلك، يلاحظ أنه رغم تقديم هذه المبادرات مضامين واقتراحات لحل شامل للأزمة، إلا أن أولوياتها كانت تنصب على "التهدئة" "والوقف الشامل لإطلاق النار" "وتوفير كافة السبل لحماية المدنيين". وبجملة أخرى، يمكن اعتبارها مبادرات للتهدئة والهدنة، وليس للحل النهائي الشامل للصراع. ومرد ذلك-في أغلب الظن- هو علم الوسطاء التام أن تحقيق تسوية شاملة مستحيل تحقيقه مبكراً، ويحتاج إلى وقت وجهود كبيرة وحلول مبتكرة ووساطة دولية قوية معنية بحل الصراع. انزلق السودان في تحد من أصعب التحديات العصية على الحل. إذ هو صراع بين القوة النظامية الرسمية، وبين ميليشيا مسلحة تعد "جيشا مصغرا". أي يمكن اعتبار الصراع في السودان صراعا بين جيشين وكأنه صراع دولي. إن أية جهود رامية لصيغة للتعايش بين الجيش وقوات الدعم، أو لحلول لدمج قوات الدعم في الجيش كما يلمح البعض عبر إجراءات وصيغ جديدة وبشكل متدرج ربما تأخذ سنوات، في ظننا ستبوء بالفشل الذريع. إذ إن إدماج قوات الدعم يرتهن بتوجيه هزيمة شديدة لها، ووقف الدعم الخارجي القوى عنها، وهى مسألة من الصعب رؤيتها قريبا. مقابل ذلك، يبدو واضحاً أن الجيش السوداني بقيادة البرهان لا يرى من أفق للحل سوى استمرار العمليات العسكرية حتى سحق قوات الدعم. وإن كان ما سبق هو التحدي العصي الرئيسي للصراع في السودان، يظهر في الخلف تحد رئيسي كبير لا يزكى الصراع، بقدر ما يساهم في تعقيده وإطالته، ويكمن في سقوط السودان-حتى الآن- من حسابات واهتمامات الكبار. إذ مع تقديرنا البالغ للمبادرات الإقليمية المطروحة للحل، إلا أن الصراع السوداني بتعقده الشديد الذي يحتاج إلى وقت وجهد وحلول مبتكرة وإرادة ومتابعة وفرض النفوذ لتنفيذ المقررات وإيقاف التدخل الخارجي المفسد، في أمس الحاجة لوساطة تقودها قوى دولية بالتنسيق مع/ أو بالتوافق مع المبادرات والدول الإقليمية. وكما هو معروف، أن المنطقة بأكملها تقريبا قد سقطت من حسابات واشنطن الاستراتيجية منذ عقد تقريبا، فضلا عن انشغالها التام بالحرب الأوكرانية. وعلى الجانب الآخر، تعتمد الصين سياسة ترتكز على الحياد وعدم التدخل، وبالتالي كما تسير عليه مواقفها الآن، غير مستعدة للتوسط بقوة في الصراع. وإن كنا نرى أنه لا يزال إمكانية أن تلعب الصين دورا حاسما في الصراع بسبب مصالحها الاقتصادية الكبيرة في السودان والمنطقة عموما، كما نرى أيضا أن قطر بفضل دورها النشط كوسيط على مدار أعوام، وحيادها البارز، وخبراتها التفاوضية الواسعة؛ من الممكن أن تبادر بوساطة بناء ثقة بالتوافق مع القوى الدولية والإقليمية لحلحلة الأزمة، أو على أقل تقدير لإقامة هدنة مستمرة لإيقاف نزيف الدماء وحماية المدنيين. وملخص البيان، انزلق السودان في تحد عسير للغاية، حيث من الصعب للغاية توافر صيغة تعايش بين الجيش وقوات الدعم السريع، كذلك صعوبة تحقيق انتصار حاسم على قوات الدعم مما يدفعها للقبول بخطط الدمج. علاوة على تورط أطراف خارجية مما يساهم في تأجيج حرب الوكالة وإطالة أمد الصراع. وبالتالي، فمن المؤكد أن الحل النهائي في السودان، بل حتى إقامة هدنة مستمرة، يحتاج إلى وقت ووساطة دولية قوية تقدم حلولا مبتكرة. ولنا أسوة في ذلك في ليبيا واليمن وسوريا التي تحولت إلى مناطق صراعات مزمنة بسبب الصراع على النفوذ والثروة والتدخل الخارجي المفسد وغياب الوساطة الدولية الحاسمة.
1926
| 30 مايو 2023
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن...
6120
| 26 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات...
4479
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه،...
3342
| 29 سبتمبر 2025
تواجه المجتمعات الخارجة من النزاعات المسلحة تحديات متعددة،...
1605
| 26 سبتمبر 2025
بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون...
1332
| 28 سبتمبر 2025
أُنّشِئت الأمم المتحدة في العام ١٩٤٥م بعد الحرب...
1197
| 28 سبتمبر 2025
من أخطر ما يُبتلى به التفكير البشري أن...
1059
| 29 سبتمبر 2025
في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ...
987
| 02 أكتوبر 2025
منذ أكثر من مائة عام ارتُكبت واحدة من...
873
| 30 سبتمبر 2025
في لحظة صفاء مع النفس، يطلّ النسيان عليَّ...
828
| 30 سبتمبر 2025
كم مرة قلت «نعم» في العمل بينما في...
654
| 02 أكتوبر 2025
لم تكن كلمة سموّ الأمير تميم بن حمد...
630
| 26 سبتمبر 2025
مساحة إعلانية