رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
منذ تولى الرئيس شي جين بينج قيادة الصين في 2013، نال اهتمام الصين بما يسمى الجنوب العالمي أو دول الجنوب، وهي مرادف لدول العالم الثالث المصطلح القديم الذي عفى عليه الزمن، ومرادف أيضا-عند البعض والصين- للدول المعارضة للهيمنة الغربية الأحادية، وليس بالضرورة في عداء صريح مع الغرب. فمنذ توليه، لا يخلو تقريبا أي خطاب خارجي للرئيس شخصيا أو كبار المسؤولين عن دول الجنوب ودورها المركزي في النظام الدولي الجديد. تعمل الصين منذ تولى بينج على تكريس دورها القيادي في العالم بصورة صريحة ومباشرة إذ لا تخفي ذلك، وفي أوقات تعلن ضمنيا عن رغبتها في الهيمنة المنفردة، وفي الأغلب تعلن عن سعيها لتأسيس نظام دولي متعدد الأقطاب. وفي كلتاً الحالتين، فدول الجنوب هي القاطرة التي تعول عليها الصين لترسيخ هيمنتها الدولية. أو كسر الهيمنة الغربية لترسيخ التعددية، أو حتى تقاسم القيادة مع واشنطن في إطار نظام ثنائي القطبية، وهو أمر ضروري في كل الحالات وتعمل عليه الصين والشواهد لا حصر لها. المنطلق الرئيس للخطاب الصيني الموجه لدول الجنوب يتمحور حول الدور الفعال للجنوب في إطار إصلاح الحوكمة الدولية، والتي بدورها تنطلق من أساس (دمقرطة العلاقات الدولية)، مما يعني إصلاح النظام الدولي القائم ومؤسساته وقواعده بحيث تكون أكثر عدلاً وإنصافاً- لا تحابي مصالح الغرب فقط- وأن يكون لدول الجنوب دور فيه خاصة في مؤسساته الرئيسة متساو مع القوى الغربية. والصين لا تغازل دول الجنوب خطابياً فقط، بل الأهم هو ما تقوم به على أرض الواقع، وهنا الشواهد والأدلة لا حصر لها، من المشاركة في مشاريع بنية تحتية تقدر بالمليارات عبر مبادرة الحزام والطريق، ومساعدات تنموية ومنح مليارية سنويا، ومساعدات خاصة بالتعليم والطاقة النظيفة، إلى مساندة مرشحي دول الجنوب لتولي مناصب رفيعة وقيادية في الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية، وتقديم مساعدات مالية وفنية للمنظمات الإقليمية، وأخيراً، دعم دول الجنوب للانضمام للمنظمات الدولية الجديدة المناهضة للغرب وعلى رأسها البريكس. والحقيقة أن ما قامت به الصين من جهود جبارة لدول الجنوب صنفها بصورة شبه رسمية كزعيم دول الجنوب، وهي بذلك- وفقا لانصار الجرامشية الجديدة- قد مهدت الطريق لتقبل دول الجنوب لهيمنتها الدولية بصورة طوعية. وهذا في ظل أمرين في غاية الأهمية، أولهما تراجع قوة الغرب بقيادة واشنطن في النظام الدولي، والثاني هو التنامي المطرد لقوة كثير من دول الجنوب، حيث تضم دول باتت مصنفة كقوى متوسطة في النظام الدولي مثل جنوب أفريقيا والبرازيل. حازت قمة شنغهاي الأخيرة القمة الخامسة والعشرين في الصين على اهتمام واسع لم تحظى به قمم منظمة التعاون شنغهاي في السابق، في افتتاحيات صحف عالمية كبرى مثل النيويورك تايمز، وواشنطن بوست، وصفت القمة بأنها قمة نهاية الهيمنة الغربية، وقمة إعلان النظام العالمي الجديد بقيادة الصين وغيرها من العناوين ذات المعنى. وتلك الأوصاف لم تأت من الأهداف الطموحة المعلنة المتوخاة من القمة، بل من التهافت الواسع للمشاركة في القمة، إذ للمرة الأولى يشارك في القمة نحو عشرين زعيماً بعضهم من دول لم تكن تولي اهتماما كبيرا بشنغهاي بقدر اهتمامها بفعاليات أخرى خاصة البريكس. ولعل كانت المفاجأة الكبرى التي أعلن عنها الرئيس بوتين في كلمته هي عشرات طلبات الالتحاق التي قدمتها الدول للانضمام للمنظمة بصفة رسمية. إن تهافت المشاركة بجانب عشرات طلبات الالتحاق هي جميعها تقريبا من دول الجنوب، أو المصنفة ذلك، والأغرب هو أن منظمة شنغهاي ليست ذات أهداف عالمية أسوة بالبريكس أو الحزام والطريق، بل إقليمية المشاركة والأغراض بالأساس. ويعكس ذلك بصورة لا تخطئها العين الكثير من المؤشرات الحاسمة: -إقرار دول الجنوب بالقيادة الصينية المفيدة لهم. -سعي دول الجنوب للاستفادة من أية تنظيمات تقودها الصين. - إقرار دول الجنوب بالنظام الدولي الجديد الذي على الأقل لم تعد الهيمنة الغربية فيه مطلقة. -رغبة دول الجنوب القوية في الوقت عينه في التحرر من الهيمنة الغربية المطلقة التي باتت أكثر وطأة على العالم. في البيان الأخير، جاءت قمة شنغهاي الأخيرة لتقر نظاما دوليا جديدا، معسكر ناشئ قوي من دول الجنوب بقيادة الصين، ومعكسر غربي يتداعى من داخله قبل تحديه من الخارج. والواقع أن الصين عبر تكتل الجنوب في طريقها إلى قيادة دولية راسخة أو حتى هيمنة مطلقة في المستقبل، لكنها هيمنة مختلفة عن باقي صور الهيمنة على مدار التاريخ، هيمنة ذكية جعلت العالم يتقبلها أو يوافق عليها طوعاً.
246
| 21 سبتمبر 2025
مثل الهجوم الإسرائيلى على أعضاء المكتب السياسى لحركة حماس فى الدوحة، حدثاً صادماً غير متوقع على الإطلاق، إلى الدرجة التى جعلت الكثير يعتقد بأنه كان بعلم وتنسيق مع الحكومة القطرية، وهذا قطعاً يخالف تماماً المنطق والحقيقة، وسيتم دحضه فى المقال. الهجوم الإسرائيلى الغاشم على قطر انتهاك صارخ لسيادة دولة عضو فى الأمم المتحدة، دولة مسالمة، ومن ثم، فهو جريمة عدوان متكاملة وفقا للقانون الدولى ومبادىء الأمم المتحدة. ليس من المتصور على الإطلاق أن تتواطأ دولة على انتهاك سيادتها وقتل مواطنيها تحت أية ظرف من الظروف، لاسيما وأن القيادة القطرية تتسم بحكمة وحصافة بالغة. فالتداعيات الوخيمة الناجمة عن تواطؤ الدولة ضد سيادتها ومواطنيها، تفوق بأضعاف مضاعفة أية مكاسب أخرى حتى ولو كانت استراتيجية. وحقيقة الأمر، أن وجود مكتب لحركة حماس فى الدوحة، لا تتداخل فيه أية اعتبارات استراتيجية كبرى لقطر، فهو لخدمة القضية الفلسطينية، وتسهيل التفاوض والمباحثات بين الأطراف. بل والأدهى من ذلك هو ما جاء على لسان رئيس الوزراء الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثانى، بقوله الصريح المباشر عقب الهجوم “بأن مكتب الحركة قد أنشىء بطلب أمريكى إسرائيلى للتفاوض” كما قال ما مفاده أن جميع مسارات التفاوض والاتفاقات منذ 2014 وحتى المفاوضات الجارية لإنهاء الحرب فى غزة، تتم بوساطة قطرية بالتواصل مع المكتب أو أعضائه. إذن، ما يمكن قوله، أن انتقال المكتب من الدوحة إلى أية عاصمة أخرى، لن يشكل خسارة استراتيجية لقطر، بل هو خسارة استراتيجية لوسيط نزيه متمرس لديه قنوات مفتوحة مع الجميع. الهجوم على قطر تم بعلم أمريكا، وربما بدون رضاء أمريكى تام، بسبب الجنوح الإسرائيلى الماجن، ففى جميع الأحوال، فهو خطأ استراتيجى شديد الفداحة، وتتجلى هذه الفداحة فى صور وزوايا متعددة لا يمكن استيعابها جميعها فى المقال، سنكتفى بذكر أهمها: - تآكل الثقة الخليجية فى الولايات المتحدة والشراكة المتميزة الوثيقة معها. بطبيعة الحال لن يؤدى الهجوم إلى انهيار الشراكة الخليجية الأمريكية على الفور، والتى لا تنحصر فى الجانب الأمنى فقط بل أضحت شراكة استراتيجية شاملة. لكنها بالتأكيد ستدفع دول الخليج إلى إعادة تقييم هذه الشراكة على نحو جدى وعميق بحيث تتضمن-ضمن أمور أخرى- البحث عن شركاء أمنيين آخرين. فالهجوم سابقة خطيرة وخطأ لا يغتفر من شريك أمنى مفترض أنه مضطلع كلية بحماية أمن الخليج، ولعل قادة دول الخليج باتوا على قناعة تامة أن الجنوح الإسرائيلى بقيادة اليمين المتطرف، قد خرج عن السيطرة التامة حتى السيطرة الأمريكية، مما يزيد قناعتهم أيضا بان الشراكة الأمنية مع واشنطن باتت على المحك. وواقع الأمر أن تآكل الشراكة الأمريكية مع الخليج، ستكون أضراره بالغة على واشنطن فى إطار المتغيرات والتحديات الواسعة التى يمر بها العالم عموما وواشنطن خصوصاً. فالخليج بات من أكبر الداعمين للاقتصاد الأمريكى وهو ما تجلى فى الصفقات التريليونية التى أبرمت خلال زيارة ترامب الأخيرة للخليج، والخليج الضامن الرئيس لتمديد الوجود الأمريكى فى المنطقة الذى يساهم فى الحفاظ على الهيمنة العالمية لواشنطن، الخليج يمثل مرتكزا رئيسيا فى تحالفات واشنطن الدولية لموازنة الصين وتحالفاتها المتنامية والتى برزت بقوة فى قمة شنغهاى الأخيرة، الخليج أكبر داعم لواشنطن فى محاربة الإرهاب، وأخيراً الخليج صمام الأمان للاستقرار فى المنطقة. لذا، ليس من قبيل المبالغة القول إن الهجوم خطأ استراتيجى فادح، ويبدو أن الإدارة الأمريكية قد تنبهت لذلك سريعا إذ ابدت اسفها العميق وانتقدت الضربة فى سابقة نادرة. - الهجوم على الدوحة قد عكس بصورة جلية نوايا إسرائيل بقيادة اليمين المتطرف، وهو ليس فقط احجامها التام عن التسوية فى غزة، بل أيضا نوايا توسعية وخطط لإشعال بؤر جديدة للتوتر فى المنطقة. إذ فيما يبدو أن الاصرار ليس فقط على خطة الترحيل الكارثية للغزاويين من خلال وأد أية فرص للتسوية، بل الشروع فى مخطط إسرائيل الكبرى غير القابل للتحقيق عبر ضرب عرض الحائط بالهجوم على قطر الذى لم يخطر على خلد أية محلل، فالرسالة واضحة سنقدم على عمل أى شىء ونضحى بكل الوسطاء والشركاء. والنتيجة الكارثية على إسرائيل قبل الجميع، الإغراق فى مستنقع من التصعيد العسكرى، تدمير مخططات التطبيع التى كانت تسير بوتيرة سريعة نسبياً، تآكل صورتها وشرعيتها الدولية بصورة خطيرة، وهو ما تجلى مؤخرا فى اعتراف 142 دولة فى الأمم المتحدة بإسرائيل من بينهم شركاؤها التقلديون مثل ألمانيا وانجلترا. فى النهاية، منذ ما يقرب من عقد، والكتاب والسياسيون الأمريكيون المحذرون من مغبة الانحياز الأمريكى المطلق لإسرائيل فى تزايد مطرد. إذ باتوا يصفون إسرائيل بـ «العبء” الخطير على واشنطن، الذى ضمن جملة أمور، يشتت ويبدد تركيزها وجهودها الاساسية عن قضاياها الاستراتيجية خاصة مواجهة الصين، وتساهم فى تشوية صورة وسمعة واشنطن عالميا، وتساهم فى تقويض الشراكة المتميزة مع الحلفاء. وهجوم الدوحة خير شاهد على ذلك.
378
| 16 سبتمبر 2025
عندما بدأت حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة، بشر عدد لا يستهان به من المراقبين بنظام دولى جديد على أنقاض هذه الحرب، وأي متخصص أو دارس للعلوم السياسية يعرف أن ذلك مبالغة كبيرة، إذ إن الحرب الأوكرانية وهي أخطر وأكبر حرب تقليدية بعد الحرب العالمية الثانية، لم تؤد إلى تأسيس نظام دولي جديد. فالأخير ينشأ عادة على أنقاض حرب عالمية كبرى أو انتقال جذري للقيادة في النظام الدولي حتى بدون حرب كبرى كما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتأسيس نظام أحادي بقيادة واشنطن. والواقع أن ما يجب قوله إن الحرب الأوكرانية كانت كاشفة لطور أو معالم هذا النظام الدولي الجديد غير محدد المعالم بدقة بعد لكن على الأرجح نظام دولي متعدد الأقطاب، والحرب في غزة قد عمقت هذا الانكشاف. إذ من خلال مجمل ما حدث في العالم بما في ذلك مواقف الدول المتعددة من الحرب وعلى الأخص تجاه إسرائيل، يتضح بجلاء عمق هذا الانكشاف. تطل علينا حرب الإبادة على غزة بمفاجآت مذهلة يوما بعد يوم تحطم في أجزاء كبيرة من تابوه أو صنم الدعم والتعاطف العالمي الواسع لإسرائيل. وكانت البداية الموقف العالمي الشعبي من إسرائيل وبالأخص، وهي من المفارقات المحزنة في قلب العالم الغربي بما في ذلك الولايات المتحدة. فحرب الإبادة اشعلت انتفاضات مليونية في كل العواصم الأوروبية وكندا واستراليا كان آخرها مظاهرة مليونية في استراليا لإيقاف حرب التجويع، وتمرد طلابي لم يحدث منذ حرب فيتنام في الولايات المتحدة. ودلالات ذلك متعددة شديدة العمق، ومنها الفكاك الشعبي من النيوليبرالية الأنانية المتطرفة بالتوازي مع تنامي التوجهات الأخرى اليسارية والإنسانية والخضر، ودلالة ذلك يكمن في ضعف الهيمنة الغربية بصورة عامة ونموذجها النيوليبرالي في العالم بصورة خاصة. وأيضا قوة وسطوة الإعلام في التأثير وهنا نذكر الدور الرائد لقناة الجزيرة الواسعة الانتشار في الغرب في نقل الحرب ومآسيها المخزية الكارثية منذ أول يوم لحظة بلحظة، ودلالة ذلك أيضا هو تعدد وانتشار القوة في العالم إذ لم تعد محصورة في القوة العسكرية والاقتصادية فقط، فالإعلام بحد ذاته قوة رهيبة، وهذا يعد إشارة بالغة على عالم متعدد الأقطاب والقوى في مرحلة الانطلاق أو الإعلان رسميا. وعلى المستوى الرسمي، تسببت الحرب في تنامي كتلة عالمية من دول كانت تعد صديقة لإسرائيل والغرب، ضد إسرائيل، فجنوب أفريقيا المصنفة كحليف للغرب قادت المبادرة في رفع قضية ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية، بدعم علني وضمنى من عشرات الدول. ودول أخرى قلصت من علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل، وأخرى انخرطت في صدامات دبلوماسية قوية معها. ودلالة كل ذلك، هو نمط التعددية الذي بات سائدا في العالم، أي الخروج من كنف الهيمنة الغربية بل وتحديها. إذ يمكن القول إن حرب غزة كانت المتنفس لهذه الدول للتعبير عن نهج جديد في سياستها قائم على الاستقلالية مدعوماً أو مدفوعاً بتغير حاد في المزاج والسياسات الداخلية. رغم أهمية الدلالات السابقة فإنها لا تقارن بالمفاجأة الأخطر على الإطلاق المحطمة فعليا وعمليا للصنم الإسرائيلي، والكاشفة بجلاء ليس فقط بالتعددية بل بالتهاوي الخطير للهيمنة الغربية، وهي التحول الجذري للمواقف الأوروبية تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية. في مشهد غريب تحولت كثير من الدول الأوروبية التي كانت داعما مطلقا لإسرائيل بين ليلة وضحاها إلى أكبر ناقد لإسرائيل، ففي 2024 اعترفت حوالي 5 دول أوروبية بفلسطين مخالفة للعرف السابق الذي تأسس على ألا اعتراف بدون تسوية كاملة، وفي الشهر الماضي أعلنت كل من فرنسا وأستراليا وإنجلترا عزمها الاعتراف بفلسطين. هذا بخلاف الخلافات الدبلوماسية والحرب الكلامية المستعرة بين إسرائيل ومعظم الدول الأوروبية، ومنع تصدير السلاح لإسرائيل وغيره. والشاهد في ذلك، هو عمق التحول الجذري في النظام الدولي القائم الآن، فالاعتراف الأوروبي قد جاء ضمن جملة أمور، ليؤكد ضمنيا على التعددية وتسارع الدول الأوروبية على احتلال موقع متميز في هذه التعددية، وتعميق استقلالها عن واشنطن، والالتفات إلى مصالحها الخاصة دون النظر إلى تداعيات ذلك على تصدع النظام الغربي. خلاصة القول، حطمت حرب الإبادة في غزة فعليا الصنم الإسرائيلي الذي ظل راسخا لعقود خاصة في العالم الغربي، والحقيقة أن تحطيم هذا الصنم أحد البواعث القوية الكاشفة للنظام الدولي الجديد الذي فيما يبدو سيتم الإعلان عنه رسمياً عن قريب.
384
| 09 سبتمبر 2025
لعل الكثيرين حتى المتخصصين منهم لم يسمعوا عن مسألة نسبية حقوق الإنسان، إذ نادرا ما تشير الكتابات المتعلقة بحقوق الإنسان عن النسبية. وتعد الصين على رأس الدول المحدودة التي تشدد عادة خاصة في خطاباتها تجاه دول الجنوب على مسألة نسبية حقوق الإنسان. ويشير مفهوم نسبية حقوق الإنسان خاصة الذي تروجه الصين وهو التعريف الأنسب، أن لكل مجتمع في العالم خصوصية ثقافية واجتماعية وتاريخية معينة قد نتج عنها قيم ومبادئ محددة وخاصة أيضا لحقوق الإنسان، والديمقراطية كذلك. وبالتالي، فمسألة النموذج الغربي لحقوق الإنسان الذي يجب فرضه تحت ادعاء (النموذج العالمي الوحيد المثالي لحقوق الإنسان)، مسألة مرفوضة غير موضوعية بالضرورة. هل النموذج الغربي لحقوق الإنسان هو المثالي حقا، وهل التشبث بالنسبية هو تملص من الحقوق الأساسية للإنسان، وذريعة للاستبداد بمختلف أشكاله؟ في خضم موجة التراجع الديمقراطي القوية التي تشهدها الديمقراطيات الغربية العريقة، خلصت الكثير جدا من الدراسات التي استفاضت في تلك الظاهرة المفاجأة والخطيرة إلى أن النموذج الليبرالي الغربي لم يطبق يوما ما بصورة مثالية أو كاملة في أية ديمقراطية غربية، وكان مدعاة ذلك ضمن جملة أمور عديدة الخصوصية والخلفية الخاصة لكل دولة غربية وحتى التابعة للمعسكر الغربي مثل اليابان والهند وكوريا الجنوبية. إذ وجدت مثلا أن الحقوق الكاملة للمرأة، أو بالأحرى المساواة التامة مع الرجل في جميع الحقوق عملا بالنسوية مجرد خرافة ولم تطبقها حتى النماذج التي اقتربت من المثالية مثل الدول الإسكندنافية. إن ظاهرة التراجع الديمقراطي في الغرب قد فتحت الباب على مصراعيه لدراسات متعمقة أكثر جدية وشمولية للديمقراطية وحقوق الإنسان، سبرت أغوار الظاهرة في مهدها وأبعادها المختلفة وفي كل الثقافات بصورة غير مسبوقة. ونال مثالية النموذج الغربي نصيبا وافرا من النقد والتحليل، وكان نتاج ذلك خلاصات مدهشة، إذ لم يتبين خرافة مثالية أو استعلاء النموذج الغربي فحسب، بل إن الحضارات العريقة وعلى رأسها الحضارة الإسلامية والآسيوية بكل تنويعاتها لديها قيم ومبادئ متأصلة لحقوق الإنسان سابقة بقرون للحضارة الغربية، وأكثر سمواً وعقلانية عنها. إذ على سبيل المثال، تروج الصين في خضم النسبية لقيم ومفاهيم لحقوق إنسان نابعة من الثقافة الكونفوشوسية تضمن في جوهرها حقوق إنسان أساسية موضوعية ترمى فى المحصلة الأخيرة إلى سعادة الإنسان والمجتمع ورفاهيته. إذ تروج الصين أن حقوق الإنسان الحقيقة تبدأ بالتنمية والرفاهية كأولوية مطلقة للدولة، إذ بدون تحقيق ذلك لن تتحقق الحقوق الفردية بمفهوها الغربي، بل سيسقط المجتمع في حالة من البؤس وعدم الاستقرار والفوضى، فأين إذن حقوق الإنسان في مجتمع مثل ذلك؟! إن التشبث بخصوصية حقوق الإنسان، أي ضمنيا نسبية حقوق الإنسان، لا يعد ذريعة للتملص من الحقوق الأساسية للإنسان والاستبداد. وهنا الحديث ليس على الدول الاستبدادية بالأساس، بل على الدول التي حققت معجزات اقتصادية ومستويات قياسية في رفاهية شعوبها في ظل تمسكها بقيمها الخاصة للديمقراطية وحقوق الإنسان. ولعل أبرز مثال على الإطلاق هي دول مجلس التعاون الخليجي، والتي وفقا للمؤشرات الغربية ذاتها لديها سجلات عالية في حقوق الإنسان تفوق دولا غربية، بل والأغرب من ذلك تكاد تكون مستويات الجريمة والفساد منعدمة. تطبق دول الخليج نموذجا خاصا للحكم وحقوق الإنسان وهو نموذج الحكم الرشيد الذي أصبح نموذجا عالميا ملهما، مستمدا من قيم الإسلام الحنيفة، والخصوصية الثقافية والاجتماعية لدول الخليج. ويتبدى سمو هذا النموذج على النموذج الغربي- الذي ليس سيئا في مجمله- فيما يتعلق بحقوق الإنسان في مجموعة أولوياته ومفاهيمه الخاصة، والتي من أهمها، أسبقية رفاهية المجتمع وعدالة التوزيع فى الثروة على كل شيء، أسبقية استقرار المجتمع على الفوضى من خلال الإفراط في التركيز على الحقوق الفردية التي لا تنتهى عملا بالنموذج الغربي مثل حقوق الشواذ والمتحولين جنسيا، ضمان وصيانة حقوق المرأة كاملة لكن في إطار الحفاظ على الأسرة والحقوق الأساسية للرجل، أي كبح مظاهر النسوية المتطرفة الداعية إلى حرية الإجهاض المطلقة، والتحكم التام للمرأة في أموال وثروات زوجها، بل أولوية توليها مناصب ووظائف حصرية للرجال مخالفة للفطرة الطبيعية، وهو ما بات يلقى معارضة شديدة في الغرب نفسه. خلاصة القول، نسبية حقوق الإنسان هي الأصل لحقوق الإنسان، فمسألة عالمية حقوق الإنسان والمرادف لها كما يصور لعقود هو النموذج الغربي هي مجرد خرافة محضة الغرض منها الاستعلاء والتدخل في شؤون الدول، وأكبر دليل على ذلك، هو التذمر أو التمرد المتنامي في الغرب على النموذج النيوليبرالي ذاته، والذي أدى إلى حدوث اختلالات مجتمعية رهيبة وفارق شاسع بين الطبقات وأزمة هوية، وفوضى خطيرة من خلال الإفراط والتحديث اليومي لحقوق الإنسان الذي بلغ حد الجنون بتأسيس جمعيات خاصة لحماية (أظافر القطط)، ومن شواهد ذلك الخطيرة صعود شعبية اليمين المتطرف المناهض للديمقراطية إلى مستويات صاروخية.
504
| 02 سبتمبر 2025
وصفت قمة ألاسكا التي جمعت بين الرئيس ترامب والرئيس بوتين قبيل انعقادها بـ «القمة التاريخية» التي ستنهي الحرب الأوكرانية المعقدة الدائرة منذ أكثر من عامين. بيد أن نتائجها كانت مخيبة صادمة للعالم قبل أوكرانيا وأوروبا أكبر الخاسرين منها. وصفت بالتاريخية، وارتفع سقف التكهنات بإنهائها للحرب، ليس لأنها فقط قد جمعت الزعيمين في قمة استثنائية لأول مرة منذ عودة ترامب للبيت الأبيض، وبعد قطيعة تامة مع روسيا منذ الحرب، أسوة بالقمم التاريخية التي تمخض عنها ترتيبات دولية جذرية جديدة مثل مؤتمر يالطا 1945؛ بل أيضا لأن الزعيمين قد ذهبا إلى القمة للاتفاق على إنهائها من حيث المبدأ، والتفاوض على بعض النقاط الخلافية في سياق الإنهاء. بعبارة أكثر وضوحاً، ذهب ترامب للقمة بعد الاتفاق مع الأوروبيين وأوكرانيا على إلزام روسيا بوقف إطلاق النار كشرط أساسي، وتقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا بعد التفاوض النهائي على صفقة لإنهاء الحرب. وصف الزعيمان القمة في المؤتمر الصحفي الذى انعقد بعدها بالناجحة، الممهدة لمزيد من التواصل والحوار لإنهاء الحرب. لكن كلمة الزعيمين التي عُدت مخرجات القمة التي لم يصدر عنها مقررات أو مخرجات واضحة رغم وصفها بالتاريخية!!، قد خلت تماما من أية إشارة لوقف إطلاق النار وهو ما كان صادما ومخالفا لجميع التوقعات، فالاتفاق على وقف إطلاق النار كان بديهياً لقمة تاريخية لإنهاء الحرب، وليس لهدنة والتي لم تتحقق حتى بعد القمة حيث سرعان ما تم استئناف القتال بين روسيا وأوكرانيا. عجت الصحف العربية والغربية بعناوين تشير بوضوح بانتصار بوتين في القمة، أو باعتباره الفائز الأكبر أو الوحيد من القمة. فالقمة قد فكت العزلة عن بوتين وروسيا، وأرجأت فرض مزيد من العقوبات الأمريكية عليه، لكن ما هو أخطر من ذلك، قد منح تعهداً صريحا من ترامب بالسيادة المطلقة على القرم أو عدم المطالبة بها، وعدم انضمام أوكرانيا للناتو. فضلا على عدم مطالبته أو فشل إقناعه بوقف إطلاق النار، وهو ما يعنى إصرار بوتين على عدم التنازل عن المقاطعات الأربع التي احتلها في أوكرانيا، أو على أقل تقدير شرق أوكرانيا ومنطقة الدونباس وفقا لتسريبات أوروبية. يعنى اختصاراً يريد بوتين تسوية نهائية وفقا لشروطه الخاصة، تتضمن أيضا نصف المعادن النادرة لأوكرانيا، وعدم مطالبته بتعويضات عن الحرب، وحكومة جديدة في أوكرانيا...وغيرها. في تقديرنا، إن أخطر ما تمخض عن القمة، هو اتساع الهوة بين أوروبا وأمريكا، إذ على أقل تقدير تعد تعهدات ترامب لبوتين بعدم انضمام أوكرانيا للناتو، والاعتراف بسيادة موسكو على القرم؛ أمرا عاكساً للرؤية الأمريكية العامة لإنهاء الحرب، وليس بترامب شخصياً، أو أقصى ما يمكن أن تفعله واشنطن لهذه الحرب التي لا تعنيها كثيرا بقدر ما يعنيها الصين والخلافات الشائكة معها خاصة تايوان. وهذا صادم لأوروبا لأنه يعنى تخلي أمريكي ضمني بأمن أوروبا، والتي تصر على ضم أوكرانيا للحلف أو عدم إرجاء الضم بصورة نهائية، وتوفير ضمانات أمنية أمريكية حقيقية لأوكرانيا، وانسحاب روسيا من كامل أوكرانيا بما في ذلك القرم. ولهذا السبب، رافق أكبر قادة أوروبا بقيادة ستارمر رئيس وزراء بريطانيا زيلنسكى في زيارته للبيت الأبيض التي لم تثمر أي شيء، ليس فقط خوفا من تكرار مهزلة اللقاء الأول، بل أيضا خشية من ضغط ترامب عليه للقبول بتنازلات تمس الأمن الأوروبي، إذ تعد أوروبا روسيا بعد الحرب بمثابة تهديد وجودي لها، وعلى يقين أن طموحات بوتين لا تتوقف عند أوكرانيا فقط. في التقدير الأخير، تعد قمة ألاسكا كاشفة تماما لإصرار بوتين على إنهاء الحرب وفقا لشروطه، أي عدم تقديم تنازلات جوهرية، وموقف أمريكي عاجز ومتردد على إنهاء الحرب، بل يريد بدلا من ذلك إنهاءها بما يضمن مكاسب أمريكية بعيدة عن أوكرانيا، وموقف أوروبي عاجز أيضا على إنهاء الحرب دون الولايات المتحدة، لكنها تفسح الطريق أمام مزيد من التوحد والعسكرة الأوروبية للاعتماد على نفسها للتصدي لروسيا. وفى النهاية، فجولات الصراع بين روسيا وأوكرانيا لن تنتهى في القريب العاجل، بل ستزداد عنفاً.
198
| 26 أغسطس 2025
للمرة الأولى منذ تأسيس حزب الله في ثمانينيات القرن المنصرم، يواجه الحزب إجماعا دوليا وإقليميا وداخليا على نزع سلاحه. ومآرب الأطراف المختلفة حتى الساعية ضمنيا لنزع سلاحه أو لم تعبر علانية، معروفة ومفهومة. وعلى الصعيد الداخلي اللبناني، وبعيداً عن توازنات القوة الداخلية والصراعات والأحقاد الكامنة، فقط ارتأت القيادة اللبنانية الجديدة بقيادة الرئيس جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام التي أصدرت في الخامس من أغسطس قراراً يعد تاريخياً يقضي بحصر سلاح الحزب بيد الدولة وتحديد جدول زمنى للتسليم؛ باعتبار أن استمرار السلاح بيد الحزب يقوض من سيادة لبنان وقراره السياسي، ويعمق من عزلته، ومبرر لاستمرار الوجود الإسرائيلي في بعض المناطق في الجنوب، وتدخل أطراف خارجية في لبنان خاصة إيران. إذن فالسؤال الأجدى بالإجابة عنه هو هل سيسلم حزب الله سلاحه بسهولة؟ على الرغم من الحملة القوية غير المسبوقة التي يواجهها الحزب لاسيما وأنه في أضعف حالاته على الإطلاق منذ تأسيسه، يبدو أن الحزب عازم بقوة على عدم تسليم سلاحه، ومستعد لتكلفة ذلك. وقد تبدى ذلك تماما خلال الأيام القليلة الماضية بزيارة علي لاريجاني الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني للبنان حيث التقى بقيادات لبنان لتسليم رسالة محددة من طهران مفادها رفضها القاطع لنزع السلاح. وأيضا خطاب السيد نعيم قاسم الأخير الأمين العام للحزب، الذي رفض رفضا قاطعا تسليم السلاح للحكومة اللبنانية، وأن الحزب لا يزال في حالة مقاومة ضد إسرائيل، ومستعد بحسب وصفه إلى خوض معركة «كربلاء مهما كانت التكلفة»، محملاً الحكومة اللبنانية مسؤولية أية فتنة واسعة داخل لبنان، ملمحا أيضا بأنها تنفذ مشروعا أو إرادة أمريكية-إسرائيلية. وقد تم تفسير تحذيرات قاسم خاصة من جانب الحكومة اللبنانية على أنها تهديد صريح بإغراق لبنان في حرب أهلية جديدة. وهو في تقديرنا التحدي الأخطر والأصعب الذى يواجه نزع السلاح، وهذا بدوره يطرح سؤالا حاسما، لماذا يصر الحزب على عدم تسليم سلاحه إلى حد الاستعداد للدفع بلبنان المنهك إلى الحرب الأهلية؟ ولعل الأعجب من ذلك أن الحزب كمقاومة ضد إسرائيل تقريبا شبه انتهى أو على الأقل لا يقوى على المواجهة على المدى المتوسط، بعدما تلقى خسائر فادحة وأعلن استلامه ضمنيا بالتوقيع على اتفاق الهدنة مع إسرائيل في نوفمبر الماضي. الحزب لا يملك قراره واقعياً، ويتسلح بسلاح وحيد قابل للتحقيق بين ليلة وضحاها هو إشعال حرب أهلية في لبنان قد تقضي على اليابس والأخضر ولا تعرف مدى زمنيا للتوقف. والحقيقة أن حزب الله لا يزال الطرف الأقوى في لبنان، ليس فقط بسبب امتلاكه للسلاح، ومنه سلاح ثقيل، والمقاتلين ذوي الخبرة الطويلة، بل في حاضنته الشعبية التي تمثل قرابة 30% من اللبنانيين، يعتبرون الحزب القوة الرئيسية التي تمثلهم وتحميهم من التهميش، ومنحهم قوة نسبية امام باقي الفصائل اللبنانية. وعلى إثر ما سبق، يمكن القول إن معركة نزع سلاح الحزب ليست بالسهلة، فقد تمضي للأسف إلى حرب أهلية، أو فتح إسرائيل جبهة قتال جديدة عنيفة ضد الجنوب، أو تفاهمات معقدة تؤدي إلى تقليص قدرات الحزب العسكرية مقابل تسوية، وجميع تلك السيناريوهات واردة ولا يمكن ترجيح أحدها على الآخر.
543
| 18 أغسطس 2025
في الثامن من أغسطس 2025 وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر بشكل نهائي على خطة احتلال غزة، وسط انقسامات واعتراضات غير مسبوقة حتى داخل إسرائيل حيث اعترض عليها رئيس الأركان الإسرائيلي، وجميع أحزاب المعارضة في إسرائيل، وخارجيا واجهت الخطة اعتراض الجميع عدا الولايات المتحدة، إذ اعترضت أكثر من ثماني دول أوروبية بينهم إنجلترا علانية على الخطة. وأهداف وتفاصيل الخطة بحسب الرواية الرسمية الإسرائيلية، تتضمن القضاء على حماس ونزع سلاحها، وتحرير الرهائن، وتسليم حكم غزة لإدارة مدنية جديدة لا تتبع حماس أو فتح، وستستغرق الخطة نحو عامين سيتم فيه استدعاء قرابة 250 الفا من الاحتياط، وتعمل على مراحل تشمل احتلال المناطق الخالية من الوجود الإسرائيلي مثل مدينة غزة ودير البلح، مع ترحيل المدنيين نحو الجنوب وتوفير مراكز للمساعدات الإنسانية، انتهاءً باحتلال القطاع بالكامل. تواجه الخطة اعتراضات من مناحٍ متعددة، وعند تفحص كل أوجه اعتراض على حدة نجد أن الخطة في مجملها شديدة الكارثية، بل إن واحدا فقط من تلك الاعتراضات أو التداعيات وهو مثلا الحجم الهائل من عدد القتلى المدنيين في غزة المرتقب نتيجة الاحتلال بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كفيل وحده بجعلها خطة تفوق حد الجنون. لكن الملفت هنا هو اعتراضات الداخل الإسرائيلي التي تجمع على أن الخطة ستؤدى إلى انهاك للجيش الإسرائيلي المنهك بالأساس نتيجة سنتين من الحروب المستمرة على جبهات متعددة منذ طوفان الأقصى، كذلك الإنهاك الشديد للاقتصاد الإسرائيلي المنهك كذلك، فضلا عن عدد كبير من الضحايا في صفوف الجيش الإسرائيلي حيث سيخوض حرب عصابات صعبة مع حماس، إذ وصف عدد كبير من الخبراء العسكريين اليهود الخطة بـ «الفخ». يضاف إلى ذلك، تحذير عدد كبير من الخبراء من قتلى الرهائن نتيجة لتداعيات الحرب المتعددة، وتشويه سمعة إسرائيل الدولية وزيادة العزلة الدولية لها، وضعف المواجهة الإسرائيلية على جبهات أخرى أكثر أهمية في الوقت الراهن خاصة الجبهة الإيرانية التي لم تحسم بعد. والواقع أن هذه الاعتراضات تخفى وراءها حقيقة نادرا ما يعلن عنها بشكل صريح، وهى أن إسرائيل قادرة على تحقيق هذه الأهداف المعلنة دون خطة احتلال كاملة، أي غير مبررة على الإطلاق ولا تستدعى احتلال كامل. إذ من المفارقة في هذا الصدد، أن يجهر عدد من الخبراء والسياسيين في إسرائيل أن حكومة نتنياهو لا تعنيها الرهائن على الإطلاق منذ الطوفان وليس الآن، علاوة على ذلك، من الممكن إضعاف حماس بصورة أكبر عبر تكثيف الضربات والاغتيالات في أماكن تواجدها، كما أنها لم تعد تشكل تهديدا خطيراً لأمن إسرائيل بعد ما تعرضت لها من إنهاك وإضعاف على مدار عامين، وهذه حقيقة. فرض الترحيل كأمر واقع تشي الاعتراضات المتعددة على خطة الاحتلال خاصة الإسرائيلية أن الخطة لها مآرب أخرى غير معلنة، إذ أن مسوغات إسرائيل المعلنة من الخطة غير مقنعة تماما حتى للداخل الإسرائيلي، وتعلم حكومة نتنياهو ذلك أيضا. خطة ترحيل الغزاويين أو إخلاء قطاع غزة، خطة قديمة، ومع حالة التهديد الوجودي التي شعر بها الكيان بقوة منذ طوفان الأقصى، ارتأى الكيان أن الوقت قد حان لتنفيذها -رغم صعوبتها الشديدة- ولا بد من تنفيذها باي شكل كان ومهما كانت التكلفة. وبعد فشل جميع المحاولات القوية خاصة منذ مجيء إدارة ترامب، إذ تم عرض التهجير علانية على مصر والأردن التي رفضتا بشكل قاطع هذا المخطط الشيطاني. تأتى خطة احتلال غزة كمسعى لفرضه كأمر واقع، فخطة احتلال غزة-وفقا للخبراء- التي ستدوم أكثر من سنتين على الأرجح؛ ستجهز على ما تبقى من بنية تحتية محدودة في القطاع تماماً، كما سيسقط فيها مئات الآلاف بين شهداء وجرحى نتيجة للمعارك العسكرية، وصعوبة الحصول على المساعدات الغذائية والإنسانية عن عمد أو غير عمد، باختصار ستحول الخطة غزة إلى واحدة قاحلة غير قابلة للحياة وتحتاج عقودا ومليارات الدولارات للعودة للحياة مجدداً. وهذا-وفقا لتصور حكومة نتنياهو- سيفرض ضغوطا شديدة على المجتمع الدولي والدول المعارضة للترحيل خاصة مصر، للموافقة على استقبال الغزاويين بأعداد كبيرة لحمايتهم من إبادة جماعية غير مسبوقة في التاريخ الحديث. إسرائيل ماضية في خطتها بقيادة اليمين المتطرف ونتنياهو الذى يرى في الخطة فرصة سانحة للبقاء أطول فترة ممكنة للهروب من الملاحقات القضائية التي تنتظره. لكن بخلاف تداعياتها الكارثية على الغزاويين؛ فلها تداعيات كارثية على إسرائيل نفسها، إذ من المرجح أن تدفع الخطة إسرائيل لصدام عنيف مع مصر تحديداً سيفضى إلى توتر رهيب في المنطقة كلها، كما ستواجه إسرائيل بعزلة وتشويه دولي غير مسبوق، وربما ستكون خطة الاحتلال مدخلا لفتح جبهات قتال أخرى على إسرائيل، أو تجدد بعضها.
528
| 14 أغسطس 2025
مؤخرا أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون عزمه الاعتراف بدولة فلسطين في خطابه بالأمم المتحدة في سبتمبر المقبل، ثم لاحقه رئيس الوزراء البريطاني الذى أعلن عن نية بريطانيا الاعتراف بفلسطين، ثم جاء بعده موقف كندا التي أكدت إمكانية الاعتراف بفلسطين. وفي العامين السابقين اعترفت عدة دول أوروبية رسميا بدولة فلسطين من أبرزها إسبانيا والنرويج وإيرلندا. وتباينت التعليقات حول خطوة فرنسا وبريطانيا لما لهما من مكانة أوروبية ودولية كبيرة، إذ رأى جانب وهو الأوسع أن خطوة الاعتراف-التي لا تزال مجرد إقرارات مبدئية أو شبه تأكيدات يمكن النكوص عنها- لا تعدو كونها خطوة رمزية حال تنفيذها. بينما يرى جانب آخر أن الخطوة شديدة الأهمية وتعكس تحولا جذريا في الموقف الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية. وينطلق الجانب الذى يرى رمزية الخطوة من عدة منطلقات واقعية من أهمها، أن اعتراف الدولتين بل أوروبا كلها بدولة فلسطين لن يغير من الأمر شيئاً في شأن القضية الفلسطينية خاصة حل الدولتين وردع حرب الإبادة ومخطط التهجير للكيان الصهيوني، لأن زمام الأمر كله في يد الولايات المتحدة، فهي الوحيدة القادرة على تحديد مستوى فعل وطموح للكيان داخل فلسطين. علاوة على ذلك، وهو تأكيدا على ما سبق، أن قرابة 70% من دول العالم تعترف بفلسطين وعلى رأسها روسيا والصين، ولن يؤدى ذلك إلى حلحلة القضية، بل يزداد الكيان توحشا وثقة يوما بعد يوم. يعد توقع حدوث تحول أو حل سريع جذري خاصة في سياق التعاطي مع القضية الفلسطينية-المصنفة كأعقد قضية في التاريخ- أمرا لا يستقيم في السياسة الدولية. إذ بطبيعة الحال، من غير المتوقع أو المرجح مطلقا أن يؤدى الاعتراف الأوروبي ولو برمته بقيادة دوله الكبرى (فرنسا، إنجلترا، ألمانيا، إيطاليا) إلى حل القضية الفلسطينية بين ليلة وضحاها، بل زد على ذلك، أن أوروبا لوحدها ليس بمقدورها حل القضية، فهي عامل حاسم بالقطع لكن في إطار تكاتف دولي يضم الولايات المتحدة والقوى الكبرى والصاعدة والمؤثرة. هل معنى ذلك أن الاعتراف الأوروبي مجرد خطوة رمزية؟!، بالقطع لا. عندما تقوم دولتان كبريان عضوان في مجلس الأمن، كانتا من أكبر الداعمين المطلقين لإسرائيل، خاصة إنجلترا، بالاعتراف بدولة فلسطين في سياق موجة عالمية بالاعتراف بدولة فلسطين، إذ من المرجح أن تنضم لهما على الأقل أوروبيا كل من هولندا، ومالطا، وكرواتيا، خلال عام؛ فهذا يعنى أن مساحة العزلة الدولية لإسرائيل بدأت في التوسع، مما يعنى مزيدا من الضغط على إسرائيل وأكبر داعميها. إذ أن الاعتراف سيعقبه بالضرورة خطوات أخرى ربما بصورة متدرجة للضغط المستمر على إسرائيل، كتحجيم العلاقات التجارية أو منع تصدير بعض الأسلحة، ولدينا أمثلة أوروبية حية حاليا، إذ أعلنت هولندا مؤخراً منع بن غفير وسموتريتش من دخول أراضيها على خلفية الدعوة للتطهير العرقي في قطاع غزة وتوسيع الاستيطان في الضفة، وفى العام الماضي علقت ألمانيا في مفارقة لافتة-التي ستكون آخر دولة تعترف بفلسطين، وربما لا تعترف نهائيا-تصدير أية أسلحة لإسرائيل على خلفية حملة الإبادة في غزة. الاعتراف الفرنسي الإنجليزي والأوروبي عامة قد جاء على خلفيتين، الأولى وهى الظاهرية أو غير الحاسمة وهى استمرار حملة الإبادة في غزة التي طورتها إسرائيل بحملة تجويع ممنهجة ومنع دخول المساعدات للقطاع. والثانية الحاسمة، نوايا إسرائيل الواضحة بالهيمنة التامة على الضفة، أي الإجهاز على القضية الفلسطينية كلها، وهو ما تجسد في تصويت الكنيست على قرار-غير ملزم- بضم الضفة ورفض أية خطط لإقامة دولة فلسطينية. وبالنسبة لأوروبا عامة يعد ذلك غير مقبول على الإطلاق، لاعتبارات تاريخية وقانونية، وأخلاقية ناجمة عن ضغوط داخلية، ومصلحية أيضا، إذ تدرك أوروبا كم الفوضى التي ستحل بالمنطقة حال استمرت الحكومة اليمينية الإسرائيلية في مشاريعها الجنونية. ومن هنا، نذهب إلى أهم جانب على الإطلاق من وراء الاعتراف بفلسطين، هو إيقاف نزيف التدهور للقضية، والضغط الشديد على إسرائيل وفلسطين أيضا نحو حل الدولتين. ونجزم أن الاعتراف الأوروبي سيكون عامل ضغط حاسم في إطار ذلك، فهو غير رمزي عندما تتقدمه فرنسا وإنجلترا، وعاكس في الوقت نفسه لسياق دولى جديد تبرز أهم معالمه في رأى عام أوروبي وعالمي أيضا بات أكثر نفورا من إسرائيل، وضاغط بقوة على الحكومات المنحازة لها، وانفصال أوروبي تدريجي عن الولايات المتحدة، أو استقلالية أوروبية ناشئة.
429
| 04 أغسطس 2025
أمست الشراكة الاستراتيجية الوطيدة بين تل أبيب وآسيا الوسطى نموذجاً فريدا أو خاصا أو نادراً أو «غريباً»، للشراكات الاستراتيجية في العلاقات الدولية. إذ أصبحت بعض دول آسيا الوسطى أهم أو أقرب حليف في العالم الإسلامي برمته لتل أبيب، بل رغم تعدد مجالات الشراكة بين الجانبين؛ فقد أصبح مواجهة إيران محور الشراكة الرئيس من الآن وصاعداً. يتنازع في العلاقات الدولية اتجاهان رئيسيان حول تفسير نمط العلاقات في النظام الدولي، الأول التفسيري أو الوضعي في مقدمته المنظور الواقعي، والذى يرتأي أن المصلحة هي المحدد الرئيس للعلاقات. والثاني ما بعد الوضعي وفى مقدمته المنظور البنائي، لا يغفل محدد المصلحة، لكنه يرتأي أن المحددات غير المادية كالهوية والإيديولوجيا حاسمة في تشكيل العلاقات بين الدول. إذ على سبيل المثال، يرى أنصار هذا التيار أن صراع الحرب الباردة المستعر حاليا بين بكين وواشنطن مكمنه الرئيس الاختلاف الإيديولوجي، ومن قبله الحرب الباردة بين واشنطن والاتحاد السوفيتي، والصراع بين إسرائيل وإيران، وروسيا والغرب عموما. والدراسة المتأنية لتلك الأمثلة تظهر صحة هذا المنظور بصورة كبيرة، إذ بالقياس أيضا على دراسة نماذج كثيرة للعلاقات الوثيقة مثل العلاقات الأمريكية الأوروبية، وشبكة التحالفات الأمريكية في المحيط الهادئ؛ تتبين أكثر صحة المنظور. لكن على الرغم من ذلك، فوطأة المصالح في كثير من الأحيان قد تتجاوز حدود التقارب أو الاختلاف الإيديولوجي، بل قد تحول الأعداء إلى حلفاء، والعكس صحيح. والشراكة الاستراتيجية بين بعض دول آسيا الوسطى وتل أبيب مثالاً صارخاً على ذلك. من منطلق الإيديولوجيا، يجادل البعض أن أحد كوامن الشراكة التي تقترب إلى التحالف الاستراتيجي بين الجانبين هو النظام العلماني شديد الانفتاح، وإن كان ذلك صحيحا نسبيا لكنه غير كاف أو مرضٍ-في واقع الأمر- لتفسير شراكة استراتيجية عميقة بين دولة يهودية ودولة من دول آسيا الوسطى. من الصحيح أن العلمانية عميقة وقديمة ؛ لكنها ليس علمانية شاملة (فصل الأرض عن السماء) على غرار الاتحاد السوفيتي سابقاً الذى قيد ممارسة الشعائر الدينية في نطاق محدود للغاية لجميع الطوائف الدينية لجمهوريات الاتحاد، بل كان يدعم ويجذر الإلحاد في جميع أنشطة الحياة العامة بما في ذلك المناهج الدراسية. الشاهد في الأمر أن الشعب كأحد شعوب آسيا الوسطى شعب متدين ينظر إلى إسرائيل كدولة مغتصبة لحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية. تتمتع دول آسيا الوسطى بخصوصية متعددة الجوانب، وفوق كل ذلك، لديها صراعات تاريخية متشعبة الأبعاد، منها ما يتعلق بتقاسم الموارد في بحر قزوين، ومنها ما يتعلق بطبيعة النظام الديني والسياسي؛ إذ أنها ليست علمانية فحسب، بل تعارض بشدة أيضا نظام ولى الفقيه في إيران وتراه «بدعة» وثمة بعد قومي للعداء يتمحور حول الأقليات. وإزاء وطأة جميع تلك المصالح ومع اشتداد التحديات، والطموحات أيضا تطورت العلاقات مع تل أبيب رويدا رويدا إلى شراكة استراتيجية. إذ أصبحت الأخيرة الداعم الرئيس للطموحات الاقتصادية وهو ما يتجلى في التعاون في مجال الطاقة (النفط والغاز والاستكشاف) الذى يتجاوز المليار دولار سنويا. والمساند الرئيس لها في مواجهة التحديات. إذ تعد تل أبيب من أكبر موردي السلاح لبعض عواصم آسيا الوسطى، والوسيط الأساسي عند واشنطن لتوريد أحدث الأسلحة الأمريكية لها. وفى هذا الصدد لا يمكن إغفال المساهمة الإسرائيلية القوية مقابل الدعم القوى-غير الخفي- لتل أبيب في حربها الأخيرة ضد إيران. والجانبان حاليا في تحالف عسكري فعلي لمواجهة إيران-بحسب تقارير استخباراتية عدة- إذ تعمل تل أبيب حاليا على تدريب وتسليح هذه العواصم وتزويدها بالخبرات اللازمة.
270
| 29 يوليو 2025
مؤخرا أعلن إيلون ماسك الغنى عن التعريف عن شروعه في تأسيس حزب جديد تحت مسمى «حزب أمريكا»، إثر خلاف ممتد مع ترامب بلغ ذروته مع تمرير الكونجرس مشروع الميزانية الضخم. وصاغ ماسك ثلاثة مبررات رئيسه لتأسيس الحزب: كسر هيمنة الحزبين (الجمهوري- الديمقراطي) على الحياة السياسية، التعبير عن إرادة الوسط الأمريكي وهى الإرادة الحقيقية وفقا لماسك، إعادة إصلاح الموازنة العامة. وليس مستغربا أن يثير حزب ماسك صخباً وجدلاً واسعاً داخل أمريكا وعالميا أيضا، والذى تشعب إلى مسائل شتى جوهرية وفرعية، من بينها مدى إمكانية تأسيس الحزب على أرض الواقع، ودور رجال الأعمال في الحياة السياسية الأمريكية، وتأثير التكنولوجيا الرقمية، ومدى جديدة الحزب وإمكانية تحديه للحزبين، وما هي أهداف ماسك الحقيقية...وغيرها. وبطبيعة الحال، نال الجدل حول إمكانية تأسيس الحزب من الأساس على نصيب الأسد من الجدل، بسبب النظام الحزبي الأمريكي الشديد التعقيد والصعوبة بشأن تكوين أحزاب جديدة، والقاعدة الانتخابية التي يستحوذ عليها الحزبان بصورة شبه كلية، وبرنامج الحزب وتمايزه عن الحزبين، ومصادر التمويل وحدودها. وخلاصة هذا الجدل، قد أفضت إلى نتيجة واحدة وهى الصعوبة البالغة في تأسيس حزب جديد وذلك من حيث تجاوزه للتحديات القانونية والحزبية. وفى حال تأسيسه على أرض الواقع، سيجابه بتحديات شتى أهمها على الإطلاق صعوبة منافسة الحزبين. وتلك النتيجة قد استندت في جانب كبير منها إلى تجارب سابقة تجسدت في ثلاثة أحزاب تعمل رسميا لكنها تفتقد إلى قاعدة جماهرية راسخة، وهى: حزب الإصلاح، والحزب الليبرالي، وحزب الخضر. ولعل-وهو ما لفت إليه قلة من المراقبين- ثمة تمايز كبير في تجربة حزب ماسك عن التجارب المشابه السابقة، ومنبع التمايز الرئيس هو التوقيت والسياق. إذ يشكل حزب ماسك حتى ولو كان مجرد محاولة نواة لـ (طريق ثالث) في الحياة السياسة الأمريكية. أجرى ماسك على منصته «إكس» استطلاعا للرأي حول الحزب وكان نتيجته أن أكثر من 50% من الأمريكيين يرغبون في حزب ثالث منافس للحزبين، وأجرت مؤسسات أخرى مستقلة استطلاعات وخرجت بنتيجة مشابه، إذ عبر المستطلع آراؤهم خاصة من انصار الحزب الديمقراطي عن اشتياقهم للحزب الجديد بسبب الفشل الذريع للحزبين على أصعدة عدة خاصة الاقتصادية، بجانب تغلغل الفساد والنزاعات الحادة لمفاصل الحزب، واحتكار النخب للمناصب القيادية. وبجانب ذلك وهو الأمر المفصلي والعاكس لمسألة التوقيت والسياق، هو التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة التي تشهدها الولايات المتحدة منذ عقدين، سواء على صعيد التركيبة السكانية والاجتماعية أو المزاج العام السياسي أو تنامى فئة الشباب غير المتحزب وتنامى ظواهر اجتماعية جديدة مثل النسوية، وهى تطورات-في حقيقة الأمر- بعيدة كليا عن تقاليد وسياسات الحزبين، وليس بمقدورهما استيعابها أيضا. ولن نذهب بعيدا، إذ بروز أوباما في حد ذاته في الساحة السياسية الأمريكية، ثم ترامب والشعبوية، ثم حركات جديدة متعددة مثل ماجا، وحياة السود مهمة، وأخيراً «زهران ممدانى» الاشتراكي المسلم، المرشح الأوفر حظا لعمدة نيويورك؛ ما هي إلا انعكاس حقيقي للتحول العميق داخل الولايات المتحدة، والأهم من ذلك، انعكاس لانفلات الزمام السياسي من يد الحزبين حتى ولو كانت تلك الحركات أو الشخصيات تابعة لاحدهما. فترامب على سبيل المثال، المنتمي رسميا أو اسميا للحزب الجمهوري، لا تعكس سياسته سوى 30% على الأكثر من سياسات الحزب التقليدية الراسخة، بل هو شخصيا قد أثر على توجهات الحزب وأعضائه بصورة لافته. خلاصة القول، قد لا يكتب لحزب ماسك الجديد النجاح، لكنه في واقع الأمر، انعكاس أو صدى لطريق ثالث يشتاق إليه الأمريكيون آخذ في التنامي، قد يفضى على المدى المنظور إلى بروز محاولات متعددة لكسر هيمنة الحزبين، وقد تكون المحاولة من رحم الحزبين نفسها عبر أجنحة مستقلة إصلاحية.
462
| 17 يوليو 2025
تعيش أوروبا منذ الأزمة المالية العالمية 2008 أزمات عاصفة متتالية، فما تلبث أن تخرج من واحدة حتى تصطدم بالأعنف، وقد أدى ذلك إلى ارتباك وضعف أوروبي عام، وانقسام متزايد، وهشاشة على مستوى الوحدة والتضامن. وتعد معضلة أوروبا في موازنة علاقاتها بين الولايات المتحدة شريكها الرئيس التقليدي، وضامن أمنها الوحيد، والصين أكبر شريك اقتصادي لها، أحد أهم المظاهر القوية للضعف والارتباك والانقسام الذي تعيشه أوروبا. منذ تولى ترامب رئاسة الولايات المتحدة في 2016، بدأت نبرة الاستقلالية الأوروبية-خاصة الأمنية أو العسكرية-في تزايد، بقيادة فرنسا وألمانيا على وجه الخصوص بسبب النزعة الانعزالية لترامب وتركيز واشنطن التام على الأندو-باسيفك للتصدي للتحدي الصيني على حساب كل المناطق الاستراتيجية التقليدية خاصة أوروبا والشرق الأوسط. والاستقلالية التي ترتئيها أوروبا خاصة الأمنية؛ هي الاعتماد على النفس بصورة كلية خاصة في التصدي للتهديدات الأمنية الخطيرة دون مساعدة الولايات المتحدة وحلف الناتو عند الضرورة. وفى إطار تلك الاستقلالية، تنفصل أوروبا تدريجيا عن انحيازها التام لواشنطن خاصة بشأن الرؤية والتوجه تجاه الصين. فالصين لم تعد فقط أكبر شريك تجاري لأوروبا، حيث تعتمد الأخيرة عليها بصورة كبيرة لاستيراد المنتجات الرخيصة، والتكنولوجيا المتطورة مثل 2G؛ بل أصبحت شريكا في مبادرة الحزام والطريق، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وهما أهم أدوات الصين قاطبة لتعزيز قيادتها الدولية. وعلى الرغم من الترابط الاقتصادي القوي بين الجانبين، فإن هذا لا يحول دون مخاوف أوروبية جلية من الصين، لكن بصورة عامة تنظر أوروبا للصين كمنافس خطير، وليس تهديداً استراتيجياً لزعامتها الدولية كما تنظر واشنطن. ولعل هنا تبرز أهم معضلة تواجها أوروبا حول سياسة متوازنة بين واشنطن وبكين. إذ على الرغم من مساعي الاستقلالية، فإن تحقيقها بالكامل أمر مستحيل على الأقل في المديين القصير والمتوسط، وربما مستحيل على المدى البعيد أيضا. والأمر الثاني أن الاستقلالية الأوروبية لا تعني التخلي التام عن واشنطن، ومحورية حلف الناتو في حماية أوروبا، إذ كما تنص الوثائق الأوروبية خاصة البوصلة الاستراتيجية الاعتماد على النفس «عند الضرورة القصوى»، والهدف العام هو التكامل مع الناتو وليس تحديه. وهذا ما تجلى تماما في قيادة واشنطن لأوروبا في أزمة الحرب الأوكرانية، إذ برهنت الأزمة لكثير من الدول الأوروبية بأن مسألة الاستقلالية الأمنية حلم صعب المنال. وعلى إثر هذه الأزمة أيضا، نجح بايدن جزئيا في إحداث شقاق بين أوروبا والصين، حيث علقت أوروبا مفاوضات اتفاق الشراكة مع الصين في 2021، وانضمت دول أوروبا إلى مبادرة «بناء عالم أفضل» الرامية لتقويض مبادرة الحزام والطريق، وانسحبت إيطاليا من الأخيرة. لكن ذلك لم يدفع أوروبا إلى إعادة توجيه رؤيتها للصين من منافس إلى تهديد استراتيجي، ولم تقلص تعاونها الاقتصادي الكبير مع بكين. مع عودة ترامب للبيت الأبيض، تنامى حديث أوروبا حول الاستقلالية بصورة غير مسبوقة، بل اتخذت أوروبا بصورة جماعية سياسات تنم عن مظاهر استقلالية لافتة من أبرزها دعم أوكرانيا بالسلاح بقيادة بريطانيا، الإصرار على تحرير جميع الأراضي الأوكرانية التي استولت عليها روسيا في أية مفاوضات لإنهاء الحرب، الانتقادات الشديدة غير المسبوقة لإسرائيل حول غزة خاصة في مسالة إدخال المساعدات، رفض التعريفات الجمركية المرتفعة والتلويح بتعزيز التعاون مع الصين.. وغيرها. وتلك السياسات العاكسة للاستقلالية، لن تفضي إلى توتر العلاقات مع واشنطن بصورة غير مسبوقة بالضرورة، ولن تؤدي إلى انفصال استراتيجي بين شركاء الأطلسي. لكنها بالضرورة تدشين لنهج يسعى إلى التوازن بين بكين وواشنطن. ولعل منطلق هذا النهج هو رفض أوروبا الانجرار وراء واشنطن في تسخين الحرب الباردة مع بكين؛ إذ ترفض أوروبا من حيث المبدأ مفردات ومناخ ما يسمى الحرب الباردة على الهيمنة العالمية، ولا ترى في الصين تهديدا استراتيجيا يستدعي حربا باردة. ناهيك عن أن الصين باتت شبه حليف لأوروبا الشرقية. خلاصة القول: مؤخراً صرح الرئيس الفرنسي ماكرون أن على أوروبا أن تسعى إلى استقلالها الاستراتيجي للحد من الاعتماد على الصين والولايات المتحدة، ونجزم أن ما يتمناه فعلاً هو التوازن بين الشريكين، إذ باتت أوروبا في أمس الحاجة إليهما، ولا تستطيع الاستغناء عن أحدهما.
447
| 13 يوليو 2025
مع بلوغ الحرب بين إيران وإسرائيل ذروتها التصعيدية بدخول واشنطن على الخط وضرب المنشآت النووية بقاذفات البى-2، عجت وسائل الإعلام بعناوين عريضة عن التدخل الوشيك لحلفاء طهران وخاصة روسيا والصين في خط المواجهة لحماية حليفهم الرئيس في المنطقة، وعند هذا التدخل الضروري ستكون ساعة الصفر للحرب العالمية الثالثة، وما لبث أن مر فقط 48 ساعة حتى توقفت الحرب، واتضح أن كل تلك العناوين كانت مجرد هراء فارغ. قبل الولوج في موقف الصين، واستحالة الانخراط في هذه الحرب تحت أية ظروف، من الجدير تسليط الضوء على عمل أو منطق التحالفات والحلفاء والذهاب للحروب. التحالفات ومن بينها التحالفات العسكرية جزء أصيل في السياسة الدولية منذ قرون، وتنشأ التحالفات العسكرية لمواجهة تهديد قائم وردعه والدخول معه في حرب في الضرورة، وللتحالفات العسكرية أنماط متعددة، أبرزها النمط التقليدي الجماعي مثل حلف الناتو، ونمط تحالفات الحماية وهو الشائع ويكون بين دولة عظمى أو إقليمية ومجموعة من الدول الصغيرة، أو دولة واحدة ليست قوية، وأبرز مثال على ذلك التحالف الأمريكي مع اليابان، والأمريكي مع فيتنام، والفلبين. الشاهد في الأمر من كل أنماط التحالفات أمران رئيسيان، أولهما أن تجمع مجموعة دول في تحالف عسكري يكون لمواجهة تهديد خطير يهدد مصلحة حيوية مشتركة تجمعهم، وبالتالي فالانجرار للحرب يكون قراراً مصيرياً خطيراً لا بديل غيره لحماية تلك المصلحة. والثاني، أن القوى العظمى في تحالفات الحماية قد مضت في التحالف لحماية مصلحة شديدة الحيوية لها، وبالتالي أيضا لن تنجر في الحرب لأجل حماية حلفائها بل ذلك مجرد ذريعة لتقويض التهديد الخطير لمصلحتها. هذا هو واقع ومنطق التحالفات العسكرية، لا شيء مجاني خاصة إذا تعلق الأمر بالذهاب للحرب، وسوابق التحالفات العسكرية مليئة بتلك المفارقات المصلحية، ففرنسا وألمانيا على سبيل المثال رفضتا مشاركة واشنطن في حرب العراق رغم أنهما عضوان في الناتو، في حين ترددت إدارة أوباما أسابيع قبل التدخل في ليبيا للإطاحة بالقذافي رغم مشاركة الناتو السريعة. وفى مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا، قادت واشنطن تحالفا أوروبيا لدعم أوكرانيا عسكريا لأن روسيا أصبحت تهديداً خطيراً للنظام الدولي الليبرالي ذاته وليس أمن أوروبا فقط. في المقام الأول لا ترتبط الصين بأية تحالفات عسكرية أو اتفاقات دفاع مشترك مع طهران، يربط فقط بين الجانبين علاقات استراتيجية واسعة قوامها الاقتصاد وبخاصة النفط، وفي 2021 تم التوقيع على اتفاق التعاون الاستراتيجي الشامل لمدة 25 عاما ارتكز على توطيد التعاون الاقتصادي مع توسيع التعاون الأمني. لكن هذا لا يعكس جوهر موقف الصين من الحرب، بقدر ما يعكس موقف الصين العام من الحروب والصراعات، وحساباتها الاستراتيجية الكبرى ومنطق الانخراط في الحروب في إطار هذه الحسابات. ترتكز السياسة الخارجية الصينية على عدة مبادئ رئيسية ومنها الحياد الإيجابي وعدم التدخل في الصراعات، إقامة علاقات متوازنة مع الجميع. ومنذ تولي الرئيس شي جين بينج السلطة عملت الصين على ترسيخ وضعها في النظام الدولي كـ «قوى مسؤولة» تسعى جاهدة لنشر السلام ومنع اندلاع الصراعات وأولوية الدبلوماسية والحلول السلمية. وهذا من حيث المبدأ يبرر انحصار دور الصين في الحرب في الجانب الدبلوماسي ووسط هذا الجانب تبدى الموقف التقليدي الحيادي للصين الداعم لإنهاء الحرب والتعقل ودعوة الأطراف للحوار ونزع جذور الصراع. لأن الصين من موقعها كقوى مسؤولة لا يمكن تصور تبنيها موقفا منحازاً خاصة لإيران رغم أهميتها الاستراتيجية لها، بعكس روسيا التي أطلقت تحذيرات مباشرة لأمريكا وإسرائيل بشان تدمير البرنامج النووي، واغتيال المرشد الأعلى، وهي مجرد تصريحات إعلامية لا أكثر. وعلى الجانب العملي البرجماتي حافظت الصين على الحياد الإيجابي الذي أفاد الصين فوائد جمة، فالصين ترتبط بعلاقات استراتيجية واسعة مع إسرائيل ومعظم خصوم إيران. ما سبق كفيل وحده لتبرير استحالة تدخل الصين في الحرب لمساندة طهران؛ لكن ثمة حسابات استراتيجية أوسع تعكس الصورة كاملة. من حيث المبدأ، إن فكرة انخراط الصين في حرب لصالح طرف آخر أو حليف استراتيجي غير واردة تماما عند الصين، لأن تلك الحروب ستعطل مسيرتها للقيادة الدولية، وتضرب الاقتصاد الصيني في مقتل العمود الفقري لصعودها. علاوة على ذلك، حددت الصين في عقيدتها الاستراتيجية حتمية خوض الحروب في حالات الضرورة القصوى للدفاع عن مصالحها الأساسية وخصوصاً تايوان وبحر الصين الجنوبي، والعدو المحتمل المهدد لتلك المصالح هو واشنطن. وعلى الجانب الآخر، أن سقوط النظام الإيراني على أسوأ افتراض سيضر الصين ومصالحها بلا شك، لكن ذلك ليس مبررا كافيا أو تهديدا خطيرا يستدعي الانجرار في حرب قد تتوسع لحرب عالمية ثالثة.
573
| 29 يونيو 2025
مساحة إعلانية
خنجر في الخاصرة قد لا يبقيك مستقيما لكنه...
1413
| 15 سبتمبر 2025
ها هي القمة العربية الإسلامية تعقد في مدينة...
669
| 15 سبتمبر 2025
منظومة دراسية منذ القرن الثامن عشر وما زالت...
624
| 18 سبتمبر 2025
من يراقب المشهد السياسي اليوم يظن أنه أمام...
618
| 18 سبتمبر 2025
منذ تولي سعادة الدكتور علي بن سعيد بن...
591
| 18 سبتمبر 2025
لم يعرف الشرق الأوسط الاستقرار منذ مائة عام،...
588
| 15 سبتمبر 2025
في أغلب الأحيان تكون المصائب والنوائب لها نتائج...
579
| 15 سبتمبر 2025
الأحداث التي فُرضت علينا وإن رفضناها بعد الاعتداء...
528
| 16 سبتمبر 2025
ليس جديداً على الدوحة أن تستضيف قمة عربية...
495
| 15 سبتمبر 2025
يؤكد اهتمام جيل الشباب القطري بالخط العربي؛ تزايد...
459
| 21 سبتمبر 2025
ها هي أنديتنا الممثلة لنا في مسابقاتها الخارجية،...
429
| 19 سبتمبر 2025
يُعدّ وعي المُستثمر بالقواعد والأحكام المنصوص عليها في...
423
| 21 سبتمبر 2025
مساحة إعلانية