رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يجدر بالجامعة العربية أن تتصرف إعلامياً بشأن القمم الاقتصادية على نحو مختلف تماماً عما تفعله في القمم السياسية، لماذا؟ لأن القمم الاقتصادية، مبنية على رؤية شاملة، تنموية واجتماعية، وتتطلب شرحاً للأولويات والأهداف، وما تحقق منها وما تعثر وما تأخر وما يبدو صعبا تحقيقه، مع إبداء أسباب الصعوبة أو الاستحالة، لأن المسائل المتعلقة بالاقتصاد لا تحتمل اللبس. أما كيف يمكن للجامعة أن تتصرف بشكل مختلف، فبإمكانها عرض برنامج العمل المنبثق من كل قمة، وما يفترض تنفيذه وأين، وفي ضوء هذا البرنامج يمكن قياس الإنجاز والتقدم أو على العكس، التقاعس والتلكؤ. غني عن البيان أن ما يسمى "العمل العربي المشترك" متخلف عما يجب أن يكون نحو بضعة عقود، خصوصاً في المجال الاقتصادي والتنموي، ورغم أن قرارات قمة الرياض الأخيرة، وقمتي الكويت 2009 وشرم الشيخ 2011، قبلها، توفر فكرة عن حاجات العالم العربي، إلا أنها تبدو بحاجة إلى التعريف بها، فلا شك أن القرارات بنيت على أولويات، وأن هذه استنبطت من دراسات جادة ومفصلة قام بها خبراء على مدى أعوام وتوصلوا فيها إلى توصيات محددة، ومن الطبيعي أنها تخضع إلى تحديث مستمر. الحديث هنا عن 22 دولة يمكن تصنيفها في أربع أو خمس فئات: غنية مقتدرة وتقرب من استكمال برامجها التنموية، لديها الموارد اللازمة ولا تزال في طور النمو، متوسطة القدرة والموارد، ضعيفة، أو معدومة القدرة والموارد، بديهي أن هذا التفاوت لا يقتصر فقط على اقتصادات حيوية أو جامدة، بل يعني أيضا إدارة فاعلة أو فاشلة للموارد، وبالتالي خدمات اجتماعية (تعليم، صحة، غذاء..) متوافرة أو قاصرة ومحدودة، هناك دول لديها فائض ودول لديها عجز مزمن ولا تعرف كيف تدبر أجور العاملين في اجهزة الحكومة، وكل هذه الدول يجلس قادتها جميعا إلى طاولة القمة ليبحثوا في الأوضاع الاقتصادية للعالم العربي، لا ضير في ذلك، لكن الواقعية تحتم القول إن هذه القمة هي بالأحرى اجتماع بين المانحين والمحتاجين، والأخيرون هم الأكثرية. لعل هذا الواقع هو ما يملي على القمة ان تبقى في العموميات والاهداف الاستراتيجية التي برزت منها في "إعلان الرياض" مثلا عناوين: تعزيز قدرات مؤسسات العمل العربي المشترك، تشجيع الاستثمار البيني، تطوير استخدامات الطاقة، الأمن الغذائي، الأمن المائي، البيئة، التعليم والبحث العلمي، الشباب، المرأة، المجتمع المدني.. وقد يكون التعميم مفهوما، فالقادة يلتقون لتحديد الاهداف العامة، وتأكيد التزام تنفيذها، اما التفاصيل فتتولاها مؤسسات متخصصة أو مشتركة، وهي التي اقرت زيادة في تمويلها بنسبة 50%، أي أن الصناديق التي ترعى مشاريع تنموية ستجد امكانات للتوسع فيها وفقا لقوائم الحاجات الحيوية أو العاجلة لدى الدول ذات القدرات المتوسطة او الضعيفة او المعدومة، لكن الملاحظ في نص القرارات ان معظم البنود يتضمن عبارات مثل "تهيئة المناخ اللازم" أو الإسراع في "انجاز التشريعات الضرورية" أو "الدعوة إلى وضع البرامج وخطط العمل"، أو حتى "التشديد على التزام التنفيذ" ما يشي بأن العمل إما لا يزال في بدايته أو أنه يعاني من عدم الالتزام، وهذا يحيلنا مجددا إلى الداء الأساسي الذي انتاب العمل العربي المشترك منذ بداياته، وهو تلكؤ هذه الدول أو تلك في تنفيذ أو سداد ما يتوجب عليها. بين نصوص القرارات والواقع المعيش ثمة فجوة سحيقة، فالمطلوب اكبر بكثير من المتوافر، وحتى في الحالات التي يتأمن فيها التمويل لمشروع ما لا يلبث أن يتبين ان الجهة المدعومة لم تبذل الجهد الكافي لتشغيل هذا المشروع اما لنقص الكوادر او لأن الفساد قضم بعضا من التمويل، او في معظم الاحيان لأن التمويل المخصص للمشروع استخدم لتلبية حاجات اخرى ملحة، وهكذا يتضح وكأن الدول والحكومات المحتاجة استكانت لنظام ريعي اعتادت عليه ولم تضع الخطط الوطنية اللازمة للتخلص منه تدريجيا. لا شك ان احد اهم قرارات قمة الرياض ما اعلن عن اقرار واعتماد الاتفاق الموحد لاستثمار رؤوس الاموال العربية في الدول العربية، لتتواءم مع المستجدات على الساحة العربية والاقليمية والدولية، ورغم ان العبارة انشائية ويمكن ان تعني شيئا أو لا تعنيه اطلاقا، الا ان ما يفهم منها هو التعامل مع الصعوبات الاقتصادية والمالية التي يواجهها بعض دول الربيع العربي، والمؤمل ان يبدأ العمل بهذا الاتفاق السنة المقبلة 2014 إذا توافرت الشروط لتسهيل تدفق الاستثمارات، وعدا ان هذه الخطوة تبدو متأخرة بضعة عقود، الا ان النص عليها واعلانها وتوجيهها نحو هدف محدد هو جذب الاستثمارات الاجنبية يشير إلى وعي جديد لدور الاستثمار ووظيفته التنموية، مع ذلك تكثر التساؤلات والتكهنات حول امكان تنفيذ هذا الاتفاق، وما إذا كانت الاسباب التي حالت سابقا دون تدفق الاستثمارات قد زالت، فالأمر يتعلق بـ"حلم" عربي لم يسبق لأي اتفاق أن اقره بهذا الوضوح، خصوصا انه يبحث منذ اعوام وخضع لتعديلات كثيرة، والمؤكد أنه يلزم الطرفين، المستثمر والمستفيد، بشروط لن تنجح العملية التنموية المتوخاة إلا بتلبيتها. يلاحظ أخيراً أن مصطلحات كثيرة تنبغي مراجعتها طالما أنه يصعب ترجمتها إلى آليات عمل، فـ"التكامل" الاقتصادي متعذر بسبب ضآلة مجالات التبادل بين دول متفاوتة الموارد وأنظمة حكم غير متشابهة، كذلك مصطلح "السوق العربية المشتركة" الآخذ في التراجع لمصلحة "تجمع اقتصادي عربي متين" وحتى منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، قد لا تكون عملية لأكثر من نصف البلدان العربية، غير أن المسألة ليست مسألة مصطلحات معبرة عن أهداف، وإنما مسألة طموحات سياسية يصعب موضوعيا بلوغها بالمفاهيم والوسائل الاقتصادية إلا إذا تغير جذريا نمط التفكير في إدارة وتخطيط المساعدات والاستثمارات والهبات وضمان ارتباطها بمشاريع حيوية يفترض أن تخلق بدورها ديناميات عمل لا ديناميات احتياج دائم.
588
| 28 يناير 2013
خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، استطاع زعيم "ليكود" أرييل شارون أواخر عام 2000، أن يقود حكومة أيهود باراك العمالية إلى الانهيار، وفرض الذهاب إلى انتخابات مبكرة ما لبث أن فاز بها اليمين، ومن بين ما قاله شارون آنذاك إنه سيعيد الفلسطينيين إلى الوضع الذي كانوا عليه في قضيتهم غداة عام 1948، أما خلفه بنيامين نتنياهو، الذي يستعد لإحراز انتخابات يوم غد 22/1/2013 المبكرة، فخاض معركته متحالفاً مع أقصى اليمين (إسرائيل بيتنا) بمحاور معلنة، لا دولة فلسطينية، ولا مفاوضات إلا على أساس الاعتراف بـ"يهودية" الدولة الإسرائيلية، ولا تجميد للاستيطان بل المضي في توسيعه، أي أن نتنياهو يريد أن تكون حكومته المقبلة الأولى في مرحلة "ما بعد القضية الفلسطينية".انشغال العالم العربي بتحولات ما بعد "الربيع العربي" وخيباته، فضلاً عن الوجهة المأساوية التي تتخذها الأزمة السورية، وإمعان الإدارة الأمريكية في الانكفاء عن الاهتمام بمسألة السلام في الشرق الأوسط، ساهمت في عدم تسليط الأضواء على ظاهرة التطرف المتزايد في إسرائيل بجناحيه المتحالفين، السياسي والديني، العاملين بالتلازم والتكافل ضد أي تسوية سلمية مع الفلسطينيين، ويلاحظ المحللون أنه لم يعد هناك سقف لهذا التطرف، فالذين ظنوا أن أفيغدور ليبرمان بلغ الحد الأقصى من خلال "إسرائيل بيتنا" سجلوا ظهور نفتالي بينيت وحزبه "البيت اليهودي" على يمين ليبرمان، وهو يشارك الحزبين الرئيسيين في رفض إقامة دولة فلسطينية، ويذهب أبعد من أطروحاتهما – المعلنة على الأقل – بالدعوة إلى ضم خمسة وستين في المائة من الضفة الغربية.وتمثل تحالف المتطرفين الديني والسياسي في إجماع استطلاعات الرأي على أن الكنيست المقبلة ستضم عددا قياسيا من النواب المتدينين فيما يعتبره بعض الخبراء رد فعل على صعود تيار الإسلام السياسي في البلدان العربية. والمتوقع أن يحتل المتدينون ثلث مقاعد البرلمان الجديد (40 نائباً)، فيما كان العدد الأقصى الذي بلغوه خمسة وعشرين نائبا في البرلمان السابق، ويعني تزايد هؤلاء تعزيزا لنفوذ المستوطنين واستبعادا لأي حل سلمي وضغوطا أكبر على الأقلية المسلمة، لكنه يعني أيضا على المستوى الداخلي "إضعافا للديمقراطية" وتزايدا في العنصرية بين اليهود أنفسهم، وبينهم وبين الآخرين، كما أنه سيفرض تغييرا في المزاج الاجتماعي.يستدل من النقاش الدائر في إسرائيل حول تسيس المتدينين وتدين السياسيين، أن الكثير من المصطلحات السائدة الآن في المجتمعات "الربيع – عربية"، سواء بالنسبة إلى التخوف على الحريات أو القلق من اختلال المسار الديمقراطي أو تفاقم الانقسام الاجتماعي، لكن الفارق الكبير أن المتدينين الإسرائيليين ينبرون للدفاع عن سرقات الأرض الفلسطينية، وعن الظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني من جراء سياسات طبقها علمانيون إسرائيليون تبنوا على الدوام نهجا لا يعترف بقوانين دولية أو أخلاقيات إنسانية ودينية، وإذ يعزى إلى هؤلاء العلمانيين أنهم أمعنوا في عسكرة المجتمع، فإن المتدينين سيأتون لتزويج العسكرة إلى التدين، ليكون النتاج دولة مارقة.ولعل أسوأ الظواهر التي طرأت في العقدين الأخيرين وباتت حاليا ملموسة وذات نفوذ، هي جنوح السياسة الإسرائيلية إلى الأخذ بما حمله المهاجرون الروس والآخرون من الدول السوفييتية السابقة، كانت بين هؤلاء أقلية نخبوية مثقفة انتظمت في أحزاب اليسار والوسط، أما الأكثرية فاندفعت إلى أقصى اليمين والقوى غير الديمقراطية متأثرة بأنه لم يكن لديها أي تقليد ديمقراطي، في البلدان التي هاجرت منها، والواقع أن القادمين كشفوا الوجه الحقيقي لما يسمى "ديمقراطية إسرائيلية"، إذ وجدوا لديها استجابة تلقائية لـ"أخلاق المافيا" التي جاؤوا بها ويعتبر ليبرمان، القادم من مولدافيا، أحد أبرز ممثليها.وبسبب هؤلاء تغيرت الخريطة السياسية في إسرائيل، إذ انحسر نفوذ اليسار والوسط لمصلحة تحالف أعاد أيضا صياغة الصهيونية بابعادها العسكرية والدينية والمافياوية.في نظرة إلى خريطة الـ14 حزبا التي تخوض الانتخابات، يتبين أن تصنيفات اليمين واليسار، لم تعد دقيقة، فالمشهد تغير لنجد أن أحزاب اليمين والمتدينين هي الأكثر استقطابا للناخبين، وفقا للاستطلاعات، في حين أن أحزاب الوسط واليسار، فضلا عن الأحزاب العربية، تكافح للحصول مجتمعة على ما يزيد قليلا على ثلث مقاعد الكنيست، وفي أي حال لم تكن التصفيات هذه لتعني شيئا بالنسبة إلى التعامل مع الشأن الفلسطيني، غير أن اليمين ماض في إنتاج ثقافة تجاوز القضية الفلسطينية، فبعدما أدت التطورات إلى تكذيب مقولة غولدا مائير بأن ليس هناك شعب فلسطيني، يحاول اليمين راهناً نفي وجود قضية لشعب موجود تحت الاحتلال الإسرائيلي تحديدا، بل التصرف وكأن إسرائيل لا تدين بشيء إلى المجتمع الدولي الذي لا يزال موقفه المعلن والثابت أن هذا الاحتلال يجب أن يزول.في خضم الحملة الانتخابية أخرج صحفي يهودي كلاماً قاله الرئيس الأمريكي بعيداً عن الإعلام، مفاده أن نتنياهو لا يعرف ما هو جيد لإسرائيل، وانه يقود سياسة تدمير ذاتي تحوّل إسرائيل إلى دولة منبوذة وتتنكر حتى لصديقتها الأخيرة الولايات المتحدة.الواقع أن زعيم "ليكود" قاد ويقود سياسة تدمر هيبة الولايات المتحدة ومصداقيتها حول العالم، فليس سراً أن "ملف السلام" في الشرق الأوسط متروك لأمريكا، لكنها تقاعست عن تحمل المسؤولية.
417
| 21 يناير 2013
تكاد تكون نادرة المرّات التي تتدخل فيها الولايات المتحدة في شؤون الدول الغربية الحليفة على نحو علني، لا شك أنها تمارس هذا التدخل عبر قنوات شتى، فهناك التشاور الدائم، والتنسيق المسبق للقرارات، والمراسلات الدبلوماسية، والمتعارف عليه أن الدبلوماسية البريطانية، الشهيرة بعراقتها ونفاذها ودقتها وحتى ببرودتها، هي بشكل أو بآخر المختبر الأولي الذي تصنع فيه الدبلوماسية الأمريكية وقراراتها، أو العقل المفكر الذي يقف وراءها، غير أن هذا التقويم لا ينفك يتراجع ويأفل، إذ يعتقد الاختصاصيون أن هذا انتهى عملياً مع نهاية وجود السيدة الحديدية مارغريت تاتشر في الحكم، وإذ أتيحت لتوني بلير فرصة إحيائه خلال عهد جورج بوش الابن، إلا أنه انتهى تابعاً للأخير ومتماهياً كلياً مع مغامراته الكارثية.قبل أيام نشرت الصحف البريطانية تصريحات لمسؤول أمريكي ينصح فيها حكومة ديفيد كاميرون بصرف النظر عن فكرة إجراء استفتاء شعبي على مشروع قد يؤدي إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان ذلك إنذاراً بلباس نصيحة، ورغم وضوح مراميه إلا أن الناطق باسم الحكومة صرّح بأن ما يريده الوزير الأمريكي هو "بالضبط" ما يعتزمه كاميرون. لم يكن هذا صحيحاً لكنه كان مخرجاً حاذقاً لقطع الطريق على جدل متشعب يبدأ بمسألة التدخل في شأن بريطاني ولا ينتهي عند أن الولايات المتحدة باتت أكثر معرفة بما هو جيد لبريطانيا أكثر من حكومتها.الأكيد أن الدبلوماسية البريطانية ليست في أفضل أيامها، وليس فقط في ما يتعلق بالشؤون الأوروبية، وإنما في مختلف الملفات، يعتقد كثيرون أنها فقدت الكثير من إبداعيتها، رغم أن المهنيين والمحترفين فيها لا يزالون يقومون بعملهم كالمعتاد، ما يعني أن المعطيات والأفكار وعناصر القرار لا تنقصها، لكن ما ينقصها هو الرؤية والإرادة والقرار السياسي، لذلك تبدو كأنها مجرد جهاز يقوم بالمتابعة وتصريف الأعمال، وقلّما يتخذ مبادرة أو يحاول التخفف من الأثقال التي تشل حركته، فعلى سبيل المثال كانت هناك قناعة ناجزة بالتصويت بـ"نعم" لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يمنح فلسطين صفة "الدولة"، لكن اعتبارات كثيرة أهمها الضغط الأمريكي منعتها من ذلك. في حين أن فرنسا التي تعرضت للضغوط ذاتها حسمت قرارها بوضوح. مثال آخر: رغم أن توزيع المهمات في إطار حلف الأطلسي يعطي بريطانيا وفرنسا أولوية في إدارة الشأن الليبي، إلا أن الدور الفرنسي كان أكثر نشاطاً ومرونة وحسماً، مثال ثالث: بقي الموقف البريطاني من الحدث السوري مشوشاً لفترة طويلة، وتبيّن أن سفيراً مقرباً من رئيس الوزراء أقنعه بالتصعيد اللفظي ضد النظام وبالمراهنة عليه واقعياً.في تبرير الحال التي آلت إليها الدبلوماسية البريطانية يسوق المحللون ذرائع تبدأ بالنهج "الكارثي"، الذي اتبعه بلير، مروراً بالأزمة الاقتصادية والمالية، مروراً بالتقلبات غير المفهومة دائماً لدى "الأخ الأكبر" الحليف الأمريكي، وقد تكون هذه أسباباً موضوعية يتوجب أخذها في الاعتبار، بل اعتمادها كأعذار، إلا أنها لا تمنع أن يكون هناك قرار، فحتى بلير، في غمرة انجرافه في السياسات البوشية، كان يحاول بين الحين والحين طرح أفكار تشتم منها محاولات للتصحيح أو لتعديل التوازن، كما فعل حين حضّ حليفه الأمريكي على تنشيط "عملية السلام" بين الفلسطينيين والإسرائيليين للتخفيف من الوقع السيئ لغزو العراق.ورغم أن هذا التحرك لم ينتج شيئاً، بسبب الانحياز الأمريكي الكامل لإسرائيل، إلا أن فكرته كانت صائبة، أما ألا تكون للندن رؤية ولا دور ولا تأثير فما الذي يميزها عن أي دولة أخرى لا تتمتع بـ"الفيتو" في مجلس الأمن.اللافت في التدخل الأمريكي بشأن الاستفتاء على وضعية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، انه ينبه حكومة كاميرون إلى ما تعرفه مسبقا لكنها لا تعترف به، وهو أن استفتاء كهذا في الظروف الاقتصادية الصعبة ستعرف نتيجته مسبقا، لأن عموم الناس تبحث عن أي شماعة تضع عليها سوء أوضاعها المالية.أما التداعيات المتوقعة لمثل هذا الخيار فلن تعرف إلا في وقت لاحق، بعد أن تكون الواقعة قد وقعت، أكثر من ذلك، يذهب مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الأوروبية فيليب غوردون، إلى حد القول إن كل ساعة تضيعها بريطانيا في مناقشة وضعها وكيفية استعادة بعض الصلاحيات التي فقدتها لمصلحة "الاتحاد" هي ساعة يجب استغلالها للتركيز على التنمية وإيجاد فرص العمل. وفيما يسعى كاميرون إلى هذا الاستفتاء ليتسلح به في مطالبة الأوروبيين بفتح "معاهدة لشبونة" لإجراء تعديلات عليها، يستبق الشركاء خطوته بإبلاغه أن إعادة النظر في المعاهدة ستغرق الاتحاد في نقاشات عقيمة لا نهاية لها، لذلك فإن طلبه مردود سلفاً.كان الاعتقاد السائد أن أمريكا لا تنظر بارتياح إلى الاتحاد الأوروبي، وأنها تنافسه وتميل إلى التقليل من شأنه، لكن يبدو أن لأمريكا – أوباما نظرة مختلفة، فها هو مساعد الوزيرة يقول إن أمريكا "تكسب من اتحاد أوروبي تكون بريطانيا فيه ويكون له صوت قوي في الدفاع عن مصالحنا المشتركة"، لكن ما يصدم في الموقف الأمريكي أنه يبلغ بريطانيا بصراحة ووضوح أنها "أكثر فائدة" لأمريكا داخل الاتحاد الأوروبي، بل يلمح إلى أن قيمتها الاستراتيجية ستنتقص إذا تخلت عن عضويتها في هذا الاتحاد، وفي ذلك نبأ سيئ لبريطانيا التي اعتقدت دائماً بأمرين ثابتين: الأول أن قيمتها الاستراتيجية تعزى إلى تحالفها القوي مع أمريكا. والثاني أنها يمكن أن تكون أقوى خارج الاتحاد الأوروبي، من الواضح أن عليها إعادة النظر في تقويمها لعناصر قوتها.
646
| 14 يناير 2013
يستطيع الفلسطينيون أن يدهشوا أنفسهم، وأن يقدموا أحياناً على ما لا يتوقع منهم، لكن الآخرين ولا سيما العرب يتوقعون منهم أن يقوموا بالخطوة الضرورية والصحيحة لمصلحة قضيتهم وأن يكفوا عن إضاعة الوقت والفرص والجهود في صراع على السلطة رغم أن الأرض والشعب لا يزالان تحت الاحتلال، ولا تنفك المخططات تتجدد لإدامة هذا الاحتلال وتوسيعه وإضفاء الشرعية عليه. أما الإدهاش فرأينا عينة منه في غزة، التي فتحت كبرى ساحاتها لمهرجان حركة "فتح" في الذكرى السنوية لانطلاقتها، فما كان مستحيلاً منذ عام 2007 أصبح ممكناً بعد هذه الأعوام السوداء.. ورغم ما في ذلك من حساسية، خصوصاً وسط الحديث عن الانتخابات، فإن رئيس الحكومة "المقالة" اتصل برئيس السلطة في رام الله ليهنئه بالمناسبة. لا شك أن "حماس" التي تحكم القطاع وتديره، برهنت عن ثقة بالنفس ورحابة صدر وأريحية وطنية بتسهيلها الاحتفال الفتحوي. لعلها لا تزال منتشية بنتائج المواجهة الأخيرة مع العدو، بعدما خاضت التحدي ضده وجعلته يطرح على نفسه أسئلة غير مسبوقة، وأهمها: ما العمل إذا لم تعد القوة النارية والتفوق العسكري والقدرة على الغدر والاغتيال كافية لتحقيق الردع؟ بل لعلها خرجت من هذه المواجهة وقد تخلصت من بعض العقد التي اعتملت في داخلها بفعل الحصار القاسي الذي أثبتت بوضوح أنها تغلبت عليه، ولو بثمن كبير من الدم والدمار، ولعلها، أخيراً، تشعر بأنه أصبح لها مدى حيوي سياسي يتمثل في الحكم الجديد في مصر، على عكس السلطة و"فتح" اللتين تشعران بضغوط من كل جانب. كانت المناسبة لـ"فتح" وقد استطاعت أن تبرهن فيها أن القطاع ليس حمساوياً، فالحشد الكبير أراد أن يقول إن الأمر الواقع السياسي الذي يعيشه القطاع لا يعبر عن حقيقته الشعبية أو عن خياراته الاجتماعية، وبالتالي فإنه يعكس أيضاً صورة واقعية عن شارع موزع بين اتجاهين شبه متساويين، بمعزل عمن يحكم أو يعتقد أنه يحكم، والعبرة، تحديداً في الحال الفلسطينية، في ما يستطيع الحكم أن يحققه للقضية والشعب، لا في من هو في السلطة. كان المهم والأهم في هذه المناسبة أن الجميع شاء أن ينسبها إلى "المصالحة" التي يرغب فيها الطرفان ويجزمان بأن تقدما أحرز في سبيلها، بدليل أن اتفاقات وقعت وتفاهمات أبرمت ونيات أبديت. لكنهما راكما الكثير من خيبات الأمل لدى الفلسطينيين والعرب إلى حد أن أحداً لم يعد يثق بدخان الأماني التي تطلق بين الحين والحين، حتى أصبح مفهوما أن تلك المصالحة دونها صعوبات وكأنها مدعوة لأن تجرى بين شعبين مختلفين تماماً ولم يسبق أن كانا شعبا واحدا، وقد حصل أن أحد السياسيين العرب شبّه مساعي المصالحة بمشاريع الوحدة التي شهد العرب نماذج عدة منها خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ولم تنجح بل لم يتبق منها أي أثر. ولم يكن صاحب هذه المقارنة متهكماً ولا ساخراً، وإنما ساقها بكل مرارة وأسف مشيرا إلى أن إدارة الخلاف بين "حماس" و"فتح" جعلت من الضفة والقطاع أشبه بدولتين منفصلتين ومتباعدتين، حتى أن العدو الإسرائيلي بات يجد ضرورة لأمنه ولأمن كل من الدولتين أن يصرف النظر عن الاقتراحات التي كان يقدمها سابقاً لتحقيق مطلب الفلسطينيين بأن يكون هناك تواصل جغرافي بين مناطق دولتهم العتيدة. لعل المفارقة الكبرى أن حديث المصالحة يتجدد فيما تمر الضفة وسلطتها، والقطاع وحكومته "المقالة" بمزاجين متعارضين تماماً. فالضفة تعيش إحباطاً ثقيلاً بسبب الأزمة المالية التي بدأت واستمرت للضغط على السلطة الفلسطينية أولاً لأنها وضعت شرطاً لتجميد الاستيطان لفك المفاوضات، وثانيا لأنها أصرت على الذهاب إلى الأمم المتحدة والحصول على وضعية الدولة المعترف بها تحت الاحتلال، أما القطاع فيعيش حالاً واعدة إلى حد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يتوقع أن تسيطر حماس على السلطة الفلسطينية "في أي وقت"، وليس مفهوماً إذا كان يدفع بهذا التوقع من قبيل تخويف الإسرائيليين أو استفزاز "فتح". الأرجح أنه أراد أن يبرر مسبقاً برنامجه الانتخابي الذي لا يعترف بشيء اسمه "سلام" مع الفلسطينيين. في أي حال يتجدد البحث عن المصالحة الفلسطينية وسط عودة إلى الحديث عن مشاريع مشبوهة ليست من الخيارات لدى أي من الفصائل الفلسطينية، فلا "الكونفيدرالية" مع الأردن من الخيارات التي طرحتها "فتح" أو السلطة، ولا "التمرد في سيناء" من الخيارات التي طرحتها "حماس" أو تحاول تسويقها، لكن المعلومات تفيد بأن إسرائيل (بالتفاهم مع الولايات المتحدة) هي التي وضعت هذين الخيارين في التداول، باعتبار أن اليمين المتطرف الذي بات متوقعاً أن يبقى في الحكم لا يريد إزالة الاحتلال عن أجزاء كبيرة من الضفة بذريعة التوسع الديمغرافي، ولا يرى حلاً للمسألة الفلسطينية إلا بالتخلي عن بعض الضفة لتكون في كنف الأردن وبدفع غزة نحو مصر لتكون تحت مسؤوليتها، ورغم أن الولايات المتحدة لا تبدي رسمياً تبنيها لهذه الأطروحات إلا أنها توحي باستعدادها لمباركتها إذا حظيت بموافقة الأطراف، وبالنسبة إليها، وطالما أن إدارة باراك أوباما لا ترغب في تقديم أي مبادرات، فإن أي حلول قابلة للتطبيق ولا تضطرها للتدخل وخوض معارك دبلوماسية من أجلها، هي حلول مرحب بها. بين الردود التي سمعت على إثارة موضوع "الكونفيدرالية" أنها يمكن أو لا يمكن أن تبحث قبل نيل الفلسطينيين كامل حقوقهم، أو قبل إعلان الدولة الفلسطينية والاعتراف بها، لكن إسرائيل (والولايات المتحدة) تدفعان باتجاه هذه الفكرة تحديداً لأن "حل الدولتين" لم يعد ممكناً، وكذلك لأن هذه الصيغة يمكن أن تغرق قضية التوسع الاستيطاني في الترتيبات الكونفيدرالية المتوقعة في حال أمكن فرض هذه الصيغة، أما تمدد غزة إلى سيناء فيروّج له على أساس أن مصر لم تبد منذ استعادتها شبه الجزيرة تحت سيادتها اهتماماً نشطاً في تنميتها وتأهيلها ولا في الاستفادة منها. في إطار المصالحة الفلسطينية أصبح مطلوباً، وبإلحاح، توضيح الموقف الفلسطيني من هذه المشاريع، ليس فقط لأنها تثبط جهود المصالحة وتنقض أهدافها، وإنما خصوصاً لأنها تحاول استثمار الانقسام الفلسطيني والإيحاء بأن "الحل المشرف" للقضية الفلسطينية لم يعد ممكناً.
907
| 07 يناير 2013
آخر حجة يريد العراقيون سماعها من رئيس الوزراء نوري المالكي أن استهدافه وزير المال رافع العيساوي، وقبله نائب الرئيس طارق الهاشمي، ليس طائفياً أو مذهبياً، فهذه الحجة استخفاف بالعقول ولا داعي له. أما القول بأن المسألة أمنية بحتة أو قضائية بحتة، فمردود عليه بأن ليس هناك عراقي واحد لا يعرف أن الأمن من احتكارات المالكي، وأن القضاء فاقد استقلاليته بفعل الترهيب الذي يمارسه المالكي، وبالتالي فاقد كل مصداقية. ما إن تحصل اعتقالات، تقوم بها مجموعات أقرب إلى الميليشيات منها إلى قوات رسمية، حتى يعلن عن "اعترافات"، ولا تفسير لذلك سوى أن التعذيب الوحشي المنهجي، أو الابتزاز الشخصي، يفعل فعله ويوفر لأتباع رئيس الوزراء ما يلقمون به الجهاز القضائي الذي اختاروا له أشخاصاً مخيرين بين إطاعة الأوامر والنزوات وبين مقصلة "اجتثاث البعث" الكفيلة بإقصائهم وتعريضهم للتصفيات الجسدية. كأي حاكم متفرد، لابد له من استخدام شعار "فرق تسد" وآلياته، أتقن المالكي لعبة العصا والجزرة، الترهيب والترغيب، لاختراق خصومه السياسيين، شيعة كانوا أم سُنة أم أكراداً، ورغم أن مسوقي الدستور، لدى إنجازه في 2005م، لا سيما من الشيعة والأكراد، جزموا بأنه متوازن وأنه خير وصفة لمسار ديمقراطي صحيح، إلا أن هؤلاء أنفسهم وجدوا ويجدون صعوبات جمّة في الاحتكام إليه، أما التعديلات التي طلبها السنة، فأمكن حتى الآن إغراقها في خضم الأزمات المتلاحقة. كان السياسيون السنة، ومعظمهم من الوجوه الجديدة، أغضبوا قواعدهم الشعبية بانضمامهم إلى "عملية سياسية" كان معروفاً أن هدفهم تهميشهم، لكنهم انطلقوا من الواقع الذي لم يترك لهم خيارات كثيرة، وراهنوا على مشاركتهم الحيوية في "العملية السياسية" من أجل تحسين ظروف الطائفة وأبنائها، من هنا فإن سعي المالكي إلى إقصائهم الواحد تلو الآخر يهدف إلى إبراز نخبة سنية تدين له بالولاء وبالدور الذي يتيحه لها، إذ يتصرف على أنه هو النظام والدولة، ولا يقيم وزناً لما يسمى "شراكة" في الحكم. إنه يوحي بأن "الشركاء" أدوات تستهلك ويلزم استبدالها، لذا يتصرف على أنه هو "العملية السياسية" ولا وجود لها خارج السلطات التي جمعها كافة في قبضته. وانطلاقاً من الممارسة لم يعد للدستور أي مرجعية ملزمة، ولا للبرلمان أي وظيفة مقلقة أو رادعة للسلطة التنفيذية، ولا للحكومة أي دور في إعلاء شأن السياسة والسلم الأهلي والوفاق الوطني، فرغم كل التقارير المحلية والدولية التي تتحدث عن استشراء فاقع للفساد، يبدو أن الحكم الحالي يستخدم الفساد لشراء الولاءات وعقد التحالفات وتمرير المصالح وتبادلها، بحيث تحولت "هيئة النزاهة"، إلى جهاز شكلي لا يُصار إلى تفعيل ملفاته إلا عندما يراد التخلص من شخص انتهت صلاحيته في "العملية السياسية"، ووجب المجئ بآخر عملاً بتعميم "فوائد" المشاركة في تلك العملية. تكمن "عبقرية" المالكي في كونه استطاع أن يقنع الأمريكيين والإيرانيين بأنه النموذج الذي كانوا يبحثون عنه، وعندما نعلم أن التفاهم بين هؤلاء ليس مجرد تقاطع موضوعي أو تلاقٍ ضمني، يتضح أن الركيزة التي يستند إليها المالكي بالغة الصلابة، فهي ثمرة اجتماعات أمريكية – إيرانية عقدت في جنيف خلال الفترة التي سبقت الانسحاب الأمريكي من العراق، ووفقاً للصحافة السويسرية فقد شارك إسرائيليون في بعض تلك الاجتماعات، وكشف ذلك في معرض جدل نشب بين الصحافة والحكومة السويسرية حول تمويل استضافة هذه اللقاءات، وحين يكون "التفاهم" على هذه الدرجة من العمق، يحق للمالكي اعتبار خصومه مجرد لاعبين صغار، لكن هذا لا يعني أنه مطلق اليد إلى حد الإمعان في الخطأ والتهور. لاشك أن تجربة التوتير مع أربيل أفهمت المالكي أن ثمة حدوداً ينبغي ألا يتجاوزها، ويبدو أن تكرار سيناريو استهداف السنة سيرسم له حدوداً أخرى، إذ استخف بتداعيات تلفيق الاتهامات لنائب الرئيس طارق الهاشمي، رغم أنها بلغت حد طرح الثقة به، ولا يزال الوسط السياسي يفكر في أفضل السبل لمنعه من الترشح لولاية ثالثة رئيساً للوزراء، وها هي قضية العيساوي تفجر حراكاً سنيا يستوجب الحكمة في التعامل معه، لأن استخدام القوة سيؤدي إلى نتيجة عكسية، فالأكيد أن هذا الحراك لا يرمي إلى "جر البلاد بأكملها نحو الفتنة الطائفية"، كما قال المالكي، وإنما هناك فئة تمثل أحد المكونات الثلاثة للعراق وتعرب عن رفضها للأسلوب الذي تعامل به من جانب رئيس وزراء "لا يحترم الشراكة، والقانون والدستور"، كما اتهمه العيساوي، إذن هناك مشكلة ناجمة عن إساءة المالكي استخدام السلطة، وينبغي عليه أن يصحح مسلكه وأن يعالج هذه المشكلة وفقاً للدستور، وإلا فإن عليه أن يواجه التداعيات التي اتخذ بعضها شكل مطالب انفصالية. كثير من المراقبين رأى في احتجاجات المدن والمناطق السنية ملامح انتقال إلى تقسيم العراق، بمعزل عن احتمالات حصوله أو عدمها، لكنها، معطوفة إلى الحدث السوري وتطوراته المحتملة، تثير الاهتمام، فضلاً عن المخاوف من أن يكون استهداف المالكي للسنة مبرمجا وهادفا، وهذا يستدعي مساءلة الجهات التي تدعمه، أي الولايات المتحدة وإيران تحديداً، فإما أن تكون بصدد إطلاق مخطط تقسيمي لاحت معالمه غداة احتلال العراق، وإما أن يكون رجلها – أي المالكي – ذهب أبعد مما يلزم في التلاعب بالسلطة، وللتعرف على الاتجاه الحقيقي لـ"التفاهم" الأمريكي-الإيراني لابد من مراقبة طريقة المالكي تصعيداً للأزمة أو خروجاً منها، فهو الذي افتعلها من الباب الأمني – القضائي في وقت يحتاج العراق إلى مبادرة سياسية، والأرجح أنه لا يتقن مثل هذه المبادرات، فضلاً عن أنه ليس مؤهلاً لها.
551
| 31 ديسمبر 2012
كانت صدمة مروّعة لفلسطينيي مخيم اليرموك أن تُقصف "عاصمة الشتات" – كما كرّسوا مخيمهم – بطائرات "نظام الممانعة"، فيما كانوا يظنون أنهم، حيث هم، بمأمن حتى من طائرات العدو الإسرائيلي، بضعة أجيال توالت وتوالدت في هذا المخيم، وشهدت توسع العاصمة الذي ما لبث أن غزاها فجاء السوريون يشاركونهم العيش في شتاتهم، ثم فاقوهم عدداً، وتكاثرت من حولهم مدن "ريف دمشق"، ولم يكن أحداً يتوقع أن الشعب سيثور على النظام، وأن المخيم سيجد نفسه في قلب العاصفة، رغم أن الاحتقان الاجتماعي كان حقيقة يومية يعيشها الجميع. أراد الفلسطينيون أن يحافظوا على حيادهم، لم ينسوا أنهم ضيوف ولاجئون، صحيح أن مساواتهم بالمواطنين السوريين أقرها قانون خاص منذ 1956، وأن الرعاية والالتحام الشعبيين تجاوزا هذا القانون وكانا أقوى منه، إلا أن الثورة ما لبثت أن فرضت حقائقها وواقعها. اعتبر الفلسطينيون على الدوام أنهم مدينون بأمنهم وأمانهم إلى الحكم القائم الذي عاملهم، قبل البعث ومعه، بشيء من الخصوصية، لكن التعددية التي تميزوا بها، وتمثلت بتوزعهم على الفصائل المختلفة، لم تكن لتلقى قبولاً من النظام البعثي إلا بمقدار ما تكون تلك الفصائل متكيفة ومنسجمة مع إرادة النظام وسياساته، أي أن "قاعدة المساواة" طبقت هنا أيضاً على أساس الولاء الكامل للسلطة وعدم احترام ما تفترضه التعددية من حقوق وأعراف. لذلك انعكست مصالحات النظام، أو بالأحرى خلافاته، مع قادة الفصائل على أنصارهم داخل المخيمات، ومنها خصوصاً مخيم اليرموك. فالفتحاويون عانوا كثيراً، بعد 1982، من الخصومة الحادة التي نشبت بين الراحلين حافظ الأسد وياسر عرفات، أغلقت مكاتبهم ومؤسساتهم، واعتقل كثيرون منهم، وأخيراً تعرض الحمساويون لمعاملة فظة بعد مغادرة قيادتهم، وجرى اغتيال المسؤول العسكري للحركة التي لم تشأ أن تلبي رغبات النظام بوجوب الجهر بالتأييد له، وفي المقابل ارتفعت أسهم "الجبهة الشعبية – القيادة العامة"، بزعامة أحمد جبريل، إذ أبدت انحيازاً كاملاً للنظام وتأييداً ناجزاً له. والواقع أن النموذج الذي وفره جبريل وعناصره هو ما يفهمه النظام بمناصرته ومؤازرته حتى لو اقتضى الأمر حمل السلاح ضد السوريين والفلسطينيين معاً، وقد برهنت الأحداث أخيراً أن المخيم لم يحتمل هذا النموذج، وما كان للنظام أن يعتمده أياً تكن مبرراته، ودلّت المساعي التي بذلت بعد القصف الجوي والنزوح الفلسطيني أن الوضع الخاص للمخيم ربما ساهم في إنقاذه من الدمار وبتسهيل عودة النازحين تباعاً. لعل هذا النزوح وضع نقطة النهاية لقصة "الممانعة" التي تنكر النظام السوري بها لفترة طويلة جداً، ولم يكن يصدقها سوى أولئك المقيمين في مخيمات اللجوء، خصوصاً في سوريا، لأنهم محكومون بالتشبث بأي أمل، وهناك أيضاً من يرفدهم في المجتمع الفلسطيني، كما في بعض المجتمعات العربية، تحديداً في البيئات القومية وبعض اليسار، وقد شكل هؤلاء المصدقون لـ"الممانعة" فئة مساندة للنظام، ولم يلفتهم أن الشعب السوري نفسه لم يبد آخذا "الممانعة" في الاعتبار في موقفه من النظام وعنفه الدموي، تحرر السوريون من هذه الكذبة، ويبقى أن يتحرر الآخرون الذين يفاجئون محاوريهم بترديد روايات النظام عن "العصابات المسلحة الإرهابية"، أو بالقول إن سوريا تتعرض لمؤامرة وأن النظام وحده يستطيع إحباطها، وصولاً حتى إلى القول إن ما حصل أيضاً في تونس ومصر وليبيا واليمن هو من نسيج هذه المؤامرة. للأسف، كان يجب أن يبلغ النزاع السوري مخيم اليرموك لينهار هذا الوهم، رغم أن الفلسطينيين هناك لم يرتكبوا أي خطأ في النأي بالنفس عن القتال الدائر، ولو أخذت الأمور بطبائعها ومنطقها السوّي لأمكن تخيلهم في صفوف الشعب الثائر، لكن تحييدهم أنفسهم كان الموقف السليم الذي وإن تفهمه هذا الطرف وذاك، إلا أن احتدام المعركة وبلوغها نهاياتها يحولان دون ترجمة هذا التفهم على أرض الواقع، وينبغي الاعتراف بأن الوضع الذي وجد الفلسطينيون فيه أوقعهم في اختبار صعب، وقد يغدو أكثر صعوبة في المرحلة المقبلة إذا انفتح سقوط النظام على مرحلة فوضى عارمة واقتتال أهلي، كان محزناً التعرف إلى بعض حالات النازحين إلى لبنان، إذ قال بعضهم إنه يحمل مفتاحين، واحد لبيته الذي استولى عليه الإسرائيليون وآخر لبيته الذي تركه وراءه في مخيم اليرموك، والأكثر مضاضة أن بعض الأصوات في لبنان لم يكن مرحباً بل استعاد النعرات العنصرية التي استشرت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، مع فارق أن هذه الأصوات تغيرت وجاء كلامها انطلاقاً من تبعيتها للنظام السوري وكأن الفلسطينيين هم الذين سعوا إلى هذا النزوح. يؤمل رغم كل شيء بأن تفلح المساعي لإعادة النازحين إلى مساكنهم، وألا تكون التفاهمات على مخيم اليرموك مشابهة لتلك التي تمت سابقاً في الزبداني ومناطق أخرى حين تنسحب قوات النظام وفقاً لاتفاق موضعي ثم تعود فتجدد هجماتها، خصوصاً أن موقع المخيم مهم للطرفين في صراعهما على قطع منطقة مطار دمشق عن التجمعات الأخرى لقوات النظام، لذلك لا يبدي النازحون استعجالاً للعودة قبل أن تنجلي الأوضاع، ولا شك أن النظام يحاول رصد ما يمكن أن يستفيده من نزوحهم الذي يعني بالنسبة إليه إزكاء لتداخل أزمته مع المحيط الإقليمي، لكن مثل هذه الحسابات البائسة لم تعد لتفيده شيئاً طالما أنه يخسر في الداخل، ولم يعد يقاتل لاستعادة سيطرته وإنما لتأكيد نيته بتدمير المدن، كان بإمكانه أن يكون مبادراً لرعاية خصوصية الفلسطينيين ومخيماتهم طالما أنهم منضبطون، ولو فعل لكانت المعارضة التزمت ذلك أيضاً، أما اللجوء إلى "جماعة جبريل"، فكان إشارة عبثية أسقطت قناعاً آخر من أقنعة النظام.
484
| 24 ديسمبر 2012
السؤال الملتبس والمحيّر طرح نفسه طوال الشهور الماضية: هل لروسيا نفوذ على النظام السوري؟ قد يكون الجواب: نعم، لكن موسكو لا تمارس هذا النفوذ على طريقة الولايات المتحدة التي لم تتأخر في تأييد خلع رئيسي مصر وتونس عندما ثار شعباهما عليهما، وكانت لها مساهمة ملموسة في إطاحة زعيم ليبيا وفي دفع الرئيس اليمني إلى التنحي، وأتيحت لروسيا فرص عدة لإيضاح أنها لا تتدخل ولا تؤيد التدخل لتغيير الأنظمة، وهو ما يبدو ظاهرياً موقفاً محموداً بل موقفاً مبدئياً يصلح لأن يرسخ في السياسة الدولية لو أن موسكو سعت فعلاً إلى إطلاق نقاش دولي حوله بغية تعزيز سياسة الدول واحترام الشعوب. غير أن شيئاً من هذا لا يشغل فعلاً الروس، إذ بذلوا ما في وسعهم لاستثمار الأزمة السورية في نيل مصالح ومكاسب كانوا ينتظرون اللحظة المناسبة لتحصيلها في صراعهم مع الدول الغربية. ثم أنهم قدموا للنظام السوري كل الدعم الممكن للحيلولة دون سقوطه وتغييره من الداخل وبفعل كفاح الشعب السوري. وقد يكون الجواب: لا، ليس لروسيا نفوذ يسمح لها بأن تضغط على النظام السوري لحمل رئيسه على التنحي أو الرحيل، لكنها رأت أن تستغل "الفيتو" الذي تتمتع به في مجلس الأمن لتعرقل أي جهد دولي منسق يمكن أن يتوصل إلى إسقاط النظام السوري. ووجدت مصلحة في الاختباء وراء الموقف الروسي، وكذلك إيران، وادّعت الدول الثلاث أن لها مصالح في سوريا، ولابد من التفاهم معها كي تؤيد التغيير الذي تعتبر أنه ملزم بالحفاظ على تلك المصالح، وإذا تعذّر هذا التفاهم فإنها ستعمل على إطالة الأزمة إلى ما لا نهاية، لكن إذا لم يكن لروسيا النفوذ الذي يمكنها من تقديم "إطاحة النظام" لقاء رزمة المصالح، فعلام تدور المساومة بينها وبين الولايات المتحدة؟ المعلوم أن هناك مفاوضات أمريكية – روسية تتم على مستوى الخبراء منذ فترة وبعيداً عن الأضواء، وهي تتمحور حول مسائل غير مرتبطة مباشرة بالشأن السوري، بل بالشأن الاستراتيجي الشامل، بدءاً بالدرع الصاروخية في أوروبا ومروراً بالتعامل مع الأزمة النووية مع إيران وصولاً إلى الأمن الاستراتيجي في وسط آسيا، بالإضافة إلى ملفات اقتصادية، ذاك أن اللقاء المرتقب بين باراك أوباما وفلاديمير بوتين يفترض أن يتوصل إلى تفاهم بين الدولتين الكبريين يغطي معظم خلافاتهما ويحاول تفعيل التوافقات التي تتحدثان عنها في مختلف المناسبات، ولا يبدو أن مواقفهما من سوريا هي المقياس المناسب لتقدير تقاربهما أو تباعدهما، وإنما تستخدمانها إما للتعبير عن تقدم أو تعثر في التفاوض الجاري بينهما، أو للتعتيم على التقائهما الفعلي بشأن سوريا، إلا أن الظروف لم تنضجه بشكل كافٍ كي يُصار إلى إعلانه. قبل عشرة أيام التقى وزيرا الخارجية هيلاري كلينتون وسيرغي لافروف في دبلن (أيرلندا) وشارك المبعوث الدولي – العربي الأخضر الإبراهيمي في جانب من محادثاتهما، لم يُفهم شيء، أي شيء محدد مما صرّحا به، لكن الإبراهيمي أشار إلى أنهما لا يزالان يؤيدان "تسوية سياسية" في سوريا، وقيل إن اقتراح إرسال "قوات لحفظ السلام" كان مدار بحث، ثم أن مساعديهما وليام بيرنز وميخائيل بوغوانوف تابعا التفاوض في جنيف وأشركا أيضا الإبراهيمي، وفي هذه المحطة اتضح أن تنقيح "اتفاق جنيف" 30 يونيو سيعكس تقارباً بين الدولتين وأنه يمكن عندئذ الذهاب إلى مجلس الأمن بمشروع قرار مستند إلى ذلك الاتفاق لإلزام الطرفين بوقف إطلاق النار وإطلاق "عملية نقل السلطة". كانت روسيا ذهبت إلى أقصى حد في استغلال قضية "التدخل الخارجي" في سوريا، والمقصود هو التدخل العسكري، رغم علمها بأنه لم يكن مطروحاً في أي وقت، لا بالسيناريو العراقي (الاجتياح والاحتلال)، ولا بالسيناريو الليبي (تدمير القدرات العسكرية للنظام)، ولعل ما سحب هذه الورقة من الاستغلال الروسي إعلان رئيس "الائتلاف الوطني السوري"، إن المعارضة لم تعد تحتاج إلى قوات دولية لمساعدتها ضد النظام وفي الوقت نفسه، كانت روسيا تراهن على أن يحسم النظام الموقف العسكري لصالحه، فهذا يقوي موقفها التفاوضي، ويمنحها الوقت الكافي لخوض المساومة الكبرى مع أمريكا، لكنها فوجئت، مثل الأمريكيين، بأن الإنجازات الميدانية للمعارضة تنافس كل المساومات وتسابقها، حتى أصبح همّ الدولتين التعجيل بالتفاهم قبل أن تفرض عليهما الأرض أمراً واقعاً يصعب التعامل معه. وفيما أعلنت واشنطن اعترافها بـ"الائتلاف" ممثلاً شرعياً للشعب السوري، بادر نائب وزير الخارجية الروسي إلى القول إن المعارضة تكسب "ويمكن أن تنتصر"، لكن الأمريكيين استبقوا الاعتراف بوضع "جبهة النصرة" على قائمة الإرهاب، ثم أن الروس نفوا كلام نائب الوزير بوغوانوف مؤكدين أن موقفهم "لم ولن يتغير"، ولا يعني هذا التذبذب الزئبقي سوى أن الدولتين لم تقفلا ملفاتهما الأخرى لحسم موقفهما حيال الوضع السوري، وطالما أن موسكو تعرف أن الأمريكيين لا يحبذون تدخلاً عسكرياً، وواشنطن تعرف أن الروس لا نفوذ فعلياً لهم على رأس النظام السوري، فإن "التغيير" المرتقب لابد أن يصاغ في قرار لمجلس الأمن. وحين يتبلغ النظام في دمشق أن روسيا ستؤيد قراراً ملزماً بوقف النار والشروع في نقل السلطة سيعرف أن اللعبة الروسية التي ارتكز عليها لمقاتلة شعبه قد انتهت.
703
| 17 ديسمبر 2012
يعيش العراق على وقع الأزمة السورية، ويفضل الوسط السياسي أن يقصر الأزمة الداخلية على الملفات العالقة، وهي كثيرة، لكن الجميع يعلم أن المسلسل الذي بدأ غداة الانسحاب الأمريكي أواخر العام الماضي ما لبث أن وجد معادلات استطاع رئيس الوزراء نوري المالكي أن يستخدمها لإبقاء الأوضاع على حالها، أي لإبقاء كل الخيوط وكل السلطات في يده وحده، غير أن الاستقطاب على خلفية ما يحصل في سوريا لامس الأزمة الداخلية وصار يؤثر في أداء اللاعبين فيها. لم يكن هناك أي تطور جوهري جديد يوجب على الحكومة المركزية في بغداد والحكومة الكردية في أربيل الذهاب إلى شفير مواجهة عسكرية، فمن المعروف أن هناك أربع محافظات (نينوى، أربيل، كركوك، وديالى) فيها مناطق صنفها الدستور بأنها "متنازع عليها"، كما أن هناك لجنة لتنفيذ المادة 140، المتعلقة بهذه المناطق ويفترض أن تقوم بعملها، إلا أنها لم تحرز أي تقدم منذ 2005 حتى الآن، رغم رفدها بخبرات مساعدة من الأمم المتحدة، ثم أن هناك "تفاهمات" تعود إلى عامي 2009 و2010 وتنظم العلاقة الانتقالية بين الحكومتين خلال الفترة السابقة لحل النزاع في تلك المناطق، ومن تدابيرها الأمنية تسيير دوريات مشتركة فيها. من هنا أن حادث طوزخورماتو، قبل أسبوعين، إثر مطاردة القوات العراقية لأحد المهربين وفراره إلى الجانب الكردي، كان بالإمكان أن يعالج في إطار تلك "التفاهمات" التي تحتم التوصل إليها بعد حوادث مشابهة ومنعاً للاحتكاك بين القوات العراقية وقوات "البشمركة" الكردية، إذن، ما الذي دعا حكومة بغداد أو بالأحرى رئيسها تحديدا، إلى إنشاء "قوة عمليات دجلة" وإعطائها صلاحيات التدخل حيث تدعو الحاجة؟ طبعاً، هناك الدافع الأمني البحت، وكذلك الدافع "السيادي"، إذ أن احتكاكات في مناسبات عدة سابقة خلفت غضباً وإحباطاً في صفوف القوات العراقية، غير أن العرف جرى على حل مثل هذه الإشكالات ثنائياً ولا يتيح الإجراءات الأحادية الجانب. صحيح أن "الانتهاكات" تعددت من الجانبين على مر الأعوام الماضية، وأن الأمريكيين كانوا يتدخلون لمنع التوتر، إلا أن انسحاب هؤلاء ترك للطرفين هذه المهمة. لكن العلاقة بين بغداد وأربيل شهدت طوال هذه السنة انهيارات متتالية،ويمكن رصد مراحلها باستعراض عاجل كالآتي: 1- موافقة حكومة إقليم كردستان على استقبال نائب الرئيس طارق الهاشمي بعد اتهامه بالتورط في "أعمال إرهابية" وردّه بأن الأمر لا يعدو كونه "مكيدة سياسية" رتبها المالكي للتخلص منه. 2- قضية الهاشمي فتحت أزمة تفرد المالكي بالسلطات كافة، وتحولت أربيل عاصمة للمعارضة حيث جرى التنسيق بين رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني وزعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر ورئيس قائمة "العراقية" إياد علاوي لطرح مطالب محددة لحل هذه الأزمة، وإلا فإن الأطراف الثلاثة ستطرح إطاحة المالكي بتصويت في البرلمان. 3- انتقادات بارزاني للمالكي بلغت حداً أقصى من الشدة، وترافقت بدعوة الزعيم الكردي الولايات المتحدة إلى عدم الموافقة على بيع طائرات حربية من طراز "إف 16" لحكومة بغداد مشككاً بطرق استخدامها. 4- خلال الشهور الماضية توالت الإشكالات: تعاقد أربيل مع شركات عالمية للتنقيب عن النفط من دون التنسيق مع بغداد، تصدير النفط الكردي ومرجعية مداخيله، حصة إقليم كردستان من الموازنة العامة وعدم تناسبها مع معايير تحديد حصص المناطق الأخرى، فضلاً عن المشكلة التي طرحت باكراً وهي تتعلق بتمويل "البشمركة" باعتباره جيشاً ثانيا تموله بغداد إلا أنه لا ينسق معها ويرفض أي تدخل في شؤونه. استطاع المالكي أن يفكك الحملة الموجهة لإطاحته. فمن جهته أمكن ضبط اندفاع مقتدى الصدر بتدخل إيراني، ومن جهة أخرى أمكن له أن يشق صفوف السنّة عبر صفقات سياسية فردية، وبقيت أمامه العقدة الكردية، لذا زار فجأة كركوك من قبيل الاستفزاز، لكن أيضاً من قبيل مخاطبة السنة بأنه حامي وحدة العراق. في المقابل زادت أربيل تقاربها مع تركيا، بل استقبلت مسؤولين كباراً من أنقرة، بينهم وزير الخارجية الذي زار أيضاً كركوك، مما أثار احتجاجاً رسمياً من بغداد، يضاف إلى ذلك أن موقفي الحكومتين كانا متقاربين حيال الأزمة السورية، ثم افترقا عملياً، فمع تزايد المعلومات عن مساعدة بغداد للنظام السوري بالتفاهم مع طهران، وطلب واشنطن من السلطات العراقية منع مرور شحنات السلاح الإيرانية إلى دمشق وتفتيش الطائرات الإيرانية المشكوك بها، استضافت أربيل لقاء لأكراد سوريا بغية تنسيق دورهم في الثورة، وينسب إلى إقليم كردستان أنه أشرف على تسليح أكراد سوريا وتدريبهم. أواخر أكتوبر الماضي حاولت وحدات من الجيش العراقي اجتياز منطقة "متنازع عليها" للوصول إلى الحدود مع سوريا بهدف تأمين هذه الحدود، لكن القوات الكردية لم تسمح بمرورها بحجة أن الحدود لا تحتاج إلى تعزيزات، ومخافة أن يكون الهدف الفعلي تشكيل ضغط على الأكراد، ومن الأسباب التي ذكرت أيضاً أن بغداد أرادت فتح خط عسكري دائم لدعم قوات النظام السوري، لذلك قرأ الأكراد تصعيد المالكي عبر "قوة عمليات دجلة" بأنه متعمد للرد على توافقهم مع تركيا وعلى وضوح موقفهم ضد نظام دمشق. والمؤكد أن الأكراد يعملون في العراق كما في سوريا لمصلحة الأكراد، ومن الطبيعي أن سقوط نظام بشار الأسد يخدم تلك المصلحة في حين أن بغداد المالكي ربطت موقفها بمحور طهران ولا تبدي أي ارتياح لتغيير الحكم في سوريا يمكن أن يأتي بنظام متعاطف مع سنّة العراق. في أي حال، تتعامل الدول المجاورة لسوريا بقلق مع تداعيات أزمتها وتتفاوت هذه التداعيات من لبنان إلى تركيا والعراق والأردن، وإذ تبقى الساحة الأكثر هشاشة في لبنان، فإن السياسة التي اتبعتها الحكومة العراقية أدت حتى الآن إلى ضمان عدم استخدام العراق ضد النظام إلا أن الدور الكردي شكل اختراقا لهذه السياسة، ولذلك تسبب بالتوتر الحالي، لكن التدخلات الخارجية، لا سيما الأمريكية وحتى الإيرانية حالت حتى الآن دون انفجار الوضع.
760
| 10 ديسمبر 2012
ماذا يعني أن ترفض الولايات المتحدة، شكلاً وموضوعاً، قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة قبول فلسطين "دولة غير عضو"؟ وهل أن هذه الجمعية انتهكت القوانين الدولية لتجد الدولة العظمى ضرورة للتصدي لها؟ وما هو الدافع النفسي – الشخصي الذي يجعل المندوبة الأمريكية سوزان رايس تحتقر طموحات شعب وقع عليه ظلم تاريخي فتخاطبه بأن "كبسة زر" لن تصنع له "دولة"؟ ولماذا الإصرار الأمريكي – البريطاني على أن تكون ولادة "دولة فلسطين" بقرار إسرائيلي، أو حتى بـ"اتفاق" بين الطرفين، مايعني مسبقاً أن هذه الدولة لن تكون يوماً مستقلة بل محكوماً عليها أن تبقى مرتبطة بدولة الاحتلال؟ ولماذا يشترط على فلسطين ألا تنضم إلى المحكمة الجنائية الدولية، وألا تفكر في اللجوء إليها لمقاضاة إسرائيل أو أي مسؤول فيها يرتكب جرائم، فيما يعتبر أي قرار إسرائيلي باغتيال أي فلسطيني حتى لو كان زعيماً قراراً متمتعاً بالشرعية وتتدافع الدول الغربية لتبريره؟ أسئلة كثيرة تزاحمت في تلك اللحظة الأممية، حين كانت الأسرة الدولية تحاول إثبات أن العدالة لم تمت تماماً بعد، حتى لو كان تجسيدها يحتاج إلى مزيد من الإرادة، لاشك أن سوزان رايس كانت تعبر عن موقف الولايات المتحدة، الذي لا يجهله أحد، لكنها زادت شيئاً من الانفعال واللؤم إلى حد أن أوساط الوفود في أروقة الأمم المتحدة راحت تلهج بالقول إنها كانت تحاول تعزيز حظوظها لخلافة هيلاري كلينتون في الخارجية، دافعت رايس عن سياسة رئيسها باراك أوباما التي فشلت فشلاً ذريعاً في الملف الفلسطيني، الذي لا يزال الأهم والأخطر، بل لا يزال محكاً رئيسياً لتقويم أمريكا وصورتها عند الشعوب العربية والإسلامية وسائر الشعوب المحبة للسلام. أي سياسة هذه اتبعها أوباما، وهي لم تقم أساساً إلا على الضغط على الطرف الأضعف، وترهيبه لإجباره على العودة إلى مفاوضات معروف سلفاً أنها مجحفة وخاضعة للاحتيالات الإسرائيلية – الأمريكية، وأي معنى لقول أوباما وسائر مساعديه وناطقيه أن الاستيطان "غير مقبول" والتوسع به "مرفوض" و"غير شرعي" ومع ذلك تمارس كل الضغوط على الفلسطينيين للقبول به والمساهمة في إعطائه مشروعية فقط من أجل استئناف مفاوضات لا نهائية، و"من دون شروط مسبقة"، حتى أن القول بـ"إزالة الاحتلال" صار يعتبر من الشروط المسبقة غير المقبولة، ومعلوم أن مبعوثين أمريكيين لم يترددوا في تهديد الرئيس الفلسطيني في أمنه الشخصي، وفي المساعدات التي تعول عليها السلطة لتتمكن من الاستمرار. لاشك أن قرار الجمعية العامة انطوى على رسالة بالغة الأهمية، وهي تلك التي رغب الفلسطينيون في إطلاقها إلى العالم، ومفادها أن المفاوضات باتت مصيدة لسلب الشعب الفلسطيني مزيداً من الأرض والحقوق التاريخية والمستقبلية. أما الرسالة الأخرى فهي أن الرعاية الدولية للمفاوضات ليست نزيهة ولا حيادية بل تسعى إلى تثبيت الاحتلال. إذ لم ينس أحد أن عشرين عاماً مضت على هذه المفاوضات، وأن الحكومات الإسرائيلية المتتابعة تناوبت على تضليلها وإغراقها بالمساومات، وبالتالي فإن الأدوار الملتبسة التي تلعبها "الرباعية" الدولية على هامش التواطؤ الأمريكي – الإسرائيلي لم تعد صالحة لإدارة الملف، وتبقى رسالة ثالثة استشعرتها الإدارة الأمريكية، وهي أن قرار الجمعية العامة يلح عليها لإجراء مراجعة عميقة للمقاربة التي تبنتها لـ"سلام الشرق الأوسط"، إذ باتت متيقنة أن سياسة أخرى تختبئ وراء استجابة تحولات "الربيع العربي" لن تستقيم أخلاقياً ومعنوياً ما دام تشريع الظلم هو السائد بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني. فكيف يمكن تصديق واشنطن ولندن وبرلين حين تنبري للدفاع عن "حقوق الإنسان" المصري أو الليبي أو اليمني أو السوري، فيما تحاك أقذر المناورات لإبقاء حقوق الفلسطيني منتهكة ومحتقرة. ثمة وضع قانوني جديد اكتسبته القضية الفلسطينية، فبأي ذريعة وأي حق وأي مسوغ ستتصرف الولايات المتحدة وإسرائيل كأنه لم يكن، ففي مواجهة الرسائل التي بعثت بها مائة وثمان وثلاثون دولة، اختارت واشنطن أن تقول ببساطة أن القانون الدولي والإرادة الدولية مجرد هراء لا قيمة له. حسن، هذا يعني أن الإرادة الأمريكية وحدها ما يمكن أن يصنع الفارق، لكن أين هذه الإرادة، فلا وجود لها، أو هي معطلة، وبالتالي فهي أيضاً لا قيمة لها إذا لم تكن فاعلة ونافذة من أجل إحقاق الحق، لذلك لم يقرر الفلسطينيون اللجوء إلى الأمم المتحدة إلا عندما تيقنوا بأن الدور الأمريكي استنفد نفسه وأصبح مساهماً في الجمود القاتل. كان إنجازاً رمزياً للفلسطينيين، وسيحرص الأمريكيون والإسرائيليون على "تدفيعهم" ثمنه باهظاً، لكن ما أضفى على رمزيته بعداً ديناميكياً إعلان "حماس" أنها تساند السلطة في مسعاها الدولي، وكان ذلك مؤشراً غير مسبوق إلى إرهاصات مصالحة فلسطينية أصبحت الآن أكثر إلحاحاً لمواجهة الصعوبات الآتية، فالعدو الإسرائيلي سينتقم من السلطة ومن عموم الشعب، لأنه يرفض أن يتمتع الفلسطينيون بورقة دولية يستقوون بها عليه، لذلك يمكن توقع كل أنواع الإجرام من جانبه، غير أن الأهم أن الصحيح يجب أن يصح، وهو طبعاً إعادة القضية الفلسطينية إلى بوتقة المشروع الوطني.
580
| 03 ديسمبر 2012
قبل وقف إطلاق النار وبعده في غزة، دخلت الدوائر السياسية، وكذلك وسائل الإعلام الإسرائيلية، في عملية معقدة لتحديد من كسب ومن خسر في المواجهة، طبعاً، سجلت جميعا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يتلفظ بكلمة "نصر" أو "انتصار"، في تصريحاته بعد إعلان التهدئة الجديدة، في حين أن رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، خالد مشعل كان واضحاً: انتصرنا، وانهزمت إسرائيل. كان ملاحظاً أن الحسابات الدقيقة، المجدولة، توصلت إلى أن كل طرف حقق إنجازات أو مكاسب، لكنها المرة الأولى التي تضطر فيها المصادر الإسرائيلية إلى الخروج من ميزان القوى العسكرية كمعيار وحيد لتقويم النتائج، ذاك أن عناصر أخرى دخلت على الخط وجعلت الإسرائيلي القوي يهزم رغم قوته، والفلسطيني الضعيف ينتصر رغم ضعفه، فمعادلة "الهدوء مقابل الهدوء"، لا تناسب غطرسة القوة الإسرائيلية، لكنها بالنسبة إلى الجانب الفلسطيني تبدو إيجابية لأن العدو هو من طلب التهدئة ووافق على شروطها على مضض حتى لو لم يكن مستعداً لالتزامها. المعادلة الأخرى، البشعة والمؤسفة، هي أن الإسرائيلي يستند إلى الفائض الهائل للقوة للحصول على "شرعية"، دولية لجرائمه، في حين أن الفلسطيني يعرف مسبقاً أنه مضطر للتضحية بالعديد من الأرواح البشرية للحصول على شيء من التعاطف الدولي، في حرب 2008-2009 ظلت المواجهة قائمة حتى اللحظة الأخيرة بين تلك "الشرعية" الغاشمة وبين ذلك التعاطف العاجز، هذه المرة تغيرت عناوين المواجهة، فالإسرائيلي حصل في البداية على تأييد لـ"دفاعه عن نفسه"، وتصور أنه يستطيع المضي إلى الخطوة التالية واجتياح قطاع غزة، إلا أنه فوجئ بأنه لا يملك مثل هذا "التفويض"، من حلفائه وأصدقائه. فهم حلفاء إسرائيل وأصدقاؤها هؤلاء أن تغييرا حصل في البيئة الإقليمية، أما بنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان وأيهود باراك وسائر أفراد العصابة فلا يريدون أن يفهموا. كما لم تفهم عصابات أخرى سبقتهم إلى السلطة في إسرائيل ماذا عني إقرار العرب قبل نحو عشرين عاماً بأنهم يختارون "عملية السلام" ثم أكدوا في قمة عمان عام 2001، أن السلام هو "خيارهم الاستراتيجي" ومع ذلك دأب الإسرائيليون ولا يزالون على التصرف على أساس أن الحرب المستمرة هي خيارهم الاستراتيجي، أما التغيير الإقليمي فظهرت معالمه أولاً بالموقف التركي الثابت منذ 2009، ثم في اللهجة الجديدة التي اعتمدتها مصر متخلية عن نهج العهد السابق، ثم في التناغم المصري – التركي – القطري الذي بات يتبلور كمحور جديد لإدارة شؤون المنطقة خلال تحولاتها الراهنة. اعتبر محللان إسرائيليان في صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن إسرائيل حققت إنجازات أهمها نجاح منظومة "القبة الحديد" في اعتراض أكثر من 85 في المائة من الصواريخ الفلسطينية، وكذلك اغتيال قائد "كتائب القسام" أحمد الجعبري وأيضا تدمير أكثر من 1400 هدف، كان واضحا الهدف التجاري بالتسويق لفاعلية منظومة "القبة الحديد"، لكن الأكثر وضوحاً هو الهلع الذي أحدثه وصول الصواريخ إلى تل أبيب، إذ أنه شكل الدافع الرئيسي لإلحاح حكومة نتنياهو على إنجاز هدنة في أسرع وقت لئلاً تضطر مع استمرار سقوط الصواريخ في "غوش دان" ومنطقة القدس للذهاب إلى هجوم بري حتى لو لم تكن هناك تغطية أمريكية له. أما استشهاد الجعبري، وهو خسارة كبيرة لـ"حماس"، فلم يؤد إلى انهيار في صفوف الحركة، كما توقعت إسرائيل، بل واصلت القيام بعملها بثبات لافت، ويبقى أن "الأهداف"، التي دمرت فعلا أنها شحذت الاشمئزاز العالمي من إسرائيل، فإن الإسرائيليين يعرفون قبل سواهم أن هذا الدمار لا يغير شيئاً في معادلة القوة مقابل الإرادة. بالانتقال إلى حساب مكاسب الاتفاق على التهدئة، وطالما أن التفاهمات التفصيلية لم تعلن، فإن الإسرائيليين استسهلوا وضع التمنيات في ما يفترض أنه معلومات، كأن يقولوا مثلاً إن إسرائيل أرغمت مصر على العودة إلى التوسط بينها وبين "حماس"، أو أن يقولوا إن "حماس" تعهدت الامتناع ومنع سائر الفصائل من القيام بأي عمليات، إلا أن النقطة التي حرص الإسرائيليون على إبقائها غامضة تتعلق تحديداً بتعهد حكومة نتنياهو عدم القيام باغتيالات، وقد انقسم المحللون بين من لا يعتبره تنازلاً لأن "التهدئة" تستبعد الحاجة إلى التصفيات وبين من يراه عنصرا غير مسبوق في التعهدات الإسرائيلية، خصوصاً أن الولايات المتحدة ضمنت مثل هذا التنازل لتشجع مصر على المشاركة في قبول التهدئة وضمانها. لكن أبرز الخسائر الإسرائيلية تبقى سياسية، إذ أن مجىء هيلاري كلينتون رمى إلى وضع النقاط على الحروف أمام نتنياهو وعصابته، فليس هذا هو الوقت المناسب لإفساد العلاقات الأمريكية مع مصر وتركيا، بالنظر إلى الاستحقاقات المنتظرة مع سوريا وإيران، فضلاً عن العلاقات مع دول الخليج، وحتى بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية وتصميمها على التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على صفة "الدولة غير العضو"، فإن واشنطن لا ترى أن هذه الخطوة يجب أن تقابل بإجراءات عقابية بل بمساع للتخفيف من أضرارها على إسرائيل، إلا إذا كانت هذه الأخيرة ترى مصلحة في دفع السلطة الفلسطينية إلى الانهيار، وإذا كانت ترى مثل هذه المصلحة فما هو البديل الذي تتصوره، وهل هي مستعدة للدخول في حوار مع "حماس"، وسواها، بمثل هذا المنطق كشفت كلينتون لنتنياهو ما كان أدركه قبل وصولها، وهو أن حكومته دخلت مغامرة من دون أن تحسب أو ترسم نهايتها. وعلى أساس هذا المنطق استطاعت كلينتون أن ترجح إنجاز التهدئة بسرعة ومن دون الدخول في لعبة الشروط والشروط المضادة وليس مؤكداً أن هذه المصارحة الأمريكية للحليف الإسرائيلي ستدفعه إلى تعديل سياساته، لكنها وضعته على الأقل أمام ضرورة النظر إلى الوضع الإقليمي بشيء من الواقعية والاعتراف بالحقائق، وهذا في حد ذاته يبين لنتنياهو أن المرحلة المقبلة مع باراك أوباما لن تكون بالسهولة التي يتصورها، فهو شاء إحراج الرئيس الأمريكي وامتحانه، ولم يحصل على النتيجة التي توخاها، إذ لم يرفض منحه الضوء الأخضر لاجتياح غزة فحسب، بل ارتكز إلى المتغيرات الإقليمية ليفهمه أن سياسات التطرف الإسرائيلي باتت عبئاً على الولايات المتحدة.
911
| 26 نوفمبر 2012
ينبغي على العرب، عبر الجامعة العربية أو لجنة خاصة تشكلها الحكومات المهتمة، إجراء مراجعة عاجلة وعميقة للحالة التي يمثلها قطاع غزة، وفي ضوء هذه المراجعة ينبغي مفاتحة الدول الكبرى، سواء في "الرباعية"، أو في مجلس الأمن، بأن الوضع الذي استنبطته إسرائيل في غزة لم يعد مقبولاً. فالادعاء بأن إسرائيل انسحبت، ولم تعد عليها مسؤوليات، بل أصبحت دولة مجاورة للقطاع، وأن القطاع أصبح مجرد منطقة معادية لا تراعي متطلبات "حُسن الجوار"، فيه الكثير من الخداع والمراوغة بمقدار ما هو متحلل من أي قانون دولي. أقول: ينبغي، لأن الوضع لم يعد يطاق، ولأن إسرائيل حرصت لدى انسحابها من القطاع على أن تؤسس كياناً منفصلاً جغرافياً، لبثت ان جعلت منه حقل اختبار لأسلحتها الجديدة، وللسياسات التي تجترحها بغية تصفية القضية الفلسطينية على الأرض الفلسطينية، هذا الانسحاب لم يكن في إطار تصفية الاحتلال، إذ لم يتبعه إجراء مماثل في الضفة الغربية، ولا تطبيق لأحد أهم شروط الحل السلمي وهو أن يكون القطاع والضفة متصلين جغرافياً، وإذا كانت حكومة أيهود أولمرت التي خلفت حكومة ارييل شارون بعد الانسحاب، أوحت أو تظاهرت بأنها تريد استكمال الخطوة في الضفة، إلا أن الحكومة الإسرائيلية الراهنة لا تعتبر نفسها معنية بمشاريع الانسحاب من الضفة، بل تضم المزيد من الأرض إلى خريطة الاستيطان، وبالتالي كان ما حصل في غزة مجرد خدعة تبقي الاحتلال من خلال القيود التي فرضت على القطاع، لكنها مكنت الاحتلال من التخفف من الأعباء اليومية، وأعطته تجاه المجتمع الدولي الحجة لمواصلة جرائمه واعتداءاته ضد القطاع وأهله. في المقابل، لا يعتبر الواقع في الضفة بأفضل مما هو القطاع، إذ أن الاحتلال مستمر لأجزاء كبيرة، كما أن المسالمة والسعي إلى التفاوض اللذين تتبعهما السلطة الفلسطينية جرى تقزيمهما إلى مجرد تنسيق أمني هو في معظمه لمصلحة إسرائيل، فيما تمارس حكومة نتنياهو إزاء السلطة سياسة صلف وتهميش لا تمت بأي صلة إلى علاقة بين "شركاء في السلام". ما يعني أن الإسرائيليين لا يقبلون النهج المسالم لأنه يضايقهم ويسبب لهم ازعاجات في العالم، ويرفضون بطبيعة الحال النهج المقاوم وإن كانوا يفضلونه لأنه يمكنهم من القيام بمغامرات عسكرية من دون أن يحاسبهم أحد على وحشيتهم. في الحرب الجديدة على غزة لم تشذ أي دولة غربية عن الاصطفاف المعتاد، إذ دعمت إسرائيل في "دفاعها عن نفسها" لم تر هذه الدول الهدنات التي سبقت طوال الأعوام الستة الماضية، ولم تجهد نفسها لمعرفة الظروف التي أدت إلى انهيار التهدئة، بل إن كل ما رأته هو الصواريخ وكل ما سمعته هو الصراخ الإسرائيلي احتجاجاً على هذه الصواريخ. لكن المسألة أكثر تعقيداً وعمقاً من الصورة التي تقدمها إسرائيل، ولا تبدي الدول الغربية أي رغبة في التعرف إلى حقيقة المشكلة. لذلك ينبغي أن يكون هناك تحرك عربي رافض للواقع الذي أسسته إسرائيل وتستغله، خصوصاً أن العرب هم الذين يتعرضون لتبعات هذا الواقع، ثم أنهم مدركون حقيقة الخديعة التي انطوى عليها "الانسحاب المسموم" من قطاع غزة من دون أي اتفاق مع أي جهة فلسطينية، بالأحرى السلطة، رغم حرص الإسرائيليين على توثيق هذا الانسحاب لدى الأمم المتحدة لاكتساب "مشروعية" لكل المخالفات والجرائم التي سيرتكبونها لاحقاً في صف القطاع وأهله. مع ذلك، لا تولي إسرائيل أي قيمة لأي جهة تمثل الأمم المتحدة، ولم يطرح أحد بجدية ضرورة إيجاد أي إطار قانوني دولي للوضع الذي نشأ في القطاع، كأن يكون هناك إشراف دولي أو عربي عليه. وكل ما قبلت به إسرائيل هو إشراف على المعابر التي تتحكم بفتحها وإغلاقها. وحتى عندما صارت قضية الحصار مطروحة دولياً بعد الهجوم الوحشي على "قافلة الحرية" في ربيع 2010، لم يستطع المجتمع الدولي طرح مسألة الحصار واتخاذ مواقف إجرائية بشأنها، لأن "الفيتو" الأمريكي يعطل القانون الدولي حين يشاء تماماً كما تفعل روسيا والصين حيال الأزمة السورية الآن. لكن ما لا يقره القانون الدولي لإسرائيل في ممارساتها، تولت "الرباعية" الدولية تسويفه عندما تبنت شروط إسرائيل على حركة "حماس" غداة انتخابات 2006، ورغم أن هذه "الرباعية" تتخذ مواقف كلامية ترفض الحصار كما ترفض مواصلة الاستيطان، إلا أن مواقفها العملية تتسم بالعدائية للطرف المعتدى عليه. وكان لافتاً خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب لقاء وزير الخارجية الروسي مع نظرائه الخليجيين أن سيرغي لافروف دعا إلى تنشيط "الرباعية"، لكنه لم يشر إلى أي فكرة جديدة يمكن لروسيا أن تقدمها لجعل هذه "الرباعية" أكثر فاعلية في معالجة الملف الساخن الذي تديره وكأنها مجرد شاهد زور. لا شك أن ما زاد الوضع الغزي غموضاً والتباساً هو الصراع الفلسطيني – الفلسطيني على النفوذ والسلطة، الذي أدى لاحقاً إلى انقسام يرفضه المجتمع ولا يستطيع شيئاً لإزالته ومعالجة تداعياته. هذا الانقسام تلقفته إسرائيل كـ"هدية" مجانية، وما لبثت مع الولايات المتحدة أن حولت أداة من أدوات دفع الأوضاع الفلسطينية إلى التدهور والانهيار، من خلال التلاعب على فتح وحماس معاً، وعلى السلطة و"الحكومة المقالة"، وأيضا على العرب الذين استدرج بعضهم إلى إذكاء هذا التلاعب، ترسيخاً للانقسام. ومع مضي الوقت ازداد الانقسام خطورة، لأنه ربما لدى الجانبين قناعات باستحالة العودة إلى العمل معاً، خصوصاً أنهما لم يعملا معاً في السابق إلا في حدود تنسيقات عابرة، ثم أن اعتناق كل طرف منهجاً خاصاً في فهم واقع القضية الفلسطينية وطرق العمل من أجلها، بين تفاوض ومقاومة، وبين مقاومة شعبية وأخرى مسلحة، وفاقم الصعوبات أمام أي مصالحة، وفي المرحلة الأخيرة طرأ معطى جديد من خلال التغيير الحاصل في مصر، إذ أن جماعة "الإخوان المسلمين" المسيطرة على الحكم ترتبط بعلاقات وثيقة مع "حماس" وتعتزم تغيير المقاربة المصرية للمصالحة. عندما استشعرت مصر أخيراً أن العدوان على غزة موجه إليها أيضا، حاولت إبداء العديد من الإشارات إلى أن رد فعلها لن يكون بالتأكيد كما في 2008 إبان حكم مبارك، لكن بمعزل عن الحدود التي يمكن أن يبلغها الموقف المصري، لابد للقاهرة أن تبذل لاحقاً وسريعاً أقصى الجهد لتفعيل اتفاقات المصالحة الفلسطينية، فهذا هو الرد المطلوب، الضروري والمجدي، على العدوان على غزة وعلى التهميش الذي يمارس ضد السلطة الفلسطينية.
405
| 19 نوفمبر 2012
من بين الدلالات الكثيرة لإعادة انتخاب باراك أوباما تبقى تلك الأكثر أهمية، وهي أن الناخب الأمريكي أدرك أن هناك تغييراً عميقاً استطاع الرئيس الأسود أن يحققه في مفهوم الزعامة الأمريكية وهو ما أشار إليه في خطابه بعد الفوز التاريخي بالنأي عن مسألة الحرب، "نزعة وعقدة" لطالما تحكمتا بالنظرة إلى أي رئيس، كان، بيل كلينتون حاول ذلك من دون أن يحدده كهدف علني، ومن دون أن يجعله معياراً للحكم عليه، ولم ينجح كلياً، وعندما خلفه جورج دبليو بوش كان واضحاً أنه لن يكمل هذا النهج لأنه ينتمي إلى المدرسة التقليدية التي تصنع "الرئيس المحارب"، وما لبثت هجمات 11 سبتمبر 2001 أن حسمت خياراته وقناعاته، فأحاط نفسه بزمرة اليمين المحافظ التي جعلت "الحرب على الإرهاب"، وريثة للحرب الباردة، وهذه الزمرة نفسها ظهرت في حملة ميت رومني ومنيت معه بالهزيمة. هذا التغيير، الذي لم يترسخ بعد، وقد تسهم الولاية الثانية لأوباما في تأكيده، ليس مرتبطاً بنمط تفكيري فحسب، وإنما بعوامل وحقائق أبرزها أن الأزمة الاقتصادية كشفت ضرورة الاهتمام بالداخل الأمريكي بدرجة أكبر، ولم يكن الحديث عن مسائل التعليم والبنى التحتية والصحة وفرص العمل خلال الحملة الانتخابية سوى عينات مما يجب إيلاؤه رعاية مطلوبة منذ زمن، ثم أن الأزمة الاقتصادية لفتت إلى كلفة حروب بوش وفرضت إعادة تفكير في نهج "الزعامة" الذي بلغ في اعتناقه القوة حد التهور، خصوصاً أن تلك الحروب لم تحقق للولايات المتحدة الأهداف التي توختها بل أدت عملياً إلى إضعاف قيادتها للعالم، وأبرزت قوى أخرى مثل روسيا والصين اللتين تشكلان حالياً تحديات صعبة لأمريكا في ما يبدو أنه إعادة إنتاج للحرب الباردة. سيكون على أوباما أن يثبت في السنوات الأربع المقبلة مؤدى هذا التغيير، بأن يحافظ على مكانة الولايات المتحدة من دون أن يضطر إلى تقديم تنازلات واضحة للروس والصينيين، فهؤلاء بدورهم لا يسعون إلى حروب ساخنة لابد أن تنعكس على اقتصاداتهم واستقرار أوضاعهم، إلا أنهم سيواصلون التحدي لإنزال أمريكا من علياء القوة العظمى الوحيدة التي تتصرف وكأنهم غير موجودين. من الطبيعي أن الصراع بين القوى الثلاث سيزداد، وربما كانت موسكو وبكين تفضلان فوز رومني لاعتقادهما أن سياسات اليمين الأمريكي أسهل استغلالاً من جانبهما، في حين أن السياسة الأوبامية المهادنة تخلق لهما تعقيدات يصعب التعامل معها، كما يظهر حالياً في الأزمتين السورية والإيرانية، إذ أن سلبيتهما فيما يخص سوريا أدت إلى تعطيل مجلس الأمن، بل إلى تعطيل كل الحلول سياسة كانت أو عسكرية، كما أن إيجابيتهما الشكلية في التعامل مع الأزمة الإيرانية لم تستطيع التغطية على اختراقهما نظام العقوبات رغم موافقتهما العلنية على التزامه. بديهي أن أوباما يعود إلى البيت الأبيض أكثر قوة وأوسع تفويضاً من جانب الأمريكيين، وقد فهم أن العبرة في فوزه تتعلق بالداخل وليس بالخارج، ومع ذلك فإن هذا الفوز لا يعني، بل لا يتيح له، الانطلاق في سياسات انقلابية على ما انتهجه في ولايته الأولى، بالنسبة إلى الداخل يستطيع أن يستنتج أنه نال ثقة بالطريقة التي اختارها للتعامل جذرياً مع الأزمة الاقتصادية، إذ سعى إلى ضوابط تغير عقلية الأسواق المالية وتقاليدها، وتمكن من نيل تأييد قسم كبير من المؤسسات التي أيقنت أن معالجة سطحية عاجلة يمكن أن تنجح آنياً غير أنها ستمهد لأزمة أخرى قد تكون أكثر كارثية، صحيح أن انتقادات وجهت إلى أوباما بأنه استعاد بعض مفاهيم اليسار والاشتراكية، إلا أن هذه بقيت مآخذ سياسية وأيديولوجية، فالمحك الحقيقي كان في النتائج التي تحققت فعلاً وتلك المتوقعة في المرحلة المقبلة. وهذا ما لعبت دوراً حاسماً في الخيار الانتخابي، لأن المرشح الجمهوري كان يريد إعادة معالجة الأزمة إلى منطلقات غير مضمونة. والواقع أن نجاح المعالجة الأوبامية للأزمة يؤثر مباشرة على معظم الدول التي تعتبر حليفة تقليدياً للولايات المتحدة، فالأزمة بدأت في نيويورك ثم انتشرت، ولعل تفرق الحلفاء في معالجتها هو ما أدى إلى البلبلة المستمرة في أوروبا، وما أجل ويؤجل الانفراج المؤمل به. أما بالنسبة إلى الخارج ونزعاته وأزماته؛ فإن المشكلة مع نهج أوباما هي أن الولايات المتحدة حافظت معه على احتكارها للحلول والمبادرات، وليس مؤكداً أنه يريد أن يغير هذا الواقع، رأينا أن نشاطاً كبيراً حصل في بداية ولايته الأولى على صعيد المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، ثم رأينا الجمود التام، بل الانصياع الخالص للإرادة الإسرائيلية، وقد انعكس ذلك على قدرات القوى الأخرى المعنية بما فيها الأمم المتحدة على التعاطي مع هذا الملف، وفي ما يخص الأزمة الإيرانية كان واضحاً أن أوباما لم يسع إلى خطوات حاسمة، حتى أنه واجه تحدياً غير مسبوق من جانب "حليفه" الإسرائيلي الذي راح يدفعه دفعاً للذهاب إلى الحرب، بل يرضخ أوباما، تحديداً لأن مؤسسته العسكرية لا تريد هذه الحرب، ولأن الحلفاء الأوروبيين لا يريدونها أيضاً، وإذا أراد أن يستعيد العمل العسكري فلابد له أن يتوصل إلى حل تفاوضي قد تكون إيران راغبة فيه الآن بسبب تفاقم تأثير العقوبات عليها، وايضاً لأن أوضاع حليفها السوري لم تعد تكسبها أي قوة بل باشرت إضعاف نفوذها. لا شك أن أول استحقاقات السياسة الخارجية لأوباما في ولايته الثانية ستكون سوريا، وهي ستتحكم بمجمل الملفات الأخرى سواء ما يتعلق منها بإيجاد تفاهمات مع روسيا والصين، أو بمجريات التفاوض مع إيران، أو بقيود العلاقة الاستراتيجية مع إسرائيل، لكن، مرة أخرى، لابد له من العودة إلى الملف الفلسطيني، لأنه يبقى أساسياً وجوهرياً إذا ما أراد أوباما أن يترك إرثاً طيباً في دبلوماسيته وبالأخص إذا ما أراد أن يصحح تعامله مع تحولات "الربيع العربي" التي باتت تشيع خيبة الأمل هنا وهناك.
570
| 12 نوفمبر 2012
مساحة إعلانية
-«المتنبي» حاضراً في افتتاح «كأس العرب» - «أبو...
2475
| 07 ديسمبر 2025
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب...
2292
| 10 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا...
1200
| 09 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل...
783
| 10 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل...
681
| 11 ديسمبر 2025
حسناً.. الجاهل لا يخدع، ولا يلبس أثواب الحكمة،...
660
| 08 ديسمبر 2025
أيام قليلة تفصلنا عن واحدٍ من أجمل أيام...
597
| 08 ديسمبر 2025
يُتهم الإسلام زورًا وبهتانًا بأنه جاء ليهدم الدنيا...
594
| 07 ديسمبر 2025
تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى...
576
| 12 ديسمبر 2025
شهدت قطر مع بداية شهر ديسمبر الحالي 2025...
570
| 07 ديسمبر 2025
نحن كمجتمع قطري متفقون اليوم على أن هناك...
543
| 11 ديسمبر 2025
• في حياة كل إنسان مساحة خاصة في...
531
| 11 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية