رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مَرّت قرابة العشرة أيّام منذ انقضاء بطولة كأس العالم. غادرت أفواجُ الجماهير، وبقي منهم من وقع حُسنُ البلادِ في نفسه موقعًا عميقًا فأراد اكتشاف المزيد من معالمها. رجع المقيمون الذين اضطرتهم الأحوال أن يقضوا إجازة البطولة حيث أهلهم وأحبّاؤهم، واُستؤنفت «الدوامات» بنسبة كاملة مطلع هذا الأسبوع، بعد أن كان العمل في أغلب مؤسسات وأجهزة القطاع العام مقصورًا على حضور ٢٠٪ فقط من الموظفين. انتشر -والبطولة على مشارف انتهائها- قولٌ يُفيد أن هنالك ما يُسمّى «اكتئاب ما بعد المونديال» يُصيب البلد المنظّم للحدث، وهي حالة نفسية تتلبّس ساكنيّ البلد، تتراوح بين الشوق والحزن بسبب انتهاء فعاليات البطولة، وعودة كل شيء تقريبًا إلى الحالة الطبيعية الروتينية. الإنسان مطواع لشروط البقاء حيثما كانت، قادرٌ على التكيّف في وعائها. وإنسان الخليج والجزيرة العربية عبر فصول تاريخ الزمن الحديث الذي عاشه تحت ظروف طقسية قاسية، قد استطاع أن يُوجِدَ لنفسه -على الدوام- قُدرة «المُضيّ قُدُمًا». ومما يشجيني -في أحيان كثيرة- ويدعوني إلى التفكّر هو اطّراد العلاقة العكسية التي باتت مشهودة -أقلُّهُ عندي- بين ارتفاع منسوب الرفاه وتدنّي نسبة التأقلم. تبرز هذه العلاقة تحديدًا عند الجيل الشبابي، والجيل الصاعد. يجد الشاب -بصفة عامة- صعوبة عالية في الخروج من أجواء حدثٍ كرنفالي والرجوع إلى أجواء الروتين الدائم. يشعر وكأنه سجينُ نسق من الأنساق الشعورية، أما لحظة القطيعة التي تفصله عن حالة الشعور المطبقة عليه، فإنها غالبًا ما تمرّ بأطوار من التحرر التدريجي، إلى أن يصل الشاب نفسيا وذهنيا للوضع الطبيعي المستقر. ومن أبرز مظاهر حالة التوق إلى بقاء أجواء الحدث العارمة، وحالة عدم تقبّل حقيقة أن البلاد قد رجعت إلى عهدها هو وصول الإنتاجية عند الفرد الشاب إلى مستوى منخفض. وقد يأخذ هذا المستوى فترة من الوقت -تتفاوت من فرد لآخر- حتى يرتفع إلى المستوى المعهود. لقد أضاح لنا كأس العالم قطر ٢٠٢٢ عن العديد من الدلالات المتعلقة بإمكانات الدولة وقوّتها، وهي إمكانات ذات طبيعة مختلفة، أما تلك القوة فإنّما تُعبّر عن نموذج خاصٍّ بها. (شهد أن مفهوم القوة -كما هو معلوم- انشطارات عديدة إذ أصبح أوسع بكثير من مجرد القوة المادية/الصلبة). وفي حين انصرفت أغلب الأبصار التي شاهدت حيثيات البطولة -من أَلَفِها إلى يائها- نحو كفاءة الإدارة وجودة التنظيم وبراعة تصميم الملاعب، قليلة تلك الأعين التي شخصت إلى مآل كل هذه الاستحقاقات من حيث كونها تأكيد فصيح على علوِّ ثقة الدولة بنفسها. المشاريع الكبرى للدول في عمومها -ولاسيّما تلك المشاريع التي تكون في ساحةٍ تنافسيّةٍ تتسابق فيها الدول إلى نوالِها- ليست مشاريع ذاتَ بُعدٍ خارجيٍ فحسب؛ بل إنّها في الدرجة الأولى مشاريع تحدّي داخلي، تسعى الدول من خلال تحصيلها وتنظيمها إلى إثبات ذاتها. عندما قررت القيادة في قطر أن تتحدى دولًا كبرى في ملف استضافة كأس العالم ٢٠٢٢، مثّل هذا القرار إثباتًا نظريًّا للذات. وبعدما نجحت الدولة في هذا التفوق النظري، رمت بثقلها نحو الاستعداد للبطولة بشكلٍ ملموس. ومن ثم حققت الدولة كما شهدنا نجاحًا استثنائيًا -بكل الأبعاد والمقاييس- قادها إلى إثبات ذاتها إثباتًا عمليًّا أمام شهود البشرية. بل إن الإثبات العملي للذات القطرية في الساحة الدولية لم يقتصر على استعراض كل تلك القدرات المادية والإعلامية واللوجستية المتنوعة التي حازتها الدولة، إنّما امتد نطاقُهُ ليشمل تقديم الثقافة المحلية وامتداداتها العربية والإسلامية كأبهى ما يكون هذا التقديم. مما تدوول في قنوات التواصل الاجتماعي -عربيًّا- أن قطر قدّمت للعالمِ دروسًا مجانية في القوة الناعمة؛ والحق أني بتُّ أتحفظ على استخدام مصطلح «القوة الناعمة» لفرط ما اُستخدم من قِبَلِ القاصي والداني، فكأنه قد تحوّل -مع كثرة الاستخدام- إلى مصطلح وصفيٍّ يُراد منه اختزال طيف واسع من الأفعال السياسية البنّاءة المتنوعة في إطارٍ واحد لا غير. وقد أراني أميّز نوعًا جديدًا مختلفًا من القوة الاستراتيجية التي يمكن أن نسمّيها «القوة المُشرقة»، ذلك أن الإشراق لا يمكن حجبه ولا مقاومته. ولأن الإشراق أيضًا ناصع وممتد وفيّاض. شاهدُ الفكرة التي أريد إيصالها بهذا الشأن، هو أن ميدان التفاعلات السياسية يتسع شيئًا فشيئًا حتى لقد يبدو أفسح بكثير من إمكانية تأطيره في مجموعة قليلة من الاصطلاحات. إنها قطرُ «القوة المشرقة» إذن، التي أشعلت مدارات الكوكب البشري رغم مصاعب الطريق، ورغم بعض الآلام. هي البلاد التي لا نريد لوهجها أن يخفت، ولا لنورها أن يتضاءل، بالتضحية، بالعرق، بالدماء، بكل ما يقتضيه الحال، بأي ثمن ذهني أو روحي، وليُسَمِّهِ المُسمّي ما يشاء. على أن رايتها الخفّاقة، لسنا نرضى -في الوقت عينه- أن تخفق إلا بالعز والعدالة والإحسان. وعندئذ، هنا، وهناك، وفي كل كور من أكوار الدنيا، ما أكثر ما بُهِتَ المُتربّصون أمام رايةِ البلاد المشرقة، ما أكثر ما نكص المُرجفون على أعقابهم، وبَقيت قطر تعانق «هامَ السحايب والرعود»، كما يقول الشاعر الكبير فالح العجلان. لقد حرصت الدولة في السنوات السابقة على تأهيل المجتمع تأهيلًا نفسيًّا للبطولة، فضخّت عبر كلّ قنوات التواصل الداخليّة جرعات عالية من أهميتها، حتى خُيّل لدى البعض أنه حدثٌ من «طينة» الأحداث الجذرية. أي تلك الأحداث التي تنقل البلدان نقلةً جديدة، وبكل ما تحمله الجِدّةُ من معنى. سرت قناعةٌ عميقةٌ في عروق الشعب -خاصّة عند القوى الوطنية العاملة في القطاع العام- نتيجةَ تمحور الكثرة الكاثرة من مشاريع الدولة حول كأس العالم بأنه الحدث الأضخم في تاريخ المكان والإنسان، حتى بدا أن لحظة ما بعد البطولة هي لحظةٌ عصية على التخيّل. وها نحن اليوم قد وصلنا مرحلة «الما بعد» هذه. وفي الواقع، فإن كأس العالم هو حلقة حيوية في سلسلة نهضتنا المستمرة، وينبغي أن يُنظر إليه على هذا النحو، بل ينبغي أن يعمل القطري كل يومٍ بموجب هذا الاعتبار. أما الآن، فإن الفرصة قد توانت لاستخلاص القلة القليلة من الأشواك التي صاحبت المنتوج الهائل لثمار هذه البطولة، ودراسة المحصلة الواسعة للمشهد العام بتفاصيله. آن الأوان لقياس مواطن النجاح وأسبابه، بقدر حاجتنا إلى الوقوف على بعض مكامن القصور الاعتيادية (فهو جهد بشري في الأخير) من أجل تطوير كافة القدرات. ولا يمكن أن تكتمل الاستفادة، وأن تصل إلى أقصى نطاقاتها إلا باستحضار الضرورة في البحث عن ماهيّة الخطوة النوعية الجديدة، المُكمّلة لاستحقاقات المرحلة وطموحاتها. ولو سُئلت ما هي هذه الخطوة الممكنة؟ لأجبت إجابةً مجازية ومقصودة ترتدي لبوس السؤال: لم لا ننظم كأس عالم ثقافي؟
1830
| 30 ديسمبر 2022
(١) يأبى القلم أن يستلين في هذا المقام التاريخي الذي تَبَوّأتَه بلادُنا الكريمة قطر، أو بالأحرى انتزعتَهُ انتزاعاً، وعن جدارة. وعلامَ يُلامُ القلمُ إذا اشتدّت حبسته وأصبح القول عليه عصيًّا؟ علامَ يُلامُ وهو واجِدٌ نفسه -هذه اللحظة- أمام دهشة الإنجاز التي ينبغي الاحتفاء بها حتى آخر رمق؟. ثم ألا يكون حقيقاً على امرئ مثلي - في مقام مثل هذا- أن يعيش في كنف الفرحة وجموحها؟ بدلًا - وعلى سبيل المثال- من الانهمام نحو كتابة حدثٍ يمكن الكتابة عنه في وقتٍ قريبٍ قادم؟ منذ شهرٍ ويزيد، واسم «قطر» يطوي الأرض من كُلِّ جِهاتِها.. شهرٌ كاملٌ من التاريخ المعاصر، كأنّما قد توقّفت فيه أزمنة الأحداث والوقائع والهموم والهواجس الأخرى، والتفتت أعينُ الأرض كلها إلى شُهودِ قصّة الإبداع المونديالية التي نَسجَتَها قطر، وأصْخَت أذانها إلى سماعِ الصوت القطري صادحاً وحده. (٢) لا يختلف اثنان حول قدرة الإنسان المتجددة على إنتاج الأفكار الخلّاقة -وعلى نحوٍ يوميّ- ولكنهما لا يختلفان أيضًا حول عجزه عن تحويل أغلب أفكاره إلى مشاريع عملية ملموسة. تختلف العوائق التي تحول دون إمكانية تنفيذ الفكرة عند الإنسان، وتستفيض في اختلافها هذا، ولكن أي فكرة، لا يمكن لها -ولكي تتحقق- أن تستغني عن الرؤية والمُضيّ والعزم. ليس بوسع الفكرة -من أجل الوصول- أن تتخلّى عن الإيمان الذي أتقن وصفه الحسن البصري رحمه الله حين قال: «الإيمان ما وَقَرَ في القلب وصَدَّقَه العمل». (٣) كانت كأس العالم في بادئ أمرها مجرّد فكرة حالمة. (وقلة قليلة فقط من القطريين الذين عرفوا تفاصيل نشأة هذه الفكرة وتطوّرها، وعما إذا كان منشؤها جاء في مطالع الألفية أم ما قبل ذلك، مع أني أرجّح أنها تعود لنهاية التسعينيات الميلادية). لم تكن المعطيات الواقعية المتوافرة آنذاك كافية لأن تلعب دور الدعائم البنيوية القادرة على تحويل الفكرة إلى رهان حقيقي مُمكن؛ إذ تحيط بها مجموعة هائلة من التحديات الداخلية والخارجية. حتى لقد بدا أن تلبيتها -آنذاك- ليس إلّا ضربًا من ضروب التمنّي الغارق في مثاليّته. ولو أن أحدهم قال هذه الكلمات في مجلس من مجالس قطر، قبل عشرين عاما: «سننظّم بطولة كأس العالم، وسنجمع البشرية من كل حدبٍ وصوب، سنعرّفهم على ثقافتنا أحسن تعريف، وسننجح في تنظيمها نجاحًا منقطع النظير، وستكون نسخة لا مثيل لها من قبل» لهزأ منه الحاضرون وضحكوا عليه، وكيف لا؟ وهم يعيشون -وقتذاك- في واقعٍ مناقض لمقولة هذا الرجل الحالم. (٤) ما الذي حصل إذن؟ وكيف نفهمه؟ يصعب عليّ تلخيصُ هذه السيرة الكثيفة في مُجرّد مقال، فهي تمتد منذ ما يزيد على العقد والنصف، وتحديدًا منذ آسياد الدوحة ٢٠٠٦ التي تُعَدّ باكورة الأحداث الرياضية الكبيرة في عهد سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. بل هي تعود إلى ما قبل ذلك. إنها -باختصار- سيرة قطر المعاصرة التي وُلِدَت في يونيو ١٩٩٥م. وُلِدَتْ قطرنا -التي نعيش تحت ظلها الظليل اليوم- في تجاويف آخر عقد من عقود الألفية الثانية الذي كان يشهد مخاضًا عسيرًا من التحولات العالمية، وقد حُفَّ طريق صعودها بالعديد من المخاطر التي استطاعت -بعد توفيق الله وحنكة قائدها- أن تتجاوزها. والحق أنه ليس هناك ما هو أكثر صعوبة من محاولة استيعاب منجز من منجزات الدولة خلال العقدين الماضيين -باختلاف طبيعته- دون العودة إلى الجذور الجديدة التي غرسها سمو الأمير الوالد في طول الدولة وعرضها، واستقراء دورها وتتبع تطوراتها وفهم تأثيراتها. (٥) في تجربتنا القطرية المعاصرة، تظهر هُنالك سلسلة من السببيات الواضحة التي لا تخطئها العين، تمثّل هذه السببيات المشاريع الاستراتيجية التي رسمت القيادةُ تصوراتَها، وتولّت زمامَ تنفيذها عبر القطاعات المختلفة. تندرجُ هذه السببيات ضمن رؤيةٍ صارمةٍ لخطّ سير مشاريع الدولة. فكأن كل مشروع منها سببٌ أو بوّابةٌ لمشروعٍ آخر ضمن مسارٍ تصاعدي، وتوسّعي في الآن نفسه. لم يُولَد مشروعٌ واحد من مشاريع الدولة -في عهدي سمو الأمير وسمو الأمير الوالد- بمحض الصدفة، ولم يأتِ نتيجة سياق غير مقصود. وقلّما أُقيمَ حدث من الأحداث الرياضية لمجرّد أن هناك فرصة قد توانت لتنظيمه. ومن دون مبالغة، فمعظم المناسبات التي أُنجزت قد أُعِدَّ لها إعداد مُسبَق ومدروس، قياسًا على معرفة دقيقة لمستوى الإمكانات، وتقصٍّ يقظ لحجم الفرص ومواقيتها. (٦) للفيلسوف الأسكتلندي توماس كارليل كتابٌ مشهور اسمه «الأبطال». استعرض في ثناياه سِتَّ صُوَرٍ، من صور أبطال التاريخ -حسب وجهة نظره-. مثّل كلُّ بطل منهم مجالًا مستقلاً عن مجالِ البطلِ الآخر. فوجد كارليل صورة «البطل النبي» في شخصية رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه، ووجد في شكسبير ودانتي شخصية البطل في صورة شاعر، وهلمّ جرّا. وضع كارليل في كتابه هذا جانبًا عريضًا من رؤيته للتاريخ الإنساني، بل أذاب في متن مؤلفه هذا محصولًا مركزيًّا من تصوُّرِه لفلسفة التاريخ، حيث يرى أن التاريخ إنّما يُصنَعُ من قبل الأفراد ذوي الهمم الخارقة. أولئك الذين يكون بمستطاعهم التغلب على الإكراهات الطبيعية والقيود البشرية. ينتصر كارليل هنا للفاعلية على البنية، أي إذا كان مجتمع الظواهر الإنسانية يتكون من بنية تجسّد المؤسسات والقوانين والأعراف والتقاليد والحتميات، فاعلية تجسّد النوايا والرغبات والتصورات والطموحات والأفعال. وإذا كانت البنية غالبًا ما تكون هي الأكثر تأثيرًا في مسار التطور البشري من الفاعلية التي غالبًا ما تكون انعكاسًا للفرد؛ فإن كارليل يرى أن العكس هو الصحيح، وأن التاريخ قد حقق انعطافاته الحاسمة بفضل قدرة أولئك الأفراد على صناعة التغيير وإدارته. قال كارليل مقالته هذه في منتصف القرن التاسع عشر، وعارضه فيها خلقٌ كثر، الذي يهمّني في هذا السياق هو استحضار رؤية كارليل وحسب. إذ إنها تتلاءم في كثير من مضامينها مع ما أنا بصدده. كما أن بينها وبين النموذج القطري العديد من التقاطعات، وليس في ذلك اقتطاع ولا رغبوية ولا إسقاط بتاتًا البتة. هل كانت النهضة القطرية المعاصرة -بعيدًا عن الالتباسات المشروعة وغير المشروعة حولها- نتاجَ كتلة تاريخية مثلًا؟ أم أن الفرد فيها كان اللاعب الأكبر؟ وربما الوحيد. (٧) سأحاول تقديم إجابة موجزة جدًّا، للسؤالين الواردين في الفقرة الرابعة أعلاه. أولًّا: كَرَّرتُ في مواضع سابقة، أن المجتمع القطري هو مجتمعٌ حديثٌ. وهو حديثٌ بقدر حداثة أجهزة الدولة ومؤسساتها، هذا في حال لم يكن في واقع الأمر أحدثُ منها، تُعَدُّ هذه الحقيقة أصلا مركزيا في معادلة فهم الحالة القطرية، واستيعاب ظواهرها المختلفة. ثانيًا: إن حالة البساطة التي كانت تعتري المجتمع القطري في الثمانينيات والتسعينيات، وهو في ذلك الوقت كان لا يزال يكبر شيئًا فشيئًا، إضافةً إلى حالة الركود التي أَطْبَقَتْ على آلية إنتاج الدولة جرّاء النزاعات السياسية الخارجية المحيطة، قد أدّت -كلٌّ من هاتين الحالتين- إلى تحفيز نخبة قيادية جديدة، ثم أسهمت إسهامًا كبيرًا في دفع هذه النخبة نحو المبادرة الحاسمة، وذلك في ضوء ما تمتلكه البلاد من طاقات كامنة يمكن تفعيلها. ثالثًا: وَجَدَتْ النخبة الصاعدة في التسعينيات أنها إزاء مجتمع صغير -لا يفتأ يتشكّل- يعاني من الجمود النسبي الملحوظ، وهو في أَمَسِّ الحاجة إلى من يبعث في أوصاله روح العمل، ويأخذ به إلى مرحلة نوعية جديدة. من هنا اُستحدِثَت ركائز لنقل الدولة والمجتمع من حال إلى آخر، من أهم هذه الركائز هو التعليم العالي. وفي رأيي أن تاريخ التعليم العالي المعاصر في قطر هو نافذة أوليّة لقراءة تحولات العقدين الماضيين. رابعًا: رُوعِيَ في عملية الانتقال -دعوني أسمّيها الانتقال الثاني- من التقليد إلى التحديث الربط بين المشاريع الحيوية مثل الاستثمار في التعليم والأمن والبنية التحتية، وبين توظيف هذه المشاريع في أحداث كبيرة، فكأن العلاقة بينهما طردية. بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك وأقول لولا وجود تصوّر عملي لتنظيم أحداث عالمية لما اكتسبت المشاريع الحيوية كلّ ذلك الاهتمام الضخم. (٨) بدأت كأس العالم بالعرضة وانتهت بالبشت، وبينهما سيرة ناصعة من المواقف التي وطّدت قيمنا ومبادئنا وأعرافنا أمام أفواج العالم، لم تكن مجرد حدث رياضي، إنّما كانت منبرًا شامخًا رسخّت فيه القيادة القطرية بلسان العرب والقطريين عُمقَ انتمائها واعتزازها بالثقافة العربية والإسلامية.
1122
| 23 ديسمبر 2022
سمعتُ في أحد المجالس، معلومةً حول أثر تدريس العلوم الأكاديمية باللغة العربية، تقول: حينما كان الطبيب السوري ينتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية مُهاجرًا أو متدربًا أو طالبًا للزمالة، ويبدأ بمزاولة الطب في مستشفياتها، فإنه يكون الأمهر والأبرع والأسرع تطوّرًا من بين كل الأطباء العرب غير الناطقين بالإنجليزية، كلغة أولى. السبب وراء ذلك ببساطة هو لأن الطب في جامعات سورية يُدرّس باللغة العربية، بينما تعتمد الأكاديميات في الدول العربية الأخرى -بلا استثناء- تدريس الطب وغيره من العلوم بلغات أخرى، مُفضّلةً أن تستعير العلوم استعارة، وفي دفقة واحدة. هذا يعني أن مضامين العلم في المؤسسات العلمية في سورية (قبل الثورة) مثل: المصادر العلمية والمراجع البحثية في حقل الطب، المكتوبة بلغات أجنبية، قد تُرجمِتْ إلى العربية ترجمةً لا بد أن تكون على قدرٍ عال من العِلميّة والدقة، ثم قُدّمت إلى الطالب الجامعي في سورية، ليدْرسها باللغة الأم الساكنة أحشاء عقله، والتي لا يحتاج معها إلى وسيط بينه وبين أي علمٍ كان. تُعَدّ الحقيقة السابقة عيّنة بيّنة، ويستطيع كلُّ عاقلٍ أن يختبر صحّتها بنفسه، وليس ثمة حاجة إلى التفصيل فيها، ذلك إن عملية تحصيل العلوم بلغة ثانية، وسيطة، غالبًا ما تعتريها صعوبات كثيرة على مستويات عدة، مثل مستوى: تلقّي العلم، ومستوى إدراكه، ومستوى بناء الفهم، ثم التأصيل أي: ضم الفروع إلى أصولها، وصولًا إلى تمثّل كُليّات العلم في الذهن وأجزاءه تمثّلًا واضحًا. تحصيل كل ما سبق سيواجه مشكلة تتعلّق بدرجة تفاعل الدماغ البشري مع الأدوات اللغوية المختلفة عن تلك الأدوات التي اعتادها. بخلاف لو كانت اللغة العلمية هي اللغة الأولى. واللغة الأولى في الأصل، وفي الغالب الأعم، ضربٌ من البرمجة الذهنية التي تصوغ عملية إدراك الوجود وتفكيكه وتركيبه لدى الإنسان. وهذه المسألة الآنفة، بالتحديد، كانت ولا تزال محلَّ نزاع طويل بين اللغويين، والألسنيين. حيث انقسم القوم إلى مذاهبَ، وانحازوا إلى فرق، وانتسبوا إلى آراء ينأى بعضها عن بعض من أبرزها تيّار يرى بأن نظرة الإنسان إلى العالم تختلف باختلاف لغته، على اعتبار أن اللغة وعاءٌ من المفاهيم والتصورات التي تراكمت حدًّا أصبحت تمثّلُ فيه خصوصيةًّ ثقافية، مقابل خصوصيّات ثقافيّةٍ أخرى تنعكس -بطبيعة الحال- في لغاتٍ أخرى. وتيّارٌ آخر يشدّد على أن العالم سيظل متشابهًا لدى الإنسان سواء كان شرقيًّا أم غربيًّا، وأن اللغة ليست سوى نظام من العلامات والأصوات يستهدف إيصال المعنى وحسب، بينما يظل تصوّر هذا الوجود متعاليًّا عن شروط اللغة ووظائفها، فلذا يصعب تقسيم العالم إلى أنساق لغوية نماذجية، كل نسق منها قائم بذاته ويحمل في داخله معطيات هي بالضرورة متمايزة من حيث الرؤية والنتيجة. وقد يبدو أن حال اللغة العربية لدى الأسر القطرية، والمجتمع عامّةً، منقسم بين مسارات متعددة. نجمت هذه المسارات -في الأصل- عن التحوّلات الاقتصادية والسياسية والمؤسسية في الدولة، ونتجت كذلك عن مشاريع التحديث البنيوية التي بدأت منذ مطالع سبعينات القرن الماضي. وقد خاضت -تلك المشاريع- مُدَدًا تنوّعت وتيرة السرعة فيها من مُدّة إلى أخرى. إذ إن حجم عمليات التحديث ومعدل تسارعها بدءًا من الألفية الجديدة: كبير وعال، مقارنةً مع مرحلة التسعينات والثمانينات وما قبلها. وأرى أن المقام يحدوني هنا إلى التنويه على مسألة منهجية جديرٌ أن يُشار إليها. إن تحقيب تاريخنا المعاصر، أي تقسيمه إلى حِقَبْ عَقْديّة متعددة، بمعنى: تصنيف كل عقد من العقود الماضية تصنيفًا مستقلًّا، والنظر إلى عَقْدْ السبعينات -مثلًا- بصفته يمثّل مرحلة ذات سمات وأنماط متشابهة خاصّة به لوحده، ثم استنتاج -بناء على ذلك- أنه يختلف بطبيعته وظروفه ونسقه المعرفي عن عقد الثمانينات، وأن الثمانينات تختلف بدورها عن التسعينات، وهكذا دواليك. ثم اعتبار أن محصّلة جُل هذه الاختلافات هي انتساب الفرد من الناحية الذهنية والتصوّرية والثقافية إلى العقد الذي وُلِدَ فيه. ليكون المولود عام ١٩٨١م مثلًا أقرب إلى الذي وُلِدَ في ١٩٨٩م، منه إلى المولود في ١٩٧٩م. إن هذا التحقيب والتنسيب لا شك أنهما يخلوان من أي منطق، بل هما إلى الشعبوية ألصق. كما إن تقسيم المراحل التاريخية بناء على العقد الزمني: أبعد ما يكون عن الدقة، لكونه تقسيما إحصائيا جامدا، يتمركز حول السَنَة المُرقَّمَة، بما هي سَنَة. والسَّنَة -ليت شعري- هل تستطيع الإنباء أو الإفصاح عن مضمونٍ ما ذي دلالة؟ إذا كانت خالية من حدثٍ إمّا أن يكون مكمّلًا لنظام نسقيٍّ قائم، أو حدثٍ يكون قاطعًا ومؤسِسًا لنظام نسقيٍّ جديد. على أية حال، نؤوب إلى المسارات الاجتماعية في قطر، التي اجترحتها مشاريع التحديث حول الموقف من اللغة العربية واللغات الحديثة، فنقسمّها -بشيءٍ من التعميم - إلى أربع شرائح اجتماعية: الأولى: تعتقد بوجوب ترسيخ اللغة العربية كلغة أولى، وأن للحاضنة الأسرية دورا مركزيا في سبيل ذلك. تغلب على أرباب الأسرة فيها النزعةُ التديّنية، ولديهم حد متوسط-عالٍ من التصورات الواعية بذاتهم وبمحيطهم وانتمائهم، تجعلهم يلحقون صغارهم بحلقات التحفيظ القرآنية، ومتابعة التحصيل العربي عندهم. هذه الفئة باتت أقلية قليلة في المجتمع. كما أن جُلّ الأسر المنتمين إلى هذه الدائرة ينعمون باستقرار يطبع علاقة الزوجين ويحفظ انسجام الأسرة وتماسكها. والتماسك الأسري هنا لا يعني أنه السبب الأوحد المُشكِّل لهذه الذهنيّة. الثانية: تستشعر قيمة اللغة العربية، من منطلق يجمع بين مقتضيات الانتماء الهوياتي والثقافي الديني، ولكنها تجد صعوبة في الموازنة بين أعبائها الوظيفية والتزاماتها الاجتماعية ونوازعها الرفاهية، مما يحول دون تعميق العربية في التكوين العلمي واللغوي لأبنائها وبناتها. فتُسنَد كل المهمة إلى المؤسسات التعليمية حكومية أو خاصة، والهدف الأكبر بالنسبة لها هو نجاح صغارها، لا تعلُّمهِم. الناتج الطبيعي من هذا المنزع هو نشوء فئة من الجيل الصاعد ضعيفة الصلة بكلتا اللغتين، هجينة الذهن، مقسومةً بينهما، لا إلى هذه ولا إلى تلك. ويتبدّى عليها سمات القلق الذاتي. الثالثة: حيادية إزاء ضرورة تعليم اللغة العربية، أو ربما حيادها هذا أقرب إلى كونه قصورًا بليغًا من جهة الإحساس بالمسؤولية، موازاة مع اعتقادها بأهمية تكييف أبنائها في سوق العمل، المنحاز -عالميًّا ورأسماليًّا- إلى اللغة الإنجليزية بصفتها لغة المعرفة والتقنية الحديثة. وهذه الشريحة أصبحت -وفق اللقاءات الاجتماعية المتواترة والانطباع المتراكم- هي الأغلبية السائدة، في مجتمع قطر. الرابعة: متأثرة بتدفق الثقافة الغربية، عبر إما الدراسة في مؤسسات مدرسية/أكاديمية غربية. أو الاحتكاك ببيئات غربية وأقوام غربيين وإقامة علاقات تواصل. أو التلقي الاستهلاكي للبضائع والمنتجات الغربية المختلفة، أو حتى مسايرتها لمحيط اجتماعي يتقمّص أو يتبنّى أدوات الاتصال والمعرفة الغربية. تعيش هذه الشريحة قطيعةً تامّة بأصولها الثقافية والتاريخية العربية، ويقتصر انتماؤها على شكليات المراسيم الاجتماعية. بل إن علاقتها بعمقها العربي أصبحن مرتبكات، ومُسامَةً بأشكال الخجل والاضطراب. تبرز هذه الشريحة أيّما بروز في الأماكن المفتوحة ونجدها تحديدًا لدى بعض الأمهات اللائي يخاطبن أبناءهن وبناتهن باللغة الإنجليزية، اعتقادًا منهن -ربما- بتفوّق الجرس الموسيقي الإنجليزي. أو بسبب تفضيلهن لنوع من اللطافة الذوقية الكائنة في لغة الإنجليز، وكيف أن صغارهن حين يعبّرون بالأحرف والمفردات الإنجليزية فإن ذلك يكون آسرًا وساحرًا ومعُزّزًا لشعور الأمومة، المتخيّلة، ويا لها من أمومة مقلوبة. أما الآباء المنتمون إلى هذه الشريحة، فهم إما يلقون عبء التربية على الأمهات. أو ينساقون إلى تعزيز هذه البنية الثقافية الدخيلة على حساب البنية الثقافية الطبيعية لأن شروط العصر وأحواله قد حتّمت هذا الانسياق. أو ينخرطون نحو تعزيزها بما هي الثقافة الوحيدة الضامنة للتفوق والتقدم والنجاح؛ وهذه مأساة أخرى. إن التقسيم الآنف، لا يعكس المشهد الأدق للتحول الثقافي داخل الأسر القطرية (ولاسيّما موقفها من المعرفة واللغة) في العقود الثلاثة الأخيرة؛ بقدر ما يعكس المشهد العام الجامع للاتجاهات القائمة داخل هذا التحول. يعني ذلك أن عملية التأطير الرباعية للشرائح الاجتماعية بحاجة إلى المزيد من التتبع الإحصائي والفحص التجريبي والتوثّق المتمهّل، رغم حالة الركض التي نعيشها وحالة التباعد التي نعمّقها، وحالة الانفلات الاجتماعي التي بدأت تلوح بعضُ إرهاصاتها.
2574
| 20 أكتوبر 2022
تأخذ القضايا - كما هو معهود- حيّزًا متواصلًا في تفكير أصحابها أو مُعايشيها، ما دامت تنعكس بشكل ملموس على الواقع اليومي، أو -أقل القليل- على الغَدِ القريب. يجعلُ التجاذبُ القلقُ منها واقعًا ماديًّا لا بُدَّ من احتواء آثاره، وتقليصه في أدنى حدٍّ ممكن. هذا في حال لم يسنح المجال بعلاجه أو تجاوزه. ما من قضية إلا ولها حل، يكمن في مكان ما، وينبغي استظهاره بتأنٍ وتَؤُدَة، واستيعابه بالنجاعة المُتوخّاة، وتعريفه بدقّة تامة. وحين يتبدّى الحل بشكل واضح، وبوصفه حلّا مُحدّدًا لمُشكلةٍ مُحددة، فليس ثمة تبرير يحول دون الأخذ به وفق الشروط الزمانية والمكانية، وبغض النظر عن الاعتبارات الإكراهية التي قد تتراءى لدى المسؤول. ولو فرضًا -كما هو حاصل في معظم البلدان النامية- قرر الفاعل في مؤسسة تنفيذية ما، أو هيئة حكومية ما، تأجيلَ النظر في تطبيق إجراءات الحل، ولاسيّما بعد تبيّنها، فإن المشكلة لا شك أنها منقادة بوجه أو بآخر إلى حلّها المؤجَلِ هذا، ولو طال الدهر، واستطال المطاف. هذا التمهيد الآنف هو من جنس البدهيات، حول شؤون الواقع وهواجسه. ثم لتبرز لنا في هكذا سياق: قضيةُ الزواج والطلاق وانخفاض معدلات الخصوبة في قطر بما هي إشكالية مستجدة، تفاقمت تدريجيًّا منذ الثمانينات، ولم تُسكَّن حتى هذا اليوم. في البدء، وقبل الإحاطة بأهم دلالات هذه الظاهرة مرورًا بالتباساتها وصولًا إلى أسئلتها الولود، من الضروري الإشارة إلى مسألة جوهرية تتعلق بحقيقةٍ تحكم محددات النطاق الاجتماعي في قطر، وهي أن المجتمع القطري: مجتمعٌ حديث. ينسى أو يتناسى العديد من الباحثين والمثقفّين، والمهتمّين بالشأن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في البلاد، الذين تدرُجُ ألسنتهم بمصطلح الدولة الحديثة ليلًا ونهارًا، إن المجتمع في قطر هو أكثر حداثةً من الدولة، وإنَّ لهذه الحقيقة لوازم واعتبارات ونتائج، تستلزم ضرورةَ التفكير في القضايا الاجتماعية ليس فقط من منظور مقابلتها بالدور المؤسسي الذي يؤثر فيها سلبًا وإيجابًا، بل أيضًا بقياسها على المعطيات التاريخية المهيمنة على طبيعة اتجاهات وسلوكيات الفرد والجماعة، بعضهم ببعض. تُفضي حداثة المجتمع إلى حقيقة أخرى تقول: إن التركيبات الاجتماعية المتنوعة التي تُعبّر عن المكون الاجتماعي القطري المعاصر، وبما هي تركيبات تحملُ في طيّاتها اختلافًا خصائصيًّا على مستوى بعض العناصر الهُويّاتية الصغرى - لدى مختلف الجماعات- مثل اللهجة وما تكتنزه من مخزون ثقافي وما تستبطنه من ذاكرةٍ تقاليديّة، فإنها لا محالة آيلة إلى التناقض. ولكنه تناقض لا يعبر عن محض صراع؛ بل هو أقرب إلى أن يكون تجسيدًا لمرحلة تاريخية، شبه- حتميّة، تُؤَخَذُ فيها التباينات الاجتماعية نحو الانصهار في الوسط المدني المشترك المُعبّر عنه بالدولة. وينبغي الانتباه إليه في هذا المقام إلى أن عملية الانصهار الاجتماعي ليست سوى ولادة جديدةٍ لثقافةٍ وذهنيةٍ جديدتين؛ وإنها انعكاس برهاني لجِدّة المجتمع وحداثته، كما أنها مؤذنة بتحولات نسبيّة تمس الخريطة الاجتماعية وتعيد تشكيل بنية الهُويّة الوطنية، أي تلك الأولويات المتعلقة بمسألة الانتماء الدولتي والمجتمعي وعواملها ومستوياتها، إلى جانب إعادة إنتاج المخيال السياسي لدى الجيل الذي وُلِدَ حديثًا، والأجيال التي لم تولد بعد، بأشكال وأنماط مختلفة. والحق إن هذه التحوّلات تمثّل القنطرة الأساسية التي ينتقل عبرها التكوين الاجتماعي الكلي من وضعيته التشكيلية الأولى المتسمة باتساع الفجوات بين شرائح المجال الاجتماعي، إلى الوضعية الأكثر تطوّرًا من حيث ارتفاع نسبة التجانس بين أفراد المجتمع. يبقى المذكور آنفًا بمثابة التعميم النظري الذي يهدف إلى رسمِ معالم الانتقال الافتراضية للمجتمع الحديث في الخليج والجزيرة العربية، وذلك من منطلق كونه لا يزال حديثًا ويعيش مخاضات متسارعة أغفلتها ولا تزال أعين التشخيص، وأفلتت هي بدورها عن أيدي النقد والتحليل المُواكِب لها. ورّث ضعف الرصد لدى - ليس عموم الناس وحسب، بل أيضًا لدى- الفئة المتعلمة والمثقفة: قصورًا في تقييم الظواهر الاجتماعية وفضلًا عن فهم كوامنها حال وقوعها، واستيعاب سيروراتها بعد وقوعها، ما أنتج بدوره - ولا يزال- قصورًا مُضاعفًا في تَبَيُّنِ مآلات البنية الاجتماعية. ربما استغرقتْ الفكرة السابقة مساحةً أكبر من التوضيح ما كان ينبغي لها ذلك لولا أهميتها التأسيسية، ومركزيّتها الكبرى -على الأقل عندي- في مقام التفكير الاجتماعي الخليجي. ومن ثمّ، فإن قضية انخفاض معدل الخصوبة في المجتمع القطري، الناتجة أصالةً عن انحسار حالات الزواج وتزايد حالات الطلاق بشكل نسبّي، فترةً تلوَ فترة، ينبغي في الحقيقة أن تُقاس من منظور الحقيقة الاجتماعية المذكورة أعلاه، إلى جانب عوامل عديدة (داخلية وخارجية) لا تقل أهميّة، بل هي تتواشج على نحوٍ جدليٍّ مع حَداثَة المجتمع والدولة. في السياق الداخلي، فقد مرّت الدولة بنقلة في منتصف التسعينيات، مثّلت بدورها حركة تصحيحية، اكتنفت تحوّلًا جذريًّا في تاريخ الدولة من جهة، وولادة جديدة لها من جهة أخرى. قاد مشروع النهضة الجديد، الذي ارتكز على الطفرة الاقتصادية ومداخيلها الضخمة، إلى: تطوير السوق القطرية، والاستثمار في مشاريع تعليمية كبرى، واستقدام وتأسيس مراكز البحث المختلفة، وتحويل وسائل الإعلام إلى مستوى أعلى من التفاعل والتأثير. وساهم كل ما سبق في نحت نموذج الرفاه الذي ترعرع في إطاره الجيل الحديث. والرفاه هنا بوصفه نموذجًا فإنه يتمظهر -أيضًا- في تقدّم المؤسسات التعليمية وتطورها، وارتفاع متوسط نسبة الخرّيجين الأكاديميين، وتوسّع سوق العمل، وتمكين المرأة؛ إذ أنه ليس مجرد رفاه شرائي أو استهلاكيّ. وسنرى كيف أن انخفاض معدل الخصوبة أخذ يتضاءل طوال تمرحل الفترة الممتدة من منتصف التسعينيات حتى هذه اللحظة، فيما قد يبيّن نوعًا من العلاقة الطردية بين مشكلات الخصوبة والتحولات الاقتصادية الواقعة في العقود الثلاثة الأخيرة. أما على الصعيد الخارجي، فقد أخذت النَقَلاتُ الثورية في الإعلام الحديث الجيلَ الصاعدَ في المجتمعات الخليجية نحو وعيٍ جديد يكاد يقطع مع سابقه. وأدّى انكشاف الأنماط الثقافية وغشيانها الهواتف المحمولة والأجهزة الإلكترونية المستخدمة على نطاق واسع، إلى تعاظمِ حالةٍ من التجاذب الثقافي. جاء هذا التجاذب متزامنًا مع نشوء مئات من الجيل القطري الصاعد: ذي نزعةٍ غربيةٍّ في تكوينه المعرفي، وفي نسق تفكيره. ويعود سبب ذلك إلى أنه إما قد درس في جامعات غربية أو لأنه تخرّجَ من الجامعات الأمريكية المنضوية تحت ما يعرف بالمدينة التعليمية، ثم تشرّب -إثر ذلك- قدرًا مضاعفًا من ثقافتها بانسياق لا-واعي أو إعجاب شديد لا حيلة له عليه، ولأسباب يطول شرحها. وفق الإحصاءات السكانية التي أجريت منذ منتصف الثمانينات في الدولة، واستنادًا إلى التقرير المنشور بعنوان «٩ عوامل وراء تراجع معدلات الخصوبة في قطر» تاريخ ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٢، (وهو تقرير يتناول مشروع معهد الدوحة الدولي للأسرة حول المحددات الاجتماعية للخصوبة في دولة قطر والتبعات السياساتية)، فإن معدل الخصوبة الكلية -الذي يقيس عدد المواليد الذي يمكن للمرأة أن تنجبه طوال حياتها- قد نقص من ٤.٦٪ في ١٩٩٧م إلى ٢.٩ في ٢٠١٧م. استنتج أغلب الباحثين الذين حاولوا فهم الأسباب الكامنة خلف هذا الانخفاض: أنّ اتساع شروط التعليم ومستوياته، وتمدد سوق العمل ومتطلباته، يُعدّان هما السببان الأبرز خلف تباطؤ معدلات الزواج، وارتفاع حالات الطلاق في قطر. وإليهما يُنسب الدور الأكبر وراء شعور الفرد - ذكرًا وأنثى- بالاستقلاليّة، والاستقلالية الماديّة على وجه التحديد، بحيث بدأ بعض الرجال ينظرون إلى منظومة الزواج بصفتها مجموعة من الأعباء المُكلْفِة، وكذلك الحال مع بعض النساء اللائي أخذن يتصوّرن الزواج باعتباره تقييدًا لحريّتهن أو طموحهن. لا خلاف على أن المحصلة التعليمية والعملية تُعَدّ عاملا من العوامل الرئيسة في مفاقمة هذه الظاهرة التي صرنا نعيشها - بما هي هاجس يتهدد مستقبل النسيج السكّاني- وذلك من جهة: أثر التعليم العالي وما يحتويه من انفتاح على نُظُم اجتماعية أخرى، على تبدُّلِ بعض التصورات تجاه فكرة الزواج. ودور العمل وما يستلزمه من وقت وما يؤديه من أجر، في تحوّل المعايير الناظمة لمؤسسة الزواج لدى الجيل المعاصر. يمكن حصر قَوام هذه التحوّلات في الفكرة الأساسية التالية: إن فكرة الزواج وبدلًا من أن تنبني على أساس تساكني وتراحمي تام، يشبع حاجة الزوجين ويحقق لهما الأمان العاطفي والنفسي، فقد أصبحت مُعرّضةً للتسليع الاقتصادي الذي يقاربها وفق منطق الربح والخسارة ويخضعها لقانون العرض والطلب. فيحدث كثيرًا أن تكون الأسباب المؤدية إلى العزوف عن الزواج، أو تلك المؤدية إلى الطلاق، هي نتاجُ قناعة ثاوية في ذهن النساء والرجال تتمحور حول سؤال «ما الذي لي؟ ثم ما الذي علي؟»، وهي قناعة ليست انعكاسًا لمبدأ الحقوق والواجبات، كما قد يُتصوَّر، بل هي مجرّد تَمَثُّلٍ عارمٍ لطغيان النماذج المعرفية - المادية على فضاء الذهنيات الاجتماعية السائدة، واقعًا وافتراضًا. وحسب الإحصاءات المنشورة على موقع جهاز التخطيط والإحصاء، وفي عملية حسابية استنتاجية سريعة، بوسعنا أن نتبين واقعية هذه المشكلة، التي ربما تتحول في يوم الأيام القريبة إلى معضلة حقيقية، ففي الفترة بين أغسطس ٢٠٢٠ ويوليو ٢٠٢٢ - أي العامين الماضيين- شهدت حالات الزواج انخفاضًا بنسبة ٣٤.٢٪ لدى الذكور، و٣٨٪ لدى الإناث. في حين بلغ إجمالي حالات الطلاق ارتفاعًا قدره ٣١.٨٪ لدى الذكور، و٣٦٪ لدى الإناث. إن هذه المعلومات الآنفة تقوّض الفكرة الشعبوية الرائجة الظانّة قولًا بأن فترة وباء كوفيد قد حفّزت الزواج ورفعت نسبته، ولكن لغة الأرقام أصدق شاهدًا، وأبلغ دلالة. يبقى القول بأن شتّى هذه التحولات إنّما تستدعي منا إعادة التفكير في الرهانات التي تحكم مسارَ انتقال المجتمع. كما تبقى ثمة تساؤلات مُلحّة، كأنما تجثم على العقل والضمير: ألا يعني التحول في معدلات الخصوبة تحوّلًا في القيم والتصورات والتفضيلات الاجتماعية؟ وهل هذه إلا تحولات للهُويّة، أي تمخّضات على مستوى أسس البنية الاجتماعية؟ ما الشكل الذي سيكون عليه المجتمع بعد عشر سنين/ عشرين سنة؟ هل تساءلنا عن ذلك تساؤلًا جادًّا؟ وكيف يمكن أن نفهم المسألة وأن نعالجها؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ *المقصود بلفظ حداثة في كل مواضع المقال هو كون الأمر حديثا وجديدا من الناحية الزمنية، لا منظومة الأفكار الخاصة بالحداثة.
3414
| 03 أكتوبر 2022
تحتل المسألةُ السكانية موقعًا متعاظمًا في هواجس المثقفين والمختصين بالشؤون التنموية الوطنية في بلدان الخليج العربي. وهي مسألةٌ قديمة حديثة، تُستدعى من وقتٍ لآخر على صعيد النقاشات اليومية، بسبب راهنيّتها المتجددة. ولكنها ظلت حاضرةً على الدوام في أذهان الباحثين الخليجيين المهمومين بآثار تعاظم الفجوة بين المواطنين والمقيمين، حتى لقد عُقِدَت في شأنها العديد من النقاشات العلمية، وقُدّمت أوراق بحثية شتّى. تَرجعُ أولى الكتاباتِ التي أثارت موضوعَ القضيّة السكانية، إلى فترة ما بعد الطفرة النفطية الأولى عام ١٩٧٣م. إذ كما هو معروف، حفّزت الطفرةُ الحكوماتَ الخليجية ودفعتها -في العموم- نحو استقدام القوى العاملة بشكل متسارع، لأغراضِ تشغيلها في عمليات تأسيس البنى التحتية. ثم بدأت هذه القضية تأخذُ حِيّزًا هاجسيًّا أوسع مع مرور الوقت، ولاسيّما في مرحلة الثمانينات الميلادية. وسرعان ما زادت وتيرةُ الأصواتِ الناقدة المُنبّهة على تنامي الخلل السكّاني في مطالع التسعينات، بسبب استمرار التدفق المتزايد للعمالة، مقابل الارتفاع النسبي البطيء لتعداد المواطنين. في السياق القطري، بلغ حجم السكان عام ١٩٧١م ١١١ ألف نسمة. وارتفع بشكل كبير عام ١٩٨٦م إلى ٣٦٩ ألف نسمة بأثر مباشرٍ من الطفرة النفطية الثانية الواقعة في ١٩٧٩م. ثم قَفَزَ إلى ٥٥٩ ألف نسمة عام ١٩٩٣م، حيث مثّلت نسبة المواطنين فيه نحوَ ٢٢٪ من مجموع السكان. في عام ١٩٩٦م طوّرت الدولة في قطر مشروع الغاز المُسال، الذي جاء الرهان عليه محفوفًا بشتى الاحتمالات، وكان نجاحه بمثابة الطفرة الاقتصادية الكبرى في تاريخ البلاد، حيث مهّد الطريقَ نحو زيادة نطاق المشروعات التحديثية وتوسيعها، فتوافقت الطفرة الغازيّة مع الطفرة النفطية الثالثة بين عامي ٢٠٠٢-٢٠٠٨م لترفدَ تطلعّات الدولة وتزيد من طموحاتها. ينطوي هذان الحدثان على تفسير دوافع ومقتضيات الاستمرار في جلب القوى العاملة الأجنبية، من حيث وجود تلازم -يبدو واضحًا- بين التحسّن الاقتصادي الناتج عن ارتفاع المدخولات المالية للدولة، وبين حاجتها إلى استثمار جزء مُعتبَر من هذه السيولة في تلبية الحاجات العمرانية الواسعة والمتعددة، وحاجتها الأخرى إلى عدد وافرٍ من القوى البشرية القادرة على القيام بأعباء هذه المشاريع على أرض الواقع. بلغ عدد السكان في قطر ١،٧ مليون نسمة في ٢٠١٠م. ثم وصل التعداد بدايةَ هذا العام ٢٠٢٢م -حسب آخر نشرات جهاز التخطيط والإحصاء على موقعه الرسمي- إلى ٢،٩٣ مليون، مع تراوح نسبة المواطنين التقريبية بين ١٠-١٥٪ من الحجم الإجمالي للسكان، حتى هذه اللحظة الراهنة. في هذا المناخ المُؤرَّق بآثار المسألة السكانية ومضاعفاتها، جاءت دراسة د. هند المفتاح "التعليم العالي وسوق العمل في قطر: الواقع والآفاق" -الصادرة ٢٠١٧م-، لتحلّل تداعيات التضخّم السكاني العَمَاليّ، وآثاره المباشرة وغير المباشرة على تجانس سوق العمل وأدائه وكفاءته. ذلك أن التخطيط غير المنظّم الذي صاحب عملية استقدام العمالة الوافدة قد جعل منها عبئًا على التنميّة لا عونًا لها. ومن الأطروحات الصادرة حديثًا: دراسةٌ بعنوان "اختلال التركيبة السكانية في دولة قطر: التداعيات والحلول" -صدرت سبتمبر ٢٠٢١ عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- من وضع الباحث عبدالهادي الشاوي المري، الذي يتناول فيها المسألة السكانية القطرية من خلال ثلاثة أبعاد رئيسة. يبدأ أوّلًا باستقراء أسباب الخلل السكاني في ضوء التطور الاقتصادي والمشاريع الاستراتيجية التي صاغتها وأقرّتها الدولة. خلال العقدين الماضيين. ثم يتحول ثانيًا نحو رصد وحصر الآثار السلبية المترتبة على ذلك، في المستويات الاجتماعية والثقافية والبيئية، ومستوى الأمن والسلامة. وثالثًا يختم الدراسة عبر اقتراح جملة من الحلول الممكنة، المستندة إلى دراسة ميدانية موسَّعة أنجزها الباحث، نورد منها على سبيل المثال: أ- احتواء الضغط العالي على الموارد الطبيعية. ب- زيادة القدرة الاستيعابية للقطاعات الخدماتية مع تحسين نوعيتها. ج- إيجاد نظام يوازن حجم العمالة الوافدة ويضبط قضية العمالة المقنّعة أي تلك العمالة الفائضة على الحاجة. تَتسِمُ الدراسةُ الآنفة بالسعة والشمول -المُتوسّطيْن- من حيث معالجتها إشكالية التفاوت السكاني عبر استعراض المسارَ التاريخي، كما واستحضار السياقات الاقتصادية والتقنية المُمهّدة لنموّ الإشكالية، وهذه أبعادٌ لا غنى من استحضارها من أجل فهم الإشكالية وتسكينها وتفسيرها. كما تميّزت بإيراد مجموعة من الإحصاءات المهمة في هذا المقام، واستعانت بالنماذج الإحصائية المتنوعة -مثل معدل المواليد الخام، ومعدل الخصوبة الكلية ومعدل الإحلال الإجمالي- التي قوّمت من منهج التحليل لدى الباحث. وذلك بالرغم من القصور الذي شابَ بعض جوانب الدراسة، مثل الطابع العمومي الذي وَسَمَ إحصاءاتها، ولاسيّما في مواضع اقتضت قدرًا من التفصيل. إن سبب تحوّل القضية السكانية من إشكالية طبيعية إلى مسألة مُعقّدة، هو لأن الحل الخاص بها لا يمكن أن يكون جذريًّا، بل نسبيًّا، ومأخوذًا به على مدى طويل. أي أن فيه من التسديد والمُقاربة الشيء الكثير. تفترض نسبيّةُ الحلِّ هنا بالدرجة الأولى: توفّرَ الحدّ الأدنى المتوسّط من تفهّم أسباب ودوافع وإشكالات التفاوت الهائل بين عدد المواطنين والوافدين، مع أهمية النظر إلى هذه القضية بمقاييس الحاجة المستمرة إلى المشاريع التحديثية المتجددة، في أُطرها المحلية والإقليمية والعالمية. إلى جانب التنبّه لواقع الحتميّة التي فَرَضَها التنوّعُ الوظيفيُّ الكبير داخل الدولة من جهة، وكرّستها الطبائع الوظيفية وإلزاماتها من جهة أخرى، من قبيل: وجود وظائف غير ملاءمة لجماعة وأفراد مُعيّنين، ولكنها تتلاءم مع آخرين، ولأسباب خارجة عن إمكانات الطرفين. بعبارة أدق، هناك -ومثلما هو مشهود- مجموعة من الوظائف التي ليست تتناسب والشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والديموغرافية العالية لدى عموم الشعب في قطر، ولكنها تأتي متوافقة مع مقتضيات الوضعية التاريخية لدى الفئات العاملة من بعض مناطق آسيا وأفريقيا. وهو توافق يُعدّ -بشكلٍ رئيس- نتاج السيرورة الاستعمارية العنيفة وتشكيلاتها الجائرة. ورغم كونه يُعبّرُ عن مشكلةٍ حقيقية، إلا إنه يتبدّى في هذا الظرف بصفته الخيار الوحيد الممكن لمواجهة المشكلات القائمة في بلدانها، خاصّةً مشكلات الفساد والفقر والبطالة، فتكون المحصلة النهائية -بكل ضراواتها وآلامها- هي تحوّل القوى البشرية الوافدة إلى العمل في مهام البنى التحتية اليومية الشاقّة، بدلًا من القوى البشرية المحلية. كما أن نسبيّة الحلِّ بالدرجة الثانية تستلزم: البحثَ عن حلولٍ-وسطْ، واقعيّة وفعّالة. وهنا لا بد من استدعاء ثلاثة محاور، من الصعب استنباط أفضل الحلول الممكنة الفاعلة من دون النظر فيها أو تطبيقها أو البناء عليها: ١-تأسيس لجنة وطنية استراتيجية -مستقلة بيروقراطيًّا، ولمخرجاتها النهائية آلية مرنة من النفاذ- تضم ممثلين من الوزرات ذات العلاقة ومن المؤسسات الخدمية، ويتقدّمها نخبة من الباحثين/ات القطريين/ات. ٢- صياغة رؤية وطنية خاصّة وجديدة بالمسألة السكانية -بناء على المعطيات السائدة والتحديات المحتمَلَة- في مُدَدٍ ثلاثٍ متباعدة، قصيرة ومتوسطة وبعيدة. تستهدف تقريب الموازنة السكانية وتحسين معادلتها في المستقبل القريب، ومن وجوه ذلك: تحجيم مشكلة الطلاق والعنوسة المتفاقمة، ودعم مشاريع الزواج عبر إجراءات وضوابط مادية وتنظيمية تحد من أعبائها وتكاليفها. وهذه الرؤية في واقع الحال لا تخلو في منطلقاتها من بُعدٍ أمني ضروري. ٣- وضع مشاريع الدمج الاجتماعي المدروس بعين الاعتبار، بما يتيح إعادة إنتاج المكون الاجتماعي على نحوٍ يتناسب مع هُويّة البلد وثقافته ولغته. وهذا يستدعي إرساء معايير ثابتة ومتحولة لعملية الدمج/الاندماج. فمن المعايير الثابتة: مركزية الانتماء العربي والخلفية الإسلامية لأي شريحة جماعية أو فردية مُحدَّدة، معيار الولادة في قطر، إضافةً إلى معيار التعاقب الجيليّ [مفرد أجيال] المُقيَّد بإطار زمني. ومن تلك المعايير المتحولة: الكفاءة والجدارة، والاستحقاق المُتأتّى من تقديم الخدمات الجليلة للبلد. ختامًا، ولأنّنا نعيش في زمانٍ متسارعِ الخُطوات، ومتلاطم السياقات، وفائضٍ بالتحديّات، فالحق أنه لم يعد للتفضيلات ولا للرغبات هامش واسع في حاضرنا، بل أصبحنا في حاجةٍ دائمة إلى ابتكار الحلول التي تناسب مرحلتنا التاريخية وتحولاتها واستحقاقاتها، وهي حلول أقصى ما نستطيعه منها هو تقريب الفجوة بين المثال والواقع.
1662
| 19 سبتمبر 2022
يسري في الأذهان العربية، وبأثرٍ من القضايا السياسية الملتهبة التي ألمَّتَ بجسد الإنسان العربي المثخن ولا تزال، أن المسألة الجامعة للإشكال العربي السائد - منذ قرن ويزيد - هي مسألة سياسيّة من الطراز الأول، وأن العلاج على هذا الوجه لابد إذن أن يكون سياسيًّا بامتياز. يمثّل نسق التفكير هذا - إلى جانب واقعيّته الصلبة - مذهبًا فكريًّا وُلِدَ بين الحربين العالميتين، ونما واكتمل قوامه بين عقول ونوازع بعض القانونيين الدستوريين الألمان المتألمّين من وقع هزيمتهم في نهاية الحرب الأولى عام ١٩١٨م، ليجدوا أنفسهم منحازين إلى فكرةِ أن كل الأشياء بات مُسيّسة، لذا ينبغي وفي المقابل: تسييس كل شيء، ليس ذلك بحثًا عن النهوض أو استردادًا للكرامة فحسب، إنّما أيضًا تسليمًا لافتراض أن السياسة وحدها قد أحكمتْ قبضتها على الفضاء الأوروبي والعالمي بأكمله. رأى أقطاب ذلك التيار، وسلائله المنحدرين من الفلسفة القانونية المعاصرة، أنه لا مناص من تسييس العلم والمعرفة والاقتصاد، ولا مفرّ من احتكار تأويل الظواهر المركبة والمختلفة في المنظور السياسي وحده، من دون إعطاء المنظورات الأخرى قدرًا فاعلًا من التفسير. والحق أنها أفكار تولّدت في فضاءٍ متشائم، جَثَم على العقول و(أخذ بتلابيبها). إنه ليصدق بصورة كبيرة أن يكون جذر الواقع العربي المأزوم هو: جذر السياسة وتعقيداتها وأحابيلها، وما تنتجه من إشكالات فرعية كثيرة، تأخذ شكل الهرم الذي تتسع قاعدته اتساعًا مستفيضًا، حتى ليبدو من الصعب - في تأزّمها الغائر المتواتر- أن يُحاط بها، فضلًا عن معالجتها، فيتشكّل إزاء هذا المنظور المُسيَّس: يأس فردي وجماعي غامر، وعابر للبنى الاجتماعية العربية كلها. إطباقُ حالة اليأس هذه ليس إلا نتيجةُ اعتقادٍ مُطلَقٍ - لدى السواد الأعظم- بأمرين أساسيين: أن المداخل المُفضية إلى حل مشكلات الواقع الراهن إما أن تكون سياسية الأصل أو الطابع أو الأدوات، وأنه في حال كان العربي عاجزًا عن مجابهة الأصل السياسي وتغيير قواعد اللعبة، أو تكييف قدراته مع الطابع السياسي وتوجيهه، أو استملاك ما يكفي من الأدوات السياسية وتوظيفها، فسيبقى مُكبّلًا بالأغلال، ما بقيَ الدهر. بالرغم من شيوع هذه القناعة وامتدادها، إلا أنها لم تستطع احتكار المشهد في العقود السبعة السابقة من تاريخ العرب، إذ برزت العديد من الأصوات النقدية التي قدمت مقاربات مختلفة، دينية واجتماعية وثقافية واقتصادية، حول القاعدة التي ينبغي الانطلاق منها بغرض الخروج من حالة العجز الكلي إلى موقف الفاعلية الحضارية. ما يجدر الالتفات إليه بعد هذه السطور السابقة، هو تلك المفارقة التي تقع في صلب البنية السياسية العربية، ومفادها أن أولويات الإصلاح وأساليبه داخل الدولة العربية الواحدة، تختلف عن تلك الأولويات الإصلاحية التي تعم الأقطار العربية الكاملة. ولا يعني اختلافُها تناقضَها بصورة مباشرة، ولكنه يحيل إليه في نهاية المطاف. يتجه الإصلاح لدى الدولة العربية المستقلة نحو تنمية المشاريع الوطنية عبر إرساء بنية تحتية، وتأمين المصالح الأمنية من خلال تأسيس منظومة عسكرية، وتأمين الشروط السيادية عن طريق بناء علاقات تحالفية ضرورية في المستويين الإقليمي والدولي. في حين يتمحور الإصلاح في الجغرافيا العربية الممتدة من الخليج إلى المحيط، حول الوحدة والاندماج وتوحيد الصف/الموقف. يبرز هذا الاختلاف بوصفه المصدر الذي تتولّد منه رؤيتان متمايزتان، رؤية مُسيَّسَة بالكامل على الصعيد العربي الجامع، ورؤية أخرى تنطوي على منظورات لا مركزية على صعيد القُطْر العربي الواحد، والمقصود باللامركزية هنا هو أن تصورات الفاعلين في الدولة القُطْرية العربية تجاه مسائل الإصلاح والنهوض وطرق علاج الظواهر والقضايا المتجددة غير مُركَزة في عدسةٍ واحدة، بل يتكامل فيها النظر السياسي مع النظر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتاريخي. ليس التقسيم الآنف بجديد. حيث إن الاضطراب الناجم عن تفارق الرؤيتين: ماثلٌ بجلاء تام، ماثلٌ في سياسات الدول العربية ومواقفها وخلافاتها وتبريراتها المعاصرة، كالخلاف حول القضية الفلسطينية، ومتجسد تاريخيًّا في نماذج من قبيل حرب اليمن ١٩٦٢-١٩٧٠م، والحرب الأهلية اللبنانية ١٩٧٥-١٩٩٠م، وغزو الكويت ١٩٩٠-١٩٩١م، وغير ذلك. لقد أصبح القُطْر العربي بعد مسيرته التاريخية العاصفة المتراكمة، فضاءً قائمًا بذاته، ومُنتجًا أصيلًا لذواته الخاصة به، ومولِدًا لتصورات، ذات خصوصيةٍ، مشدودة إلى حدودها الجغرافية، ودوائرها الضيّقة، قبل كل شيء آخر. بينما احتالت صورة الوطن العربي الموحّد إلى ضرب من الرمز السادر في مخيال الأجيال الصاعدة، بقدر ما كان حُلمًا في وعي آبائهم وأجدادهم. تخرج علينا، من عباءة هذه الحقيقة، حقيقةٌ أخرى تقول إن الظاهرة المؤسسية أو المجتمعية -أي ظاهرة- في البلد العربي، هي ظاهرة شديدة التركيب لا يمكن التعاطي معها بشكل سليم، إلا عبر طريقين، الأول: حصر شتّى الأبعاد التي تتشكّل منها الظاهرة، ودراستها على نحو يجمعُ بين تتبع أثرِ البُعْد الواحد بمفرده، على حِدَة، وبين تحليل الأبعاد جميعها، في ذات الآن، وعدم قصرها على منظور أوحد، إطلاقًا، ولو على سبيل التبسيط. الثاني: البحث عن مدى امتداد الظاهرة بشكلٍ يتوسع تدريجيًّا، أي استقصائها ورصدها في النطاق المحلي، فالإقليمي القريب، فالإقليمي البعيد، فالقارّي، فالعالمي، من أجل تحديد معالم المقارنة، التي يمكن عقدها بين بلد وآخر. إننا لو طبّقنا الخطوات الآنفة على تشخيص/دراسة ظاهرة ارتفاع نسبة الطلاق مثلًا أو القروض الاستهلاكية، أو ما شابهها من ظواهر بدأت تبرز في المجتمع القطري، فسيكون باستطاعتنا أن نقارب وجهات نظر دقيقة تجاهها، وأن نداول التصورات الواعية، أمام حيثيات مثل تلك الظواهر وملابساتها، وهذا بلا شك سيمهّد الأمر إلى تشكّل ذهنيّة واعية، تفهم ذاتها، وتشعر بمحيطها، وقادرة على التكيّف وإيجاد الحلول. [email protected]
1526
| 31 أغسطس 2022
قد لا تظهر هناك علاقة مباشرة بين الوضعية الثقافية لدى شعبٍ ما، ونوع السيّارة المفضّلة لديه أو المُستخدَمة على نطاق واسع بين أفراده. على اعتبار أنّ نوع السيّارات لا يعبّرُ بالضرورة عن نمطٍ تفضيلي يكتنز بداخله مُعطى ثقافي، يمكن القياس عليه بوضوح تام؛ إنما قد تنحصر دلالته -أغلب الأحيان- في كونه مؤشرا بسيطا للوضع الاقتصادي العامّ في البلاد، ومرآة لمستوى الرخاء الذي يعيشه المواطنون. ولكن من المهم أن نتساءل: مثل هذا التصوّر الذي لا يعطي أهمية لموقع السيّارات في المحيط الثقافي لدى شعبٍ ما، هل يبدو قادرًا بالفعل على تحليل المسألة بعمق؟ أو كشْفِ المُخبّئ في علاقة نوع السيارة، بالنمط السائد من ثقافة أصحابها؟ بادئ ذي بدء فلا شك أن هذا المبحث لم يُشبَع -إذا كان قد دُرِسَ أساسًا- ضمن حقول الدراسات الحَضَريّة/المدينية والأنثروبولوجية العربية، ربّما بسبب حداثته أو هامشيّته أو لقلة اكتراث الباحثين العرب بهكذا مسألة ليس لها مكان رفيع في سلّم الأولويات البحثية. إلا أن الأمر رغم وجاهة الأسباب المذكورة آنفًا، يبقى ذا أهميّة لدى المهتمّين بتحولات المكوّن الثقافي لدى مجتمعات الخليج المعاصرة، وآلياتها الانتقالية، ومفاصلها الريعية، وتفاصيلها المتغيّرة. إن السيّارة لا تُعَدُّ مُجرّد سيّارة، أو مركوبًا للنقل وحسب، إنّما هي أقرب إلى أن تكون رمزًا اجتماعيًّا في الدرجة الأولى -وثقافيًّا في الدرجة الثانية- يسير على أربعة أقدام، ويختزل في شكله ومستواه وقيمته الماديّة سِمات وخصائص وأحوال شعبيّة (وبلاديّة) تدلّ على أمورٍ عدّة، مثل: علامات الطبيعة الجغرافية، النطاق المكاني للهِوايات المُفضَّلَة، متوسّط القدرة الشرائية، وغير ذلك من الشواهد. تفتح لنا سيارة اللاندكروزر بابًا واسعًا على قصّة مُثيرة، تداخلَ فيها السلمُ بالحرب، وارتبط من خلالها الإبداع البشري بضرورة تجاوز الإنسان لصعوبات الطبيعة والخروج من قيود إكراهاتها. تعود القصة إلى عام 1935م إذ وضع المخترع والميكانيكي الياباني كيشيرو تويودا خمسة مبادئ لمشروعه الجديد وتألفت من: الخيال، التجريب، التواضع، الاحترام والابتكار. مهّدت هذه المبادئُ المجالَ نحو تصنيع أولى سيّارات تويودا في 1936م، ومن ثمّ شكلت قاعدةً لشركته التي دشّنها عام 1937م باسم تويوتا موتورز. بعد تدشين شركة تويوتا بأعوام دخلت اليابان في أتون حربٍ عظمى، بلغ أوج تدميرها مع اللحظة التي ألقت فيها أمريكا قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي في أغسطس 1945م، ما أسقط اليابان في أيدي الأمريكان بشكل كُليّ. خلّفت القنبلتان خرابًا هائلًا، ودمارًا ماحقًا، وأثرًا مريرًا في نفوس اليابانيين، ولكن ذلك لم يستطع اجتثاث عزائمهم نحو النهوض من جديد. في عام 1950م، بينما لا تزال اليابان تحت الاحتلال الأمريكي، قامت كوريا الشمالية بغزو جارتها الجنوبيّة، ما دفع الأمريكان إلى التدخل المباشر لتحرير الجنوبيين، ولكن قواتهم البريّة اضطرّت إلى الاستعانة بوسائل نقل برية من أجل قيادة المعركة بثبات. بحثتْ أمريكا عمّن يستطيع أن يُصنّع لها مركبةً عسكريّةً بمواصفات عالية، يمكنها التكيّف مع التضاريس الكورية المعيقة للحركة. من هنا بزغت فكرة سيارة الدفع الرباعي، التي وُجدِتْ ضالّتها عند تويوتا، إذ لم تتوان تويوتا في الانخراط نحو تصميمها وتطويرها وتصنيعها مطلع عام 1951م، وبيعها مباشرةً إلى الجيش الأمريكي. جاء ذلك بمنطلقٍ إنسانيٍّ يتمثّل في نجدةِ شعبٍ مُحتَلّ، حسب تصوّر اليابانيين للموقف، إلى جانب -وبلا ريب- تأثير حالة التبعية التي كانت تعيشها اليابان. وكما كان مُتوقّعًا، أبلت اللاندكروز بلاء حسنًا، أمام شتّى التحديّات البيئية والأمنية التي فرضتها الحرب الكورية. وتمكّنت كوريا الجنوبية في الأخير من صد العدوان الشمالي في صيف 1953م، فكانت هزيمة الشماليين -بوجه من الوجوه- بمثابة تتويج لسيارة اللاندكروزر، حيث تحوّلت إلى نموذجٍ صِناعي مثاليّ، دفع القائمين على الشركة إلى اعتماده على صعيد التصدير التجاري العالمي. صُدّرت أولى سيّارات اللاندكروزر إلى باكستان في 1954م. وبعد ذلك بعام، أي في 1955م وطأتْ اللاندكروزر أرض الخليج للمرة الأولى في تاريخها، وتحديدًا في المملكة العربية السعودية، لتبدأ من ثَمَّ تلك العلاقة الحميمية، والحكاية الرومانسية، بين قفار الجزيرة وحدائد الكروزر. وجد اللاندكروزر في الرمال العربية محيطًا هادرًا. ووجد عربُ الجزيرة فيه خير عِوَضٍ عن ركائبهم التي كانت فيما مضى سبيلهم الوحيدة في السفر، إذ طالما مخروا فوقها عُباب المَفاوز، وقطعوا بها كيدَ الفَيافْ. في عام 1958م أسّس رجل الأعمال الراحل عبدالله عبدالغني ناصر وإخوانه شركتهم التجارية في الدوحة. مثّلت الشركةُ الوكيلَ الحصري لشركة تويوتا، وبدأ من خلالها توريد مركبات التويوتا. وبسبب صعوبة التثبت من العام الذي شهد أوّلَ وصولٍ للاندكروزر إلى أرض قطر بشكل قاطع، يمكن القول أنّها وصلت في الحدود بين 1956 – 1960م، في أقصى تقدير. قضت العادة، أن يقتصر ورود المصنوعات الجديدة أوّلَ ورودها على النخبة الفاعلة سياسيًّا وتِجاريًّا، ومن ثم على كل فرد من داخل دائرة النفوذ والفعل باعتباره يمتلك الميزانية المادية التي تمكنّه من اقتناء الجديد. لم يكن اللاندكروزر بِدعًا من هذه المعادلة، حيث وُجِدَ بادئ أمره عند قلة قليلة من الشعب. ولا مانع هنا من الإشارة بأن مفهوم الشعب القطري لم يكتمل تشكّله إلا بعد استقلال الدولة في سبتمبر 1971م، وهذا يفيد أن عملية تكوّن الأمة الصغيرة في أيّما بلدٍ من البلدان العربية قد تزامن بشكل حادٍ ومُتجاذَبٍ مع تكوّن ثقافتها الخاصّة، وذلك في ضوء معطياتها الطبيعية والتاريخية. بالرغم من وجود صعوبة في تأطير المحدد الأساس الذي يحكم عملية انتشار نوع من السيّارات على حساب نوعٍ آخر، فضلًا عن تفسير الحالة التي يكون فيها انتشار الأنواع المختلفة من السيّارات: متقارب أو شبه متساوٍ، إلا أننا نستطيع حصر تلك المحددات في عوامل أربعة مثل: الطبيعة البيئية، متوسط القدرة الشرائية لدى المواطنين، كفاءة عمل السيّارة، وانخفاض تكلفة إصلاحها وقطع غيارها. وإذا أقررنا حقيقة هيمنة اللاندكروز على شوارع قطر في وقتنا المعاصر، كما هو مُلاحَظ، فالحقيقة الأخرى تقول إن انتشاره أخذ وقتًا طويلًا حتى وصل إلى أكبر شريحة ممكنة، بل إنه لم يصبح المركب الأكثر استخدامًا إلا بعد عام 2000م، وهذا يعني أن اللاندكروزر ولكي يصبح رقم واحد في قطر فإن ذلك اقتضى من تويوتا أن تبذل جهدًا دؤوبًا غير منقطع على مدى أربعين عامًا، بالقدر الذي استلزم فيه بعض التحولات الإيجابية في اقتصاد البلد. ترجع أسباب هذا الوقت الطويل الذي استهلكته تويوتا من أجل نجاح اللاندكروزر في قطر إلى وجود منافسين كُثُرِ من السيّارات الأمريكية والأوروبية، إلى جانب احتدام المنافسة مع شركة نيسان اليابانية، الغريم التقليدي لتويوتا. كما كان اللاندكروزر في فترة السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي أقل تطوّرًا وجودة وفعالية من موديلاته الحديثة -وبصورة أدق- من (لاندكروزر 2008) فصاعدًا، وهذا سبب رئيس جعل من إمكانية انتشاره اليوم أسهل وأوسع منها في المراحل السابقة. شكّلت بداية الألفية الجديدة طفرةً للاندكروزر ليس فقط في سجلات البيع والشراء لدى وكالة عبدالله عبدالغني أو لدى معارض السيّارات المتعاونة، ولكن أيضًا في المخيال الشعبي القطري، إذ بدأت تتنامى صورة هذه السيارة أوّلًا في الوعي العام عبر الاحتكاك العيني المباشر وما يبعثه من إعجابٍ بنمط تصميمها وقوّتها وحجمها. وثانيًا في حوارات المجالس والأحاديث الجانبية في مقرّات العمل وما يكتنفه من استعراض. وثالثًا في انطباع تجربة اللاندكروزر في الواقع اليومي، نتيجة إشباعها رغبة الفرد وحاجة الأسرة، ما أدى إلى نجاح السيارة بشكل منقطع النظير، وشيوعها وانتشارها؛ ولن يكون هناك اختلاف في الرأي -على ما يبدو- حول الارتباط الشديد بين المسارات الثلاث من التنامي -المذكورة آنفًا-، وبين ارتفاع مبيعات اللاندكروزر في مختلف الأوساط القطرية. لم تتسم بنية الثقافة في دول الخليج بصلابةٍ تجعلها في وضعية الممانعة، إنّما هي أقرب للانكشاف أمام تدفّق المنتجات الصناعية والاستهلاكية الحديثة، وهذا ما جعل الثقافة الشعبية عمومًا تتجه إلى استبدال أدواتها وملبوساتها وآلاتها من فترة لأخرى، تحت التأثير، ولكن ذلك لم ينطبق على اللاندكروزر طوال الأعوام العشرين الماضية من تاريخ قطر المعاصر. وإذا كان لارتفاع المداخيل الشهرية وانتعاش الاقتصاد المحلي الأثر البارز في ترسّخ مكانة اللاندكروزر شيئًا فشيء، فإن هذه المركبة المثالية قد استطاعت أن تجمع بين الشرط الذوقي المرغوب والضرورة العملية المطلوبة. ولا غرابة إذن في حال وصل الأمر إلى أن يجهد بعض الأفراد والجماعات في بذل ما يملكون وما لا يملكون، فقط من أجل تحقيق ذوقهم واستيفاء حاجتهم، تعزيزًا للمكانة الاجتماعية أو تأكيدًا على فكرة المساواة. هذا بالضبط ما يصنع من اللاندكروزر رمزًا ذا مدلولات ثقافية معقّدة، يمكن عبر الخوض فيها واستكشافها أن نعمّق فهمنا للأنساق الاجتماعية والثقافية والسلوكية عند مختلف الشرائح والأجيال القطرية. كما يقتضي ما سبق، استخلاص حقيقة أن اللاندكروزر -وعلى هذا الوجه- لا يمكن أن يكون مجرّد شكل من أشكال البذخ والاستهلاك.
9729
| 16 أغسطس 2022
ظلّت قطر لمدة تزيد عن العقد الكامل، رقمًا صعبًا في مستويات الرخاء الاجتماعي ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل على المستوى العالمي، إذ استطاعت تحقيق أرقامٍ عاليةٍ على مستوى دخل الفرد، وتوسّعت بشكل ملموس على صعيد مجانية الصحة والتعليم والكهرباء والماء. ومن جهة أخرى، نجد أن الاسم الذي ارتبط بها في مخيال البعيد والقريب هو كعبة المضيوم، إذ لا يغفل أحد الرؤية التي توازت مع مشروع النهضة الذي أسسه صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة، وهي رؤية تنحاز بقضها وقضيضها إلى خيارات الشعوب وضمير المواطن العربي في الشارع، هذه حقائق رئيسية وإن تنازع البعض حول تفاصيلها. ونظرًا إلى مدى النجاح الذي رسّخ من قواعد الدولة، وحجم الالتحام الذي قارب بين مختلف فئات الشعب، والقدرة الوطنية التي أثبتت جدارتها في أحلك ظروف البلاد وأصعبها، لا بد إذن من القول: إنه لا يمكن أن نجزع أمام التحديّات، مهما تنوعت أشكالها وتفاوتت نِسَبها. أيّما تجربة سياسيّةٍ في التاريخ إلا وامتلأت بالنواقص، ويكفي أن يمتثل في أذهان أصحابها ضرورة التحسين المستمر لبنودها وسير أعمالها قياسًا على مطالب الإنسان، وظروف الزمان والمكان، وهذه طبيعة بشرية نجد شواهدها في تواريخ الأمم الحاضرة، حتى ليصبح النقص خصيصة ثابتة في دَمِها، إلى أن تستجيب بنفسها لتدرّجات الإحياء والإصلاح والتغيير الحتميّة. وإنه لتغلب على مجتمعنا القطري صفة التراحم بين شتّى شرائحه، قد تخترمه بعض الأحيان نوازع الاختلافات الطبيعية، ولكن تسود فيه القيم المشتركة والأعراف المتبادلة، والصلات القائمة على مبادئ الثقة والتبادل، التي تتفق وتختلف، وتعظم وتخفت، شأن كل مجتمع. ومن أهم المنجزات التي نعيشها هذه اللحظة هي هذا السلم المدني الذي ننعم في ظلاله، مما يجعله أجلّ المقاصد التي يجب الالتفاف حولها، باعتبارها أرضية مُلزِمة ننطلق منها تجاه مختلف القضايا والشؤون. كما ينبغي الوعي دائمًا بالتمايز بين الوسائل والمقاصد، وإن الخلط بينهما، وإن اتّخذ صورًا عفويّة أو انفعاليّةً من شأنه أن يفرط بهما جميعًا. وعند هذه اللحظة من التيقّظ، نصل إلى نتيجةٍ مفادها أن مكتسباتنا التاريخية هي محل الإجماع المطلق، بوصفها الوعاء الذي يضم مصالحنا وقيمنا، رغم تباين بعض التصورات والمبادئ. لست أحاول التنظير في هكذا مقالةٍ تدفعها لحظة أملٍ وترقّب، إنّما لا بد في هكذا موقف من التذكير بالمسلّمات. وأن التاريخ -السياسي والثقافي والتشريعي- إنما يحكمه منطق التدرّج والتراكم، والنظر إلى أي تحوّل ينبغي أن يتجه إلى الداخل مراعيًا معطيات واقع الاجتماع السياسي وتركيباته، وإلى الخارج مستفيدًا من تجارب الدول الأخرى. إن من يستقرئ أحداث الأمم بإمعان أو حتّى يجلي بصرَهُ عليها، غالبًا سيخرج بأفكار معيّنةٍ من أهمها، أن ليالي الشدة تنتج القوة، وأن أيام الرخاء تورّث الضعف، بل إن الأفكار البشرية الكبرى إنّما تولّدت بفعل اشتباك الإنسان مع الأزمات، لذا فهي بوّابة إلى السمو والاستقرار، إذا تم استغلالها بشكل جيّد. ثمة الكثير من التفاصيل التي استهلكتها الألسن، وكثير من التعقّل الذي أُهمل، حتى يبدو من الواجب عند هذا المقام أن يولّى أهمية مُلحّة، لا تحتمل التأخير -بل قد يكون للتأخير عواقب غير متوقعة-، وهو -بوجهٍ آخرٍ- أمانةٌ يقع حِمْلُها على كاهل الجميع، على الدولة والمجتمع، والمسؤول والمواطن، والناطق والسامع، والفاعل والمتلقّي. بالإمكان القول، إن ما شهدناه في الحقيقة هو أمرٌ تتنازعه العفوية ويشدّه التعقيد، ولهذا السبب فإن خارطة الطريق المترتبة عليه، هي ذات أولويّة راهنة ومستقبلية، والوعي بها، وعيٌ بالمدى الزمني الذي تقتضيه، وبحجم التنازلات الذي تتطلبه. لقد ولّى زمن القراءات الأحادية، حيث لم يعد باستطاعتنا أن نعالج ظاهرة ما، من منظورٍ واحد فقط؛ فكل ظاهرة لو تفحّصناها جيّدًا، نجد فيها أبعادًا متداخلة، ونقع فيها على عوامل من داخلها، وعوامل من خارجها. من هذا المنطلق، فإن عمليّة سن التشريعات وصناعة القوانين، دائمًا ما تتأثّر بعناصر محليّة، وعناصر إقليميّة، وأخرى عالميّة، فيكون من الصعب عزلها في نطاق واحد، وتفكيكها على هذا النحو. لذا فمن أساسيات التعاطي مع الظواهر المركّبة هو النظر إليها من جوانب عديدة، واستخدام أدواتٍ مركّبةٍ من أجل احتوائها. لا شك أننا نعيش مرحلة، لو علمها السابقون لغبطونا عليها، ولو عرفها اللاحقون، لشدّوا من أزرنا، وطالبونا التمسك بها بشتّى الطرق. وإننا في هذا المستوى من الوئام والتنوّع، ملزومون بالدفاع عن استحقاقاتنا المدنيّة، والحفاظ على شروطها بما أوتينا من وعي وإدراك ولُحمة. وهذا ينبغي أن يتوازى مع الدفع نحو سد ثغراتها، وتوسيع نطاقها، وتمتين روابطها. ولقد رأينا كيف أن الانفعال الجدلي الذي تخلل منصات التواصل الافتراضي قد ارتد سلبيًّا على أذهان الكثير ونفسيّاتهم، فحجب عن أعينهم ما كان حقيقًا عليهم أن يروه، واستنزف طاقاتهم في مدوارات نافية ومؤكدة، وصل فيها مستوى النقاش إلى درجاتٍ مؤلمة ومتدنيّة من المناكفة، في وقتٍ كنا أشد ما نحتاج إليه هو الحوار البنّاء وفق تقاليد التعايش والمساواة، أو الخطاب الذي يضم شتات الأمر، ويلمُّ شعث المسألة. مع العلم أنه انفعال لم يخلُ من حق، ولا يُلام من وجد نفسه منخرطًا فيه إلا لكونه وقع في الإفراط والتجاوز، وهذا لا ريب أنه فاقم من ردود الفعل العشوائية بدلا من تقريبها، وجعل منها مشكلة بحد ذاتها. إننا بحاجة أصيلة إلى الحوار، وبحاجة كبرى إلى تفعيل منصّات الحوار الوطني-الوطني، على أرض الواقع، وربما استشعر الجميع في الأيام القليلة الماضية ضرورة ترشيد طاقات التعبير الشبابي، إذ قد تؤذن حالات الصمت الطويل بما هو أنكأ من مجرد الجدل، يستلزم على إثرها البحث عن مهدّئات قد لا تتوفر حينها. ختامًا، التزامنا تجاه الدولة وعدالتها والمجتمع واستحقاقاته عهدٌ لا يمكن أن يُمَسّ، والواجب هو الحفاظ عليه من كل شارد ووارد يشتهي تطويع الموقف لصالحه.
2625
| 30 أغسطس 2021
يقترب النأي كثيرا فيصبح ضربا من القرب الناء، وينأى القرب إلى درجة يكون فيها نأيا قريبا جدا. لا يروم القرب نأيا هنا، ولا يبحث النأي عن قرب له هنالك، بل ينزعان إلى الآخر نزوعا عفويا كنزوع الأثر إلى الخطوة، والظل إلى الشمس، إنهما يهربان من بعضهما البعض فيمتزجان في الآخر، ونراهما في تضاد حاد لا مجال معه للتوافق، ولو رأينا أخرى لوجدناهما ائتلافا متسقا لا سبيل فيه إلى التنافر. وبين نأيين يمتشق القرب قوامه السافر، وبين قربين يبرق النأي المسافر. وبين هذين المسارين المتجاذبين، اللذين بهما يشتد عود المسافة، ويحتد نظر المعنى، يكتسي الكلام عن الشاعر الدكتور حسن النعمة شكلا من الصمت الفصيح، ويغامر الصمت في حلبات الغناء الصادح. تتسع الرؤية في تجربة النعمة - الشاعر والدبلوماسي الأديب - أو تضيق، فإننا نجد إزاءنا من العبارة سكونا مطبقا، كأن الأمر لا يعنيها، وحيث يبلغ الإفراط في التذوق شأوا طويلا وشمما عاليا، فإن قامة الحديث تظل متضائلة، كأن الحال يستدعي مطاولة نقدية ممتدة الزمان وفسيحة النطاق، أو غرقا في مناخ العقود الثمانية الأخيرة من عمر قطر، واستدعاء لأمزجة الدهر العربي الحديث وهي بين انقباض وانبساط، واستحضار لذاكرات منثورة في المدى، محفوفة بالجوع والفيض والندى، كما واستجماعا لقطع من الوجوه والقلوب والصور والأصوات، فرقتها يد الخليج في مخابئ مصر والهند وأمريكا وتركيا. هكذا يبدو الخيط العريض الناظم لحياة النعمة، خريطة من الترحال في مرايا الذاكرة، وعالما تفتح نوافذه على نوافذ أخرى، وطريقا يفضي إلى طريق آخر، إلى أن يتبدى الشجن دليلا للإحاطة، وكشفا للسر، وهداية للغواية، أعني الشجن الذي يحل عقدة الانطباع، تجاه هذه التجربة التي اختمرت طويلا في ثنايا الزمان، وارتبعت بين روض وقفر، واعتلت آفاقا، وانتبذت وديانا، فحل وصالها متقطعا، وجاء حضوره رهين التلقائية التي يحركها وجدان الشعر، وكما لو أنها تكشفت بتقادم الهموم والقضايا السياسية في محيطنا العربي، وباحتدام الهواجس والمواقف في محيط النعمة، ثم بزغت في لحظة الإغفال، وتجلت في معرض التناسي. وما الشعر إلا نهلةٌ واندفاقةٌ وفَرْطُ رجاءٍ نبْعُهُ لم يزل ثرّا نصوغُ به الذكرى طُيوفًا جميلةً وفَيْئًا وَريفَ الظلّ يبترد الصدرا بقدر الانسياب الذي تتركه قصائد شاعرنا في نفس قارئها، بحجم الحيرة التي تلفّها -القصائد- حول قلم هذا القارئ، على الأقل في حالتي هذه، التي كثيرًا ما تساءلتُ حيالها: كيف ينبغي الكتابة عن حسن النعمة؟ على نحو يفصح عن مكانته وموقعه سيّما في التاريخين الثقافي والدبلوماسي القطري، ولا يخل باتساع مسيرته، ولا يقصر في حقها. قد تكون ثمة نبرة احتفائية، والحق يقال ما المانع من الاحتفاء؟ إذا كان النعمة قد ترك هذه المسافة، لا لمن يقوم بها من الأغيار، بل زهدا في تصديرها من جهة، وانهماكا في شؤون أحواله من جهة أخرى. كأنما أراد أن يعيش في الحياة، متبتلا في عوالمها السرية، متمسكا بعُراها الخاصة، ملتزما بحماها المغلّقة، لا أن يعيش من أجلها، ويباهي بها القاصي والداني. والحقيقة أن ما يسترعي التفكير في حياة النعمة وشعره ومواقفه، ليس القيمة الإبداعية والتاريخية التي يحملها وحسب، إنما ذاكرة البلاد التي ضمها في ساعديه بين حله وترحاله، وعيون الأخبار التي عبرت عن مقالة حاله، ولو قررت أن أمضي نحو استنطاق صمته، واستكناه قلبه، لركبت في ذلك الصعاب، وحملت نفسي ما لا يجوز احتماله، فدعوني أحدث عن فقرات حياته كما حدث عنها بنفسه، وذكره الآخرون عنه، أعني الكتاب الذي صدر حديثا عن دار نشر كتارا للناقدة المتميزة د. مريم عبدالرحمن النعيمي، وتكون من جزأين احتوى الأول على خمس وأربعين قصيدة من قصائده، موشّى بثلاثة فصول تناولت جوانب من سيرته العريضة، بينما خُصص الجزء الثاني لدراسة فنية للمضامين الشعرية والأنساق الموسيقية عند حسن النعمة. ولأنه ما أستعرضه هنا وجيز جدا، وليس بالطبع عرضا لهذين الكتابين اللذين بذلت فيهما الأستاذة مريم النعيمي جهدا جليلا، فإنه إذن لا يستوفي سياقا فسيحا - من حياة النعمة - كالوادي الأبطح، غمرته الأحداث على مدى الأعوام الطوال، وتعرضت له رياح المواسم المتقلبة، ومرت عليه نسائم السنين، ونبتت على ضفافه زهور العشب، ولم ينضب معينه. ولد شاعرنا حسن النعمة في عام ١٩٤٢م، يقول: "ولدت في سوق واقف، لأن الأم في العادات القطرية تضع مولودها في بيت الأب، وبيت جدي لأمي - رحمه الله - في أحد أهم مواقع سوق واقف، وأنا نشأت في هذا البيت، وأتمنى أن أموت في سوق واقف، وأتردد بشكل يومي على سوق واقف، ولا أعرف سواه في قطر". التحق سنين طفولته بالكُتّاب ثم سرعان ما انتظم في المدارس النظامية، وفي عام ١٩٥٨م انخرط موظفا متدربا في وزارة التربية والتعليم، ومن الطريف أنه حضر في ذلك العام مؤتمر الأدباء العراقيين المنعقد في بغداد وهو ابن ست عشرة سنة، وشارك بعد ذلك بعام في مؤتمر أدبي عقد في الكويت، مما يشير إلى كونه ربما بدأ ينظم الشعر آنذاك، وهي سن صغيرة جدا بمعاييرنا الحديثة، وكيف لفتى أن يتقصد المحافل الأدبية في ذلك العمر والزمان، إلا بنضج تام، ونظر بعيد، وروح واعية؟. يذكر النعمة أنه شهد حفل افتتاح دار الكتب القطرية عام ١٩٦١م حيث ألقى قصيدة في ذلك المحفل، وليس يُعرف الكثير عن الأعوام الخمسة التي توالت بعدها، إلا ارتباطه بالعمل الحكومي، غير أنه كان - بلا شك - أكثر ارتباطا بالقضايا العربية وهواجسها وهمومها، التي كانت تحتدم احتدامها المشهود في تلك الفترة الحرجة. وبين شاغل قومي، وسعي معيشي، وتحصيل علمي، تخرج الشاب المتدفق شعرا حسن النعمة من مدرسة الدوحة - كانت في مقام الجامعة - عام ١٩٦٦م، وبعد ذلك بعامين انتقل للدراسة في جامعة كامبردج: "وانصرمت فيها خمس سنوات من العمر لدراسة الدكتوراه، فدرست الدراسات الشرقية في الفكر المقارن. الفكر الإنساني المقارن". ومما يُذكر أن المستشرقة الألمانية المعروفة آنا ماري شيمل قامت بمناقشة رسالته في الدكتوراه مع مجموعة من الأكاديميين، وليس بمستبعد أنه ارتبط بشخصيات علمية أدبية ذات تأثير، تحديدا أثناء دراسته في المملكة المتحدة. ومن عَجَبٍ أن تحول إثر عودته إلى السلك الدبلوماسي دون سابق تقدير، إذ كان مزمعا له العمل في السلك التعليمي، فحزم متاعه واتجه سفيرا لقطر في الهند، التي طاب فيها المقام قرابة عقد ونصف، إذ وجد فيها موطئا للتخفف وأرضا للاكتشاف، كما ومرتعا يفيض بالألوان المختلفة من الشعر سيما الشعر الصوفي الهندي، والفن والموسيقى، ولعل أهم مكتنزات الهند قد تجلت في اتصاله بالشاعر السوري عمر أبو ريشة، إذ توثقت بينهما عرى الصداقة، وجمعهما الود والشعر والأدب واهتمامات متعددة. وقدر له بعد ما غرس في تراب الهند نخيلا ووردا، أن ينتدب إلى الأمم المتحدة عام ١٩٨٩م، حيث قضى بها ردحا ناهز السبع سنين، وصادف أن تسنمت قطر حينها رئاسة مجلس التعاون الخليجي إبان غزو الكويت الغاشم أغسطس عام ١٩٩٠، فوجد نفسه في مواجهة سلسلة من المسؤوليات الثقيلة، لم يتخفف عنها كاهله إلا بعد انتقاله إلى تركيا، حيث وجد فيها أُنسا، ورِواء، وعودا إلى جذور تالدة، وتحررا من قيود جمة، حملته على المصاعب: "كان دافعي للعمل في تركيا هو محاولة العودة للجذور والروح". ولا ريب أن المعنيّ هنا هو الجانب الحضاري بطابعيه العربي والإسلامي في الإرث العثماني-التركي. في ٢٠٠٢م بلغ العمل الدبلوماسي الطويل ذروته، فتيسر له أخيرًا أن يلقي عصا الترحال بعد سبعة وعشرين عاما، ويشغل منذاك مستشارا ثقافيا لدى سمو الأمير الوالد. إن هذه المسيرة الدبلوماسية والشعرية لقصة عريضة تفيض بالفوائد والشواهد، وباب من أبواب ذاكرة قطر المعاصرة، ونظرة من نظراتها، ساهمت الأستاذة مريم النعيمي في جمعها وإخراجها، والاستزادة عبر قراءة محطاتها ونقد ملامحها وإبراز مآثرها. وبالرغم من أهمية هذا العمل وثرائه، إلا أن السيرة الذاتية للأستاذ النعمة تبقى ذات إلحاح، باعتبارها سردية - قل نظيرها - تجمع مراحل التطور القطري، منذ الأربعينيات الميلادية، ومؤالفتها بين مساقات مختلفة متباينة، وتبحر النعمة فيها، كما وارتباطه الوثيق بشخصيات أدبية وفنية محلية كالشاعر الطبيب حجر البنعلي والموسيقار عبدالعزيز ناصر العبيدان (ابن خاله)، وعربية مثل عمر أبو ريشة - كما تقدم - والطيب صالح وصلاح عبدالصبور. لقد كان الدكتور حسن النعمة قريبا جدا بمقدار نأيه، ونائيا جدا بحجم قربه، فلم يشبهه أحد.
4335
| 25 مارس 2021
قلّما وجدتُ في الأدبيات والمقالات النفسية التي تناولت مفهوم الصداقة بشكل عام أن عرّجت في تحليلها على موضوع التعارف، على ماهيّته، وغرابته وغموضه، وعلى جدّه وهزله؛ ربما تتبدّى روابط الصداقة في الذهن أكثر وضوحًا مما هو الحال مع فلسفة التعارف - وما يعتريه من مرأى وانطباع وشكٍّ ويقين- ولا جرو أنه أوّلى الخطواتِ نحو الصداقة، وفِي أحايين مغايرة: نحو العداوة! إذ أن لحظة القبول التي تمهّد للقرب، قد تكون هي ذاتها لحظة النفور التي تقود للإعراض، وعجيبة هي النفس؛ ومحيرة هي الروح؛ ولغز هُو الإنسان. ما الذي يبعث المواءمة؟ ويقود نحو التآلف؟ وما الذي ينشر الصدود كما تنشر العناكب خيوطها؟ ثم يومئ بالجفاء والشرود؟ كل هذا الجمع والاحتشاد من مشاعر، وإطلاق أحكام، واتخاذ مواقف لا يكون إلا في لحظات سريعة، تتشكل في لقاءات عابرة، وأحيان تُطلَقُ في مجرد لقاء أو مواجهة. الإنسان مدني بطبعه كما يُقال، ينزع للجماعة، ويرنو إلى كل قُطرٍ يملؤه الناس، فيأتي إليهم من كل فج، لا تمنعه الموانع، ولا يقف في وجهه باب عزلة؛ وإن شاء الأمر لخلع أبوابها جميعًا وإن أضمر في نفسه نية اختلاء ونأيْ. ولكنه في الحال ذاته عصيّ على الانقياد، عسير على الطوع، فاترٌ على الحركة؛ وقلما يأمن بمصاحبةٍ قبل أن يُؤَمّن الراحة و السلامة، ولو دفعته من النزوة دوافع، وأخنعه للتخلي عن إمساكه مغنم، وأطلقه من انحباسه طمع، فهو لا يأمن في غالب الأحوال لأي أحد ما لم يخبره جيًّدا، ويفتش عن خباياه بدقة، ويحدق في لون معدنه بإمعان، ومن أظلم لنفسه ممن اتخذ الصحاب بلا معاشرة ولا روية، ثم وقع في شِراك الخيبة!. مسألة الصحبة جدليّة، متنازع عليها من شتّى النواحي، شبه تقديرية إن لم تكن كل، والقياس فيها محفوف بكل مآل، والأمر من قبل ومن بعد فيه من الاستنزاف الذهني والعاطفي ما يحجمُ عن اتخاذ الرفقاء، ويسوقُ نحو اجتناب الندماء. لا يعني هذا أن الرغبة في التصادق سرعان ما تكل؛ والميل للمشاركة والاختلاط أقرب أن يُمل؛ كَلَّا، قد تجد من يكثر من المصاحبة وخلق العلاقات، وربما اختلاق المداخل إليها، مكلفًا نفسه، حملا ثقيلا وهو في غنى عن التكليف، يوسع دائرة معارفه بقدر استطاعته، ويتبادر لك أنه يعاني من هوس ما، وما هو بالهوس، إنما من الوارد أنه ليس إلا حالة لضمان الإحاطة ومسلكا للهروب من غول الوحدة ووحشتها. وقد ترى من يلتفت إلى الجموع ويلقي بنفسه عليهم في أفراحهم وأحزانهم، بغية القرب لا لغاية نفعية وهم كثر ولكن لحاجة معنوية، ومطلبٍ نفسيٍ ماكِن، مهما شق عليه هذا التكريس، وعظم هذا التوجه على قدرته. وقد تبصر من تبصر يسبر المجالس والدواوين وغيرها ساعيًا وراء هذا المقصد سعيًا حثيثًا، من غير أن يكشف للآخرين ولو طرفًا من وجه مقصده، ليس له من الجهد والبؤس إلا إدمان هذه العادة. تتأملهم جميعا فتجدهم لا يزيغون عن هذا الطبع وعن التطبع به، حتى يلتصقوا به ويهيموا في بحره ويتخذوه منهجا، بهناءه وشقوته، بلا عَياء. ولكنك إن أمعنت النظر في أفق الإنسان ورؤياه ومنحى تحولاته في الحياة، لوجدته كلما أوغل به العمر أزمع في التخفف، ومتى أكثر هجير التجارب عليه من اللفحات الحارقة، راغ هو بدوره إلى ظل في الفلوات يتقي به مكابدة القرب، وسهام البعد ما أمكن له إتقاءه، وهكذا ينكفئ على نفسه كلما تقادمت به الأيام شيئًا فشيئًا ويتصومع في خلواته إلا قليلا، ويسرح في بيداء ذاته بعدما كان يقضي الصباحات بين ذاك وذاك وعند أولئك.
2274
| 01 فبراير 2021
تحدّثت في المقال الأخير عن علاقة القطريين بالبعثة الدنماركية التي وصلت عام ١٩٥٨ وقامت بأعمال بحثية من أهمها كان تنقيبهم قرية مروب شمال غرب قطر بتوجيه من المرحوم الشيخ أحمد بن جاسم بن محمد، إذ قاموا بعملٍ (حفري-أركيولوجي) تأسيسي من حيث طبيعته، ولكنه لم يكن اكتشافًا كما يُشاع عنه، فهذه القرية -كما أنازع- لا بد وأنها كانت معروفة لدى أهل قطر، ولا شك أنهم وقفوا عليها، وأجالوا النظر في أطلالها، وتبيّنوا ملامحها، وهم أولئك الذين عاشوا القرون السوابق على أرض قطر، بين حلٍّ دائم، وارتحالٍ دائر، في طلب تحصيل العيش وما شابه. وإذا كان معلومًا أن نمط العيش القديم من رعي الأغنام أو الإبل أو غير ذلك يقتضي تنقّلًا يوميًّا دؤوبًا، فهذا خير شاهد استدلاليٍّ على احتمالية أن الإنسان القطري في تاريخه، قد ساقَهُ مرعى مواشيه أو مرَّ به على موقع القرية، فرأها آثارها رأي العين مرارًا وتكرارًا، مما يؤكد أن القول بالاكتشاف الحديث للآثار التاريخية هو قولٌ غير دقيق على الإطلاق، وأنه يُضمِر في داخله دلالة سلبية، تجعل من السكان وكأنهم جهلة حتى في شؤون أنفسهم، وتعالوا عن ذلك، بل إن الأمر -كما أسلفت- معلوم ومشهود وحاضر في الذاكرة الشعبية للأفراد والجماعات، والذي منع من العناية به وإبرازه وتقديمه ليس إلّا غياب الشروط المادية اللازمة، فالناس كانوا منهمكين بتأمين الضروري من المعاش، ولم يبلغوا بعد المرحلة التاريخية التي تجعلهم يقبلون على التنقيب إقبالًا علميًّا مُركّزًا. وفي كل الأحوال، فإن الأكثر أهميّة في هذا الحديث هو منطق الفكرة التي أحاول شرحها قدر الإمكان، وهي أن ما يُطلق عليه "اكتشاف علمي" في أي مكان في الوطن العربي، غالبًا ما يشوبه بعض التضليل في جوانب رئيسية مثل الظرف التاريخي للشعوب العربية وما يتضمنّه من فتور الدافعيّة الثقافية، غياب الدولة أو عدم اكتمالها، مواقع الهيمنة، علاقات القوى، وسلطة المعرفة لاسيّما المعرفة المتسيّدة التي ترسم الألفاظ وتحدد المعاني وتضبط اللغة، إضافة إلى توفّر الأدوات الإجرائية المطلوبة من عدمها. ولنا في واقع الحال أن نستعير هذا المنطق ونسحبه إلى مواطن كثيرة مختلفة، من أجل الظفر بقياسٍ دقيق يضع الحقائق التاريخية في نصابها، كتاريخ المخطوطات العربية وعلاقته بالاستشراق والمستشرقين، وأن اكتشافاتهم ليست اكتشافات بقدر ما هي إبرازات دفع بها تفتّق القوّة الغربية وبروزها، مقابل اضمحلال الرابطة الحضارية الإسلامية في ظل تفكك بلدانها. وأؤكد مرة أخرى أن منطق التحليل باق ولو تغيرت الأمثلة. أردت من خلال هذه المقدمة أن أضع القارئ العزيز في السياق المركّب للموضوع، مُراعيًا تفكيك دلالاته المُضمَرة، ومُحاولًا استنطاق الأسئلة الصامتة في ذهنه، والإجابة عليها. لقد تعاقب على تنقيب قرية مروب الإسلاميّة فريقان علميّان، وهما البعثة الدنماركية ١٩٥٨-٥٩ والبعثة الفرنسية ١٩٧٩-٨١ إذ يفصل بينهما قرابة العقدين وأكثر، وقد أرجعت البعثة الأولى تاريخَ القرية -عبر دراسة آثار القلعة الموجودة- إلى أواخر العصر الأموي وبدايات الحكم العبّاسي، بينما رجّح الفريق الفرنسي أن تاريخها يعود إلى الفترة العبّاسية، استنادًا إلى مقارنتها بخان عطشان، وهو مبنى أثري يقع في بادية العراق، يرجع تاريخه إلى العقد السابع من القرن الثاني هجريّة، ويماثل في تخطيطه العمراني قلعةَ مروب، كما أنهم عثروا على جرّتين خزفيتين لونهما أزرق مائل للاخضرار، أظهرت نتائج التنقيب أنها تعود إلى القرن الثالث هجريّة. وقد قام الفقيد محمد بن جاسم الخليفي (١٩٥٧-٢٠١٦) مدير إدارة المتاحف والآثار في إعداد كتاب تقريري كامل بعنوان "آثار الزبارة ومِرْوَب"، طُبع عام ١٩٨٧م، ضمّن بين ثناياه تفاصيل عمليّتي التنقيب من الجهة التقنية البحتة، موردًا مساحة القلعة وقياساتها وأبعادها، وصفة بنائها من الصخور المتناثرة في قفارها، والطين الطبيعي الذي كان يُؤتى به من الوديان المجاورة، دون التطرق إلى الجانب التأريخي، إلا في مقدمة الدراسة، التي أشارت إلى المعنى اللغوي لكلمة "مروب"، ولم تزد على ذلك شيئًا. وحتى تتضح لنا مسألة التأصيل اللغوي لهذه المسألة أكثر، يأتي تتبع تاريخ اللفظة في المعاجم العربية عملًا لا بد منه. جاءت كلمة مروب في أكثر من معنى، ولكل منهم مدلول، من ذلك ما أورده ابن منظور في لسان العرب،"والمِروْب: الإناء والسقاء الذي يروب فيه اللبن، وفي التهذيب: إناء يروب فيه اللبن. قال عُجيّزٍ من عامرِ بن جندب: تبغضُ أن يظلم ما في المِروْب، وفي المثل: «أهونُ مظلوم سِقَاءٌ مُرَوَّب»، وأصله: السقّاء يلف حتى يبلغ أوان المخض، والمظلوم: الذي يظلم فيُسقى أو يُشرَب قبل أن تخرج زبدته". وذكر الأزهري في معجمه [تهذيب اللغة]: "وروى أبو عبيدة، عن أبي زيد في باب الرجل الذليل المستضعف: أهون مظلوم سِقاءٌ مُرَوَّب. وظلمت السِّقاء، إذا سقيته قبل إدراكه" وقال أيضًا: "والمُروَّب: الذي لم يُمخَض بعدُ وهو في السقاء، لم تُؤخَذ زُبدَتُه" والمخض - كما هو معلوم- تحريك الشيء بشدّة، ونقول في الدارجة الشعبية، خُضّ الشيء، أي: هُزّه بشدّة. وقال آخر: "طوى الجراد مِرْوب ابن عثجل لا مرحبا بذا الجراد المقبل" أي وقع على رعيه فأكله فجفت ألبان إبله فطوي مروبه، وله موقع حسن في الإسناد المجازي". (المصدر: أساس البلاغة للزمخشري؛ مادة: روب) يظهر لنا من خلال هذا العرض اللغوي الموجَز أن كلمة مروب تأتي على أكثر من وجه، فهي: ١- مِرْوَب -بكسر الميم وتسكين الراء وفتح الألف- أي: الإناء الذي يوضَعُ فيه اللبن. ٢- مُرَوَّبْ -بضم الميم وفتح الألف والواو- وهو اللبن الذي لم يُخَضُّ بعد فلم تظهر زبدته. ٣- ووجه صرفي وهو مُرَوِّب - بضم الواو وفتح الراء وكسر الواو- فاعل من رَوَّب. لقد كان الجانب اللغوي مهمّا للغاية على صعيد تأصيل التسمية، والتي كما يبدو لم تُولّ أهمية تُذكر من قبل، إلا لماما، ونتيجة لهذا التأصيل نجد أن كلمة مروب اتفقت في جوهرها المعنوي واختلفت في دلالاتها بعض الشيء، ومن الصعوبة بمكان أن نضبط بجزمٍ أي الوجوه التي كانت تُسمّى بها قرية مروب الإسلامية، هل كان الوجه الأول أم الثاني أم الثالث؟ -أعلاه-. لم تستطع المصادر التاريخية القليلة التي تعرّضت لتاريخ القرية البالغ حجمها ٢٥٥ منزلًا، وتاريخ قلعتها العسكرية، التوصّل إلى الحد الأدنى من المعلومات أو الإشارات، التي تمكننا من بناء خلفية موضوعية واضحة عن التطور التاريخي الخاص بالقرية، فكل ما نعرفه عنها هو بضع شذرات أغلبها كانت نتائج التنقيب الحفري، إذ توصّلت إلى الفترة الزمانية المرجّحة لتأسيس القرية ونشأتها. ولكن بَقِيَت المساحة اللازمة من التنقيب التأريخي-البحثي: غائبة، إذ نحن لا ندري متى هُجِرَتْ هذه القرية أو متى هُجِّرَ أهلها وكيف، ولسنا متأكدين من صحة بعض الأخبار الشفوية المتداولة في نطاق ضيّق، والتي تقول إن قرية مروب إنّما أُحرِقت من قِبَل القرامطة في نهايات القرن الثالث هجرية.
4413
| 25 يناير 2021
في عام ١٩٥٩ وصلت إلى أرض قطر بعثة دنماركية بغرض الاكتشاف الأثري، أو ما يُسمّى في وقتنا المعاصر بالبحث الأركيولوجي، وكان على رأس البعثة كلاوس فيردناند الباحث الأنثروبولجي الكبير، الذي جاء ليس فقط لأهدافٍ علمية مقيّدة باتجاهات البعثة ومساراتها، بل أيضاً لمطامح بحثيّة خاصة، استطاع تحقيقها فيما بعد وتوّجها بكتاب مستقلٍ، عنوانه ”بدو قطر“ وثقت في أربعمائة صفحة بالإنجليزية. ضمّت البعثة كذلك العالم المتخصص يته بانغ، الذي اشترك وفيردناند في التقاط ما يزيد على الألفي صورة وثائقية، لم ينشر منها سوى نسبة قليلة، في الكتاب الذي تكرّمت هيئة متاحف قطر بطباعته قبل سنوات. كشفت هذه البعثة عن جوانبَ لم تُطرق من قبل، وذلك على مستوى النظر والتفكير، وإلا فإن المواقع الأثرية التي بعضها اندرس، وبعضها بقي طَلاً (مفرد أطلال) شاهداً أخيراً على وجود أهله، قد شوهدت، والحكم هنا يأتي جازماً لا ترجيحياً، فما أكثر ما سمعنا - حاضراً - أن فلاناً وقف على آثار مقبرةٍ ما، أو شاهد أحجاراً مرصوفة هنا أو هناك، فكيف إذن حال الذين عاشوا قبل عقود قليلة أو قرون غابرة يرعون أغنامهم في كل قفر، أولم يأخذهم طريق المراعيَ يوماً إلى تلك الآثار أو مر بهم على القليل؟. كانت أرض قطر منذ قرون، قِبلَةً تفد إليها القبائل والجماعات، منها من يبقى، ومنها من يطوف ”يعسّ المكان“، ومنها من يتردد عليها حسب المواسم، وعلى ضوء هذه الملامح ذات الدلالة الاستنتاجية، أعني على ضوء الاستقرار الدائم والهجرة المتكررة والوفود المتواترة - براً وبحراً -، يتبدّى لنا حجم الحركة البشرية الكثيفة التي شهدتها قطر، وتظهر لنا من جانبٍ آخر مرونة عالية تميّز بها أولئك الذين جاءوا واستقروا، وأولئك الذين جاءوا وذهبوا، وأولئك الذين حضروا واستأنفوا رحيلهم ثم عادوا، لذا فأهم ما يشير إليه هذا الجو الحركيّ أو الملحميّ -مع استحضار ما ألفه الأوّلون من النظر والبصيرة، بجانب الدأب على التطواف إما للصيد أو بحثاً عن الكلأ- هو أن الناس في قطر لابد وقد وقفوا على الشاخص من تلك الأطلال، وتلمّحوا الدارس منها، ولا بد أن رأوها بالعيون وتأملوها أو ربما استشعروها وحدّثتهم بها الظنون، وذلك بحكم عوامل كثيرة، منها العلاقة المتينة والمباشرة التي ربطتهم بالأرض، فشدت وثاقهم إلى عروقها وضروبها وبطونها وأضلعها؛ إذ ثمّة آصرة نفسيّة تصل بينهم، ونسبٌ روحي يجمعهم، يجعلهم ينبضون بمواطئ أقدامهم، حتى أنه ما من وقعٍ يمسّ الأرض، إلا كأنما يقع على جلودهم قبلها. ما أردت قوله هو أن الأرض القطرية بناسها وأهلها وأصحابها ووفودها وزوّارها، وعلى مدى العقود والقرون، من شبه المؤكد أنهم وقفوا على شتّى الآثار الموجودة من جنوب البلاد إلى شمالها -المُكتشَفُ منها اليوم والمجهول-، وأنهم ميّزوها بمجرّد النظر، ولكن لم تتسن لهم -آنذاك- الظروف الطبيعية والمعطيات التاريخية التي تسمح لهم بتنقيبها ودراستها وتفصيل القول فيها أو إجماله. ونظراً إلى الفترة التي جاءت فيها البعثة الدنماركية، وقياساً على التطور التاريخي للدولة القطرية والتشكل الاجتماعي الحديث للقطريّين، والبروز المتأنّي لهما على مسرح الزمن، يتضّح أن هذه البعثة كأنها حضرت في أنسب موعدٍ لها ولنا على الإطلاق، حيث يعبّر عقدا الخمسينيات والستّينيات الميلادية عن مرحلة الانتقال - شبه الجذري- من الشكل التنظيمي التقليدي إلى الشكل الأكثر تنظيماً على صعيد الاستقرار والإدارة، بالتالي فإن المجتمع والدولة كانا - وقتذاك - في أمثل وقتٍ لهما من الشعور النَّسَبِي (الجينالوجي) بالأرض، ومن الوعي بالذات والوعي بالوجود. إن تلك الفترة مثّلت تفتّق الذهن القطري المعاصر على وجوده الجوهري في جغرافيا الخليج وشرق الجزيرة العربية، وعلى دوره المهم في تاريخها، فلهذا كشفت البعثة الدنماركية عن المساحات (اللّا مُفكَّرُ بها) وذا في تقديري هو أعظم النتائج المترتبة على زيارة البعثة، ولكن هل تم استغلالها جيداً والبناء عليها بالشكل الكافي الوافي والمطلوب؟.
5469
| 28 ديسمبر 2020
مساحة إعلانية
ليش ما يمديك؟! بينما ممداني زهران، الشاب ذو...
16344
| 11 نوفمبر 2025
ماذا يعني أن يُفاجأ أولياء أمور بقرار مدارس...
7467
| 11 نوفمبر 2025
العلاقة العضوية بين الحلم الإسرائيلي والحلم الأمريكي تجعل...
3798
| 10 نوفمبر 2025
تستضيف ملاعب أكاديمية أسباير بطولة كأس العالم تحت...
2961
| 11 نوفمبر 2025
على مدى أكثر من ستة عقود، تستثمر الدولة...
2097
| 11 نوفمبر 2025
تشهد الصالات الرياضية إقبالا متزايدا من الجمهور نظرا...
1887
| 10 نوفمبر 2025
تحليل نفسي لخطاب سمو الأمير الشيخ تميم بن...
1533
| 11 نوفمبر 2025
عندما صنّف المفكر خالد محمد خالد كتابه المثير...
1122
| 09 نوفمبر 2025
يبدو أن البحر المتوسط على موعد جديد مع...
1038
| 12 نوفمبر 2025
شكّلت استضافة دولة قطر المؤتمر العالمي الثاني للتنمية...
978
| 09 نوفمبر 2025
يشهد العالم اليوم تحولاً جذريًا في أساليب الحوكمة...
891
| 10 نوفمبر 2025
ليس مطلوباً منا نحن المسلمين المبالغة في مسألة...
885
| 06 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تابع الأخبار المحلية والعالمية من خلال تطبيقات الجوال المتاحة على متجر جوجل ومتجر آبل