رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ظلّت قطر لمدة تزيد عن العقد الكامل، رقمًا صعبًا في مستويات الرخاء الاجتماعي ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل على المستوى العالمي، إذ استطاعت تحقيق أرقامٍ عاليةٍ على مستوى دخل الفرد، وتوسّعت بشكل ملموس على صعيد مجانية الصحة والتعليم والكهرباء والماء. ومن جهة أخرى، نجد أن الاسم الذي ارتبط بها في مخيال البعيد والقريب هو كعبة المضيوم، إذ لا يغفل أحد الرؤية التي توازت مع مشروع النهضة الذي أسسه صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة، وهي رؤية تنحاز بقضها وقضيضها إلى خيارات الشعوب وضمير المواطن العربي في الشارع، هذه حقائق رئيسية وإن تنازع البعض حول تفاصيلها. ونظرًا إلى مدى النجاح الذي رسّخ من قواعد الدولة، وحجم الالتحام الذي قارب بين مختلف فئات الشعب، والقدرة الوطنية التي أثبتت جدارتها في أحلك ظروف البلاد وأصعبها، لا بد إذن من القول: إنه لا يمكن أن نجزع أمام التحديّات، مهما تنوعت أشكالها وتفاوتت نِسَبها.
أيّما تجربة سياسيّةٍ في التاريخ إلا وامتلأت بالنواقص، ويكفي أن يمتثل في أذهان أصحابها ضرورة التحسين المستمر لبنودها وسير أعمالها قياسًا على مطالب الإنسان، وظروف الزمان والمكان، وهذه طبيعة بشرية نجد شواهدها في تواريخ الأمم الحاضرة، حتى ليصبح النقص خصيصة ثابتة في دَمِها، إلى أن تستجيب بنفسها لتدرّجات الإحياء والإصلاح والتغيير الحتميّة.
وإنه لتغلب على مجتمعنا القطري صفة التراحم بين شتّى شرائحه، قد تخترمه بعض الأحيان نوازع الاختلافات الطبيعية، ولكن تسود فيه القيم المشتركة والأعراف المتبادلة، والصلات القائمة على مبادئ الثقة والتبادل، التي تتفق وتختلف، وتعظم وتخفت، شأن كل مجتمع.
ومن أهم المنجزات التي نعيشها هذه اللحظة هي هذا السلم المدني الذي ننعم في ظلاله، مما يجعله أجلّ المقاصد التي يجب الالتفاف حولها، باعتبارها أرضية مُلزِمة ننطلق منها تجاه مختلف القضايا والشؤون. كما ينبغي الوعي دائمًا بالتمايز بين الوسائل والمقاصد، وإن الخلط بينهما، وإن اتّخذ صورًا عفويّة أو انفعاليّةً من شأنه أن يفرط بهما جميعًا. وعند هذه اللحظة من التيقّظ، نصل إلى نتيجةٍ مفادها أن مكتسباتنا التاريخية هي محل الإجماع المطلق، بوصفها الوعاء الذي يضم مصالحنا وقيمنا، رغم تباين بعض التصورات والمبادئ.
لست أحاول التنظير في هكذا مقالةٍ تدفعها لحظة أملٍ وترقّب، إنّما لا بد في هكذا موقف من التذكير بالمسلّمات. وأن التاريخ -السياسي والثقافي والتشريعي- إنما يحكمه منطق التدرّج والتراكم، والنظر إلى أي تحوّل ينبغي أن يتجه إلى الداخل مراعيًا معطيات واقع الاجتماع السياسي وتركيباته، وإلى الخارج مستفيدًا من تجارب الدول الأخرى.
إن من يستقرئ أحداث الأمم بإمعان أو حتّى يجلي بصرَهُ عليها، غالبًا سيخرج بأفكار معيّنةٍ من أهمها، أن ليالي الشدة تنتج القوة، وأن أيام الرخاء تورّث الضعف، بل إن الأفكار البشرية الكبرى إنّما تولّدت بفعل اشتباك الإنسان مع الأزمات، لذا فهي بوّابة إلى السمو والاستقرار، إذا تم استغلالها بشكل جيّد.
ثمة الكثير من التفاصيل التي استهلكتها الألسن، وكثير من التعقّل الذي أُهمل، حتى يبدو من الواجب عند هذا المقام أن يولّى أهمية مُلحّة، لا تحتمل التأخير -بل قد يكون للتأخير عواقب غير متوقعة-، وهو -بوجهٍ آخرٍ- أمانةٌ يقع حِمْلُها على كاهل الجميع، على الدولة والمجتمع، والمسؤول والمواطن، والناطق والسامع، والفاعل والمتلقّي.
بالإمكان القول، إن ما شهدناه في الحقيقة هو أمرٌ تتنازعه العفوية ويشدّه التعقيد، ولهذا السبب فإن خارطة الطريق المترتبة عليه، هي ذات أولويّة راهنة ومستقبلية، والوعي بها، وعيٌ بالمدى الزمني الذي تقتضيه، وبحجم التنازلات الذي تتطلبه.
لقد ولّى زمن القراءات الأحادية، حيث لم يعد باستطاعتنا أن نعالج ظاهرة ما، من منظورٍ واحد فقط؛ فكل ظاهرة لو تفحّصناها جيّدًا، نجد فيها أبعادًا متداخلة، ونقع فيها على عوامل من داخلها، وعوامل من خارجها. من هذا المنطلق، فإن عمليّة سن التشريعات وصناعة القوانين، دائمًا ما تتأثّر بعناصر محليّة، وعناصر إقليميّة، وأخرى عالميّة، فيكون من الصعب عزلها في نطاق واحد، وتفكيكها على هذا النحو. لذا فمن أساسيات التعاطي مع الظواهر المركّبة هو النظر إليها من جوانب عديدة، واستخدام أدواتٍ مركّبةٍ من أجل احتوائها.
لا شك أننا نعيش مرحلة، لو علمها السابقون لغبطونا عليها، ولو عرفها اللاحقون، لشدّوا من أزرنا، وطالبونا التمسك بها بشتّى الطرق. وإننا في هذا المستوى من الوئام والتنوّع، ملزومون بالدفاع عن استحقاقاتنا المدنيّة، والحفاظ على شروطها بما أوتينا من وعي وإدراك ولُحمة. وهذا ينبغي أن يتوازى مع الدفع نحو سد ثغراتها، وتوسيع نطاقها، وتمتين روابطها.
ولقد رأينا كيف أن الانفعال الجدلي الذي تخلل منصات التواصل الافتراضي قد ارتد سلبيًّا على أذهان الكثير ونفسيّاتهم، فحجب عن أعينهم ما كان حقيقًا عليهم أن يروه، واستنزف طاقاتهم في مدوارات نافية ومؤكدة، وصل فيها مستوى النقاش إلى درجاتٍ مؤلمة ومتدنيّة من المناكفة، في وقتٍ كنا أشد ما نحتاج إليه هو الحوار البنّاء وفق تقاليد التعايش والمساواة، أو الخطاب الذي يضم شتات الأمر، ويلمُّ شعث المسألة.
مع العلم أنه انفعال لم يخلُ من حق، ولا يُلام من وجد نفسه منخرطًا فيه إلا لكونه وقع في الإفراط والتجاوز، وهذا لا ريب أنه فاقم من ردود الفعل العشوائية بدلا من تقريبها، وجعل منها مشكلة بحد ذاتها.
إننا بحاجة أصيلة إلى الحوار، وبحاجة كبرى إلى تفعيل منصّات الحوار الوطني-الوطني، على أرض الواقع، وربما استشعر الجميع في الأيام القليلة الماضية ضرورة ترشيد طاقات التعبير الشبابي، إذ قد تؤذن حالات الصمت الطويل بما هو أنكأ من مجرد الجدل، يستلزم على إثرها البحث عن مهدّئات قد لا تتوفر حينها.
ختامًا، التزامنا تجاه الدولة وعدالتها والمجتمع واستحقاقاته عهدٌ لا يمكن أن يُمَسّ، والواجب هو الحفاظ عليه من كل شارد ووارد يشتهي تطويع الموقف لصالحه.
جوهر الكلام: صرخات ثقيلة تحت سماء ملبّدة!
تتنوع مُسمّيات (المطر) في لغة العرب تبعا لشدته وغزارته، ومنها الرشّ: وهو أول المطر، والطّلّ: المطر الضعيف، والرذاذ:... اقرأ المزيد
126
| 21 نوفمبر 2025
«ثورة الياسمين حرّرت العصفور من القفص»
عَبِقٌ هُو الياسمين. لطالما داعب شذاه العذب روحها، تلك التّي كانت تهوى اقتطافه من غصنه اليافع في حديقة... اقرأ المزيد
96
| 21 نوفمبر 2025
ظلّي يسبقني
في الآونة الأخيرة، بدأت ألاحظ أن ظلّي صار يسبقني. لا أعلم متى بدأ ذلك، ولا متى توقفت أنا... اقرأ المزيد
81
| 21 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
هناك لحظات في تاريخ الدول لا تمرّ مرور الكرام… لحظات تُعلن فيها مؤسسات الدولة أنها انتقلت من مرحلة “تسيير الأمور” إلى مرحلة صناعة التغيير ونقل الجيل من مرحلة كان إلى مرحلة يكون. وهذا بالضبط ما فعلته وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي في السنوات الأخيرة. الأسرة أولاً… بُعدٌ لا يفهمه إلا من يعي أهمية المجتمع ومكوناته، مجتمعٌ يدرس فيه أكثر من 300 ألف طالب وطالبة ويسند هذه المنظومة أكثر من 28 ألف معلم ومعلمة في المدارس الحكومية والخاصة، إلى جانب آلاف الإداريين والمتخصصين العاملين في الوزارة ومؤسساتها المختلفة. لذلك حين قررت الوزارة أن تضع الأسرة في قلب العملية التعليمية هي فعلاً وضعت قلب الوطن ونبضه بين يديها ونصب عينيها. فقد كان إعلانًا واضحًا أن المدرسة ليست مبنى، بل هي امتداد للبيت وبيت المستقبل القريب، وهذا ليس فقط في المدارس الحكومية، فالمدارس الخاصة أيضًا تسجل قفزات واضحة وتنافس وتقدم يداً بيد مع المدارس الحكومية. فمثلاً دور الحضانة داخل رياض الأطفال للمعلمات، خطوة جريئة وقفزة للأمام لم تقدّمها كثير من الأنظمة التعليمية في العالم والمنطقة. خطوة تقول للأم المعلمة: طفلك في حضن مدرستك… ومدرستك أمانة لديك فأنتِ المدرسة الحقيقية. إنها سياسة تُعيد تعريف “بيئة العمل” بمعناها الإنساني والحقيقي. المعلم… لم يعد جنديًا مُرهقًا بل عقلاً مُنطلقًا وفكرًا وقادًا وهكذا يجب أن يكون. لأول مرة منذ سنوات يشعر المُعلم أن هناك من يرفع عنه الحِمل بدل أن يضيف عليه. فالوزارة لم تُخفف الأعباء لمجرد التخفيف… بل لأنها تريد للمعلم أن يقوم بأهم وظيفة. المدرس المُرهق لا يصنع جيلاً، والوزارة أدركت ذلك، وأعادت تنظيم يومه المدرسي وساعاته ومهامه ليعود لجوهر رسالته. هو لا يُعلّم (أمة اقرأ) كيف تقرأ فقط، بل يعلمها كيف تحترم الكبير وتقدر المعلم وتعطي المكانة للمربي لأن التربية قبل العلم، فما حاجتنا لمتعلم بلا أدب؟ ومثقف بلا اخلاق؟ فنحن نحتاج القدوة ونحتاج الضمير ونحتاج الإخلاص، وكل هذه تأتي من القيم والتربية الدينية والأخلاق الحميدة. فحين يصدر في الدولة مرسوم أميري يؤكد على تعزيز حضور اللغة العربية، فهذا ليس قرارًا تعليميًا فحسب ولا قرارًا إلزاميًا وانتهى، وليس قانونًا تشريعيًا وكفى. لا، هذا قرار هوية. قرار دولة تعرف من أين وكيف تبدأ وإلى أين تتجه. فالبوصلة لديها واضحة معروفة لا غبار عليها ولا غشاوة. وبينما كانت المدارس تتهيأ للتنفيذ وترتب الصفوف لأننا في معركة فعلية مع الهوية والحفاظ عليها حتى لا تُسلب من لصوص الهوية والمستعمرين الجدد، ظهرت لنا ثمار هذا التوجه الوطني في مشاهد عظيمة مثل مسابقة “فصاحة” في نسختها الأولى التي تكشف لنا حرص إدارة المدارس الخاصة على التميز خمس وثلاثون مدرسة… جيش من المعلمين والمربين… أطفال في المرحلة المتوسطة يتحدثون بالعربية الفصحى أفضل منّا نحن الكبار. ومني أنا شخصيًا والله. وهذا نتيجة عمل بعد العمل لأن من يحمل هذا المشعل له غاية وعنده هدف، وهذا هو أصل التربية والتعليم، حين لا يعُدّ المربي والمعلم الدقيقة متى تبدأ ومتى ينصرف، هنا يُصنع الفرق. ولم تكتفِ المدارس الخاصة بهذا، فهي منذ سنوات تنظم مسابقة اقرأ وارتقِ ورتّل، ولحقت بها المدارس الحكومية مؤخراً وهذا دليل التسابق على الخير. من الروضات إلى المدارس الخاصة إلى التعليم الحكومي، كل خطوة تُدار من مختصين يعرفون ماذا يريدون، وإلى أين الوجهة وما هو الهدف. في النهاية… شكرًا لأنكم رأيتم المعلم إنسانًا، والطفل أمانة، والأسرة شريكًا، واللغة والقرآن هوية. وشكرًا لأنكم جعلتمونا: نفخر بكم… ونثق بكم… ونمضي معكم نحو تعليم يبني المستقبل.
3114
| 20 نوفمبر 2025
وفقًا للمؤشرات التقليدية، شهدت أسهم التكنولوجيا هذا العام ارتفاعًا في تقييماتها دفعها إلى منطقة الفقاعة. فقد وصلت مضاعفات الأرباح المتوقعة إلى مستويات نادرًا ما شوهدت من قبل، لذلك، لم يكن التراجع في التقييمات منذ منتصف أكتوبر مفاجئًا. وقد يعكس هذا الانخفاض حالة من الحذر وجني الأرباح. وقد يكون مؤشرًا على تراجع أكبر قادم، أو مجرد استراحة في سوق صاعدة طويلة الأمد تصاحب ثورة الذكاء الاصطناعي. وحتى الآن، لا يُعدّ الهبوط الأخير في سوق الأسهم أكثر من مجرد "تصحيح" محدود. فقد تراجعت الأسواق في الأسبوع الأول من نوفمبر، لكنها سجلت ارتفاعًا طفيفًا خلال الأسبوع الذي بدأ يوم الاثنين 10 من الشهر نفسه، لكنها عادت وانخفضت في نهاية الأسبوع. وما تزال السوق إجمالاً عند مستويات مرتفعة مقارنة بشهر أبريل، حين شهدت انخفاضًا مرتبطًا بإعلان الرئيس دونالد ترامب بشأن الرسوم الجمركية. فعلى سبيل المثال: تراجعت أسهم شركة إنفيديا بنحو 10% في الأسبوع الأول من نوفمبر، لكنها بقيت أعلى بنحو 60% مقارنة بما كانت عليه قبل ستة أشهر فقط. مؤشر S&P 500 انخفض إلى 6700 في الرابع عشر من نوفمبر، مقارنة بذروة بلغت 6920، وما زال أعلى بنحو سبعين بالمئة مقارنة بنوفمبر 2022. هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى على القيمة السوقية الإجمالية أصبحت واضحة. فمع نهاية أكتوبر، ورغم ارتفاع المؤشر طوال العام، باستثناء التراجع في أبريل، شهدت نحو 397 شركة من شركات المؤشر انخفاضًا في قيمتها خلال تلك الفترة. ثماني من أكبر عشر شركات في المؤشر هي شركات تكنولوجية. وتمثل هذه الشركات 36% من إجمالي القيمة السوقية في الولايات المتحدة، و60% من المكاسب المحققة منذ أبريل. وعلى عكس ما حدث لشركات الدوت كوم الناشئة قبل 25 عامًا، تتمتع شركات التكنولوجيا اليوم بإيرادات قوية ونماذج أعمال متينة، حيث تتجاوز خدماتها نطاق الذكاء الاصطناعي لتشمل برمجيات تطبيقات الأعمال والحوسبة السحابية. وهناك حجّة قوية مفادها أن جزءًا كبيرًا من الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي يأتي من شركات كبرى مربحة تتمتع بمراكز نقدية قوية، ما يجعل هذه الاستثمارات أقل عرضة للمخاطر مقارنة بموجات الحماس السابقة في قطاع التكنولوجيا. غير أن حجم الاستثمارات المخطط لها في مراكز البيانات أثار مخاوف لدى بعض المستثمرين. كما أن هناك 10 شركات ناشئة خاسرة متخصصة في الذكاء الاصطناعي تقدر قيمتها مجتمعة بنحو تريليون دولار. وهناك ايضاً تراجع صدور البيانات الاقتصادية الأمريكية بسبب الإغلاق الحكومي الذي دخل شهره الثاني، فلم تُنشر أي بيانات وظائف رسمية منذ 5 سبتمبر، ما دفع المحللين للاعتماد على بيانات خاصة. هذه البيانات أظهرت أعلى مستوى لتسريح الموظفين منذ 2003 في أكتوبر. كما جاءت نتائج أرباح بعض الشركات التقليدية مخيبة، حيث هبط سهم مطاعم تشيبوتلي بنحو 13% في نهاية أكتوبر بعد إعلان نتائج دون توقعات السوق.
2454
| 16 نوفمبر 2025
يحتلّ برّ الوالدين مكانة سامقة في منظومة القيم القرآنية، حتى جعله الله مقرونًا بعبادته في قوله تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]، فجمع بين التوحيد والإحسان إليهما في آية واحدة، ليؤكد أن البرّ بهما ليس مجرّد خُلقٍ اجتماعي، بل عبادة روحية عظيمة لا تقلّ شأنًا عن أركان الإيمان. القرآن الكريم يقدّم برّ الوالدين باعتباره جهادًا لا شوكة فيه، لأن مجاهد النفس في الصبر عليهما، ورعاية شيخوختهما، واحتمال تقلب مزاجهما في الكبر، هو صورة من صور الجهاد الحقيقي الذي يتطلّب ثباتًا ومجاهدة للنفس. قال تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15]، فحتى في حال اختلاف العقيدة، يبقى البرّ حقًا لا يسقط. وفي الآية الأخرى ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24]، يربط القرآن مشاعر الإنسان بذاكرته العاطفية، ليعيده إلى لحظات الضعف الأولى حين كان هو المحتاج، وهما السند. فالبرّ ليس ردّ جميلٍ فحسب، بل هو اعتراف دائم بفضلٍ لا يُقاس، ورحمة متجددة تستلهم روحها من الرحمة الإلهية نفسها. ومن المنظور القرآني، لا يتوقف البرّ عند الحياة، بل يمتدّ بعد الموت في الدعاء والعمل الصالح، كما قال النبي ﷺ: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث... « وذكر منها «ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم). فالبرّ استمرارية للقيم التي غرساها، وجسر يصل الدنيا بالآخرة. في زمن تتسارع فيه الإيقاعات وتبهت فيه العواطف، يعيدنا القرآن إلى الأصل: أن الوالدين بابان من أبواب الجنة، لا يُفتحان مرتين. فبرّهما ليس ترفًا عاطفيًا ولا مجاملة اجتماعية، بل هو امتحان للإيمان وميزان للوفاء، به تُقاس إنسانية الإنسان وصدق علاقته بربه. البرّ بالوالدين هو الجهاد الهادئ الذي يُزهر رضا، ويورث نورًا لا يخبو.
1389
| 14 نوفمبر 2025