رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يخطئ من يتصور أن التاريخ يمكن أن ينتهي متى انتصرت مجموعة الأبطال الطيبين على مجموعة الأشرار المفسدين، كما يحدث في القصص الدرامية، فانتصار معتنقي نظرية أو مذهب أو أيدلوجية هو دوما ظاهرة مؤقتة ومشروطة، وليس وضعا نهائيا مؤبداً. ولكن الحاصل أن هذا الاعتقاد الخاطئ بإمكانية انتهاء التاريخ عند انتصار "الأبطال" على "الأشرار" مثل عاملا مشتركا بين معظم الأيدلوجيات المعاصرة، التي افترض أنصارها أن وصولهم إلى مواقع السلطة كفيل بأن يفك عقدة الدراما التاريخية، ويصل إلى حالة الانفراجة حيث يختفي الصراع ويحيا الجميع في استقرار وأمن. وكان الماركسيون أشهر من عبروا عن فكرة النهاية السعيدة للتاريخ في أدبياتهم، عندما تخيلوا التاريخ على أنه ساحة تتصارع فيها الطبقات، ويكون النصر في النهاية حليف القوى العاملة، بعد أن ينتصر الحزب الشيوعي على القوى الرجعية والرأسمالية ويضع العمال في صدارة المشهد فينتهي الصراع ويعم الاستقرار. كما آمن فريق من الليبراليين بفكرة نهاية التاريخ، وذلك حينما تنتصر آليات السوق، وتختفي المعوقات التي تعترض حركة السلع والخدمات، ويصبح الرأسماليون الطيبون هم المتحكمون الوحيدون في مجريات الأمور على مستوى العالم. آفة هذا التفكير الحتمي أنه كان كثيرا ما يستخدم لتبرير أفعال وسياسات النخب الأيدلوجية الحاكمة، أكثر مما استخدم كمعيار لتقييم أدائها، فالماركسيون اقتلعوا شعوبا كاملة من أوطانها وأعادوا تسكينها في أراض غريبة بحجة التمكين لسيطرة البروليتاريا الطيبين، والليبراليون احتلوا دولا ووجهوا إليها آلتهم العسكرية بحجة نشر الديمقراطية ونشر قيم السوق وحقوق الإنسان الغربي الطيب. وفي كل الأحوال كان يطلب من الناس أن يتجاهلوا الأخطاء التي تسببت فيها هذه النخب التي تتبنى هذه الأفكار، والأعباء التي تكبدوها بسببهم، باعتبارها ثمنا وضريبة لحتمية التاريخ. الأمر الذي سفك دم المسؤولية الأخلاقية عند مذبح الحتمية التاريخية. وحاليا يمارس الإخوان المسلمون في مصر تجربتهم الخاصة في الحكم، وبطبيعة الحال، عليهم ألا يعيدوا أخطاء من سبقوهم، وبعبارة أكثر وضوحا لا ينبغي أن يحاولوا أن يحتموا بأيدولوجيتهم الخاصة (الدين في هذه الحالة) لتبرير مواقفهم السياسية. فالانطباع الذي يسود بين الكثير من المنتمين لجماعة الإخوان أن الرئيس المصري (ابن جماعتهم) مسدد وموفق في كل اختياراته، وأن هذا التوفيق نابع من الضرورة التاريخية التي هي —من وجهة نظرهم— في صف الإخوان وممثلهم في الحكم. هذا الاستنتاج بحاجة إلى إعادة نظر؛ فلا توجد حتمية تاريخية تضمن لأي جماعة سياسية النجاح غير المشروط، حتى لو رفعت شعار الدين وتبوأت موقع الصدارة السياسية إلى حين. إن أخطر ما يتهدد تجربة حكم الجماعة ذات المرجعية الإسلامية هو أن تعتقد أن التاريخ قد وصل إلى غايته النهائية بوصولهم إلى الحكم، (تماما كما تصور بعض الماركسيين أن التاريخ قد انتهى بوصول الشيوعيين إلى الحكم في الاتحاد السوفيتي السابق، أو كما تصور بعض الليبراليين أن نهاية التاريخ قد تحققت بانفراد الولايات المتحدة بالقطبية العالمية، وربما أيضا كما تصور البعض أن تاريخ المقاومة قد انتهى في قطاع غزة بعد انفراد حركة حماس بالحكم هناك)، وألا تبذل الجهد الكافي لكي تتخطى العقبات التي تعترض تجربتها السياسية، فالمشاهد أن هناك مخططا ينفذ بعناية لإفشال تجربة وصول رئيس ذي مرجعية إسلامية إلى الحكم، ولكن في المقابل لا يشعر أحد أن جهدا مناسبا يبذل لمقاومة هذا المخطط. ويمكن القول إن نجاح الجماعة في الوصول إلى منصب الرئاسة لا يعفيها من الاستمرار في بذل الجهد لتفادي السقوط الذي لحق بالكثير من الحركات والجماعات التي لم تصمد أمام محكات التاريخ التي لا تحابي أحدا. إن أداء الإخوان ينبغي أن يبتعد عن الأيدلوجيا وأن يعتمد في المقابل على منطق الإنجازات، فالمصريون الآن يريدون أن يروا أفعالاً على الأرض ولا يعنيهم كثيرا التسويغ الأيدويولجي لها. ومن ناحية أخرى لو تصور طرف ما أن قوانين الحركة التاريخية ستكون في صفه على طول الخط فإنه يكون واهما، فلا أحد يمتلك مفاتيح للتاريخ، وما تمارسه النخب السياسية طوال الوقت هو عملية اختيار بين الممكنات الواقعية، وليس تنفيذ الضرورات التاريخية، ولهذا فإن أداء هذه النخب —بما فيها الإخوان— ينبغي أن يكون محكوما بالشورى والتواصل مع القوى الأخرى التي تريد مصلحة الوطن وتقبل بالحوار وفق مبدأ الاحترام المتبادل. وسوف تخطئ الجماعة ويخطئ أنصارها إن هم استسلموا لوهم أن أفعالهم مسددة على طول الخط، أو أنها تنفيذ للمشيئة الإلهية، أو انعكاس للحتمية التاريخية، فما زال المطلوب من الإخوان كثير، ومازال المتحقق على أيديهم، أقل من القليل.
385
| 08 أغسطس 2012
كان الرسام الفرنسي جوستاف كوربيه يرسم صورا مباشرة جداً، لا تحوي أي بعد رمزي، ولكنه مع ذلك كان يعتبر نفسه الأصدق بين مصوري عصره، وكان يقول إن المهم هو الصدق في نقل الواقع، فاللوحة الصادقة تفعل في النفس أكثر مما تفعله عشرات الرموز والإيحاءات التي كانت تمتلأ بها لوحات معاصريه من فناني أوربا. سمى اتجاه كوربيه بالاتجاه الواقعي، وأثار هذا الاتجاه جدلاً فى البداية حيث اعتبر جافاً وغير مثير، خاصة وأن محاكاة الواقع كانت تعني الجمود أو الخلو من العاطفة أو التأثير. ولكن لاحقاً أعيد اكتشاف كوربيه وبدأ النقاد يفكون أسرار واقعيته، ويثنون على الفلسفة التي يمثلها، تلك الفلسفة التي ترى أن الواقع لا يخلو من الإثارة. المهم أن يتم نقل تفاصيله بصدق، فمن خلال التعبير الصادق عن الواقع يمكن أن تتجلي الكثير من المعاني العميقة. بطبيعة الحال ظل البعض على رفضهم لهذا الاتجاه، و أصروا على الاستمرار في إضافة المحسنات، غير الحقيقية، إلى رسوماتهم للواقع بغرض جعله أكثر إثارة مما هو عليه. تداعت إلى ذهني هذه المعلومات عن المدرسة الواقعية وأنا أتابع الطريقة التي تعامل من خلالها الكثيرون مع أخبار التفجير الذي حدث فى مقر جهاز الأمن القومي السوري، وخبر وفاة رئيس المخابرات المصري السابق عمر سليمان، فعلى الرغم من أن هذه الوقائع—في صورتها المجردة والمباشرة—تمتلئ بالمعاني البليغة التي لا تنقصها الإثارة، والتي لم تكن بحاجة لأكثر من أن يتم تناولها كما هي، ومن دون التطوع بإضافة أى نوع من المؤثرات إليها، على الرغم من ذلك، تم التعامل مع هذه الأحداث من خلال أكثر المداخل افتعالا وهو المدخل المؤامراتي وذلك بهدف زيادة جرعة الإثارة والتشويق فيها. وفي إطار نظرية المؤامرة تم الربط بين هذين الحدثين وراجت تكهنات مفادها أن رئيس جهاز المخابرات المصري السابق لم يمت على نحو طبيعي، وإنما لقى حتفه أثناء حضوره نفس الاجتماع الذي لقي فيه المسؤولون السوريون مصرعهم، ولإكمال الحبكة المؤامراتية أضيف إلى أسماء من قتلوا من الجانبين المصري والسوري، أسماء أخرى تركية بل وإسرائيلية أيضاً، مثل نائب رئيس المخابرات التركي، هاكان فيدان، (على الرغم من صدور تكذيب من جهاز المخابرات التركية لهذا الخبر)، بالإضافة إلى مسؤول كبير في جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (يدعى بن عوزي شامير)، زعم مروجو هذا الخبر أن خبر وفاته أذيع حصرا على التلفزيون النمساوي! ولم يذع في أي مصدر آخر. وهكذا لم يستطع البعض أن يقبل الواقع الثري مجردا من الإضافات المفتعلة، ولم يستطع أن يقتنع أن الواقع يمكن فهمه فقط من خلال ما يحويه من تفصيلات. وعليه كان لابد —وفقا لهذا الفريق— من أن يتم استدعاء شيء ما خارق للطبيعة، شيء من نوعية المؤامرات الكونية أو الخطط الماسونية لقوى الشر التي تعمل من وراء ستار، والتي لا يمكن إحباط عملها أو تعطيل مخططاتها! وفي إطار التفسير بالمؤامرة، لا بأس أن تجتمع كل الأضداد، فالإخوان يتحالفون مع أمريكا، والمخابرات المصرية تتحالف مع المخابرات السورية، والمخابرات الإسرائيلية تنسق مع حزب الله، أما الاستفسار المشروع: كيف تجتمع كل هذه الأطراف المتناقضة على مصلحة واحدة وهدف مشترك؟ فليس له إجابة واضحة، كما أن السؤال البرئ من نوعية ما الذي يمكن للمخابرات المصرية أن تقدمه من أجل إفشال الثورة الشعبية السورية في الوقت الذي لم تنجح فيه في إحباط الثورة التي نشبت في عقر دارها في مصر؟ فليس له بدوره تفسير فى إطار نظرية المؤامرة التي تطرح على أنها تفسير نهائي مصمت، لا يجوز أن يعقب عليه بالمزيد من التساؤلات. إن الاستسلام لمثل هذا النوع من التفكير التآمري، ورفض التعامل مع الواقع من خلال منطق الدليل والبرهان، يعكس حالة مرضية من قلة الثقة بالذات والهوس بقدرات الآخرين. ولقد كان الراحل القدير الدكتور عبد الوهاب المسيري يعزو شيوع هذا التفكير إلى الكسل العقلي لدى البعض، فبدلاً من إجهاد العقل بالبحث عن التفسيرات الحقيقية لأى موضوع، يتم دوما إرجاعه إلى مؤامرة كبرى ومتآمرين أخفياء يخططون كل شيء ويدبرون لكل شيء. ولكن الغريب حقا أن الجهد الذهنى الذي يتطلبه فهم الواقع على نحو مباشر يقل كثيرا عن الجهد الذي يبذله أنصار نظريات المؤامرة في محاولتهم التوفيق بين المؤامرات المتناقضة التي يحشون بها تفسيراتهم للواقع. فالأمر إذن يتعدى مجرد الكسل العقلي ليشير إلى أزمة فى الاستدلال لدى من يمارسون هذا النوع من التفكير. إن الواقع الذي تحياه الأمة العربية والإسلامية هذه الأيام ليس بحاجة إلى أي من الإضافات التأثيرية، فهو واقع ملحمي بامتياز، سيتوقف عنده قارئ التاريخ بعد ألف سنة، معتبرا إياه بمثابة ترجمة مباشرة لإرادة الله التي تعلو على إرادات خلقه، ولهذا فإن فهم هذا الواقع يمكن أن يتحقق على نحو أفضل من خلال توظيف مدخل السنن الإلهية بأكثر مما يتحقق باستخدام منطق المؤامرات الخفية، وذلك دون أن يتضمن هذا تجريدا لتفاصيل هذا الواقع من جاذبيتها أو أوجه الإثارة فيها.
412
| 25 يوليو 2012
لا تعترف الدول الكبرى بأخطائها وإنما تفترض أن سلوكها معياري لا يلحقه أي نقص، ولهذا لم تقبل وزيرة الخارجية الأمريكية أن تعبر عن الأسف إزاء موقف بلدها تجاه النظام المصري السابق. فخلال المؤتمر الصحفي الذي جمعها ونظيرها المصري وفي إجابتها على سؤال عما إذا كانت الولايات المتحدة آسفة على الدعم الذي قدمته إلى نظام الرئيس مبارك، الذي قام ولسنوات طويلة باضطهاد وقمع معارضيه، بما في هؤلاء الرئيس محمد مرسي نفسه والذي كانت وزيرة الخارجية الأمريكية قد فرغت للتو من لقائه، قالت وزيرة الخارجية إن الولايات المتحدة كانت مثابرة في جهودها لنشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وإنهاء العمل بقانون الطوارئ والإفراج عن المسجونين السياسيين ولكن العيب من وجهة نظرها كان في النظام المصري السابق الذي رفض التجاوب مع النصائح الأمريكية. وهكذا فضلت أمريكا عبر ممثلتها الدبلوماسية الأولى أن تراوغ وأن تعيد تفسير التاريخ بدلا من أن تضع الأمور في نصابها الصحيح. أما الحقيقة التي لم تجرؤ وزيرة الخارجية الأمريكية على التصريح بها، فهي أن الولايات المتحدة ليست سوى دولة براجماتية كبرى، تقوم سياستها على البحث عن أنظمة قادرة على توفير الاستقرار الذي تحتاجه مصالحها، يستوي في ذلك أن تكون هذه الأنظمة أنظمة استبدادية أو ديمقراطية، كما يستوي أن تكون الطريقة التي يتحقق بها هذا الاستقرار هي القمع أو الانتخابات. وبناء على ذلك كان تاريخ الولايات المتحدة في المنطقة هو تاريخ من عدم الاتساق بين ما يتم رفعه من شعارات وما يتم فعله على أرض الواقع، وبين المناداة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لجميع الأمم وبين دعم أكثر الأنظمة قمعية طالما كان ذلك في مصلحة الولايات المتحدة. ورغم أن أمريكا تمتلك من القوة ما يعفيها من عبء التظاهر بما لا تنوي الالتزام به، إلا أن مشكلة الولايات المتحدة الأزلية أنها كانت دوما حريصة على توفير غطاء أخلاقي لأفعالها، الأمر الذي أسهم في بلورة تناقضها على نحو أوضح، حيث كانت أمريكا، في معظم الأحيان، على استعداد لمقايضة حريات الشعوب مقابل الحصول على مصالحها (والتي تتضمن استمرار تدفق النفط، التوصل إلى تسوية تريح بها حليفتها إسرائيل من عبء مواجهة المقاومة الفلسطينية، مواجهة فوضى ما بعد غزو العراق، ومواجهة خطر قيام ثورة إسلامية على غرار الثورة الإيرانية). ولهذا كان الأمريكيون يركزون على دعم الاستقرار في الدول الحليفة وعلى دمجها في الأسواق العالمية، بأكثر مما يهتمون بمقدار الدعم الشعبي الذي تحوزه، فلم تكن تقارير حقوق الإنسان في هذه الدول بخافية على الإدارة الأمريكية، ولكن محصلة سياستها كانت تصب في مصلحة دعم خطط الحكومات المستبدة في سحق المعارضة والحيلولة دون وصولها إلى السلطة بكافة الطرق. وحتى في الحالات التي حاولت الإدارات الأمريكية فيها أن تترجم شعاراتها بخصوص الديمقراطية بشكل فعلي، فإنها كانت تركز في برامجها لدعم الديمقراطية على الجوانب التنموية مثل التعليم والصحة وتمكين المرأة، فيما تتجاهل المناطق التي قد تتضمن صداما بينها وبين الأنظمة الحليفة لها، مثل الاعتراض على ما يضعه حلفاؤها من قيود على تشكيل أحزاب قادرة على المنافسة الانتخابية الحقيقية. بل إنه يمكن القول إن الإدارات الأمريكية وإن كانت أكدت كثيرا على أهمية الانتخابات وشفافيتها، فإنها كانت نادرا ما تعلق على الاتهامات بالتزوير التي كان المدونون يقدمون أدلة حية عليها. الاتساق إذن كان دائما العنصر المفقود في الخطاب والممارسة الأمريكيين، فأمريكا التي تروج لنفسها على أنها حامية حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم كانت مضطرة دوما أن تأتي من الأفعال والسياسات ما يتناقض مع ما تتبناه أو تدعيه من قيم. لذا يبدو غريبا أن تؤكد وزيرة الخارجية الأمريكية أن مواقف بلادها كانت متسقة، أو أنها قامت بما كان ينبغي عليها القيام به. غير أن سياسات أمريكا غير المتسقة قد أوقعتها أخيرا في ورطة كبيرة، فلأول مرة تقابل سياستها البراجماتية بمعارضة كثير من التيارات "الليبرالية والعلمانية" التي كانت تعتبر الأقرب أيدولوجيا ومصلحيا للولايات المتحدة. فقد تبين لهذه التيارات أن الولايات المتحدة لم تعد تمتلك الجرأة الكافية لتأييدها حتى لا تغضب حائزي السلطة الجدد، وأن الإدارة الأمريكية بعد أن اكتشفت عدم قدرة هذا التيارات على مواجهة الإسلام السياسي والانتصار عليه عبر صناديق الانتخابات سارعت بالتعامل مع الأمر الواقع وقبلت بوجود ممثل لجماعة الإخوان في الحكم، ضاربة بعرض الحائط وعودها لحلفائها، وتاركة إياهم ليلاقوا مصيرهم بعد أن أيقنت استحالة تمكنهم من تجسير الفجوة التي تفصلهم عن جموع الجماهير المصرية. الأمر الذي ترتب عليه خروج هؤلاء في مظاهرات ضد زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية بوصفها تصب من وجهة نظرهم في اتجاه دعم شرعية الإخوان كما تمثل ضغطا على العسكر لتسليم السلطة إليهم، الأمر الذي يوحي أن أمريكا تجني الآن ثمرة سياستها المتناقضة التي مارستها في المنطقة لأكثر من سبعة عقود متتالية.
342
| 18 يوليو 2012
رغم أن القاعدة التراثية تنصح بأن يُعرف الحق ثم يُعرف أهله وألا يُعرف الحق بالرجال، إلا أنه في كثير من الأحيان يحدد المصريون موقفهم من أمور معينة بالمخالفة لهذه القاعدة، فعندما يتواطأ من عرف عنهم التلون والمشاكسة ضد قرار ما، يعرف المصريون أن الحق في صف هذا القرار. ربما يكون هذا نزعة صوفية لا يمكن تبريرها على نحو عقلاني، ولكنها تمثل، في الوقت نفسه، الوسيلة الوحيدة التي تصلح حينما تختلط الآراء وتتباين التحليلات ويشتبه الحق بالباطل فلا تكون ثمة وسيلة إلا معرفة الحق بأهله ومعرفة الباطل بأهله. ويمكن الزعم بأن هذه النزعة قد آتت ثمارها في الأزمة التي صاحبت القرار الأخير، الذي اتخذه الرئيس المصري بخصوص التراجع عن حل مجلس الشعب بناء على حكم المحكمة الدستورية العليا. فرغم اختلاط الموقف على الكثيرين بسبب الانقسام حول تأويل القرار ومدى ملاءمته ومناسبته للأوضاع التي تمر بها البلاد، إلا أن الكثيرين صاغوا موقفهم بالنظر إلى من ساندوا القرار وإلى من عارضوه، بعبارة أخرى أتاحت نوعية المعارضين لقرار رئيس الجمهورية معيارا مريحا وسهلاً لاختيار الجانب الذي يمكن للمرء أن يقف فيه وهو مرتاح الضمير. فقد اجتمع في خانة المعارضين لقرار رئيس الجمهورية زمرة من المتلونين والموالسين والمتحولين ممن عارضوا الثورة في بدايتها ثم زايدوا عليها لاحقا، أو ممن طالبوا المجلس العسكري في بداية المرحلة الانتقالية بالبقاء في السلطة إلى أمد غير معلوم، أو ممن اعترضوا على معظم خطوات نقل السلطة واستبد بهم الفزع كلما اقتربت المرحلة الانتقالية من الانتهاء. هذه المعارضة الغيورة على دولة القانون والدستور هي نفسها التي سكتت على الكثير من الانتهاكات القانونية وأبرزها الإعلان الدستوري المكمل الذي كان أوضح في مجافاته للمنطق القانوني من القرار الرئاسي الأخير. لقد كان المصريون بحاجة إلى سماع تحليلات منطقية حول مدى قانونية القرار، ومدى اتساقه مع متطلبات المرحلة وذلك لكي يكونوا وجهات نظر محددة بخصوصه، فإذا بهم يستمعون إلى قائمة طويلة من الهجاء الذي عبر عن حالة نفسية محتقنة إزاء احتمالات عودة البرلمان ذي الأغلبية الإسلامية بأكثر مما عبر عن حالة عقلية سليمة تقوم على تقييم وتحليل القرار وإعطاء الرأي القانوني بخصوصه. وليس من تفسير لذلك إلا أن هذه التيارات مصرة على أن تفقد كل ذرة ثقة كانت الجماهير المصرية قد أودعتها إياها في وقت سابق. فعلى مدار الأيام التي تلت إصدار القرار ارتفع صوت الهجاء وغاب صوت العقل، وتفرغ الكثير من القانونيين والمعلقين لصياغة حفنة من أوصاف الذم بحق القرار، فوصفوه بأنه غير دستوري وغير قانوني، ووصل الشطط بالبعض إلى حد دعوة العسكر إلى الانقلاب على السلطة الشرعية المنتخبة، أو إلى محاصرة قصر الرئاسة. وتفرغ كثير ممن وصفوا أو سموا أنفسهم بالفقهاء الدستوريين لكيل عبارات لا تمت لشرف المهنة القضائية بصلة، فمن بين قائل إن ما حدث هو بلطجة سياسية، وبين واصف له بأنه ترقيع قانوني، وما بين قائل إن الرئيس قد جرد نفسه من منصبه وبالتالي لم يعد رئيساً للجمهورية ومنهم من طالب بمحاكمة وفقاً للمادة 123 من قانون العقوبات التي تنص على معاقبة من يمتنع عن تنفيذ الأحكام القضائية بالحبس! والغريب أن كثيرين ممن تصدوا لهذا القرار أعفوا أنفسهم من عبء الاضطلاع على تفاصيله، أو هم ربما اضطلعوا عليه وأبوا إلا أن يدلسوا على الناس بأن ينقلوا إليهم صورة مشوهة عما تم إصداره. فالقرار تضمن سحب قرار المجلس العسكري باعتبار مجلس الشعب منحلا، وعودة مجلس الشعب المنتخب لعقد جلساته وممارسة اختصاصاته المنصوص عليها بالإعلان الدستوري 2011، وإجراء انتخابات مبكرة خلال 60 يوما من إقرار الدستور الجديد والانتهاء من قانون مجلس الشعب. وعليه لا يكون رئيس الجمهورية قد أهدر أحكام القضاء ولم يخالف حكم المحكمة الدستورية، غاية ما هنالك أنه أرجأ تنفيذ الحكم لحين الانتهاء من وضع الدستور وهذا حق أصيل للرئيس الذي أعاد السلطة المنتخبة لمزاولة أعمالها وسحب الشرعية من المجلس العسكري بوصفه غير ذي صفة، ولكن هؤلاء المعارضين أبوا إلا أن يصوروا القرار للمصريين على أنه إهدار لحكم المحكمة الدستورية العليا وضرب لدولة القانون في مقتل. صحيح أن عقول المصريين مازالت مليئة بالكثير من الأسئلة حول مصير القوانين التي يمكن أن يتمخض عنها البرلمان العائد من الحل، بموجب هذا القرار، إذا ما تم الطعن عليها بعدم الدستورية، وحول ما إذا كان القرار قد تم صدوره بالتشاور مع العسكر أم أنه قد فاجأهم كما فاجأ عموم المصريين، ولكن الأمر الذي بات الجميع متأكدين منه أن هذا القرار يمثل عينة لنوعية العقبات التي تنتظر الرئيس في المستقبل من النخبة والإعلام والفلول، فهذا الخليط يبدو أنه من المستحيل أن يجتمع على حق، ويبدو، من ثم، أنه من غير الممكن استرضاؤه. وعليه فإن على الرئيس الجديد أن يتخلى عن محاولة التوافق مع هذه القوى المشاكسة، والتي اتضح الآن بجلاء أنها لن تضيع أي فرصة لعرقلة الرئيس الجديد إلا وستستغلها على نحو يضرب في الصميم مفهوم دولة المؤسسات التي يطمح إليها غالبية المصريين.
625
| 10 يوليو 2012
المشهد الأول: قاعة محاضرات، تقوم الدكتورة وهي من المعسكر المناوئ لجماعة الإخوان المسلمين باستغلال ملاحظة أحد الطلاب حول الوضع السياسي في مصر لتبدأ في كيل الاتهامات للجماعة ومرشحها في الانتخابات الرئاسية، هذه الانتقادات كان من المعتاد أن يتعامل معها شباب الإخوان في الماضي بأريحية بوصفها ضريبة يتعين عليهم دفعها جراء تمسكهم بالمرجعية الإسلامية التي تتعارض مع الطابع العلماني الغالب على كثير من المؤسسات التعليمية وعلى كثير ممن يتصدون للتدريس فيها، ولكن في هذه المرة تحديدا (بعد فوز الدكتور مرسي) قامت طالبة —من الواضح أنها قريبة من الجماعة أو منتمية تنظيميا لها، وتحدثت بخشونة زائدة إلى المحاضرة مطالبة إياها بأن تلتزم بموضوع المحاضرة وبألا تخرج عن السياق لإبداء آراء سياسية، على اعتبار أن كثير من الحاضرين لا يشاركونها نفس قناعاتها وأن عليها من ثَمَّ أن تحترم ذلك! المشهد الثاني، لقاء على إحدى الفضائيات يستضيف واحدا من رموز الإخوان وابن واحد من القيادات التاريخية للجماعة ممن قضوا نحبهم على يد نظام ثورة يوليو. عرض الضيف خلال الحلقة لمأساة والده وشرح كيف أنه اتهم بمحاولة الانقلاب على عبدالناصر وحكم عليه بالإعدام ظلما جراء ذلك بعد محاكمة عسكرية صورية، وبين أنه بفوز الدكتور مرسي فإنه يمكنه الآن فقط أن يقبل العزاء، وفي نهاية الحوار عبر الضيف عن رغبته أن تقوم المؤسسة العسكرية الحالية بتقديم الاعتذار له ولأسرته عما بدر منها خلال فترة حكم الرئيس عبدالناصر، وذلك رغم اقتناعه بأن رجال المؤسسة العسكرية الحاليين ليسوا هم من تسبب في مأساة والده، ولكنه كان يرى أنه كما يحمد لرجال القوات المسلحة الحاليين انتصارات لم يشارك معظمهم فيها على نحو فعلي (مثل نصر أكتوبر) فإن أخطاء الماضي أيضا تلحقهم ويلزمهم من ثَمَّ الاعتذار عنها! المشهدان السابقان وغيرهما من المشاهد التي حدثت وتحدث منذ فوز مرشح جماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد مرسي بمنصب الرئاسة في مصر، تحمل ملمحا مقلقا يتمثل في غلبة حالة من الزهو على سلوك بعض من أفراد الجماعة، وهو ما زين لهم تغيير سلوكهم القديم القائم على التواضع وتحمل الأذى إلى سلوك جديد يغلب عليه الاعتزاز بالنفس والرغبة في الحصول على التقدير من الآخرين. صحيح أنه من المشروع أن تستشعر الجماعة وأعضاؤها حالة من الارتياح جراء فوز مرشحهم بمنصب الرئاسة، وذلك بعد تاريخ طويل من الاضطهاد والاستبعاد والحظر والتعذيب، إلا أن ذلك الارتياح لا ينبغي أن يترجم بالانقلاب على الشخصية الإخوانية التقليدية، فهذا الانقلاب من شأنه أن يوقع جماعة الإخوان في صدام مع الرأي العام المتعاطف معها، كما أنه يمكن أن يصب في خانة من يتصيدون لمرشحهم أي خطأ ويلصقون به أي ذلة يقع فيها أي من أعضاء الجماعة. كما أن على أعضاء الجماعة أن يدركوا أن الدكتور مرسي لم يعد مرشح جماعة الإخوان المسلمين فقط، وأن من مصلحته ومصلحة الإخوان أن يلتزم بما سبق وكرره أكثر من مرة في حملته الانتخابية من أنه رئيس لكل المصريين. فرغم أن انتماء الدكتور مرسي إلى الجماعة ورئاسته للحزب الذي يمثلها كان السبب الذي مكنه من الفوز في المرحلة الأولى من الانتخابات، ورغم أنه لو كانت نتيجة الانتخابات قد حسمت عند هذه المرحلة لكان من المنطقي أن يحسب هذا الفوز للحزب الذي دفع بالدكتور مرسي إلى الصدارة، ولكان من المنطقي أن تكون له وللجماعة الكلمة الأخيرة في تشكيل جهاز الدولة، إلا أن الدكتور مرسي لم يفز في الجولة النهائية من هذه الانتخابات إلا بأصوات غير المنتمين لجماعة الإخوان، وعليه فإنه بهذه الصفة مضطر إلى أن يطرح نفسه كرئيس لكل المصريين، وفي هذا سبب آخر يدفع بأعضاء الجماعة إلى التخفف من حالة الزهو، واستبدالها بحالة من العرفان إزاء من مد يده إليهم وإلى مرشحهم من أجل إنقاذ الثورة والحيلولة دون عودة النظام القديم. والأهم مما سبق أنه لا مبرر للاستغراق في الاحتفال بعودة الحقوق المسلوبة منذ أيام ثورة يوليو في ظل وجود نفس الأسباب التي صاحبت نكبات الإخوان في الماضي. فالسياق السياسي مازال يحمل بذور الخطر، (الإعلان الدستوري المكبل، والقرار المريب والعاصف بحل البرلمان، والقانون سيئ السمعة الخاص بالضبطية القضائية)، فضلاً عن أن العملية السياسية مازالت تحت إشراف المجلس العسكري الذي لا يبدو أنه سينسحب بسهولة من المشهد، كما أن هناك إعلام الفتنة الذي أثبت معدنه الرديء في مواقف كثيرة خلال العام والنصف الفائت. هذه العناصر مجتمعة تحمل خطر نقض التجربة وإلغاء ما تحقق خلالها وربما إبطال الانتخابات الرئاسية، أو على الأقل إفراغها من مضمونها تماما كما حدث مع مجلس الشعب الذي تم تجريده من معظم صلاحياته قبل أن تتم الإطاحة به على نحو كامل. إن انتخاب الدكتور مرسي هو خطوة إيجابية كبيرة، وهو يشبه وضع قاطرة الوطن في بداية الاتجاه الصحيح، ولكن القوة الدافعة لتحريك هذا القطار مازالت غير كافية، فمازالت هناك الكثير من العقبات والمشكلات القائمة على الأرض والتي تحتاج إلى بصيرة ورؤية ومهنية، ولذا فإن الزهو ليس هذا وقته، بل إنه قد يكون هو الطريق إلى التعجيل بنهاية التجربة قبل أن تستوي على سوقها، وهذا ما لا يحبه أحد من الإخوان ولا ممن يتعاطفون معهم ويريدون أن يعطوهم فرصة لترجمة مشروعهم الإصلاحي على أرض الواقع.
430
| 04 يوليو 2012
قليل من المصريين من يستشعر في هذه الأيام نفس ما استشعره في الحادي عشر من فبراير 2012، تاريخ تنحي الرئيس السابق، من إفراط في التوقعات. فصحيح أن النجاح في انتخاب رئيس من خارج بنية النظام السابق هو أمر إيجابي، ولكنه ليس ضمانة على بلوغ الثورة غاياتها النهائية والمتمثلة في إنهاء احتكار السلطة والثروة لصالح فئة مخصوصة من الناس. غاية ما هنالك أن المصريين ربما يكونون قد اطمأنوا أنهم لا يسيرون على خطى النموذج الروماني ولكنهم لم يتأكدوا بعد من أنهم لن يقعوا في الفخ الأوكراني. والتجربة الرومانية تتلخص في أن الرومانيين لم يدركوا أنهم وإن كانوا قد أسقطوا الديكتاتور شاوشيسكو إلا أنهم لم يسقطوا نظامه الذي لجأ إلى إشاعة موجة من الحوادث والسرقات وقطع الطرق والسطو، كما تسبب في ارتفاع الأسعار وقلة السلع الأساسية. حتى يضطر الرومانيون إلى الالتفاف حول واحد من رموزه بهدف استرجاع الأمن وتحقيق الاستقرار، وبالفعل ابتلع الرومانيون الطعم وانتخبوا "إيون إليسكو" نائب الدكتاتور الذي قامت الثورة ضده، والذي قام منذ اللحظة الأولى بتحجيم الثورة وحصارها، واتهم الشباب الذي حاول الدفاع عن الثورة من السرقة بالعمالة ثم حاكمهم ونكل بهم وبكل من عارضه. حكم إليسكو البلاد بالحديد والنار لسنوات عدة الأمر الذي أدى بالكثير من الرومانيين إلى الإحساس بأن ثورتهم قد ضاعت إلى الأبد. مسار الأحداث في الثورة المصرية افترق عن التجربة الرومانية في اللحظة التي قرر فيها المصريون ألا يصوتوا لمرشح النظام القديم، فقد أدرك أغلبية المصريين أن النظام لم يسقط بعد، وأنه إذا تركت القيادة لرمز من رموزه فإنه سرعان ما سيستعين بأعوانه التقليديين، ما يعود بالبلاد إلى نقطة الصفر. وفي الوقت نفسه فقد ارتفع وعي المصريين عن السقوط في فخ الفزاعة الأمنية، ولم يلجأوا للبديل السهل، وهو انتخاب من روج لنفسه على أنه قادر على استعادة الأمن في ساعات، رغم أن أحد أشرس المواجهات مع المتظاهرين قد تمت في عهده وقت أن كان رئيسا للوزراء في أواخر أيام النظام السابق. هذا الوعي الشعبي توج بالتصويت لصالح المرشح المنافس في محاولة لإعطاء دفعة للثورة ولمواجهة بعض ما قد يعترضها من تحديات اعترضت الثورة الأوكرانية من قبل وأدت إلى إخفاقها. ففي أوكرانيا"مثل مصر" قامت الثورة ضد فساد رجال الأعمال المتربحين من أموال الدولة وضد فساد البرلمان الذي تحول إلى «ناد للأغنياء». وفي أوكرانيا مثل مصر، تطلع الشعب إلى زعيم من خارج زمرة النظام القديم، يمتلك حلاً للمشاكل المزمنة في المجتمع مثل البطالة، وتفشي الفساد، وتعاظم الفجوة بين الأثرياء والفقراء. ولكن الزعيم الذي أبرزته الثورة وتحول إلى رمز لها، فيكتور يوتشينكو، لم ينجح بعد أن قضى خمس سنوات في السلطة أن يجد حلولاً ناجحة لهذه المشكلات، بعد أن عجز عن تخطي العقبات التي وضعتها عناصر النظام القديم في طريقه، ما أدى إلى انهيار ثقة الشعب في حكومته. وجعلت الكثيرين ينظرون إلى الثورة على أنها بمثابة كابوس مؤرق ويستشعرون من ثَمَّ خيبة أمل تجاه من قاموا بها ممن وعدوا ولم يتمكنوا من الوفاء بوعودهم. وهكذا عاد النظام القديم في أوكرانيا بعد خمس سنوات كاملة، تمكنت فيها قوى الثورة المضادة من إجهاض الحلم في التغيير ونجحت في استثمار حالة اليأس وخيبة الأمل التي سيطرت على الشارع لكي تعيد طرح نفسها على أنها الأقدر على انتشال البلاد من أزمتها. الفارق الأساسي بين الثورتين المصرية والأوكرانية أن الثانية وقف وراؤها ومولها رجال الأعمال الذين أنفقوا عليها وانتظروا المكافأة المناسبة على دورهم، وبطبيعة الحال فإنه حين تصبح الثورة مدينة لرجال الأعمال فإنها تخفق في ترجمة طموحات الجماهير. الثورة المصرية من جانبها ورغم أنها لم تشهد أي فضل لرجال الأعمال عليها إلا أنها ولظروفها الخاصة ارتبطت بالمؤسسة العسكرية، التي آل إليها أمر البلاد بنص قرار تنحي الرئيس السابق. وهكذا وبحكم الأمر الواقع أصبح للمؤسسة العسكرية وعلى رأسها المجلس الأعلى للقوات المسلحة حق إدارة المرحلة الانتقالية، ومنذ ذلك الحين يرى المجلس العسكري أن له الحق في أن يحتفظ لنفسه بقدر من الصلاحيات الاستثنائية والتي تتفوق — بموجب الإعلان الدستوري الأخير— على ما لدى الرئيس المنتخب نفسه من صلاحيات. وبخلاف هذا الإعلان الدستور المكمل والذي يسميه المصريون الإعلان المكبل، قام المجلس بعدد آخر من الخطوات التي فاقمت من الشكوك في نواياه، فقد اتخذ قرارا بحل البرلمان بذريعة صدور قرار من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية بعض مواد قانون انتخاب أعضائه، كما أصدر قانون الضبطية القضائية الذي يعطي لرجال الجيش والمخابرات صفة الضبطية القضائية بالمخالفة للقانون. هذه الإجراءات وغيرها تقلل من حجم التطلعات المعقودة على الرئيس المنتخب، وتؤكد أن القلق الحقيقي الآن أن تخطو الثورة المصرية في طريق الثورة الأوكرانية، بل إن الإيقاع بالرئيس المنتخب في الحالة المصرية يبدو أسهل، وذلك في ضوء أنه سيبدأ ولايته وهو منزوع الكثير من الصلاحيات كما أنه سيستهل عهده وهو مقيد بقرار حل البرلمان الذي كان حزبه يمتلك الأغلبية فيه، فهل سينجح الرئيس المنتخب في مواجهة هذه الترتيبات العكسية بأن يفك خيوط شبكة التآمر التي تحيط به مستغلا حالة الفوران الشعبي التي صاحبت انتخابه أم أن حسابات الواقعية السياسية ستجبره على القبول بالتوازنات القائمة أملاً أن يغيرها متى واتته الفرصة في المستقبل القريب أو البعيد؟
448
| 27 يونيو 2012
بصدور الإعلان الدستوري المكمل يكون المجلس العسكري الحاكم في مصر قد قرر الانتقال من صف حماية الثورة إلى صف حماية امتيازاته الخاصة. فالمجلس العسكري الذي وعد قبل أكثر من عام ونصف بأن يعود لثكناته فور انتهاء المرحلة الانتقالية يحاول الآن من خلال هذا الإعلان أن يحتفظ لنفسه بحق التشريع وحق الاعتراض على مواد الدستور والأهم أنه يحاول الاحتفاظ أيضا بالسلطة الكاملة فيما يتعلق بشؤون القوات المسلحة، حتى لو كان ثمن ذلك إفراغ عملية التحول الديمقراطي من مضمونها والعودة بها إلى المربع رقم صفر. فبعد أن بدا واضحا أن أركان النظام القديم توشك أن تتداعى، وبعد أن تبين أن الحملة الدعائية المكثفة لصالح مرشح النظام القديم لم تؤت ثمارها، وكذلك بعد أن فشلت محاولات تخوين من قاموا بالثورة أو محاولات وضع العثرات في طريق عملهم في البرلمان ومحاولات الحيلولة بينهم وبين تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الطموحات الشعبية، وبعد أن أفلست محاولات إظهار قوى الثورة على أنهم مجموعة من المبتدئين غير القادرين على إدارة الدولة أو حل مشاكلها، بعد أن فشلت كل هذه السيناريوهات لم يتبق أمام الطبقة الحاكمة إلا أن تقوم بتأكيد امتيازاتها الفجة التي تراكمت خلال عهد النظام القديم على نحو قسري ومن خلال أسلوب الصدمات العصبية. فقد تضمن الإعلان الدستوري الذي صدر مؤخرا عددا من الامتيازات أو بالأحرى التجاوزات التي لم تجتمع من قبل على هذا النحو الفج، منها على سبيل المثال أن المجلس أعطى لنفسه الحق في تشكيل لجنة غير منتخبة لصياغة الدستور، ضاربا عرض الحائط باللجنة القائمة حاليا ومرجحا فشلها في إنجاز ما قامت لأجله من وضع دستور دائم للبلاد. كما أعطي المجلس العسكري لنفسه حق الاعتراض على أي نص يرد في مشروع الدستور ويتعارض مع أهداف الثورة ومبادئها، على افتراض أن المجلس هو أول من يدرك أهداف الثورة ويتصدى لحمايتها! كما تضمن الإعلان احتفاظ المجلس العسكري بكافة صلاحيات القائد الأعلى للقوات المسلحة، وسلب كل صلاحيات وسلطات الرئيس القادم فيما يتعلق بأمور القوات المسلحة، بما في ذلك إعلان الحرب، فرئيس الدولة أصبح بموجب هذا الإعلان غير قادر على إعلان الحرب إلا بموافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، كما لا يمكنه أن يأمر القوات المسلحة بالتدخل في حالة حدوث أية اضطرابات بالبلاد إلا بموافقة المجلس العسكري، بحيث أصبحت رئاسة الجمهورية منصبا صوريا تابعا للمجلس العسكري الذي ينفرد بكل ما يخص القوات المسلحة وتشكيلها من قرارات. الإعلان المكمل تضمن أيضا إقرارا ضمنيا من جانب المجلس العسكري بخطوة حل البرلمان كاملاً رغم استمرار الجدل القانوني بين المتخصصين حول ما إذا كان قرار المحكمة الدستورية ينصرف إلى حل البرلمان بأكمله أم ثلثه فقط، ورغم تأكيد عدد منهم على ضرورة عدم حل مجلس الشعب والإبقاء عليه لحين وضع الدستور وإجراء انتخابات مجلس شعب جديد، ورغم تأكيد البعض الآخر أن معظم دساتير العالم تعطى سلطة التشريع لرئيس الجمهورية في حالة حل البرلمان، إلا أنه وفي وسط كل هذا الجدل يخرج المجلس العسكري ليدلي بدلوه في الموضوع ويفسر القرار بأنه يعنى حل البرلمان بأكمله، فيما يوحي بأن المجلس صاحب مصلحة في تأويل القرار على هذا النحو ليستعيد بموجب ذلك سلطة التشريع كاملة. المسكوت عنه في قرارات المجلس العسكري أن عقلية الأخ الأكبر مازالت هي المسيطرة، فهو يتصرف بالنيابة عن الشعب وممثليه، ويظن في نفسه أنه يدرك مصلحة البلاد أكثر من الشعب بأكمله، وعلى هذا الأساس لا ينظر إلى الثورة على أنها استرداد الشعب لقراره، وإنما فقط إخطار الجماهير بما يتم أخذه من قرارات نيابة عنهم. أيضا أفصحت قرارات المجلس العسكري الأخيرة عن سيطرة عقلية المنع والمنح، فما تم إحرازه من خطوات لنقل السلطة تم التعامل معها على أنها مجرد هبات منحها المجلس العسكري وبإمكانه أن يتراجع عنها في الوقت الذي يقرره. وبناء عليه فقد تراجع المجلس العسكري عن معظم استحقاقات المرحلة الانتقالية بمنتهى السهولة ومن دون إقامة أي اعتبار للجماهير التي شاركت فيها. يتضح أيضا من نصوص الإعلان المكمل أن عنصر ومفهوم المسؤولية مازال غائبا عن أذهان من عملوا في ظل النظام القديم، فقانون الانتخابات الذي تم الطعن على دستوريته هو من صياغة المجلس العسكري، والانتخابات التي تمت وفق هذا القانون تمت تحت إشراف المجلس العسكري، والأموال التي صرفت على هذه الانتخابات —والتي هي أموال الشعب المصري— صرفت أو بالأحرى بددت بموافقة وعلم المجلس العسكري، ورغم ذلك يبدو المجلس العسكري في مأمن من التعرض لأي مساءلة حول ما قام باتخاذه من قرارات معيبة ترتب عليها ما تعيشه البلاد حاليا من مشكلات. ولكن أيا ما كان حجم المسكوت عنه أو المعلن في قرار المجلس الحاكم فقد تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن أغلبية المصريين مازالوا يدعمون الثورة ويراهنون على نجاحها، وآية ذلك نتائج التصويت في الانتخابات الرئاسية والتي عكست رغبة حقيقية لدي أكثر من نصف الكتلة التصويتية على الأقل في عدم استرجاع النظام القديم برموزه وتنظيماته وقيمه، ومن ذلك بطبيعة الحال ألا يكون لمؤسسة ما وضعا متميزا أو فوقيا حتى لو كانت هذه المؤسسة العسكرية ذاتها. وعليه فإن إصرار العسكر على تمرير الإعلان الدستوري المكمل لن يفعل إلا أنه سوف يزيد المعادلة السياسية تعقيدا وسوف يدخل بالثورة المصرية إلى أشد مواجهاتها حسما، خاصة أن نتيجة هذه المواجهة من المتوقع أن تحدد مقدرة كل طرف من أطراف اللعبة السياسية ومدى قدرته على ضبط أداء غيره من القوى السياسية، الأمر الذي من شأنه أن يحسم الجدل حوله شكل الجمهورية الثانية في مصر وطبيعة القوى المسيطرة فيها.
344
| 19 يونيو 2012
تعتمد السلع الاقتصادية في البلدان الشمولية، بسبب رداءة نوعيتها وارتفاع أسعارها، على غياب المنافسة وعلى الحماية التي توفرها لها القوانين المحلية في مواجهة السلع الأجود والأرخص من الخارج. ولكن بسقوط الأنظمة السياسية الداعمة لمثل هذا النوع من الاقتصادات وانفتاح أسواقها أمام المنافسة العالمية تنكشف منتجاتها وتتراجع إلى الظل بعد أن تفشل في منافسة منتجات الاقتصادات الحرة المعتمدة الأفضل عادة في الجودة والسعر. رموز النظام القديم الذين يحاولون تحسين صورتهم أمام المصريين هذه الأيام يقعون في نفس هذه الأزمة، فبعد أن كان قصور هؤلاء وقلة كفاءتهم محصنين بالأوضاع الشمولية للنظام القديم، إذا بهم يخوضون هذه الأيام وللمرة الأولى في حياتهم التجربة التعددية التنافسية ويحاولون من خلال قدراتهم المحدودة ومواهبهم الضحلة ليس فقط الحصول على ثقة المصريين بل وإقناعهم بنسيان تاريخهم وأدوارهم في إفساد الحياة المصرية من كافة نواحيها. ولكن كما تنكشف منتجات الأنظمة الاحتكارية عند انفتاح الأسواق، ينكشف ممثلو الأنظمة الشمولية ويظهر مدى تهافت قدرتهم على الإقناع حينما يجابهون التعددية التنافسية لأول مرة، ولتعويض هذا القصور، وبدلاً من بذل الجهد في محاولة إقناع الآخرين بأهمية ما يقدمونه، يلجأ ممثلو هذه الأنظمة إلى شيطنة المنافسين والتحذير منهم بوصفهم خطرا داهما على الأمن والاستقرار. وهذا بالضبط ما فعله مرشح النظام القديم في الانتخابات الرئاسية المصرية، الفريق أحمد شفيق، مع خصومه من جماعة الإخوان المسلمين على مدار الشهر الفائت، فقد تابع المصريون خلال الأيام الماضية الهجوم الشرس الذي شنه الفريق على مرشح الإخوان، والذي حاول من خلاله الأول أن يعوض عجزه عن المنافسة وقصوره في إقناع الناخبين بكيل الاتهامات إلى خصمه وإلى الجماعة التي يمثلها. ما أدى إلى تحول السباق السياسي إلى سجال من التخوين والقذف يهدف إلى تخوين فصيل سياسي شارك في الثورة ويدمغه بأنه المسؤول عن قتل المتظاهرين، وفتح السجون وإخراج من فيها من المجرمين، فضلاً عن تحطيم أقسام الشرطة وسرقة ما بها من أسلحة، إلى آخر قائمة طويلة من الاتهامات التي توحي بالإفلاس السياسي أكثر مما تعبر عن حنكة تنافسية. هذا الخطاب الهجومي والتخويني لمرشح النظام القديم يعبر عن أزمة الأنظمة الشمولية وممثليها وعدم قدرتهم على خوض الأجواء التنافسية بسهولة. الأمر الذي ينذر بكارثة حقيقية حال نجاح هذا المرشح في الوصول إلى القصر الرئاسي من جديد، فالطريقة التي يصوغ بها مرشح النظام القديم خطابه توحي بأنه سوف يقضي على أي أثر للتعددية حال فوزه، كما توحي أنه سوف يتفرغ لملاحقة من نافسوه في المعركة الانتخابية لمعاقبتهم على ما كاله لهم من اتهامات ترقى إلى درجة الخيانة العظمى رغم افتقارها إلى الدليل الملموس. ولكن هذا الخطاب غير المهني وغير المستوعب لمعاني المنافسة ليس صناعة هذا المرشح بمفرده، وإنما هو منبثق عن التنظيم الذي يدعمه والذي كان في حقيقة الأمر السبب الأول في قيام المصريين بثورتهم، والمقصود بطبيعة الحال الحزب الوطني "الديمقراطي". فهذا التنظيم لم يختف بعد على نحو كامل وإنما هو في مرحلة كمون لا تخفى حقيقة حضوره في كافة تفاصيل الحملة القوية لمرشحه سواء على مستوى التمويل أو التنظيم أو الدعاية. هذا الحزب مازال يمتلك شفرة التأثير الحقيقة في مصر ومازال يتحكم في العديد من مؤسسات الدولة المهمة، وهو اليوم يقاتل من أجل دعم مرشحه بكافة الأساليب. ولكنه إذ يفعل ذلك لا يستطيع أن يخوض غمار السياسة التنافسية إلا من خلال منطق التخوين والاتهام للآخرين، وذلك بحكم أنه مبرمج على احتكار الساحة السياسية فيما هو عاجز أن يدخل في إطار تعددية تنافسية ينتصر فيها الأصلح والأجدر والأكثر تمتعا بثقة الناخبين. الخطاب غير الاحترافي لمرشح النظام القديم والأداء غير المهني لداعميه من المنتمين تنظيميا إلى الحزب الوطني القديم يبين أن ممارسات هذا المرشح المدعوم من التنظيم الشمولي حال فوزه بالانتخابات لن تكون سوى نسخة مزيفة مما يدعيه من ديمقراطية وقبول بالتعددية. فالأوضاع القديمة سوف تكتسي بغلالة من البلاغيات الرديئة ولا شيء أكثر من ذلك. والمناخ السياسي الذي غلب عليه الجمود فيما مضى سوف يصبح جمودا مشوبا بقدر من التعددية الصورية على أفضل تقدير. وأيا ما كان شكل الخطاب أو طبيعة الأفعال فإن الأمر المؤكد أن التنظيم القديم الذي ظهرت قدرته المبدئية على إيصال مرشحه إلى المرتبة الثانية في الجولة الأولى من خلال شبكة ضخمة من الخبراء ومقدرة هائلة على التمويل والإنفاق، هذا الحزب لن يدع الفرصة تفلت من يده مرة أخرى وسيحاول أن يستفيد من الأخطاء التي أدت من وجهة نظره إلى نجاح الثورة الأولى بحيث يصبح قيام المصريين بثورة ثانية في حكم المستحيل. ولهذا فإن هذا التنظيم سوف يعمل بقوة لكي يسترجع ما أضاعته الثورة من مكاسبه ويسترد ما فقده من هيبته ويستأنف ما شاركته فيه الجماهير من نفوذ. فهل سيسمح المصريون بأن تسلب منهم ثورتهم على هذا النحو، وهل سيستجيبون لخطاب التخوين الذي يقدمه مرشح النظام القديم والذي يجعل من الجميع شياطين بخلافه هو والحزب الذي يدعمه؟ سؤال ستحدد إجابته نتيجة انتخابات الإعادة التي يفصلنا عنها أيام قليلة.
1483
| 12 يونيو 2012
منذ اللحظة الأولى من عمر الثورة المصرية كان معظم المصريين يدركون أن ثورتهم وإن كانت قد نجحت في إرغام رأس النظام على التخلي عن منصبه فإنها لم تستأصل مراكز القوى بهذا النظام. كان المصريون يدركون أنهم قد ربحوا معركة ولكنهم لم يفوزوا في الحرب. كان الجميع يدرك مدى تغلغل النظام القديم في بنى الدولة، ولم يكن خافيا على أحد أن الفساد قد طال تأثيره كافة مؤسساتها، وأنه لا يوجد مؤسسة يمكن أن تستثنى من ذلك، ولكن لما كان معظم المصريين يريدون أن تنتهي المرحلة الانتقالية بأقل الخسائر الممكنة فقد قبلوا أن يتغاضوا عن عيوب من تصدى للقيام على إدارة الثورة من رجال ومؤسسات العهد السابق، ورضوا بأن يتولى هؤلاء بالنيابة عنهم عملية تسلم وتسليم السلطة من النظام القديم إلى نظام جديد يأتي بالانتخاب المباشر. كان المصريون يعرفون ويفهمون أن من آلت إليهم أمور الحكم في هذه المرحلة الحرجة لم ينحازوا إلى الثورة حبا فيها، وأنهم لم يقبلوا بها إلا بعد أن صارت واقعا يصعب تجاوزه، ومع هذا قبل المصريون بموازين القوى القائمة معتبرين ذلك بمثابة إجراء استثنائي وقهري فرضه عدم وجود قيادة واضحة للثورة المصرية. صحيح أن بعض الحالمين ربما يكونون قد سقطوا في فخ الأوهام، وتصوروا أن ما تم قبوله بحكم مقتضيات الواقع وموازين القوة هو صفقة رابحة، وأن صحوة ضمير مفاجئة ربما تكون قد انتابت من تخلفوا عن الثورة في بدايتها ثم تعهدوا بحمايتها قرب اكتمالها، إلا أنه فيما عدا هؤلاء الحالمين، كان معظم المصريين يفهمون أن ما يجري على الأرض هو بمثابة صفقة مؤقتة يتظاهر فيه من يقومون على أمر الثورة بانحيازهم لمطالب الجماهير، فيما تتظاهر الجماهير بتصديقها لنوايا القائمين على الثورة. فيما الجميع يدرك أن مكاشفة محتومة ستقع لا محالة بين قاموا بالثورة وبين من اضطرتهم الظروف للقيام بحمايتها، وبين من يريدون إسقاط النظام القديم وبين من كانت كل مشكلتهم معه قضية فرعية (التوريث) فيما لم يكن لديهم اعتراض على ما عدا ذلك من التفاصيل التي ثار من أجلها المصريون. كان كل طرف يتظاهر بالوثوق في الطرف الآخر ويؤجل مكاشفته بحقيقة رأيه فيه على أمل أن تصل الأمور إلى نقطة يقبل بها الجميع وتسوية ترضي جميع الأطراف، واستمرت المرحلة الانتقالية والحال على ذلك، ولكن ما حدث خلال الأيام الماضية على الساحة السياسية أظهر بوضوح أن مرحلة الادعاء قد انتهت وأن مرحلة كشف الأقنعة قد بدأت. فالطبقة الحاكمة تظهر الآن من دون مواربة أنها وإن كانت قد ضحت بمبارك إلا أنها ليست مستعدة لإسقاط نظامه بالكامل، وأنها وإن كانت قد أشرفت على انتخابات برلمانية استحوذ الإسلاميون على الأغلبية فيها إلا أنها ليست مستعدة أن تسلم إليهم مقاليد النظام الجديد عبر بوابة الانتخابات الرئاسية، وأنها إن تكن قد قبلت بمحاكمة رموز العهد البائد إلا أنها ليست مستعدة لأن تطرح جميع حلفاءها في السجون. ووففا لهذه المكاشفة الصادمة فإن الأوضاع تبدو مرشحة خلال المرحلة المقبلة للتفاقم. فالتظاهر بالثقة المتبادلة لم يعد يغني شيئا، وعبارات التطمين والتعهد بحماية الثورة لم يعد لها محل، بعد أن تحركت الأحداث على الأرض ليس فقط باتجاه أوضاع ما قبل الثورة، ولكن أيضا باتجاه استرجاع رموز العهد السابق. فالانتخابات الرئاسية تسير في اتجاه مرشح النظام القديم، والمحاكمات برأت معظم من أدينوا بقتل المتظاهرين، أما الإعلام فمازال قطاع منه مستمر في حفز الناس ضد الثورة ومؤخرا بدأ يلمح أن من قتل المتظاهرين وفتح المعتقلات وهدم السجون ربما يكونون من بين الثوار أنفسهم وليس رجال الشرطة كما أشيع من قبل. من جانبهم فإن قطاعات واسعة من المصريين قد تخلوا بدورهم عن التظاهر بالثقة في القائمين على أمر المرحلة الانتقالية وبخاصة بعد أن تبين لهم أن الاستمرار في إظهار الثقة بهؤلاء لن يؤدي إلا إلى استرجاع النظام القديم في أسوأ صوره. فوفقا لحسابات التكلفة والعائد أصبح المصريون قاب قوسين من فقدان ثورتهم إلى الأبد بفعل تغاضيهم عن كثير من المؤشرات التي كانت تفصح عن النوايا السيئة لدى القائمين على إدارة المرحلة الانتقالية. هذا التعجل في المكاشفة بين الأطراف المختلفة للثورة المصرية يضع المسمار الأخير في نعش الصفقة الهشة بين رجال الثورة ورجال النظام القديم، ويضع في الوقت نفسه حدا لادعاءات الثقة المتبادلة بين الشعب وبين من قاموا بحكمه في المرحلة الانتقالية، فالمصريون يعرفون الآن أكثر من أي وقت مضى أن البدائل أمامهم تقل، وأن احتمالات فقدانهم ثورتهم تزيد، فيما الطبقة الحاكمة تدرك أيضا أنها إن لم تتحرك بسرعة لتثبيت أقدامها فإنها ربما تفقد مكاسبها التي ترسخت طوال العقود الماضية إلى الأبد. هذه الأجواء من عدم الثقة المتبادلة ترسم ظلالاً من القلق حول المسار الذي ستتحرك فيه الأحداث في الفترة المتبقية من عمر المرحلة الانتقالية، خاصة أن المصريين سوف يذهبون إلى جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية وهم لا يثقون مقدما في نتائجها بعد كل ما رأوه من مفاجآت لم يكونوا يتصورونها أو بالأحرى كانوا يغضون الطرف عن محاولة تصورها، فإذا هي تتحقق أمام أعينهم واقعا لا يحتمل التكذيب.
512
| 05 يونيو 2012
بعد أن فشل مرشحو الثورة بما فيهم مرشح جماعة الإخوان المسلمين في حسم نتائج الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة المصرية، لم يعد أمام مؤيدي الثورة سوى الاصطفاف خلف مرشح الأخيرة الدكتور محمد مرسي وذلك حين يخوض جولة الإعادة ضد مرشح النظام السابق الفريق أحمد شفيق منتصف الشهر المقبل في مشهد هو الأخطر منذ اندلاع شرارة الثورة. وفي هذا الإطار كان من المتوقع أن يتكتل أنصار بقية المرشحين (خصوصا عبدالمنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي) تلقائيا في جولة الإعادة لصالح الدكتور مرسي للحيلولة دون فوز مرشح النظام السابق، إلا أن أخطاء جماعة الإخوان خلال الفترة الانتقالية قد دفعت بالكثير من هؤلاء إلى التردد في إعلان دعمهم الصريح لمرشح الجماعة، بل ووصل الأمر بآخرين إلى إعلانهم العزم على ممارسة التصويت العقابي ضد الجماعة ومرشحها، أو إلى إعلان الامتناع كلية عن المشاركة في جولة الانتخابات الرئاسية الثانية. ورغم أن الجماعة قد اتخذت بالفعل عددا من المواقف الخاطئة طوال الفترة الانتقالية إلا أن الخروج بالبلاد من مأزقها التي هي فيه الآن يفرض الوقوف بجانب مرشحها وتأييده فيما يشكل آخر فرصة للحفاظ على الثورة التي قد تلفظ أنفاسها الأخيرة إذا ما نجح مرشح النظام القديم في الوصول إلى منصب الرئيس. ومن جانبها فإن على الجماعة أن تعمل على استعادة ثقة المصريين فيها قبل أن تحاول الحصول على أصواتهم، وهذا لن يتحقق إلا بأن تقدم الجماعة الضمانات الكافية للمصريين لكي تزيل مخاوفهم وتطمئنهم إلى نيتها عدم تكرار أخطاء الفترة الفائتة من عمر الثورة. وهذا ليس ابتزازا سياسيا كما يحلو للبعض أن يسميه، ولكنه الوسيلة الوحيد لاستعادة الثقة بالجماعة بعد أن كشف أداؤها السياسي في الفترة السابقة عن نوايا استئثارية تشبه في بعض الجوانب ما كان يتبعه النظام السابق للبقاء الأبدي في الحكم. ولهذا فإن على رأس الضمانات المطلوبة أن تتعهد الجماعة أنها لن تعيد تجربة الحزب الوطني التي ثار عليها المصريون، خاصة في ضوء ما يردده البعض من استعداده للتصويت للفريق شفيق لأنه رغم عيوبه سوف يرحل بعد أربع سنوات، أما الإخوان فإنه لا يوجد ما يضمن أنهم سيتركون الحكم بعد أن يتمكنوا من مفاصله الرئيسية (الرئاسة والحكومة والبرلمان)، وفي نفس هذا الإطار يتعين على الجماعة أن تتعهد للمصريين بعدم نيتها استبدال قوانين الجماعة بالتقاليد السياسية التي انتخبها المصريون على أساسها، فرئيس مصر القادم ينبغي أن يكون مسؤولا أمام الجماهير التي انتخبته، وليس مسؤولاً أو موجها من قبل سلطة أعلى منه لم ينتخبها المصريون (كالمرشد العام مثلاً). من المهم أيضا أن يتم تفعيل الشعار الإخواني "مشاركة لا مغالبة" على نحو حقيقي، وبخاصة بعد أن تبين للجماعة أن المغالبة لا مكان ولا إمكانية لها، وأن حضور الإخوان الفعلي في الشارع المصري لا يتجاوز بأي حال ربع الكتلة التصويتية، وإنهم إن نجحوا في الوصول إلى منصب الرئاسة فإنهم سيصلون إليه بأصوات غير المنتمين للجماعة، فأصوات الإخوان جميعها لم تضمن لهم الفوز بأغلبية تغنيهم عن الدخول في انتخابات إعادة مع مرشح النظام السابق، والذي تمكن للغرابة من الحصول على عدد من الأصوات يقارب كل ما استطاعت جماعة الإخوان حشده. كما أنه من المهم أن تعي الجماعة جيدا أن الإصلاح عمل تقوم به الجماعة الوطنية مجتمعة ولا يقوم به فصيل بمفرده مهما كانت قدراته أو إمكاناته. وعليه فإن دخول الإخوان إلى قصر الرئاسة لابد وأن يكون عبر صيغة مشاركة في السلطة مع القوى الوطنية الأخرى وليس دخولا انفراديا. من المهم أيضا أن تعيد الجماعة النظر في خطابها الجماهيري والذي يحتمي في كثير من الأحيان بالنصوص المقدسة ليقيم حاجزا بين الجماعة وبين أي نقد يوجه إلى أدائها، (كما حدث عندما تراجعت الجماعة عن قرارها عدم ترشيح رئيس للجمهورية وتم تبرير هذا القرار السياسي من خلال صياغات دينية بدا معها التراجع عن المواقف كما لو كان شعيرة دينية مقدسة)، بحيث لا يستشعر المصريون أنهم سيقبعون تحت حكم فصيل سياسي يستخدم المرجعية الإسلامية على نحو تبريري. ويرتبط بهذا أن تعترف الجماعة بأخطائها طوال الفترة الانتقالية والتي يأتي في مقدمتها توانيها عن الانحياز لصف الثورة والثوار في العديد من المناسبات تغليبا لمصالح الجماعة الضيقة وترتيبا على صفقات غير معلنة مع جهات كان يضيرها استمرار المناخ الثوري. إن استعادة الإخوان لثقة المصريين عبر تقديمهم ضمانات ملزمة يمثل الفرصة الأخيرة لهم كما قد يكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ الثورة المصرية، وليس في تقديم هذه الضمانات أي إساءة للإخوان بل قد يكون في هذا الوضع لطف قدره الله سبحانه للمصريين وللجماعة في آن واحد، وذلك لكي يأتي الإخوان حين يأتون إلى السلطة وهم يعرفون فضل هذا الشعب عليهم، ويعترفون له بذلك على نحو عملي. فالمقولة التقليدية التي اعتاد أن يرددها نواب الإخوان في أعقاب الانتخابات البرلمانية من "أن الشعب هو الذي أتي بنا وأنه لا يملك أحد أن يحاسبنا سوى هذا الشعب"، هذه المقولة قد أصبحت بحاجة إلى مراجعة، خاصة بعد أن تبين أن الشعب لن يحسم أمر المجيء بالإخوان إلى منصب الرئاسة خلال الأيام المقبلة إلا وفق صيغة مشارطة وضمانات موثقة، وبعد أن ثبت أيضا أن قطاعا يعتد به من هذا الشعب يملك من الجرأة أو الشطط ما يمكنه من أن يصوت لمرشح النظام السابق، لا لشيء إلا ليعاقب الإخوان إن هم أبوا أن يزيلوا مخاوفه عبر ضمانات ملزمة لا مجرد وعود لفظية يمكن التنصل منها في أي وقت.
373
| 30 مايو 2012
أصبح حديث الانتخابات الرئاسية هو حديث الساعة في مصر فلا تكاد تجلس مع واحد تعرفه أو لا تعرفه إلا ويثار السؤال التقليدي من ستنتخب؟ وهذا شيء طبيعي على شعب ينتخب رئيسه للمرة الأولى في تاريخه، أما غير الطبيعي أو بالأحرى المثير للدهشة فهو أن قطاعا كبيرا ممن تسألهم هذا السؤال، يجيبونك بعزمهم اختيار واحد من رموز النظام السابق. تتصور أن الأمر مختلط عليه، فتذكره بأن فلان هذا من رموز النظام الذي قامت ضده ثوره، فيرد عليك بأن هذا بالضبط ما سيجعله يعطيه صوته. أصحاب هذا الرأي ليسوا قلة من الأفراد تقابلهم بصعوبة، وإنما هم قطاع يعتد به ممن يرون أن الأوضاع لابد وأن تعود إلى نصابها الصحيح، وذلك باستعادة نفس الأشخاص الذين يفهمون ويعرفون كيف يديرون البلد. وفي الوقت نفسه فإن أصحاب هذا الرأي ليسوا بالضرورة من فلول النظام السابق ممن كانوا ينتمون إلى زمرة الفساد التي كانت تحكم مصر، ولكنهم في الأغلب الأعم مواطنون بسطاء لم يحوزوا أي مكاسب طوال فترة الحكم السابق، ولم يكونوا يوما مستفيدين من أي تسهيلات يمنحها النظام لمريديه، ورغم ذلك فإنهم يتوقون لعودة النظام القديم، والذي يرون أن عودته تضمن تحقيق الأمن والاستقرار، الذي لا يجيد تحقيقه إلا من تمرس على الحكم وخبر بواطن الأمور وتعرف على مصر من الداخل. ورغم تهافت معظم هذا المبررات إلا أنها بالنسبة لهذا القطاع بمثابة قناعات يصعب تغييرها. وبناء على استقراء مدى شيوع هذه القناعات بين المصريين فإنه يمكن تصور أن النسب التي سيحصل عليها مرشحو النظام القديم لن تكون بالنسب القليلة. خاصة في ضوء ما يقوم به هؤلاء المرشحون من استثمار لفزاعة الوضع الأمني المتردي للحصول على أصوات المترددين من الناخبين، فضلاً عما يثيرونه من أن انتخابهم هو الضمانة الوحيدة للحيلولة دون اكتمال سيطرة الإسلاميين على مقاليد الحكم. وفي ضوء أن قطاعاً من الناخبين مهيأ للاقتناع بهذه الدعايا السلبية، فإن حظوظ من يثيرون هذه الدعايا تزداد مع استمرار ترديدها. الغريب أن هذه الأفكار قد بدأت تتسرب حتى إلى عدد من الفئات التي عرف عنها موالاتها التقليدية للتيار الإسلامي. آخر من قابلت من هؤلاء كان سائق أجرة بسيط، ملتح ولكنه لم يكن متعاطفا على الإطلاق مع الإسلاميين، وإنما على العكس كان يعتقد أن الإسلام الحقيقي تلخصه عبارة "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، والتي من وجهة نظره تبرر وتسمح لكل رموز النظام القديم بالعودة إلى تبوؤ مناصب الزعامة في مصر بعد الثورة. وكان صاحبنا هذا يرى أن الإسلاميين قد أساؤوا إلى أنفسهم باعتراضهم على عودة هؤلاء إلى الحكم، رغم أنهم - من وجهة نظره - أقدر من يدير البلاد وينظم شؤونها، بحكم أنهم أكثر من يفهم النظام ويعرف خباياه. سألته بهدوء حذر، وهل من العدل أن تظل السلطة حكرا على جماعة معينة من الناس فيما يستبعد كل من عداهم لا لشيء إلا لأن حظهم قد جعلهم خارج دوائر السلطة في الماضي، فرد بعنف إن البلد تحتاج إلى شخص يعيد إليها الأمن الذي أطاحت به الثورة، شخص يفهم معنى السلطة والحكم وليس شخصا جديدا على السلطة ولا يفهم معنى حكم دولة كبرى مثل مصر، فأعدت السؤال ولكن بطريقة أخرى وقلت له: وهل من العدل أن يمنع أبناء البسطاء من الالتحاق بالوظائف المرموقة فقط لأن من حظهم العاثر أن آباءهم لم يدخلوا يوما دوائر النفوذ والتأثير. ثم وجهت إليه الكلام مباشرة قائلاً: هل ترضى أن يحرم ابنك من أن يكون سفيرا أو وزيرا لا لشيء إلا لأنك لم تكن في يوم من الأيام فردا من المرضي عنهم ولم تكن في يوم من الأيام من أفراد النظام الذين يعرفون خبايا البلاد وتفاصيل الحكم؟ ارتبك للحظة ولكنه سارع بالقول إنه عند انتخاب فلان رئيسا للجمهورية، فسوف يكون هناك قانون يعطي كل ذي حق حقه، ولن يكون أحد أعلى من القانون، سألته مرة أخرى: إذا سلمنا بأن فلانا هذا كان جزءا من نظام لم يفكر في تطبيق القانون إلا لمصلحته، وكان مستعدا دوما لخرق ما يضعه بنفسه من قوانين لعلاقات شخصية ومجاملات مصلحية فما الذي يضمن أن ضميره سيستيقظ ليطبق القانون على الجميع على نحو عادل إذا ما انتخبه الناس. لم يحر صاحبي جواباً، ولكنه ردد من جديد، سيكون هناك قانون بالتأكيد وسيكون هناك عدل. لم أشأ أن أضغط عليه أكثر من ذلك، فقد كان واضحا أنه قد استقر على رأيه حتى لو تبين له أن الصواب في عكسه، لم يكن يعنيه أن يستمر استئثار فئة ضيقة من الناس بمقدرات شعب بأكمله، ولكن عند الحديث عن ابنه تحركت مشاعره، فحتى لو كان الإنسان قد باع حظ نفسه من العيش الكريم فإنه يظل محتفظا في نفسه بالرغبة في أن يجد أولاده من بعده فرصة أفضل للحياة، لم يكن يستطيع أن يجادل في ذلك، ولكنه تعلق بأن المستقبل في ظل حكم نفس رموز النظام القديم لابد وأن يكون أفضل، وأن القانون سيطبق على الجميع، من دون أن يجد سببا معقولا واحدا لذلك. من المؤسف أن هذا المواطن وغيره ممن يسعون إلى القضاء على الثورة المصرية بإعادة رموز النظام القديم إلى الحكم هم من قامت الثورة لتنتصر لحقوقهم التي سلبت ولتحقق لهم العيش الكريم الذي حرموا طويلاً منه، ولكن هذه هي ضريبة الديمقراطية التي يجربها المصريون للمرة الأولى، كل ما يمكن أن يؤمله المرء إزاء هذه التجربة الجديدة أن تكتب نتيجتها تاريخ ميلاد ثان للثورة المصرية لا أن تكتب شهادة وفاة مبكرة لها.
422
| 23 مايو 2012
مع اشتعال المنافسة في الانتخابات الرئاسية في مصر من الطبيعي أن ينشغل الجميع بمن سيفوز بأغلبية أصوات الناخبين، ولكن قدرا من الاهتمام لابد وأن يخصص أيضا للأطراف الأخرى من غير المرشحين ممن سيدفعون ثمن المواقف التي اتخذوها والقرارات التي أصروا عليها طوال الفترة التي سبقت وصاحبت المنافسة الانتخابية. على رأس هذه الأطراف يأتي حزب النور السلفي صاحب خمس مقاعد البرلمان المصري، والذي اتخذ مؤخرا مجموعة من القرارات التي قد تكلفه الكثير متى انتهت الانتخابات وبدأ كل طرف يحصد ثمرة ما زرع طوال الشهور الماضية. أول القرارات المهمة التي اتخذها الحزب ذو المرجعية السلفية فيما يتعلق بسباق انتخابات الرئاسة تمثلت في امتناعه عن دعم المرشح الأقرب إلى ميول الكثير من أتباع التيار السلفي، حازم صلاح أبو إسماعيل، وذلك لاعتبارات لم تبد مقنعة للكثيرين من أتباع الحزب. وكنتيجة منطقية لهذا القرار، لم يظهر الحزب معارضة حقيقية لما أسفرت عنه قرارات اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية من استبعادات شملت ضمن ما شملت الشيخ أبو إسماعيل نفسه، بل إنه وجد فيها حلا للأزمة التي صنعها بتردده طوال الشهور الماضية، والتي تمثلت في ازدياد أعداد الشباب السلفي المناصر للشيخ ذي الميول الثورية. فبعد ظهور القائمة النهائية للمرشحين والتي حسمت موضوع استبعاد أبو إسماعيل تصورت قيادات النور أن قرار اللجنة يعفيهم من حرج عدم مناصرة أبو إسماعيل، خاصة أن اللجنة كانت قد استبعدت بالإضافة إليه، كلا من مرشح الإخوان القوي خيرت الشاطر، ومرشح النظام القديم عمر سليمان. ولكن جاء القرار اللاحق لنفس اللجنة بقبول الفريق أحمد شفيق رغم صدور قانون العزل السياسي بحقه ليسبب إحراجا بالغا للحزب الذي وضع ثقته في هذه اللجنة وفي قراراتها، ورغم ذلك ظلت الانتقادات التي وجهها الحزب والمتحدثون الرسميون باسمه إلى لجنة الانتخابات الرئاسية في حدها الأدنى، واقتصرت على دعوات خجولة لأعضاء اللجنة بالتنحي لصالح آخرين، ولكن من دون ضغوط حقيقية في هذا الصدد. القرار الثاني المثير للجدل تمثل في قيام حزب النور بالاستعاضة عن دعم المرشح المفضل لدى شباب وأتباع التيار السلفي بدعم المرشح الإخواني المستقيل الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح على الرغم مما بين الطرفين من إشكاليات طالما أكد عليها رموز التيار السلفي. فالعلاقة لم تكن في أي وقت من الأوقات على ما يرام بين معظم الرموز السلفية وبين الدكتور أبو الفتوح، نظرا لآرائه التي كان يصنف بسببها من جانب الكثير من السلفيين على أنه أقرب إلى الأوساط اليبرالية منه إلى كونه مرشحا إسلاميا. من جانبه كان للدكتور أبو الفتوح من التصريحات ما يؤكد به مخاوف التيار السلفي وأبرزها تلك التي وصف خلالها نفسه بأنه ليس مرشحا إسلاميا. ويعتقد الكثير من السلفيين أن أبو الفتوح لو خير بين موالاة النخبة الليبرالية وموالاة التيار السلفي لاختار الأولى، خاصة في ضوء الضغوط التي يتعرض لها، والتي تطالبه بالكشف عن طبيعة الوعود التي منحها للسلفيين لكي يمنحوه تأيدهم. هذه الضغوط حال اشتدادها قد تؤدي من وجهة نظر هذه التيار إلى جعل المرشح الإخواني السابق يضطر إلى التخلي عن السلفيين ومن ثم إلى استبعادهم من حساباته السياسية حال فوزه في الانتخابات. معضلة الاستبعاد من دوائر التأثير يتوقع أن تلقي بظلالها أيضا على حزب النور حال فوز الدكتور محمد مرسي، فقرار حزب النور الامتناع عن تأييده في الانتخابات الرئاسية اعتبره الإخوان بمثابة ضربة لهم. وفي ضوء سيطرة الإخوان على الأغلبية البرلمانية التي ستكون في الغالب مسؤولة عن تشكيل الحكومة المقبلة، فإنه من المتوقع أن يتم استبعاد السلفيين وممثليهم من حزب النور من الحكومة المقبلة أو على الأقل ألا يحظون بتمثيل قوي في بنية السلطة المزمعة أيا كان شكل أو نمط الحكم الذي سيأتي به الدستور القادم، وذلك فيما قد يكون إجراء عقابيا من جانب حزب الأغلبية تجاه السلفيين الذين تخلوا عن دعم مرشحهم في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلى الدعم وبخاصة في ضوء انخفاض حظوظ المرشح الإخواني. قرار الحزب السلفي الامتناع عن دعم المرشح الإخواني أسفر أيضا عن حالة من الانقسام داخل التيار السلفي نفسه، فرغم التحفظات السلفية المعتادة إزاء الإخوان ومشروعهم الفكري، يرى الكثير من المنتسبين للتيار السلفي أن الحزب قد جانبه الصواب في قراره تأييد الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح، ولهذا فإنهم عند المفاضلة بينه وبين الدكتور محمد مرسي يجدون أن التصويت للدكتور محمد مرسي مع ما يتضمنه من مخاطر قد يكون أفضل من التصويت للدكتور أبو الفتوح، في ضوء ما يأخذه عليه شباب وبعض من شيوخ هذا التيار من مسارعة إلى إرضاء التيارات الليبرالية ولو على حساب ما يعتبرونه ثوابت التصور الإسلامي. هذا الانقسام في قضية بهذه الأهمية يمكن أن يؤدي بدوره إلى اختلالات أكبر بين صفوف التيار السلفي. فشباب السلفيين والذين كانوا مقتنعين حتى وقت قريب بأن السياسة ساحة للفتن، وكانوا من ثَمَّ قانعين باعتزالها بالكلية، كانوا يتوقعون من مشايخهم الذين أقنعوهم بضرورة ممارسة السياسة في هذه المرحلة حفاظا على الشريعة والهوية الإسلاميتين أن يكون دعمهم لقضية الشريعة أكثر وضوحا. كما أن هؤلاء الشباب قد باتوا يلاحظون انحسار المسافة التي تفصلهم عن التيارات الليبرالية والعلمانية، وهي الأطراف التي كانت منافستها والحيلولة دون استئثارها بالسلطة، أحد المبررات المهمة التي سوغ بموجبها مشايخ التيار السلفي لأتباعهم المشاركة في العملية السياسية. فإذا بهم يجدون أن المساحة تتآكل بينهم وبين هذه التيارات، ويجدون أنفسهم جزءا من حسابات دنيوية بحتة تحكمها البراجماتية السياسية تماما كما لدى الأطراف الأخرى. لقد أثبت التيار السلفي في الماضي قدرته على الحشد الجماهيري ولكنه كان يفعل ذلك بالأساس من خلال قدرته على الاتساق مع مبادئه التي لم تكن تختبر أمام المحكات الواقعية على نحو فعلي، ولكنه إذ يضطر في هذه الآونة بفعل ضرورات المنطق السياسي أن يعيد طرح مبادئه وفقا لصورة أكثر تركيبا فإنه يغامر بأن يفقد كثيرا من أتباعه أو على الأقل من قدرته على حشدهم، وهذا في حقيقة الأمر أسوأ من الخسائر السياسية التي قد يتكبدها الحزب عقب ظهور نتائج الانتخابات، والتي تتمثل بالأساس في احتمال استبعاده من دوائر السلطة التنفيذية، الأمر الذي يحتم على قادة ورموز هذا التيار إجراء مراجعات لطبيعة خطابهم وللطريقة التي كانوا يستخدمونها في الماضي من أجل تحقيق الطاعة بين أتباعهم وذلك بعدما تبين لهم أن مبدأ الطاعة الدينية يختلف عما تحتاجه هذه المرحلة من التزام حزبي.
335
| 15 مايو 2012
مساحة إعلانية
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا...
7890
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت...
6606
| 14 أكتوبر 2025
منذ صدور قانون التقاعد الجديد لسنة 2023، استبشر...
3444
| 12 أكتوبر 2025
في خطوة متقدمة تعكس رؤية قطر نحو التحديث...
2796
| 12 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....
2664
| 16 أكتوبر 2025
في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...
1866
| 16 أكتوبر 2025
قمة شرم الشيختطوي صفحة حرب الإبادة في غزة.....
1539
| 14 أكتوبر 2025
الوقت الآن ليس للكلام ولا للأعذار، بل للفعل...
1197
| 14 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...
1188
| 16 أكتوبر 2025
لا يخفى على أحد الجهود الكبيرة التي تبذلها...
1065
| 14 أكتوبر 2025
بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، وبمشاعر يعتصرها الحزن...
759
| 13 أكتوبر 2025
مع أننا نتقدّم في العمر كل يوم قليلاً،...
747
| 13 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية