رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

بين الحل البريطاني والحل المصري

في السادس من أغسطس عام 2011، اندلعت أعمال شغب على نطاق واسع في العديد من مدن المملكة المتحدة، وشملت الأحداث اضطرابات عامة وأعمال نهب وسلب ومواجهات مع الشرطة البريطانية، أفضت إلى جرح 111 رجل شرطة، وتم تسجيل ما يقارب 3440 حادثة جنائية في مدن بريطانيا المختلفة، وبلغت حصيلة الخسائر في المباني حوالي 200 مليون جنية إسترليني، وتعرض الاقتصاد البريطاني لهزة قوية، في وقت لم يكن قد تعافى فيه بعد من أزمة الرهن العقاري الشهيرة، وأزمة وباء أنفلونزا الخنازير. حينها أصدرت معظم الدول تحذيرات لرعاياها بعدم السفر إلى بريطانيا، وتأثرت حركة السياحة، وحجوزات مكاتب الطيران، في الوقت الذي كانت بريطانيا تحاول فيه أن تحظى بثقة العالم بمناسبة قيامها بتنظيم الألعاب الأوليمبية، وحاجتها لتنشيط حركة السفر إلى أراضيها. الشاهد هنا أن الحكومة البريطانية لم تقف متفرجة على ما يجري، وإنما تدخلت بمنتهى الحسم، والأهم أنها سمت الأمور بأسمائها، فاعتبرت أن ما تشهده البلاد هو أعمال شغب، وأصبح الإعلام البريطاني مطالبا باستخدام هذا الوصف، بعد أن حاول بعض الظرفاء هناك أن يطلق على ما يجري وصف الربيع البريطاني (قياسا على الربيع العربي الذي كان قد انطلقت شرارته قبل عدة أشهر)، وأعطى رئيس الوزراء دافيد كاميرون الضوء الأخضر لقوات الشرطة للتعامل مع الموقف بحسم لم يخل من حرفية، حيث تمكنت قوات البوليس من الإيقاع بمعظم من تسببوا في الشغب من دون أن تسقط أي قتلى في صفوفهم. وكانت أداتها في ذلك الرصاص المطاطي وخراطيم المياه. إبان هذه الاضطرابات تم اعتقال أكثر من 3100 شخص، مثل منهم حوالي 1100 أمام المحاكم، التي طُلب منها أن تعمل عدد ساعات مضاعف حتى تتمكن من إصدار أحكام مباشرة بحق من تورطوا في أعمال الشغب، وحتى يتم تجنيب البلاد إعلان حالة الطوارئ، مع ما تعنيه من اعتقال لفترات طويلة من دون محاكمة، ورفضت العديد من المحاكم البريطانية الإفراج عن المحتجزين حتى ولو بكفالة. وحصل معظم المتورطين على أحكام رادعة. في ظل هذه الأزمة كانت الدولة حاضرة وقادرة على أن تتصدى بالحزم اللازم للمشاغبين، وكانت الخطوط الساخنة متاحة دائما للإبلاغ عن أي حالات اعتداء أو إحساس بالخطر، وقد استخدمت الحكومة البريطانية وقتها كل الوسائل لاستعادة الأمن، إلى حد أنها طلبت من شركات الهواتف النقالة أن تمدها بمعلومات حول الرسائل التي كان يتبادلها المخربون للتحضير لهجماتهم. وقتها، لم يتذرع أحد بشعارات حقوق الإنسان للحيلولة بين الحكومة وبين اتخاذ الإجراءات الرادعة ضد مثيري الشغب، صحيح كانت هناك بعض الأصوات التي حاولت أن تستغل هذه الاضطرابات للإطاحة بحكومة المحافظين، إلا أن الأداء العام كان يغلب عليه الإحساس بالمسؤولية الوطنية، وترّفع معظم الساسة عن المتاجرة بأمن بلدهم لصالح اعتبارات سياسية. على الجانب الآخر من البحر تشهد مصر هذه الأيام اضطرابات مماثلة، حيث خرجت مجموعات فوضوية في الذكرى الثانية للثورة، قامت باحتلال الشوارع والميادين، وتعطيل حركة المرور في القاهرة وفي بعض المدن الأخرى. وقد سقط عشرات القتلى في المواجهات التي جرت بين المحتجين وبين قوات الأمن. الفارق الأساس أن المسؤولين السياسيين في مصر على العكس من نظرائهم البريطانيين قابلوا هذه الفوضى بأداء مرتعش. فالرئاسة ومعها الحكومة بدتا كما لو كانتا واقعتين تحت سيطرة الإعلام والنخبة الصاخبة، وغير قادرتين على التمييز بين أعمال الشغب والتظاهر السلمي، فتأخروا في التعامل مع الموقف، الأمر الذي أسهم في وقوع المزيد من الضحايا. وحين تم تصعيد الخطاب السياسي واللجوء لإجراءات أكثر حسما، كانت الأحداث قد سبقت الجميع، بحيث لم يؤدى إعلان حالة الطوارئ وفرض حظر التجوال في مدن القناة إلى الأثر المرجو منه. وفي ضوء عدم قدرة الداخلية أو الجيش على تنفيذ القرارات الرئاسية في مواجهة التحدي الجماعي لمثل هذه القرارات، فإن المحصلة النهائية تمثلت في تأكيد ضعف مؤسستى الرئاسة والحكومة وعدم مقدرتهما على مواجهة الوضع بطريقة حاسمة. من جانبها فإن معظم فصائل المعارضة لم ترتفع إلى مستوى الموقف، ولم تعل الحس الأخلاقي المرتبط بالحفاظ على الدولة، وإنما حاولت استغلال الأوضاع لتسجيل نقاط لصالحها، وذلك بإلحاحها على أن الأزمة التي تشهدها البلاد هي أزمة سياسية، تتطلب تعديل الدستور وتشكيل حكومة جديدة يكونون هم على رأسها. وذلك في أجواء من الانتهازية السياسية التي تحاول استغلال الاضطرابات بدلا من محاولة البحث عن حلول لها. ولكن رغم الصخب الذي تثيره المعارضة المدعومة إعلاميا، فإن ما تعاني منه البلاد هو حالة من الانفلات الأمني وعدم احترام أحكام القضاء فضلاً عن تراجع حاد في هيبة مؤسسات الدولة، ومن ثم فإن على السلطة السياسية أن تتحرك لإدارة هذه الملفات قبل أن تدعوا إلى أي حوار مع المعارضة الطفيلية التي تحاول أن تظهر بمظهر المتحكم في حركة الشارع والقادر على استعادة الاستقرار. لقد تحركت بريطانيا لمواجهة الاضطرابات التي عمت جميع مدنها، فأوقفت الشغب وفرضت هيبة الدولة، ولم تتراجع أمام انتقادات المعارضة التي اتهمتها بانتهاك مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأظهرت أن الدولة لا يمكن أن تستدرج إلى منازلة مع مجموعات من الخارجين على القانون مهما كان انتشارهم أو عددهم، فهل يمكن أن تنهض الرئاسة المصرية بدورها في هذا الصدد، وأن تتوقف عن الانشغال بكوابيس الوقوع فيما وقع فيه الرئيس السابق من "استهداف للثوار". فالرئاسة الآن هي رئاسة منتخبة تتحرك بتفويض من الجماهير التي اختارتها، وهي مسؤولة أمام هذه الجماهير على أن تحقق السلام والاستقرار الاجتماعي، فإما أن تتحرك الآن وإما أن تزداد جرأة جماعات الفوضى على الاستمرار في مخططها لإسقاط كل ما تم بناؤه في المرحلة السابقة.

366

| 30 يناير 2013

حديث التوافق والتفاهم

للأديب الروسي الشهير أنطون تشيكوف رواية شهيرة بعنوان "حكاية رجل مجهول"، وهي وفقا للنقاد من أعمق ما كتب، وتحكي قصة إنسان (يبدو من التفاصيل القليلة التي تخصه أنه ناشط سياسي) يضطر إلى أن يتنكر في شخصية خادم، ليتسنى له التسلل إلى حياة مسؤول كبير في الدولة ومراقبته عن كثب، بهدف الحصول على مستندات أو وثائق معينة تدين هذا المسؤول الذي يعتبره بطل الرواية عدواً خطيراً للقضية التي يؤمن بها. ولكن على مدار القصة نجد أن البطل يفقد تدريجيا الحماسة لهدفه، وينسى الغرض الذي من أجله قبل بأن يتقمص هذا الدور، فرغم أن الفرصة تسنح له المرة بعد الأخرى لكي يحصل على بغيته، إلا أنه يتعايش مع الوضع الجديد، أي وضعه كخادم، فيقوم بما يقوم به الخدم، ويسارع إلى تلبية رغبات سيده ورغبات ضيوفه الذين يحلون عليه كل أسبوع، ليتحول الناشط السياسي من شخص سخر حياته من أجل مبادئه إلى شخص فاقد للبوصلة، يتقمص شخصية ليست شخصيته، ويعيش في بيت ليس بيته، وفي خدمة شخص من المفترض أنه كان خصمه. هذا الموقف رغم لا معقوليته إلا أنه يعكس حال من يقبل أن يتعايش مع أوضاع وأفكار لا يقبلها بحجة تفويت الفرصة على خصومه، فينتهي به الحال وقد اعتنق ما تظاهر به، وصدق ما كان يحاول إيهام الآخرين بتصديقه. هل يشبه هذا الموقف حال جماعة الإخوان في مصر؟ شواهد الإجابة بنعم تبدو كثيرة، فالجماعة التي نشأت من أجل قضية تؤمن بها، قدمت ومازالت تقدم من التنازلات الكثير والكثير بحجة التوافق والتفاهم مع خصومها، أو بحجة استيعابهم وعدم استثارة عداوتهم ضدها. ولكنها وهي تفعل ذلك فإنها تغامر بنسيان قضيتها الأصلية والتخلي عما كانت تؤمن به. فالجماعة بدأت مشوارها السياسي بعد الثورة بمحاولة التوافق مع التيارات الليبرالية والعلمانية، بحجة تشكيل تحالف وطني موحد، ولكن هذا التحالف لم يدم طويلاً خصوصا بعد أن أفصح كل طرف عن تحيزاته، ورفض الاستمرار في التظاهر بالتعاون مع خصمه الأيدلوجي. كانت الجماعة تحاول طمأنة خصومها بقبولها التحالف معهم ولكن الجميع كانوا مقتنعين بأن ما تقوم به الجماعة مجرد مناورة، وأنها لن تتحول إلى حليف طبيعي لخصومها، ومن ثم انفض التحالف، ورجع كل طرف إلى مواقفه الحقيقية. وبعد تشكيل الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور حرصت الجماعة مرة أخرى على إظهار رغبتها في التوافق مع التيارات الليبرالية والعلمانية فيما يتعلق بصياغة المادة الثانية من الدستور، والخاصة بالشريعة الإسلامية، وذلك بالإبقاء عليها وفق نفس صياغتها التي كانت عليها في دستور 1971، وذلك حتى لا تتصادم مع هذه التيارات، وحتى تظهر لها أنها حريصة على مدنية الدولة، وأنها لا تمتلك أي نوايا خاصة بفرض لونها الأيديولوجي على مؤسساتها. الأمر الذي أدخلها في خلاف مع بقية أحزاب التيار الإسلامي، ولم يكسبها في الوقت نفسه رضا التيارات المدنية التي كانت الجماعة تحاول إرضاءها. ومؤخرا وبمناسبة الاستعداد للانتخابات التشريعية الجديدة أعلنت الجماعة من جديد أنها على استعداد للتحالف مع قوى المعارضة، التي تصر على أن ينص قانون الانتخابات على كوتة خاصة للمرأة، وذلك لإحراج بقية التيارات الإسلامية، التي تريد إعلاء معيار الكفاءة لا معيار النوع في تقديم المرشحين. من جديد سارع الإخوان إلى إبداء قبولهم للمقترحات المقدمة من المعارضة بهذا الصدد، وأعلنوا أنهم سوف يلتزمون بإدراج المرأة في النصف الأول من قوائمهم حتى لو لم يتم إقرار القانون الذي يدعو إلى ذلك. إستراتيجية التفاهمات والتوافقات لم تكن فقط على المستوى الداخلي وإنما وجدت تطبيقات مختلفة على المستوى الخارجي أيضاً، فقد سارعت الجماعة إلى مباركة فكرة الاقتراض من صندوق النقد الدولي، ليس لأنها تقبل الربا، أو لأنها حريصة على الاندماج في الرأسمالية العالمية، أو الإذعان للمشروطية السياسية المرتبطة عادة بقروض البنك الدولي، ولكن لإظهار توافقها مع المجتمع الدولي واستعدادها للتعاون مع مؤسساته. أما في مجال التعامل مع الولايات المتحدة وإسرائيل، فقد سارعت الجماعة إلى طمأنة الجميع بأنها لا تنوى مراجعة الاتفاقات التي أبرمها النظام السابق معهما، سواء على المستوى السياسي (اتفاقية السلام) أو على المستوى الاقتصادي (اتفاقية الكويز)، وذلك حتى تطمئن هذه الدول، ولا تستثير عداوتها، ومن ثم حتى لا تقوم الأخيرة باستهدافها بعقوبات اقتصادية كما فعلت مع إيران، أو بحصار اقتصادي كما فعلت مع قطاع غزة. أثناء وفي أعقاب كل هذه التفاهمات كان سؤال الهوية يضيع تدريجيا من يد الجماعة، وكان شعار التوافق يحجب عنها حقيقة الدور الذي يفترض أنها قد نذرت نفسها له، وهو إصلاح الدنيا وفقا للقيم الدينية. هذا الأسلوب المربك أصبح عائقاً ليس فقط على الأداء السياسي للجماعة ولكن على تعاطي مؤيدي الجماعة مع قراراتها وسياساتها، فالكثير من أتباع الجماعة أنفسهم أصبحوا لا يستطيعون التمييز بين ما تعتقده الجماعة على وجه الحقيقة وما تلزم نفسها به على سبيل التوافق والتفاهم. الأمر الذي قد يؤدي إلى خسارة الجماعة لكثير من أتباعها، خصوصا من فئة الشباب، كما قد يؤدي إلى خسارتها لأصوات الكثيرين ممن كانوا في السابق من المتعاطفين معها وذلك خلال الانتخابات التشريعية المقبلة. لقد انتفت العلة التي من أجلها تم رفع شعار التوافق، بعد أن أظهرت كل الأطراف في الساحة السياسية حقيقة مواقفها، تماما كما انتفت العلة التي من أجلها تقمص بطل رواية تشيكوف شخصية الخادم، إلا أن الجماعة تستمر في التصرف وفقا لمفهوم أثبت أنه غير ذي جدوى تماما كما استمر الخادم المجهول في أدائه لدور لم يكن ثمة معنى لاستمراره في تقمصه.

793

| 23 يناير 2013

شريف عبد الرحمن سيف النصر

يخوض المحافظون الجدد معركة ساخنة ضد المرشح الذي اختاره الرئيس الأمريكي لمنصب وزير الدفاع، في محاولة منهم للتسلل إلى بؤرة المشهد السياسي بعد أن أطاح انتخاب أوباما لفترة ثانية بفرصهم للعودة الرسمية بصحبة الجمهوريين. فبمجرد أن أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما، عن ترشيح السيناتور السابق "تشاك هاجل" لتولي منصب وزير الدفاع "البنتاغون"، حتى شنت جوقة اليمين المحافظ حربا شعواء على المرشح الجديد وذلك للحيلولة دون استمرار "النهج الانعزالي" الذي وسم أداء الرئيس أوباما، والذي يشتهر أن المرشح الذي اختاره لرئاسة البنتاغون يفضله أيضا. ولكن بدلاً من انتقاد المرشح الجديد لميوله اللاتدخلية اتبع المحافظون الجدد الطريق الأسهل وبدأوا في التشهير بالوزير المحتمل بوصفه معاديا لإسرائيل، وقد تضمنت القائمة التي أعدها منتقدو هاجل اتهامات من نوعية "أنه تجرأ في السابق على دعوة إسرائيل لاتخاذ خطوات عملية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط،" وأنه "تجرأ على الافتخار بأنه ليس ممن يدعمون إسرائيل دعما مطلقاً"، ثم هو "غامر بالقول إنه من القلائل الذين لا يرهبهم اللوبي الصهيوني أو المنظمات الداعمة لإسرائيل مثل أيباك،" مثل هذه الخطايا التي لا تغتفر، والتي جمعها الأمريكي المتصهين وليام كريستول في مقالة الأخير بصحيفة الويكلي ستاندرد، هي ما تبرر من وجهة نظره ونظر المحافظين الجدد الوقوف ضد ترشيح هاجل للمنصب الأخطر في الحكومة الأمريكية. إلا أن هذه اليافطات المثيرة لا تحجب حقيقة موقف المحافظين الجدد والمتمثل في رغبتهم في وضع حد للأداء غير التدخلي لإدارة أوباما، ودفعها دفعاً إلى تبني نهج التدخل بالقوة المسلحة كما كان الحال في ظل إدارة بوش الابن. وبالمثل فإن هاجل المعروف عنه كراهيته لأسلوب التدخل المنفرد واستعراض القوة يتضاد على طول الخط مع سياسة المحافظين الجدد القائمة على فرض الهيمنة الأمريكية حيثما أمكن ذلك. ويذهب المحافظون الجدد أنهم وإن فقدوا فرصة ترشيح أحد الصقور لهذا المنصب فليس أقل من الحيلولة دون أن يتولاه أحد الحمائم، فاختيار هاجل من وجهة نظرهم سوف يؤكد العقيدة اللاتدخلية للرئيس أوباما، في الوقت الذي يرون فيه الأجواء الدولية مناسبة لتنفيذ مشروع القرن الأمريكي وخاصة في الشرق الأوسط الذي يشهد أجواء تسمح للولايات المتحدة بالتدخل على نحو أيسر من ذي قبل. من جانبه يتبنى الحزب الجمهوري نفس موقف المحافظين الجدد إزاء ترشيح هاجل رغم كون الأخير منتميا للحزب الجمهوري، وذلك لما يأخذه الحزب عليه إلا من استقلال عن الخط الجمهوري في العديد من القضايا. فقد كان هاجل ممن أعلنوا دعمهم صراحة لأوباما خلال الانتخابات الرئاسية عام 2008 ضد المرشح الجمهوري جون ماكين، كما كان متشككا في جدوى إرسال الأمريكيين إلى القتال من دون إستراتيجية واضحة، كما كان الحال في العراق وأفغانستان. أما أبرز عناصر التميز في شخص هاجل فهو إيمانه بضرورة العمل الجماعي ضمن إطار المنظمات الدولية، حيث كان دائما ما ينتقد النزعة الأمريكية لتجاهل الأمم المتحدة، وهذا ما وضعه في موقع مناقض لفكرة التدخل المنفرد المفضلة لدى الجمهوريين. ونظرا لأن تعيين هاجل كوزير للدفاع يتطلب مصادقة مجلس الشيوخ الأمريكي والذي لا يتمتع الديمقراطيون فيه بالأغلبية الكافية. فإن هذا يعني أنه من الضروري أن يؤيد أعضاء جمهوريون في المجلس اختيار هاجل ليتمكن من تولي منصبه الجديد، ولهذا يتوقع أن يثير ترشيح هاجل حالة من الجدل المحموم في أروقة السياسة الأمريكية في الأيام القادمة. أما عن لجوء المحافظين الجدد، يدعمهم الجمهوريون، إلى يافطة "معاداة السامية" للتشهير بالمرشح الجديد بدلاً من الحديث مباشرة عن رغبتهم في استئناف سياسة التدخل بالقوة المسلحة في شؤون الآخرين، فيفسرها فشل تجربة التدخل الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان وبشكل لا يمكن حتى لصقور المحافظين الدفاع عنه أو تبريره، ومن ثم فإن محاولة انتقاد المرشح الجديد لإدانته هاتين التجربتين هي من الصعوبة بمكان، خاصة وأن هاجل كان جنديا محاربا، ولكنه رغم ذلك يؤمن بأن هناك طرقا أخرى لحل الأزمات الدولية بدلا من القوة. ولهذا تم العدول عن خطاب الهيمنة إلى الاتهام بمعاداة السامية وكراهية اليهود. إن الانحياز الأمريكي لإسرائيل لم يعد أمرا مثيرا للدهشة، كما لا يثير اختيار "مدى الولاء لإسرائيل" كمعيار للترقي في الوظائف المهمة مفارقة تستحق التوقف، فقد صارت هذه من العيوب المزمنة في السياسة الأمريكية، وليس مستبعدا أن تؤدي الانتقادات التي وجهها هاجل لإسرائيل في السابق بالإدارة الأمريكية إلى استبعاده لصالح مرشح آخر، (خاصة بعد تجربة سوزان رايس التي تخلت عن طموحها بتولي وزارة الخارجية خلفا لهيلاري كلينتون بعد معارضة عدد من كبار أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين لتوليها هذا المنصب). ولكن حقيقة ما يجري الآن على المسرح السياسي الأمريكي ليس متعلقا بمحبة إسرائيل كما يدعي المحافظون الجدد، ولكنه يتعلق أساسا بالرغبة في إعادة أجواء الحرب على الإرهاب، والتدخل المسلح فيما كانت إدارة بوش تسميه "الدول المارقة"، يضاف إليها حاليا رغبة اليمين المتطرف في استغلال أجواء الربيع العربي لتنفيذ سيناريوهات الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد. هذه الأجواء تستدعي من دول الربيع العربي تنبها خاصاً، إذ يتعين عليها أن تستغل النزعة اللاتدخلية للرئيس الأمريكي باراك أوباما، والذي وضح تفضيله الاهتمام بالشأن الأمريكي الداخل عن الانغماس في القضايا الدولية، في استكمال مؤسساتها الداخلية وهي تحت الحد الأدنى من الضغوط والتدخلات الأمريكية، خاصة أن هذه التدخلات يمكن أن تتضاعف لو نجح المحافظون الجدد في تأكيد حضورهم في المشهد السياسي، أو تمكنوا من استعادة زمام السيطرة على السياسة الخارجية وقضايا الدفاع، كما كان الحال في المرحلة المشئومة الموسومة بمرحلة الحرب على الإرهاب، والتي مازال الكثير من العرب يعانون من آثارها حتى اليوم.  

468

| 16 يناير 2013

لماذا لا يقوم مشروع مارشال عربي؟

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية اقترح الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي، والذي أصبح فيما بعد وزيرا للخارجية، مشروعا اقتصاديا لإعادة تعمير أوروبا، وبالفعل تم تبني المشروع وتم إنفاق 13 مليار دولار أمريكي على مدار أربع سنوات بغرض تحديث الاقتصاد الأوروبي وإزالة العوائق من أمام التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والأسواق الأوروبية. وكان الأمر المدهش أنه بعد انتهاء فترة السنوات الأربع التي حددت لتطبيق المشروع، كانت المؤشرات الاقتصادية في الدول التي شهدت تطبيق المشروع تفوق مؤشراتها فيما قبل الحرب. وقد اعتبر مشروع مارشال أحد العوامل التي ساعدت على تحقيق التكامل الأوروبي فيما بعد والذي تبلور في إطار مشروع الاتحاد الأوروبي. وكانت إستراتيجية الولايات المتحدة من وراء اقتراح هذا المشروع تقوم على أنها وإن كانت قد صنفت بعض الأنظمة في خانة الأعداء فإنها ليس من مصلحتها أن تخسر الشعوب أيضاً، خاصة أن أجواء ما بعد الحرب قد شهدت تدميرا كاملاً للاقتصاد الأوروبي، فضلاً عن حالة من الكساد وانتشار الفقر والبطالة بشكل واسع، الأمر الذي وفر بيئة خصبة لانتشار الشيوعية بين الجماهير، وهو ما كانت تؤكده الخطط السوفيتية آنذاك. وعليه تدخلت الولايات المتحدة صاحبة الاقتصاد الوحيد الذي لم يتضرر بشكل مباشر بفعل الحرب، عبر هذا المشروع لإنعاش اقتصاديات أوروبا واجتذاب الجماهير الأوروبية. على الجانب الآخر من البحر، لم يشهد عالمنا العربي خبرة تدميرية مماثلة لخبرة الحروب العالمية، ولكنه رغم ذلك شهد عملية تجريف هائلة لمقدراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، امتدت على مدار ما يزيد على الثلاثة عقود، لصالح جماعات ضيقة احتكرت السلطة والثروة. وكان من أثر عمليات التجريف هذه أن صار الحديث عن تحقيق طفرة اقتصادية فورية في أعقاب ما شهدته بعض هذه الأنظمة من ثورات ضربا من الخيال، اللهم إلا في حالة واحدة، وهي أن تشهد هذه الأنظمة مشروعات مشابهة لما شهدته أوروبا خلال مرحلة إعادة إعمارها. والسؤال المنطقي هو ما هي العوائق الموضوعية التي تحول بين كثير من الدول العربية الغنية وبين مساعدة دول الربيع العربي على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي تحتاجها الأخيرة لتحقيق متطلبات ما بعد الثورة؟ والإجابة المباشرة على هذا السؤال أن الكثير من هذه الأنظمة تخشى من انتقال عدوى التحولات السياسية التي جرت في أنظمة الربيع العربي إليها، ففي هذه الأنظمة تم إحلال نخب جديدة محل النخب قديمة. أو بعبارة أخرى تم القضاء على سلطة الأمر الواقع لصالح شرعية جديدة تمثل فيها الجماهير الرقم الأساسي. وفي غمار هذه التخوفات لم يتم الالتفات إلى الفرص الإيجابية التي يمكن أن تجنيها الدول المانحة من وراء الدعم الاقتصادي لأنظمة الربيع العربي ممثلة في تحفيز الاقتصاد الإقليمي ككل وتشجيع انتقال رؤوس الأموال، والقضاء على البطالة، والتمهيد لإنشاء سوق عربية مشتركة. وعلى العكس، فإن استمرار حالة التربص التي تمارسها بعض الأنظمة إزاء الثورات العربية، وتطلعها الواضح إلى انهيار التجربة برمتها، سيمثل خسارة للجميع. وربما يفرز مع الوقت حالة من الانقسام السياسي، مشابهة لتلك التي تواجدت بين دول شرق أوروبا وغربها في أعقاب الحرب، فالأنظمة التي رفضت التعاون الاقتصادي في شرق أوروبا سرعان ما تقوقعت حول نفسها، وتحولت إلى معسكر سياسي مناوئ ومعاد للمعسكر الغربي، قبل أن يتطور الخلاف بشكل أوضح مع تشكل حلف شمال الأطلنطي في مقابل حلف وارسو. وإذا كان البعض يستبعد فكرة أن تتطور الخلافات بين أنظمة الربيع العربي والأنظمة المحافظة إلى حد تشكيل تحالفات متقابلة، فإن أبسط ما يمكن أن تؤدي إليه هذه الخلافات أن تولد أحقادا شعبية تعوق تطور المنطقة ناحية التكامل والرقي. إن على الأنظمة المحافظة أن تدرك أن الهوى الشعبي الآن مع الثورات، وأنها بإصرارها على عرقلة تجربة الربيع العربي ومعاقبة الشعوب التي تعاطت معه إيجابيا إنما تخسر من دعم الجماهير التي تشهد الآن وربما أكثر من أي وقت مضي في السابق نوعا من التلاحم والتجانس العابر للحدود. وأخيرا فإن مما قد يدفع الأنظمة العربية المتربصة بالربيع العربي إلى التخلي عن ترددها أن كثير من الدول الغربية حريصة إذا ما استقرت الأوضاع السياسية في دول الربيع العربي أن تقوم بهذه الخطوة وذلك عبر إدماجها بالاقتصاد العالمي، وربطها بقواعد السوق الليبرالية، وتبدو مؤشرات ذلك في مسارعة صندوق النقد الدولي إلى إبداء رغبته في مساعدة الاقتصاد المصري عبر قرض ضخم من غير المحتمل أن يتم التراجع عنه كما يروج البعض، وفي محاولة بعض الجهات الأوروبية مثل صندوق مارشال الألماني تقديم المساعدة الاقتصادية إلى تونس لدعم تجربة التحول السياسي بها. إن الأيام القليلة القادمة (الحادي والعشرين والثاني والعشرين من شهر يناير الجاري) سوف تشهد انعقاد القمة الاقتصادية العربية في الرياض، وسوف يمثل هذا فرصة جيدة للحديث عن موضوع دعم اقتصاديات أنظمة الربيع العربي، وإذا كان نائب الأمين العام للجامعة العربية قد اعترض على تسمية هذا البند بمشروع مارشال العربي، معللاً ذلك بأنه لا يحب مسمى مشروع مارشال لأن السياق السياسي والحضاري مختلف، فإن المهم بحق أن تقر القمة مشاريع حقيقية تربط بين الدول العربية ربطا عمليا وتؤهلها اقتصاديا للقيام بمهام ما بعد الثورات. خاصة أنها إذا فشلت في أداء هذه المهمة فلن ترحمها الشعوب العربية المتطلعة إلى أن يكون لها وللوطن العربي الذي يمثلها المكان الذي يستحقه إقليميا وعالميا.

1716

| 09 يناير 2013

عن النخبة المحنطة

 البحث عبر التاريخ المعاصر عن تفسير مقنع للأداء المحبط للنخبة العلمانية في مصر، يقودنا إلى نقطة زمنية بعيدة نسبيا تعود إلى مطلع القرن العشرين، حينما تشكلت النخبة الفكرية والسياسية على وفق النموذج الغربي الذي رسخه الاحتلال، وهو ما يبرر الوصف الذي أطلقه أحد مستشاري الرئيس المستقيلين (الدكتور سيف عبد الفتاح) على هذه النخبة بأنها نخبة محنطة، فمعظم خصائص النخبة الحالية تشكلت خلال الحقبة الليبرالية التي عاصرت الاحتلال البريطاني لمصر والتي يمكن أن نجد وصفا دقيقا لها في كتابات اللورد كرومر الذي كان معنيا بأمر هذه النخبة لأسباب تتعلق بمصالح دولته في المقام الأول. واللورد كرومر لمن لا يعرفه هو أشهر معتمد بريطاني في مصر، وكان قد عمل مندوبًا لصندوق الدين المصري 1877، ثم ما لبث أن عين بعد الاحتلال البريطاني مباشرة مندوبًا ساميًا ومعتمدًا لبريطانيا. وكان للورد كرومر دور كبير في النجاح الذي شهدته عملية تغريب النخبة المصرية، كما أنه صاحب تأثير كبير فيما يتعلق بتهميش فكرة الانتماء إلى العالم الإسلامي، أو ما كان يسميه هو فكرة الجامعة الإسلامية، بين صفوف هذه النخبة. وعلى مدار عدد من التقارير، التي جمعها لاحقا في كتاب بعنوان "مصر الحديثة"، سرد كرومر عددا من النقاط التي تصلح في مجملها لفهم أزمة النخبة العلمانية في مصر، فقد كان جزء مهم من نشاط كرومر ينصب حول صناعة نخبة متغربة، تستلهم الاحتلال في أفكارها وقيمها وبرامجها وتعارضه فقط من حيث وجوده المادي المباشر على الأرض المصرية. بعبارة أخرى نخبة تعارض المشروع السياسي لدولة الاحتلال من حيث الشكل وليس من حيث المضمون. وقد حدد كرومر خصائص هذه النخبة بأنها غير معنية بالدين أو بالرابطة الدينية، "وحتى من يعلي منهم راية الجامعة الإسلامية فإنه يفعل ذلك لأغراض سياسية أو براجماتية". ومما حال بين هذه النخبة وبين الانخراط تحت راية الجامعة الإسلامية وفقا لكرومر، "أن معظم أفرادها لا يعتقدون أن مبادئ الإسلام التي نزل بها الوحي منذ أكثر من ألف عام، هدى لجماعة في حالة الفطرة، تصلح للتطبيق في هذا العصر"، "خاصة أن من هذه المبادئ ما يجيز الرق، ومنها ما يتضمن سننا وشرائع عن علاقة الرجال بالنساء مناقضة لآراء أهل العصر الحديث، ومنها ما يتضمن إفراغ القوانين المدنية والجنائية والملية في قالب واحد". وقد خلص كرومر إلى أنه ونظرا لهذه الأسباب تستنكر النخبة المهتمة بإصلاح مصر الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، أو تناصرها مناصرة ظاهرية فحسب. وقد أوصى كرومر الحكومة البريطانية بأن تبذل أقصى جهد لحماية هذه النخبة، لكي لا تجتذبها على حركة الجامعة الإسلامية، التي كان يعتبرها خصما صريحا لمشروع بلاده ومصالحها. قطاعات واسعة من النخبة المصرية الحالية تشترك في نفس الخصائص الموضحة أعلاه، فهي تبدي استنفارا مبالغا فيه ضد أي حديث عن ائتلاف إسلامي أو سوق إسلامية مشتركة، وتتعامل مع مسألة الامتداد الحضاري الإسلامي على أنها فكرة ذات طابع فلكلوري وليس أكثر من ذلك، وتعارض أي تفكير في استلهام الشريعة في مجالات الاقتصاد أو التشريع أو القانون، كما أنها لا تمانع في مغازلة الأجنبي وطلب العون والمساعدة منه، لمساعدتها ضد خصومها من الإسلاميين. أما الأسوأ على الإطلاق فهو استعدادها لتعريض مصلحة البلاد إلى الدمار المحقق، بترويجها لمقولات عن الوضع الداخلي تخدم الأجانب بالأساس ولا تأبه للمصالح الوطنية الداخلية. ولعل أكبر شاهد على ذلك هو ما تقوم به هذه النخب هذه الأيام من تنديد مبالغ فيه بالوضع الاقتصادي الداخلي، وتأكيدها في غير مناسبة أن هناك انهيارا حتميا يوشك أن يحل بالبلاد، واستخدامها لعبارات كارثية من قبيل أن الأزمة الحالية سوف تعصف بالاقتصاد المصري، أو تضعه على حافة الهاوية، أو تنتهي بالدولة إلى الإفلاس. وتستدعي لتأكيد وجهة نظرها مجموعة من التقارير الائتمانية الغربية، وأخرى عن معدلات النمو ونسب البطالة، ونسب من يعيشون تحت خط الفقر، بهدف رسم صورة مفزعة للأوضاع الداخلية. صحيح أن أداء الحكومة الحالية في المجال الاقتصادي يحتمل الكثير من النقد، وصحيح أن مشاريعها مازالت متلبسة بنفس أداء النظام السابق، الذي يميل إلى امتصاص الغضب الشعبي عبر التمادي في عجز الموازنة واللجوء إلى الاقتراض. ولكن هذا لا يعني أن تستثمر المعارضة هذه الأخطاء لتعرض البلاد بأكملها للخطر. ما يزيد من سلبية الدور الذي تقوم به هذه النخبة أنه في مجال الاقتصاد تؤدي التوقعات السيئة إلى نتائج سيئة، فالإلحاح على فكرة أن الاقتصاد المصري لا يمثل بيئة آمنة للمستثمرين يؤدي إلى هروب المستثمرين بالفعل، ففي هذا المجال للشائعات دور يفوق دور الحقائق. الأمر الذي يوحي أن حديثها لا يستهدف التحذير من مخاطر الوضع الاقتصادي بقدر ما يمثل محاولة منها لنقل لدفة الصراع ناحية الاقتصاد بعد أن انتهت معركة الدستور وخرجت منها هذه القوى خاسرة. يبقى القول إن ثمة فارقا بين النخبة الحالية والنخبة التي تحدث عنها كرومر في تقاريره، ذلك أن الأخيرة كانت، على أي حال، تبتغي ترقية مصالح البلاد وذلك من دون معارضة مصالح الغربيين، أما النخبة المعاصرة فلديها استعداد لأن تضحي بمصالح وطن بأكمله من أجل أن تحرز مكاسب سياسية ضيقة. هذه النخبة تصدر حديثها عن الأزمة الاقتصادية إلى الخارج كي لا يبعث باستثماراته إلى مصر ولا تسهم من جانبها بأي جهد في محاولة تحسين الأوضاع الداخلية أو انتشال الاقتصاد المصري من كبوته. وكأنها تتخيل أنها يمكن أن تصل إلى الحكم عبر تأييد ودعم الأطراف الخارجية التي تتوجه إليها بالنصح، وليس عبر أصوات الجماهير التي لم تنجح حتى الآن وبعد مرور عامين من الثورة في أن تقدم لها ما تحوز بها ثقتها.

532

| 02 يناير 2013

توضيح الواضحات

إذا استشكلت الأمور الواضحة، صار توضيحها من الصعوبة بمكان، وقديما قالوا "إن من المعضلات توضيح الواضحات"، ويثير ما يجري حاليا على الساحة السياسية في مصر هذه الصعوبة، حيث تفترق النخبة السياسية على بديهيات ما كان ينبغي التوقف لإيضاحها أو تفسير سبب الخلاف حولها، ومن ذلك ما يجري من جدل ولغط بمناسبة ظهور نتائج الاستفتاء على الدستور المصري بما يفيد موافقة أغلبية المصريين على مسودته، وهو ما لم تتقبله قوى المعارضة، التي أعلنت أن هذا الدستور لا يمثلها، وأنها رغم مشاركتها في الاستفتاء، وتصويتها بـ"لا"، فإنها لن تلتزم بالنتيجة التي تمخض عنها، وستستمر في معارضتها للدستور والتمرد عليه مهددة بإعلان العصيان المدني في مقاومته ومقاومة ما سيترتب عليه من آثار. هذا النوع من المعارضة لا يتضمن فقط إخلالا بقواعد اللعبة الديمقراطية كما يتعارف عليها السياسيون وعلماء السياسة، ولكنها تتصادم أيضاً مع قواعد المنطق التي تفرق بين القبول بقرار ما وبين الامتثال لما يتمخض عنه من نتائج. إذ لا يشترط أن يتقبل المرء قرارا ما لكي يتحمل بآثاره، والعديد من القرارات التي تتحرك بموجبها الشعوب هي قرارات لا تحظى برضا الكثيرين ولكن لا يعني هذا أن من يرفضها في حل من الالتزام بها. وتنطوي قصة الخلق الأول على ما يؤكد هذا المعنى فقد أخذ آدم عليه السلام قرار الأكل من الشجرة المحرمة، وهذا ما لا يتقبله الكثير من أبنائه المنحدرين من ذريته بطبيعة الحال، ولكنهم رغم ذلك تحملوا نتائج قرار أبيهم (الخروج من الجنة)، لأنهم كانوا في صلبه وقت خروجه، وهكذا أصبح من مفردات الحياة أن التحفظ على قرار ما لا يعفي من التحمل بما يترتب عليه من نتائج. صحيح أن من حق الرافضين للاستفتاء أن يستمروا في رفضهم له، ولكن لا يمكنهم أن يمتنعوا عن الإذعان للدستور الذي تمخض عنه، كما لا يمكنهم أن يعتبروا أنفسهم غير مشمولين بأحكامه. فالاستمرار في رفض الدستور الذي حاز على موافقة أغلبية المصريين يعكس خروجا على القانون نفسه، على اعتبار أن الدستور ما هو إلا مظلة لكافة القوانين. كما أن استمرار الاحتجاجات على نتيجة التصويت الشعبي يمثل استلهاما لديكتاتورية الأنظمة القديمة، التي كانت ترفض كل ما لا يتسق مع هواها، وتصبغ الواقع بصبغتها المنفردة وإرادتها المطلقة. والأسوأ من كل ذلك أنه لو تخيلنا أن جهود إسقاط الدستور قد نجحت وبلغت مسعاها فإن الثمن المباشر لذلك سوف يتضمن تلقائيا إسقاط الشرعية الجماهيرية وكتابة الفصل الأخير في عهد الديمقراطية الذي بدأ بالكاد في مصر. أما حديث المعارضة عن التزوير، والذي يستخدم لتبرير رفضها الاستفتاء ونتائجه، فإنه بحاجة إلى إثباتات وإلا ظل مجرد كلام مرسل. خاصة أن الأدلة التي يتم سوقها كبرهان على التزوير لا تكاد تقنع أحدا من فرط سذاجتها، مثل القول إنه تم التلاعب غير المباشر بالمواطنين عن طريق قيام أعضاء جماعة الإخوان بالتصويت ثم العودة للوقوف في طوابير لمزاحمة بقية المصوتين، أو الزعم بأنه تم منع الأقباط من التصويت، أو أنه صدرت أوامر للسلطة التنفيذية بعدم تحرير أي محاضر عن الانتهاكات التي شهدتها عملية الاقتراع، أو أنه تم قطع الكهرباء عن المحافظات التي لم تكن اتجاهات التصويت فيها في صالح الإخوان. هذه الروايات لا تثبت التزوير بقدر ما تؤكد محاولة مروجيها تصوير الدستور على أنه دستور جماعة الإخوان، وأنه مجرد حلقة فيما تسميه مسلسل أخونة الدولة واختطاف مؤسساتها، وهو اتهام لم يتعاط معه المصريون بالحماس الذي تتمناه المعارضة على أي حال. على المعارضة أن تفهم أن ثمة مسافة مازالت تفصلها عن الشارع الذي لم يقتنع بحججها، ولم تعجبه طريقتها القائمة على الهدم والتي مارستها وألحت عليها خلال فترة الإعداد للدستور. ولكن أهم ما ينبغي أن يتضح لها أن إصرارها على تحدي الاستفتاء وتهديدها بالانقلاب على نتائجه النهائية سوف يحمل للمصريين رسالة مفادها أن هذه المعارضة تمارس نوعا من التعالي إزاءهم، مما سيعمق الفجوة بينهما وسينعكس بالضرورة على النتائج التي ستحققها المعارضة في الانتخابات التشريعية القادمة. هذه الأخطاء المتراكمة لفريق المعارضة لا تعني أن الطرف الآخر من المعادلة السياسية لا يمارس بدوره أخطاء بديهية، ونعني بذلك تيار الإسلام السياسي وبخاصة جماعة الإخوان التي تتصور قطاعات كبيرة منها أن تصويت المصريين لصالح مسودة الدستور هو تصويت لصالحها. وأن الأغلبية التي حصلت عليها هذه المسودة هي تفويض جديد للجماعة والرئيس المنتمي إليها بأن يديروا البلاد في المستقبل بنفس الطريقة التي يديرونها بها حالياً. هذا التصور بحاجة إلى ما يرشده. ما ينبغي أن تدركه الجماعة هو أن الجماهير صوتت في الاستفتاء الأخير من أجل التحرك إلى الأمام وليس من أجل البقاء على الوضع الراهن. كما أن على الجماعة أن تعي أن قطاعات كبيرة من المصريين مازالت متحفظة بشأن طريقة إدارة الدولة المصرية، فمازال المصريون لا يفهمون من يصنع القرارات الرئاسية (الإعلان الدستوري قبل الأخير نموذجا)، ومازال المصريون لا يفهمون لماذا تحتفظ الرئاسة بجدار من السرية حول مستشاريها الحقيقيين، ومازال المصريون لا يعرفون إلى متى سيستمر التراجع والتخبط فيما يتم اتخاذه من قرارات، ومتى سيتحقق تجانس حقيقي بين ما يتم الوعد به وما يتم تنفيذه فعليا. والأهم من كل ما سبق أن المصريين بحاجة إلى أن يعرفوا أولويات الرئاسة المصرية ومشروعها السياسي والاقتصادي في مرحلة ما بعد إقرار الدستور.

9945

| 26 ديسمبر 2012

قصف العقول

يمارس الإعلام المصري هذه الأيام حربا مفتوحة على المصريين، يصدق في وصفها عنوان الكتاب الشهير، "قصف العقول" للمؤلف البريطاني فيليب تايلور. فما لم يرتد الإنسان خوذة واقية عندما يجلس أمام جهاز التلفاز، فإن عقله يصبح معرضا لأن يصاب بكافة أنواع الأسلحة الفتاكة التي يوجهها إليه الإعلاميون. وعلى حد مؤلف الكتاب المذكور أعلاه، فإن أسلحة الإعلام مثلها مثل الأسلحة التقليدية، قد أصبحت معقدة بشكل متزايد بفضل ما تحقق من تقدم في أنواع التكنولوجيا، بحيث أصبح الإعلام الآن وسيلة من وسائل الإرغام التي تنسف إرادة المقاومة لدى من يتعرضون له، فالهدف الرئيسي للأبواق الإعلامية التي تنعق صباحا مساء هو أن تحمل الناس على فعل ما لم يكونوا ليفعلونه لو أنهم لم يتعرضوا لمثل هذا الوابل من التضليل والتوجيه السلبي. ومن جانبهم فإن الإعلاميين، بعد أن تحولوا من مجرد ناقلين ومحللين للأخبار إلى صانعين لها، صاروا يستخدمون منابرهم لبث قذائف، يسمونها خطأ رسائل إعلامية. وذلك وبعد أن أصبحوا طرفا صريحا في المواجهة السياسية، وأعلنوا عن تحالفهم الكامل مع قوى العلمنة، التي تتسمى أحيانا بالقوى المدنية، بشكل لا يحتمل المواربة. الأمر الذي ترتب عليه أن أصبحت مفاهيم مثل الحياد المهني، وميثاق الشرف الإعلامي من مخلفات الماضي، وحلت محلها مفاهيم جديدة مثل الكيل بمكيالين، والفجور في الخصومة، وفرض الوصاية على الجماهير. ما ينذر بأن مصر قد أصبحت الآن تحت احتلال إعلامي غاشم مفروض بالقوة الناعمة على إرادة الناس وعلى وعيهم. الغريب في الأمر أن قصف العقول الذي يمارسه الإعلاميون بحق المصريين هو مما لا يحاسب عليه القانون ولا يدينه، وكأن عقول الناس لا يوجد ما يضمن لها الحماية، بل إن أي تفكير في ذلك، أي في حماية الناس من الرسائل السلبية للإعلام عبر إجراءات قانونية، يستغلها هؤلاء الإعلاميون لشن هجوم مضاد، باستخدام بكائيات تحمل عناوين مثل، قصف الأقلام، وتقييد حرية الإبداع، وتكميم الأفواه، إلخ، وهكذا فإن قدر الجميع أن يستمروا في المعاناة جرّاء عمليات قصف وتزييف الوعي التي تقوم بها معظم وسائل الإعلام في مواجهة المواطنين العزل. أما عن مظاهر التزييف في الإعلام المصري فهي متعددة، وقد تجلت مؤخرا في عدد من التناقضات التي نجح الإعلاميون في تمرير الكثير منها للرأي العام. فبمناسبة الاستفتاء الشعبي على مشروع الدستور، أوحى الإعلام للناس بأن تصويتهم بنعم على مسودة الدستور، يعني ضمنا الموافقة على أداء جماعة الإخوان المسلمين، وإعلان الثقة في أداء الرئيس محمد مرسي. وذلك رغم أن مسودة الدستور شارك في صياغتها أطياف مختلفة من القوى السياسية، ولكن نجح الإعلام في تأكيد هذه الفرية بحيث أصبح الكثير من الناس مقتنعين بأن أفضل طريقة لمعارضة جماعة الإخوان والرئيس المنتمي لها هو التصويت بلا وذلك كإجراء عقابي لهم على التعثر والارتجال الذي شاب أداءهم الفترة الماضية. ومن مظاهر التزييف الإعلامي أيضاً تبني القضية ونقيضها من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب، ففي حالة مادة الشريعة الإسلامية على سبيل المثال، ومن أجل دغدغة مشاعر المصريين، يتم التصريح بأن الجميع مع الإبقاء على المادة التي تجعل مبادئها مصدرا أساسيا للتشريع، ولكنهم رغم ذلك يحشدون بشراسة ضد المادة التي تحدد المقصود منا (المادة رقم 219)، وكأن المقصود أن تظل الشريعة شعارا لا مردود له في الواقع الفعلي. ومن التزييف أيضا تأكيد الإعلاميين في كل وقت على مكانة وأهمية مؤسسة الأزهر وذلك لكي يسحبوا البساط من تحت أقدام تيارات الإسلام السياسي، حتى إذا تم لهم ذلك أو كاد، ألحوا على استبعاده من كافة أوجه العمل العام، وذلك كما حدث عند تناولهم لنص مشروع الدستور في مادته الرابعة والتي تنص على أخذ رأي هيئة كبار العلماء في الأزهر في كل ما يتعلق بالشريعة، حيث اعتبر هؤلاء أن هذا وضع للمؤسسة الدينية في مواجهة الحكومة المنتخبة وصوروه على أنه ترجمة صريحة لفكرة الحكومة الدينية. ومن مظاهر التزييف الإعلامي أيضاً ما يتعلق بموقف الإعلاميين من المؤسسة العسكرية، فرغم أن قوى الإعلام دأبت في الماضي على التحذير من تدخل العسكر في السياسة إلا أنهم كانوا أبرز الداعين إلى بقاء العسكر في السلطة لفترة أطول، وكانوا أشد المتحسرين على انسحابهم من المرحلة الانتقالية قبل أن يتمكنوا من تهميش الإسلاميين. ولعل أبرز مظاهر التناقض في موقف قوى الإعلام هو ما كان من احتفائهم بالدعوة التي وجهها وزير الدفاع للقوى السياسية للحوار الوطني، وكأنهم كانوا يتمنون أن يتم هذا اللقاء لكي يحرضوا العسكر على العودة إلى الساحة السياسية من جديد. بمراجعة حصاد عامين مضيا منذ قيام الثورة المصرية، يمكن تبين أن الإعلام لم ولن يمل من محاولة قصف عقول المصريين بالكلمة المكتوبة والمسموعة والمرئية، ولم ولن ينسى القائمون عليه قضيتهم الأساسية المتمثلة في التحكم في سلوك المواطنين وتوجيههم إلى عكس قناعاتهم، صحيح أن هذا الصنف من الإعلام والإعلاميين يعلم بكراهية قطاعات عريضة من المواطنين له، ولكنه رغم ذلك لا يتراجع عن حربه التي يشنها ضد المصريين جميعا. لقد نجح هذا الإعلام السوداوي في أن يجعل المصريين جميعا مشدودي الأعصاب على نحو مستمر، وذلك عبر جرعات إعلامية سلبية، لا تلتزم المصداقية أو الحيادية في شيء، تحاول أن تقهر وعي الناس وإرادتهم. وبالفعل لم تعد الأجهزة العصبية لكثير من الناس تتحمل ما تتلقاه ليل نهار من هذه الرسائل السلبية، ولم تعد العقول قادرة على استيعاب كل هذا الكم من التعبئة والحشد الذي لا يهدف إلا إلى جعلها في حالة من الاستسلام الكامل. والسؤال الآن هو من عساه يعوض الناس جراء ما يتعرضون له من ضغوط عصبية ونفسية هائلة يمارسها عليهم الإعلام وهو في حل من أي مراقبة أو مساءلة أو إدانة؟

420

| 19 ديسمبر 2012

التاريخ لا يعيد نفسه

قديما قال الفيلسوف هرقليطس إنك لا تستطيع نزول النهر مرتين لأن مياه جديدة ستغمرك في كل مرة، ومعنى ذلك أن الظواهر التي تبدو متشابهة تماماً ليست متشابهة في حقيقة الأمر، فحتى لو حاول أحد أن يعيد إنتاج مشهد هو بطله الوحيد فإنه في الحقيقة لن يستطيع فعل ذلك. فمواقف الحياة التي نحياها أعقد من أن تتكرر بنفس التفاصيل، ويعرف دارسو العلوم الاجتماعية هذا الأمر جيدا، فلا يوجد مؤرخ يهتف لقد رأيت هذا الحدث قبل ذلك، كما قد يفعل عالم النبات عندما يرى ورقة شجر سبق وأن تعامل معها من قبل. ويفترض أن يشترك في فهم المعنى السابق علماء السياسية الذين يعلمون أنه لا يوجد نموذج نمطي للحروب أو للثورات أو للانقلابات. ولكن خرج علينا بعض خبراء المعارضة في مصر خلال الأيام الماضية لكي يؤكدوا بكل ثقة أن النظام الدكتور محمد مرسي مرشح لكي يلقى نفس مصير النظام السابق عليه، وأن ما يحدث في مصر ليس مجرد مظاهرات احتجاجية مؤقتة وإنما إرهاصات ثورة ثانية لاقتلاع النظام الحاكم برمته. مثل هذا التحليل لا يوجد ما يدعمه لا في مبادئ علم السياسة ولا في حقائق الواقع، ومن يقولون به هم إما سطحيون وإما أصحاب مصالح خاصة يحاولون تحقيقها من خلال ما يسمى بالنبوءات المحققة لذاتها، بمعنى أن يتنبأ المرء بنبوءة غير واقعية على أمل أو يؤدى ترديدها إلى تحققها فعليا على الأرض. فمن ناحية لا يمكن مقارنة النظام الحاكم في مصر بالنظام السابق، أو على الأقل هو لم يمكث في السلطة المدة الكافية للحكم عليه بذلك. صحيح أنه يرتكب أخطاء سياسية خطيرة، ويعاني من خلل واضح في آليات صناعة القرار وفي طريقة اتخاذه وتمريره، وصحيح أن ثمة تداخلات معيبة مازالت قائمة بينه وبين الجماعة التي انبثق عنها (جماعة الإخوان) لابد وأن يتم معالجتها والفصل فيها في أقرب وقت، إلا أنه بشكل عام نظام يتعلم من أخطائه ويطور، ولو ببطء، نظاما للتغذية الاسترجاعية التي قد تفيده في تصويب قراراته في المستقبل. ولعل أبرز مظاهر ذلك هو ما أقدم عليه خلال الأيام الماضية من تدارك لخطأ إصدار الإعلان الدستوري من دون تشاور مع أهل الاختصاص، الأمر الذي أتاح لخصومه ومعارضيه أن يتكتلوا ضده على نحو لم تواتهم الفرصة للقيام به من قبل. التراجع عن هذا الإعلان المعيب وإصدار آخر يتلافى معظم أخطاء الأول، يفيد أن النظام المصري يمتلك أدوات استشعار، يقيّم من خلالها ما يأخذه من قرارات، صحيح أن تكلفة هذا التراجع كانت كبيرة، حيث نشبت مظاهرات واندلعت مواجهات وسقط قتلى، ولكن على الأقل استفاد النظام درسا مهما وهو أنه حتى لو امتلك حسن النية وسلامة المقصد، فإنه لابد وأن يمرر قراراته من خلال إطار رصين، يخلو من الثغرات التي يسهل تصيدها من قبل القوى المضادة. من ناحية أخرى فإن الاحتجاجات التي تثور ضد النظام لا يمكن اعتبارها ثورة شعبية حقيقية، فالمعارضة أصبحت ملتبسة أشد الالتباس، ولم يعد واضحا الحدود التي تفصل بينها وبين قوى النظام السابق (الذي قامت الثورة ضده)، فكلاهما يتبني نفس الأهداف ويستخدم نفس الوسائل. وليس هذا التحليل من قبيل الرجم بالغيم ولكنه بناء على تصريح لأحد أهم قيادات هذه المعارضة، الدكتور محمد البرادعي، الذي كشف في مقال له، نشرته صحيفة الفاينانشيال تايمز، عن أن المعارضة التي يمثل أحد رموزها تتلقى الدعم والتأييد من قوى النظام السابق ضد المشروع الإسلامي الذي يريد الرئيس ومؤيدوه تحقيقه في مصر، على حد قوله. إدانة قوى المعارضة للرئيس رغم استجابته لمعظم مطالبهم، وترويجهم لمقولة أن النظام على وشك الانهيار بفعل ثورة شعبية كاسحة، هي إذن مزاعم دعائية غير مؤسسة على أدلة مقنعة، الأمر الذي يؤكد أن مشكلة المعارضة لم تكن القرارات الرئاسية التي حصنها الإعلان السابق من المساءلة، ولم تكن ما تضمنه هذا الإعلان من إهدار لمبدأ سيادة القانون، فقد تهاوت كل هذه اليافطات بمجرد صدور الإعلان الجديد، فلم يعد الرئيس الآن ذلك الديكتاتور الذي كانت قوى المعارضة تخوف الناس منه، واستعاد القضاء كافة صلاحياته بإزائه. ومع ذلك لم تتراجع المعارضة عن مواقفها المتشنجة. لقد نجح الإعلان الدستوري الأخير في دعم موقف الرئاسة وفي سحب الهواء من أشرعة قوى المعارضة التي كانت تستخدم ورقة استقلال القضاء وسيادة القانون من أجل الدعوة إلى التصعيد في وجه الرئيس المنتخب. ولم يعد يتبقى أمام هذه القوى إلا أن تحاول الحيلولة دون انعقاد الاستفتاء في موعده، فإذا فشلت في ذلك فإنها ستحشد في اتجاه التصويت بلا، فرغم أنها تدرك خطورة الاحتكام إلى الإرادة الشعبية المباشرة في تشكيل الجمعية التأسيسية الجديدة على حظوظها السياسية إلا أنها سوف تراهن على عامل الوقت، وعلى التدخل في التفاصيل. إن قطاعات واسعة من الجماهير سوى تقبل على التصويت على الاستفتاء وربما تعطي ثقتها لمشروع الدستور، الأمر الذي سيربك قوى المعارضة الطامحة إلى إعادة التاريخ وتكرار سيناريو الإطاحة بالرئيس السابق بكافة تفاصيله رغم اختلاف السياق والتفاصيل والمعطيات، والتي هي حتى هذه اللحظة في صف مؤسسة الرئاسة، ما لم تتخذ الأخيرة في الأيام المقبلة من القرارات ما يهتز به موقفها من جديد، كما حدث خلال قرارها المتسرع بزيادة الضرائب، والذي تم التراجع عنه بعد الإعلان عنه بعدة ساعات!

806

| 12 ديسمبر 2012

البلاء موكل بالمنطق

روى الخرائطي عن ابن مسعود أنه قال، إن البلاء موكل بالكلام، هذه المقولة تكاد تنطبق بشكل كامل على ما يحدث في مصر هذه الأيام. فالأداء السياسي الرسمي يعاني من أخطاء متكررة وكلمة السر فيها جميعا هي الخطاب المتسرع وغير المدروس. فالطبقة الحاكمة (الرئاسة وجماعة الإخوان) غير قادرة على أن ترشد من أدائها اللفظي، حيث تطلق بين الحين والآخر من التصريحات ما تعجز عن الوفاء أو الالتزام به، الأمر الذي جعل البعض ينظر إلى أدائها على أنه مجموعة من التراجعات المتواصلة. هذه الأخطاء المجانية والتي كان آخرها إصدار الإعلان الدستوري بصياغته المعيبة وضعت الرئاسة والجماعة في موقف الدفاع، وأتاحت الفرصة أمام خصومهما من كل المعسكرات لكي يتكتلوا أمامهما في سابقة لم تحدث منذ بداية الثورة المصرية. التكلفة السياسية للإعلان الدستوري الأخير أعادت إلى الأذهان توابع الاقتراض من صندوق النقد الدولي خلال الحقب الماضية، عندما كانت الحكومة تتعثر في تنفيذ الإصلاحات اللازمة للحصول على القرض، فيمتنع الصندوق عن دفع المزيد من الأقساط، وفي الوقت نفسه يستمر في احتساب الفائدة على إجمالي المبلغ المقترض، فينتهي الحال بأن تصبح الحكومة ملتزمة بدفع فائدة عن قرض لم تستطع الاستفادة منه. الرئاسة المصرية وقعت في فخ مماثل بإصدارها الإعلان الأخير، فهي لم تستطع الاستفادة الفعلية منه، ورغم ذلك تدفع بسببه ضريبة سياسية باهظة. فالرئيس المصري حصن قراراته من الملاحقة القضائية، ولكنه في حقيقة الأمر لن يستطيع أن يتخذ أي قرار استثنائي يستفيد في إطاره من هذا التحصين، كما أن الجمعية التأسيسية، التي استهدف حمايتها من قرارات المحكمة الدستورية، فرغت من عملها قبل موعد النطق بالحكم، ولم تعد في حاجة إلى ما يحميها من قرار بالحل كما حدث مع مجلس الشعب. ما ترتب على الإعلان الدستوري إذن إنه وضع النظام في مرمى وابل من الاحتجاجات والاعتراضات دون أن يمنح الرئاسة أي ميزة إضافية. ليس ثمة شك في أن المرحلة الحالية كانت تقتضي قرارات ثورية حقيقة، وهو ما تضمنته بعض مواد هذا الإعلان الدستوري، ولكن المنهج الذي استخدم في اتخاذ هذه القرارات قد أساء إلى المخرج النهائي، إذ يفترض نظريا أنه لو كان الرئيس قد استمع إلى مساعديه ومستشاريه لما خرج الإعلان بهذا الشكل الذي تسهل مهاجمته واستهدافه من قبل المعارضين. والأسوأ أن هذا الإعلان من غير المعلوم من اقترحه أو من صاغه بحيث يخرج بهذه الصياغة المعيبة التي لا يبدو أنها أخذت ردود الأفعال المعارضة في الحسبان. هذه الطريقة في الأداء السياسي من المتوقع أن توقع الرئاسة ومن ورائها الجماعة في مشاكل كثيرة ليس فقط مع مبغضيهم ولكن أيضا مع الجماهير المؤيدة لهم والتي منحتهم ثقتها في كافة المواجهات السياسية. هل يعني ما سبق أن الطبقة الحاكمة سوف تشهد تراجعا في الدعم الشعبي لقراراتها في المرحلة المقبلة؟ يمكن القول إن أوان هذا لم يحن بعد، فالجماهير التي طالما عارضت الكثير من المواقف الإخوانية السابقة أعطت مرشحي الإخوان رغم ذلك أصواتها في الاستحقاقات الانتخابية التي جرت منذ الثورة وحتى اليوم، ومن الواضح أنها سوف تستمر في عمل ذلك في الفترة المقبلة. وإذا مرت أزمة الاحتجاجات على الإعلان الدستوري على خير، وتم الاستفتاء على مشروع الدستور المقترح في موعده فإن الجماهير ستقف إلى جوار الرئاسة والجماعة هذه المرة أيضاً. ولكن يجب أن تعلم الرئاسة والجماعة معا أن التأييد الشعبي لهما ليس مطلقاً وأن له ضريبته التي سيتعين عليهم أن يدفعونها في وقت من الأوقات. فالجماهير التي خرجت في مليونية الثلاثاء الماضي تحت شعار الشرعية والشريعة تتوقع أن تجد من الإخوان حرصا فعليا على تطبيق الشريعة كما يفهمها البسطاء منهم، والقطاعات المعدمة التي تبتغي انفراجا في مستويات المعيشة تنتظر أن تجد ثمرة ذلك من وراء تأييدها للرئيس، وبشكل عام فإن الجماهير التي أعطت الرئيس والإخوان الفرصة تلو الفرصة تنتظر أن تجد مردودا ذلك في شكل إنجازات ملموسة. من ناحية أخرى فإن التكتل الشعبي المؤيد للرئاسة والجماعة، والذي يجد مقومات تماسكه في نزق المعسكر العلماني ومصادمته لمشاعر الجماهير، هذا التكتل يوشك أن تظهر في صفوفه اختلافات موضوعية بفعل تباين المواقف التي يتبناها كل طرف. صحيح أن الإعلام الليبرالي والنخبة العلمانية سوف يوفران على المدى القريب والمتوسط المبرر لاستمرار التأييد الشعبي الواسع لقرارات الرئاسة، إلا أن هذا لا يمنع أن استمرار الأخطاء السياسية يعرض هذا التماسك لمخاطر فعلية. ففي داخل المعسكر الإسلامي لن يكون محبذا أو مقبولاً أن يستمر الانفراد الإخواني بصياغة القرارات الكبرى، وما تم تمريره جماهيرا في الإعلان الدستوري الأخير لن يكون ممكنا تكراره في المستقبل في قرارات مماثله. أما التأييد السياسي داخل الجماعة والذي يعتمد على أبجديات السمع والطاعة فلن يلزم من هم خارجها ممن ليسوا مضطرين أن يلتزموا بنفس هذه المقومات في تعاطيهم مع القرارات الإخوانية. لا شك أن قطاعات واسعة ستمنح الدستور الجديد تأييدها، ولكن لا ينبغي أن تتصور الطبقة الحاكمة أن معنى ذلك مباركة الطريقة التي تستخدمها في إدارة البلاد، فالمصريون بعد أن تراجعوا عن استقالتهم وانخرطوا في الحياة السياسية إلى حد الانغماس يهدفون إلى أن تخصص لهم أدوارا حقيقية في عملية صناعة القرارات التي تخص مصائرهم، وهم بهذه الحيثية لن يكتفوا بلعب دور المتفرج، وسيطالبون قريبا جدا بمعرفة من يصنع قرارات الرئيس ومن الذين يستشيرهم من دون الناس، كما سيهتمون بالحصول على إجابة التساؤل: لماذا اتخذ الرئيس لنفسه هذه القائمة الطويلة من المساعدين والمستشارين طالما أن القرارات المهمة ستظل فردية لا يعرف أحد شيئا عمن قام بصياغتها أو من قام بإعدادها؟

703

| 05 ديسمبر 2012

حديث التوبة والثورة

عادة ما تنحصر الدروس المستفادة من حديث الرجل الذي قتل مائة نفس في أن التوبة ممكنة، وأن العلم أرفع قدرا من العبادة المجردة، فقد فشل العابد الذي لجأ إليه القاتل في أن يجد له مخرجا من ذنبه، فيما أدرك العالم بعلمه أن رحمة الله أوسع من ذنوب هذا القاتل، فأفتاه بأنه لا يوجد ما يحول بينه وبين التوبة حتى ولو كان قتل مائة نفس. أما الدرس الغائب، والذي لا يتوقف عنده الكثيرون في هذا الحديث، فهو الشرط الذي وضعه العالم للسائل لكي تكون توبته ممكنة، ألا وهو مغادرة قريته إلى قرية أخرى، معللاً ذلك بأن قريته تحوي قوم سوء، يصعب عليه التوبة وسطهم، ونصحه من ثَمَّ أن يهاجر إلى قرية صالحة بها أناس يعبدون الله فيعبده معهم. يتضمن هذا الدرس أن تغيير النفس قد يكون صعبا أو مستحيلا في أجواء معينة، وأن الأمر قد يتطلب مفارقة الأوضاع القائمة تماما حتى يمكن للتائب أن يجني ثمرة توبته، ويستشعر تغييرا حقيقيا في شخصيته. فمجرد الإقلاع عما تم الاعتياد عليه في الماضي لا يضمن حدوث التغيير المطلوب، ولا يضمن عدم الانتكاس من جديد إلى وضع ما قبل التوبة. وهذا هو نفس معنى "الثورة" التي لا يصبح لها هي الأخرى معنى لو ظلت مهادنة للأوضاع القائمة، متصالحة مع الواقع الذي ثارت عليه، متباطئة في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها. الثورة مثلها مثل التوبة تتضمن ضرورة مفارقة الأوضاع القائمة وتغيير الواقع إلى واقع جديد، ولا يعتد في ذلك بما إذا كان هذا التغيير يتم وفقا للقواعد والقوانين أم لا. فالثورة بوصفها خروج على النظام القديم هي عمل يعاقب عليه القانون، وهي في جانب منها ثورة على هذا القانون الذي يسمح للمستبد أن يمارس ظلمه بلا رادع. وعليه يصبح الاحتجاج بمعارضة الثورة للقانون احتجاجا قليل الأهمية. ولهذا يستخف الكثير من المصريين بالانتقادات القانونية التي توجه هذه الأيام إلى الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس المصري، الدكتور محمد مرسي، في الأسبوع الماضي. على اعتبار أن إصدار مثل هذا الإعلان أمر ضروري من وجهة نظر الكثيرين لاستكمال الثورة وتحقيق أهدافها، حتى لو جاء متعارضا مع سيادة القانون. فثمة قناعة لدى عموم المصريين أن مؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسات القضائية بطبيعة الحال، قد طالها الفساد في ظل النظام القديم، وأن تطهيرها يحتاج إلى قرارات استثنائية، وأن تركها دون تطهير كفيل بأن يؤسس لأوضاع تعيد منظومة الفساد القديمة إلى العمل بكامل طاقتها. ومما أسهم أيضا في دفع الكثيرين باتجاه القبول بالإعلان الرئاسي على الرغم مما يحتويه من تمرد واضح على السلطة القضائية أن الأخيرة كانت قد فقدت قدرا كبيرا من التعاطف الشعبي معها بسبب ما صدر عنها مؤخرا من أحكام شابتها انحيازات سياسية واضحة، مثل قرارها بحل مجلس الشعب، واستبعاد عدد من الرموز السياسية المهمة من خوض الانتخابات الرئاسية. وربما شجع هذا الإحباط الشعبي الرئيس بأن يقوم بخطوته الاستباقية الممثلة في إصدار الإعلان الدستوري حتى يحول دون إجهاض باقي خطوات استكمال مؤسسات الحكم. الانقلاب على الأوضاع القائمة كان إذن خطوة متوقعة ينتظرها الكثيرون من الرئيس المنتخب، بل كان ما يتعجب منه البعض أنه تأخر في القيام بذلك. ولعل المشاكل التي صاحبت صدور هذا الإعلان لا تنبع مما تضمنه من قرارات، بقدر ما تنبع من الطريقة التي تم بها إخراج هذه القرارات، فمستشارو الرئيس أكدوا أنه لم يتم مناقشتهم فيها أو إطلاعهم عليها قبل اتخاذها، الأمر الذي يشير إلى انفرادية مقلقة لا تتناسب مع خطورة ما تضمنته هذه القرارات من أبعاد سلطوية غير مسبوقة. من المشاكل الأخرى المرتبطة بهذا الإعلان أن الملابسات التي صاحبت إصداره أعادت إلى الذاكرة ما دأبت عليه جماعة الإخوان منذ بداية الثورة من عدم قدرة على الاستمساك بالمواقف التي يلزمون أنفسهم بها، مثل قرار الاقتصار على الترشح بثلث أعضاء مجلس الشعب فقط، والذي تم التراجع عنه لصالح قرار الترشح عن كافة المقاعد، وقرار عدم خوض الانتخابات الرئاسية والذي تم التراجع عنه أيضا بالدفع بمرشحين وليس مرشحا واحدا. الإعلان الدستوري يعيد إلى الذاكرة هذه التراجعات، وبخاصة بعد ما كان صدر عن الدكتور مرسي في بداية ولايته من تأكيد على تنفيذ واحترام أحكام القضاء، فإذا به يحصن قراراته إزاءه، مما يثير قلقا حول مدى النجاح الذي يمكن أن تحققه التجربة الإخوانية في الحكم، خاصة وهي تكرر خطأ التعهد بما لا يمكنها القيام به، وتقع في فخ التصريحات المتسرعة التي لا تأخذ عنصر الوقت وما ينطوي عليه من تغيرات في الحسبان. من مشاكل الإعلان الدستوري أيضا أن حزمة القرارات التي تضمنها أثارت ارتياب بعض المتشككين ممن ذهبوا إلى أن تصدير الإعلان بالحديث عن إعادة محاكمة قتلة الشهداء، وتفريع تحصين قرارات الرئيس والجمعية التأسيسية منه هو أمر مقصود على نحو ذرائعي، فهؤلاء يعتبرون أن المادة الأولى ما هي إلا طعم لتمرير ما تلاها من مواد، تماما كما فعل الرئيس الراحل أنور السادات عندما مرر مادة التمديد لرئيس الجمهورية مدى الحياة تحت غطاء المادة التي جعلت من الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. هذه المشاكل والشكوك تحتاج من الرئاسة المصرية أن تعيد النظر في المنهج الذي تتبعه لتحقيق أهداف الثورة، ومن ذلك ضرورة أن تصوغ قراراتها في هذا الصدد بعد عملية تشاورية مع المختصين والمستشارين، وأن تلزم نفسها فقط بما تستطيع الوفاء به من التعهدات والالتزامات، وأن تقدم مذكرة تفسيرية واضحة لبنود هذا الإعلان تزيل ما يصاحبه من قلق وشكوك لدى البعض. وذلك لكي تجنب البلاد الوقوع في انقسامات يتمنى الكثيرون استثمارها وتعميقها. ومن هنا يمكن القول إنه إذا كان تفكيك الدولة العميقة واجبا، فإن الحكمة في إدارة عملية التفكيك بما يسحب الهواء من أشرعة قوى الثورة المضادة أوجب.

424

| 28 نوفمبر 2012

أزمة قابلة للاستثمار

لا تفعل الهجمات الإسرائيلية الحالية ضد قطاع غزة أكثر من أنها تؤكد صورة إسرائيل ككيان معتد لا يمكن التعايش الآمن معه في إطار أي صيغة إقليمية مستقرة. فهذا الكيان لا يتورع من أجل مصالحه السياسية المحدودة عن أن يستهدف المدنيين العزل بقذائفه، بل هو حتى لا يتورع عن المتاجرة بأرواح مواطنيه، فهو يعرضهم لضربات المقاومة الانتقامية، لا لشيء إلا لكي يضمن للحكومة القائمة حاليا النجاح في الانتخابات القادمة بوصفها حامية حمى إسرائيل كما تدعي وتروج في دعايتها الكاذبة. ورغم فداحة العدوان إلا أنه يمكن استثماره على المستوى الشعبي وعلى المستوى الرسمي، فشعبيا يمكن للجماهير العربية والإسلامية أن تستغل هذا العدوان لإيصال رسالة واضحة للإدارة الأمريكية مفادها أن إسرائيل من خلال مغامراتها الإقليمية الحمقاء لن تكون رصيدا استراتيجيا للولايات المتحدة وإنما ستمثل عبئا يهدد استمرار واستقرار مصالحها في المنطقة، وفي هذا الإطار لا بأس من أن تستدعي الجماهير حالة استنفار شبيهة بتلك التي صاحبت أزمة الفيلم المسيء. فإذا كانت الجماهير الغاضبة قد وجدت ما يربط بين الإدارة الأمريكية وبين إنتاج فيلم رديء صور على أراضيها، فبالأحرى أن تجد ما يربط بين السيناريو الوقح الذي تنفذه الحكومة الإسرائيلية وبين الإدارة الأمريكية التي تجد دوما مبررات للعدوان الذي تمارسه حليفتها. بل إنه يمكن القول إن الرابطة التي تربط بين الاثنين أوضح بكثير في حالة الأزمة الأخيرة، فإسرائيل إنما تعول في عدوانها على الدعمين المادي والمعنوي الذي تتلقاه من الإدارة الأمريكية. من ناحية أخرى تعد الأحداث الجارية فرصة أمام أنظمة الربيع العربي وفي مقدمتها النظام المصري لكي تظهر استقلالا أكبر في تحركاتها الخارجية وفي تعبيرها عن مصالحها الإقليمية عن الولايات المتحدة. وذلك بتوقف هذه الأنظمة عن لعب دور الوكيل عن المصالح الأمريكية في المنطقة. ويتطلب هذا أن تتغلب الأنظمة المنتخبة على إغواء "الصداقة الأمريكية" الذي يسيطر على القادة في مثل هذه الظروف، فقد تناقلت وسائل الإعلام في الفترة الماضية الطلبات الحارة الموجهة للنظام المصري، بوصفه الصديق الأمريكي المخلص، لكي يستخدم نفوذه لوقف العنف، صحيح أن هذا الطلب الأمريكي يبث في النظام المصري ثقة يحتاجها في المرحلة الحالية، ولكن هذه الثقة لا ينبغي أن تتقدم على المطالب الشعبية التي تريد منه أن يعكس أهداف الثورة ومنها استقلال القرار الوطني وتعرية العدوان الإسرائيلي. لقد حور البعض الاسم الذي أطلقته إسرائيل على عمليتها العدوانية على قطاع غزة من "عمود السحاب" إلى عمود الأزمات، وهذا ما يجب أن يسعى التحرك السياسي والشعبي العربي والإسلامي إلى تأكيده، فالعدوان الإسرائيلي ضد الأراضي الفلسطينية لا ينبغي أن يمر هذه المرة مرور الكرام، وإنما ينبغي أن تتبلور نتائجه السلبية على شكل أزمات تتحملها النخبة الإسرائيلية، وأبسط مظاهر ذلك أن يتسبب هذا العدوان في عرقلة الطموحات الانتخابية لحكومة نتنياهو، كما يجب أن يكون من ثمرات ذلك تعميق هوة الخلاف بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية، بإشعار الإدارة الأمريكية بشكل أو بآخر أن دعمها غير المحدود وغير العقلاني لإسرائيل سوف يسفر عن نتائج سلبية على مصالحها الأكيدة في المنطقة. صحيح أن الانحياز الأمريكي للمصالح الإسرائيلية ليس مبنيا على اعتبارات منطقية يمكن تحديها أو إظهار عوارها بسهولة، ولكن حكومة نتنياهو قد ذهبت في لاعقلانيتها شوطا أبعد مما تستطيع الإدارة الأمريكية الحالية أن تبرره لناخبيها، فالإسرائيليون يظهرون حاليا وكأنهم ضد كل الجميع، فهم يعرقلون نهج التسوية الذي تتبناه السلطة الفلسطينية ويعارضون سعيها الحصول على اعتراف دولي من خلال الأمم المتحدة، كما أنهم في الوقت نفسه لا يستطيعون أن يحترموا التهدئة التي عقدوها مع الطرف الآخر من المشهد الفلسطيني ممثلا في حكومة حماس في القطاع. ولهذا فإن الفرصة مواتية على نحو أكبر هذه المرة لفضح الممارسات الإسرائيلية، خاصة أن الطرف الإسرائيلي قد بدأ تصعيدا لا يعرف كيف ينهيه، فالضربات الإسرائيلية لن تنجح في كسر إرادة الفلسطينيين ولن توقف صواريخ المقاومة، كما أن اغتيال القادة الميدانيين والزعماء السياسيين لن ينهي مشاكل دولة الاحتلال، فعناصر المقاومة قادرة على إحلال قيادات جديدة وشابة محل القيادات المستهدفة في كل مرة. أما خيار إعادة احتلال غزة فلا يمكن لنتنياهو أن يفكر فيه، وهو يعرف تبعاته التي لن تقل عن الإطاحة به خارج المشهد السياسي إلى الأبد. من ناحية أخرى فإن تمدد ظاهرة الربيع العربي، وتحول الأنظمة السياسية العربية إلى الطابع المدني في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن يزيد من عزلة إسرائيل التي أدمنت السلوك العسكري والحلول المسلحة الأمر الذي يجردها من مزاعمها التي كانت تتشدق بها من كونها واحة الديمقراطية الوحيدة في وسط محيط من الاستبداد العربي. الأحداث الراهنة تذهب بهذه الفرضية إلى عكس مدلولها تماماً، حيث تبدو إسرائيل كطرف شاذ يسعى للعنف ويحسم خلافاته بالقوة، في وسط محيط عربي ينحو ناحية التحرر من الاستبداد. الأمر المهم أن يتمتع هذا المحيط العربي الرسمي والشعبي بالفاعلية التي تمكنه من أن يردع هذا العدوان الإسرائيلي، وأن يخرج إسرائيل هذه المرة بهزيمة سياسية تحول بينها وبين التفكير في مغامرة شبيهة في المستقبل. لا تفعل الهجمات الإسرائيلية الحالية ضد قطاع غزة أكثر من أنها تؤكد صورة إسرائيل ككيان معتد لا يمكن التعايش الآمن معه في إطار أي صيغة إقليمية مستقرة. فهذا الكيان لا يتورع من أجل مصالحه السياسية المحدودة عن أن يستهدف المدنيين العزل بقذائفه، بل هو حتى لا يتورع عن المتاجرة بأرواح مواطنيه، فهو يعرضهم لضربات المقاومة الانتقامية، لا لشيء إلا لكي يضمن للحكومة القائمة حاليا النجاح في الانتخابات القادمة بوصفها حامية حمى إسرائيل كما تدعي وتروج في دعايتها الكاذبة. ورغم فداحة العدوان إلا أنه يمكن استثماره على المستوى الشعبي وعلى المستوى الرسمي، فشعبيا يمكن للجماهير العربية والإسلامية أن تستغل هذا العدوان لإيصال رسالة واضحة للإدارة الأمريكية مفادها أن إسرائيل من خلال مغامراتها الإقليمية الحمقاء لن تكون رصيدا استراتيجيا للولايات المتحدة وإنما ستمثل عبئا يهدد استمرار واستقرار مصالحها في المنطقة، وفي هذا الإطار لا بأس من أن تستدعي الجماهير حالة استنفار شبيهة بتلك التي صاحبت أزمة الفيلم المسيء. فإذا كانت الجماهير الغاضبة قد وجدت ما يربط بين الإدارة الأمريكية وبين إنتاج فيلم رديء صور على أراضيها، فبالأحرى أن تجد ما يربط بين السيناريو الوقح الذي تنفذه الحكومة الإسرائيلية وبين الإدارة الأمريكية التي تجد دوما مبررات للعدوان الذي تمارسه حليفتها. بل إنه يمكن القول إن الرابطة التي تربط بين الاثنين أوضح بكثير في حالة الأزمة الأخيرة، فإسرائيل إنما تعول في عدوانها على الدعمين المادي والمعنوي الذي تتلقاه من الإدارة الأمريكية. من ناحية أخرى تعد الأحداث الجارية فرصة أمام أنظمة الربيع العربي وفي مقدمتها النظام المصري لكي تظهر استقلالا أكبر في تحركاتها الخارجية وفي تعبيرها عن مصالحها الإقليمية عن الولايات المتحدة. وذلك بتوقف هذه الأنظمة عن لعب دور الوكيل عن المصالح الأمريكية في المنطقة. ويتطلب هذا أن تتغلب الأنظمة المنتخبة على إغواء "الصداقة الأمريكية" الذي يسيطر على القادة في مثل هذه الظروف، فقد تناقلت وسائل الإعلام في الفترة الماضية الطلبات الحارة الموجهة للنظام المصري، بوصفه الصديق الأمريكي المخلص، لكي يستخدم نفوذه لوقف العنف، صحيح أن هذا الطلب الأمريكي يبث في النظام المصري ثقة يحتاجها في المرحلة الحالية، ولكن هذه الثقة لا ينبغي أن تتقدم على المطالب الشعبية التي تريد منه أن يعكس أهداف الثورة ومنها استقلال القرار الوطني وتعرية العدوان الإسرائيلي. لقد حور البعض الاسم الذي أطلقته إسرائيل على عمليتها العدوانية على قطاع غزة من "عمود السحاب" إلى عمود الأزمات، وهذا ما يجب أن يسعى التحرك السياسي والشعبي العربي والإسلامي إلى تأكيده، فالعدوان الإسرائيلي ضد الأراضي الفلسطينية لا ينبغي أن يمر هذه المرة مرور الكرام، وإنما ينبغي أن تتبلور نتائجه السلبية على شكل أزمات تتحملها النخبة الإسرائيلية، وأبسط مظاهر ذلك أن يتسبب هذا العدوان في عرقلة الطموحات الانتخابية لحكومة نتنياهو، كما يجب أن يكون من ثمرات ذلك تعميق هوة الخلاف بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية، بإشعار الإدارة الأمريكية بشكل أو بآخر أن دعمها غير المحدود وغير العقلاني لإسرائيل سوف يسفر عن نتائج سلبية على مصالحها الأكيدة في المنطقة. صحيح أن الانحياز الأمريكي للمصالح الإسرائيلية ليس مبنيا على اعتبارات منطقية يمكن تحديها أو إظهار عوارها بسهولة، ولكن حكومة نتنياهو قد ذهبت في لاعقلانيتها شوطا أبعد مما تستطيع الإدارة الأمريكية الحالية أن تبرره لناخبيها، فالإسرائيليون يظهرون حاليا وكأنهم ضد كل الجميع، فهم يعرقلون نهج التسوية الذي تتبناه السلطة الفلسطينية ويعارضون سعيها الحصول على اعتراف دولي من خلال الأمم المتحدة، كما أنهم في الوقت نفسه لا يستطيعون أن يحترموا التهدئة التي عقدوها مع الطرف الآخر من المشهد الفلسطيني ممثلا في حكومة حماس في القطاع. ولهذا فإن الفرصة مواتية على نحو أكبر هذه المرة لفضح الممارسات الإسرائيلية، خاصة أن الطرف الإسرائيلي قد بدأ تصعيدا لا يعرف كيف ينهيه، فالضربات الإسرائيلية لن تنجح في كسر إرادة الفلسطينيين ولن توقف صواريخ المقاومة، كما أن اغتيال القادة الميدانيين والزعماء السياسيين لن ينهي مشاكل دولة الاحتلال، فعناصر المقاومة قادرة على إحلال قيادات جديدة وشابة محل القيادات المستهدفة في كل مرة. أما خيار إعادة احتلال غزة فلا يمكن لنتنياهو أن يفكر فيه، وهو يعرف تبعاته التي لن تقل عن الإطاحة به خارج المشهد السياسي إلى الأبد. من ناحية أخرى فإن تمدد ظاهرة الربيع العربي، وتحول الأنظمة السياسية العربية إلى الطابع المدني في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن يزيد من عزلة إسرائيل التي أدمنت السلوك العسكري والحلول المسلحة الأمر الذي يجردها من مزاعمها التي كانت تتشدق بها من كونها واحة الديمقراطية الوحيدة في وسط محيط من الاستبداد العربي. الأحداث الراهنة تذهب بهذه الفرضية إلى عكس مدلولها تماماً، حيث تبدو إسرائيل كطرف شاذ يسعى للعنف ويحسم خلافاته بالقوة، في وسط محيط عربي ينحو ناحية التحرر من الاستبداد. الأمر المهم أن يتمتع هذا المحيط العربي الرسمي والشعبي بالفاعلية التي تمكنه من أن يردع هذا العدوان الإسرائيلي، وأن يخرج إسرائيل هذه المرة بهزيمة سياسية تحول بينها وبين التفكير في مغامرة شبيهة في المستقبل.

287

| 21 نوفمبر 2012

التنابذ بالآراء

منذ فترة أجريت تجربة بسيطة بمساعدة مجموعة من الطلبة الجامعيين، لاكتشاف مدى اكتمال عمليات التفكير المنطقي لديهم، وكانت التجربة تتضمن أن يدونوا فقرة أو فقرتين من الذاكرة عن تمثال "نهضة مصر"، وهو لمن لا يعرفه تمثال شهير يقبع أمام البوابة الرئيسية لجامعة القاهرة التي يدرس بها الطلبة المشاركون في التجربة، ويجسد امرأة في ثوب تقليدي تضع إحدى يدها على رأس نموذج مصغر لتمثال أبي الهول الشهير، فيما تمسك باليد الأخرى بطرف وشاحها الذي يغطي رأسها. وكان المفترض أن تشتمل إجابات الطلاب على العمليات المنطقية الثلاث، وهي الوصف والتفسير والتقييم. بمعنى أن يبدأ الطلاب بوصف التمثال، ثم ينتقلوا إلى تفسير المعاني الرمزية الكامنة في مكوناته، وينتهوا بتقييم التمثال وإبداء رأيهم في تصميمه وفيما تضمنه من معان رمزية. ولكن جاءت المفاجأة أن معظم إجابات الطلبة قد اقتصرت على العنصر الثالث "التقييم"، إذ اهتم الطلاب بإبداء رأيهم في التمثال، فاعتبره بعضهم قطعة فنية جيدة، فيما اعتبره آخرون دون المستوى، والقليل من المشاركات من تقدم خطوة إلى الأمام فقدم تفسيراً للمعنى الرمزي للتمثال. أما ما خلت منه معظم الإجابات تقريبا فكان عنصر الوصف، إذ اعتبر معظم الطلبة أن الوصف مجرد تحصيل حاصل، وأن السائل لابد وأنه يعلم جيدا شكل التمثال كما يعرفونه هم، ومن ثم فلا حاجة للقيام بهذه الخطوة. وبعد أن أخبرت الطلاب بهذه الملاحظات المنهجية طلبت منهم أن يعودوا مرة ثانية إلى السؤال ويقدموا إجابات جديدة تحتوي العناصر الثلاثة. وهنا كانت المفاجأة، فبعد أن بدأ الطلاب في محاولة الإجابة مرة أخرى، اكتشف معظمهم أنهم لا يستطيعون وصف معالم التمثال بدقة رغم أنه يعترض أنظارهم كل يوم تقريبا، فبدأ البعض في محاولة استحضار شكل تقريبي للتمثال، فيما قدم آخرون أوصافا غير حقيقية له، ولكنهم وبدون استثناء تفاجأوا جميعاً عندما علموا أن المرأة المجسدة في التمثال تضع إحدى يديها على أبي الهول كرمز للأصالة فيما تهم بيدها الأخرى بنزع وشاحها عن رأسها كرمز للمعاصرة والتحرر، وذلك من وجهة نظر المثّال الذي أراد أن يوصل رسالته عبر هذا الرمز الخلافي بطبيعة الحال. كان الدرس المستفاد من هذه التجربة أن ما ينقص الكثير من عمليات التفكير قد يكون هو أبسط الخطوات، وهي خطوة الوصف السليم، فنحن لا نستطيع أن نفسر أو نقيم أي ظاهرة ما لم نقم بوصف ملامحها بدقة. فالتفكير الصحيح يبدأ بوصف المشكلة وصفا دقيقا، فبدونه يصبح التفسير بلا معنى كما يصبح التقييم بلا مضمون. يمكن تعميم نتائج هذه التجربة على نطاقات أوسع، وبخاصة هذه الأيام، لفهم المشاكل المصاحبة لعملية كتابة الدستور المصري. فالكثير من هذه المشاكل نابع من عدم تقديم توصيف دقيق للمواد محل الجدل، فمن خلال متابعة الجدل الدائر حول مواد الدستور لا نكاد نسمع سوى "تقييمات" تكاد تخلو من محاولة الوصف الدقيق أو التفسير الموضوعي للمواد محل الخلاف، الأمر الذي انتهى بالجدل حول مسودة الدستور إلى أن تكون مجرد مجموعة من الانطباعات الشخصية المتعارضة التي تهتم بإبداء الرأي بأكثر مما تهتم بسبر غور المعاني والمضامين. وفي الجدل الدائر حول مادة مبادئ الشريعة الإسلامية ما يلخص هذا الوضع بوضوح، فثمة خلاف محموم حول "تقييم" هذه المادة بين التيارات السياسية دون أن ينجح أي منها في تقديم تبرير مقبول لوجهة نظره بطريقة منطقية ومقنعة. فالتراشق بالآراء قد تجاوز كل الحدود واستخدمت في إطاره كل الاتهامات، وذلك دون أن يتبلور نقاش هادئ حول ماهية الشريعة وماهية مبادئها وما الفارق بين الاثنين. القفز على خطوات التفكير السليم لا يمارس من قبل الجمهور المتلقي فقط وإنما يمارس من قبل من قاموا بصياغة الدستور أيضاً، فهؤلاء لا يبررون للناس الأسباب المنطقية التي تدفعهم باتجاه صياغة المواد في شكل دون آخر، فأكثر ما يعنيهم أن يقدموا نصوصا توافقية ترضي أكبر عدد من الأطراف. ويتضح هذا الأمر على سبيل المثال في المادة الخاصة باحتكام أصحاب الشرائع الأخرى إلى مبادئ شرائعهم، والتي هي فضلاً عن ركاكتها تبدو مقحمة على الدستور ومفتقرة إلى التبرير المنطقي، فالواقع أن هذه المادة متحققة فعلياً من خلال مادة الشريعة الإسلامية، والتي تقضي بنفس المضمون الذي تنص عليه. ولكن جاء النص على هذه المادة داخل نفس الإطار الذي يقفز على المنطق ويبتغي التوافق دون أن يحدد ما الذي يتم التوافق حوله. الغريب أن هذه الصياغات التوافقية لم تنجح في إرضاء أحد حتى الآن، ويبدو أنها لن تنجح في المستقبل أيضا، فكل الأطراف تستشعر أنها لم تحصل على ما تستحقه، وكل طرف مازال يستشعر أن الأطراف الأخرى قد صبغت الدستور بصبغتها الخاصة. وقد انعكس هذا على الجماهير فهناك حالة من الارتباك العام بين صفوف المصريين، ففي داخل التيار الواحد توجد آراء متباينة، حتى أصبح من المتعذر قراءة الخريطة التي سيتم على أساسها التصويت على مشروع الدستور الجديد؛ فمن الإسلاميين من أسهم في وضع مسودة الدستور، ومن ثم فإنه يعتبرها أفضل ما يمكن الحصول عليه، ولكن منهم أيضا من يرفضها معتبرا أنها تتضاد مع ما سبق ووعد به ناخبيه من قبل، ومن العلمانيين من أسهم في الجمعية التأسيسية لاختيار وصياغة مواد هذه المسودة ولكنه ربما يحرض أتباعه رغم ذلك على رفضها متى طرحت للتصويت. فكرة أن الدستور سوف يخرج قاصرا عن طموحات كل فريق هو أمر لا يمكن تجنبه، ولكن المسيرة السياسية السليمة كفيلة بأن تصحح أخطاءها مع الوقت وبخاصة إذا ما توافرت الإرادة اللازمة لذلك. أما أن يصبح الدستور مساحة للتنابذ بين الفرقاء السياسيين فإن هذا مما يثير حالة من القلق حول شكل وطبيعة المرحلة المقبلة. ومن هنا فإن أحد أهم أدوار النخبة السياسية في مصر أن تتحول عن التنابذ بالآراء إلى النقاش العقلاني والمتزن حول المضامين، وأن تقدم دستورا منطقيا ومتماسكا حتى لو تمت التضحية في سبيل ذلك بقدر من التوافق الذي يستحيل تحقيقه على نحو مطلق على أي حال.

621

| 14 نوفمبر 2012

alsharq
من يُعلن حالة الطوارئ المجتمعية؟

في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم،...

6027

| 24 أكتوبر 2025

alsharq
الكرسي الفارغ

ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...

5067

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
النعش قبل الخبز

لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...

3720

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
نموذج قطر في مكافحة المنشطات

يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...

2811

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
غياب الروح القتالية

تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...

2406

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
أين ربات البيوت القطريات من القانون؟

واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...

1542

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
النظام المروري.. قوانين متقدمة وتحديات قائمة

القضية ليست مجرد غرامات رادعة، بل وعيٌ يُبنى،...

1314

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
وجبات الدايت تحت المجهر

لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...

1077

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
مستقبل الاتصال ينطلق من قطر

فيما يبحث قطاع التكنولوجيا العالمي عن أسواق جديدة...

990

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
وجهان للحيرة والتردد

1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...

984

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
القيمة المضافة المحلية (ICV)

القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...

864

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
كريمٌ يُميت السر.. فيُحيي المروءة

في زمنٍ تاهت فيه الحدود بين ما يُقال...

864

| 24 أكتوبر 2025

أخبار محلية