رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ثمة طريقتان للنظر إلى الظواهر والتعامل مع المشكلات؛ طريقة تفضل أن تتعامل مع الظواهر وهي في أقرب أوضاعها إلى السكون، وطريقة أخرى تقترب من الظواهر والمشكلات وهي في حالة حركتها وتفاعلها، ويمكن ملاحظة الفرق بين الطريقتين في الأسلوب الذي يفهم به البعض ظاهرة مثل الاستقرار، فالاستقرار يمكن فهمه على أنه مجرد طريقة للحفاظ على الوضع الراهن، كما يمكن فهمه على أنه مقدرة على التعافي والتغلب على التحديات. ووفقا للتعريف الأول، يتطلب الحفاظ على الاستقرار القبول بالوضع الراهن أيا كان، وتسخير كافة الإمكانات لاستدامة هذا الوضع على الرغم مما قد يشوبه من قصور وخلل. أما التعريف الثاني فيرتكز على تصور أكثر ديناميكية للاستقرار، لا يترادف بموجبه المفهوم مع الحفاظ على الوضع الراهن بقدر ما يشير إلى المقدرة على استعادة التوازن حال الخروج عنه بفعل فاعل. ورغم أن الإنسان قد خلقه الله سبحانه ليتدافع مع غيره من الأشخاص والأحداث والأشياء وفقا للمعنى الثاني للاستقرار، إلا أن الميل إلى السكون وتفضيل الوضع الراهن على غيره من الأوضاع يمثل رغم ذلك هدفا لدى العديد من الجماعات ذات النزعة المحافظة، ومنها لسوء الحظ العديد من الجماعات الإسلامية، التي قد تفضل القبول بالوضع الراهن على ما به من خلل درءا للفتنة وتجنبا للفوضى وحفاظا على الأمن إلى آخر ما يسوقه المنتمون إلى هذه الجماعات من تبريرات. وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم سلوك ممثلي التيار السلفي وجماعة الإخوان المسلمين إزاء التطورات التي شهدتها الساحة المصرية في الفترة الأخيرة، والتي يأتي على رأسها موقف الجماعتين إزاء أداء لجنة الانتخابات الرئاسية، ثم موقفهما من أحداث العباسية وما شهدته من مواجهات دامية، ففي كل هذه التطورات فضل ممثلو التيار الإسلامي من السلفيين والإخوان الركون إلى المعنى السلبي للاستقرار، عبر الحفاظ على الأوضاع على ما هي عليه وتجنب الدخول في مواجهات صريحة مع الأطراف المسؤولة عن هذه الأزمات. الأمر الذي أضفى على أداء الجماعتين الكثير من عدم الاتساق سواء مع المقولات الأساسية لهما أو مع سنن التدافع التي ركبها الله سبحانه في المنظومة الاجتماعية. أما عن التبرير الذي ساقه ممثلو الجماعتين لمواقفهما السلبية، فتمثل فيما رأوه من أهمية المضي قدما نحو عقد الانتخابات الرئاسية في موعدها مهما كان الخلل الذي يعتري إجراءات التجهيز لهذه الانتخابات وبغض النظر عما إذا كانت لجنة الانتخابات الرئاسية المسؤولة عن التحضير لها تمارس عملها وفق القانون أو وفق الهوى الشخصي لأعضائها، فالمهم هو الاستمرار حتى لا يرتبك الوضع الراهن، وحتى لا تنشأ عوامل تعوق استمرار مسيرة التحول. هذه الطريقة في التفكير والأداء تسببت بعد ذلك في عزوف ممثلي الجماعتين عن محاولة حل العديد من الألغاز المرتبطة بأداء اللجنة العليا للانتخابات، ومنها على سبيل المثال لغز استبعاد أحد رموز النظام السابق من السباق الانتخابي بناء على قانون أقره مجلس الشعب وصدق عليه المجلس العسكري ثم السماح له بالعودة مرة أخرى للسباق الرئاسي. كما أفصحت هذه الروح التهادنية لممثلي هذه التيارات عن نفسها على نحو واضح عقب نشوب موقعة العباسية وما شهدته من مواجهات اقتربت في دمويتها مما يقوم به شبيحة النظام السوري من قتل للمعتصمين بدم بارد، وتمثيل بجثثهم، ومن اقتحام للمسجد وتوقيف للفتيات، وفرار للبلطجية بمجرد ظهور قوات الشرطة العسكرية، وعدم تمكن قوات الأمن من اعتقال أي فرد منهم، فيما تنجح في اعتقال ما يقارب المائتي متظاهر. ويخشى أنه إذا ما استمر ممثلو التيار الإسلامي على هذه البراجماتية المفرطة، أن يدفعوا ثمن ذلك خصما من رصيدهم الشعبي. وبخاصة عند جمهور الشباب الذي يزن الأمور بمعايير مبادئه وما يؤمن به بأكثر مما يزنها بمعايير المصالح والمفاسد وما قد تمليه من براجماتية على من يلتزمون بها في الحكم على الأشياء. كما أن ممثلي التيار الإسلامي عليهم ألا يتفاجأوا إذا ما اكتشفوا أن قطاعا كبيرا من جماهير المصريين سيستخدمون نفس معيارهم عند اختيار مرشح الرئاسة، وعليهم في هذه الحالة ألا يتوجهوا لهؤلاء بالنقد، فمن خلال معيار السعي نحو الاستقرار سوف تذهب قطاعات كبيرة من الجماهير لتأييد أحد مرشحي النظام القديم للإتيان به إلى كرسي الرئاسة، فالاستقرار من وجهة نظر الكثير من الناخبين هو استعادة نفس الأوضاع التي كانت عليها البلاد قبل الثورة، بما يعني استعادة منظومة العلاقات القديمة، وهذه من وجهة نظرهم لا تتحقق إلا من خلال أحد الوجوه التقليدية للنظام القديم. لقد كان الإسلاميون هم أولى الناس بعدم القبول بمهادنة الأوضاع الخاطئة. ولكن يبدو أنهم يفوتون حاليا هذه الفرصة من خلال جملة من المواقف البراجماتية والمتهادنة. فهل يعي ممثلو التيار الإسلامي مدى خطورة ذلك، وهل يدركون أنهم بتشجيعهم لسياسات الوضع الراهن إنما يشجعون الجماهير أن تمارس الاختيار في الانتخابات الرئاسية المقبلة وفقا لذات المعايير. إن تفضيل منطق السكون على منطق التدافع في هذه اللحظة الفاصلة من عمر الثورة المصرية يمكن أن يؤدي بالكتلة الغالبة من جماهير المصريين إلى نتيجة معاكسة تماما لما ترمى إليه الكتلة الإسلامية من وراء تراخيها الظاهر في التعاطي مع مشكلات المرحلة الانتقالية، فيما سيمثل خصما خطيرا من رصيد المشروع الإسلامي قد لا يمكن للقائمين عليه تداركه في المستقبل.
821
| 09 مايو 2012
لا جدال في أن ما قامت به جماعة الإخوان المسلمين فى الأيام الماضية من تراجع عن تعهدها بعدم الدفع بمرشح للرئاسة يعصف على نحو كامل بالشعار الذي رفعته الجماعة منذ بداية المرحلة الانتقالية "مشاركة لا مغالبة"، ويضعها في مواجهة مع معظم قطاعات الشعب المصري. فقد أدى هذا التراجع بالإخوان إلى الظهور بمظهر الجماعة التي تستخدم بنيتها التنظيمية المحكمة وقدرتها على الحشد الآلي لأصوات أتباعها للاستحواذ على قمة هرم السلطة وذلك بغرض فرض الوصاية الكاملة على الشعب المصري الذي تظنه بعض قيادات الإخوان غير قادر أو مؤهل على أن يختار خارج ما تقدمه الجماعة له من بدائل. وبناء على هذا التفكير الوصائي فقد قررت الجماعة أن تتدخل في اللحظات شبه النهائية للدفع بمرشحها للرئاسة، لتقلب الطاولة على الجميع ولسان حالها يقول للمصريين بأنه لا فائدة فيما بذلتم فيه أوقاتكم وجهودكم من المفاضلة بين المرشحين، فقد نزلت بمرشحي للحصول على المنصب، أيا كانت قناعتكم أو أراءكم بشأن من يستحقه. المسكوت عنه فيما قامت به الجماعة هو أنها ترى أنها أحق من الجميع بتحديد مصلحة الوطن وأقدر من الجميع على إنقاذ الثورة والحفاظ عليها، غير أنه ثمة فارق بين إنقاذ الثورة وإنقاذ الثورة عن طريق الإخوان فقط، فلو كان صحيحا أن الإخوان قد اضطروا إلى الدفع بمرشحهم لهذا الهدف، فما كان أسهل أن يقوموا بذلك من خلال دعم واحد من المرشحين الموجودين بالفعل، خاصة وأن أحدهم كان محسوبا على الجماعة (عبد المنعم أبو الفتوح) وتم فصله من صفوفها لمجرد أنه قام بنفس الخطوة التي تقوم بها الجماعة الآن من الترشح لمنصب الرئاسة. وأيا كان الأمر فإن تراجع الإخوان عن موقفهم بعدم الترشح مدان في جميع الأحوال، فإذا كان ما ألزمت به الجماعة نفسها فى السابق قرارا خاطئا فإن هذا يثير تساؤلات حول عجز جماعة —لها هذا الوزن وهذه الخبرة الطويلة—عن اتخاذ المواقف المبدئية المناسبة، وكذا حول عدم قدرتها على قراءة المشهد السياسي وفق منظور مركب يراعي تطور الأحداث ويعول فقط على اللحظة الراهنة في تقييم المواقف، أما إذا كان القرار بعدم الترشح سليما ومع ذلك تم التراجع عنه، فإن هذا بدوره يثير علامات استفهام عدة حول مدي قدرة الجماعة على الالتزام بما تقطعه على نفسها من تعهدات وكذا حول مصداقيتها في التمسك بما ترى، أو بما كانت ترى، أنه في مصلحة الوطن. أما بخصوص المشاكل العملية التي ستترتب على هذا التراجع فتضم قائمة طويلة من السلبيات من أبرزها أن هذا القرار سيقصر التأييد الذي ستحظى به الجماعة في انتخابات الرئاسة المنتظرة على أعضائها فقط، وسيكشف العدد الحقيقي لأنصارها في الشارع المصري، الأمر الذي يتوقع أن يفقدها قدرا كبيرا من صيتها الذي كانت تتمتع به فى السابق، حينما كان التصويت لصالحها يتداخل مع التصويت لصالح المشروع الإسلامي بشكل عام، وحين كان كثير من الناخبين غير المنتمين للجماعة يصوتون لصالحها تشجيعا للفكرة الإسلامية التي اعتاد المصريون على تصورها موحدة ومتجانسة. قرار الجماعة الدفع بمرشح رئاسي في هذا التوقيت الذي حسم فيه معظم المصريين خياراتهم على نحو شبه نهائي فى إطار المطروح من المرشحين، سوف يولد إذن حالة من التصويت العقابي ضد الجماعة وضد مرشحها من قبل الناخبين الذين يرفضون ما يبدو أنه إحساس بالزهو التنظيمي للجماعة. القرار الإخواني سوف يترك أيضا آثارا سلبية لدى قطاعات كبيرة من المصريين ممن سيساورهم القلق من أن يمثل التراجع عن الوعود والتحلل من الالتزامات تحت ضغط "الظروف" دأب الجماعة فيما ستأخذه على نفسها من تعهدات في المستقبل، سواء إزاء الناخبين أو إزاء العملية السياسية التي أتت بالإخوان إلى الحكم. فحال نجاحها فى الاستئثار بهذا المنصب فإن الـ"ظروف" قد تدفع الجماعة إلى التفكير في تغيير الدستور لصالح التمديد لرئيس الجمهورية لفترات غير محدودة، أما حال الفشل فى الانتخابات الرئاسية فإن "الظروف" قد تدفعهم إلى التحول صوب النمط البرلماني لضمان السيطرة على مقاليد الحكم من خلال الأغلبية البرلمانية، بل إن "الظروف" قد تدفع الجماعة والحزب المنبثق عنها إلى أن تضيق يوما ما بالمعارضة الموجهة لأدائها، ومن ثم يضطران إلى العودة إلى نفس سياسات النظام القديم فيما يتعلق باستبعاد الخصوم أو تهميشهم أو التضييق عليهم. هذه الشكوك من الطبيعي أن تشحن كثيرا من المصريين معنويا ضد الجماعة، خاصة وهم يرونها تحاول الاستحواذ على المزيد من السلطات، لا عن كفاءة لا تجد لها متنفسا فيما هو تحت يدها من مقدرات (البرلمان)، وإنما فقط استنادا إلى كتلة تصويتية مضمونة من المنتمين تنظيميا لها، ممن لن يجدوا صعوبة في تطويع وجهات نظرهم وقناعاتهم وفق بوصلة الجماعة وليس وفق بوصلة المنطق أو التفكير المستقل. وما قلق الكثيرين من قرار الإخوان المتأخر إلا لعلمهم بطبيعة هذا الكتلة الملتزمة بقرار الجماعة من دون أن تعمل العقل فيه أو التي تعمل العقل فقط من أجل البحث عن تبريرات لما اتخذته قيادتها من قرارات. ويبقى السؤال هو: هل التراجع عن المواقف المبدئية وعدم الاكتراث برأى الشارع هو ما يريد الإخوان أن يقدموه للمصريين وللعالم كنموذج للممارسة السياسية المنطلقة من مرجعية إسلامية، وهل يمكن أن يتم الوثوق مستقبلاً بأى تعهد يقطعه الإخوان على أنفسهم في إطار هذه السابقة القادحة فى المصداقية؟ الأمر المؤكد أنه حتى لو فاز مرشح الإخوان بمقعد الرئاسة فإن تكلفة ذلك ستكون فقدانهم جزء كبير من ثقة المصريين بهم، فما جدوى قرار تكون نتيجته تآكل مصداقية الجماعة لدي القاعدة الشعبية اللازمة لاستمرارها في الحكم؟ لا شك أن الأيام المقبلة سوف تجبر الإخوان وحزبهم السياسي على تقديم إجابات قد لا تكون مريحة عن هذه الأسئلة.
434
| 03 أبريل 2012
على الرغم من كل ما يقال عن النية لتقليص دور الرئيس في الدستور القادم، فإن موقع ومنصب الرئاسة مازال يحتل مساحة كبيرة من اهتمام المصريين وتقديرهم. هذا التقدير هو ما جعل كثير من المصريين في السابق يرفضون فكرة الخروج على الحاكم حتى لو قادهم وقاد بلدهم من كبوة إلى أخرى. ولهذا رأى البعض أن الثورة التي قام بها المصريون على مبارك مثلت طفرة فى الشخصية والعقلية المصرية، على اعتبار أنها جاءت من شعب يميل إلى التوحد في الغالب مع حاكمه ولا يفكر في الانقلاب عليه حتى في أحلك الظروف. وعلى الرغم من أن هذا التقييم يبدو صحيحا في جانب كبير منه، إلا أنه لا يعني أن المصريين بعد أن قاموا بثورتهم قد تخلوا عن اعتقادهم بأهمية منصب الرئاسة أو محورية دور الرئيس. فما زال الطموح الأساسي لدي كثير من المصريين أن يحل حاكم أفضل محل الحاكم الذي رحل، ومازال الكثيرون يعولون على الرئيس المنتظر في أن يقوم بإصلاح ما عجزت بقية مؤسسات الدولة حتى الساعة عن تحقيقه. وعليه يمكن القول إن كل الترتيبات المزمعة في الدستور الجديد، والمتعلقة بتقليص صلاحيات الرئيس وتحديد دوره، لن تقلل من توقعات المصريين بخصوص ما يستطيع الرئيس القادم أن يفعله، ولن تقلل من اهتمامهم بالانتخابات الرئاسية، وهو الاهتمام الذي تطور لدى البعض، أو بالأحرى لدى الكثيرين، إلى حد اتخاذ القرار المدهش بالترشح الشخصي لشغل منصب رئيس الجمهورية الأمر الذي جعل من كثرة أعداد المترشحين أولى الإشكالات التي صاحبت انطلاق سباق الرئاسة المصرية. ويعكس هذا الإقبال المبالغ فيه على الترشح لمنصب الرئيس، في قدر كبير منه، طموحا تلقائيا من أناس بسطاء ربما أرادوا التأكد من تحررهم الفعلي من حالة الفرعنة السياسية التي كبلتهم طوال العقود الماضية. ولكن بغض النظر عن النوايا الطيبة لدى هؤلاء فإنه من المفهوم أنه لن يتمكن سوى عدد قليل منهم من استيفاء شروط الترشح، وتحديدا أولئك الذين يتمتعون إما بالشعبية المناسبة أو بالقدرة على إقناع العدد اللازم من نواب مجلسي الشعب والشورى للحصول على توكيلاتهم، وحينها فإن التحدي الأساسي الذي سيواجه هؤلاء المرشحين سيتمثل في مدى نجاحهم في الخروج من أسر الدعاية اللفظية والوعود الفضفاضة لصالح كسب ثقة الناخبين على أساس من البرامج الفعلية. فمن خلال هذا المعيار ستتم المفاضلة بين من سيتبقى من هؤلاء المرشحين في المراحل المتأخرة من السباق الانتخابي. وبخلاف كثرة أعداد المترشحين ومدى جدية برامجهم الانتخابية فإن من الإشكالات المرتبطة بهذا السباق الانتخابي أن من يخوضونه يطمحون لشغل منصب لا يعرفون طبيعة صلاحياته، فالحاصل أنه لم يتم بعد الاستقرار على طبيعة النظام السياسي بفعل عدم البدء في كتابة دستور البلاد. ومن الوارد، وإن كان باحتمال ضعيف، أن ينعقد قرار الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور على اختيار النمط البرلماني الذي يحكم فيه حزب الأغلبية من خلال البرلمان. وحينها لن يصبح لمؤسسة الرئاسة ولا لشخص الرئيس من أهمية سوى الأهمية الشرفية كرمز للدولة وليس أكثر، الأمر الذي سيقلل من رغبة الكثير من هؤلاء المرشحين في الاستمرار في السباق الانتخابي، خاصة وأن الجادين منهم يتبنون برامج طموحة لا تتناسب مع النظام البرلماني الذي يعطي كافة الصلاحيات للحكومة والبرلمان. ومن الإشكاليات التي تثيرها هذه الانتخابات أيضا تعدد المرشحين الممثلين لكل تيار، فمن داخل التيار الإسلامي يوجد ما يزيد على الأربعة مرشحين، ومن داخل التيار العلماني وممثلي النظام القديم يوجد أيضا اكثر من مرشح. هذه الوفرة فى عدد المرشحين الممثلين لكل تيار سوف تؤدي بالضرورة إلى تفتيت الأصوات، خاصة في ظل عدم استقرار الأحزاب الكبرى على دعم مرشحين بعينهم، فمازال الحزبان الكبيران في البرلمان (الحرية والعدالة والنور) مترددين حول من يدعمون لمنصب الرئيس، في الوقت الذي شهدت فيه القواعد البرلمانية لهذه الأحزاب ميلا لصالح مرشحين لم تزكهم قياداتهم. والمشاهد أنه حتى مع تأكيد هذه الأحزاب على نوابها عدم التسرع في تأييد مرشحين بعينهم، إلا أن الكثير من هؤلاء قد خالفوا هذه التوصيات، الأمر الذي ترتب عليه حالة من الانقسام التي طالت في بعض الأحيان الهيئات العليا لبعض هذه الأحزاب. وقد بنت هذه الأحزاب مواقفها في هذا الخصوص وفق حسابات معقدة. فحزب الحرية والعدالة مثلاً يخشى من أن يلقي بثقله خلف مرشح إسلامي، فتصبح كل من مؤسسة البرلمان والرئاسة محسوبتين على التيار الإسلامي، فإذا ما تعثر هذا الرئيس في الخروج بالبلاد من مشكلاتها، أو تأخر نجاحه المنشود في مواجهة الأزمات، فإن هذا التعثر أو التاخر سيسجل كشهادة فشل في حق المشروع الإسلامي برمته، الأمر الذي قد يلغي أي احتمال لفوزه في المستقبل بثقة المواطنين، ولذلك تبني هذا الحزب فكرة الرئيس التوافقي على اعتبار أن نجاح مثل هذا الرئيس سوف يحسب لكافة التيارات التي شاركت في اختياره، كما أن فشله لن يحسب على فريق دون غيره. أما حزب النور فهو يخشي مما يبديه المرشحون الإسلاميون الحاليون من استقلالية في القرار وعدم اهتمام بالرجوع إلى المرجعيات الشرعية فيما يتخذونه من مواقف الأمر الذي يثير لديهم قدرا من التردد فى مساندة أيا من الأسماء المطروحة للرئاسة. وأخيرا وليس آخرا فإن من التحديات المرتبطة بانتخابات الرئاسة أيضا أن كثيراً من المصريين ممن لهم حق التصويت فيها يشغلون أنفسهم بموقف الدول الكبرى من الرئيس القادم بأكثر مما يهتمون بمقدرته على مواجهة الأزمات الداخلية وإيجاد حلول لها. هذه الخاصية من الاهتمام بالخارج على حساب الداخل ترسخت فى وجدان الكثير من المصريين بفعل اعتبارات متعددة، أهمها ما نجح النظام السابق في تأكيده من أن للخارج يد طولى في التاثير على الأوضاع الداخلية وفي تغيير موازيين القوى الإقليمية. وربما لهذا السبب يتخوف الكثيرون حتى من المتعاطفين مع التيار الإسلامي من فكرة اختيار مرشح ذي توجه إسلامي في هذه المرحلة، ليس لقناعتهم بضعف قدراته، ولكن لقناعهتم بأن مثل هذا المرشح لن يكون محل رضى الغرب الأمر الذي سيقلل فرصه في النجاح. من جانبهم يختلف مرشحو الرئاسة فى التعاطي مع التحديات السابقة، فلكل منهم أسلوبه وطريقته فى التعامل مع ما يقلق الرأى العام أو ما تتخوف منه الأحزاب، هذه التباينات بين مواقف المرشحين، وقدراتهم الشخصية وبرامجهم العملية تشكل موضوعات مستقلة جديرة بالمناقشة والتحليل فى مقالات لاحقة إن شاء الله.
325
| 20 مارس 2012
تعود أصول التنظيم الدولي الراهن إلى أربعينيات القرن الماضي، حينما اجتمعت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، ووضعت قواعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة لكي تشكل الكيان المسؤول عن حفظ السلم والأمن الدوليين ومنع نشوب الحروب بين الدول، ولكن المنتصرين حينها عملوا على أن يحتفظوا لأنفسهم بالسلطة العليا في المنظمة الجديدة وبالأخص في مجلس الأمن، بحكم كونه الجهاز الوحيد الذي خول حق استخدام القوة، كما احتفظ المنتصرون لأنفسهم بحق الاعتراض على أي قرار قد تحاول الدول الأخرى تمريره عبر هذا المجلس فيما يتعارض مع مصالحهم. وبفعل هذه التركيبية الاستثنائية لم تستطع المنظمة الدولية أن تعكس قواعد العدالة في كثير من الأزمات، واتسم أداؤها دوما بالتحيز لصالح الدول الكبرى التي وضعت هذه القواعد المجحفة. واليوم وبعد مرور ما يزيد على الستة عقود من عمر هذه المنظمة برزت أوجه أخرى لقصورها مثل عدم صمود أساسها التنظيمي أمام التغيرات في توازنات القوى الفعلية، فميزان القوى الراهن يتباين بشدة عن ذلك الذي ساد وقت وضع ميثاق المنظمة، والأهم من ذلك أن عددا من الدول التي خرجت منتصرة من الحرب ونصبت من نفسها راعية للسلم والأمن الدوليين لم تعد راغبة في القيام بهذا الدور في عالم اليوم، بل إن من هذه الدول من يصر على حماية المعتدين ويوفر لهم المظلة اللازمة للاستمرار في خرق السلام وانتهاك حرمة الحياة الإنسانية. هذا التقييم السلبي لأداء المنظمة الدولية يستدعيه موقف بعض أعضائها الدائمين تجاه الأزمة السورية، فالعدوان الذي يمارس بحق الشعب السوري والعجز الفاضح الذي تبديه المنظمة الدولية الأكبر في العالم إزاءه كفيل بإعادة النظر في الوزن الذي يتمتع به هؤلاء الأعضاء داخل هذه المنظمة. فقد تأكد بما لا يدع مجال للشك أن المنظمة الدولية وفقا لتركيبتها الراهنة تعاني من عجز هيكلي عن وقف مسلسل المذابح اليومية التي تجري في المدن السورية، وتساهم، من خلال ممارسات بعض أعضائها الدائمين، في منح نظام الأسد تصريحا مستمرا بالقتل من دون رادع. هذا العجز الهيكلي هو ما يدفع باتجاه إعادة النظر في مدى ملائمة الصيغة الحالية للمنظمة الدولية في التعامل مع ما هو قائم من أزمات ومشكلات ومدى فاعليتها في وضع حلول ناجزة لها. إن التحول عن الشكل الحالي للمنظمة الدولية وما يمنحه من امتيازات لعدد من الدول، باتجاه شكل جديد أكثر تعبيرا عن قواعد العدالة والمساواة ليس بدعا من الأفعال، فالخبرة التاريخية المعاصرة تبين أنه عقب التعثر الذي عانت منه منظمة دولية سابقة على الأمم المتحدة، تمثلت في عصبة الأمم، لم تتردد الدول الأعضاء بها في الانقلاب عليها بعد أن اتضح لها أنه ليس ثمة مبرر لاستمرارها. فإذا أخذنا في الحسبان أن عصبة الأمم لم تستطع الصمود لأكثر من 25 عاما، فإن من الغريب أن يتم الإصرار على بقاء التنظيم الدولي بصورته الحالية لأكثر من ستة عقود كاملة، رغم كونه واجه من المشكلات ما يتفوق به على مجمل ما تعرضت له العصبة، ورغم حجم التغير الذي لحق بكافة التفاصيل التي صاحبت نشأته الأولى، وأبرزها التغير فى الأوزان النسبية للدول التي اعتبرت نفسها صاحبة حق في التميز على الآخرين وعلى ترسيخ هذا التميز من خلال احتكار حق الاعتراض على ما تتخذه المنظمة من قرارات. فروسيا على سبيل المثال، والتي هي أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وأحد أبرز المعطلين لأي تحرك دولي يستهدف حلحلة الأزمة السورية ووقف نزيف الدماء المستمر بها، لم تعد دولة عظمى بالمعنى الذي كانت عليه وقت إنشاء المنظمة، ولعل أبرز شاهد على ذلك أنها ليست ضمن قائمة العشرة أعضاء الأوائل في قائمة ممولي المنظمة الدولية، فالمشاركة الروسية في تمويل المنظمة الدولية للعام 2010 لم تتجاوز 2.5 مليون دولار، مقارنة بالتمويل الأمريكي الذي فاق 33 مليون دولار. هذا في الوقت الذي يحتل فيه عضوان آخران مصنفان على أنهما من الدول المهزومة في الحرب (اليابان وألمانيا) مكانة متقدمة جدا في تمويل المنظمة (نصيب اليابان حوالي 19 مليون دولار وألمانيا حوالي 12 مليون دولار لنفس العام). بهذا المعنى يبدو التنظيم الدولي الحالي بحاجة إلى إعادة نظر في أسسه الهيكلية، بما يجعله أقرب إلى تحقيق العدالة، فمن غير المقبول أن تقوم المنظمة الدولية الأكبر في العالم على أساس حفظ السلم والأمن الدوليين فيما هي تقف عاجزة أمام شعب يتعرض لجريمة إبادة، كما أن مسألة العضوية الدائمة هي الأخرى بحاجة إلى إعادة نظر بحيث لا تحتل دولة ما مكانة أكبر مما تستحق؛ وإلا فمن غير المفهوم أن تظل دولة مثل روسيا محتفظة بكافة صلاحيات الدول العظمى في الوقت الذي أضحت فيه مفتقرة إلى المقومات اللازمة لذلك، كما أنه من غير المفهوم أن تمتلك ذات الدولة حق الاعتراض على ما تقرره بقية دول العالم فيما من شأنه أن يحفظ للمجتمع الدولي سلمه واستقراره وذلك استنادا فقط لقوة توافرت لها في مرحلة سالفة ولم تعد قائمة اليوم بنفس الدرجة. فهل يمكن أن ينتقل ربيع الثورات إلى المنظمة الدولية الأكبر في العالم، بحيث تعبر على نحو أفضل عن قواعد العدالة؟ وهل يمكن إذا تقاعست الحكومات أن تتحرك الشعوب لتبني هذه الدعوة وأخذ زمام المبادرة؟ خاصة أن هذه الشعوب تدرك أكثر من حكامها أن التنظيم الدولي بصورته الراهنة مسئول بشكل مباشر عن استمرار الأزمة في سوريا، وأنه عبر قرارات غير مسؤولة، من دول ليست في المكان الذي تستحقه، يعطي الضوء الأخضر لاستمرار مسلسل القتل الذي فاق في بشاعته جرائم النازي، الذي ما نشأت الأمم المتحدة إلا من أجل ضمان عدم تكرار ظهور شبيه له في المجتمع الدولي، فإذا بنسخة منه تظهر في سوريا، ولكن المفارقة أن نازي العرب يتوجه بعدائه الأعمى تجاه شعبه، وأن من يتولى حمايته هم من ذاقوا على يد قرينه الألماني الأمرين عندما كان يجتاح أراضيهم ويمعن فيهم القتل بلا رادع.
438
| 13 مارس 2012
انشغل الرأي العام المصري طوال الأسبوع الفائت بقضيتين اختلفتا في التفاصيل واتفقتا في المضمون، وتلخصت السمة الأساسية لهما في لجوء أطرافهما إلى التهويل الذي أريد من ورائه تحقيق نوع من التجميل أمام الرأي العام المصري قبل أن ينتهي الأمر في الحالتين إلى عكس المقصود منه تماما. القضية الأولى كانت قضية نائب حزب النور الذي اختلق قصة اعتداء وهمية على شخصه ليداري قيامه بإجراء جراحة تجميلية في وجهه، أما القضية الثانية فهي تلك المتعلقة بسماح جهات سيادية للأمريكيين الموقوفين على ذمة ما عرف بقضية التمويل الأجنبي بمغادرة البلاد رغم صدور قرار سابق بمنع كافة المتهمين في هذه القضية من السفر. ورغم أنه كان بإمكان من تسبب في هاتين الأزمتين أن يعالج الأمر في نطاق أضيق وفي أجواء أقل صخبا إلا أن الطرفين اختارا المبالغة في التهويل، الأمر الذي زاد موقفهما سوءا في عين كل من استهدفا التجمل أمامه. ففي القضية الأولى ظهر نائب حزب النور في وسائل الإعلام وهو مغطى الوجه بالضمادات بفعل ما قال إنه هجوم تعرض له من قبل ملثمين مسلحين برشاشات وأسلحة بيضاء استولوا على نقوده قبل أن يلوذوا بالفرار. وقد تعاملت وسائل الإعلام مع تلك الرواية بقدر كبير من الاهتمام، وتعاطف قطاع كبير من الرأي العام مع صاحبها، قبل أن يتبين أنها من نسج خيال النائب الذي أجرى جراحة للتجميل، بما يتعارض مع التوجه العام لحزبه ذي المنحى السلفي، فاختلق قصة الاعتداء ليبرر بها وضعه الضمادات على وجهه عقب الجراحة التي استحى أن يكشف سرها على الملأ. التهويل الذي مارسه النائب، والذي وصل به إلى حد اختلاق واقعة الاعتداء، انقلب إلى عكس مقصوده وتسبب في فقدانه ثقة حزبه فضلاً عما تسبب فيه من حالة إحباط جماعي لدى مؤيديه، الذين راعهم أن يبلغ الحرص على التجمل بصاحبه هذا الحد من الشطط. تزامن مع هذه الحادثة قضية إخلاء سبيل المتهمين في قضية التمويل الأجنبي، لتجتمع من جديد ثنائية التهويل والتجميل، وينتهي الأمر من جديد إلى عكس المقصود منه، مما تسبب في مضاعفة قدر الإحباط لدى الشارع المصري. ففي هذه القضية أيضا استخدم المجلس العسكري الحاكم سياسة التهويل في حديثه عن موضوع التمويل الأجنبي كمحاولة منه فيما يبدو للخروج من ضغط الانتقادات الداخلية التي كانت توجه إليه وتتهمه بالمسؤولية عما لحق بالمتظاهرين من اعتداءات أسقطت العشرات من القتلى. وقد بدا واضحا أن ثمة إصرارا لدى المجلس على تصعيد هذه الأزمة واستبعاد أي تسوية سياسية بشأنها ربما لتأكيد ماسبق وصرح به المتحدثون باسمه من وجود أطراف خارجية تدفع بالأحداث باتجاه التصعيد وتتحمل مسؤولية المواجهات التي حدثت بين قوات الجيش وبين الجماهير. ولكن التصعيد والتهويل قد أدى هنا أيضا إلى عكس مقصوده، فبدلا من أن تتحسن صورة المجلس العسكري، ضعف موقفه واجتمع المصريون على نقده، على خلاف ما كان يحدث في الأزمات السابقة حين كان الشارع المصري ينقسم بين مؤيد ومعارض لقراراته، وذلك بعد أن تدخلت قيادات عسكرية بطريقة ما لدفع القضاء إلى رفع حظر السفر الذي كان قد تم فرضه على المتهمين، ليتم السماح لهم بمغادرة البلاد في جنح الليل وبدون علم الرأي العام المصري الذي تلقى الخبر على نحو لاحق من وكالات الأنباء العالمية. ما فاقم من حنق المصريين أنهم كانوا قد استدرجوا إلى تأييد سياسات التهويل التي مارسها المجلس العسكري إلى الحد الذي حاولت معه بعض الرموز الدينية تدشين حملة شعبية يتم الاستعاضة من خلالها عن المعونة الأمريكية التي تردد أنها ستقطع كرد فعل عقابي إزاء الموقف الصارم الذي اتخذه العسكريون في بداية الأزمة. كما أن الملابسات التي اتخذ العسكريون في إطارها قرار التصعيد ضد المنظمات الأمريكية ظلت غير معلومة للرأي العام، الذي لم ير سوى قمة جبل الثلج والمتمثلة في إصرار الأول على المضي قدما في إجراءات توقيف الناشطين الأمريكيين نتيجة لقيامهم بما يتعارض مع القانون المصري مهما كانت النتائج. هذا الجزء من الأزمة رغم محدوديته إلا أنه تم تضخيمه بحيث استحوذ على انتباه الشارع المصري تماما بحيث صار من المستحيل أن يتم التراجع عن المواجهة بعد ذلك من دون التسبب في حالة من القنوط العام التي مازالت تسيطر على المصريين إلى حين أن يتبين لهم قدر أكبر من الحقائق بخصوص طبيعة الصفقة التي جرت بين المجلس والإدارة الأمريكية. محاولات التجميل من خلال التهويل أدت إذن في القضيتين السالفتين إلى عكس مقصودها، وظهر من مارسوها في حالة من الضعف المفضي إلى الإحساس بخيبة الأمل، فالنائب الذي حاول أن يتجمل من خلال تفاصيل مختلقة خذل المواطنين الذين أعطوه أصواتهم وأودعوه ثقتهم، أما الطبقة الحاكمة ممثلة في المجلس العسكري وبعض القيادات الحزبية والرموز القضائية ممن يبدو أنها كانت وراء إلغاء قرار المنع من السفر فقد خذلت الشعب بأكمله من خلال تراجعها المفاجئ في مواجهة الضغوط الأمريكية. وبشكل عام فقد مثلت الأزمتان لحظة كاشفة تبين من خلالها أن بعض الأطراف التي استودعها المصريون أمر القيام على ثورتهم والحفاظ عليها ربما تنتهج من السياسات ما من شأنه أن يفرط في الكرامة الوطنية التي ما قامت الثورة إلا من أجل استرجاعها والتأكيد على محوريتها، وهو ما يزيد من الخوف حول مستقبل الثورة المصرية التي يبدو أنها تتعرض لخروقات من بعض من يفترض أنهم يقومون بحمايتها، وبخاصة ممن يحاولون التجمل بالمبالغات، بدلاً من أن يتجملوا بالإنجازات الفعلية التي يمكن تلمسها في حياة وواقع المصريين.
431
| 06 مارس 2012
يخطئ من يتصور أن حالة العداء التي سادت العالم العربي تجاه الولايات المتحدة طوال العقود الماضية كانت من طرف واحد، فبشكل عام تميزت السياسة الخارجية للولايات المتحدة بتجاهل متعمد للشعوب العربية التي تخيلتها الإدارات الأمريكية المختلفة عائقا أمام مصالحها في المنطقة. وقد ترسخ هذا الاتجاه منذ بواكير الحرب الباردة عندما كان خبراء الشرق الأوسط في البيت الأبيض ينصحون صناع السياسة الأمريكية بعدم الانحياز إلى صف الجماهير العربية في أي أزمة، لأن هذه الجماهير كانت من وجهة نظرهم ذات ميول اشتراكية أو شيوعية، ويصعب استمالتها بأية طريقة إلى المعسكر الأمريكي. وحتى بعد أن انتهت الحرب الباردة وزال بريق الأفكار الاشتراكية، استمر نفس التحذير قائما ولكن هذه المرة بحجة أن الجماهير العربية صارت ذات ميول إسلامية.وهكذا كانت الجماهير العربية دوما على غير هوى الإدارات الأمريكية أو هكذا كانت تصور، مما أقام حاجزا بين هذه الشعوب وبين الإدارات الأمريكية التي كانت دوما تفضل أن تختزل دول المنطقة إلى مجموعة من القيادات، الذين يسهل من خلال التحالف معهم (أو الإطاحة بهم إذا لزم الأمر) التحكم في المنطقة بأكملها، فيما ظلت دوما بقية تفاصيل المشهد الاجتماعي وطبيعة الشعوب التي تتكون منها المجتمعات العربية غائبة عن اهتمامها. وقد ساعد على ترسيخ هذه الصورة الحكام العرب أنفسهم ممن كانوا يؤكدون لنظرائهم الأمريكيين أن السماح بنشر ديمقراطية حقيقية في بلدانهم سوف يفتح الباب أمام وصول تيارات راديكالية معادية للولايات المتحدة إلى سدة الحكم.مع وصول أوباما إلى البيت الأبيض تفاءل الكثيرون في الشارع العربي بإمكانية حدوث تغيير في السياسة الخارجية الأمريكية، ومن ثم في طبيعة التصور المتبادل بين الشعوب العربية وأمريكا، ولكن ما حدث في الواقع أن الإدارة الجديدة لم تنقح ولم تراجع استراتيجيات من سبقوها. فرغم الإعجاب الذي قوبل به انتخاب أوباما بين العرب الذين رأوا فيه وفي خطابه الذي ألقاه من القاهرة الكثير من المبشرات على بداية عهد جديد، إلا أنه قد تبين تدريجيا أن سياسات أوباما لا تختلف كثيرا عن سلفه. صحيح أن أوباما قد تخلى عن الطابع الرسالي الذي كان بوش الابن يحاول أن يقنع الناس أنه منذور للقيام به، والذي ترتب عليه أن قام بتوريط بلده في احتلال دولتين لتخليصهما من الاستبداد والإنعام عليهما بالديمقراطية كما كان يدعي، إلا أن سياسة الرئيس الجديد لم تخل من إشكاليات، ففي أول اختبار لأوباما استخدمت إدارته حق النقض (الفيتو) لمنع تمرير قرار لمجلس الأمن يعارض بناء المزيد من المستوطنات الإسرائيلية. كان هذا الموقف إيذانا مبكرا بأن ساكن البيت الأبيض الجديد لا يختلف عن سابقيه، فهو مثلهم سيستلهم قراراته من جماعات الضغط ولن يعبأ برد الفعل الشعبي في العالم العربي في شيء. بعد انطلاق ثورات الربيع العربي ظلت إدارة أوباما مترددة إزاء الانحياز لصف الجماهير العربية، فلم يكن قرار التضحية بالحلفاء الإقليميين من وزن بن علي ومبارك بالقرار السهل عليها، وهي التي قررت أن تسير على نهج سابقيها في مبادلة المصالح بالاستقرار، ولذا جاء رد فعلها في الحالتين بطيئا وغير فعال، فعلى مدار شهر من تطور الأحداث في تونس لم يخرج أوباما ليعلن تضامنه الصريح مع الشعب التونسي إلا في يوم هروب بن علي. ثم تكرر الأمر في مصر، حيث تطوعت وزيرة الخارجية الأمريكية، أثناء ذروة التظاهرات الشعبية، للإشادة بالحكومة المصرية ووصفها بالمستقرة. وبعد رحيل مبارك اضطرت الإدارة الأمريكية مرة أخرى أن تغير موقفها وخطابها لكي تعلن لجموع الشعب المصري أنها قد اختارت أن تقف في صفهم. ولكن في كلا الحالتين لم يكن للقرار الأمريكي من معنى أو أهمية، كما أن تباطؤها في دعم الجماهير كشف ترددها وسلبية موقفها مما كان يجري في العالم العربي. حاولت الإدارة الأمريكية أن تستعيد بعضا مما فقدته من ثقة الشعوب في المنطقة بعد نشوب الثورة في ليبيا، فسارعت بإعلان تأييدها للثوار، الذين اصطدموا بوحشية نظام القذافي وبالمرتزقة الذين جلبهم من الدول المجاورة. وأرادت أن تظهر بمظهر الدولة الكبرى صاحبة المسؤولية الأخلاقية عن حماية الشعوب. وبالفعل سعت لاستصدار قرار أممي يتيح لها حماية المدنيين، استخدمته بالتعاون مع حلف الناتو للإطاحة بالنظام الليبي. ولذا كانت الحالة الليبية حالة مثالية لإحداث تقارب عربي - أمريكي على المستوى الرسمي وعلى المستوى الشعبي أيضاً. فقد اتحدت الإرادة العربية الرسمية ممثلة في الجامعة العربية التي اتخذت موقفاً صريحا بإدانة الرئيس الليبي مع الإرادة السياسية الأمريكية التي كان يعنيها هي الأخرى إسقاط القذافي، وفي الوقت نفسه تنفس الكثيرون في الشارع العربي الصعداء لقيام أمريكا وحلفائها بتوفير غطاء جوي يحمي الثوار والمدنيين الليبيين، يستوي في ذلك من أيد التدخل ومن تحفظ عليه. وهكذا كان أمام الإدارة الأمريكية فرصة ذهبية لكي تفتح صفحة جديدة مع شعوب المنطقة بعد هذا الدور الذي بدا متجرداً (حتى وإن اختلط بمصالح نفطية لا جدال فيها).التقاعص الأمريكي الحالي عن مؤازرة المعارضة الشعبية ضد نظام الأسد في سوريا والتردد إزاء الإجابة عن التساؤل هل المسارعة في دعم الثوار السوريين سيفيد الإدارة الأمريكية أم سيضرها كما حدث في أعقاب تسليح المجاهدين الأفغان ضد السوفييت يعيد واشنطن إلى نقطة الصفر، ويثبت أن الأمريكيين ما زالوا يعانون من مشكلة قراءة الداخل الشعبي، فيما يهدد بفقدان الإدارة الأمريكية تلك الحالة الإيجابية الخاطفة التي أعقبت دورها في إنجاح الثورة الليبية. فالأمريكيون مازالوا يتساءلون عن هوية المعارضة ويتخوفون من إعطاء الضوء الأخضر لحلفائهم في المنطقة من أجل البدء في تسليحها خشية أن تكون هذه المعارضة محسوبة على تنظيم القاعدة. الأمر الذي يوحي بخضوع الأمريكيين لنفس سياسات الماضي القريب المسكونة بشبح المحافظة على الاستقرار والقاصرة عن فهم أن الشعوب أصبحت هي من يملك زمام التغيير في المرحلة الحالية. الخوف من الشعوب هو إذن آفة مزمنة في السياسة الخارجية الأمريكية لا تكاد تبرأ منها إلا وتنتكس من جديد، ولذا يتوقع أن تظل الولايات المتحدة متأرجحة بين خيارات غير محسومة إزاء ما يجري في سوريا، فهي لا تريد نظام الأسد ولكنها تخشى من أن تولد عملية الإطاحة به فراغا يملؤه خصوم لها، كما أنها عاجزة على معرفة هوية هؤلاء الخصوم، في دلالة على أن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط والتي تعدى عمرها الستين عاما مازالت غير قادرة على التعاطي مع المنطقة في صورتها المركبة والمعقدة، وأنها بحاجة دوماً إلى خيارات مسطحة ومباشرة لكي تختار من بينها، ولكن بعد توالي سقوط وكلاء واشنطن الإقليميين الواحد تلو الآخر لن تجد الإدارة الأمريكية بدا من التعامل مع المنطقة وفقا لطبيعتها الأصلية، والتي تشكل الجماهير الرقم الأهم فيها، وعليها أن تبحث لنفسها عن الصيغة المناسبة لذلك.
2219
| 28 فبراير 2012
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم...
8859
| 09 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت...
5607
| 14 أكتوبر 2025
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا...
5199
| 13 أكتوبر 2025
منذ صدور قانون التقاعد الجديد لسنة 2023، استبشر...
2718
| 12 أكتوبر 2025
في خطوة متقدمة تعكس رؤية قطر نحو التحديث...
2580
| 12 أكتوبر 2025
مع دخول خطة وقف إطلاق النار حيز التنفيذ،...
1791
| 10 أكتوبر 2025
قبل كل شيء.. شكراً سمو الأمير المفدى وإن...
1737
| 08 أكتوبر 2025
لم يكن الإنسان يوماً عنصراً مكمّلاً في معادلة...
1716
| 08 أكتوبر 2025
قمة شرم الشيختطوي صفحة حرب الإبادة في غزة.....
1440
| 14 أكتوبر 2025
في السنوات الأخيرة، تصاعدت التحذيرات الدولية بشأن المخاطر...
1110
| 09 أكتوبر 2025
حين نسمع كلمة «سمعة الشركة»، يتبادر إلى الأذهان...
966
| 10 أكتوبر 2025
سنغافورة بلد آسيوي وضع له تعليماً خاصاً يليق...
954
| 09 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية