رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ناقشنا في مقالات سابقة الإمكانية العملية لتواجد الجيوش جنبا إلى جنب مع الميليشيات أو التنظيمات المقاتلة من غير الدول، ورأينا هذا متحققا على مستوى بعض الأنظمة الشرق أوسطية كما هو متحقق على مستوى الدولة الأقوى في العالم؛ الولايات المتحدة الأمريكية.ورأينا كيف أن هذه الجماعات المقاتلة تمارس أدوارا وظيفية، تمكن الأنظمة الرسمية من تحقيق أهداف لها من دون أن تتحمل بالأعباء السياسية لما تقوم به هذه الجماعات المقاتلة من أعمال. ورغم هذا لم تحظ الميليشيات بمقومات البقاء الطبيعي في عالمنا العربي، وتراجعت بشكل عام في الوقت الذي تضخمت فيه الجيوش النظامية، وظل استدعاؤها أو توظيفها محصورا في انظمة بعينها كما سبق القول، حيث تعاملت غالبية الأنظمة العربية معها بقلق، واعتبرتها بمثابة تهديد وجودي لها، مستبعدة أى احتمال للتنسيق معها أو توظيفها لتحقيق أي أهداف سياسية. والحقيقة أن أسباب التنافر بين الجيوش العربية والميليشيات ترجع في جزء كبير منها إلى طبيعة التطور التاريخي الذي أفرز الظاهرتين، فبشكل من الأشكال ورثت الانظمة الرسمية عن المستعمر الغربي الأفكار الحداثية عن الانضباط والنظام، وتبلورت هذه الخصائص على أوضح ما يكون في المؤسسة العسكرية النظامية. فقد نشأت معظم الجيوش العربية وفقا للمعايير الأوروبية، كما أن المدربين الاوائل لكثير من الجيوش العربية كانوا قادة غربيين، الأمر الذي ساعد على نقل الأفكار الحداثية الانضباطية إلى الجيوش العربية، حيث السعي الدائم لفرض الأنماط الحديثة من التحكم، والرقابة، والسيطرة المدققة على كافة حركات وسكنات الجنود المتدربين، وقد اضطردت هذه التقاليد لدرجة أن المعايير التي تعتمدها كثير من الأنظمة اليوم لتقييم جنودها لا تكاد تنصرف إلى مستواهم المهاري واستعدادهم القتالي بقدر ما تنصرف إلى الجزئية المتعلقة بمدى تشرب هؤلاء لقيم الانضباط والطاعة للأوامر العسكرية. وقد توسع البعض في هذا المعيار (الانضباط والطاعة) إلى حد جعله صنوا للوطنية. فأي تنظيم أو جماعة لا تخضع لمبادئ الانضباط الرسمي هي مضادة للوطنية ومهددة للأمن القومي فالغرض النهائي لكثير من الأنظمة العربية حاليا هو فرض هذه الحالة من التحكم المطلق، والرقابة الشاملة. على الجانب الآخر نشأت الميليشيات كرد فعل محلي لوجود قوى استعمارية خارجية على الأرض. ولهذا لم تتوحد الحركات المقاومة مع القوات المستعمرة إلا في حالات قليلة (على سبيل المثال بعض الميليشيات اللبنانية مع القوت الإسرائيلية في الجنوب اللبناني)، فيما ظلت القاعدة العامة أن الحركات المقاتلة من الميليشيات نشأت بالأساس لمواجهة قوات مستعمرة، ومن ثم لم تعكس ما شهدته الجيوش النظامية من تطابق في النظم والتدريبات مع الانماط والأفكار الغربية الحداثية.من ناحية ثانية إذا كانت الأنظمة الحداثية تنهض على فكرة الفصل بين الحياة العسكرية والحياة المدنية، على اعتبار أن هذا الفصل من مستلزمات النظام والانضباط، فإن الميليشيات غير الرسمية تدمج هذين المستويين، فالمقاتل غير النظامي هو شخصية ذات طبيعة مزدوجة، فهو في نهاية المطاف مدني التحق بعمل قتالي لكل أو لبعض الوقت، من دون أن يتخلى عن تفاصيل حياته المدنية، بعبارة أخرى فإن فرد الميليشيا ليس مضطرا للانعزال في ثكنة عسكرية طوال الوقت، وهذا تحديدا ما يجعل من وجود الميليشيات تهديدا للطابع المدني للمجتمعات، ومن المفهوم أنه ليست كل الأنظمة راغبة في تجربة نزع الصفة المدنية عن مواطنيها، والدخول إلى شكل من أشكال عسكرة المجتمع.من ناحية أخرى فإن كثيرا من الدول العربية تتبنى العلمانية كمبدأ حاكم، إن لم يكن على مستوى التصريح فعلى مستوى التطبيق والممارسات، وفي إطار مثل هذا النمط لا يمكن استيعاب الميليشيات التي تنطلق من أساس ديني. على اعتبار أن هذه الميليشيات تدير السياسة من خلال مفهوم الهوية وليس من خلال مفهوم المصلحة المفضل للأنظمة. وترتبط هذه الجزئية بما سبقها على اعتبار أنه من صميم عملية فرض الانضباط التي تمارسها الجيوش الحديثة أن يتم تحييد الدين تماماً.لهذه العوامل وغيرها، فإن ثمة علاقة صفرية بين معظم الانظمة العربية وبين الجماعات المقاتلة من غير الدول، وبفعل هذه الحالة الخصامية، كثيرا ما تجد الجيوش العربية نفسها متورطة في مواقع كان من المفترض أن تتواجد فيها الميليشيات لتقاتل نيابة عنها بها، كما أنها تتورط في كثير من الأحيان في وصلات دموية من قتال هذه التنظيمات نفسها، الأمر الذي يزيد المعدل الكلي من الفوضى التي تحاول الأنظمة التخلص منها (عبر القضاء على هذه التنظيمات المسلحة)، فإذا بها تساهم في تفاقمها، فيما تستمر الميليشيات في البقاء.
2830
| 03 فبراير 2016
ناقشنا في المقال السابق ظاهرة الجماعات المقاتلة من غير الدول (الميليشيات)، وكيف أنها ليست قاصرة على الجماعات الإسلامية، وإنما لها نظائرها في التاريخ الغربي المسيحي، ما يطرحه هذا المقال هو أن هذه الظاهرة ليست فقط حاضرة في التاريخ الغربي وإنما لها امتداداتها المعاصرة، فأمريكا صاحبة أقوى جيوش العالم لها ميليشياتها الخاصة التي وظفتها (وتوظفها) في العراق وفي أفغانستان فضلاً عن العديد من الأماكن الأخرى. اللافت أن أمريكا تشير إلى ميليشياتها العاملة في ساحات الحروب باسم المقاولين، أو المتعاقدين، بما يعطي انطباعا زائفا بأنهم مدنيون يشتغلون في مجالات إعادة الإعمار مثلاً، ولا يتم الإشارة إليهم باستخدام الوصف الطبيعي لهم كمرتزقة أو ميليشيات غير نظامية.هذا وقد تزامن بروز هذه الظاهر مع صعود المحافظين الجدد خلال تسعينيات القرن الماضي، حيث حاول هؤلاء إعادة رسم ملامح العسكرية الأمريكية على نحو جذري. وجاءت الدعوة الأبرز للامركزية العسكرية في ثنايا "مشروع القرن الأمريكي الجديد" (1997)، والذي مارس من خلاله المحافظون الجدد ضغوطا كبيرة على إدارة كلينتون من أجل القيام بعمل عسكري لتغيير النظام في العراق، وذلك بالاعتماد على الشركات القتالية الخاصة من أجل تحقيق هذا الهدف. وفي سبتمبر 2000، نشر أعضاء في هذا المشروع تقريرا حول إعادة بناء دفاعات أمريكا، وطرق إصلاح آلة الحرب الأمريكية، وفي هذا التقرير ركز المؤلفون على فكرة أن عملية التحول من المحتمل أن تكون طويلة ما لم يتوافر حادث كارثي محفز، مثل بيرل هاربر جديدة.بطبيعة الحال مثلت أحداث 11 سبتمبر 2001 (بعد عام واحد من كتابة هذا التقرير) تبريرا كافيا للدفع قدما بالأجندة الراديكالية التي شكلها كوادر المحافظين الجدد، وفي هذه المرحلة برز نجم وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي تبنى فكرة تغيير العقيدة العسكرية الأمريكية على نحو كامل، والاعتماد بشكل أساسي على القطاع الخاص في كل ما يتعلق بالأعمال العسكرية التي تخوضها أمريكا، فيما عرف باسم مبدأ رامسفيلد. كما لعب نائب الرئيس الأمريكي وقتها ديك تشيني دورا هاما في هذا الصدد، حيث كلف قسما خاصا في الشركة التي كان يترأسها، هاليبرتون، لإجراء دراسات حول كيفية خصخصة البيروقراطية العسكرية الأمريكية. وقد فتح هذا الباب أمام المقاولين الخاصين في جميع مجالات الحرب، بما فيها الاشتراك في الأعمال القتالية بطبيعة الحال. خصخصة الحرب مثلت ثورة في الشؤون العسكرية الأمريكية، لدرجة أنه بعد أن خبا تأثير أحداث 11 سبتمبر أصبح التراجع عنها أمرا غير ممكن. من ناحية أخرى شجعت الإطاحة السريعة بحكومة طالبان الاستمرار في نفس السياسة، وبخاصة في العراق، حيث مارست الشركات القتالية الخاصة أكبر عملياتها في التاريخ. لدرجة أنه بنهاية مدة رامسفيلد في وزارة الدفاع كان ثمة 100000 مقاول خاص على الأرض في العراق، بمعدل يصل إلى 1:1 من جنود الولايات المتحدة النظاميين الموجودين بالخدمة الميدانية، ولم يستغرق الأمر وقتا طويلاً حتى تم تصنيف مقاولي الحرب على أنهم جزء رسمي من آلة الحرب الأمريكية. وفي إطار حرب العراق ثم الحرب اللاحقة على ما وصف بالإرهاب ظهر إلى الوجود عشرات من شركات المرتزقة الأمريكيين، ولكن أشهر هذه الشركات بلا منازع هي شركة بلاك ووتر (غيرت اسمها حاليا إلى الأكاديمية!) فهي فضلاً عن غزارة مقاتليها، تمتلك أسطولا خاصا مكونا من مروحيات، ومدفعية، وطائرات تجسس، كما أن مقرها المقام على مساحة 7000 فدان هو أكبر منشأة عسكرية خاصة في العالم، وتدرب الشركة عشرات الآلاف كل عام، كما تملك الشركة وحدة استخبارات خاصة بها، ومن بين تنفيذييها مسؤولون متقاعدون رفيعو المستوى في الجيش والاستخبارات، ولديها العديد من منشآت التدريب، وعلى حد وصف أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي، فإن باستطاعة بلاك ووتر الإطاحة بالكثير من الحكومات في العالم.وعلى غير الشائع فإن التعاون بين الإدارات الأمريكية وبين بلاك وتر لم يقتصر على إدارة بوش الجمهورية، فقد قام الديمقراطي باراك أوباما بتجديد الثقة فيها عبر عقد قيمته 250 مليون دولار أمريكي لتقديم خدمات أمنية لوكالة المخابرات الأمريكية، ومرة أخرى وفي العام 2013 تلقت إحدى الشركات الفرعية التابعة لبلاك ووتر عقدا بقيمة 92 مليون دولار لتقديم خدمات أمنية ولكن لوزارة الخارجية الأمريكية هذه المرة.الجدير بالذكر أن مرتزقة بلاك ووتر يعملون تحت إمرة البليونير اليميني إريك برينس، والذي يناصر أجندة اليمين الصهيوني بلا تحفظ، كما يتفاخر عدد من تنفيذيي بلاك ووتر بعضويتهم في تنظيم فرسان مالطا، والذي كما ذكرنا في مقالات سابقة، نشأ كميليشيا صليبية في القرن الحادي عشر، للدفاع عن الأراضي التي غزاها الصليبيون ضد المسلمين. ما يؤكد الفكرة الرئيسية التي بدأناها في مقالات سابقة من أن الجماعات الدينية المقاتلة من غير الدول هي ظاهرة أعقد مما يروج له الإعلام الغربي المسكون بهاجس محاربة الإرهاب، في الوقت الذي تشارك فيه دوله في صناعته.المرجع الأساسي: جيرمي سكيل، المرتزقة قادمون، الهيئة العامة للكتاب
567
| 27 يناير 2016
الجماعات المسيحية المسلحة التي تم إلقاء الضوء عليها في المقال السابق لا تشكل ظواهر تاريخية انتهت بانقضاء زمانها، فالعديد منها مازال قائما كما سبق القول، بل إن إحداها قد ارتقت سياسيا إلى مقام الدولة ذات السيادة. ورغم أن الحملات الصليبية كانت هي المبرر التاريخي لانطلاق ونشأة معظم - إن لم يكن - كل هذه الجماعات المسلحة، إلا أنها لم تختف بانتهاء هذه الحروب، وإنما ظلت كامنة، قبل أن تعاود الانبعاث مرة ثانية ضد التوسعات العثمانية، ومؤخرا رصدت بعض التحليلات أدوارا محتملة لهذه التنظيمات في إطار الغزو الأمريكي للعراق، وفي إطار التدخلات الأمريكية في العالم الإسلامي بشكل عام.هذا ومازال العديد من الدول الأوربية تعترف بهذه التنظيمات حتى اليوم، وتعتبر أن أعضاءها بمثابة فرسان شرفيين، بل إن رئيس أحد هذه التنظيمات (جماعة فرسان المسيح)، والمعروف باسم الأستاذ الأكبر، هو الرئيس البرتغالي نفسه. ولا تقتصر شعبية هذه الجمعيات على أعضائها، إذ ترتبط بها الكثير من الهيئات الرياضية والاجتماعية والسياسية، وتحمل صليبها كعلامة مميزة لها. وفي الوقت الذي كانت الجيوش تعمل فيه على أساس وطني أو قومي، أو حتى للحصول على مقابل مادي كما في جيوش المرتزقة في مرحلة العصور الوسطى، فإن هذه التنظيمات كانت تنطلق من اعتبارات الحماسة الدينية، وتحدد أهدافها على أساس من قناعاتها الإيمانية، وهي وإن كانت قد أخذت شكل العمل الطبي في البداية ثم تحولت عنه إلى الشكل العسكري والقتالي، فإنها في كل الأحوال كانت تضع الدين نصب عينيها وهي تمارس ما تمارسه من مهام. ويعد هذا هو وجه الشبه الأساسي بين هذه التنظيمات وبين الجماعات الدينية المسلحة المنتشرة في العالم الإسلامي حاليا، فمعظم هذه الجماعات تدعي أنها تعمل لنفس الغرض ألا وهو حماية الإيمان. ولكن لما كانت معظم الأنظمة العربية تضبط معادلة الشرعية وفق ميزان حرج، فإنها تنظر بعين القلق إلى تداخل الديني مع السياسي، وتعتبر أن ذلك من شأنه أن يهدد شرعيتها أو يعصف بفرص استمرارها على نحو كامل، ومن ثم فإنها تجد صعوبة في مجرد الاعتراف بمثل هذه التنظيمات فضلا عن أن تتعاون معها أو تدعمها. ولا يستثنى من هذا التعميم إلا الأنظمة الشيعية التي تقيم شرعيتها على أساس ديني، أو تستخدم المرجعية الدينية كرأس مال سياسي رئيسي لها، هذه الأنظمة لا تجد حرجا في توظيف وتشكيل جماعات مسلحة على أساس ديني لتحقيق أهدافها السياسية.جماعة حزب الله على سبيل المثال، تعمل كمخلب قط للنظام الإيراني، بحيث تحقق له أهدافه الإقليمية من دون أن تحمله تبعات ما قد ينتج عن ذلك من ردود أفعال سلبية، نفس الشيء يقال عن الميليشيات التي تعمل في العراق، مثل ميليشيا الحشد الشعبي، والصحوات، فهذه وتلك يمكن اعتبارهما نماذج لجماعات دينية مسلحة تحقق للأنظمة الرسمية أهدافا محددة لا تستطيع أن تحققها عبر القوات النظامية بمفردها.هذا وقد رصد أحد الباحثين عشرات الجماعات/الميليشيات الشيعية المسلحة التي تعمل في العراق فقط بدعم من النظامين الإيراني والعراقي، مثل: سرايا السلام، منظمة بدر، كتائب حزب الله العراق، عصائب أهل الحق، حركة حزب الله النجباء، كتائب سيد الشهداء، سرايا الجهاد والبناء، كتائب التيار الرسالي، سرايا الخرساني، سرايا عاشوراء، سرايا العتبات.. إلخ. وإذا أضفنا الجماعات التي تحركها إيران للقتال في الأراضي السورية فإن هذه القائمة تكون مرشحة للتضاعف. وقد ارتبط ظهور هذه الميليشيات بفتاوى دينية (تشبه الصكوك التي كان يمنحها باباوات روما لجماعات الفرسان المسيحية)، تتحدث عن الجهاد الكفائي، وتحظى هذه الجماعات المسلحة بدعم الجيش العراقي، وتدعي العمل تحت إمرته، وقد قدرت الميزانية المخصصة لها بحوالي 60 مليون دولار من الميزانية العراقية. ورغم الانتهاكات الفاضحة التي تنسب لهذه الميليشيات فإن المرجعيات الدينية العراقية تتصدى دائما للدفاع عنها، وتبرئة ساحتها. أما الأنظمة السنية فإن لديها تخوفات كثيرة إزاء سلوك مثل هذا المسلك (الاستعانة بالميليشيات الدينية المسلحة)، وذلك لاعتبارات تاريخية، واستراتيجية نناقشها في مقال لاحق إن شاء الله.
856
| 20 يناير 2016
في الوقت الذي يسلط فيه الإعلام العالمي الضوء على تنظيم الدولة الإسلامية (المعروف إعلاميًا باسم داعش)، وغيره من الجماعات الإسلامية المقاتلة، وعلى الأثر السلبي الذي يفترض أنها تحدثه على منظومة العلاقات الدولية المعاصرة، يتغافل عن الدور الذي قامت وتقوم به جماعات موازية من غير الدول، تنتمي للعالم الغربي المسيحي، ولكنها على العكس تحظى بالاعتراف والتقدير، وتتبادل معها السفارات الكثير من دول العالم بما فيها الدول العربية.وفي محاولة للوقوف على حقيقة هذه المفارقة نخصص مجموعة من المقالات لإلقاء الضوء على مفهوم الجماعات المسلحة من غير الدول بين الشرق والغرب، وكيف كان يتم النظر إليها والتعامل معها في أوروبا، وكيف تم توظيفها، والاستفادة منها، ومكافأتها على خدماتها إلى حد الاعتراف بإحداها كدولة مكتملة السيادة، رغم افتقارها الفعلي لمعظم مقومات الدول الطبيعية.وذلك لمحاولة الإجابة عن التساؤل: هل من الممكن للأنظمة العربية أن تتعامل بنفس المنطق الوظيفي مع التنظيمات "المسلحة" من غير الدول في المنطقة؟ أم أن اختلاف الظروف والسياقات يفرض نوعًا من المعادلة الصفرية بين الطرفين؟ في هذا الصدد تذكر إحدى الدراسات أن عدد الجماعات الدينية المسلحة التي ظهرت في الغرب حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي يزيد على المائتين، من أشهرها جماعة فرسان المعبد (أو جماعة الداويين) وجماعة الهوسبتاليين، الذين عرفوا لاحقًا باسم جماعة فرسان مالطة. اللافت أن معظم هذه الحركات التي نشأت أصلاً كحركات رهبنة تابعة للكنيسة الكاثوليكية، تحولت إلى تنظيمات عسكرية مقاتلة، قبل أن تعيد تعريف نفسها مؤخرًا كمنظمات خيرية، تعمل على تقديم يد العون للفقراء والمرضى، وتركز على مجال الخدمات الطبية. وقد أدى أفراد هذه التنظيمات أدوارًا بارزة أثناء الحروب الصليبية، فرغم الحظر الذي كان مفروضًا على رجال الدين الكاثوليك بشأن حمل السلاح، توصل هؤلاء الرهبان إلى تكوين فرق وتنظيمات عسكرية، تعمل بشكل مستقل وتشتبك في الأعمال القتالية بحرية، ومن هنا حدثت المزاوجة بين نظام الرهبنة ونظام القتال الديني، لتتشكل بذرة الجهاد المسيحي المقدس. ولخطورة الدور الذي كانت تقوم به هذه الجماعات، كان كثيرًا ما يحدث أن ينضم إليها مقاتلون علمانيون من خارج سلك الرهبنة، للاستفادة من القدرات التنظيمية والانضباطية العالية لديهم. وبخلاف المشاركة في الحروب الصليبية في أرض الشام، مارست العديد من هذه التنظيمات القرصنة، وتوجهت بعدوانها بالأساس إلى السفن والسواحل الإسلامية، وقد بلغت هجماتهم حد احتلال العديد من المدن الإسلامية (مثل أزمير التركية وطرابلس الليبية وصور اللبنانية). كما أدت هذه الجماعات الدينية دورًا محوريًا فيما يسمى بحركة الاسترداد (أي استرداد الأندلس من أيدي المسلمين وإعادتها إلى الحكم المسيحي).ونظرا لدورها المؤثر في قتال المسلمين، اهتم ملوك أوروبا بدعم هذا الجماعات، وأغدقوا عليها اعترافهم ومساعداتهم، كما لم يتردد بابوات روما في إصدار المراسيم التي تبارك ما يقومون به من أعمال وتمنحهم العديد من الامتيازات والاستثناءات المدهشة والتي تضمنت حرية المرور، والإعفاء الكامل من الضرائب، وعدم الخضوع لأي سلطة زمنية. وقد أدت هذه المراسيم البابوية إلى زيادة نفوذ هذه التنظيمات المقاتلة، حتى إنها كان من صلاحياتها أن تعقد الهدنة وأن تتخذ قرارات بالتحالف.وبفعل هذه الامتيازات الضخمة نجحت هذه التنظيمات فيما أنشئت لأجله، وسجلت انتصارات عسكرية باهرة، ولكنها ونظرًا لطبيعتها الحركية لم ترتبط بإقليم معين، فكانت تنتقل من مدينة إلى مدينة، ومن دولة إلى دولة، كما لم تلزم نفسها بشكل سياسي معين، فتحولت من حركات رهبنة، إلى تنظيمات مسلح، إلى وحدات سياسية، وفي بعض الأحيان إلى دول، كما في حالة دولة فرسان مالطة التي تعترف بها أكثر من 99 دولة من بينها 8 دول عربية.ورغم تحولها المفترض للعمل الخيري حاليًا، ترفض هذه التنظيمات الكشف عن مصادر تمويلها، حيث تتمتع بدعم وتمويل من مصادر مختلفة وسرية، فهي قبلة للأعمال "الخيرية" في العالم المسيحي، كما يعزى إليها تطوير العديد من الطرق المالية التي أصبحت نواة لنظام المصارف والبنوك الحديث. والسؤال هو: ألا تشترك هذه التنظيمات المسيحية المقاتلة مع التنظيمات الإسلامية المسلحة في الكثير من الخصائص؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فما هي حدود هذا التشابه؟ وما دلالاته؟ وهل يمكن للأنظمة الرسمية أن تستفيد من هذه التنظيمات؟ وما أبعاد هذه الاستفادة؟ أسئلة سوف نحاول الإجابة عليها في مقالات لاحقة إن شاء الله.
2233
| 13 يناير 2016
من الشائع أن تعوِّل أنظمة الاستبداد على العنف كأداة للحفاظ على استقرارها ومكاسبها السياسية، وذلك لما تعتقده هذه الأنظمة من كون العنف وسيلة ناجحة للقضاء على مصادر التهديد أولا بأول. وبعيدا عن الاعتبارات الأخلاقية التي يمكن على أساسها إدانة مثل هذه السياسات القمعية يمكن التساؤل عن المدى الذي يمكن من خلاله لسياسات العنف أن تحقق الاستقرار فعليا؟الإجابة المباشرة على هذا التساؤل هي: ليس لمدى بعيد، فثمة عوامل موضوعية تجعل من استمرار التعويل على العنف سياسة خاسرة، أول هذه العوامل أن العنف ظاهرة قابلة للعدوى، إذ عادة ما ينتقل عنف الأنظمة إلى الشعوب، أو إلى قطاعات منها، فتبدأ هذه في ترجمة ما وقع عليها من عنف إلى عنف مضاد، ولكن لأن عنف الأفراد لا يتوافر له ما يتوافر للأنظمة من معلومات أو أدوات، فإنه عادة ما يأخذ الشكل العشوائي، الذي تعم خسائره جميع القطاعات، ومن بينها الأنظمة الحاكمة بطبيعة الحال.من ناحية ثانية فإن العنف يؤكد ويؤبد تبعية المجتمع للدولة، فالعنف عادة ما يخلق أجواءً من السلبية والتراجع على المستوى الفكرى والإبداعي لدى الأفراد، وإذا كانت صفات مثل هذه قد تحقق الاستقرار على المدى القصير، فإنها تفرز مع الوقت سلبيات متراكمة مثل ترهل المجتمع وتحوله إلى عبء حقيقي لا يمكن توظيفه على أي نحو إيجابي. مما يعرقل استقرار هذه الأنظمة لضمور العنصر البشري الكفء اللازم لاستمرارها.ويرتبط بالنقطة السابقة أن عنف السلطة تجاه المجتمع يضعف من قدرة الأخير على المساهمة في مواجهة التهديدات الخارجية، فالجماهير المقموعة عادة ما تكون أقل حماسا في الدفاع عن أوطان لا تمتلك بها حريتها، كما أنها تكون أقل استجابة لخطابات الحشد والتعبئة، التي تحاول سلطات القمع — بعد فوات الأوان — أن تستثير من خلالها ما تبقى لدى الجماهير من رغبة في الحياة الكريمة.وكما يؤدي العنف إلى ضعف التجاوب الداخلي، فإنه يؤدي أيضا إلى عدم التجاوب الخارجي، فالتضحية المستمرة بالاعتبارات الدستورية والقانونية والتعويل فقط على منطق القبضة الغليظة تولد أجواءً من عدم الثقة فى الأنظمة القمعية، ويظهر هذا في صورة إحجام رؤوس الأموال والاستثمارات الخارجية عن المخاطرة بالتدفق إلى مجتمعات لا تملك تحقيق الاستقرار خارج نطاق العنف. العنف أيضا يستدعي العديد من الآفات السلوكية، فنمط العلاقة غير المتكافئة بين الحاكم والمحكوم يمتد إلى المجالات غير السياسية، إذ ينطلق النظام — في ضوء ما يمتلكه من قدرات قمعية — إلى اعتماد قائمة من المعايير المزدوجة التي يبيح لنفسه من خلالها ما لا يبيحه للمحكومين، وذلك في مجالات مختلفة، أبرزها المجال الاقتصادي الذي تعتبر الأنظمة القمعية أن من حقها أن تحظى فيه بامتيازات لا يحظى به الآخرون.وعلى عكس المتوقع يؤدي العنف إلى زيادة منسوب القلق لدى الأنظمة القمعية، فمع تنامي السخط والرغبة فى الانتقام لدى قطاعات مختلفة من الأفراد، تتسع دائرة أعداء النظام، مما يدفعه إلى توسيع نطاق العنف وزيادة الإنفاق عليه من الموادر المخصصة للإنفاق على المجالات الأخرى، مما يؤثر على قدرته على ممارسة الحكم، ويزيد من ثم مخاوفه من الهبَّات الجماهيرية والثورات الشعبية ضده. والخلاصة أن العنف قد ينجح في إيجاد نظام حكم مستقر، ولكنه لا يضمن أن يستمر هذا الاستقرار لوقت طويل، فالشرعية القائمة على القمع تنذر باحتمالات قاتمة من الاقتتال الداخلي والحرب الأهلية (الحالة السورية نموذجا)، أو حتى الغزو الخارجي (الحالة العراقية نموذجاً)، ما يعنى أن أنظمة الاستبداد يمكن أن تسدد جانبا لا يستهان به من فاتورة العنف الذي تمارسه بحق مواطنيها، ذلك ان الثغرات التي يتسبب فيها القمع فى أنظمة الحكم التسلطية عادة ما تتحول إلى ثقوب سوداء تبتلع هذه الأنظمة على نحو كامل.
837
| 06 يناير 2016
يثير العنف الأهوج الذي تمارسه أنظمة الاستبداد بحق مواطنيها العديد من الأسئلة، فضلاً عما يثيره من استنكار وتقزز بطبيعة الحال، والعنف المقصود هنا ليس ذلك العنف المخول للدولة ومؤسساتها بحكم العقد الاجتماعي القائم بينها وبين مواطنيها، ولكنه ذلك النمط من العنف الذي تمارسه هذه الأنظمة خارج نطاق القانون لإظهار قوتها، وإخضاع الأفراد لبأسها، أو ترويضهم بحيث يفقدون أى رغبة أو قدرة على معارضة نمط حكمها الاستبدادي، ويتخلون من ثم عن أى طموح لتغييره.بعبارة أخرى إن العنف المقصود هنا يشير إلى تلك الحالة من توظيف القوة ضد المدنيين على نحو غير مقبول وفق أي معيار قانوني أو أخلاقي؛ من استهداف بالطائرات، وتفجير للبيوت، وإطلاق للنار على نحو عشوائي، وإخفاء قسري، واعتقال من دون محاكمة، فضلاً عن فرض أجواء حبس غير آدمية، واتباع إجراءات قسرية، وما يصاحب كل ذلك من إيذاء نفسي واغتيال معنوي للأفراد.والملاحظ أن أنظمة الاستبداد في ظل غياب قوى أعلى منها فى هيراركية النظام الدولي، وفي ظل الدور الهامشي والرمزي الذي تقوم به مؤسسات المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، تبدو في حل من مراعاة أى معايير في ممارستها لهذا العنف، فنجدها تمارس أصنافا من الانتهاكات التي لا تقيم للأفراد اعتبارا لا بحكم المواطنة ولا بحكم الديانة ولا بحكم الأدمية، وهي مطلقة اليد على نحو شبه كامل.والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما هو تفسير هذا الجنوح المبالغ فيه للعنف من قبل أنظمة الاستبداد، خاصة وأنه في معظم الأحيان لا يصل حجم الجرم الذي تتصور هذه الأنظمة قيام الأفراد به، ذلك الحد الذي يبرر استخدام هذا القدر من العنف والانتهاكات. ربما تكمن الإجابة عن هذا السؤال فيما أطلق عليه الدكتور عبد الوهاب المسيري "أزمة العلمنة الشاملة". فهذه العلمنة تصبغ حكم أنظمة الاستبداد وتفسر بدرجة كبيرة الكثير من سلوكياتها، وبخاصة استخدامها العنف الأهوج ضد مواطنيها. فـ "العلمانية الشاملة"، هي رؤية لا تفصل الدين والقيم عن مجالات الحياة العامة وحسب، وإنما تفصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن كل جوانب الحياة، وتنزع القداسة تماماً عن الموجودات، بحيث يتحول البشر في إطارها إلى مجرد أدوات مادية. يشير المسيري من خلال هذا المفهوم إلى أزمة غياب المعنى وتحول المطلق إلى نسبي، والأخلاقي إلى مادي، والأهم من كل ذلك إلى نزع القداسة عن الإنسان، وتحويله إلى مجرد مادة استعمالية، يوظفها القوى لحسابه، أو يقضى على وجودها إذا لم يكن لوجودها أهمية مادية أو وظيفة استعمالية. فالعلمانية الشاملة لا تؤمن بأية معايير أو مطلقات أو كليات، اللهم إلا المعايير الداروينية الصراعية، التي تستخدمها لحسم الصراعات، ولذا نجد أن المبدأ الحاكم للأنظمة المستبدة هو مبدأ "البقاء للأقوى"، فمن يملك أدوات العنف عليه أن يستخدمها، ولو فى مواجهة العزل، طالما ان هؤلاء العزل يقعون في دائرة الخصوم.مفهوم العلمانية الشاملة إذن يفسر لنا : لماذا تتعامل أنظمة الاستبداد مع مواطنيها بمثل هذه القسوة المفرطة. فهؤلاء بالنسبة لها هم مجرد أشياء لا قيمة لهم إلا قيمتهم كادوات لتسيير الحياة، واداء الوظائف اللازمة لبقاء هذه الأنظمة المستبدة، ومن ثم إذا توقف هؤلاء عن القيام بمهامهم، ونزعوا إلى المعارضة أو مقاومة الاستبداد بأي شكل لا يصبح لهم من قيمة من وجهة نظر الأنظمة المستبدة ومن ثم تبدأ فى التخلص منهم باستخدام أساليب القمع المبالغ فيها. ومع غياب الالتزام بأي منظومة أخلاقية لا يستشعر الطرف الذي يتبنى هذا التصور للعالم والإنسان أى نوع من تأنيب الضمير وهو يقضي على غيره، أو يقيد حريته، أو يمارس بحقه ألوانا من التعذيب والانتهاكات القاسية.ومن هنا فإن مقاومة استبداد هذه الأنظمة لا ينبغى أن تقتصر على الأبعاد السياسية أو القانونية، وإنما ان تتعدى ذلك إلى الأبعاد الثقافية والمعرفية، فجوهر الأزمة التي ينبع منها الاستبداد، لا يمكن حلها إلا من خلال تفكيك الرؤية المعرفية التي ينبني عليها، والتي لا تنتهك فقط معنى القانون والسياسة وإنما معنى الإنسان نفسه.
753
| 30 ديسمبر 2015
بطبيعة الحال لا يندرج كل ما يجري في المنطقة في إطار الإملاءات الغربية، ولكن تفاعلات المنطقة - في ذات الوقت - ليست كلها وليدة الإرادة الحرة لدولها، وعليه ينبغي أن تخضع هذه للفحص المدقق، للكشف عن مدى التأثير الغربي فيها. خصوصا أن دور الغرب ليس تفكيكيا دائما، كما يحلو للبعض أن يصفه، فالمصالح الغربية قد تقتضي في سياقات معينة أن يتكتل خلفها الآخرون. ومن هنا فإن بعض تجارب الوحدة العربية قد تأتي في مصلحة الغرب بأكثر مما تأتي في مصلحة أصحابها. ولا يتضمن هذا تشكيكا في نوايا من يقومون بهذه المبادرات الوحدوية، ولكنه فقط يشير إلى مقدرة الأطراف الأقوى على توجيه التفاعلات الإقليمية على نحو قد لا يبدو واضحا للمنخرطين فيها. والأمثلة على تجارب الوحدة/التكامل العربي المدفوعة من الخارج كثيرة ولكننا نشير في هذا المقال إلى أشهرها، ألا وهي تجربة جامعة الدول العربية. ففي 22 مارس من عام 1945 اجتمع ممثلو الدول العربية في قصر الزعفران بالقاهرة، ووقعوا ميثاق جامعة الدول العربية، في ترجمة للطموحات العربية بتكوين كيان جامع للعرب. المدهش أن هذا العمل الحاسم لم يحظ فقط بتأييد القوى الكبرى وقتها (بريطانيا وفرنسا)، ولكنه جاء بشكل أو بآخر وليد تدخلهم المباشر. فرغم أن تكوين الجامعة العربية كان يفترض أن يعارض قرار تقسيم فلسطين وقيام دولة صهيونية بها، إلا أن المصالح الغربية قد سارت في اتجاه حث الدول العربية على تكوين مثل هذا الاتحاد، ودفعهم دفعا إليه. وقد تعددت التفسيرات وراء الدعم الغربي لفكرة الاتحاد العربي، ولكن كانت أبرزها حاجة بريطانيا (وفرنسا) للدعم العربي في الحرب ضد ألمانيا، "فمع اشتداد ضغط دول المحور على الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية رأت بريطانيا وفرنسا ألا تحدثا مزيدا من الاضطرابات داخل مستعمراتهما في البلاد العربية"، خاصة وقد سبق لكل من ألمانيا وإيطاليا أن دعمتا المطالب العربية في الاستقلال والوحدة، وذلك في تصريح للدولتين صدر بتاريخ 23 أكتوبر 1940، يتضمن الاعتراف باستقلال الدول العربية وتأييد الجهود العربية في مجال الوحدة. فما كان من بريطانيا إلا أن أسرعت فوعدت قادة تلك الدول بالاستقلال عقب انتهاء الحرب، وأعربت عن تشجيعها لأي اتجاه نحو الوحدة العربية، وذلك كما جاء على لسان وزير الخارجية البريطاني "أنتوني إيدن" في خطابه الذي قال فيه:"يتطلع كثير من العرب إلى درجة من درجات الوحدة أكبر مما يتمتعون به الآن. وإنهم يتطلعون لنيل تأييدنا في مساعيهم نحو هذا الهدف، ولا ينبغي أن نغفل الرد على هذا الطلب من جانب أصدقائنا، ويبدو أنه من الطبيعي ومن الحق تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية والسياسية بين البلاد العربية.. وإن حكومة جلالته سوف تبذل تأييدها التام لأيّ خطة تلقى موافقة عامة". "ثم عاد إيدن وفي 24 فبراير 1943 وصرح أمام مجلس العموم البريطاني بأن حكومته تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب ترمي إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية".وبالفعل تحرك بعض القادة العرب مستغلين تلك التصريحات باتجاه إنشاء جامعة الدول العربية، صحيح أن الحاجة قد ظهرت لقيام وحدة عربية أو تجمع عربي مع نهاية القرن التاسع عشر، إلا أن الترجمة الفعلية لم تأت إلا بعد خطاب إيدن، حيث دعا رئيس الوزراء المصري (وقتها) مصطفى النحاس كلا من رئيس الوزراء السوري ورئيس الكتلة الوطنية اللبنانية للتباحث حول فكرة "إقامة جامعة عربية لتوثيق التعاون بين البلدان العربية المنضمة لها". "وكانت هذه أول مرة تثار فيها فكرة الجامعة العربية بمثل هذا الوضوح". ثم عاد رئيس الوزراء المصري بعد نحو شهر من تصريح إيدن أمام مجلس العموم، "ليؤكد استعداد الحكومة المصرية لاستطلاع آراء الحكومات العربية في موضوع الوحدة وعقد مؤتمر لمناقشته". الشاهد أن النزعة الوحدوية والتكتل العربي، ارتبطا بإرادة خارجية، ارتأت أن مصلحتها في حدوث مثل هذا الاتحاد في هذا التوقيت، فكانت النتيجة (التي أثبتتها السنوات اللاحقة) أن خرجت الجامعة معبرة عن الأهداف الحقيقية للراعي الغربي، من استمرار لواقع التقسيم، بأكثر مما عبرت عن أهداف الشعوب العربية من ترجمة لطموحات الوحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هذه الأيام هو: هل يعيد التاريخ نفسه، ويتحرك العرب في إطار من التوجيه الغربي غير المعلن، فيحققون أهدافه ومصالحه، وهم يظنون أنهم يتحركون بوازع من إرادتهم الحرة؟.
579
| 23 ديسمبر 2015
يعرّف الدكتور عبد الوهاب المسيري الجماعات الوظيفية على أنها تلك المجموعات البشرية التي تقوم بوظائف خاصة، يرى أعضاء المجتمع أنهم لا يمكنهم الاضطلاع بها لأسباب مختلفة. فقد يرى المجتمع في مجموعة من الوظائف أنها وظائف مشينة ولا تحظى بالاحترام فيقبل بأن تقوم بها جماعة على هامش المجتمع وليست منه. وقد يلجأ المجتمع إلى استخدام العنصر البشري الوظيفي لملء فجوة تنشأ بين رغبات المجتمع وحاجاته من ناحية ومقدرته على إشباع هذه الرغبات والوفاء بها من ناحية أخرى. كما قد يقوم المجتمع بإسناد الوظائف ذات الحساسية الخاصة إلى أعضاء الجماعات الوظيفية. ويمكن بطبيعة الحال تضييق نطاق هذا التعريف، بالتركيز على مستوى السلطة أو النظام، وهنا لا يقوم المجتمع ككل بتخصيص هذه الوظائف ولكن تقوم السلطة فقط بهذا التخصيص. فمن البدهي أن الأنظمة — وخصوصا المستبدة منها — تحتاج إلى جماعات وظيفية لتقوم بمجموعة أدوار لازمة لاستمرار هذه الأنظمة فى مواقعها، فقد تحتاج مثلا إلى جماعات للقيام بدور المعارضة، وقد تحتاج إلى جماعات للقيام بمهام التجسس على الآخرين، وقد تحتاج — وهذا ما نناقشه هنا— إلى مجموعات مارقة، تبرر من خلال ادعاء التصدي لها مشروعية بقائها فى الحكم، وخصوصا إذا ما كانت هذه الأنظمة تفتقر إلى أي إنجازات حقيقية على الأرض.والفرض الأساسي في إطار هذا التصور أن ثمة دورا وظيفيا تمارسه الجماعات المسلحة بالنسبة للدول والأنظمة وخصوصا الاستبدادية منها، حيث تقوم هذه الأنظمة باستغلال مشاعر الخوف، أو خلقها خلقا إذا لم تكن قائمة، والمبالغة فى تصوير قدرات هذه الجماعات وإظهارها في صورة الخطر المحدق والوشيك الذي يهدد المجتمع والدولة. ومن هذا المنطلق الوظيفي، يمكن تصور أن أنظمة الاستبداد توظف من تطلق عليهم الجماعات الإرهابية لتحقيق أهداف معينة. صحيح أن التعاقد هنا لا يكون تعاقدا فعلياً، كما لا يشترط أن ينهض على بعد مؤامراتي، (اتفاق أو تواطؤ بين الأنظمة وبين الجماعات المسلحة أو على الأقل قادتها والمحركين لها)، ولكنه ينهض على أساس موضوعي، بحيث تستفيد الأنظمة من وجود هذه الجماعات المسلحة (التي تشتكي من وجودها طوال الوقت)، عبر الادعاء بأنها بمثابة تحد يهدد بقاء دولها، ويعترض خططها الخاصة بالتنمية والنهضة، لكي تكتسب من خلال زعم التصدي لها صكوكا للشرعية، تعوض بها ضعف أدائها أو بالأحرى فشلها فى الأصعدة الأخرى. وتكمن فائدة مناقشة هذا الفرض في أنه إذا كنا قد استفضنا فى مقالات سابقة في الحديث عن الجماعات المسلحة، وناقشنا تنامي تأثيرها في الفترة الآخيرة، إلا أن هذا التحليل لا يكتمل إلا بتسليط الضوء على نقطة هامة تتعلق بطبيعة الدور الوظيفي لهذه الجماعات بالنسبة للأنظمة السياسية التي يفترض أنها تناصبها العداء. فبشكل أو بآخر لا تكتسب هذه الجماعات قدرتها على التأثير إلا من خلال الفساد الداخلي للأنظمة التي تعادي هذه الجماعات. فلو لم تكن هذه الأنظمة بهذه الدرجة من الفساد والاستبداد، لما كان للجماعات المسلحة أن تمارس هذا التأثير وهذا الحضور على مستوى السياسة الإقليمية والدولية.والسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو هل تستطيع أنظمة الاستبداد أن تحيا حياة طبيعية من دون إرهاب؟ ويستدعي هذا التساؤل أسئلة أخرى حول دور الأجهزة الرسمية في الأنظمة التسلطية في صناعة الإرهاب، ومدى مسؤوليتها عن انتشار ثقافة العنف بين الشباب، ذلك العنف الناتج عن غياب المعنى، واليأس من المشاركة، والإحساس بالاغتراب في الوطن. هذه التساؤلات تبدو محرمة ومجرَّمة فى إطار معظم الأنظمة المستبدة التي ينحو التناول الرسمي بها دائما ناحية التأكيد على أن الأفكار المتطرفة إنما تنشأ ذاتياً لدى معتنقيها، أو يتم استيرادها من الخارج، وأن الإرهاب إنما هو وليد أجندات يتبناها البعض رغبة فى هدم الوطن وتنفيذا لمخططات الخارج وتفعيلا لسيناريوهات حروب الجيل الرابع، إلى آخر هذه القائمة المحفوظة. أما أن يكون العنف وليد نوع معين من السياسات أو نوع معين من المحتوى الإعلامي أو نوع معين من التعامل الأمني، فهذه احتمالات غير مطروحة على طاولة النقاش، الأمر الذي يفتح الباب فعليا أمام تصديق الفرض الذي انطلقت منه هذه المقالة وهو أن للإرهاب دورا وظيفيا في إطالة أمد بقاء الأنظمة المستبدة فى مواقعها.
623
| 16 ديسمبر 2015
في وقت من الأوقات كان الغرب باستطاعته أن يصدّر مشاكله إلى الشرق (كما صدَّرَ المشكلة اليهودية إلى أرض فلسطين)، كما كان باستطاعته أن يوكل من ينوب عنه في حل أزماته (محاربة الشيوعية ومواجهة توسع الاتحاد السوفيتي)، بحيث لا يضطر إلى خوض حروب على أراضيه أو يتورط في صراعات يكشف بها عن أطماعه. تقلصت هذه الرفاهية كثيرا مع تغير طبيعة الأزمات التي يمر بها العالم، فبعد أن كانت مصادر التهديد تنبع من دول وأنظمة تمكن مواجهتها بقوة الجيوش، أصبح التهديد ينبع من جماعات غير نظامية وأفراد ليس لهم تاريخ من العنف، بحيث يمكن تتبعهم ومراقبتهم. وبتغير طبيعة التهديدات لم يعد في مقدور الغرب لا أن يصدر مشاكله، ولا أن يوكل من يحلها بالنيابة عنه. فهذه التهديدات تنبع في قدر كبير منها من أفراد يحملون جنسية دول الغرب نفسها، كما أنها لا تحتمل الوكالة، إما لعجز الوكلاء عن مواجهة هذا النوع من الأزمات، وإما لأن التهديدات هذه المرة تمثل تحديا مباشرا لدول الغرب، بحيث تجد أنه من المحرج لهيبتها أن تنكص عن التعامل المباشر معها. ولكن في الواقع فإن هناك العديد من القيود على حركة الغرب إزاء التهديدات الحالية. على سبيل المثال لا تستطيع الدول الغربية أن تتبنى خيار العزلة، أو أن تغلق حدودها في وجه الآخرين، كما أنها لا تستطيع أن تعتبر كل أجنبي يقيم على أرضها إرهابيا محتملا، ولا تملك أن تتعقب الجميع أو أن تشتبه في الجميع. من ناحية أخرى لا تستطيع هذه الدول أن تتخلص ممن هم على أراضيها من ذوي الأصول الأجنبية، أو تطلب منهم المغادرة، صحيح أن بعض الدول تنزع جنسيتها عن أصحاب الجنسيات المزدوجة، ولكن من لا يملكون سوى جنسية الغرب يصبحون بقوة القانون مواطنين، لهم "نظريا" كافة الحقوق المتاحة لأقرانهم من الغربيين الخلص.من ناحية أخرى لا تستطيع الدول الغربية أن تعتمد على حلفائها لشن حروب بالوكالة ضد خصومها (من الجماعات التي تتهمها بدعم الإرهاب)، فالأنظمة الوكيلة لا يمكنها النيابة عن الغرب في هذه المهمة، ذلك أن تطوعها للقيام بهذا الدور يعرضها لاضطرابات داخلية وأعمال عنف قد تحول بينها وبين البقاء في مواقعها، فضلاً عن أن تقوم بدعم أهداف ومصالح حلفائها من الدول الكبرى. وحتى عندما تقرر دول الغرب التدخل بنفسها لمواجهة خصومها تحت يافطة "الحرب على الإرهاب" فإنها لا تستطيع أن تنتصر بأسلوب الهجمات الخاطفة، كما أنها لا تستطيع أن تدخل في إطار صراع مفتوح ضد عدو ليس له كيان واضح. فهذه حرب لا تستطيع أن تضمن النجاح فيها وخاصة في ظل أصداء فشلها الذريع في آخر حربين خاضتهما من نفس النوع (العراق وأفغانستان)، فضلا عن تدخلها غير الناجح في ليبيا.وإذا كان هذا هو ما لا يستطيعه الغرب فإن هناك من الخطوات ما يستطيع اتخاذها لوضع حد لما يواجه من تحديات، على سبيل المثال يستطيع الغرب أن يكف عن الادعاء بأن ما يلحق به من أزمات سببها ما يستشعره الآخرون من غيره إزاء قيمه وحضارته وليس ما يستشعرونه من غضب إزاء سياساته وأفعاله. كما يستطيع الغرب أن يكف عن إعطاء العالم دروسا في حقوق الإنسان وأن يعطي نفسه مهلة ليراجع الطريقة التي ينتهك بها هذه الحقوق من غير الغربيين، من ناحية أخرى يستطيع الغرب أن يتوقف عن المتاجرة بمآسي مواطنيه (بسبب ما يسميه الهجمات الإرهابية)، وأن يعترف بأنه يتحمل قدرا من هذه المعاناة، وأن ما تقوم به آلياته العسكرية من قصف غير مباشر للمدنيين العرب والمسلمين لا يختلف من حيث النتيجة النهائية أو من حيث التكلفة الأخلاقية عما تقوم به الجماعات المسلحة من استهداف مباشر للمدنيين الغربيين. من ناحية أخرى فإنه إذا كان الغرب لا يملك (أو لا يريد) أن يتدخل لإزاحة أنظمة الاستبداد التي أسهم على نحو ما في بلوغها سدة الحكم، فإنه على الأقل يستطيع أن يتوقف عن الاستمرار في دعمها فيما تمارسه من قمع لشعوبها، وقبل كل ذلك فإنه يستطيع (على الأقل نظريا) أن يتوقف عن دعم ربيبته إسرائيل وسياساتها العنصرية تجاه الشعب الفلسطيني.
569
| 09 ديسمبر 2015
لا شك أن أزمات عديدة تعاني منها «الدولة» في عالمنا العربي، فبشكل أو بآخر لم تعد الدولة هي الفاعل الوحيد، أو حتى الأكثر أهمية أو الأكثر قدرة على توجيه الأحداث، وإنما أصبحت في كثير من السياقات في موقف رد الفعل إزاء عدد من التحديات الخطيرة والوجودية التي لم تعتد مواجهتها من قبل. ويمكن رد الكثير من هذه التحديات إلى آفة الاستبداد التي تنفرد بها الكثير من أنظمتنا، ففي عالم صار الاستبداد فيه تقريبا من مخلفات الماضي، مازال العقد الاجتماعي بين الأنظمة العربية وبين شعوبها مشوها، إذ تأتي معظم الامتيازات في جانب الأنظمة فيما تقع معظم الواجبات على عاتق الشعوب. وإذا صار التعاقد الاجتماعي محل نظر فإن صيغة المواطنة نفسها تصبح في خطر، فإذا كانت المواطنة تقضي أن تنفرد الدولة بولاء مواطنيها، فإن الجماعات المقهورة يمكنها بطبيعة الحال أن ترد على استبداد الأنظمة الحاكمة بالتوجه بولائها إلى نطاقات أضيق (العائلة القبيلة العشيرة) أو أوسع (العقيدة، الأمة، الأيدولوجيا).الغريب أن الأنظمة التي صنعت باستبدادها هذه التحديات تطالب مواطنيها بالوقوف إلى جانبها لتجاوزها، ناسية أنها باستبدادها قد أوجدت حالة من الرفض بين المواطنين لأي مبادرة أو دعوة تأتي مصطبغة بالصبغة الرسمية. حتى صارت الشعوب العربية في مجملها تفكر بعقلية آداتية بحتة، بحيث تعطي الأولوية لمصالحها المباشرة ولا تلتفت إلى الخطابات الكبرى التي تصدرها أنظمة الاستبداد كضرورات تبيح لها ارتكاب المحظورات مثل خطابات الأمن القومي والمصلحة القومية.ما فعلته أنظمة الاستبداد من خلال رغبتها المتصاعدة في الهيمنة المطلقة أنها أفقدت شعوبها خصائصها الحية، وحولتها إلى أدوات للحكم، أو إلى مادة استعمالية، فأجواء المراقبة والتهديد، والقبضة الأمنية الغليظة، واستخدام القانون على نحو انتقائي كل ذلك أفرز مع الوقت حالة من السلبية والانسحاب الجماعي من المجال العام، وعدم الاستعداد للتضحية في سبيل القيم الكبرى، التي تفقد مع الوقت وبفعل الاستبداد مكانتها في نفوس الأفراد. فالمواطن الكومبارس الذي تصنعه أنظمة الاستبداد لا يمكن الرهان عليه لإنقاذ الدولة وقت الخطر، أو التضحية من أجل مبادئ لم يتعلم أن يحترمها أو أن يأخذها في اعتباره. والشعوب المبتلاة بالعقلية الآداتية تجد صعوبة كبيرة في القيام بأي فعل يتضمن بذلا أو تضحية. فالعقل الآداتي يتساءل عن الكيفية وليس عن الماهية، فما يهم هو كيفية الحصول على منافع المواطنة، وليس الحفاظ على الدولة التي يتوجه إليها بهذه المواطنة. بعبارة أخرى يربط الاستبداد أنماط التفكير لدى الشعوب المقهورة بمنظومة من الرغبات المادية الموحدة، فلا توجد في إطار العقلية الآداتية معان متجاوزة، أو قيم عليا مجردة، ومن ثم فإن معنى الوطن يمكن أن يختفي من عقل الإنسان المقهور، لتحل محلة مجموعة من المنافع المادية المباشرة التي يسعى للتحصل عليها في حياته، أو تحدث حالة من المرادفة بين الاثنين، فيصير الوطن هو ذلك المجال الذي يمكن التمتع فيه بهذه الخيرات المادية الملموسة، ومن هنا نفهم لماذا تنتشر بين المقهورين من أبناء الشعوب العربية الرغبة الملحة - لدرجة الإشراف على الموت - في الهجرة إلى أوطان أخرى تحترم آدمية الإنسان وتتيح له منافع العيش الكريم.الأخطر أنه في إطار أنظمة الاستبداد تتساوى الأضداد، ويستوي كل شيء بنقيضه، فالإيجابية تستوي مع السلبية، والوطنية تستوي مع العمالة، والعدو ينزل منزلة الصديق، والصديق يمكن أن يشيطن حتى يصير عدواً، حتى تختلط البوصلة على الجميع، ولا يصبح لأي شيء من قيمة سوى قيمته كأداة لتحقيق مصلحة مباشرة وآنية. هذه الآفات وغيرها لا يمكن القضاء عليها إلا باستئصال العقلية الآداتية وهذا لا يتحقق إلا من خلال القضاء على الاستبداد، فالمواطن الحر هو القادر على أن يدرك الفارق بين الغاية والوسيلة، وهو الذي يمكنه أن يضحي من أجل وطنه حتى لو لم يستشعر مصلحة مادية من وراء ذلك.
798
| 02 ديسمبر 2015
استعرضنا في مقالات سابقة كيف أن الجماعات الجهادية أصبحت فاعلاً مؤثرا في منظومة السياسة الإقليمية والدولية، ونحاول في هذا المقام أن نفهم لماذا تعتبر هذه الجماعات "الدولة الحديثة" نقيضا عقائديا لها؟ فبشكل أو بآخر تعتبر "الجماعات الجهادية" أن الدولة في صورتها الحديثة هي النقيض لفكرة الدين، وتستند في ذلك إلى دليل مستمد من الخبرة التاريخية للدول الغربية، وتفصيل ذلك يبدأ من المرحلة التي انفصلت فيها الدولة عن الكنيسة، وورثت الأدوار التي كانت تقوم بها الأخيرة، مدعية مقدرتها على منح مواطنيها خلاصا دنيويا يحققون من خلاله الكمال ويقضون به على الشرور المؤرقة للجنس البشري. فقد افترضت الدولة أنه بإمكانها وضع حد لأنانية الأفراد ورغبتهم المستمرة فى حيازة القوة وحملهم على التعايش والتعاون، وذلك من خلال وضع منظومة من القواعد القانوية المستمدة من فكرة المصلحة لا من القيم المستمدة من فكرة الإيمان. ومنذ حدوث هذا الانفصال أصبحت الدولة، وليس الدين، بؤرة اهتمام المؤرخين وعلماء الاجتماع والفلسفة. وبعدما كان التاريخ هو تأريخ الدين بكافة تفاصيله، أصبح تأريخا للسياسة. حتى إن كثيرا من فلاسفة الغرب اعتبروا أن مغزى التاريخ يتحقق باكتمال الدولة. فهيجل على سبيل المثال ادعى أن الأفراد لا يمكنهم إدراك ذواتهم ولا تحقيق حريتهم الحقيقية إلا فى إطار الدولة. فوفقا له فإن الظروف اللازمة لتحقيق الحرية والوعي لا تتواجد إلا داخل حدود الدولة القومية. وقد سبق هيجل فوكوياما بالقول بأن هناك نهاية للتاريخ، مع اختلاف أساسي يتمثل فى أنه إذا كانت أمريكا لدى فوكوياما هى الغاية من التطور التاريخي، فإن أوربا (وتحديدا دولة بروسيا) وفقا لهيجل كانت هي الهدف الأقصى من التاريخ. وقد وصل الأمر إلى اعتبار أن الدولة هي التجسيد للذات الإلهية على الأرض، فوفقا لهيجل، أنه إذا كانت قد جرت عادة الناس على التعبير عن الإعجاب بحكمة الله، كما تتجلى في الحيوان والنبات والمخلوقات، فلماذا لا تتجلى تلك الحكمة أيضاً في التاريخ العام وغايته النهائية المتمثلة في الدولة! وبحلول الدولة محل الكنيسة، صارت محل الهوية والانتماء ومحل القداسة، في الوقت الذي تراجع فيه الدين، وانكمشت قداسته واعتباره في صدور الناس. وقد تطور الأمر حتى وصل إلى قيام فلاسفة النهضة الأوربية باتهام للدين بأنه يعمل على إشاعة جو من الفرقة والانقسام، وأنه إذا كان للدين أن يمارس تأثيرا من أى نوع فيجب أن ينحصر هذا في المجال الشخصي. من ناحية اخرى كان البعض (مثل ميكافيللي) ينقمون على الدين أنه يُعلِي من شأن الرجال المتواضعين، خاملي الذكر، في الوقت الذي تحتاج فيه الحياة إلى رجال العمل والنشاط الفعال. فالحياة وفقا لفلاسفة النهضة تحتاج إلى مباديء الاقتصاد السياسي أكثر مما تحتاج إلى مبادي القيم والأخلاق. وتحتاج إلى منتجات العلم المادي، الذي ترعاه الدولة، أكثر مما تحتاج إلى العلم الديني، الذي ترعاه دور العبادة. وذلك على اعتبار أن منتجات العلم المادي مضمونة، وأثرها في تحسين حياة الناس مؤكد، فيما منتجات العلم الديني محتملة، وأثرها في تحسين حياة الناس نسبي وغير مؤكد.ولهذا حرص فلاسفة التنوير الأوربي على تأكيد دور الدولة في تحرير الفرد من الغيب، وحثه على الاهتمام بتهذيب حياته على الأرض، حيث كان النموذج الذي صيغت الطموحات النهضوية على أساسه هو الامبراطورية الرومانية الوثنية، الأمر الذي أكد انفصال نموذج الدولة الجديدة عن الدين، كما أكد انفصال المصلحة السياسية عن القيم الدينية بكافة أنواعها. ميكافيللية الدولة الحديثة تمثلت أيضا في اعتبار السياسة ضربا من ضروب المؤامرة والخداع والمناورة، مع عدم وجود أى وازع من ضمير، ولا تفكير في الجزاء والعقاب الأخروي، ومن ثم اعتبرت السياسة وما يرتبط بها من تدبير شؤون الدولة أمرا أرضيا محضاً. فالدولة هي مجتمع ينظم حياة الأفراد في استقلال تام عن الدين. هذا التاريخ المتوتر للعلاقة بين الدين والدولة تفترض الجماعات الجهادية المسلحة أنه لا يخص الدولة الغربية فحسب، وإنما تنسحب آثاره لتنطبق على الدولة في عالمنا العربي، وذلك لأن هذه الأنظمة — من وجهة نظرها — لم تُقم مفاصلة واضحة بينها وبين الأنظمة التي استقلت عنها إبان مرحلة التحرر من الهيمنة الاستعمارية الغربية. وإنما ورثت هذه الأنظمة عن المستعمر علمانيته وقوانينه وأنظمته،
469
| 25 نوفمبر 2015
هل تقتل الدول المدنيين؟ نعم إنها تفعل أو على الأقل بعضها يفعل. فلماذا تبدو تفجيرات باريس الأخيرة والتي نفذتها إحدى «الجماعات الجهادية» مدانة على نطاق عالمي؟ الإجابة المباشرة عن هذا التساؤل هي أن هذه الجماعات تستحضر مكونا محظورا في الصراعات الدولية وهو المكون الثقافي والهوياتي. فالجماعات الجهادية تحدد أهدافها على أساس من الهوية وهو ما يحرم أفعالها من الشرعية، أما الدول فإنها تنطلق في صراعاتها من اعتبارات المصلحة القومية «المشروعة»، ومن ثم فإنها تبرر ما توقعه من خسائر في الأرواح بين المدنيين وغيرهم بزعم تحقيق مصالح مواطنيها. آفة المكون الهوياتي تكمن في طابعه الأزلي والنهائي، إذ ينطلق من مجموعة مقولات عابرة للزمن، تستحضر ألوانا من التناقضات التي لا يمكن حلها، وتستبطن تعارضات لا سبيل إلى معالجتها. فالثنائيات الهوياتية عادة ما تأخذ شكل المعادلات الصفرية التي تهدد وجود أحد الأطراف المتصارعة، فالهزيمة فى إطار صراع من هذه النوعية من شأنه لا أن يلحق فقط بالمهزوم خسارة يمكن تعويضها، ولكن أن يضع وجوده على المحك. ولهذا تحرص الدول على عدم التورط في صراعات هوياتية، وتستعيض عنها بصراعات وحروب المصالح القومية. وحتى إذا تبنت الدول في صراعاتها شعارات ثقافية لا لبس فيها كالدفاع عن العلمانية أو نشر الديموقراطية، فإنها تحرص على أن تطرح هذه الشعارات كأهداف محايدة ومنافع عامة، وليس كتبريرات ثقافية تناسب بعض الهويات فيما تتعارض مع أخرى. من ناحية ثانية تفهم الدول القومية أن استحضار المكون الثقافي في الصراع يشحذ نفس الرغبة لدى الآخرين، وينتهي إلى حالة من الاستقطاب المتصاعد. ولهذا فإن العقلية البراجماتية للدولة الحديثة تجعلها تحجم عن تصدير خطاب الهوية، حتى لا ينتهى بها المطاف إلى صراعات ثقافية لا نظامية لا قبل لها بها. والسؤال المطروح حاليا هو هل ستغير تفجيرات باريس من هذه القناعات؟ إن ضخامة الحدث تبرر أن تقفز الهوية إلى السطح على نحو صريح لا لبس فيه. ولكن المتوقع فعلياً أن يتم الإصرار على نغمة «المصالح القومية»، والتأكيد على هامشية المكون الثقافي الهوياتي للصراع. مع تصدير تيمة الإرهاب العالمي، الذي يحقق دورا وظيفيا في هذا الخصوص. تكمن في أنه يعفى الدولة من عبء تبرير سياساتها ذات المضمون الهوياتي، فعلى الرغم من أن ما تسميه الدول بالإرهاب يحوي مكونا ثقافيا وهوياتيا واضحا، إلا أن الدول يمكنها مواجهته من دون الوقوع في فخ الصراعات الحضارية. كما أن استدعاء مقولة الإرهاب يعطي مسوغا قانونيا وليس ثأريا للأفعال ذات الطبيعة الانتقامية التي قد تمارسها الدول ردا على ما تتعرض له من هجمات، فالإرهاب يوفر مظلة قانونية للدول لارتكاب أفعال قد لا تختلف كثيرا عن تفجيرات باريس لا فى الشكل ولا فى النتيجة. الفارق هنا أن الدول يمكنها أن تدعي أنها إنما تأخذ بقاعدة محايدة وعامة (القانون)، في مواجهة الطرف الآخر (الجماعات الجهادية) الذي يستحضر اعتبارات ثقافية خاصة ليبرر بها أفعاله. ثمة مقاربات أخرى يمكن أن يتم اللجوء إليها فى هذا الإطار تتضمن الخلط بين مفهوم المصلحة القومية ومفهوم الهوية. هذه المقاربات ربما تعمد إلى طرح المصلحة القومية فى إطار هوياتي، بحيث يتم الحديث عن الهوية بشكل يخلط بين المصلحي بالثقافي، فالضربات الانتقامية والإجراءات الاستثنائية والقوانين العرفية يمكن أن يتم تمريرها فى إطار من إنقاذ الهوية/المصلحة القومية. (مثلما تم في إطار التجربة المصرية مؤخرا حينما تم تبرير الانقلاب على النظام القائم بضرورات الحفاظ على الهوية المصرية، بوصفها أحد مكونات الأمن القومي المصري). وأيا ما كان السبب الذي يمكن أن تبرر به أفعال الدول في مواجهة أفعال الجماعات من غير الدول، فإن الملاحظ أن هذه الجماعات قد اكتسبت قوة فى إطار التفاعلات الإقليمية والدولية، وقدرة على إخراج الأنظمة عن توازناتها ودفعها إلى الوقوف في موقف رد الفعل، وهو الأمر الذي لم تعتده الأنظمة الكبرى، ولا وكلاؤها الذين اعتادوا مواجهة التحديات النمطية.
519
| 18 نوفمبر 2015
مساحة إعلانية
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات...
4602
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه،...
3402
| 29 سبتمبر 2025
تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في...
1431
| 05 أكتوبر 2025
في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ...
1119
| 02 أكتوبر 2025
من أخطر ما يُبتلى به التفكير البشري أن...
1059
| 29 سبتمبر 2025
منذ أكثر من مائة عام ارتُكبت واحدة من...
885
| 30 سبتمبر 2025
في لحظة صفاء مع النفس، يطلّ النسيان عليَّ...
852
| 30 سبتمبر 2025
لسنا متشائمين ولا سلبيين في أفكارنا وتوقعاتنا ولكن...
768
| 03 أكتوبر 2025
كم مرة قلت «نعم» في العمل بينما في...
750
| 02 أكتوبر 2025
في فجرٍ قطريّ عليل، كان البحر يلمع بألوان...
633
| 30 سبتمبر 2025
كيف نحمي فرحنا من الحسد كثيرًا ما نسمع...
624
| 30 سبتمبر 2025
في الوقت الذي كان العالم يترقب رد حركة...
621
| 05 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية