رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

لماذا لا يفهمون الشرق الأوسط؟

ترتبط السياسة في الغرب بأطر نظرية تنطلق منها، فمعظم الخبراء والإستراتيجيين في الإدارات الأمريكية المختلفة عادة ما يكونون أكاديميين سابقين، لذا تغلب على نصائحهم الصبغة النظرية المنطلقة من خبرتهم الأكاديمية. وإذا كنا قد بينا أن الطاقم الاستشاري للإدارة الأمريكية الحالية تغلب عليه النزعة الواقعية، فإن الملاحظ أن الشرق الأوسط يكاد أن يقع بشكل كامل خارج نطاق فرضيات النظرية الواقعية، الأمر الذي يجعل نصائح هؤلاء الخبراء لا تصب في فهم المنطقة أو التعامل معها على نحو سليم.فإذا كان التفكير الواقعي يهتم بدراسة سلوك وأفعال ومشكلات "الدول" بوصفها الوحدات السياسية "الوحيدة" القادرة على التصرف "بعقلانية" سعيا لتحقيق مصلحتها القومية. فإنه لنفس هذه الأسباب لا يمكن فهم المنطقة على أساس من الافتراضات الواقعية، فالدولة في إطار العالم العربي، ليست الوحدة السياسية "الرشيدة" ولا "الوحيدة"، فمن ناحية تعد "الدولة" في العالم العربي مظهرا من مظاهر أزمات هذا الإقليم، سواء من حيث الطريقة التي تكونت ثم تطورت بها أو من حيث أسلوبها في حل مشكلاتها الداخلية أو الخارجية. ومن ناحية أخرى فإن الدولة في العالم العربي ليست الفاعل الوحيد والحصري فيما يتعلق بمجمل التفاعلات الإقليمية والدولية التي تشهدها المنطقة. ففي إطار الأزمات التي تشهدها المنطقة منذ تعثر الربيع العربي، ظهر واضحا أن ثمة كيانات أخرى من غير الدول تشكل فواعل رئيسية في هذه الأزمات، أبرزها الحركات الدينية المسلحة، والتي يطلق عليها البعض اسم "الحركات الجهادية"، فيما يشير إليها آخرون باسم "الحركات الإرهابية". هذه الجماعات لا يمكن فهمها ولا التنبؤ بسلوكها وفق الافتراضات الواقعية، فبشكل عام تشكل هذه الجماعات كيانات غير قومية، ومن ثم لا يمكن الحديث عن مفهوم "المصالح القومية" كدوافع محركة لسلوكها. ومن ناحية ثانية فإنها جماعات غير نظامية، لا تمتلك جيوشا بالمعنى التقليدي، ولكنها تشكل تهديدا حقيقيا للدول الإقليمية والكبرى على حد سواء. وإذا كان الواقعيون يؤمنون أن الأطراف الأضعف ليس أمامها سوى محاولة موازنة الأطراف الأقوى أو مسايرتها، فإن الجماعات الجهادية تقع مرة أخرى خارج النطاق التفسيري لمقولاتهم، ذلك أن هذه الجماعات (على خلاف الأنظمة الرسمية التي عادة ما تختار الانضواء تحت قدرات الولايات المتحدة) تعلن حالة من العداء الصريح للإدارات الأمريكية وللقوى النظامية المتعاونة معها إقليمياً رغم أن القدرات المادية لهذه الجماعات لا تتناسب على الإطلاق مع ما تتبناه من أهداف. ونظرا لخروج هذه الكيانات عن الإطار التفسيري للنظريات الواقعية، فشل الواقعيون في توقع أو تفسير أحداث 11 سبتمبر، كما اضطربوا في تحديد نتيجة تدخل الولايات المتحدة في كل من العراق وأفغانستان، فرغم التفوق العسكري الواضح الذي أظهرته الولايات المتحدة في كلا الحربين، فما زال لأفكار طالبان نفس بريقها، ومازالت المقاومة العراقية تكتسب زخما يتمدد خارج حدود الدولة العراقية.وبطبيعة الحال تسربت الرؤية الغربية القاصرة في مواجهة هذه الظاهرة إلى عدد من الأنظمة الإقليمية الحليفة للولايات المتحدة، ورأينا حروبا مصغرة تتم داخل عدد من الدول العربية ضد من يوصفون بأصحاب الفكر الجهادي المتطرف، ولكن نتيجة هذه الصدامات لم تكن أفضل من نتيجة الحرب التي شنتها الولايات المتحدة من قبل ضد ما تصفه بـ"الإرهاب". ويبدو وجه القصور في الحالتين واحدا، وهو استخدام منطق القبضة الغليظة في التعامل مع مشكلة ذات طبيعة فكرية وثقافية بالأساس. الأمر الذي يهدد بجر المنطقة ككل إلى عواقب شديدة الخطورة، فهل تمكن الاستعاضة عن منطق القوة (الذي تعبر عنه النظرية الواقعية) بمنطق آخر أكثر مراعاة لطبيعة هذه الأزمة، تزعم النظريات البنائية أنها تملك طرحا أكثر إيجابية نناقشه في مقالة تالية، إن شاء الله.

677

| 11 نوفمبر 2015

فكرة القوة وقوة الفكرة

عرضنا في المقالات السابقة للنظرية الواقعية التي تفسر سلوك الدول على أساس من "المصلحة الوطنية"، وتفترض أن فوضى النظام الدولة تجبر الدول على انتهاج سلوكيات براجماتية بحتة. فالفوضى الدولية (والتي تشير إلى عدم وجود حكومة عالمية) تتيح نظريا لكل دولة أن تبادر بشن العدوان على الآخرين إذا رأت أن ذلك في مصلحتها، وتجنبا لحالة حرب الجميع ضد الجميع توصي النظرية الواقعية الدول بالعمل على زيادة قدراتها العسكرية وإعطاء الموضوعات الأمنية الأهمية القصوى، على اعتبار أن هذه الموضوعات تمس وجودها المادي. ولكن إذا كان الواقعيون ينتصرون لـ"فكرة القوة"، فإن هناك من ينتصرون لـ"قوة الفكرة"، ويعتبرون أن الأفكار وليس القوى المادية هي المحرك الأساسي للعلاقات بين الدول. ووفقا لهؤلاء تشكل "الأفكار" الأساس الضروري لعلاقات القوة، كما أنها تفسر ما لا تستطيع القدرات والإمكانات المادية المجردة للدول أن تفسره. فما تتبناه الدولة من قرارات وبدائل، لا يرتبط فقط بالمعطيات المادية المتاحة لها، وإنما بمقوماتها الفكرية وشخصيتها الثقافية. أبرز الاتجاهات النظرية التي تتبني هذه المقولات هي النظرية البنائية (Social Constructivism) والتي تذهب إلى أن الأفكار والقيم السياسية هي ما يفسر تفاصيل الواقع وما يشهده من تفاعلات، وأن فوضى النظام الدولي تمثل عنصرا محايدا، قد تدفع بالدول إلى الصراع ولكنها تحمل أيضا إمكانات للتعاون، فما يصنع الفارق الحقيقي هو شخصية كل دولة، وهويتها الثقافية والفكرية والعقائدية. وبناء على هذه الاتجاه النظري يصبح السؤال الأهم ليس مقدار ما تحوزه الدولة من قوة اقتصادية أو قدرات عسكرية، وإنما هو ما الذي تعتقده الدولة بخصوص نفسها، وما طبيعة الدور الذي تود أن تلعبه، أو على الأقل ترى نفسها مؤهلة للعبه. وبناء على هذه الافتراضات تفسر النظرية لماذا - رغم قوتهما التكنولوجية والاقتصادية الهائلة- لا تمارس دولتان مثل اليابان وألمانيا أدوارا سياسية فاعلة على المستوى الدولي، ولماذا يفضلان عدم الانخراط في أي عمل ذي طبيعة عسكرية. فهاتان الدولتان لا ترغبان في النظر إلى نفسيهما على أنهما قوي كبرى على المستوى العسكري، حيث تشكلت شخصيتهما بعد الهزيمة الساحقة في الحرب العالمية الثانية على نحو يحول بينهما وبين حيازة نزعة تداخلية في شؤون الغير. المسؤول عن سلوك هاتين الدولتين في هذه الحالة هو طبيعة أفكارهما الذاتية وليس قدراتهما الفعلية أو مصالحهما القومية، بعبارة أخرى فإن المتغير الحاسم هنا هو الأفكار المبدئية والشخصية الثقافية وليس المصلحة الجامدة أو الرغبة في النفوذ كما تفترض النظرية الواقعية. المشكلة في عالم الأفكار أنها ليست ملكا لمن يصوغها، فعندما تتكون شخصية ما لدولة من الدول، تبدأ الدول الأخرى في التعامل معها على أساس ما تتصوره عنها، وليس على أساس هويتها الفعلية، الأمر نفسه داخلياً، فما أن يصل حزب ما ذو نسق فكري معين إلى السلطة حتى يبدأ الناس بالتعامل معه على أساس ما يتوقعونه منه، وليس على أساس شخصيته الفعلية. وربما يفسر هذا جانبا من فشل تجربة الإسلاميين في الحكم في أعقاب الربيع العربي، فمن الواضح أن الشعوب العربية تمتلك أفكارا سابقة التجهيز (إيجابا وسلباً) بشأن "نمط الحكم الإسلامي"، ومن ثم فقد حاكموا الأنظمة الإسلامية المنتخبة على أساس ما يتوقعونه منها وليس على أساس ما قامت بتحقيقه فعليا. وبطبيعة الحال تتحمل الأحزاب الإسلامية قدرا كبيرا من المسؤولية عن هذا الفشل، فقد. وعلى العكس من تجربة الحكم المتعثرة للأنظمة الإسلامية في دول العالم العربي، يمكن تفسير نجاح تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا بمراعاة قادته لهذه الجزئية، فالمكون الحضاري، والمحتوى الفكري، والأساس الثقافي يبدو واضحا في خطاب قادة هذه الحزب، كما يجيد هؤلاء مخاطبة توقعات الناس وهواجسهم على نحو إيجابي، حتى لو تصرفوا وقت التطبيق على نحو لا يتسق بدرجة كاملة مع هذه التوقعات. الانتخابات التركية بهذا المعنى تمثل درسا للأحزاب الإسلامية المنكوبة في العالم العربي، حول كيفية استثمار قوة الأفكار، طالما تعذر عليها أن تمتلك أفكارا لزيادة القوة.

2375

| 04 نوفمبر 2015

سوريا والواقعيون الجدد

طالما طرق اسم "المحافظين الجدد" آذان المتابعين للشأن الأمريكي، بسبب الأثر (السلبي) الذي تركوه خلال ولاية بوش الابن على الطريقة التي تفاعلت بها إدارته الجمهورية مع الشرق الأوسط، ولكن اهتماما موازيا لم ينصرف إلى نظرائهم من "الواقعيين الجدد" الذين يمارسون تأثيرا ربما لا يقل أهمية في إطار الإدارة الديمقراطية الحالية. فما هي الواقعية الجديدة، وما أبرز مقولات الواقعيين الجدد حول الوضع في الشرق الأوسط، وما هو موقفهم من التدخل الأمريكي في الشأن السوري؟تؤمن الواقعية الجديدة أن الغاية الأسمى لأي دولة تتلخص في دفاعها عن وجودها، ومعنى الدفاع عن الوجود عند الواقعيين الجدد يكاد أن ينحصر في تأمين الدولة ضد التهديدات الخارجية. وعلى هذا الأساس تتحدد الأهمية الإستراتيجية للدول الأخرى بالنسبة للولايات المتحدة، بمعنى أنه طالما أن دولة ما لا تمثل تهديدا ولا تشكل خطرا على الولايات المتحدة عسكرياً، فإنها تعد من منظور الواقعية الجديدة دولة ذات أهمية إستراتيجية منخفضة. ومن خلال رؤية العالم عبر هذا المنظور الأمني الضيق يعتقد الواقعيون أن الولايات المتحدة آمنة على نحو استثنائي، فهي محاطة بمسطحين مائيين هائلين. كما أنها تمتلك آلاف الرؤوس النووية التي تشكل رادعا مطلقاً، علاوة على ذلك فإنها لا تواجه تهديدات جدية من جيرانها المباشرين، وذلك لكونها تسيطر على محيطها الإقليمي على نحو كامل. أما خارج محيطها الإقليمي فلا تكاد أن تواجه قوة عظمى مكافئة لها. ويميل الواقعيون إلى تصور العالم (منذ نهاية الحرب الباردة) كمنظومة أحادية القطب، وذلك في مواجهة الادعاءات التي تفترض أن روسيا والصين تشكلان قوتين عظميين منافستين، إذ يؤكد الواقعيون أنه بمعايير القوة المجردة تعد هاتان القوتان ضعيفتين جدا بالمقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية، بحيث لا يملكان تهديدها داخلياً.في ضوء كافة هذه الحقائق يمثل الشرق الأوسط بشكل عام منطقة قليلة الأهمية من منظور الواقعية الجديدة، وتكاد أن تنحصر أهميته بالنسبة للولايات المتحدة، في قدراته النفطية، ذلك أن الخليج العربي ينتج %30 من النفط العالمي، ويحوي 55ص من الاحتياطيات المؤكدة. يترتب على هذا أن دول الشرق الأوسط التي لا تمتلك نفطاً (مثل سوريا) لا تشكل أهمية إستراتيجية كبيرة للولايات المتحدة. ولهذا يؤكد الواقعيون أنه إذا كان على الولايات المتحدة أن تهتم أو أن تتدخل في المنطقة، فإن هذا يجب أن يقتصر على ما إذا تعرض النفط أو الدول المنتجة له لتهديد. أما التدخل فيما عدا ذلك فإنه سينعكس بالسلب على المصالح الأمريكية.من ناحية أخرى يؤكد الواقعيون الجدد على أن أمريكا لا يضيرها من يتولى الحكم في دمشق، بالنظر إلى أن لديها تاريخا حافلا بالتعامل مع قادة من مختلف الأنواع. ويذكّر الواقعيون الجدد بأنه رغم كل ما يقال عن الضرورات الأخلاقية للإطاحة بالرئيس السوري، فإن الولايات المتحدة تمكنت من التعايش معه ومع والده الذي لا يقل عنه قسوة لسنوات طويلة. أما الدفع بأن النظام السوري قد استخدم الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، فيرد الواقعيون عليه بالقول إن تقديرات قتلى الأسلحة الكيماوية مبالغ فيها، مقارنة بأعداد قتلى الأسلحة التقليدية التي تقدر بعشرات الآلاف. ومن وجهة نظر الواقعيين الجدد، فإنه لا فارق حقيقيا بين كون الأسلحة الكيماوية تقتل بطريقة بشعة مقارنة بالأسلحة التقليدية، كما يشير الواقعيون إلى حقيقة كون الولايات المتحدة قد سبق وساعدت نظام صدام حسين الذي استخدم الأسلحة الكيماوية في حربه ضد إيران.أما بخصوص الحجج التي تعتبر أن الإطاحة بنظام الأسد ستمثل ضربة للإرهاب. فيرفضها الواقعيون الذين يذهبون إلى أن الإرهاب رغم كل ما يحيط به من مبالغات يظل مشكلة ثانوية بالنسبة للولايات المتحدة، ولا يشكل تهديدا جديا لها. ودليلهم على ذلك أن هجوم 11 سبتمبر على قدر ضخامته لم يشل قدرات الولايات المتحدة ولم يوقع بها هزيمة عسكرية. وعلى العكس يؤمن الواقعيون الجدد بأن التدخل الأمريكي المكثف في سوريا من شأنه أن يذكي الإرهاب لا أن يردعه، ويؤكدون أن حملة الإطاحة بالأسد التي تبنتها إدارة أوباما هي واحدة من الأسباب التي حولت سوريا إلى ملاذ للجماعات الإرهابية. من ناحية أخرى يذكّر الواقعيون منتقديهم بأنه سبق وأن ساعد النظام السوري أمريكا في الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث قدم معلومات استخباراتية عن القاعدة أسهمت في إحباط هجمات على أهداف أمريكية. كما كان النظام السوري منخرطا بقوة في برنامج التسليم الاستثنائي للإرهابيين في عهد إدارة بوش. كما يرفض الواقعيون الحجج التي تذهب إلى أن التدخل في سوريا سيمثل ضربة قوية لإيران، ويساعد على مواجهة نفوذها المتزايد في المنطقة ورغبتها في امتلاك السلاح النووي، فبرأيهم أن التدخل الأمريكي في المنطقة (في العراق) سبق وأن عزز النفوذ الإيراني ولم يقلله، من ناحية أخرى يعتبر الواقعيون أن الهيمنة الإيرانية على المنطقة مازالت بعيدة المنال، إذ لا يمكن لإيران تفعيل تهديداتها بمهاجمة جيرانها، لأنها تعلم أن الولايات المتحدة ستكون لها بالمرصاد. من ناحية أخرى يرى الواقعيون الجدد أنه حتى لو امتلكت إيران قوة نووية، فإنه لن يتسنى لها استخدامها، لا ضد جيرانها السنة، ولا ضد إسرائيل. من ناحية أخيرة فإن إيقاع الهزيمة بإيران في سوريا - وفقا للواقعيين - لن يضعف قوة إيران العسكرية أو الاقتصادية على نطاق واسع، وإنما على العكس سيشعر إيران بأنها ربما تكون الثانية على لائحة الاستهداف الأمريكي، ما سيزيد من دوافعها لامتلاك السلاح النووي.تفسر المقولات السابقة — إلى حد كبير — السياسة الأمريكية المترددة إزاء نظام بشار الأسد، وتشرح بعضا من أبعاد رد الفعل الأمريكي السلبي إزاء الضربات الروسية، والأهم أنها تظهر الأثر الذي يمارسه منظرو الواقعية الجديدة على صانع القرار الأمريكي. وأيا ما كان تقييم هذه المقولات، فإنها تساعد على فهم السلوك الأمريكي بداخل إطار نظري منطقي، وذلك بدون اللجوء إلى نظريات المؤامرة التي تفترض دوما أن ما يحيط بنا من تفاعلات إقليمية مربكة لا يمكن تفسيرها إلا من خلال افتراض وجود ترتيبات كونية سرية لا طاقة لنا بفهمها ولا بالتأثير عليها.المصدر الأساسي: جون ميرشايمر، أمريكا المرتبكة، منتدى العلاقات العربية والدولية.

627

| 28 أكتوبر 2015

بين سياسات الهيمنة وسياسات التوازن

تناولت هذه الزاوية في مقال سابق مسألة التدخل الروسي في الأزمة السورية، وذهبت إلى أن الواقعية التي تحكم سلوك الروس تتيح لهم تسجيل نقاط أكثر فيما يتعلق بالقدرة على إظهار القوة وممارسة التأثير، مقارنة بالأمريكيين المترددين، ولكن هل يعني التردد الأمريكي أن ما يحكم سلوك أمريكا الخارجي شيء آخر بخلاف الواقعية السياسية؟الإجابة المباشرة هي النفي، فكلا الطرفين يدينان بالواقعية السياسية ويعتنقان مذهب القوة، ولكن وفق نسختين مختلفتين، الأولى هي "واقعية الهيمنة"، والثانية هي "واقعية التوازن". وفيما تشير الأولى إلى أن المصلحة القومية قرينة سياسات الهيمنة، تشير الثانية إلى أن المصالح القومية للدولة يمكن تحقيقها من خلال فرض نمط معين من التوازن.وكما أشرنا في المقال السابق ينتمي بوتن إلى المدرسة الأولى (واقعية الهيمنة)، حيث يؤمن أن التدخل العسكري المباشر هو ما يحفظ لبلاده هيبتها على المستوى الدولي، وقد مارس بوتن هذا التدخل بالفعل خلال الأزمة الأوكرانية، ثم هاهو يكرره من خلال تفاصيل الأزمة السورية. وكما هو معلوم فإن الروس يمارسون التدخل للحفاظ على الهيمنة بالمعنى النسبي، وليس بالمعنى المطلق، فهم يفهمون أن التربع على قمة النظام الدولي لم يعد في استطاعتهم، وأن أقصى ما يمكنهم المناورة بشأنه حاليا هو مزاحمة الولايات المتحدة، وليس الاستيلاء على مكانتها أو إزاحتها عنها. من هذا المنطلق يرى الروس أن ترك حليفهم (بشار الأسد) في مواجهة خطر السقوط، يخصم من هيبتهم المتآكلة أصلاً (بفعل الاتفاق النووي بين أمريكا وإيران)، وقد يكتب نهاية لدورهم التاريخي في هذا البقعة المهمة من العالم.أما أوباما فيعتقد أن استقرار المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط يمكن أن يتحقق من خلال سياسات التوازن، وهذه لا تتضمن التدخل العسكري المباشر بالضرورة. فالنسخة الأمريكية من الواقعية السياسية تفترض أن محدودية المصالح تبرر عدم التورط العسكري، وعليه فإنه رغم أن أمريكا تريد التخلص من تنظيم الدولة ونظام بشار، فإنها تفضل أن يتم ذلك من خلال تدخل متوازن، تشترك فيه مع تحالف متعدد الأطراف، يضم كلاً من السنة والشيعة، والعرب والأتراك، فالتدخل - من وجهة نظرها- لا ينبغي أن يكون ذا صبغة أمريكية فحسب، ولكن يشمل كل الألوان السياسية والعقائدية أيضاً. من ناحية أخرى يستبعد أوباما من حساباته ما يسمى بـ"الهندسة الاجتماعية"، أو إدعاء القدرة على إعادة تشكيل المجتمعات في البلدان التي يتم التدخل فيها، خصوصا إذا ما كانت هذه البلدان تعاني أصلاً من انقسامات داخلية لا يمكن حسمها أو علاجها، كما هو الحال في معظم بلدان الشرق الأوسط، ومن هذا المنطلق يمكن أن نفهم السبب وراء قراراته الانسحابية من العراق وأفغانستان، فضلاً عن إحجامه فيما يتعلق بالوضع السوري. حيث ترى إدارة أوباما أن إعادة بناء الدول في أعقاب التدخل العسكري هي عملية معقدة ومكلفة للغاية، ولهذا فإنها - بمنظور المصلحة القومية الضيق - تعد أمرا غير ضروري. وقد عبر أوباما عن طبيعة تصوره لمفهوم "القيادة - الهيمنة العالمية" في ثنايا حديثه لإحدى القنوات الأمريكية مؤخرا بالقول "إنه إذا كان ما يقوم به (الروس) من طرح للاقتصاد أرضاً، وإرسال القوات خارج البلاد لدعم حليف، يعتبر قيادة، فإن لدينا تعريفا مختلفا للقيادة". وذلك في تأكيد على أن إدارته تعطي الأولوية للاعتبارات الاقتصادية، وتستبعد فكرة التدخل لمجرد إنقاذ حليف خارجي. وهو المعنى الذي ترجمه أوباما على نحو عملي خلال الثورة المصرية، عندما تخلى عن حليفه مبارك، وامتنع عن التدخل لصالحه، ولكنه نجح في استعادة التوازن الذي تحتاجه المصالح الأمريكية من خلال الاعتراف بخليفته "العسكري" الذي رأت الإدارة الأميركية أنه قادر - بحكم الأمر الواقع - أن يضمن لها مصالحها. وكما نأى أوباما بنفسه عن التدخل في الشأن المصري، وترك التفاعلات حتى وصلت إلى نقطة توازن تسمح له بالاستفادة منها، فإنه يبدو على استعداد لأن ينتظر حتى تصل الأمور في سوريا إلى نقطة مشابهة، تسمح له باستعادة الاستقرار من دون تكلفة عالية، حتى لو تضمن ذلك التغاضي عن التدخل الروسي، والذي تم على نحو لا يخلو من الاستعراض.هذا وقد تعهد أوباما بالعمل خلال ما تبقى من رئاسته على أن تظل بلاده في المركز الأول كقوة عظمى على مستوى العالم، ولكنه أعرب عن شكوكه في أن يكون المقياس الوحيد لذلك هو أن ترسل بلاده بقوات إلى الخارج. مؤكداً أنه لن "يقع في الخطأ مجددا، (ولن) يقوم بدور شرطي المنطقة، (ولن) يحاول حكم المنطقة بالنيابة عن أهلها".المشكلة التي تواجه الإدارة الأمريكية الحالية أنها وإن كانت تدعم سياسات التوازن وتصر عليها، فإن خصومها من الجمهوريين أكثر اقتناعا بسياسات الهيمنة. ولا ننسى أن مشروعات مثل "القرن الأمريكي"، و"الفوضى الخلاقة"، و"التدمير البناء"، و"حرب النجوم"، ظهرت كلها خلال ولاية رؤساء جمهوريين. وفحوى كل هذه المشروعات كان هو فرض الاستقرار بالقوة من خلال الهيمنة الصريحة. وعليه فإنه حتى إذا كانت حسابات التوازن هي ما يحكم سلوك الإدارة الديمقراطية الحالية، فإنه قد تضطرها الضغوط التي يمارسها الجمهوريون إلى مجاراة السلوك الروسي (عن طريق تسليح المعارضة السورية على نحو أكثر فاعلية على سبيل المثال)، حتى لا يصبح الطريق إلى البيت الأبيض ممهدا تماما أمام الجمهوريين في انتخابات الرئاسة القادمة.الغائب الحاضر عن هذه الصورة الإقليمية المربكة هو المشروع العربي، فإذا كان للروس مشروعهم القائم على الهيمنة وكان لأمريكا مشروعها القائم على التوازن، فما هو المشروع العربي، وعلى ماذا يقوم، وهل يمكن بالفعل بلورة مشروع عربي موحد في ظل حالة التفكك التي تعاني منها المنطقة العربية حالياً؟ وإذا أمكن لذلك المشروع أن يتبلور، فعلى يد من يمكن أن يتم ذلك؟ أسئلة تستدعي قراءة خريطة التفاعلات الإقليمية على نحو تفصيلي على نحو ما سنحاول في مقالات لاحقة إن شاء الله.

495

| 21 أكتوبر 2015

ومازالت القوة هي لغة العلاقات الدولية

تحت شعار مكافحة الإرهاب بدأت روسيا الأسبوع الماضي في توجيه ضربات جوية لأهداف سورية، في خطوة تصعيدية خطيرة ليس فقط بالنسبة لأنظمة وبلدان الشرق الأوسط، ولكن بالنسبة للقوى الأوروبية وأمريكا أيضاً. فالتدخل الروسي يشير بوضوح إلى تخطي الروس لحدود القوة المعترف بها، كما يتضمن الشروع في تغيير ملامح نظام دولى استقر على أسس معينة منذ نهاية الحرب الباردة، الأخطر أن مخاض هذا التغيير ينطلق هذه المرة من الشرق الأوسط، معمل السياسة الدولية، ومحل اختبار مقدرة أى قوة تطمح إلى تعديل موقعها في هيكل النظام الدولي.هذا وقد أخذ التدخل الروسي شكل استعراض القوة وليس فقط مواجهة من تسميهم روسيا الجماعات الإرهابية، فوفقا لما نشرته وكالات الأنباء أرسلت موسكو العديد من الأسلحة المتطورة وأسراب المقاتلات التي تستخدم في القصف الجوي الجوي، فضلاً عن صواريخ لمواجهة بطاريات المضادات الجوية، ومن المعلوم أن تنظيم الدولة الذي تدعي روسيا تدخلها من أجل القضاء عليه، لا يمتلك قوات جوية ولا طائرات، الأمر الذي يثير التساؤل حول الغرض الذي من أجله ترسل موسكو بهذه الترسانة المتطورة إلى المنطقة.ورغم خطورة الخطوة الروسية إلا أنها قوبلت بموقف أوروبي مفكك، ورد فعل أمريكي ضعيف. وعلى حد البعض فإن ردود الأفعال الأوروبية تبدو في هذه الأزمة شبيهة بردود أفعال العالم العربي إزاء الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين، فهي تعكس نفس الحالة من العجز والتردد وقلة الحيلة. وتكاد تتمحور حول الاستنكار والشجب، على سبيل المثال، اكتفى حلف شمال الأطلنطي بالتنديد بالخطوات الروسية، داعيا روسيا إلى الوقف الفوري لهجماتها ضد المعارضة السورية والمدنيين. أما بريطانيا فوصفت السلوك الروسي بأنه يهدد النظام الدولي، مضيفة بأن روسيا لا تحترم الأعراف الدبلوماسية. أما فرنسا فلم تستطع إلا أن تطالب بتركيز الضربات الروسية بحيث تستهدف فقط تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات التي تعتبر إرهابية مثل جبهة النصرة، أما الحكومة الألمانية فقد أعربت عن "تشككها" إزاء صحة البيانات الروسية بشأن أهداف الهجمات التي يشنها السلاح الجوي الروسي في سوريا، مطالبة بأن تطابق روسيا بين أقوالها وأفعالها!أما الموقف الأمريكي، والذي يستحق مقالاً منفردا لما يثيره من علامات استفهام، فقد اكتفى بالتحذير من أن تؤدي الحملة العسكرية الروسية في سوريا إلى "كارثة مؤكدة"، نظرا لأن موسكو لا تفرق بين تنظيم الدولة "والمعارضة المعتدلة". ولكن رئيس الدولة الأقوى في العالم سارع بالاستدراك بأن واشنطن وموسكو لن تخوضا "حربا بالوكالة" بسبب هذا الخلاف.بالنسبة لدراسي العلاقات الدولية ترسم هذه التفاصيل جزءا كبيرا من ملامح النظام الدولي في المرحلة المقبلة، فمن راهنوا على إمكانية تشكل قطب أوروبي يبدون الآن أكثر اقتناعا بأنهم قد بالغوا قليلاً، فأوروبا الموحدة مازالت بعيدة عن أن تشكل قطبا دوليا فاعلاً. حيث يبدو أن تبعيتها لأمريكا قد سلبتها الكثير من عناصر قوتها. فرغم رفض بعض الأطراف الأوروبية للتدخل الروسي، إلا أن هذه الأطراف أضعف من أن تؤثر على سلوك موسكو أو أن تردعه. عدم تأهل أوروبا أوروبا لمواجهة مشاكل النظام الدولي يظهر أن مشاريع الوحدة الإقليمية لا تترجم على نحو تلقائي إلى ممارسة للنفوذ العالمي ما لم تصحبها رؤية واضحة لطبيعة الدور الذي يتعين القيام به. فأوروبا الموحدة صاحبة أحد أقوى الاقتصادات في العالم، لا تستطيع الاستفادة من قوتها الاقتصادية لردع الاستقواء الروسي الذي لم يتوقف عند الحدود الأوكرانية، كما هي عاجزة عن أن تمنع الروس من زيادة فوضى الشرق الأوسط، وهي الفوضى التي ثبت بالتجربة (من خلال أزمة اللاجئين) أنها قابلة للتصدير إلى الغرب. ما يؤكد أن القوة الناعمة التي تبنتها النخب الأوروبية اختيارا أو اضطرارا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد لا تجدي نفعا مع سياسات القوة التي تمارسها موسكو.من الدروس المستفادة أيضاً أن الدول الكبرى لا تكتسب مواقعها في هيكل النظام الدولي من مجرد حيازة مقدرات القوة، ولكن من رغبتها واستعدادها لاستخدام هذه المقدرات لتحقيق مصالحها، وبتطبيق هذا على السلوك الأمريكي الحالي يظهر أنه يعاني من تراجع واضح. والتراجع الأمريكي لا يشير إلى تراجع في القوة العسكرية، فمازالت أمريكا صاحبة أقوى جيش في العالم، ولكن إلى تراجع في قدرتها على بلورة استراتيجية محددة في الشرق الأوسط، فأمريكا لا تبدو قادرة على تحديد طريقة مناسبة لاستخدام قوتها. وهو ما حاولت الإدارة الحالية أن تعوضه من خلال الانكفاء على الداخل طوال فترتين رئاسيتين.أما روسيا فرغم كونها ليست الأقوى بمعايير القوة المجردة إلا أنها تبدو صاحبة الصوت الأعلى بفعل نوعية السياسات التي تتبناها، صحيح أن هذه السياسات تقيم جدارا من الريبة بينها وبين دول العالم الأخرى. ولكنها تمثل أسلوب روسيا المفضل للحركة الخارجية. فلم يعرف عن الروس التشدق بحقوق الإنسان، وهم لا يجيدون ذلك حتى إذا أرادوه، كما لا يستطيع بوتن أن يظهر بمظهر مكافح الإرهاب، فقط اعتبارات المصلحة الجيوستراتيجية هي التي تحكم القرار الروسي. وفيما يتعلق بالأزمة الأخيرة فإن ما تفعله روسيا ببساطة هو أنها تحاول الحفاظ على مجالها الحيوي ومصالحها، حتى لو ترتب على ذلك أن تتورط فيما يشبه الحرب الأهلية. من المهم في النهاية تذكير من كانوا يعولون على روسيا للوقوف ضد المخططات الأمريكية لتفكيك المنطقة، ويستشهدون بموقفها الرافض للتدخل الأمريكي في الأزمة الليبية بخطأ حساباتهم. فاليوم تتدخل روسيا بقوتها المباشرة، وبدون تفويض دولي في نزاع إقليمي، يساهم في زيادة الفوضى بالمنطقة، ما يؤكد على أن عناصر الاستمرارية تفوق عناصر التغير فيما يتعلق بطبيعة منظومة العلاقات الدولية، وأن قواعد اللعبة الدولية مازالت تجري وفقا للمنطق البسيط الذي أرسته المدرسة الواقعية أو مدرسة القوة.

384

| 07 أكتوبر 2015

الليبرالية الجديدة تسفر عن قبحها

تمثل الحملة الهوجاء المعارضة لانتخاب اليساري البريطاني جيرمي كوربن لزعامة حزب العمال فرصة لرؤية الليبرالية الجديدة وأنصارها من أصحاب دعاوى التدخل المحدود للحكومة، أو التدخل لصالح الأغنياء، على حقيقتهم. مع ملاحظة أن هذه الحالة لا تقتصر على بريطانيا فقط، ولكن تمتد على مستوى العالم.والتيار الذي يتبنى خطاب الليبرالية الجديدة أساسا هو اليمين الجديد أو اليمين المحافظ. ويؤمن هذا التيار بأن الاقتصادات الحرة والأسواق المفتوحة هي الحل لجميع مشاكل العالم، على اعتبار أن المشروع الرأسمالي — وفقا لهم — هو جوهر كل ما هو صالح وجيد في الحياة. والمنظومة التنافسية لا تحقق فقط أعلى قدر من الفاعلية الاقتصادية وإنما هي أيضا الضامن الأساس للحرية الفردية. وقوانين السوق؛ بغض النظر عن مدى الضرر الاجتماعي الذي قد تسببه، هي أقرب شيء إلى قوانين الطبيعة، ومنح الحرية الكاملة لحركة رؤوس الأموال والبضائع والخدمات هي أفضل وسيلة لزيادة النمو الاقتصادي مما سيعود بالنفع على الجميع في نهاية المطاف!وتتضمن الليبرالية الجديدة أيضا تخفيض الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والرعاية الصحية والمرافق، ولذلك يقف ممثلوا النسخة الأمريكية من هذا التيار بالمرصاد لقانون الرعايا الصحية الذي أصدرته إدارة أوباما، تحت شعار تقليص نفقات الحكومة، وذلك في الوقت نفسه الذي يشجعون فيه منح الإعانات الحكومية والمزايا الضريبية لقطاع الأعمال والاستثمارات الخاصة، فضلاً عن رفع القيود القانونية والبيروقراطية عن كل ما يمكن أن يعوق المستثمرين.وقد وصلت موجة الليبرالية الجديدة إلى عالمنا العربي خلال التسعينيات، وذاق مرارتها المواطنون من خلال سياسات الخصخصة التي تضمنت بيع الشركات والخدمات التابعة للدولة للمستثمرين. وذلك تحت دعاوى الاستفادة من كفاءة القطاع الخاص، إلا أن الأثر المباشر لمثل هذه المشاريع تمثل على نحو أوضح في تركيز الثروات في أيدي قلة من الناس، وجعل الجماهير تدفع أكثر للحصول على احتياجاتها الأساسية.ويتلخص المنطق الذي تقوم عليه الليبرالية الجديدة في الزعم بأن مصدر النظام والاستقرار في المجتمع ليس التخطيط الحكومي أو التنظيم الذي تمارسه الدولة، ولكن ذلك التفاعل العفوي غير المتعمد بين الأفراد، الذين يعملون للوفاء بمتطلباتهم الخاصة ودوافعهم الشخصية، ولهذا فإن السوق هو أفضل مجال للتعبير عن هذه الخصائص، على اعتبار أن الأسواق توازن ذاتها في المدى الطويل، فيما يؤدي تدخل الحكومات إلى أخطار كثيرة ليس أقلها الركود والكساد.وقد أصبح الخطاب الليبرالي الجديد خطابا سائدا عبر العالم، ونجح في الاستحواذ على السلطة أو الإمساك بخناقها في كثير من الدول، لدرجة إنه بات يصبغ حتى اتجاهات من يعرّفون أنفسهم على أنهم من يسار الوسط. وقد تابع العالم كيف واجه اليمين المسيطر على الحكومة في بريطانيا انتخاب كوربين بموجه من التعليقات الراديكالية، ففي سبيل ترسيخ منظومتهم لا يمانع المحافظون من الثورة (وليس المحافظة كما يوحي بذلك اسمهم) على الكثير من الممارسات الديمقراطية، حتى إن رئيس الوزراء البريطاني المحافظ ديفيد كاميرون قد أطلق تغريدة عقب فوز كوربن برئاسة حزب العمال يؤكد فيها أن انتخاب كوربن يجعل من حزب العمال "تهديداً لأمننا الوطني، وأمننا الاقتصادي، وأمن عائلاتنا" في لغة تشبه تلك التي نسمعها في بلادنا من النخب السلطوية المستبدة. وقد بلغ الأمر أن صرح مصدر عسكري بريطاني لجريدة صنداي تايمز بأن الجيش البريطاني قد يتصدى لكوربن في حال قرر الأخير تفعيل برامجه الخاصة بالمؤسسة العسكرية البريطانية (تخفيض ميزانيات التسلح وعدم المشاركة في الحروب الخارجية). من جانبها فإن الأنظمة العربية الشمولية تفهم الليبرالية الجديدة بطريقتها الخاصة، خصوصا فيما يتعلق بشرط عدم تدخل الدولة في تفاصيل النشاط الاقتصادي، وفي هذا الإطار فإنها تميز بين نوعين من التدخل؛ التدخل غير المرغوب فيه والتدخل المرغوب فيه، فالأول تعكسه سياسات التخطيط الشامل، وهذا ما لا ترغب ولا تنجح فيه الأنظمة الشمولية، أما التدخل الثاني فهو التدخل الذي يؤكد قوة هذه الأنظمة في مواجهة المستثمرين ورجال الأعمال، فرغم أن هذه الانظمة تعمل على ترسيخ سيطرة رأس المال، إلا أنها تظل حريصة على أن تبقى صاحبة السيطرة على مساحات صناعة القانون والتشريع، والإعلام، فضلا عن سيطرتها التقليدية على ادوات وأجهزة ممارسة العنف، بما يضمن أن تكون كفتها دائما هي الراجحة في أي صراع يضعها في مواجهة الرأسماليين.ومن المعتاد أن تؤدي كوارث الليبرالية الجديدة إلى بوادر تمرد تظهر بين الحين والآخر، حيث يواجه مثل هذا التيار بانتفاضات من قبل الأفراد الذين يضيقون ذرعاً بالطبقة السياسية التي كثيراً ما تضبط متواطئة مع كبار رجال المال والأعمال. وقد تجلى ذلك الضيق منذ فترة غير بعيدة في ظهور حركة Occupy Wall Street المعارضة في الولايات المتحدة، كما تجلى بصورة أوضح في انتخابات حزب العمال الأخيرة في بريطانيا، "حيث وصل معارض يساري، يلخص برنامجه حالة الضيق من الجنوح اليميني للسياسة البريطانية لزعامة أحد أكبر الأحزاب البريطانية". وبالطريقة التي يعرض بها مرشحو اليمين المحافظ أنفسهم في الولايات المتحدة فإنه من المتوقع أن يفشل الجمهوريون مجددا في الوصول إلى البيت الأبيض لصالح مرشح (أو مرشحة) عن الحزب الديمقراطي الأقرب (نظريا) إلى اليسار. الغريب أن هذه الظاهرة العالمية من التمرد على النخب اليمينية وليبراليتها الجديدة من غير المتوقع أن تمتد إلى عالمنا العربي، فمازالت السلطوية المتحالفة مع المال قادرة على تغييب وعي الشعوب، ومازالت طرائقها في حيازة الشرعية، على بدائيتها وقسوتها، تؤتي ثمارها مع قطاعات واسعة من الجماهير، وذلك رغم فضائح الفساد التي تتورط فيها هذه النخب، والتي تتكشف للعامة بين الحين والآخر، إلا أن غياب قنوات التغيير السلمي من ناحية، وضعف مستوى الوعي الجماهيري من ناحية أخرى يرشحان الوضع القائم — على ما به من سوء— للاستمرار إلا أن يشاء الله بهذه الأمة شيئا.

815

| 23 سبتمبر 2015

الغرب متآمر ...فماذا عنا نحن؟

حاولت هذه الزاوية في الأسبوع الماضي أن تدفع باتجاه التحرر من التفكير من خلال نظرية المؤامرة، من خلال التأكيد على أنه ليس كل ما يجري حولنا مؤامرات. ولكن هل يعني ذلك أن التاريخ يخلو من المؤامرات والمتآمرين؟ الإجابة قطعا بالنفي، فتاريخ علاقة الشرق بالغرب حافل بأمثلة حية على المؤامرات التي يجمعها سعي الطرف القوي دوما لحماية مصالحه عبر تجريد خصومه من مصادر قوتهم.فعندما كان المرور في أراضي المماليك مصدر قوة لهم، عن طريق ما كانوا يفرضونه من جمارك على السلع، تآمر الغربيون على المسلمين وفكروا في الدوران حول رأس الرجاء الصالح، ليحرموا المماليك من مصدر قوتهم، ويضربوا احتكارهم لطرق التجارة، وينفثوا أيضا عن قدر من عدائهم الديني الذي كانت تكنه أوروبا للإسلام والمسلمين.وعندما كان بقاء الأندلس في يد العرب مصدر قوة لهم، تآمرت الممالك المسيحية، لإسقاط حكم المسلمين في الأندلس وطردهم منها، وهو ما تحقق لهم على نحو كامل بسقوط غرناطة 1492 ميلادية، لينتهي ما يقارب الثمانية قرون من الحكم الإسلامي لإسبانيا. ولم ينته التآمر بعد رحيل الإسلام عن إسبانيا، إذ واصل الملوك الإسبان حربهم "المقدسة" في البحر المتوسط، وأسسوا سلسلة من المستعمرات المحصنة بطول ساحل شمال إفريقيا من المغرب إلى ليبيا، وأجبروا قادة المدن الداخلية على دفع الضريبة لهم، ولا تزال إسبانيا تضع يدها على اثنتين من مستعمرات ساحل المغرب، وهما مدينتا سبتة ومليلية.وعندما تنامت قوة مصر إبان حكم محمد علي، وأثبت الأخير أنه قادر على تهديد الحكم العثماني والمصالح الغربية المرتبطة به، تآمر الغربيون ضده، لكبح جماحه والحيلولة دون تسببه في تفكيك الإمبراطورية العثمانية (الغريب أن الأوروبيين كانوا يخشون وقتها من تفكك حاضرة الخلافة)، وتحركت الأساطيل الأوروبية إلى السواحل الشامية، ووجهت نيرانها إلى الجيش المصري، وأوقعت بقوات إبراهيم ابن "محمد علي" هزيمة اضطرته إلى القبول ببنود اتفاقية لندن المذلة.وحتى عندما اقتنعت دول المشرق بأن الغرب قد سبقها، وأنه لا مفر أمامها من تقليده من خلال إدخال بعض الإصلاحات الغربية على نظمها الاجتماعية والاقتصادية والإدارية، أدت هذه الإصلاحات لاحقا إلى مشاكل كبيرة كان على رأسها إفلاس هذه الدول اقتصاديا، ووقوعها في فخ المديونية للغرب، وهو ما تذرعت به الدول الأوروبية للتدخل في الأمور المالية وشؤون الحكم للدول العربية توطئة لاحتلالها، وكما هو معلوم لم تؤد الإجراءات التي اتخذتها القوى الأوروبية إلى تحقيق الاستقرار أو الإعمار في البلاد التي تدخلت فيها، وإنما أدت إلى زعزعة استقرارها.على سبيل المثال، ترتب على تقليد الدولة المصرية للغرب في نظم التقاضي الخاصة به، أن اختصمت الشركة الفرنسية المستثمرة في مشروع قناة السويس الحكومة المصرية، لأن الأخيرة اضطرت إلى الانصياع لرغبات البريطانيين الذين كانوا يعارضون تزايد نفوذ الفرنسيين في مصر، ورفع موضوع النزاع إلى الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث، الذي قضى على الحكومة المصرية بدفع تعويض يبلغ 84 مليون فرانك للشركة الفرنسية تعويضا لها عن الخسارة التي تعرضت لها، وكان هذا مبلغ تعويض لم يعرف له مثيل في التاريخ الحديث بأكمله.لاحقا وعندما أصبحت الدولة العثمانية عبئا على الغرب، ومصدرا محتملا للمشاكل، تآمر الغرب ضدها، وقسم ممتلكاتها، ورغم أن الأتراك شرعوا في مراحل الأفول في تقليد الغرب واستيراد نظمه ومؤسساته، إلا أن الغرب المتآمر قرر أن الجهود التي بذلها العثمانيون لا تكفي، وأشاروا إلى أن إفلاس الدولة الرسمي في عام 1875، يؤكد أنها قد أصبحت رجلاً مريضاً، يتعين أن يتم تقسيم ممتلكاته، وأراضيه بين القوى الأوروبية. وعندما ظهر التيار القومي، ونجح في إجبار الدول الغربية على منح الاستقلال لمستعمراتها السابقة، وبرزت قيادات قومية، تمثل تهديدا للغرب، ومصالحه، وبدا أنها قادرة على زيادة قوة العرب، تآمر الغرب للإطاحة بهذه القيادات التي جرؤت على التصدي للهيمنة الغربية، وكان العدوان الثلاثي على مصر، ثم عدوان 1967 على كل من مصر والأردن وسوريا أمثلة واضحة للتآمر الغربي، المباشر وغير المباشر.وعندما اكتشف النفط بوفرة في أراضي العرب، وتبين الدور الذي يمكن أن يلعبه في ميزان القوة العالمية، سارع الغرب إلى التدخل، بالمعاهدات والاتفاقات وشراء الامتيازات، ليضمن انخفاض مستوى سعر النفط، ويحرم العرب من مصدر واعد للقوة. وبدأ البريطانيون ثم الأمريكيون في عقد الاتفاقيات مع حكام المنطقة لنيل الحقوق الحصرية للتنقيب عن النفط. وتأخر الأمر حتى عقد السبعينيات ليستعيد العرب جزءا معقولاً من ثروتهم النفطية، ولكن قبل ذلك ومنذ اكتشافه مطلع القرن الماضي، كان الغرب "المتآمر" يجني معظم الأرباح ولا يترك للعرب إلا أقل القليل.وحتى بعد أن استعاد العرب السيطرة (بدرجة كبيرة) على مواردهم النفطية، تآمر الغرب من جديد ليسلبهم هذه المزية بالغزو المباشر هذه المرة، حتى أن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، في خضم أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، وفي أثناء بحثه مع مساعديه في طبيعة الرد الأمريكي على تنظيم القاعدة الذي اتهمته أمريكا بتوجيه هذه الضربة لها، وجه مساعديه إلى ضرورة البحث عن أي دور للعراق فيما جرى، وكان التدخل في العراق والاستيلاء على نفطه هدفا مقصودا في حد ذاته.أما التآمر الأبرز في سجل علاقة العرب والمسلمين بالغرب، فتمثل في تخطيط الأخير لغرس إسرائيل في قلب العالم العربي والإسلامي، لكي تكون وكيلا للمصالح الغربية، وذراعا طويلة لها، ومصدر قلق وتهديد مستمرا لجيرانها، يحول بينهم وبين اكتمال أي مظهر للوحدة فيما بينهم.غير أن كثرة الشواهد على التآمر الغربي لا تنفي حقيقة أن الداخل هو الذي مكن لهذه الاختراقات من أن تحدث، فلولا ضعف الداخل ما امتدت إليه يد الخارج، وهذه على أي حال هي سنة الله الماضية، أن تكون قابلية الداخل هي المؤدية إلى طمع الخارج، وامتداد يده بالغي، فسنة الخالق (سبحانه) تنص صراحة على أن "هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ" ﴿آل عمران 165﴾، وهذا ما يفسح المجال أمام البحث والتحري عن أسباب الضعف ومحاولة اجتثاثها، لا الوقوف أمام التاريخ موقف المتفرج، بحجة أن ما حدث لم يكن بد من حدوثه، لأن المؤامرة أكبر من الجميع، كما يقي هذا الفهم من الوقوع في الخطأ الموازي والمتمثل في الاحتماء بأنظمة الاستبداد التي تسوق نفسها للعامة على أنها الوحيدة القادرة على درء مؤامرات الخارج، مع أن الأوقع أن هذه الأنظمة هي نفسها جزء لا يتجزأ من أسباب ضعف الداخل وعدم استكماله لعناصر القدرة على مواجهة تهديدات الخارج.

811

| 16 سبتمبر 2015

من يدفع باتجاه الفوضى؟

مشهد اللاجئين السوريين البائسين المتدفقين على أوروبا، وحالة الاضطراب التي عمت الدول الغربية بسببهم، ثم التناقض بين مواقف الساسة ومواقف قطاعات كثيرة من الشعوب الأوروبية، والأزمة الأخلاقية التي يواجهونها بسبب تناقض الاعتبارات الإنسانية مع الضرورات السياسية، هذه المشاهد على مأساويتها تمثل فرصة للعقل العربي للانعتاق من أثر نظرية المؤامرة والهاجس التقليدي حول الخطة الغربية لنشر الفوضى في المنطقة.ولا ينبع هذا التحرر من كون الغرب ملائكيا أو خيرا بالضرورة، ولكن ينبع مما حملته لنا مشاهد اللاجئين المتدفقين على أوروبا من تأكيد لحقيقة أن فوضى الشرق الأوسط هي ظاهرة قابلة للتصدير للغرب، وأن أزمات المنطقة لا تخصها وحدها، ولكنها يمكن أن تنتقل إلى الغرب عبر البحر داخل قارب مطاطي رخيص.المنطق إذن يدحض احتمال أن تكون الفوضى اختيارا سياسيا، كما أن المنطق يقضي بأنه بالنسبة للدول الكبرى فإن التحكم في الاستقرار أجدى وأنفع من محاولة إدارة الفوضى، وأن فرض الاستقرار هو ما يفترض ان تقوم به هذه الدول عندما تحاول إدارة مصالحها في المنطقة.فالفوضى لها توابعها التي لا يمكن توقعها، ومنظومة السياسة الغربية هي فرع عن فلسفات الحداثة التي تسعى إلى التحكم الكامل، بل وميكنة هذا التحكم إذا أمكن، وهذا لا يمكن أن يتحقق من خلال نشر الفوضى، التي هي بحكم التعريف غير خاضعة للتحكم. ولكن هل ينفي ما سبق أن أمريكا والغرب يتدخلون في شؤون المنطقة، وأن تدخلهم يفرز دوما نوعا من الفوضى الضارة، بطبيعة الحال لايمكن إنكار ذلك، ولكن يمكن إرجاعه إلى السياسات الفاشلة لفرض النفوذ أكثر منه إلى كونه اختيارا مقصودا منذ البداية. بعبارة أخرى يمكن القول إن فوضى التدخل الأمريكي فى الشرق الأوسط هي منتج جانبي لسياسات فرض الهيمنة وليست سياسة مستقلة.فالإدارات الأمريكية أيا كانت الخلفية الحزبية لها تستلهم بشكل من الأشكال أسس النظرية الواقعية، التي تفضل أن يظل النظام الدولي قائما على أساس من اجتماع عدد من الدول، كما تفضل أن تمارس الهيمنة على نحو صريح من خلال استخدام القوة أو التهديد باستخدامها أو عبر فرض ترتيبات إقليمية مستقرة ينهض على حمايتها وكلاء إقليميون، ولكن ليس من خلال إشاعة حالة من الفوضى التي تهدد بقاء الدول كوحدات سياسية.وعلى هذا الأساس يتعين ان تقرأ مكونات المشهد السياسي الحالي، فالاتفاقية الأمريكية الإيرانية على سبيل المثال يمكن قراءتها فى ضوء رغبة الإدارة الأمريكية في تثبيت أركان معادلة استقرار جديدة في المنطقة، تنهض على التعامل مع المعطيات الموجودة على الأرض، والممثلة في سيطرة إيران على مجريات الأمور - بشكل كلي أو جزئي - فى كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان، وليس على أساس من رغبة أمريكا في تفتيت المنطقة وإشاعة الفوضى. صحيح أن تدخل أمريكا في الخليج هو ما سلّم العراق لقمة سائغة للنفوذ الإيراني، ولكن الفوضى الناجمة عن ذلك الوضع كان من الصعب توقعها وإدارتها حتى من قبل أمريكا نفسها. من ناحية أخرى فإن الفرض العكسي يبدو مستبعدا، فلو كانت الفوضى تمثل استراتيجية حقيقية لها، لوجدت الإدارة الأمريكية فرصا كثيرة لزيادة معدلاتها، ولكنها على العكس، لم تبادر إلى توظيف الاتفاق مع إيران لتأجيج المنطقة وزيادة منسوب الفوضى بها، فما إن بدأت المفاوضات الأمريكية الإيرانية، حتى استضاف الرئيس الأمريكي باراك أوباما 6 من زعماء الملكيات العربية ضمن قمة كامب ديفيد، لطمأنتهم أن أمريكا مستمرة فى دعمهم. ولم يكن الإصلاح السياسي بندا من بنود المباحثات؛ ولكن انصب التركيز على تعزيز الشراكة لمواجهة التحدّيات المشتركة. بمعنى آخر لم يكن الهدف الأمريكي هو إحداث الفوضى ولكن إقناع الحلفاء أن أمريكا لا يمكن ان تسلمهم إلى الفوضى.ولنفس هذه الاعتبارات تتعامل الإدارات الأمريكية ببراجماتية كبيرة فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية داخل الأنظمة الحليفة لها بالمنطقة، حيث تظل هذه في مؤخرة الموضوعات محل الاهتمام المشترك، فيما تأتي في مقدمتها التحديات الأمنية على اعتبار أن هذه تمثل أولوية ضمن أهداف الأمن القومي الأمريكي المعني باستقرار المصالح الأمريكية.يبقى القول إن أمريكا تستفيد من الفوضى الإقليمية، كما تستفيد من أي شيء آخر، على سبيل المثال من خلال تعاقدات إعادة الإعمار، وبرامج تدريب وتسليح الفصائل الموالية لها، ولكن سيناريوهات التقسيم تتحقق بدرجة أكبر على يد أنظمة الاستبداد، الذين يمثلون الحماة الحقيقيين لميراث سايكس بيكو، والذين لو ترك الأمر لهم لربما كانوا مارسوا تقسيماً أكبر من التقسيم الذي فرضه الغرب عليهم فى أعقاب انفرادهم بمصائر أوطانهم. من المهم إذن تحرير العقل العربي من نظرية المؤامرة، ليس لأن أمريكا والغرب فوق مستوى الشبهات، ولكن لأن هذا التفكير يفرز نوعا من الفهم الئاقص. كما أن التفكير بهذه الطريقة يعفى أنظمة الاستبداد فى الداخل من مسؤولياتها عن الحضيض الذي وصلت إليه الأمة العربية، ويضعها عن غير حق في موقع المتصدي لمؤامرات الخارج، فى الوقت الذي تشكل فيه سياسات هذه الانظمة مصدرا لا ينضب للفوضى واستمرارا لواقع التقسيم وتعميقا له.

363

| 09 سبتمبر 2015

اللياقة السياسية والحروب الدينية

المعارك الدينية بين اليمين واليسار في أمريكا لا تأخذ شكلاً صريحاً، ولكنها تتم في صورة جدل حول ما يسميه الأمريكيون "اللياقة السياسية" أو الـ"Political Correctness"، والتي أصبحت أحد جوانب الصراع في السباق الانتخابي الحالي. فالديمقراطيون يتهمون الجمهوريين بأنهم لا يراعون اللياقة السياسية، والجمهوريون من جانبهم يتهمون الديمقراطيين بمخالفة التعديل الأول للدستور الأمريكي، والذي يحمي حرية التعبير والقول. فما هي قصة اللياقة السياسية؟ تعبير اللياقة السياسية، يشير إلى ضرورة أن تكون اللغة المستخدمة في المجال العام غير مسيئة للآخرين، بشكل يضمن للأفراد الحق في المعاملة المتماثلة، ويضمن عدم وقوع تحيز لفظي إزاء أي فرد أو جماعة، حتى لو كان مضمون اللفظ المتحيز ينطبق حرفيا على الطرف المقصود به. وقد تبلور مع الوقت قاموس غير مكتوب للياقة اللفظية يحدد ما يجب قوله وما يجب تجنبه. وفي هذا السياق لم يعد من المقبول أمريكيا أن يستخدم تعبير زنجي أو أسود للإشارة إلى الأمريكيين من أصول إفريقية وإنما صار يستخدم مصطلح الأفروأمريكان، كما نشطت الجماعات المدافعة عن حقوق المرأة، ونجحت في الدفع باتجاه تغيير العديد من المصطلحات التي تستخدم اللاحقة man، مثل chairman،mankind، إلى تعبيرات أخرى أكثر حيادية مثل، chairperson، human kind، وفي مجال الحرية الجنسية تراجعت كلمات مثل homosexual، bisexual، لصالح تعبيرات مثل gay، bi. أما المعاقون ذهنيا فصار يشار إليهم وفق قاموس اللياقة اللفظية بذوي الاحتياجات الخاصة، كما صار يشار إلى المعاقين بشكل عام على أنهم أصحاب تحديات جسدية...إلخ وقد دخل مصطلح اللياقة إلى الخطاب السياسي في الولايات المتحدة في السبعينيات من القرن الماضي، واعتبر في مرحلة معينة مرادفا لخطاب التسامح والتمييز الإيجابي لصالح الفئات الأقل مقدرة، وذلك في مواجهة خطابات الكراهية والتمييز السلبي. ولكن بعد فترة وجيزة بدأ تعبير "اللياقة السياسية" يستخدم على نحو سلبي للتشهير السياسي. فقد بدأ اليمين المحافظ في استخدام المصطلح على نحو هجومي للتنديد بالمعسكر الديمقراطي الذي يسعى من وجهة نظره لتمرير أجندته السياسية تحت راية هذا المفهوم. إذ يعتقد الجمهوريون المحافظون أن تبني الديمقراطيين لفكرة اللياقة السياسية يخدم مواقفهم المراوغة فيما يتعلق بالقضايا الدينية. فالديمقراطيون بشكل عام أقرب إلى العلمنة، والكثير منهم يرفضون إيضاح طبيعة موقفهم من الدين، أما الأكثر صراحة منهم فيطبقون ليبراليتهم على الدين على اعتبار أن تفضيلات الأفراد الشخصية بشأن الأمور الدينية هي أمور تخصهم وحدهم، فالإجهاض، وتحديد النسل، والاختيارات الجنسية، هي أمور تخص أصحابها، ولا ينبغي أن تتدخل الدولة فيها. ويعتبر الجمهوريون المحافظون أن "اللياقة السياسية" هي إستراتيجية مقصودة تم ترويجها بين الأمريكيين خصوصا فئة شباب الجامعات لمنعهم من إدراك الفروقات بين الأنواع، والأديان، وأنساق الاعتقاد، والميول الجنسية الصحيحة من المنحرفة. ويركز الجمهوريون المحافظون على التأثير السلبي لمفهوم اللياقة السياسية على المعتقدات الدينية وطريقة التعبير عنها، فاللياقة السياسية تضع قيودا على اصطباغ الكلام بالصبغة الدينية، على اعتبار أن في ذلك خرق لمبادئ العلمنة السياسية، وانتهاك لمبدأ فصل الكنيسة عن الدولة، على سبيل المثال يمتنع مؤيدو اللياقة عن الإشارة إلى كلمات مثل "الرب"، "الكنيسة"، "الآخرة"، "الإيمان" في خطاباتهم، أما المناسبات الاحتفالية ذات الطبيعة الدينية مثل عيد الميلاد أو الـChristmas فيفضلون الإشارة إليها بعبارة Xmas، مراعاة لمشاعر غير المؤمنين، ومؤخرا دار جدل في الإعلام الغربي حول مدى لياقة استخدام عبارة من أجل الرب for God sake، أيضا لكونها تحمل تحيزا ضد غير المؤمنين، ليس هذا فحسب بل إن البعض قد توقف عن استخدام الاختصارين الشهيرين قبل وبعد ميلاد المسيح، BC، AD، أيضا لما يحملاه من تحيز!. وإذا كانت اللياقة السياسة لدى الديمقراطيين تدفعهم إلى استبدال النسق اللغوي المعتاد وإحلال آخر محله، لتجنب إهانة الآخرين، أو لتجنب استحضار صور ذهنية غير مناسبة عن جماعات بعينها خصوصا الجماعات التي تزعم وقوعها تحت اضطهاد أو تمييز. فإن الجمهوريين يرون أنفسهم أكثر تحررا من هذه الاعتبارات المقيدة لحرية التعبير (من وجهة نظرهم)، ويفخرون بأنهم يتحدثون بما يدور في عقولهم مباشرة، دون أن يخضعوه لرقابة من أي نوع، يريدون بذلك أن يؤكدوا على أنهم الأقرب لقلوب الناس، بوصفهم لا يضعون أقنعة تحول بينهم وبين البوح بما يؤمنون به. ولكن رغم مهاجمة الجمهوريين لمفهوم "اللياقة السياسية" وتأكيدهم على مبادئ حرية التعبير والاعتقاد، فإنهم يمارسون من جانبهم رقابة مماثلة على أنماط معينة من الأفعال والسياسات، لا تقل بحال - بل ربما تزيد- عما يمارسه الديمقراطيون. ففي دراسة نشرتها صحيفة الـ"واشنطن بوست" حول نوعية الكتب التي يرغب الأمريكيون ألا تكون موجودة على أرفف مكتبات المدارس الابتدائية، كان الجمهوريون أكثر تشددا فيما يتعلق بالقائمة التي يرغبون في حظرها، فهم على سبيل المثال يرغبون في حظر الكتب التي تتضمن لغة متحررة والكتب التي تحوي أي إشارة للسحر والكتب التي تتبنى نظرية التطور، والكتب التي تنكر العقيدة المسيحية، والأهم من كل ما سبق يقف الجمهوريون المحافظون بشدة في وجه أي كتب تروج للإسلام، حتى لو كانت غير ذات طابع ديني. إذن اللياقة السياسية، بالنسبة للجمهوريين المحافظين منبوذة فقط من حيث كونها تخل بالأصول الدينية للمجتمع الأمريكي، أما فيما عدا ذلك فإن الجمهوريين يبدون هم أيضا خاضعين لنفس الظاهرة، بل إنها تمتد عندهم لتشمل الرقابة على تفاصيل الإيمان الشخصي، على نحو يناقض ما يدعونه من مناصرة حرية التعبير والتفكير والاعتقاد.

726

| 02 سبتمبر 2015

مرشحو الرئاسة الأمريكية وسؤال الإيمان

أظهر تقرير نشره مركز بيو للأبحاث، أن غالبية الأمريكيين (53%)، لا ينوون إعطاء صوتهم الانتخابي لمرشح ملحد في الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها العام القادم. ترتفع هذه النسبة بين الجمهوريين لتصل إلى %70 فيما تنخفض لدى الديمقراطيين لتصل إلى 42% فقط. والرسالة التي تحملها هذه النتيجة أن الدين أمر يهم الأمريكيين، هذا ما ذكرته صحيفة Christiantoday، في مقال مطول بعنوان "ما الذي تحتاج أن تعرفه عن إيمان المرشحين الجمهوريين للرئاسة الأمريكية". ووفقا للمقال ولاستطلاعات الرأي، يأتي المرشح المثير للجدل دونالد ترمب على رأس قائمة المرشحين المحتملين عن الحزب الجمهوري، ورغم أدائه اللفظي الخشن، يصف ترامب نفسه بأنه مسيحي مؤمن، محب لكنيسته، وزائر منتظم لها، ويعرب عن قناعته بأن الإنجيل هو كلمة الرب، وأنه رغم تلقيه مئات النسخ منه، فإنه لم يلق بعيدا بأي منها، كما اهتم ترامب بأن يعرض أمام معجبيه من الأمريكيين صورة له وهو صبي أثناء حضوره قداسا في إحدى الكنائس المشيخية. ويشير ترمب إلى أنه يشارك في طقوس "التناول" التي تحاكي العشاء الأخير، ويدعي أن ما يشربه خلالها من خمر هو الخمر الوحيد الذي يتعاطاه، وأنه يشعر عقب الفراغ من هذه الطقوس بتطهر داخلي وغفران لذنوبه. وفي سياق آخر صرح ترامب أنه يفضل أن تغلق الحكومة عن أن تستمر في دعم عمليات الإجهاض، كما عبر عن قلقه إزاء المعاملة الخشنة التي قال إن المسيحيين يعاملون بها في الشرق الأوسط، في الوقت الذي يلقى فيه المسلمون معاملة حسنة في الولايات المتحدة، فيما اعتبره تطبيقا لسياسة المعايير المزدوجة، وعزى هذا الوضع إلى أن المسيحيين لا يجدون من يمثلهم أو يعبر عن مصالحهم، وتعهد بأنه حال فوزه بمنصب الرئاسة فإنه سيكون أفضل من يمثل المسيحيين ويتبنى قضاياهم عبر العالم. يلي ترامب على قائمة التوقعات، وإن بفارق كبير، المرشح جيب بوش الذي يتعهد بالدفاع عن الإعفاء الضريبي الذي تتمتع به المنظمات الدينية، مثل الكنائس والجامعات الدينية، كما يتعهد بالمحافظة على الحرية الدينية، حال اختياره لمنصب الرئاسة، وذلك من خلال اختيار قضاه للمحكمة العليا "مستعدين للدفاع عن حق الأفراد في العيش وفقا لمعاييرهم الدينية". ويصف جيب إيمانه الشخصي بأنه مصدر الهدوء والسلام الداخلي في حياته، وفي عام 2006 اعترف بأنه يحمل دوما مسبحته الخاصة. كما قدم جيب دفاعا مستفيضا عن إيمانه المسيحي، وذلك في الكتاب الذي شارك في تأليفه بعنوان "Profiles in Character، وأهداه إلى كل من جون كينيدي والرب. أما المرشح بن كارسون والذي يأتي ثالثا على قائمة الترشيحات، فصرح بأنه لم يعرف معنى "الوطن الروحي" إلا في إطار الجماعة الدينية التي ينتمي إليها، والمعروفة باسم "الطائفة السبتية"، كما أن انطلاق حملته الرسمية قد تميز بعزف نفذته الفرقة الكنسية للإنشاد. هذا ويؤكد كارسون أنه ليس سياسيا بالمعنى التقليدي، لأن الساسة إنما يقومون بكل ما هو براجماتي، فيما هو يتعهد بأن يقوم فقط بكل ما هو أخلاقي. وينتقد كارسون العلمنة السياسية والتي تعرف داخل أمريكا بالـ "Political correctness"، قائلاً إنها تسعى إلى إلغاء كل ما له علاقة بـ"الرب"، هذه العلاقة التي وصفها في مقابلة له مع قناة CBN بأنها أهم شيء بالنسبة له. المرشح الرابع سكوت ووكر، يصف علاقته بالإيمان بأنها وراء كل قرار هام اتخذه في مسيرته، فالرب على حد وصفه هو قائده في حياته لكل ما هو صحيح، حتى أنه يعتقد أن الرب هو من حدد الوقت الذي تزوج فيه، والذي اتخذ فيه قراره بالترشح للانتخابات. أما المرشح "ماركو روبيو" فكتب كثيرا عن أهمية الإيمان في تحقيق الحافز الشخصي، وأكد أن الأهداف الدنيوية ليست بحال أعلى قدرا من الأهداف الروحية، قائلاً: "إننا نتسابق من أجل أن نؤكد بصمتنا في هذه الحياة ولكننا ننسى أن مكاننا في الحياة الآخرة أهم"، "وإذا كنت معنيا بتحقيق إنجازات دنيوية فأرجو أن أكون قد فعلت ذلك انطلاقا من دوافع صالحة". من ناحيته وعد المرشح تيد كروز بأن يقدم تشريعا يسمح لكل ولاية بأن تتخذ قرارها منفردة بشأن السماح بزواج الشواذ من عدمه. وبشكل عام يوصف كروز بأنه منافح عن الحرية الدينية، ويحظى بثقة الجماعات المحافظة، فوالده راع لمؤسسة دينية، سبق له وأن اتهم الرئيس أوباما بأنه "ماركسي يسعى لتحطيم الدين، وكل ما له علاقة بالرب". أما المرشح راند بول، فيواظب على حضور الصلاة في الكنيسة المشيخية التي ينتمي لها، ويصرح بأنه لم يصل إلى إيمانه المسيحي مصادفة وإنما عبر رحلة شاقة من الشك والبحث، موضحا أن كرهه للحروب، نابع من قناعته بكراهية الرب لها، فعلى حد قوله: "لو أن المسيح كان حيا لعارض الحروب بكل تأكيد". وكغيره من المرشحين الجمهوريين يعارض بول الإجهاض، وتقنين زواج الشواذ على نحو فيدرالي. مؤكداً قناعته بأن الولايات المتحدة تعاني مشكلة أخلاقية كبرى، هي التي جعلت من موضوع زواج الشواذ مطروحاً، وطالب بعملية إنقاذ لأمريكا، من خلال عملية إحياء (للقيم). المرشح مايك هوكابي صرح في إحدى مقابلاته أن الشيء الوحيد الذي يملأ فراغ الحياة هو الإيمان، كما صرح بأنه معني بموقع المسيحية في أمريكا المعاصرة، وانتقد تيارات العلمنة السياسة التي وفقا له "لن تتوقف قبل ألا تصبح في أمريكا كنيسة واحدة، وقبل أن يختفي كل من يبشر بالإنجيل". على الجانب الآخر فإن كثيراً من أسهم الانتقاد التي توجه إلى المرشحين الديمقراطيين ترتكز بالأساس على حيادهم الديني، أو على حد البعض "انحيازهم ضد الدين"، فمن سماحهم بعمليات الإجهاض، إلى ترحيبهم بالتجارب على الخلايا الجذعية (الاستنساخ)، إلى تأييدهم لحقوق الشواذ، يضع الديمقراطيون أنفسهم في دائرة انتقادات المتدينين في الولايات المتحدة، كما سنستعرض في مقال لاحق، إن شاء الله.

387

| 26 أغسطس 2015

خرافة أمريكا العلمانية

يشكل الدين أحد محددات العلاقة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، وكما هو معلوم فقد كان التبشير البروتستانتي الذي حمل لواءه رجال ونساء الإرساليات الأمريكية في المنطقة هو أول نمط للتفاعل السلمي بين الطرفين، وكان "تجمع المبشرين في واشنطن" يضغط باستمرار على صناع السياسة في البيت الأبيض لضمان حرية حركة وعمل المبشرين الذين كان يرسل بهم إلى المنطقة للعمل تحت يافطات تعليمية وطبية وإنسانية وإغاثية. كما أنه من المعلوم أن المبشرين الأمريكيين كانوا أحد أهم العوامل التي أدت إلى تنامي الروح القومية لدى العرب وساعدوا من ثم على نشوب ما عرف بالثورة العربية ضد الحكم العثماني مما كان له أثره في تقويض دولة الخلافة. ورغم ذلك يطيب للكثير من النخب العلمانية في بلادنا التأكيد على أن أمريكا هي قبلة العلمانية في العالم، وأنها النموذج الذي يحتذى لفصل الدين عن الدولة، ويبدو هذا القول مغايرا للواقع في قدر كبير منه. فمنذ منتصف القرن العشرين، صار صحيحا في حق الولايات المتحدة الأمريكية "أن توصف بأنها دولة شديدة العلمانية وشديدة التدين في الوقت ذاته"، "ففي الوقت الذي تدار فيه أعمالها ومهامها على نحو علماني صرف، فإن الكثير من ساستها ومواطنيها يعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم وهم يؤدون أعمالهم الحياتية أو يتخذون قراراتهم السياسية، إنهم يرضون الرب بذلك"، "وفي الوقت الذي تراجعت فيه نسبة من يمارسون الشعائر الدينية إلى أقل من 4 أو 5 % في أوربا فإن النسبة في الولايات المتحدة لازالت تتخطى الـ 50 %"، ويرتبط الدين والسياسة في الولايات المتحدة على نحو معقد "حتى لو كان التعديل الأول على الدستور الأمريكي ينص على انفصالهما عن بعضهما البعض". وتاريخ أمريكا مع التدين بدأ مع تكونها كأمة، فقد تشكلت الملامح الأولى للولايات المتحدة الأمريكية على يد البيوريتانيين (التطهريين) "الذين هربوا من أوربا إلى العالم الجديد من أجل أن يحيوا حياتهم بالشكل الذي يتماشى مع معتقداتهم الدينية"، أو بعبارتهم من أجل "تأسيس مدينة على التل"، أو "صهيون جديدة"، تبتعد بساكنيها عن شرور العالم. ومن اللافت أنه في إحدى المستعمرات الأمريكية "حدد البيوريتانيون اثنتي عشرة جريمة يعاقب مرتكبوها بالإعدام، وكانت الجرائم الثلاثة الأولى منها تتعلق بالأمور الدينية". وفي الوقت الحاضر، لا يزال للدين حضوره القوي في المجال العام، "فأي مرشح يطمح للارتقاء السياسي لا يمكنه أن يتجاهل الأسئلة الدينية الكبرى"، كما أن العديد من المدارس على مستوى البلاد تتحايل على قرارات المحكمة العليا من خلال السماح بعدد من الرموز الدينية. "وليس من الظواهر الغريبة في الولايات المتحدة أن ينظم حاكم أحد الولايات اجتماعا (كما فعل حاكم ولاية جورجيا) مع المسؤولين للترتيب لعقد صلاة استسقاء إذا ما تأخر هطول الأمطارعلى ولايتهم". وعلى الرغم من صدق نبوءة علماء الاجتماع الغربيين (التي صاغوها في مطلع القرن العشرين) من أن عمليات التحديث والتصنيع سوف يترتب عليها تراجع معدلات التدين وتزايد معدلات العلمنة، إلا أن الولايات المتحدة قد مثلت استثناء على تلك النبوءة، لدرجة أنه في أثناء الحرب الباردة كان الكثير من الأمريكيين ينظرون إلى الصراع مع السوفيت على أنه صراع بين قيم المسيحية وقيم الإلحاد، حيث كانت الشيوعية تصور في هذا السياق على أنها تلك العقيدة التي تجحد وجود الرب، أما أمريكا فكانت تصور ليس فقط على أنها في صف الديموقراطية والرأسمالية ولكن في صف الحرية الدينية التي يحرم السوفيت رعاياهم منها. ويدأب زعماء أمريكا على التأكيد باستمرار على أن سياسة بلادهم تستند إلى إيمان عميق، فأمريكا هي صاحبة الشعار الشهير "بالرب ثقتنا"، على عملتها، وهي التي أضافت إلى قسم الولاء عبارة "أمة واحدة في ظل الله"، One Nation under God، باقتراح من الرئيس أيزنهاور. حاليا يحمل اليمين المسيحي لواء دمج الدين بالسياسة في الولايات المتحدة. وقد بدأ هذا التيار مهتما بالخلاص الفردي، "حيث اعتقد الإنجليون أن المجيء الثاني للسيد المسيح قريب جدا لدرجة لا تسمح بمحاولة إنقاذ المجتمع ككل، فانصب تركيزهم على محاولة الخلاص الفردي، ولكن التحولات التي شهدها المجتمع الأمريكي فى السبعينيات، مثل الإباحية، والإجهاض وتفكك الأسرة وزيادة معدلات الجريمة، دفعت الإنجيليين إلى تشكيل جماعات ضغط، كتلك التي أسسها القس جيري فالويل، والمعروفة باسم الأغلبية الأخلاقية، لإنقاذ المجتمع من الشرور التي تهدد تماسكه". كما ازداد اندفاع الإنجيليين إلى العمل العام بعد خيبة أملهم جراء سياسات الرئيس جيمي كارتر، بعد فوزه بالرئاسة عام 1976، فبوصفه انجيلي من المولودين ثانية، توقع الإنجيليون منه أن يتخذ سياسات حاسمة إزاء القضايا الشائكة دينيا، "ولكن كارتر أثر أن يلتزم بالخط العام لحزبه الديموقراطي فيما يتعلق بقضايا الحريات الشخصية، كما آثر الوفاق مع السوفيت الأعداء التقليديين لليمين المسيحي. ولذا لم يكن من المدهش أن يكون التيار الديني أحد العوامل المسئولة عن عدم فوز كارتر بولاية ثانية، وفوز المحافظ الجمهوري رونالد ريجان". وقد رد ريجان الجميل للوبي المسيحي، "فأعلن تأييده لأنشطتهم، وعين عددا من المفضلين لدى اليمين المسيحي في مناصب سياسية"، ومنذ تلك الفترة أصبح ثمة تحالف وثيق بين الحزب الجمهوري، واليمين المسيحي حيث تلاقت اهتمامات الجمهوريين واليمين المسيحي حول موضوعات متعددة مثل التأكيد على القيم التقليدية (دور الأسرة، التمييز بين الرجل والمرأة، فرض قيود على الإجهاض، الحد من حقوق الشواذ، تقييد التدخل الحكومي في تنشئة الأبناء)، وقضايا التعليم (إقامة الصلاة في المدارس العامة، تدريس علوم الخلق كما وردت في العهد القديم، وليس كما جاءت في نظرية التطور، عدم إخضاع المدارس الدينية للنظم الحكومية)، والقضايا العسكرية (تأييد وضع الولايات المتحدة كقوة عظمى أولى في العالم مدافعة عن القيم والإيمان، وناشرة لهما)، والقضايا الاقتصادية (خفض التدخل الحكومي فى تنظيم الأعمال الخاصة، والصناعة، ونقل المسؤولية عن الرفاه الاجتماعي من الدولة إلى القطاع الخاص)، قضايا الولاء (إصدار التشريعات التي تحمى قدسية العلم الأمريكي، ويمين الولاء لدولة موحدة تخضع لمشيئة الرب)". لكل ما سبق يبدو من المهم تقييم المحتوى الديني في الخطاب السياسي للمرشحين المحتملين للرئاسة الأمريكية، في انتخابات العام القادم، على نحو ما سنستعرض في مقالات تالية إن شاء الله.

3864

| 19 أغسطس 2015

لماذا يكرهوننا؟

كان السؤال الأكثر طرحاً في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الدوائر الإعلامية والأكاديمية الأمريكية هو لماذا يكرهوننا؟ وكان المقصود بطبيعة الحال العرب والمسلمين، حيث زعمت هذه الدوائر أن الهجمات لم تكن سوى عرض لمشكلة أعمق ألا وهي مشكلة كراهية أمريكا. متابعة تصريحات مرشحي الرئاسة الأمريكية المحتملين ومواقفهم العدائية تجاه الإسلام تجعل من الممكن عكس طرفي السؤال، فيصبح السائل هو المسلمون، والمسؤول هم الأمريكان، لماذا تكرهنا أمريكا؟ محاولة الإجابة عن هذا السؤال تستلزم البحث في مستويات أعمق من مستوى متابعة الأحداث الجارية، وذلك للوقوف على الصورة الذهنية للأمريكيين إزاء سكان هذه المنطقة من العالم، وأحد طرق ذلك هو متابعة المؤلفات التي ألفها الأمريكيون أنفسهم عن تاريخ بلادهم في الشرق الأوسط. أحد أهم هذه الكتابات هو كتاب المؤرخ والسياسي الأمريكي/الصهيوني مايكل أورين، بعنوان: القوة والإيمان والخيال: أمريكا في الشرق الأوسط من 1776 وحتى اليوم. يؤكد أورين في كتابه أن الاعتقاد السائد لدى الغربيين بخصوص أهل الشرق يتلخص في أنهم يدينون بدين غريب (الإسلام)، وأنهم رغم انحدارهم من حضارة كبيرة انهارت منذ زمن طويل، إلا أنهم بدائيون، يتميزون بالعنف والقسوة. كما يحب كثير من الأمريكيين أن ينظروا إلى الشرق الأوسط بوصفه مرتعا للفساد والطغيان والتخلف، أي صورة نقيضة لما يعيشه الأمريكيون من ديمقراطية وثقافة وحضارة. ويقر أورين بأنه رغم أن الولايات المتحدة كانت تفخر في بدايات تكوينها كدولة بالتسامح الديني، فإن هذا التسامح كان نادرًا ما يمتد إلى الإسلام، لأن الأمريكيين لم يكونوا ينظرون إليه كدين، وكان الكثير من رجال الدين البروتستانت ينددون بالإسلام باعتباره عقيدة باطلة، ومما زاد من هذا الانطباع السيئ عن الإسلام الترجمات المغرضة للقرآن الكريم، والتي لم تكن تهدف إلى الترجمة الحرفية لمعانيه، بقدر ما كانت تهدف (كما يزعم أصحابها) "إلى كشف التناقضات والتجديف والقصص الخيالية المضحكة"، أو "إلى تعريف المسيحي بأعدائه على نحو أفضل حتى يتمكن من التغلب عليهم ومهاجمة دينهم بنجاح". كما وصلت الصور السلبية عن الشرق الأوسط لأمريكا عن طريق مذكرات الدبلوماسيين والرحالة الأوروبيين، وكانت هذه المذكرات ترسم صورة للشرق الأوسط على أنه مكان غريب وخطير في آن واحد، وتصف نساءه بأنهن لعوبات، ورجاله بأنهم منفلتون، كما كان هناك كتاب متعصبون يصفون شعوب المنطقة بأنهم همجيون، غارقون في الغنائم والأسلاب، يفقئون أعين سجنائهم المسيحيين ويقطعون أيديهم وأرجلهم. ترك هذا الافتقار إلى أي معرفة حقيقية وموضوعية بالشرق الأوسط فراغًا كان من السهل ملؤه بإشاعات عن المنطقة، أبرزها عداؤها المزعوم للغرب. ولكن لم يكن الأمر كله نابعا من الإشاعات فقد كان ثمة ميراث صراعي حقيقي بين العرب وأمريكا. ذلك الصدام هو ما يطلق عليه الأمريكيون "حروب البربر". ففي سبعينيات القرن الثامن عشر كان خُمس الصادرات السنوية للمستعمرات الأمريكية يذهب إلى موانئ البحر المتوسط على متن أكثر من مائة سفينة أمريكية، وكان البحارة المسلمون هم الخطر الأوحد الذي يهدد هذه الصادرات، وكان هؤلاء المجاهدون يبحرون من المغرب والمناطق العثمانية شبه المستقلة في ليبيا وتونس والجزائر لمهاجمة السفن المسيحية التي تبحر أمام سواحلهم، ردا على الهجمات التي تشنها الجيوب الصليبية في صقلية، ومالطة، وطرابلس (فرسان القديس يوحنا) على حواضرهم. وقد ظهرت جرأة المجاهدين المسلمين في أكتوبر ١٧٨٤، عندما هاجموا السفينة الأمريكية بيتسي التي تصل حمولتها إلى ٣٠٠ طن واستولوا عليها، وبعد ثلاثة أشهر من الاستيلاء على بيتسي استولى البحارة الجزائريون على سفينتين أخريين هما دوفين وماريا وأسروا واحدًا وعشرين من أفراد الطاقم الأمريكيين. لهذا السبب كان السياسيون الأمريكيون يرون في العرب المسلمين شرا مستطيرا، يعصف بالطموحات الاقتصادية للولايات المتحدة، حتى أن الصحف الأمريكية الصادرة في تلك الحقبة تنافست في نقل أخبار، بعضها حقيقي وأغلبها مختلق عن الصعوبات والمخاطر الهائلة التي يواجهها البحارة والسفن الأمريكية عند عبورها أمام سواحل بلاد الإسلام. وكان الأمريكيون يضطرون في أحيان كثيرة إلى دفع فديات ضخمة لتحرير سفنهم وأسراهم، واضطر الأمريكيون إلى تأجير بوارج حربية هولندية أو إسبانية لمرافقتهم وحمايتهم عبر البحر المتوسط. ويزعم المؤلف أن الحكومة الأمريكية كانت توجه ما يقرب من ٢٠٪ من دخلها السنوي لدول شمال إفريقيا، في شكل ذهب أو أحجار كريمة، أو حتى في شكل مدافع أو ذخيرة أو سفن حربية لتسمح لها بالمرور الآمن. ورغم أن الأمريكيين في هذا الوقت كانوا يمتلكون ملايين العبيد من السود، إلا أنهم لم يستطيعوا أبداً تقبل فكرة أن يمتلك الأفارقة عبيدا من البيض، وكان النفور من هذه الفكرة أحد الدوافع التي وافقت على أساسها الولايات المتحدة أن تبدأ في بناء قوة بحرية، تحمي التجارة الأمريكية من هجمات من يسمونهم قراصنة العرب. ويؤكد المؤلف أن التهديد الذي مثله مسلمو شمال إفريقيا كان أحد العوامل التي دفعت المستعمرات الأمريكية الكونفيدرالية إلى التقارب بشكل أكبر وتشكيل ما صار نواة الاتحاد الفيدرالي الأمريكي. حتى أنه يتندر على الدور الذي لعبه الشرق الأوسط في نشأة الولايات المتحدة الأمريكية بالقول: إن الداي الجزائري، بوصفه أحد رعاة الغارات على السفن الأمريكية، يمكن أن يعد أحد الآباء المؤسسين للدستور الأمريكي. هكذا يؤصل الأكاديميون الغربيون لفكرة العداء للمشرق المسلم. وحتى لو كان السياسيون الأمريكيون لا يستوعبون كل هذه التفاصيل فإن المشاهد أن العداء للإسلام والمسلمين قد أصبح طقسا انتخابيا لابد أن يمارسه الجميع كي يكتسبوا تأشيرة المرور إلى المراحل الأعلى من المنافسة السياسية. المصدر: مايكل أورين، بعنوان: القوة والإيمان والخيال: أمريكا في الشرق الأوسط من 1776، مؤسسة كلمات.

1592

| 13 أغسطس 2015

alsharq
TOT... السلعة الرائجة

كثير من المراكز التدريبية اليوم وجدت سلعة سهلة...

5388

| 06 أكتوبر 2025

alsharq
استيراد المعرفة المعلبة... ضبط البوصلة المحلية على عاتق من؟

في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ...

4947

| 02 أكتوبر 2025

alsharq
الإقامة الدائمة: مفتاح قطر لتحقيق نمو مستدام

تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في...

4377

| 05 أكتوبر 2025

alsharq
العدالة التحفيزية لقانون الموارد البشرية

حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم...

3159

| 09 أكتوبر 2025

alsharq
الذاكرة الرقمية القطرية.. بين الأرشفة والذكاء الاصطناعي

في زمن تتسابق فيه الأمم على رقمنة ذاكرتها...

1869

| 07 أكتوبر 2025

alsharq
بكم نكون.. ولا نكون إلا بكم

لم يكن الإنسان يوماً عنصراً مكمّلاً في معادلة...

1551

| 08 أكتوبر 2025

1428

| 08 أكتوبر 2025

alsharq
حماس ونتنياهو.. معركة الفِخاخ

في الوقت الذي كان العالم يترقب رد حركة...

1029

| 05 أكتوبر 2025

alsharq
الوضع ما يطمن

لسنا متشائمين ولا سلبيين في أفكارنا وتوقعاتنا ولكن...

906

| 03 أكتوبر 2025

alsharq
هل قوانين العمل الخاصة بالقطريين في القطاعين العام والخاص متوافقة؟

التوطين بحاجة لمراجعة القوانين في القطــــاع الخـــــاص.. هل...

813

| 05 أكتوبر 2025

alsharq
تعلّم كيف تقول لا دون أن تفقد نفسك

كم مرة قلت «نعم» في العمل بينما في...

798

| 02 أكتوبر 2025

alsharq
لا يستحق منك دقيقة واحدة

المحاولات التي تتكرر؛ بحثا عن نتيجة مُرضية تُسعد...

780

| 07 أكتوبر 2025

أخبار محلية