رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
قبل انقلاب 3 يوليو كان المحللون الغربيون يقسمون أطراف المشهد السياسي في مصر إلى فريقين؛ فريق يضم "ديمقراطيين غير ليبراليين"، وتمثلهم من وجهة النظر الغربية جماعة الإخوان المسلمين، وفريق يضم "ليبراليين غير ديمقراطيين" وتمثلهم المعارضة الليبرالية. وينبع منطق هذا التقسيم من أن الجماعة كانت تتبنى الأدوات الديمقراطية كوسيلة للتفاعل السياسي مع خصومها، وتقبل بالاحتكام إلى الصندوق كمعبر وحيد عن إرادة الجماهير، ولكنها وهي تمارس ديمقراطيتها كانت تستخدم معايير غير ليبرالية فتقدم أهل الثقة على أهل الخبرة، وهو ما عرف في حينه بسياسات أخونة الدولة. أما المعارضة فوصفتها هذه التحليلات بالليبرالية لكونها تعلي قيم الحرية السياسية وتؤكد على سيادة القانون وعلى مدنية الحكم، ولكنها في ذات الوقت وصفتها بأنها غير ديمقراطية لكونها تضغط بشدة من أجل اعتماد أساليب لا تحتكم إلى الجماهير، وتمارس نوعا من الوصاية على الناس، حيث ترى أنها الأعلم بما يصلح أحوال البلاد، ولا تثق في ميول الجماهير كونها تنحاز إلى الخطاب الديني وتتشكك إزاء الخطاب المدني الذي تعبر عنه هذه النخب الليبرالية. الأحداث الأخيرة نزعت عن هذه المعارضة أي صفة ليبرالية كانت توصف بها، لتصبح معارضة غير ديمقراطية وغير ليبرالية في الوقت نفسه، فقد قبلت قوى المعارضة كل ما يتضاد مع الفكرة الليبرالية الأصلية ومارست كل ما يتعارض مع قيمة الحرية التي كانت تعرّف نفسها من خلالها. فبعد الانقلاب ظهر واضحا للعيان كيف أن المعارضة ذات ميول إقصائية تعتبر السياسة مباراة صفرية يفوز فيها طرف ما بكل شيء ويخسر الطرف الآخر كل شيء، كما ظهر كيف أنها معارضة غير سلمية فقد قبلت بالإجراءات القمعية التي تعرض لها خصومها على يد الأمن والمتعاونين معه من البلطجية، وأنها معارضة وصولية تقبل التمويل الخارجي تحت شعارات "دعم الديمقراطية" ليس من أجل تدعيم وضع الحريات وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية وإنما لإسقاط أول رئيس مدني منتخب. أما الانتحار الحقيقي الذي مارسته المعارضة الليبرالية فتمثل في قبولها التحالف مع العسكر لتمرير الانقلاب. فالحشد الجماهيري الذي شهدته مصر في ال 30 من يونيو، لا يمكن الجزم بأنه كان قادرا على الإطاحة بالرئيس المنتخب لولا التنسيق الذي تم بين هذه المعارضة الليبرالية وبين قيادات الجيش وفق ما أصبح الآن معلوما من تقارير بثتها كبريات الصحف العالمية حول اجتماعات تم فيها التحضير لهذا الانقلاب. هذا التحالف بين القوى الليبرالية وبين العسكر عكس اختيارا طوعيا ولم يعكس حالة استثنائية "اضطرت" المعارضة للقبول بها. فلقد كان بإمكان المعارضة أن تطيح بحكم الإخوان من خلال الأدوات الديمقراطية، وكانت التوقيعات التي جمعوها في إطار ما عرف بحملة "تمرد" والتي قدروها بالملايين (!) كفيلة بأن تجلب لهم النصر في أي استحقاق انتخابي قادم، كما كان بإمكانهم استغلال حالة السخط الشعبي؛ والذي كان في قدر كبير منه غضبا حقيقيا، على أداء كل من الرئاسة والجماعة، للتغلب عليهم، ولكن النخبة الليبرالية آثرت أن ترتمي في أحضان العسكر، وقبلت أن تدخل إلى المشهد السياسي على ظهر دبابة، كما قبلت ما تلا ذلك من أعمال اعتقال تعسفي، وتعاطت بمنتهى الأريحية مع كافة مظاهر تسييس القضاء، ومع تقييد الحريات وإغلاق قنوات الإعلام المحلية، والتشويش والتضييق المتعمد الذي شهدته ومازالت تشهده وسائل الإعلام العالمية. أما أخطر ما في الأمر فهو ردود فعلها السلبية إزاء أعمال القتل الذي تورط فيها النظام الانقلابي في مصر، سواء بشكل مباشر كما في مذبحة الحرس الجمهوري، أو عن طريق الوسطاء كما حدث في محافظتي الإسكندرية والمنصورة وقبل ذلك في أحداث ميدان النهضة. النخبة الليبرالية إذن تتنكر لكل مقولاتها القديمة وقت أن كانت في المعارضة، وسوف تحتاج إلى أن تبذل جهدا كبيرا لاستعادة ثقة الناس بها، خاصة أن المقابلة التي كانت تقيمها بين القيم الليبرالية وبين قيم الدولة الدينية التي أعلنت مرارا وتكرارا عدم استعدادها للعيش في ظلها اتضح للجميع زيفها. فبعد أن كانوا يؤكدون أن الدولة الدينية هي دولة غير مدنية إذا بهم يقبلون أن يستلموا الحكم في ظل هيمنة العسكر، أما الأسلمة التي حذروا من أنها بمثابة خطر داهم على الحقوق والحريات، فإنها لم تفعل طوال عام كامل ما فعلوه هم وحلفاؤهم خلال أيام معدودة من اغتيال الحقوق والحريات، أما زعمهم بأن الإسلاميين لديهم نزوع استبدادي لاستخدام الديمقراطية كوسيلة ثم الإطاحة بها بمجرد الوصول للحكم، فقد دحضه قبولهم أن تخرج شرعيتهم من فوهة مدفع. أما زعمهم بأن الدولة الدينية تستخدم خطابا وصائيا وأبويا، فقد كذبه استخدامهم لخطاب عفا عليه الزمن وترويجهم لنموذج سياسي تستحي منه الشعوب الآخذة في النمو، يحكم فيه العسكر من وراء ستار فيما يتصدرون هم المشهد كديكور، لا يملكون من قرارهم شيئا من دون الرجوع إلى قائدهم العسكري. وإذا كانوا قد وصفوا حكم الإخوان بأنه يقمع الأقليات، ويجبر الناس على الخضوع للحاكم المستبد، فقد باركوا كل الإجراءات الاستثنائية التي قام بها العسكر ضد خصومهم، وتعاموا عن الكتل البشرية التي تمثلهم والتي تغص بها الشوارع، وتمتلئ بها الميادين، معتبرين أن هؤلاء خارجين عن الصف ومن ثم فإن تجاهلهم أمر مبرر ومفهوم. المعارضة الليبرالية تقدم إذن نموذجا شديد النكارة للفكرة الليبرالية، نموذجا يطرح بدائله في إطار من القوة الباطشة، التي لا تخاطب الناس من خلال القدرة على الإقناع ولكن من خلال القدرة على الإرهاب والإرغام، أو في أحسن الأحوال من خلال الوصاية على الآخرين باسم الحرية!
418
| 24 يوليو 2013
إنكار الوجدان هو أحد أساليب القضاء على المعارضين، ويشير إلى محاولة انتزاع الخصم من وجدان الناس ومن وعيهم، بهدف خلخلة معنوياته وثقته بنفسه من جانب، وتهميش قضيته في عقول الناس حتى يطويها النسيان من جانب آخر. اما عن آليات ذلك فكثيرة، منها التأكيد على أن الخصم لا يشكل جزءا أصيلا من المجموع وإنما هو طارئ أو مقحم عليه، أو الزعم بأنه هامشي يمكن إهمال وجوده الذي يتساوى والعدم، وصولا إلى القول بأن الخصم خطر على المجموع ومن ثم يتعين استبعاده أو القضاء عليه. ويكون هدف الإنكار في العادة التمهيد لتصفية الخصم تصفية فعلية أو تهميشه واستبعاده، مثال على الأول ما كان يقوم به هتلر من إنكار أن يكون اليهود جزءا أصيلا من الشعب الألماني، حيث كانت هذه مقدمة لتصفيتهم جسديا في أفران الغاز الشهيرة. والمثال على الثاني ما قام به اليهود، بعد أن تحولوا من ضحية إلى جلاد، من إنكار وجود الفلسطينيين، لتهميشهم وعزلهم. ولجولدا مائير مقولة شهيرة تقول فيها "لم يكن هنالك أي شيء يسمى بالفلسطينيين. ولم يكن هنالك شعب يسمي نفسه بالشعب الفلسطيني". هذا الإنكار بغرض الاستبعاد، اعتمدته إسرائيل بغرض القضاء على خصومها الذين يمثل وجودهم شرخا فيما تدعيه من شرعية. في هذه الأيام يلعب قادة الانقلاب العسكري في مصر، بالتضامن مع وسائل الإعلام، لعبة مماثلة مع خصومهم من مؤيدي الدكتور محمد مرسي، قوامها تجاهلهم المتعمد بغرض تهميش حضورهم في وعي المصريين، والأخطر أن يكون هذا بنية التخلص النهائي منهم. فمنذ اليوم الأول أعلن قائد الانقلاب أنه استمع إلى صوت الشعب العظيم (المعارض للرئيس)، ما أشار إلى أنه لم يأبه لمن نزلوا مؤيدين للرئيس ومتمسكين بشرعيته، وكأنهم ليسوا جزءا من هذا الشعب العظيم بدورهم. تلت هذا البيان الانقلابي حملة اعتقالات موسعة ضد رموز هذا التيار، مشفوعة بحملة تكميم للقنوات الفضائية المؤيدة للرئيس أو المنتمية إلى خطه السياسي حتى وإن كانت تعارضه. حدث هذا بالتزامن مع حملة إعلامية هدفت إلى التعتيم الكامل على الفريق المناوئ للانقلاب، حيث تم حجب كافة أخبار المسيرات والاعتصامات التي نظمها أنصاره. أما القدر الذي سمح بنشره فكان يراعى فيه أن يتم تشويهه لأكبر درجة ممكنة في إطار حرب نفسيه، تهدف إلى إزالتهم من وجدان المصريين أو على الأقل تشويه وجودهم لأقصى درجة. ومازال هذا الإعلام المتحيز يحاول أن يرسخ فكرة أن هناك شعبا أصلي وآخر منبوذ؛ الأول يتعين الاستماع إلى شكواه وتضخيمها واستدعاؤها على نحو متكرر، والآخر يسقط منه ثمانون قتيل في يوم واحد فلا يهتز لأحد من أهل الإعلام جفن. طرف تلاحقه الكاميرات وتحتفي به، وطرف تشن حملة كراهية ضده وتغلق دونه كافة المنافذ التي كانت تعبر عنه. وفي إطار هذه الحرب النفسية يستخدم الانقلابيون، وحلفائهم من الإعلاميين، كافة الأساليب السابق الإشارة إليها من أجل إنكار الوجدان، فهم يروجون فكرة أن مؤيدي الشرعية لا يمثلون مكونا أصليا في نسيج المجتمع المصري، كما يذهبون إلى أنهم نسبة قليلة لا تؤثر في إرادة الشعب المصري الذي خرج منه (36) مليون مواطن للمطالبة بتدخل الجيش! وأخيرا يتم الإلحاح على فكرة أن مؤيدي الشرعية هم جماعة إرهابية يجوز بل يتعين تصفيتها أو القضاء التام والمبرم عليها. ولكن هل يمكن بالفعل استبعاد ملايين المطالبين بالشرعية، لمجرد أنهم رفضوا الخضوع لمنطق القوة. وهل ما أقدم عليه قادة الانقلاب من العسكر والإعلاميين من إهمال هذه الكتلة كان أمرا صائباً. تشير أحداث الأيام الفائتة إلى أن هذا ليس أفضل سيناريو ممكن. فسيناريو الإقصاء عادة ما ينتهي إلى الفشل، ولو كان بالإمكان أن ينجح لنجح في إسرائيل، التي ترتبط شرعية وجودها باختفاء معارضيها، ولكنه فشل وظلت المعارضة موجودة على الأرض متمتعة بوجود حقيقي يذكر شانئيهم في كل لحظة أن ما أخذوه منهم كان استلابا ولم يكن لقطة. في مصر أيضا يظل وجود المعتصمين من مؤيدي الشرعية في الميادين والشوارع بمثابة دليل على أن الانقلاب الذي حدث لم يكن حلا للأزمة وإنما انحيازا إلى حد أطرافها. وأن هذا الانحياز هو الذي صنع الانقسام الذي تعيشه البلاد. صحيح أن سياسات الدكتور محمد مرسي ربما تكون قد أسهمت في انقسام المصريين، ولكن الانقلاب العسكري هو الذي حوله إلى واقع معاش، فقد تحول المصريين إلى شعبين، شعب رابعة وشعب التحرير. هذا الانقسام مرشح للتزايد، فقد صار لدينا واقع يحتفي بالقضاء على ثورة يناير وعودة النظام القديم، وواقع آخر يعيشه المعارضون للانقلاب العسكري، سواء منهم الموالون للإخوان أو المؤيدون للشرعية، وهؤلاء يرفضون التعاطي مع تفاصيل ما بعد الانقلاب. لقد استبدلت قوى الانقلاب وحلفاؤهم من الإعلاميين معيار "التصويت"، وأحلت محله معيارها الخاص وهو "التصوير"، فأصبحت القدرة على الحشد هي المؤشر على امتلاك الأغلبية، ولكنها وهي تفعل ذلك لم تكن مخلصة لمعيارها الجديد، أو قادرة على أن تلزم نفسها بنتائجه، فعندما نزل مؤيدو الشرعية إلى الشوارع، لم تطبق عليهم معيارها، وامتنعت عن متابعتهم بكاميراتها لكي تنكر وجودهم وتنكر حضورهم توطئة لاستبعادهم وتهميشهم. فهل هذا هو المناخ الذي يراهن عليه الانقلابيون لإحداث التحول السياسي وإجراء المصالحة؟ إن المجتمع المصري لن يستقر في إطار استبعاد مبني على الإنكار، وانقسام مبني على الاستبعاد. فإنكار الوجدان لا يعني إنكار الوجود، والحقوق لا تسقط بالتقادم، والشرعية لا يمكن أن تفرض بغطرسة القوة.
632
| 17 يوليو 2013
الرسالة المباشرة التي حملها الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب في مصر للإسلاميين، أن الديمقراطية ليست سوى واحدة من الخرافات التي لا وجود لها وتحديدا عندما تأتي بهم إلى مواقع الحكم، وأنها ليست مرادفة لا للصناديق ولا لاحترام القانون والدستور، وليست مرادفة لمدنية الحكم أو احترام التعددية، وإنما هي مجرد ثوب زور يتفاخر به المدعون، عن غير إيمان ولا اقتناع. ففي مشهد حتما سوف يسجله التاريخ مشفوعا بعبارات الإدانة، تحالفت الدولة العميقة، بكافة مؤسساتها الأمنية والإعلامية، مع المعارضة العلمانية (الليبرالية واليسارية)، مع القوى التي تصف نفسها بالثورية، للإطاحة بالحكم المدني المنتخب لأول مرة في تاريخ مصر، واستبدلته بحكم سلطوي، وذلك في انقلاب ناعم نفذه العسكر تحت زعم الاستجابة لصوت "الشعب العظيم" الذي خرج في مظاهرات 30 يونيو، وكأن المنتمين إلى التيار الإسلامي، الذين يدعمون الرئيس المعزول، ليسوا جزءا من هذا الشعب العظيم. ليس هذا فحسب ولكن تلت ذلك عملية اعتقال منظمة لرموز التيار الإسلامي وقياداته، كما تم إغلاق جميع القنوات التابعة لهذا التيار، وذلك من دون أي تحفظ أو استدراك من قبل القوى الليبرالية، والتي اصطفت في خنوع خلف العسكر واحتمت في ظل سلاحهم. هذا الانقلاب أظهر أن الرئيس المنتمي إلى جماعة دينية، وإن لم يعكس هو وجماعته الوجه الأمثل للإسلام السياسي، كان أكثر إيمانا بالديمقراطية من خصومه، فعلى مدار عام كامل قضاه في الحكم لم يغلق صحيفة ولم يوقف بث قناة فضائية ولم يعتقل أي معارض. وظل على تشبثه بالنظام الديمقراطي رغم العقبات الجمة التي وضعت في طريقه. فقد كان مطلوبا منه أن يرضي خصومه قبل مؤيديه، وأن يقدم حلولاً لكل مشكلات العهد السابق على حكمه في أشهر قليلة، وأن يواجه إعلاما لا يرضى منه بأي مبادرة، وأن يواجه محكمة دستورية تخطئ كل قراراته بل وتحل البرلمان الذي يضم الكتلة السياسية التي يعتمد عليها، وأن يواجه معارضة قبل الكثير من فصائلها أن يتحالف مع الفلول بغرض إسقاطه، وأن يحقق الأمن من دون استخدام للقوة، وأن يبني نظاما جديد من دون المساس بالنظام القديم، وأن يحقق إنجازات ثورية من دون أن ينتهك القانون الذي يشرف على تفعيله رجال النظام الذي قامت ضده الثورة. ورغم كل ذلك تشبث الدكتور مرسي بالديمقراطية ولم يساوم عليها، واعتبر أن شرعيته الدستورية هي رأسماله الأساسي، وانتقل بسرعة من منطق الثورة إلى منطق الدولة، وقرر التصالح مع مؤسسات الدولة العميقة، ودخل في هدنة غير مشروطة مع أجهزة الأمن المتربصة، والتي كانت لا تخفي قناعتها بأن حكمه أمر مؤقت. إلا أن هذه الروح المتسامحة هي بالضبط ما تسببت في تعثره، وأدت بالكثير من الناس إلى الخروج ضده في الثلاثين من يونيو، يطالبون العسكر بالضغط عليه من أجل إجراء انتخابات مبكرة، فإذا بالأخيرين يزايدون على ما أراده الناس ويقدمون خارطة طريق انقلابية، تعزل الرئيس، وتحل مجلس الشورى، وتعطل الدستور، وتنصب رئيسا جديدا للبلاد يؤدي القسم على دستور معطل، في إطار من الكوميديا السوداء، المتشبثة بأهداب ديمقراطية مزيفة. إن الأخطاء التي رصدتها المعارضة كمبرر للانقلاب على نظام الدكتور مرسي (مثل أخونة العديد من المناصب، وعدم انفتاحه على القوى السياسية الأخرى بالقدر الكافي) كانت في مجملها أخطاء سياسية، يمكن التعامل معها من خلال نهج سياسي، وليس من خلال نهج انقلابي يعيد البلاد إلى نقطة الصفر ويعيد فلول النظام القديم إلى واجهة المشهد السياسي، ويعترف للعسكر بأنهم الحكم بين الفصائل السياسية حين تنازعها، فيعطيهم بذلك صكا على بياض للتدخل في الشأن السياسي وقتما شاءوا، ناسفا أسس الديمقراطية التي كانوا يتشدقون بها. لقد كان الكثير من الإسلاميين متشككين إزاء الفكرة الديمقراطية، وكان مناخ الاستبداد الذي اتسمت به أنظمة الحكم السابقة على ثورة يناير معوقا لمشاركة المقتنعين منهم بها على اعتبار أن سياسة التزوير والإقصاء كانت هي الغالبة. حتى جاءت ثورة يناير السلمية، فأشاعت أجواء من التفاؤل بإمكانية التعبير الحر عن الرأي، الأمر الذي تعاطى معه الإسلاميون بإيجابية، فانخرطوا في إطار العملية السياسية، وقبلوا بالتحاكم إلى قواعد اللعبة الديمقراطية. إلا أن نجاح الإسلاميين في هذه التجربة قوبل بحرب مستمرة، استخدمت في إطارها كافة الوسائل لعرقلة صعودهم، فاستخدمت أسلحة الإعلام وبيروقراطية الدولة العميقة، وصولاً إلى حد استجداء الخارج من أجل وضع حد لهذا الصعود. قبل أن ينتهي المشهد باستدعاء المؤسسة العسكرية لتكتب شهادة وفاة الديمقراطية في مصر، ولتؤكد زيف الاتهامات التي كانت تصف الإسلاميين بأنهم أعداء للديمقراطية وأنهم إذا ما نجحوا في الفوز بالحكم سوف يستبدون به ولن يتركوه، اتضح من خلال الانقلاب أن عكس ذلك هو الصحيح، فالآخرون هم من لا يقبلون الإسلاميين ولا يطيقون وجودهم في السلطة. فهل يحق الآن للإسلاميين الكفر بالديمقراطية وإزالتها من قاموسهم السياسي، بعد أن انهارت أصنام التعددية، واحترام الرأي الآخر، وأصبحت مجرد شعارات خالية من المضمون، وهل يحق لهم أيضا أن تتعمق عقدتهم تجاه الغرب الذي يروج للديمقراطية فيما يسارع بالاعتراف بالانقلابات العسكرية وما يتبعها من انتهاكات للحقوق والحريات. ومن ناحية أكثر سوءا هل يمكن استبعاد فكرة أن يؤدي الإحساس بالظلم ببعض فصائل الإسلام السياسي إلى استئناف نهجها العنيف الذي لم تكد تبرأ منه؟
337
| 10 يوليو 2013
عندما تفتق الذهن البشري عن نموذج "الديمقراطية النيابية" كان الدافع إليه أن نموذج "الديمقراطية المباشرة" لم يستطع أن يفي بأغراض الشعوب. فالناس لا يمكنها أن تتجمع في الميادين والشوارع بالملايين لكي تفصح عن إرادتها، وحتى إذا كان ذلك ممكنا فإن مناقشة أي قرار وسط الآلاف المؤلفة من البشر لا يمكن أن يسفر عن نتائج ذات معنى، كما أن التعبير المباشر عن وجهات النظر السياسية يتضمن احتمال المواجهة بين المختلفين. فكما سينزل المؤيدون سينزل المعارضون، وهنا لن يكون النقاش هو سبيل الإقناع وإنما القدرة على إحداث أكبر قدر من الأذى بالخصم. ومن هنا حلت صناديق الانتخابات محل المواجهات، وحلت فكرة اختيار نواب عن الشعب محل التعبير المباشر عن وجهات النظر، وظل هذا الأمر محل اتفاق بوصفه الأسلوب الأقرب إلى السلمية في المجتمعات المتحضرة. ولكن القوى السياسية في مصر قررت أن تخالف هذه القناعات، فعادت خلال الأيام الماضية إلى الشارع لممارسة الديمقراطية المباشرة من جديد، متجاوزة بذلك تراثا إنسانيا لم يصل إلى ما وصل إليه من تفضيل الأسلوب النيابي إلا بعد أن خبر مخاطر وأخطاء ديمقراطية الشارع. ليس هذا فحسب ولكن الديمقراطية المصرية أضافت إلى العيوب السابقة عيبا إضافيا وهو اعتمادها بشكل شبه كامل على كاميرات الإعلام، فأضفت بذلك بعدا استعراضيا، يستبدل أصوات الناخبين بحضورهم المباشر والشخصي، ثم ملاحقتهم بالكاميرات لالتقاط حركتهم وإبراز حشودهم. ولكن كاميرات الفضائيات وهي تفعل ذلك فإنها تمارس تحيزات نابعة من تفضيلاتها السياسية ومن مصادر التمويل التي تعتمد عليها، ولذا فإنها لا تظهر الحشود المتقابلة بنفس النسبة، ولا تقدم تغطية متوازنة لها، وإنما تحرص على إبراز كثرة من تؤيدهم، وضآلة من تعارضهم. هذه المتاجرة بمناظر الحشود بهدف إحراز نقاط سياسية تلهب مشاعر المزيد من الناس وتدفعهم للنزول والاعتصام بالميادين دعما لمؤيديهم. في الديمقراطية على الطريقة المصرية إذن صار الإعلام جزءا من المنازلة السياسية، مهمته الأساسية هي محاصرة الإسلام السياسي على نحو كامل، وذلك للتغلب على معضلة التفوق الانتخابي للإسلاميين، فتم استدراجهم إلى ميدان منازلة جديدة، يفقدون فيها ميزتهم الأساسية، أما إعلان نتائج هذه المنازلة فلا يتم في لجان فرز الأصوات ولكن في أستديوهات التوك شو والبرامج الحوارية، وفي كل الأحوال تكون النتيجة معلنة مسبقاً، وهي انتصار الكتل المعارضة بالأغلبية الساحقة، بعد أن يستبدل اسمها لكي تتم الإشارة إليها باسم "الشعب"، فلا تصبح مجرد قوى معارضة ولكنها تصبح الشعب نفسه، كما لو كانت الأطراف الأخرى غير موجودة في المشهد أصلاً. نزول المعارضين إلى الشوارع، ودخول الإعلام على الخط ليسا أغرب ظواهر الديمقراطية المصرية، فالأغرب بحق أن الجماهير التي نزلت إلى الشوارع، واعتصمت بالإعلام، ورفضت الاحتكام إلى الصناديق، فعلت كل ذلك لا لكي تحافظ على إرادتها حرة، ولا لكي تمتلك قرارها بأيديها، ولكن من أجل أن تستنجد بالعسكريين وتأتي بهم إلى الحكم، وكأننا أمام نسخة من الديمقراطية الفاشية، التي تقبل ما يفرضه العسكر وترفض ما تفرضه إرادة الأغلبية. ولذا فقد كانت قمة الدراما في الديمقراطية المصرية أن يحتفي المتظاهرون المدنيون، بعودة الجيش إلى المشهد السياسي، وأن يتطلع الكثير إلى أن يحتكر الجيش السلطة، ويقضي على تجربة التحول الديمقراطي المدني بكافة تفاصيلها. وقد شارك في هذا العرض الهزلي كثير من القوى الثورية التي التهبت حناجرها ذات يوم بالنداء الشهير "يسقط حكم العسكر"، هذه أيضا أصبحت لا تمانع في عودة الجيش إلى السلطة مرة أخرى، من أجل أن يبدأ مرحلة انتقالية جديدة، تدوم لعدة أشهر أو بضع سنوات. لقد كان بالإمكان أن تنتظم القوى الرافضة لحكم الإخوان أمام صناديق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية القريبة جدا، لتعبر عن رأيها بشكل سلمي ومتحضر، فتحصد أغلبية المقاعد وتشكل حكومة جديدة، يتولى رئيسها إدارة معظم الملفات السياسية، ويشارك رئيس الدولة في العديد من اختصاصاته، ولكن هذه القوى أبت إلا أن تختار أكثر الأشكال صخباً للتعبير عن رفضها للأداء السياسي للرئاسة والجماعة، ألا وهو النزول إلى الشوارع، مدعومين بكاميرات الفضائيات، التي لاحقتهم وثبتت صور خلفياتها على مشاهد الميادين وهي ممتلئة بهم، وكأنها تقرر بذلك سابقة سياسية، يتعين على المعارضين في المستقبل أن يحتذوها للتعبير عن رفضهم، وهي أن المباراة السياسية يحسمها الطرف الأقدر على إحداث أكبر قدر من الصخب. إلا أن هذا الأسلوب هو بالضبط ما يجعل المباراة بلا قواعد، فإعلان المغلوب أنه لن يكمل المباراة حتى تتغير قواعد اللعبة بما يضمن له الفوز، أو طلبه من جمهوره أن ينزل إلى أرض الملعب قبل أن تنتهي المباراة أو حتى يستعين بالصديق القوي (المؤسسة العسكرية) للمساعدة في تطويع النتيجة، كل هذه السيناريوهات تنزع عن عملية تداول السلطة شكلها المؤسسي وتتحول بها إلى نمط فوضوي لا يمكن تكراره في المستقبل. إشارة أخيرة تحملها ظاهرة التظاهرات أمام الكاميرات تتمثل في الإيحاء بأن الديمقراطية المصرية لم تكن أكثر من تمثيلية؛ تظاهر البعض باحترامها ولكنهم عند الجد أعلنوا عن قناعاتهم الحقيقية إزاءها، وهي أن احترامهم لها لم يكن أكثر من ادعاء. فالمثقفون والنخبة الذين صدعوا رؤوس الناس بالحديث عن الشرعية الدستورية، يستخدمون منابر الفضائيات للحديث عن شرعية جديدة تصنع في الشوارع والميادين، أما القوى الثورية فهي ترحب بتدخل المؤسسة العسكرية، وتحضّر لتسليم الجيش مسؤولية البلاد. وكأنها بذلك تعبر عن قناعاتها بأن الإجراءات الدستورية التي انخرطت وشاركت فيها لم تكن أكثر من حبر على ورق، وأن المسار السياسي تحكمه لغة القوة في المقام الأول، فالمشروعية وفقا لها تخرج من فوهة المدفع، وليس من خلال إرادة الشعب بأي شكل من الأشكال.
426
| 03 يوليو 2013
السؤال الذي يشغل بال الكثير من المصريين هذه الأيام هو من سينزل ومن سيمتنع عن النزول في مظاهرات الثلاثين من يونيو؟ وهل ستكون ثورة حقيقية أم ستظل كما سماها الداعون إليها مجرد حركة تمرد؟ قراءة التركيبة السياسية المتداخلة في هذه المظاهرات المزمعة هي ما سنحاول القيام به في السطور التالية. أبرز النازلين ستمثلهم قوى المعارضة العلمانية التي تعتبر الداعي الحقيقي لهذه التظاهرات. هذا الفريق تشغله الأخطاء الفنية الدقيقة في منظومة الحكم الحالي والتي ربما لا تهم عموم الشعب كثيرا، مثل شكواهم من أن الدستور قد أعد على نحو معيب، وأن جماعة الإخوان تسيطر على مفاصل الدولة عبر سيناريو الأخونة، وشكواهم أن النائب العام قد جاء بالتعيين من قبل رئيس الدولة. هذه الاعتبارات على أهميتها لا تمس الحياة اليومية للمصريين، كما أنها ترتبط في أذهان الكثيرين بالمبالغات التي دأبت المعارضة على تأكيدها منذ بداية حكم الدكتور مرسي مثل تلك الخاصة بإفلاس مصر، وتعرض البلاد لخطر المجاعة، فضلاً عن ارتباطها بمسلسل التشهير بالنظام عند كل فرصة حقيقية (خطف الجنود، سد النهضة) أو حتى إشاعة مختلقة (تأجير الآثار المصرية للخليج، والتنازل عن مدينتي حلايب وشلاتين لصالح السودان). وبخلاف هذا الفريق فإن أنصار النظام السابق سيكونون في الصفوف الأولى للمظاهرات، خاصة وقد جاءتهم الفرصة على طبق من ذهب لاسترداد ما فاتهم من خيرات ومميزات العهد السابق. أما من لم يكن مستفيدا بشكل مباشر من النظام السابق ومع ذلك يتمنى عودته بحماس، فالأرجح أنه يفعل ذلك لاعتبارات تتعلق بعدائه للأسلمة التي يتصور أن حكم الإخوان يعبر عنها، ورفضه لفكرة أن يكون الدين موجها للمرحلة، حتى ولو على المستوى الشعاري. وعلى هذا الأساس يمكن أن نتصور أن إصرار هذا الفريق على النزول قد زاد في أعقاب مظاهرات القوى الإسلامية الجمعة الفائتة، وذلك للتأكيد على الطابع العلماني الذي يريدون أن تكون عليه الدولة. هناك أيضا فريق معتبر من المواطنين العاديين ممن سينزلون تعبيرا عن سخطهم على الأداء الضعيف للرئاسة والجماعة، وعدم قدرتهم على تحقيق إنجاز ملموس بعد عام من توليهم مسؤولية قيادة البلاد. خصوصا على مستوى غياب الأمن، وضعف المرافق، وعدم تحسن مستويات المعيشة بالدرجة التي كانوا يتوقعونها. يعتبر هؤلاء أن الإخوان قد ورثوا النظام القديم ومارسوا نفس أخطائه بدلا من أن يأتوا بنظام جديد. ورغم أن الكثير من أفراد هذا الفريق لم يكن لديه مشكلة مع الإخوان قبل أن يأتوا إلى السلطة، إلا أن نقمته عليهم بدأت عندما قارن بين الوعود البراقة التي ألزم الإخوان أنفسهم بها، مع ما تحقق على أيديهم من هذه الوعود على الأرض، الأمر الذي ولد حالة من الإحباط لدى هؤلاء دفعتهم إلى تحميل النظام الحالي أخطاءه وأخطاء النظام السابق عليه جميعاً. من بين من سينزلون أيضاً فرقة الغوغائيين، الذين سيستغلون حالة الفوضى لتحقيق مكاسب غير مشروعة. فانشغال الشرطة بتأمين أقسامها، وحماية مرافق الدولة (أو على الأقل هذا ما يرجى منها) سوف يفتح الباب واسعاً أمام عناصر من الدهماء للخروج لأغراضهم الخاصة. وهؤلاء هم مصدر الخطر الحقيقي الذي يخشاه المصريون الذين ذاقوا ويلات غياب الأمن أثناء ثورة يناير. وعلى أيدي هذا الفريق يمكن أن ينبثق العنف على نحو قد لا يستطيع أحد دفعه. أما الفصائل التي لن تشارك في التظاهرات فيأتي على رأسها الإسلاميون بكافة طوائفهم، فبخلاف جماعة الإخوان المسلمين الموجودة في الحكم، فإن الفصائل الأخرى سوف تمتنع عن النزول انطلاقا من قناعتها أن اكتمال تجربة الإخوان هو الضامن الأساسي لحق الجماعات الإسلامية في ممارسة العمل السياسي العلني، وذلك بعد أن كانت الأنظمة السابقة تجبرهم على العمل من تحت الأرض أو تلقي بهم في غياهب السجون. هذه الفصائل تستحضر معاني الفتنة الكبرى في صدر الإسلام كأساس لدعمها للإخوان، فهي تؤمن أن التهاون الذي حدث في حماية الخليفة الثالث (رضي الله عنه)، بفعل ما كان يأخذه عليه البعض من تفضيل بنى أمية، قد فتح الباب أمام الفتنة التي لم تلتئم بسببها جراح الأمة طوال العقود التي تلت. وبنفس المنطق فإنهم يرون أن التهاون في الدفاع عن النظام الحالي، على الرغم مما يأخذونه عليه من سعي لأخونة الدولة وإحجام عن إشراك بقية القوى الإسلامية في منظومة الحكم، سوف يفتح الباب أمام أزمة يفقدون بسببها حق التواجد الشرعي على المسرح السياسي إلى الأبد. أما الفصيل الثاني الذي لن ينزل إلى الشارع فهم أولئك المصريون المقتنعون بأن منظومة الحكم الحالية وإن كانت لم تتحرك بالبلاد كثيرا عن المكان الذي تركها فيه النظام السابق، إلا أنها ليست بنفس درجة فساده. هذا المعسكر يضم الجماهير التي لا تهتم بالقضايا الفنية التي تثيرها النخبة، والمقتنعة في ذات الوقت بتحامل هذه النخبة على الرئاسة والجماعة على طول الخط، الأمر الذي يخلق بينهم حالة من التعاطف الإجباري إزاء الرئيس الذي يمثل رغم كل شيء نموذجا للشخصية المصرية المتوسطة التي ينتمي إليها الكثير منهم. صحيح أن هذا الفريق قد لا يعطي أصواته للإخوان في أي انتخابات قادمة، ولكنه يرى أنهم لا يستحقون أن تنتهي تجربتهم بشكل فج ودرامي كذلك الذي انتهت به تجربة النظام السابق. قعود هذه الكتلة ورفضها للنزول في المظاهرات المقبلة هو ما سيفقد الأخيرة زخم الثورة، فالاحتمال الأكثر ترجيحا أن الشوارع لن تموج بالناس، ولن يبيت الآلاف يلتحفون السماء إصرارا على مطالبهم، وربما لن يصبر كثير منهم على أجواء الطقس تمسكا برحيل النظام، كما حدث خلال ثورة يناير 2011. ولهذا فإن من سينزلون من الفرق المذكورة أعلاه سيعتمدون بالأساس على التغطية الإعلامية الواسعة والمكثفة لمظاهراتهم، والأهم على حجم الفوضى الذي يمكن أن يترتب على نزولهم، وليس على كون ما يقومون به ثورة حقيقية تعبر عن كافة المصريين.
570
| 26 يونيو 2013
في سياق التجهيز لمظاهرات الـ 30 من يونيو التي دعت إليها القوى المعارضة للرئيس المصري محمد مرسي، تختلط المواقف وتتخبط الاتجاهات إلى حد مزعج، حتى صار الارتباك بحق هو سيد الموقف. ومن مظاهر هذا الارتباك أن تتصالح المعارضة التي تصف نفسها بالثورية مع فلول النظام السابق، فيردد الاثنان نفس الشعارات المهددة والمتوعدة، وتتقاطع على نحو لافت مواقفهما من الرئاسة ومن منظومة الحكم التي أفرزتها المرحلة الانتقالية. ورغم أن هذا التحالف ليس وليد اللحظة، إلا أنه قد تعمق بحيث لم يعد هناك حضور مؤثر لقوى المعارضة خارج إطار تحالفها مع أنصار النظام السابق، كما لاحظ الدكتور رفيق حبيب. ومن مظاهر الارتباك أن تخلط المعارضة العلمانية بين انتقادها لأخطاء النظام الفعلية وبين تربصها بحكم الإخوان، وذلك تحت يافطات متعددة، أبرزها على الإطلاق تلك التي ترفض الإخوان بوصفهم ممثلين للدولة الدينية، رغم أن بصمات الجماعة في الحكم حتى اللحظة لا تقترب بهم من أي نموذج إسلامي واقعي أو متخيل. إلا أن مجرد ارتباط الإخوان على المستوى الشعاري بالدين يدفع القوى العلمانية إلى وضعهم في مرمى النقد المتواصل. ومن مظاهر الارتباك ذلك الخلط بين الدعوة لاحترام القانون والشرعية ومحاولة خلق وابتكار شرعية جديدة عبر توقيع استمارات التمرد الشهيرة، والتي رغم أنها لا تراعي أبسط عوامل النزاهة، إذ يمكن للشخص الواحد أن يوقع أكثر من استمارة، كما يمكنه أن يملأها ببيانات غير صحيحة، إلا أن أصحابها أقاموها كأساس جديد للمشروعية السياسية، فهم يعتبرون أن توقيع عدد كاف من هذه الاستمارات كفيل أن يسقط مشروعية الرئيس على نحو تلقائي، كما لو كانت ذات فاعلية سياسية تفوق فاعلية القانون والدستور الذي حدد الحالات التي يمكن أن يعزل فيها رئيس الدولة من منصبه والتي ليس من بينها توقيع معارضيه على استمارات تمرد عليه. ومن مظاهر الارتباك أيضا ذلك الحاصل بين الأهداف الثورية والأهداف الرجعية للمظاهرات المزمعة، فكثير ممن سينزلون في مظاهرات الـ 30 من يونيو يرفعون شعار إعادة الثورة إلى مسارها، ولكن هناك أيضا من سينزل لتمهيد الأوضاع أمام الجيش للانقلاب على الحكم، هذا السيناريو قد يتم تنفيذه بشكل مباشر من خلال توجيه نداءات للمؤسسة العسكرية لاقتحام المشهد السياسي، أو قد يترجم عبر تفجير سلسلة من المواجهات العنيفة التي "تجبر" الجيش على النزول إلى الشارع بحجة إنقاذ البلاد من الفوضى ووقف أعمال العنف والتخريب. هناك أيضا مفارقة التحمس لفكرة الانتخابات الرئاسية المبكرة في مقابل غياب الحماس في الدعوة إلى الانتخابات البرلمانية التي تأجلت أكثر من اللازم، والتي من الممكن إذا ما تمت بنجاح أن تأتي برئيس وزراء يشارك الرئيس في كافة القرارات المهمة، ويعيد الثورة إلى مسارها الذي يري الكثيرون أنها قد انحرفت عنه. الآفة هنا أن كثيرا من القوى التي تدعو للتمرد ليست واثقة من قدرتها على إحراز أغلبية برلمانية حتى في ظل الأداء الضعيف الذي تقدمه الرئاسة والجماعة. كما تدرك هذه القوى أن من الصعب عليها أن تحظى بشرعية القبول لدى الجماهير، بنفس درجة نجاحها في تحريك مشاعر الرفض بينها. ولكن كما يتسم موقف المعارضة بالارتباك فإن الحال ليس أفضل كثيرا على الطرف الآخر، فجماعة الإخوان ومؤسسة الرئاسة تعاني هي الأخرى من التباس في المواقف وتخبط في السياسات. ومن مظاهر هذا ما يمارسه بعض أنصار الجماعة من خلط بين المعارضة المشروعة لنظامهم وبين ما يروجون له على أنه خروج عن الملة وشق لعصا الطاعة. فمرة أخرى تلجأ الجماعة إلى الديباجات الدينية في أوقات الأزمات، رغم أن الأداء العام لها في الحكم لا يعكس هذه الصبغة الدينية. هذا التحصن بالدين في وجه الانتقادات ذات الطابع السياسي، يؤكد لدى الخصوم فكرة أن الجماعة توظف الدين ولا تتبناه كطرح سياسي فعلي، خاصة أنه قد أتيحت للجماعة أكثر من فرصة لإثبات إخلاصها للفكرة الإسلامية، ولكن أداءها فيها لم يرق إلى المستوى الذي يقنع الناس بأن نظاما إسلاميا حقيقيا قد تولى السلطة في مصر. لون آخر من ألوان الارتباك تمارسه الجماعة يتمثل في حال الود المفاجئة التي تحاول إقامتها مع الجماعة الإسلامية، وبخاصة بعد أن تبنت الأخيرة خطابا تصعيديا تجاه الفصائل الداعية للمظاهرات، وقادت حملة لجمع توقيعات مؤيدة للرئيس. الإخوان أعجبتهم هذه الروح المستبسلة في الدفاع عن مكتسباتهم، فبدأوا في التسويق للفريق الذي دعا إليها، رغم أنهم في سياقات أخرى كانوا ينأون بأنفسهم عنه وعن خطاباته التي كانوا يعتبرونها ذات أثر سلبي عليهم. أما مؤسسة الرئاسة فكانت أبرز مظاهر التخبط التي شابت أداءها تلك التي صاحبت مواقفها الأخيرة من النظام السوري. فالرئاسة التي أغلقت أذانها عن نصح الناصحين فيما يتعلق بالموقف من الثورة السورية، وأصرت على المضي قدما في موضوع الانفتاح على إيران وروسيا والصين في وقت كانت الدماء السورية تنزف بفعل المواقف المتعنتة لهذه الدول، استفاقت على نحو متأخر جدا وقررت الحشد لنصرة الشعب السوري وطرد سفير بشار الأسد وإعلان منابذتها لحزب الله، في توقيت لا يخفى على أحد مدى ذرائعيته، واستغلاله الورقة السورية لكسب التعاطف الداخلي، وذلك من دون اهتمام بتوضيح أسباب التقارب السابق، مع أعداء الثورة السورية. والخلاصة أنه ما بين تمرد (اسم الحملة المناوئة للرئاسة والجماعة) وتجرد (اسم الحملة المؤيدة للرئاسة والجماعة) تختلط الأوراق في مصر، فلا يكاد يعرف أحد المسار الذي يمكن أن تسير فيه البلاد في المستقبل القريب. الأمر الوحيد المؤكد أن شحن الناس بهذه الطاقة السلبية الهائلة يصعب من مهمة النظام الحالي، ويضع تحديا كبيرا في وجه أي مجموعة سياسية تطرح نفسها للناس على أنها تمتلك ما لا يمتلكه الإخوان من حلول لأزمات ومشاكل البلاد.
440
| 19 يونيو 2013
في مثل هذه الأيام قبل ثمانية وعشرين عاما أشعل نظام الأسد الأب وحليفته "حركة أمل" ما صار معروفا بحرب المخيمات، والتي فاقت في فظاعتها ما فعلته إسرائيل والكتائب في مجزرة صبرا وشاتيلا. ففي ظل تلك الحرب الدموية التي انطلقت في يونيو من عام 1985 بأوامر مباشرة من نظام الأسد وتحت ذريعة "مواجهة تمدد المقاومة الفلسطينية في لبنان"، تكبد الشعب الفلسطيني خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وسقط العديد من الشهداء من الشيوخ والنساء والأطفال، وشرد أهالي المخيمات، ونكل المعتدون بمن خرج حيا من بين الأنقاض، واعتقلوا وقتلوا العديد من الجرحى، وسويت أراضي المخيمات بالجرافات لمسح آثار الجريمة التي ارتكبت بحق أهلها دون ذنب اقترفوه. وقد امتدت هذه الحرب على مدار فترة زمنية طويلة، ولم تنته إلا باندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى نهاية العام 1987. حتى يومنا هذا، مازالت حرب المخيمات تذكر كنموذج للحروب القذرة، حيث شنت على فلسطينيي الشتات، بدون تمييز بين مقاتلين ومدنيين، فأكلت الأخضر واليابس وحصدت الأرواح، وفاقت في خسائرها كل جولات القتال التي وقعت في عموم الأرض اللبنانية منذ انفجار الحرب الأهلية عام 1975. وكانت النقطة المضيئة الوحيدة في هذه الحرب هي الدور الذي اضطلع به "حزب الله"، والذي على الرغم من ظهوره قبل بداية حرب المخيمات بعدة أعوام إلا أنه نجح في لفت الأنظار إليه بشكل إيجابي بفعل ما قام به في هذه الحرب. فقد حمى الفلسطينيين وقاوم الحملة الدموية التي كانت تشنها حركة أمل إزاءهم، بل ووقفت قواته كحاجز يفصل بين أمل والمخيمات الفلسطينية. منذ ذلك التاريخ اكتسب حزب الله سمعة إيجابية في إطار العمل المقاوم، وتم التغاضي عن خلفيته المذهبية، كما لم يتم الإلحاح على ما أعلنه أمينه العام في وقت مبكر من أن الحزب يأتمر بأوامر الولي الفقيه، ولا إلى ما ذكره من تبعية الحزب للنظام الإيراني، ولم يحاول المعلقون أن يقيموا صلة بينه وبين الطموحات الإيرانية في المنطقة، واعتبروا الرابطة التي تربطه بإيران رابطة ثقافية أكثر من كونها رابطة سياسية. والأهم من ذلك أن الشعوب العربية اختارت في غالبيتها التعاطف مع الحزب ومع عملياته العسكرية، وقبلت فكرة أنها مقاومة خالصة لا تندرج في بند الحرب بالوكالة، وكانت ذروة هذا التعاطف خلال حرب العام 2006، حين توحدت قلوب العرب والمسلمين مع الحزب في حربه التي رآها الجميع حربا عادلة تجاه العدو الصهيوني. ومن المعروف أن السوريين دون غيرهم قد استقبلوا اللاجئين اللبنانيين أثناء هذه الحرب واحتضنوهم، وكان معظمهم من الشيعة من سكان الضاحية الجنوبية، بل وحملت جدران بيوتهم صور زعيم الحزب للتعبير عن التضامن معه ضد إسرائيل. ولكن جاء تورط الحزب في معارك القصير الأخيرة ليثبت أن المواقف المحايدة إزاءه كان يعوزها العمق، وأن المشاعر الإيجابية التي حملتها الجماهير نحوه قد وجهت لمن لا يستحقها، فالحزب أثبت بالدليل الحي أنه مجرد أداة من أدوات النظامين الإيراني والسوري. وأنه لا يختلف عمن سبقوه في جرأته على الدماء تنفيذا لأجندات إقليمية يستخدم فيها كجيش من المرتزقة. ففي القصير تخلى الحزب عن دوره المقاوم، وقبل أن يُستخدم سياسيا كما استخدمت حركة أمل من قبل، وأن يمارس الحرب بالوكالة عن الآخرين. ونسي أمينه العام ما كان يرفعه من شعارات حول مقاومة المحتل الصهيوني، وانخرط في قتال لا يخصه، تلعب فيه حسابات السياسة الواقعية حسابها. وفي خطابه الأخير حاول الأمين العام للحزب أن يصدر موقفه المشين كما لو كان منطلقا من ثوابت المقاومة، واحتج بأن سوريا هي ظهر المقاومة، وهي سند المقاومة، ولكنه تغافل عن تاريخ النظام الأسدي الدموي بحق الشعوب المقاومة وعلى رأسها الشعب الفلسطيني. والغريب أن الحزب نفسه كان شاهدا على جناية آل الأسد في حرب المخيمات، فهل كانت جرائم النظام السوري فيها انتصارا للمقاومة، أم محاولة لإخضاعها، وولوجا في دماء المقاومين. في حرب المخيمات لم يكن لدى القيادة السورية مبرر لما ارتكبته من جرائم، ولكنها كانت تستكثر على المقاومين أن يستقلوا بقرارهم، والآن يلج امتداد هذا النظام في دماء الشعب السوري من جديد مستكثرا أن يستقل السوريون بقرارهم ويستعيدوا كرامتهم، فأين هي المقاومة فيما يقوم به الأسد الابن تجاه شعبه، بل وأين هي الحروب التي خاضها هذا النظام بالأصالة عن نفسه لمقاومة إسرائيل التي يفترض أنها عدوه الحقيقي والمغتصب للأراضي السورية في الجولان. أما العلة الواهية التي اعتمد عليها الأمين العام للحزب "المقاوم"، والخاصة بوجود الجماعات التكفيرية وسيطرتها على الموقف في سوريا فهو سبب لا يختلف في ضعفه عن الأسباب التي شنت من أجلها حركة أمل حروب المخيمات سيئة السمعة. خاصة وأن الحزب قد تواطأ مع نظام بشار المجرم منذ بداية عدوانه على الشعب السوري، وليس فقط عند ظهور الجماعات الجهادية التي ينتقدها السيد نصر الله، لأنها هبت لنجدة المستضعفين من الشعب السوري. لقد تراجعت صورة الحزب كطائر محلق في سماء المقاومة، وأصبحت صورته الجديدة في أذهان الناس لا تزيد على حفنة من رجال العصابات التي تعمل لمن يدفع لها بغض النظر عن أخلاقية ما تقوم به. وكما صارت المخيمات وصمة عار في حق حركة أمل، فقدت بعدها سمعتها الإقليمية، وسقطت ورقة المقاومة التي كانت تتستر بها. فسوف تصير "القصير" السطر الأخير في تاريخ الحزب الذي ارتبط اسمه بالمقاومة، فأبى هو إلا أن يفضح ارتباطاته الأخرى بنفسه، وأن ينتزع الأوهام التي أقنع بها الكثيرين عن جهاده ضد الصهيونية. وأن يغرس مكانها صورته كوكيل لقوى الاستبداد وشريك لها في الدم المستباح.
384
| 12 يونيو 2013
تحكي الأسطورة القديمة عن شيطان كانت وظيفته أن يتسلل للنساك المعتكفين في الصوامع لصرفهم عن عبادتهم، وكانت الساعة التي يفعل فيها ذلك هي ساعة منتصف النهار لذا أطلق عليه هؤلاء النساك اسم شيطان الظهيرة. كان هذا الشيطان يقبع في انتظار عودة النساك بعد أن يرهقهم العمل في الحرارة الشديدة، منتهزا لحظة الضعف الإنساني فيهم كيما يقتحم قلوبهم ويطلق العنان لوساوسه داخلها، وكانت خطته تتلخص في أن يبث روح السأم والضجر في أنفسهم من مشقة الحياة ومن ضعف المردود الذي يتحصلون عليه من وراء الكد فيها، بحيث تبدو فاقدة للمعنى أو الهدف، وهو ما يدفعهم إلى التساؤل حول أهمية التنسك وجدوى القيم التي نذروا أنفسهم من أجلها ومقارنة أحوالهم بأحوال غيرهم ممن يتنعمون ويسعون وراء الملذات، فإذا تفاقم بهم الأمر بدؤوا في التساؤل حول غاية الوجود وجدواه. فإذا ما وصل النساك إلى هذه الدرجة من التبرم والإحساس بعدم الجدوى، تكون خطة شيطان الظهيرة قد نجحت، ويرحل شاعرا أنه قد أدى عمله بنجاح. وأيا ما تكن حقيقة هذه الأسطورة إلا أن مغزاها يبدو متحققا لدى الكثير من شعوب الربيع العربي بدرجة كبيرة، ففي أعقاب الحماس العارم الذي صاحب انطلاق الثورات، تسرب إلى قلوب الكثيرين إحساس بعدم جدوى ما قاموا به، والبعض منهم يشعر أن المشقة المبذولة في المرحلة الحالية لا تتناسب مع طبيعة الآمال أو الأحلام التي علقوها عليها. وتفصح هذه الحالة عن نفسها من خلال انتشار الاتجاهات والأفكار العدمية خصوصا بين فئة الشباب، وهم القطاع الأساس الذي صنع الثورة، وفي إحساس الكثيرين منهم باليأس من الظروف الحالية، فضلا عن كفر الكثير منهم بفكرة القيادة القادرة على تحريك حماستهم باتجاه عمل إيجابي. وشط البعض منهم إلى حد مقارنة أوضاع ما بعد الثورة بالأوضاع التي كانت سائدة قبلها، متحسرا على غياب ما كان ينعم به في الماضي من امن واستقرار! هذه الظاهرة العجيبة التي تحول بموجبها "عمل الشيطان" إلى روح سارية بين الناس لا يستطيعون — وربما لا يريدون— التخلص منها، ليست مجرد نوع من الوساوس أو الهلاوس التي يمكن الاستراحة بنسبتها إلى شيطان الظهيرة كما في الأسطورة، ولكنها أعراض لأمراض متحققة في أرض الواقع، تحتاج إلى علاج فعال. هذه الأمراض منها ما هو هيكلي مرتبط بتركيبة الدولة الحديثة، ومنها ما هو مرتبط بالطموحات الضخمة التي صاحبت الثورات ولم تجد الفرصة للتحقق حتى يومنا هذا. فالدولة القومية في أحد تعريفاتها هي مشروع يقوم على استبدال القيم الكبرى للأفراد بقيم مادية مباشرة، ووسيلتها لتحقيق ذلك هي تحييد الدين وتأميم مؤسساته وتحويل رجاله إلى موظفين يتقاضون أجورهم منها. هذه التركيبة تتيح لشيطان الظهيرة أن يأخذ وضعا مؤسسيا متميزا، فمن خلال أنظمة ومؤسسات الدولة الحديثة يفقد المرء بالتدريج ثقته برجال الدين وبالمؤسسات الدينية الرسمية، ويتحول إلى الاهتمام بحقوقه المادية التي توفرها له الدولة، فإذا ما تعثر تحصيله لهذه الحقوق لأي سبب انقلب حالة إلى القنوط والتبرم، كتلك التي يعيشها الكثيرون في وقتنا هذا. من ناحية أخرى فإن الدولة الحديثة لا تستخدم خطابا يقدم للناس أي عزاء أخروي، وإنما تراهن فقط على ما تنجزه دنيويا لمواطنيها، فإذا ما أخفقت في الأخيرة لم يعد لدى الأفراد ما يمنون أنفسهم به فينتشر بينهم اليأس، وهذا ربما هو الحال في أنظمة الربيع العربي التي لم تلتزم بما رفعته من ديباجات دينية، وليست في ذات الوقت قادرة —حتى الآن— على تحقيق إنجازات دنيوية ملموسة في حياة المواطنين. وأخيرا فإنه في إطار منظومة الدولة القومية تتراجع الكثير من القيم الدينية، ويصبح التساؤل عنها قدحا في الأولويات اللازمة لتحقيق التنمية ودفع الاقتصاد وتشجيع السياحة إلخ. وعليه يمكن القول إن الدولة القومية على الأقل في نسختها العربية ذات تركيبة تخفض من منسوب الطموح، وتضيق على الدين الخناق حتى يختفي تأثيره. وحتى إذا حاول الدين أن يجاري قيمها فإنه يقع في حالة من التناقض الذاتي، فلا يصبح له نفس البريق عند الناس، وهذا ما تشهده تجربة الحكم في أنظمة الربيع العربي، فرغم صعود التيارات الدينية في معظم هذه الأنظمة إلا أن أداءها المهادن لقيم الدولة القومية يجعلها لا تختلف في أعين كثير من الناس عن أداء الأنظمة السابقة التي لم تكن تخجل من رفع رايات العلمنة على نحو لا مواربة فيه. يؤدي هذا بطبيعة الأحوال إلى اختلاط الأوراق عند الجماهير التي كانت تنتظر شيئا مختلفا من حكم يصف نفسه بالإسلامي. من ناحية أخرى فإن ثورة التوقعات التي صاحبت الثورات العربية تعد مسؤولة أيضا عن حالة اليأس التي يستشعرها الكثيرون، فطموحات ما بعد الثورة لم تتحقق بالمستوى المطلوب، ولا يدري أحد ما نسبة احتمال تحققها في المستقبل، والتحسن في أوضاع الحياة ليس بالوضوح الذي يلحظه الناس. الأمر الذي سهل من مهمة شيطان التبرم في التسرب إلى قلوب الكثيرين ودفعهم إلى التفكير في رفض الواقع بكل تفاصيله والتمرد عليه. لا يمثل ما سبق حصرا بكل الأسباب التي أدت إلى انتشار حالة اليأس لدى الكثير من شباب أنظمة الربيع العربي، فهناك العديد من الأسباب الأخرى، ولكنها تبدو بشكل أو بآخر متفرعة عن مادية مشروع الدولة القومية، وثورة الطموحات المؤجلة. ولكن الخطير أن حالة اليأس العدمية تتحول هذه الأيام إلى حالة ثورية مقدسة، بحيث يتم الترويج لها إعلاميا على أنها البديل الوحيد الذي يتعين على الناس اعتناقه. وكأن الثوري الحقيقي لابد وأن يكون متبرما يائسا متمردا، وهذا في الحقيقة أكثر مما كان شيطان الظهيرة يحلم به، إن كان له وجود حقيقي.
1541
| 05 يونيو 2013
من المعلوم أن سيناء المصرية كانت ولا تزال ضحية سنوات من الإهمال والعزلة، وأن سكانها كانوا ولا يزالون ضحايا سنوات من الارتياب والشك. ومن المعلوم أن النظام السابق لم يحقق التزاماته تجاه هذا الإقليم الحيوي من أقاليم الدولة المصرية، ولم يحقق فيها أي معنى من الانتماء إلى الدولة المصرية على نحو جاد. ومن المعلوم أن حالة العزلة وغياب الخدمات التي غرقت فيها سيناء لسنوات طويلة سمحت لجماعات كثيرة أن تعتبر نفسها خارجة عن مفهوم الدولة، وأن تعتبر نفسها في خصومة مسلحة مع أجهزتها، إلى الدرجة التي تقدم معها على تصفية جنود مصريين ثأرا لمحكوميهم، فضلاً عن أن تهاجم مقرات الشرطة أو تختطف مجندين لمساومة الدولة على الإفراج عن معتقليهم كما حدث في الأزمة الأخيرة. أما غير المعلوم فهو حجم تدخل الخارج في هذه اللعبة المعقدة، سواء على المستوى الصريح أو على مستوى التحريك غير المباشر للجماعات المسلحة الموجودة على الأرض. فأطراف خارجية كثيرة يهمها أن تبقى سيناء على حالتها الخالية من العمران، ويهمها أن تظل جماعاتها المسلحة ذات حضور فعال يعرقل خطط التنمية ويحول دون امتداد معنى الدولة لهذا الإقليم الاستراتيجي. ولذا كان ملف سيناء دوما محط أنظار أطراف دولية وإقليمية يعنيها أن يغيب الاستقرار عن هذا الإقليم. أو يهمها التأثير سلبيا على الحراك السياسي الداخلي وعلى توجيهه في وجهات معينة. وتبدو ملامح هذا التأثير في الأزمة الأخيرة أوضح، فالأفعال تبدو مخططة على نحو بدائي، وهي في مجملها تساق في اتجاه معين يتضمن المزيد من التصعيد وليس حل الأزمة على أية نحو. فاختطاف الجنود ثم تصويرهم في وضعية الأسرى، وهم معصوبو الأعين، مربوطو الأيدي، يضفي مبالغة على السلوك الثأري، ويصعد من مستوى الخصومة بحيث لا يمكن تصور معالجتها على نحو غير صدامي وكأن التصعيد هو الغرض وليس الإفراج عن المعتقلين. ما يدفع بالتفكير أيضا في اتجاه دور الخارج في تلك الأزمة هو تلك الحالة من الحشد الإعلامي والتكتل "النخبوي" باتجاه التصعيد المضاد، خاصة أن هذه النخبة تتقاطع مصلحتها مع الخارج في استثمار الأزمة لتصفية حسابها مع الإسلاميين، بأكثر مما يهمها حل الأزمة في سيناء. والدليل هو سكوتها المطبق عن أزمات من نفس النوعية كانت تحدث خلال عهد النظام السابق، ثم حرصها على إدانة التيار الإسلامي بكافة فصائله بمناسبة هذه الأزمة، حتى سمعنا أحد مفكري النخبة وهو يؤكد أن البلد صارت واقعة في إطار ثلاثية خطيرة، تتمثل في تيار إسلامي يحكم باسم الدين، وتيار سلفي يتفاوض مع الخاطفين، وجماعات إرهابية تمارس العنف، ويطالب من ثَمَّ باتخاذ موقف واضح وصريح من هذه التيارات، وكأن استبعاد هذا التيار من الحياة السياسية هو ما سيضمن أن تستتب الأمور ويعود الخاطفين إلى رشدهم ويخلوا سبيل المخطوفين. من ناحية أخرى فإن تزامن هذه الأحداث مع النشاط الحكومي المكثف في موضوع تنمية محور قناة السويس القريب من سيناء يشير إلى احتمال أن يكون مقصود الأزمة الحالية إحداث حالة من القلق الأمني الذي يصعب معه ترجمة مشاريع التنمية إلى واقع حقيقي. خاصة أن المرجفين من النخبة لم يضيعوا وقتهم، وبدؤوا عقب الأزمة مباشرة في التحذير من الإقدام على مشروع القناة، وفي الطنطنة حول هروب المستثمرين من المنطقة، وفي التأكيد على أن ما يجري يحمل بصمات تنظيم القاعدة نفسه، فضلاً عن ثرثرة متناثرة عن خلافات داخلية بين الرئاسة وقادة الجيش، تصب جميعها في اتجاه عرقلة أي عملية تنموية محتملة والحيلولة دون استقرار الأوضاع في مصر الثورة على أي نحو. ولكن التورط في حرب أهلية مع سكان إقليم كان دائما ما يستشعر حالة من التهميش والاضطهاد يمكن أن يخلق في مصر دارفورا جديدة تكون ذريعة للتدخل الدولي على مستويات مختلفة. وهذا ربما ما يريده من يطنطنون حول استحالة التفاوض مع الخاطفين، وحول هيبة الدولة، وضرورة الحسم العسكري، إلى آخر هذا الكلام الذي يختلف ظاهره في معظم الأحيان عن باطنة، والذي لا يصلح للتطبيق الحرفي في أزمة تحمل طابعا استدراجيا واضحاً، قد تورط الدولة في منازلات ثأرية أو تجرها إلى حرب عصابات لا يحسن أن تنحدر إليها، كما أنه قد يفتح الباب أمام تدخلات دولية تعيد تكرار السيناريو الدارفوري المشؤوم. من ناحية أخرى، فإنه من غير المتوقع أن يسفر قرار التدخل المسلح، الذي يلح عليه ثوار الفضائيات، والنخبة الطفيلية عن نجاة الجنود الذين تم اختطافهم، أو ردع الخاطفين الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب مظالم حقيقية. فالحلول الأمنية عادة ما تفشل في إجهاض التمردات القبلية، وقلما تنجح في تصفية المقاتلين الأيديولوجيين، وكما رأينا في الحالة الجزائرية. تم استنزاف جهاز الدولة لمدة عشر سنوات في محاولة لاستئصال العنف الأيدولوجي، ورغم ذلك لم ينته مسلسل القتل إلا من خلال سيناريو للوئام المدني. وعليه فإنه يفضل أن تمارس الدولة المصرية نوعا من ضبط النفس بشكل أو بآخر إزاء هذه الأزمة. وذلك غلقا لباب الفتنة الداخلية، ووأدا لمحاولات التدخل الخارجي. وإذا كان التفاوض المباشر من جانب النظام مع الخاطفين يمكن أن يتسبب في إحراج له فيمكن أن يقوم بهذه الخطوة أفراد المجتمع المدني من العلماء وقادة الحركات السلفية الذين يحظى كثير منهم بثقة شيوخ البدو. ويجب التذكير بأنه إذا كانت المقارنة بين حل أمني يتضمن إهدارا للمزيد من الدماء ويفتح الباب أمام تدخلات خارجية محتملة، وحل سلمي يتضمن خسارة سياسية مؤقتة للنظام أو لأحد مفاصل حكمه فإن المفاضلة يجب أن تحسم لصالح الخيار الثاني، ولو كره المرجفون!
368
| 22 مايو 2013
شهدت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية هذا الأسبوع مؤتمرا بعنوان "مصر الثورة وتحديات التغيير والبناء". ومن أبرز الأوراق التي قدمت خلاله ورقة بعنوان "مستقبل الثورات العربية في النظام الدولي" للدكتورة "نادية مصطفى"، أستاذ العلاقات الدولية بالكلية. ناقشت فيها تأثير قوى الخارج على الثورات العربية، وحذرت من أن هذه القوى تحاول ترويض أنظمة الربيع العربي كما حاولت من قبل أن تؤخر عملية التحول في المنطقة من خلال جرعات الديمقراطية الشحيحة التي كانت تلزم وكلاءها الإقليميين بالأخذ بها. وتنصح الورقة أنظمة الثورات أن تتنبه لهذه المحاولات، وأن تدرك أن تأثيرها سيكون سلبيا على مستقبل الثورات العربية كما كان معوقا للتغيير قبل نشوبها. فرغم أن الثورات العربية لم تقم في الأساس ضد القوى الخارجية إلا أن الخارج كان حاضرا بقوة في خلفيتها. وأبرز مظاهر هذا الحضور تمثل في مساندته القوية للأنظمة التي قامت ضدها الثورات، هذه المساندة هي التي جعلت من الأنظمة العربية مجرد توابع تدور في فلك القوى الكبرى على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، إلى الدرجة التي صارت فيها المصالح الوطنية للأنظمة العربية تتحدد وفقا للأجندات الغربية بدلاً من أن تتحدد وفق آمال وطموحات شعوبها. وفي هذا السياق كان شعار الاستقرار الذي يتم الترويج له كمصلحة قومية شعارا زائفا تماماً، فقد كان يشير إلى الاستقرار الذي يخدم هذه القوى ويخدم استمرار تدفق مصالحها في المنطقة. وقد لاحظت الدراسة أن الأدبيات الغربية تحاول منذ فترة إسقاط الثورة من قائمة أدوات التغيير المعتبرة، فكان الاتجاه الغالب على هذه الدراسات التأكيد على ما أسمته "أفول عهد الثورات"، بل وإدانة الثورات بوصفها عمل من أعمال الاحتجاج غير المشروع، أو نمط من أنماط الاحتجاج الراديكالي المرتبط بالانقلابات العسكرية أو سيطرة المتطرفين على الحكم، وتبنت هذه الكتابات فكرة أن الثورات تبدأ بطرح آمال مشرقة ولكنها تنتهي بنهايات مأساوية، وأكدت على أنه بحلول التسعينيات أصبح تنظيم القاعدة هو التنظيم الوحيد الذي مازال يتبنى فكرة الثورة والخروج على شرعية أنظمة الحكم وشكل الدولة القومية الحديثة. وكانت النصائح التي توجهها هذه الكتابات للسياسيين تتمثل في ضرورة تقديمهم حزم من الإصلاحات والمسكنات الديمقراطية من أجل تخفيف مشاعر الإحساس بالظلم، والحيلولة دون نشوب احتجاجات عنيفة. اندلاع الثورات العربية مثل نكسة للجهود السابقة، حيث أثبت فشل أسلوب المسكنات الديمقراطية، كما تحدى نبوءات الأكاديميين الغربيين، ولكن قوى الخارج لم تيأس وإنما بدأت العمل على مستوى جديد، ألا وهو الاحتواء وإعادة تشكيل التحالفات مع أنظمة ما بعد الثورات. وذلك لوضع هذه الأنظمة في معادلة الاستقرار مرة أخرى. وفي هذا الإطار تمت إعادة توصيف الثورات العربية بأنها عملية تحول ديمقراطي واسعة، كما تم الاحتفاء المبالغ فيه بسلميتها، وأصبح الخطاب الغربي أكثر تزلفا للجماهير العربية بعد أن كانت خارج نطاق اهتمامه. كما بدأت قوى الغرب في الرهان على الشباب العربي على افتراض أنهم سيكونون المسؤولين عن صياغة ملامح المنطقة بشكل عام، وتجاه الولايات المتحدة والغرب على نحو خاص. من مظاهر الاحتواء أيضاً استئناف الحديث عن مبادرات الشراكة التي دشنتها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق لكسب العقول والقلوب، والتي ظلت مجرد حبر على ورق. عادت هذه المبادرات للظهور في المرحلة الحالية بعد أن اختفت الأنظمة التي كانت الإدارة الأمريكية تعول عليها للحصول على مصالحها في المنطقة. كما تنازلت الإدارة الأمريكية عن إصرارها على استبعاد الأطراف التي لا تروق لها من اللعبة السياسية. وباتت أكثر إدراكا بأن الأطراف المستبعدة، على رأسهم الإسلاميون، جزء لا يتجزأ من الحقائق السياسية في المنطقة، وأن من الأفضل الاعتراف بهم ومحاولة استيعابهم، نظرا لأن الاستقرار الناتج عن الاستمرار في حجب هذه الأطراف ذات الوزن والحضور الجماهيري هو استقرار لا قيمة له. وتلفت الدراسة إلى أن قوى الخارج وهي تفعل ذلك تبدو واعية بالمخاطر التي يمثلها تبلور نموذج حضاري إسلامي تعكسه هذه الثورات، الأمر الذي يمكن أن يغير من شكل النظام العالمي الذي تتربع هذه القوى على قمته، ولهذا تعمل القوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة على إفراغ الثورات العربية من مضمونها الحضاري، عبر القبول بتغيير الرموز والقيادات ولكن مع تأكيد استمرار نفس المصالح والتوجهات، وذلك عبر ترويض أنظمة الربيع العربي، عن طريق القروض وما شابهها من إجراءات الإلحاق الاقتصادي والسياسي. أما عن العوامل الداخلية التي تساعد القوى الغربية على تنفيذ مخططها الاحتوائي فيأتي في مقدمتها انفراط التوافق السياسي والاجتماعي الذي تولد مع الثورة، فضلاً عن الضغوط التي تمارسها قوى الثورة المضادة، والقوى الأيدلوجية المناوئة لتيارات الإسلام السياسي والمستعدة لإسقاطها بأي ثمن. في مواجهة هذه التحديات، تذهب الدراسة إلى أن فرص نجاح الثورات العربية في المستقبل ونجاح القوى الإسلامية تتوقف على عدة أمور منها مدى التنسيق وتوزيع الأدوار بين هذه القوى الإسلامية التي تتصدر المشهد السياسي في أنظمة الربيع العربي، ومدى توظيفهم لمهارات إدارة التنوع مع القوى الأخرى، كما تعتمد على مدى نجاحهم في كسر حلقات الاستبداد الموروثة عن العهد السابق. ومدى نجاحهم في تفكيك شبكات التحالف والتبعية مع القوى الخارجية، وفي إدراكهم لمدى مفصلية اللحظة الراهنة في تاريخ المشروع الإسلامي وفي تاريخ المنطقة، وفي استعدادهم لخدمة الوطن بأكمله وعدم الاقتصار على خدمة المنتمين إليهم فقط، وأخيرا وعلى المستوى الخارجي في تخطيهم لحواجز الحدود القومية وصياغة نمط تفاعلات أوسع على مستوى الأمة. هذه الدراسة وغيرها مما حفل به المؤتمر هي مما يجب أن يلتفت إليه السياسيون في أنظمة الربيع العربي وهم بصدد رسم إستراتيجيتهم المستقبلية، وكذا وهم بصدد وضع الخطوط العريضة للسياسة الخارجية لأنظمتهم، وبخاصة بعد أن انتفى المانع الذي كان يفرض حالة من العزلة بين الأكاديميين وصناع السياسة برحيل أنظمة الاستبداد القديمة، وإدراك الجميع أنهم في سفينة واحدة، اسمها سفينة الوطن.
308
| 15 مايو 2013
في مقالات سابقة تعرضنا لمفهوم اللحظة النموذجية والتي عرفها الدكتور عبد الوهاب المسيري بأنها اللحظة التي تتجلى فيها ظاهرة ما بلا رتوش. ويبدو أن الولايات المتحدة تشهد في هذه الآونة لحظة من هذا النوع، لحظة يتجلى فيها نموذج العقل النفعي المصلحي، الذي يخضع كل شيء لاعتبارات المادة بما في ذلك أرواح الأمريكيين أنفسهم. أما مناسبة استدعاء هذا النموذج التفسيري فتتعلق بفشل الكونجرس الأمريكي في تمرير قانون يقيد حق حيازة وامتلاك الأسلحة، رغم استمرار مسلسل سقوط العشرات من القتلى بفعل فوضى امتلاك السلاح. فخلال السنوات الماضية كان الاستخدام العشوائي للأسلحة أحد الأسباب الرئيسية لسقوط الضحايا من الأمريكيين. ففي أبريل 1999 قتل شابان في ولاية كولورادو 12 تلميذا قبل أن ينتحرا. وفي مارس 2005 قتل شاب 9 أشخاص في ولاية مينيسوتا ثم قتل نفسه. وفي أبريل 2007 قتل طالب 32 شخصا داخل حرم جامعة فيرجينيا. وفي أبريل 2012 قتل رجل موظفة و6 طلاب في جامعة في ولاية كاليفورنيا. وفي يوليو 2012 أطلق شاب النار داخل دار سينما بولاية كولورادو ما أسفر عن مقتل 12 شخصاً وإصابة 59 آخرين. وفي ديسمبر 2012 قام الشاب آدم لانزا بإطلاق النار على أمه وأرداها قتيلة، ثم توجه إلى مدرسة ابتدائية بولاية كونيكتيكت وقام بإطلاق النار وقتل 20 طفلاً و6 أشخاص من هيئة العاملين بمدرسة، وقام بالانتحار بعد ذلك. الموضوع هنا يتعلق بمأساة حقيقية، فأمريكا التي لا تعاني من الحروب الأهلية، أو الاضطرابات الداخلية تسجل سنويا عددا يتجاوز الـ 100 ألف حادثة إطلاق نار بفعل الاستخدام العشوائي للسلاح. ومن المؤكد أن الكثيرين لا يعرفون أن القوانين الأمريكية تتيح للأطفال هناك اللهو ببنادق حقيقية، والتمرن على استخدامها بذخيرة حية، ولقد تجلت آخر مظاهر هذا العبث في الأسبوع الفائت، عندما قام طفل لا يتجاوز عمره الـ 5 سنوات بإصابة شقيقته التي تبلغ من العمر عامين، عندما كان يلهو بمسدس حصل عليه كهدية! وأطلق عليها عياراً نارياً ما أدى إلى مقتلها. أما الجهة التي تدافع عن استمرار هذه الأوضاع العجيبة فهي "لوبي السلاح الأمريكي" المعروف اختصارا باسم NRA، والذي أنشئ في عام 1871 بهدف تشجيع الأمريكيين على حيازة السلاح وتدريبهم على استخدامه، ويتمتع هذا التنظيم بنفوذ هائل في الولايات المتحدة بفعل ما ينفقه من أموال سياسية، بلغت في آخر موسم انتخابي مبلغ 18.6 مليون دولار، وتمكن من خلالها من الحيلولة دون صدور تشريعات مقيدة لنشاطه. فنواب الكونجرس يفهمون جيدا أنهم إذا ما فكروا في تبني أي تشريعات مضادة لمصالح لوبي السلاح فإنه سوف يصب ملايين الدولارات في حملات مضادة لهم، الأمر الذي سينتهي بهم لا محالة خارج الحياة السياسية. وكان الكونجرس قد رفض قبل أسبوعين تمرير قانون لتشديد الضوابط على حيازة الأسلحة النارية، وقد جاء تصويته السلبي متأثرا بجهود هذا اللوبي. وكشفت مؤسسة صن لايت فاونديشن، وهي هيئة غير حكومية تراقب الشفافية في الإدارة الأمريكية أن غالبية النواب الذين رفضوا تعديلات القانون تلقوا تبرعات من اللوبي المؤيد لبيع وحيازة الأسلحة النارية. هذه التفاصيل تفصح عن أن النموذج الحاكم في الولايات المتحدة هو نموذج المصالح الضيقة، قصيرة النظر، والتي لا تعبأ كثيرا بالشعارات أو القيم الكبرى التي لا تفتأ الإدارات الأمريكية تذكر بها الآخرين، وتدعي أنها منذورة للحفاظ عليها والقيام بها. فالقرارات المهمة تنتج تحت ضغوط سياسية وتوازنات مصلحية وليس بناء على أي مبادئ أو شعارات أو قيم. فإدارة الرئيس أوباما رغم أنها أظهرت دعمها وتأييدها لإصدار قانون تنظيم حيازة السلاح، لم تنجح في تحقيق ما وعدت به الأمريكيين، وانتصرت إرادة لوبي السلاح وحلفائهم من الجمهوريين المتشددين والمحافظين الجدد. هذا الموضوع رغم أنه يبدو شأنا أمريكيا داخلياً، إلا أنه يمكن أن يساعدنا في فهم عملية صنع القرار داخل الولايات المتحدة الأمريكية. كما أن ظهور النموذج الأمريكي النفعي بهذا الوضوح يحمل استبصارا مفيدا لمن يتخيلون أن أمريكا هي قلعة الديمقراطية النزيهة ومبادئ حقوق الإنسان. فمن يريد لهذه الجرائم الداخلية أن تستمر بحق الشعب الأمريكي هم أمريكيون تعنيهم أرباحهم ومكاسبهم السياسية في المقام الأول، وليسوا إحدى الجماعات العربية المدرجة على قوائم الإرهاب، وهذه الورقة هي مما ينبغي أن تستخدمه الدبلوماسية العربية للرد على التقارير الأمريكية التي تتهم الأنظمة العربية برعاية الإرهاب أو عدم الجدية في مواجهته. من ناحية أخرى يجب أن يعي العرب أن السياسات الأمريكية تراعي توازنات وضغوطات جماعات المصالح. وعلى من يريد التأثير عليها أن يستوعب هذه الخاصية، فالولايات المتحدة لا تتدخل في النزاع العربي الإسرائيلي بوازع من قيم العدل والإنصاف، ولكن بفعل تأثير جماعات الضغط (الصهيونية) التي توجه الإدارات الأمريكية في الوجهة التي تريدها، وإذا أراد العرب أن يكون لهم تأثير مواز فما عليهم إلا تكوين لوبي يمارس ضغوطا مضادة. وبالمثل فإن الإدارة الأمريكية الحالية أو أي إدارة أخرى لن تتحرك بإيجابية إزاء الملف السوري مدفوعة بصور الضحايا أو بفداحة الخسائر التي تلحق بالمدنيين، ولكنها قد تتحرك فقط في ضوء مصالحها على الأرض، وفي ضوء مصالح حلفائها الذين يملكون قدرة الضغط عليها وتوجيهيها في الوجهة التي تخدمهم. وعلى أي حال فإن هذه الأزمة الأمريكية الكاشفة تظهر أن الإدارة الأمريكية أضعف مما تبدو عليه، وأنها مكبلة بقيود وتوازنات داخلية، وعلى أنظمة الربيع العربي ألا تعول كثيرا عليها في حل مشاكلها، خاصة أن الشعوب العربية التي خرجت من غمار ثورات أخلاقية حركتها المبادئ والقيم النبيلة لن يسعدها كثيرا أن يتورط قادتهم في لعبة السياسة القذرة التي تحكم عملية صنع القرار الأمريكي، والتي فشلت في أن تسن من القوانين ما تحمي به أرواح أبنائها فكيف بأبناء الشعوب الأخرى؟
608
| 08 مايو 2013
ينشغل الكثير من الناس هذه الأيام بتوجيه السؤال الخطأ من نوعية هل المؤسسة الفلانية وطنية أم لا، وهل تعمل لصالح البلد أم تعتني بمصالحها الخاصة؟ وذلك بمناسبة حالة الصدام الدائرة حاليا بين عدد من مؤسسات الدولة واختلاط الأمر على الناس في إطار سعيهم للبحث عن معيار لموالاة هذه المؤسسة أو تلك، والانتصار لهذه المؤسسة على الأخرى. وتبدو هذه التساؤلات مشروعة ولكن في غير محلها، على الأقل من المنظور السياسي، فواقع الأمر أن علم السياسة لا يعني بالأجوبة العاطفية لا من قريب ولا من بعيد، ولكنه يعني فقط بظاهرة السلطة؛ من يحوزها ومن يتحكم في الآخرين من خلالها، وما الكيفية التي يفعل بها ذلك؟ وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم أن كثيرا من الصراعات الدائرة على الساحة السياسية حاليا ليست متعلقة بمسألة الوطنية أو الانحياز للثورة من عدمه، ولكنها متعلقة بالأساس بمقدار القوة والنفوذ التي تتمتع بها مؤسسات العهد القديم في مواجهة أوضاع ومؤسسات ما بعد الثورة، ومدى إمكانية تخلي هذه المؤسسات عن قدر من سلطتها ونفوذها في إطار ترتيبات بناء مصر الجديدة. ومن ثم فإن البحث عن الطرف الأكثر وطنية بحث في غير محله، خاصة إذا ما كانت الأطراف المتصارعة تدير صراعها وفقا لمعادلة السلطة والنفوذ وليس وفقا لمعادلة حب الوطن. ومما يندرج في هذا الإطار الصراع الدائر بين مؤسسة القضاء من جهة والمؤسسة التشريعية التي يعبر عنها في هذه المرحلة مجلس الشورى من جهة أخرى. فهذا الصراع هو في جوهره صراع سياسي، وليس اختبارا للوطنية أو للولاء أو غير ذلك من العناوين التي ينفق الكثير من المصريين وقتهم في النقاش حولها. فهناك امتيازات استثنائية تتمتع بها مؤسسة القضاء، ومن المهم بالنسبة للقائمين عليها أن تظل بعيدة عن مساس أي جهة أخرى، ومن هذا المنطلق كانت الحساسية المفرطة التي تعامل من خلالها بعض القضاة والقانونيين مع مشروع القانون الذي اقترحه بعض نواب المجلس التشريعي لتنظيم السلطة القضائية وخفض سن الإحالة إلى المعاش. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى أن مؤسسة القضاء ليست بدعا في سلوك هذا المسلك، فقد سبقتها المؤسسة العسكرية، التي كانت حريصة هي الأخرى على أن تؤكد امتيازاتها وأن تحمي ما تتمتع به من سلطات، وذلك عندما استشعرت خطرا يتهدد هذه الامتيازات بمناسبة إقرار الترتيبات الدستورية الجديدة. ويتذكر الجميع الوثيقة الشهيرة التي عرفت حينها بوثيقة المبادئ فوق الدستورية، أو "وثيقة السلمي" والتي استهدفت تأكيد الصلاحيات الاستثنائية للعسكريين، وتضمنت عدم خضوع ميزانيتهم للمراقبة، وإبقاؤهم خارج نطاق المساءلة التشريعية، بل وجعلت منهم أوصياء على الشرعية التي من المفترض أن الشعب هو المنوط به حمايتها والحفاظ عليها. مؤسسة القضاء تعيد نفس الكرة هذه الأيام، فتتشبث بما في يديها من سلطات وصلاحيات، وترفض أن تقترب منها يد التشريع، حتى لو ترتب على ذلك إهدار مبدأ الفصل بين السلطات، وإهدار دولة القانون التي يفترض أن القضاة قائمون على حمايتها، وكأن هذه المؤسسات تؤكد أنها وإن كانت قد قبلت الإطاحة بالرئيس السابق إلا أنها ليست مستعدة لإسقاط نظامه بالكامل، وأنها وإن كانت قد أشرفت على الانتخابات التي جاءت بمجلس الشورى إلا أنها ليست مستعدة أن تسلم إلى نوابه مقاليد التشريع وفقا لقواعد ودستور النظام الجديد. فهي تفضل أن تعمل وفق قواعد وأساليب النظام القديم التي كانت تضمن لها التمتع بهذه الامتيازات الاستثنائية، عن أن تندمج مع روح الثورة وتعمل وفق مقتضياتها التي تسلبها جزءا كبيرا مما في أيديها من مكاسب. وأيا ما يكون تفسير حالة الصدام الدائرة بين مؤسسات العهد القديم ومؤسسات العهد الجديد فإن الأمر المسلم به هو أن مرحلة جديدة من المواجهات قد بدأت، وأن هذه المواجهة ضرورية لوضع الثورة على مسارها الصحيح، ولكن تختلف القوى السياسية حول الأسلوب الأمثل لإدارة هذه المواجهة؛ فالبعض يؤمن بأن حسم المواجهة يجب أن يتم عبر اللجوء إلى التظاهر والاحتجاج الشعبيين، فيما يرى آخرون أن حسم المواجهة يتحقق باستمرار التأكيد على مبدأ فصل السلطات، واحترام كل سلطة للسلطات الأخرى، فالقضاة المحتجون عليهم أن يتذكروا أن مجلس الشورى الحالي سلطة ممثلة للشعب المصري، وأنه بهذه الحيثية له الحق في أن يقر من التشريعات ما يعبر به عن إرادة الجماهير التي انتخبته. ويبقى حسم الخيار الأمثل مرتبط بتصور الأطراف المختلفة لكيفية حل التناقض بين الحفاظ على الاستقرار الذي يمكن من استكمال بناء الدولة، وبين مواجهة مؤسسات ورموز العهد القديم مع ما يترتب على ذلك من اضطراب قد لا يكون المجتمع المصري في الوضع الذي يتيح له تحمله، والحل الآني للمعادلتين ليس بالأمر اليسير خاصة أن مرفق العدالة مثله مثل مرفق الأمن لا يحتمل التوقف الكامل، ولذا فإن الأزمة الحالية معه ينبغي أن تدار بالحكمة اللازمة التي تضمن ألا يتعطل هذا المرفق، كما تضمن ألا تستمر الأوضاع على ما كانت عليه طوال العقود الماضية، حينما كانت مؤسسة القضاء تبدو محصنة ضد النقد والتمحيص ومن ثم ضد الإصلاح. الأزمة الحالية ليست إذنا قانونية صرفة كما هي ليست ثورية صرفة، ولهذا يتعين أن تعالج على نحو احترافي يراعي الجانب السياسي لا الجوانب العاطفية المرتبطة بشعارات استقلال وشموخ مؤسسة معينة أو شعارات الحسم والتطهير الفوري من جانب آخر.
312
| 01 مايو 2013
مساحة إعلانية
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق...
2550
| 30 أكتوبر 2025
حينَ شقَّ الاستعمار جسدَ الأمة بخطوطٍ من حديد...
2220
| 04 نوفمبر 2025
اطلعت على الكثير من التعليقات حول موضوع المقال...
2061
| 03 نوفمبر 2025
نعم… طال ليلك ونهارك أيها الحاسد. وطالت أوقاتك...
1506
| 30 أكتوبر 2025
8 آلاف مشارك بينهم رؤساء دولوحكومات وقادة منظمات...
1155
| 04 نوفمبر 2025
في زحمة الحياة اليومية، ونحن نركض خلف لقمة...
1113
| 29 أكتوبر 2025
من الطرائف العجيبة أن تجد اسمك يتصدر أجندة...
1056
| 04 نوفمبر 2025
تُعدّ الكفالات البنكية بمختلف أنواعها مثل ضمان العطاء...
855
| 04 نوفمبر 2025
تسعى قطر جاهدة لتثبيت وقف اطلاق النار في...
828
| 03 نوفمبر 2025
ما من ريبٍ أن الحلم الصهيوني لم يكن...
759
| 02 نوفمبر 2025
أحيانًا أسمع أولياء أمور أطفال ذوي الإعاقة يتحدثون...
747
| 30 أكتوبر 2025
ليست كل النهايات نهاية، فبعضها بداية في ثوب...
690
| 29 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية