رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
المشهد الأول: قاعة محاضرات، تقوم الدكتورة وهي من المعسكر المناوئ لجماعة الإخوان المسلمين باستغلال ملاحظة أحد الطلاب حول الوضع السياسي في مصر لتبدأ في كيل الاتهامات للجماعة ومرشحها في الانتخابات الرئاسية، هذه الانتقادات كان من المعتاد أن يتعامل معها شباب الإخوان في الماضي بأريحية بوصفها ضريبة يتعين عليهم دفعها جراء تمسكهم بالمرجعية الإسلامية التي تتعارض مع الطابع العلماني الغالب على كثير من المؤسسات التعليمية وعلى كثير ممن يتصدون للتدريس فيها، ولكن في هذه المرة تحديدا (بعد فوز الدكتور مرسي) قامت طالبة —من الواضح أنها قريبة من الجماعة أو منتمية تنظيميا لها، وتحدثت بخشونة زائدة إلى المحاضرة مطالبة إياها بأن تلتزم بموضوع المحاضرة وبألا تخرج عن السياق لإبداء آراء سياسية، على اعتبار أن كثير من الحاضرين لا يشاركونها نفس قناعاتها وأن عليها من ثَمَّ أن تحترم ذلك!
المشهد الثاني، لقاء على إحدى الفضائيات يستضيف واحدا من رموز الإخوان وابن واحد من القيادات التاريخية للجماعة ممن قضوا نحبهم على يد نظام ثورة يوليو. عرض الضيف خلال الحلقة لمأساة والده وشرح كيف أنه اتهم بمحاولة الانقلاب على عبدالناصر وحكم عليه بالإعدام ظلما جراء ذلك بعد محاكمة عسكرية صورية، وبين أنه بفوز الدكتور مرسي فإنه يمكنه الآن فقط أن يقبل العزاء، وفي نهاية الحوار عبر الضيف عن رغبته أن تقوم المؤسسة العسكرية الحالية بتقديم الاعتذار له ولأسرته عما بدر منها خلال فترة حكم الرئيس عبدالناصر، وذلك رغم اقتناعه بأن رجال المؤسسة العسكرية الحاليين ليسوا هم من تسبب في مأساة والده، ولكنه كان يرى أنه كما يحمد لرجال القوات المسلحة الحاليين انتصارات لم يشارك معظمهم فيها على نحو فعلي (مثل نصر أكتوبر) فإن أخطاء الماضي أيضا تلحقهم ويلزمهم من ثَمَّ الاعتذار عنها!
المشهدان السابقان وغيرهما من المشاهد التي حدثت وتحدث منذ فوز مرشح جماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد مرسي بمنصب الرئاسة في مصر، تحمل ملمحا مقلقا يتمثل في غلبة حالة من الزهو على سلوك بعض من أفراد الجماعة، وهو ما زين لهم تغيير سلوكهم القديم القائم على التواضع وتحمل الأذى إلى سلوك جديد يغلب عليه الاعتزاز بالنفس والرغبة في الحصول على التقدير من الآخرين. صحيح أنه من المشروع أن تستشعر الجماعة وأعضاؤها حالة من الارتياح جراء فوز مرشحهم بمنصب الرئاسة، وذلك بعد تاريخ طويل من الاضطهاد والاستبعاد والحظر والتعذيب، إلا أن ذلك الارتياح لا ينبغي أن يترجم بالانقلاب على الشخصية الإخوانية التقليدية، فهذا الانقلاب من شأنه أن يوقع جماعة الإخوان في صدام مع الرأي العام المتعاطف معها، كما أنه يمكن أن يصب في خانة من يتصيدون لمرشحهم أي خطأ ويلصقون به أي ذلة يقع فيها أي من أعضاء الجماعة.
كما أن على أعضاء الجماعة أن يدركوا أن الدكتور مرسي لم يعد مرشح جماعة الإخوان المسلمين فقط، وأن من مصلحته ومصلحة الإخوان أن يلتزم بما سبق وكرره أكثر من مرة في حملته الانتخابية من أنه رئيس لكل المصريين. فرغم أن انتماء الدكتور مرسي إلى الجماعة ورئاسته للحزب الذي يمثلها كان السبب الذي مكنه من الفوز في المرحلة الأولى من الانتخابات، ورغم أنه لو كانت نتيجة الانتخابات قد حسمت عند هذه المرحلة لكان من المنطقي أن يحسب هذا الفوز للحزب الذي دفع بالدكتور مرسي إلى الصدارة، ولكان من المنطقي أن تكون له وللجماعة الكلمة الأخيرة في تشكيل جهاز الدولة، إلا أن الدكتور مرسي لم يفز في الجولة النهائية من هذه الانتخابات إلا بأصوات غير المنتمين لجماعة الإخوان، وعليه فإنه بهذه الصفة مضطر إلى أن يطرح نفسه كرئيس لكل المصريين، وفي هذا سبب آخر يدفع بأعضاء الجماعة إلى التخفف من حالة الزهو، واستبدالها بحالة من العرفان إزاء من مد يده إليهم وإلى مرشحهم من أجل إنقاذ الثورة والحيلولة دون عودة النظام القديم.
والأهم مما سبق أنه لا مبرر للاستغراق في الاحتفال بعودة الحقوق المسلوبة منذ أيام ثورة يوليو في ظل وجود نفس الأسباب التي صاحبت نكبات الإخوان في الماضي. فالسياق السياسي مازال يحمل بذور الخطر، (الإعلان الدستوري المكبل، والقرار المريب والعاصف بحل البرلمان، والقانون سيئ السمعة الخاص بالضبطية القضائية)، فضلاً عن أن العملية السياسية مازالت تحت إشراف المجلس العسكري الذي لا يبدو أنه سينسحب بسهولة من المشهد، كما أن هناك إعلام الفتنة الذي أثبت معدنه الرديء في مواقف كثيرة خلال العام والنصف الفائت. هذه العناصر مجتمعة تحمل خطر نقض التجربة وإلغاء ما تحقق خلالها وربما إبطال الانتخابات الرئاسية، أو على الأقل إفراغها من مضمونها تماما كما حدث مع مجلس الشعب الذي تم تجريده من معظم صلاحياته قبل أن تتم الإطاحة به على نحو كامل.
إن انتخاب الدكتور مرسي هو خطوة إيجابية كبيرة، وهو يشبه وضع قاطرة الوطن في بداية الاتجاه الصحيح، ولكن القوة الدافعة لتحريك هذا القطار مازالت غير كافية، فمازالت هناك الكثير من العقبات والمشكلات القائمة على الأرض والتي تحتاج إلى بصيرة ورؤية ومهنية، ولذا فإن الزهو ليس هذا وقته، بل إنه قد يكون هو الطريق إلى التعجيل بنهاية التجربة قبل أن تستوي على سوقها، وهذا ما لا يحبه أحد من الإخوان ولا ممن يتعاطفون معهم ويريدون أن يعطوهم فرصة لترجمة مشروعهم الإصلاحي على أرض الواقع.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
7890
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
6672
| 14 أكتوبر 2025
منذ صدور قانون التقاعد الجديد لسنة 2023، استبشر الموظفون والمتقاعدون في قطر بمرحلة جديدة من العدالة الاجتماعية والتقدير العملي لعطاءاتهم الطويلة. فقد نصت المادة (31) من القانون على أن الموظف الذي أكمل أكثر من ثلاثين سنة في الخدمة يستحق مكافأة عن السنوات الزائدة، وهو ما اعتُبر نقلة نوعية في التشريعات، ورسالة وفاء وعرفان من الدولة لأبنائها الذين أفنوا أعمارهم في خدمة مؤسساتها. غير أن هذا التفاؤل لم يدم طويلاً، إذ جاءت اللائحة التنفيذية لتضع قيداً لم يرد في النص الأصلي، حيث حصرت استحقاق مكافأة السنوات الزائدة فيمن تجاوزت خدمته الثلاثين سنة ابتداءً من عام 2023 فقط، متجاهلة بذلك آلاف المتقاعدين الذين أنهوا خدماتهم الطويلة قبل هذا التاريخ. هذا التفسير الضيّق أثار جدلاً واسعاً بين القانونيين والمتقاعدين، لأنه خالف صراحة روح المادة (31) وأفرغها من مضمونها العادل. النص التشريعي والغاية المقصودة: لا جدال في أن المشرّع حين أقر المادة (31) كان يبتغي تحقيق مبدأ المساواة والعدل بين كل من خدم الوطن أكثر من ثلاثين عاماً، دون التفريق بين من انتهت خدمته قبل أو بعد 2023. فالقانون قاعدة عامة مجردة، ومقاصده تتجاوز اللحظة الزمنية لتغطي جميع الحالات المماثلة. فإذا جاء النص واضحاً في تقرير الاستحقاق، فإن أي تفسير لاحق يجب أن يكون شارحاً ومكملاً، لا مقيّداً أو مفرغاً من المضمون. إن حصر المكافأة بفئة زمنية محددة يتنافى مع المبادئ العامة للتشريع، ويجعل القانون غير منصف في تطبيقه. فالذين تقاعدوا قبل 2023 قدّموا جهدهم وعرقهم طوال عقود، ومن غير المنطقي أن يُحرموا من حق أثبته النص لمجرد أن توقيت تقاعدهم سبق صدور القانون الجديد. أثر التمييز الزمني على المتقاعدين: إن استبعاد فئة كبيرة من المتقاعدين من حق المكافأة يخلق شعوراً بالغبن واللامساواة، ويؤدي إلى اهتزاز الثقة في العدالة التشريعية. هؤلاء المتقاعدون خدموا في الوزارات والهيئات والمؤسسات العامة، وأسهموا في بناء نهضة الدولة منذ بداياتها، وتحملوا ظروف العمل في فترات صعبة لم تكن فيها الامتيازات والرواتب كما هي اليوم. إن تجاهل هذه الفئة يرسل رسالة سلبية مفادها أن جهد العقود الطويلة يمكن أن يُطوى بجرة قلم، وأن التقدير مرهون بتاريخ تقاعد لا بعطاء حقيقي. وهذا يتناقض مع قيم الوفاء والعرفان التي اعتادت الدولة على إظهارها لأبنائها. الحديث عن مكافأة السنوات الزائدة ليس مجرد نقاش مالي أو قانوني، بل هو في جوهره قضية عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية. فالمكافأة تمثل تقديراً رمزياً لمشوار طويل من الخدمة، وتساهم في تحسين أوضاع المتقاعدين الذين يواجهون أعباء الحياة المتزايدة بعد انتهاء عملهم. ومن هنا فإن إعادة النظر في تفسير المادة (31) ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو استجابة طبيعية لقيم العدالة التي تميز نظامنا القانوني والإداري. الحق لا يسقط بالتقادم: ومن المهم التأكيد على أن الحق لا يسقط بالتقادم، خاصة إذا كان مرتبطاً بسنوات خدمة طويلة بذل فيها المواطن جهده وطاقته في سبيل وطنه. إن مكافأة السنوات الزائدة تظل حقاً أصيلاً لصاحبها، يحق له المطالبة به ولو بعد حين، ما دام القانون قد أقرّه صراحة في نصوصه. إن محاولة إسقاط هذا الحق بمرور الزمن أو تقييده بتاريخ صدور اللائحة التنفيذية أمر يتعارض مع المبادئ القانونية الراسخة ومع قواعد العدالة والإنصاف. المقارنة بتجارب خليجية سابقة: من المفيد أن نشير إلى أن دولاً خليجية أخرى اعتمدت أنظمة تقاعدية أكثر مرونة في هذا الجانب، حيث شملت مكافآت أو بدلات السنوات الزائدة جميع المتقاعدين دون تمييز زمني، إيماناً منها بأن العطاء لا يُقاس بتاريخ انتهاء الخدمة بل بعدد السنوات التي قضاها الموظف في خدمة وطنه. هذا يعكس أن المبدأ ليس غريباً أو صعب التطبيق، بل هو إجراء ممكن وواقعي أثبت نجاحه في بيئات مشابهة. المطلوب هو أن تشمل مكافأة السنوات الزائدة جميع من تجاوز ثلاثين عاماً خدمة، سواء تقاعد قبل 2023 أو بعده. فذلك هو التطبيق الأمثل لروح القانون، والتجسيد الحقيقي للعدل، والضمانة لردّ الاعتبار لمن حُرموا من حقهم رغم استحقاقهم. إن مكافأة السنوات الزائدة ليست ترفاً ولا منحة عابرة، بل هي استحقاق مشروع وواجب وطني في حق كل من خدم الدولة أكثر من ثلاثة عقود. تجاهل هذا الاستحقاق يفتح باب التمييز ويضعف الثقة في التشريع، بينما إنصاف المتقاعدين يرسخ مبادئ العدالة ويؤكد أن الدولة لا تنسى أبناءها الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية البناء والتطوير. وليطمئن كل متقاعد أن عطاءه محفوظ في سجل الوفاء الوطني، وأن سنوات الخدمة الزائدة لن تضيع هدراً، بل ستُكافأ بالعدل والإنصاف.
3462
| 12 أكتوبر 2025