رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
بصدور الإعلان الدستوري المكمل يكون المجلس العسكري الحاكم في مصر قد قرر الانتقال من صف حماية الثورة إلى صف حماية امتيازاته الخاصة. فالمجلس العسكري الذي وعد قبل أكثر من عام ونصف بأن يعود لثكناته فور انتهاء المرحلة الانتقالية يحاول الآن من خلال هذا الإعلان أن يحتفظ لنفسه بحق التشريع وحق الاعتراض على مواد الدستور والأهم أنه يحاول الاحتفاظ أيضا بالسلطة الكاملة فيما يتعلق بشؤون القوات المسلحة، حتى لو كان ثمن ذلك إفراغ عملية التحول الديمقراطي من مضمونها والعودة بها إلى المربع رقم صفر.
فبعد أن بدا واضحا أن أركان النظام القديم توشك أن تتداعى، وبعد أن تبين أن الحملة الدعائية المكثفة لصالح مرشح النظام القديم لم تؤت ثمارها، وكذلك بعد أن فشلت محاولات تخوين من قاموا بالثورة أو محاولات وضع العثرات في طريق عملهم في البرلمان ومحاولات الحيلولة بينهم وبين تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الطموحات الشعبية، وبعد أن أفلست محاولات إظهار قوى الثورة على أنهم مجموعة من المبتدئين غير القادرين على إدارة الدولة أو حل مشاكلها، بعد أن فشلت كل هذه السيناريوهات لم يتبق أمام الطبقة الحاكمة إلا أن تقوم بتأكيد امتيازاتها الفجة التي تراكمت خلال عهد النظام القديم على نحو قسري ومن خلال أسلوب الصدمات العصبية.
فقد تضمن الإعلان الدستوري الذي صدر مؤخرا عددا من الامتيازات أو بالأحرى التجاوزات التي لم تجتمع من قبل على هذا النحو الفج، منها على سبيل المثال أن المجلس أعطى لنفسه الحق في تشكيل لجنة غير منتخبة لصياغة الدستور، ضاربا عرض الحائط باللجنة القائمة حاليا ومرجحا فشلها في إنجاز ما قامت لأجله من وضع دستور دائم للبلاد. كما أعطي المجلس العسكري لنفسه حق الاعتراض على أي نص يرد في مشروع الدستور ويتعارض مع أهداف الثورة ومبادئها، على افتراض أن المجلس هو أول من يدرك أهداف الثورة ويتصدى لحمايتها! كما تضمن الإعلان احتفاظ المجلس العسكري بكافة صلاحيات القائد الأعلى للقوات المسلحة، وسلب كل صلاحيات وسلطات الرئيس القادم فيما يتعلق بأمور القوات المسلحة، بما في ذلك إعلان الحرب، فرئيس الدولة أصبح بموجب هذا الإعلان غير قادر على إعلان الحرب إلا بموافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، كما لا يمكنه أن يأمر القوات المسلحة بالتدخل في حالة حدوث أية اضطرابات بالبلاد إلا بموافقة المجلس العسكري، بحيث أصبحت رئاسة الجمهورية منصبا صوريا تابعا للمجلس العسكري الذي ينفرد بكل ما يخص القوات المسلحة وتشكيلها من قرارات.
الإعلان المكمل تضمن أيضا إقرارا ضمنيا من جانب المجلس العسكري بخطوة حل البرلمان كاملاً رغم استمرار الجدل القانوني بين المتخصصين حول ما إذا كان قرار المحكمة الدستورية ينصرف إلى حل البرلمان بأكمله أم ثلثه فقط، ورغم تأكيد عدد منهم على ضرورة عدم حل مجلس الشعب والإبقاء عليه لحين وضع الدستور وإجراء انتخابات مجلس شعب جديد، ورغم تأكيد البعض الآخر أن معظم دساتير العالم تعطى سلطة التشريع لرئيس الجمهورية في حالة حل البرلمان، إلا أنه وفي وسط كل هذا الجدل يخرج المجلس العسكري ليدلي بدلوه في الموضوع ويفسر القرار بأنه يعنى حل البرلمان بأكمله، فيما يوحي بأن المجلس صاحب مصلحة في تأويل القرار على هذا النحو ليستعيد بموجب ذلك سلطة التشريع كاملة.
المسكوت عنه في قرارات المجلس العسكري أن عقلية الأخ الأكبر مازالت هي المسيطرة، فهو يتصرف بالنيابة عن الشعب وممثليه، ويظن في نفسه أنه يدرك مصلحة البلاد أكثر من الشعب بأكمله، وعلى هذا الأساس لا ينظر إلى الثورة على أنها استرداد الشعب لقراره، وإنما فقط إخطار الجماهير بما يتم أخذه من قرارات نيابة عنهم.
أيضا أفصحت قرارات المجلس العسكري الأخيرة عن سيطرة عقلية المنع والمنح، فما تم إحرازه من خطوات لنقل السلطة تم التعامل معها على أنها مجرد هبات منحها المجلس العسكري وبإمكانه أن يتراجع عنها في الوقت الذي يقرره. وبناء عليه فقد تراجع المجلس العسكري عن معظم استحقاقات المرحلة الانتقالية بمنتهى السهولة ومن دون إقامة أي اعتبار للجماهير التي شاركت فيها.
يتضح أيضا من نصوص الإعلان المكمل أن عنصر ومفهوم المسؤولية مازال غائبا عن أذهان من عملوا في ظل النظام القديم، فقانون الانتخابات الذي تم الطعن على دستوريته هو من صياغة المجلس العسكري، والانتخابات التي تمت وفق هذا القانون تمت تحت إشراف المجلس العسكري، والأموال التي صرفت على هذه الانتخابات —والتي هي أموال الشعب المصري— صرفت أو بالأحرى بددت بموافقة وعلم المجلس العسكري، ورغم ذلك يبدو المجلس العسكري في مأمن من التعرض لأي مساءلة حول ما قام باتخاذه من قرارات معيبة ترتب عليها ما تعيشه البلاد حاليا من مشكلات.
ولكن أيا ما كان حجم المسكوت عنه أو المعلن في قرار المجلس الحاكم فقد تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن أغلبية المصريين مازالوا يدعمون الثورة ويراهنون على نجاحها، وآية ذلك نتائج التصويت في الانتخابات الرئاسية والتي عكست رغبة حقيقية لدي أكثر من نصف الكتلة التصويتية على الأقل في عدم استرجاع النظام القديم برموزه وتنظيماته وقيمه، ومن ذلك بطبيعة الحال ألا يكون لمؤسسة ما وضعا متميزا أو فوقيا حتى لو كانت هذه المؤسسة العسكرية ذاتها.
وعليه فإن إصرار العسكر على تمرير الإعلان الدستوري المكمل لن يفعل إلا أنه سوف يزيد المعادلة السياسية تعقيدا وسوف يدخل بالثورة المصرية إلى أشد مواجهاتها حسما، خاصة أن نتيجة هذه المواجهة من المتوقع أن تحدد مقدرة كل طرف من أطراف اللعبة السياسية ومدى قدرته على ضبط أداء غيره من القوى السياسية، الأمر الذي من شأنه أن يحسم الجدل حوله شكل الجمهورية الثانية في مصر وطبيعة القوى المسيطرة فيها.
ماذا استفادت القضية الفلسطينية بعد حرب غزة؟
شهدت القضية الفلسطينية واحدة من أكثر اللحظات دراماتيكية في تاريخها الحديث، حين اندلعت مواجهة غير مسبوقة بين فصائل... اقرأ المزيد
33
| 26 أكتوبر 2025
سلامٌ على غزة وأهلها
تباشر قناة الجزيرة منذ أيام مضت أعقبت اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بعد توقيع الاتفاق في شرم... اقرأ المزيد
33
| 26 أكتوبر 2025
رؤية الأسرة القطرية
ألقى حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، خطابًا شاملاً بمناسبة انعقاد دور... اقرأ المزيد
21
| 26 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6180
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3753
| 21 أكتوبر 2025