رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

أفغانستان.. جدلية النصر والهزيمة

من يتتبع الحروب المعاصرة يجدها من حيث الانتصار والهزيمة قد تمترست في فضاءات رمادية أو حالات من اللا نصر واللا هزيمة؛ لكن المتفائلين يعزون ذلك لتوسع المدارك بشأن فهم منطلقات وأسباب الحروب، حيث وفّر عصر المعلومات تنزيل أحكام أكثر واقعية وموضوعية. على كل فقد اختفت مواكب القوات المظفرة العائدة، وحلّـت النصب التذكارية محلّ أقواس النصر. وحتى الطرف الذي يدعي نصرا بزعم أنه حقق أهدافه ولو بعضها، فعادة ما يكشف الواقع المرير أن ثمنا باهظا قد تكلفه مما يجعله غير قادر على تذوق النصر المزعوم. ومع مرارات النصر فإن محاولات إقناع الرأي العام المستميتة هو المسحوق الذي يُغطى به حجم التكاليف المادية والبشرية والمعنوية المبذولة. هناك من يجادل بأن معايير أو دلالات رمزية قد تشير إلى نصر ما؛ مثل توقيع اتفاقية قد تقر نتائج الحرب لمصلحة أحد الطرفين ولو ضمنا. فلسفيا ليس بالضرورة أن يكون النصر حليف القوة المادية والترسانات العسكرية إذا ما كانت القضية التي شُنّت الحرب من أجلها قضية عادلة. وحسب الجنرال والمؤرخ الحربي البروسي كارل فون كلاوزفيتز وقد تركت كتاباته حول الفلسفة والتكتيك والإستراتيجية أثرا عميقا في المجال العسكري؛ حيث أشار إلى أنّ وجود سبب أخلاقي لدى أحد طرفي الصراع يحفّزه لاستنفار طاقاته وقدراته لدفع العدوان، وأنه وإن كان ضعيفًا ماديًا فهو الأقوى، على المدى البعيد، ذلك أنّ فاعلًا مهمًا يشكل حاضنة للقضية العادلة، وهو الرأي العام محليًا، وفي بعض الحالات دوليًا أيضًا. أمس الجمعة أعلن عن انسحاب القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي «الناتو» بالكامل من قاعدة باغرام الجوية قرب العاصمة الأفغانية كابل. المتحدث باسم وزارة الدفاع الأفغانية أكد أن جميع القوات الأمريكية والأجنبية غادرت القاعدة التي ظل الأمريكيون يتمركزون فيها منذ غزوهم أفغانستان قبل عشرين عاما. لا شك أنه نصر للمقاومة الأفغانية بمعايير كلاوزفيتز؛ فقد كافح الشعب الأفغاني العدوان الخارجي وناضل بقدرات مادية وعسكرية ضعيفة لكنه امتلك قدرة معنوية هائلة بمواصفات نووية دفاعا عن أرضه واستقلاله وكرامته. وكانت القوات الأمريكية الغازية قد سلمت كل القواعد العسكرية في البلاد باستثناء قاعدة باغرام، بعد اكتمال انسحاب القوات الألمانية والإيطالية المشاركة في مهمة الحلف الأطلسي. بكل تأكيد أن انسحاب القوات الأمريكية وحلفائها ليس نهاية المطاف، إذ إن أمام الأفغانيين طريقا طويلا لتحقيق السلام والاستقرار لوطنهم المثخن بالجراح. ولعل إعلان حركة طالبان التي مثلت المقاومة في وجه القوات الغازية بأن انسحاب القوات الأمريكية الكامل سيمهد الطريق أمام الأفغان ليقرروا مستقبلهم يؤسس لآمال عراض بشأن مستقبل أفغانستان. إن استمرار التدخل الأمريكي في البلاد بشكل سلبي حتى بعد الانسحاب سيبرر لطالبان استمرار عملياتها العسكرية. وبدا ذلك من خلال إعلان واشنطن أنها ستواصل دعمها لما أسمته قوات الدفاع والأمن الوطنية بعد انسحابها. الشعب الأفغاني المنهك يأمل في أن تقف معاناته عند حد الانسحاب من باغرام وألا تمتد إلى موعد انتهاء مهمة الناتو، المسماة بـ{الدعم الحازم» والمقرر لها سبتمبر المقبل وأن تستغل هذه الفترة في الوصول إلى وقف شامل لإطلاق النار. [email protected]

6298

| 03 يوليو 2021

السودان وإسرائيل.. دروس مجانية

جاء في تفصيل السياسة الإسرائيلية تجاه السودان عبر كتاب صدر في 2003م عن مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا بجامعة تل أبيب، أن إسرائيل أدركت منذ وقت مبكر، أن الأقليات الموجودة في المنطقة العربية يمكن أن تكون حليفاً طبيعياً لها، مع تطبيق سياسة فرق تسد، بناء على ذلك ركزت إسرائيل على الأقليات في السودان لتنفيذ مخططها في جنوب البلاد حتى انفصل في يوليو 2011. اليوم بدا السودان هيناً ليّناً أمام المخططات الإسرائيلية، فتخلصت إستراتيجية إسرائيل من عنت تحريض وتمويل الأقليات إلى تحريك السياسيين الفاعلين في الخرطوم مركز البلاد وعصبها الحي كقطع الشطرنج، حتى أضحى التنافس بينهم على أشده كسباً لود تل أبيب التي بدت سعيدة تغازل هذا وتتمنع على ذاك. وبهذا تجعل تل أبيب من الفئة الحاكمة أدوات طيعة لتحقيق ما تبقى من مخططات لا تقف عند حد فصل جنوب البلاد، بل تشمل تقسيم السودان إلى دويلات متعددة ربما خمس، في الشمال والجنوب والشرق والغرب وجبال النوبة، وقد منحت السلطة الانتقالية الأسبوع الماضي الحكم الذاتي لمنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق المتاخمة لأثيوبيا بمرسوم سمته دستورياً، ولا دستور اليوم في السودان بحكم فترة الانتقال وغياب برلمان تشريعي منتخب. أمس الأول الخميس ذكر موقع أكسيوس Axios وهو موقع إخباري أمريكي له السبق في أخبار علاقة السودان بإسرائيل، بأن رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك التقى القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية بالخرطوم، برايان شوكان، وأبلغه "محتجاً" بأن إسرائيل تتعاطى حصريا مع المكون العسكري وطلب منه أن تتدخل إدارة الرئيس جو بايدن لدى إسرائيل لتحثها للتعاطي مع المكون المدني الذي يمثله حمدوك، وزارة الخارجية الأمريكية طلبت من إسرائيل التعاطي أيضاً مع المكون المدني مع استمرار تعاطيها مع الشق العسكري والمخابراتي. ولعل نشر مثل هذه اللقاءات السرية في حد ذاته هدف يدخل في إطار محاولات خفض مستويات الثقة بين أطراف السلطة في الخرطوم لأدنى مستوى ليسهل توظيفهم لصالح المخططات الاستراتيجية تجاه البلاد، ويذكر أن أول لقاء لرئيس مجلس السيادة الجنرال عبدالفتاح البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو جرى في أبريل 2020 بالعاصمة الأوغندية كمبالا كان لقاءً سريا حتى تفاجأت به حكومة حمدوك (المكون المدني)، لكنه كان قد سُرّب لوسائل الإعلام الإسرائيلية عمدا فعمى القرى والحضر واهتاجت حكومة حمدوك وحاولت حينها تغليف غضبها من اللقاء بسبب أن الخطوة تمت بدون تفويض وأن السلطة الانتقالية بحكم مهامها المحددة غير مفوضة للقيام بمثل هذه الخطوة، بيد أن طلب حمدوك وفقا لموقع أكسيوس يؤكد أن اعتراضه لم يكن مبدئياً مثلما حاول تفسيره حينها. ومما يؤكد تلاعب إسرائيل بأطراف السلطة الانتقالية في السودان وهو ما استثار غضب حمدوك وكذلك البرهان، ما أشار إليه الموقع الأمريكي عبر مراسله في تل أبيب باراك رافيد بأنّ طائرة خاصة تابعة لـ"الموساد" حطت، الأسبوع الماضي، بالخرطوم وكان على متنها مسؤولون بالجهاز الاستخباراتي الإسرائيلي، للالتقاء بقائد قوات الدعم السريع الجنرال محمد حمدان دقلو المشهور بحميدتي، الذي يشغل في ذات الوقت منصب نائب البرهان في مجلس السيادة، وتشهد العلاقة حاليا بين قواته والجيش السوداني بقيادة الجنرال البرهان، توترا ملحوظا، وعزز هذا اللقاء الهواجس لدى منافسي حميدتي بأنّه يعمل على إقامة علاقات مستقلة مع الإسرائيليين من أجل تنفيذ أجندته السياسية الخاصة داخل السودان، وهو أمر يمكن أن يتهم به البرهان كذلك وأيضا حمدوك ممثل المكون المدني، وبدا أن البرهان وحمدوك ينظران إلى لقاء حميدتي بالمخابرات الإسرائيلية على أنه تقويض للسلطة الشرعية في البلاد. اليوم المشهد في السودان يظهر بفعل الكيد الإسرائيلي توتراً خطيراً سواء ما بين المكون العسكري نفسه (البرهان – حميدتي) أو سواء ما بين المكونين العسكري والمدني في نفس الوقت، وهنا يسهل أن تتخطفهم إسرائيل جميعا وتفعل ما تشاء في وطن يقف على جرف هار، لقد بدا حمدوك جريئا في طلبه التواصل مع إسرائيل بعد تصويت حكومته في أبريل الماضي على إلغاء قانون مقاطعة إسرائيلي كجزء من جهود التطبيع، وقد ظل القانون سارياً منذ عام 1958، وكان هذا القانون يحظر إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ويحظر أي علاقات تجارية معها. في خضم ذلك المشهد العبثي وبعد عدة أشهر من توقيع اتفاق التطبيع بوساطة أمريكية والمعروف باتفاق إبراهام في يناير الماضي، لم تف واشنطن بوعدها بالاستثمار في مشروعات الزراعة والتكنولوجيا في السودان، وأشار تقرير إسرائيلي إلى أن الخرطوم مستاءة تشعر بخيبة أمل بسبب الاستثمارات الأمريكية غير الكافية، التي كانت ترى أن زيادة الأموال ستضفي المزيد من الشرعية للتطبيع مع إسرائيل وتسويقه للشعب السوداني المعروف بممانعته القوية للتواصل مع إسرائيل. ليذكر قادة السودان الحاليون ويتأملوا في التاريخ القريب حين أصبح الوضع الاقتصادي في عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري على حافة الانهيار في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، فلجأ للدخول في صفقة مع الإسرائيليين والإدارة الأمريكية في 1984، حيث تم ترحيل آلاف من يهود الفلاشا الإثيوبيين، إلى إسرائيل عبر أراضي السودان، في ما سمي بعملية موسى، وظنّ النميري أنه اشترى عمراً جديداً لنظام حكمه، فغادر إلى واشنطن، عقب تلك العملية لتلقي الثناء ومزيد من القبول، غير أنّ انتفاضة شعبية عارمة اندلعت ضده، فأسقطته في أبريل 1985 ولم تعبأ لا واشنطن ولا إسرائيل بسقوطه المدوي. [email protected]

5628

| 26 يونيو 2021

أبعد من أزمة سد النهضة

لعل كل أزمة سياسية بين دولتين أو أكثر نجد فيها أن للتشدد وربما التعنت نصيبا فتمضي الأزمة في طريق التطاول أو إلى أخطر من ذلك وهو الانفجار أو التصادم العسكري فيخسر الطرفان وإن حقق أحدهما نصرا ما، بل يخسر السلم والاستقرار الإقليمي والدولي. في شأن أزمة سد النهضة التي تجاوزت نحو عقد من الزمان كان التشدد حاضرا سواء في بدايتها أو في راهنها، وسواء من هذا الطرف أو ذاك الطرف، فمن تشدد بداية أصبح مرنا وواقعيا بيد أن من كان مَرنِا أصبح اليوم يراوح مربع التشدد وربما التعنت. والسد الأثيوبي شَخِص كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، يعجب أهله، فغدا واقعا قائما بفضل الاستثمار الجيد في عامل الوقت. وانحصر الخلاف بشأنه حول قضايا يمكن أن توصف بأنها فنية متعلقة بقواعد ملء وتشغيل السد. ولعل تشدد طرف من الأطراف في هذه المسائل الفنية من المفترض أن يجد استنكارا ليس من الطرف المقابل ولكن من المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي. لكن إن لم يتبلور الاستنكار إلى موقف ضاغط لصالح حل الأزمة تبقى الأزمة في مربعها الأول. وتدور الخلافات حول مسألتين مهمتين؛ الأولى أن الطرف الآخر لا سيما مصر تعتقد أن السد سيقلل من كمية حصتها من مياه النيل، ترى أثيوبيا أنه سينظم كمية المياه اللازمة للري ويوفر لها طاقة كهربائية لمشاريعها التنموية. ولعل قلق مصر نابع من كون الهضبة الإثيوبية، التي تشارك بنحو 71 مليار مكعب من المياه عند أسوان أي نحو 85% من مجمل إيراد نهر النيل، بينما يقتصر اسهام هضبة البحيرات الإستوائية على نحو 13 مليار مكعب أي فقط 15% من إيراد نهر النيل. ولعل انخفاض حصة مصر في كل الأحوال سيكون انخفاضا مؤقتا ومرهونا بطول أو قصر فترة ملء السد وقد تجاوزت مصر ذلك على ما يبدو وحتى اشكالا آخر مرتبط بانخفاض دائم بسبب التبخر من خزان المياه ويثور الجدل حاليا فترة الملء، فأثيوبيا تريدها عاجلة ومصر والسودان يريدانها على فترة تمكنهما قدر الامكان من تقليل آثار الانخفاض المؤقت. وترى مصر أنه خلال فترة الملء بالطريقة الأثيوبية يمكن أن تفقد من 11 إلى 19 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، مما سيتسبب في خسارة مليوني مزارع دخلهم خلال هذه الفترة الحرجة. المشكلة أنه تبقى أقل من شهر على الموعد الذي حددته إثيوبيا للقيام بالملء الثاني للسد الذي يتضمن حجز 13.5 مليار متر مكعب في شهري يوليو وأغسطس المقبلين، علما بأنه حجز 4.9 مليار متر مكعب في الملء الأول. وفيما يشدد السودان ومصر على رفض تنفيذ الملء الثاني دون توقيع اتفاق قانوني وملزم وبه ضمانات دولية. ومع هذا الجمود المخيف أعلن السودان موقفا وسطا، بقبوله باتفاق مرحلي جزئي للملء شريطة التوقيع على ما تم الاتفاق عليه سابقا، وضمان استمرارية التفاوض وفق سقف زمني، لكن أثيوبيا لم تبد حتى اليوم أي رد فعل. الإشكال الأكبر والباعث للقلق السوداني - المصري يتعدى أبعد من قضية سد النهضة؛ ففي مايو2010 وقعت 6 من دول حوض النيل (8 دول) اتفاقية عرفت باسم اتفاقية عنتيبي وهى إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي، بينما قوبلت هذه الاتفاقية برفض شديد من مصر والسودان، إذ أن بموجب هذه الاتفاقية، تنتهي الحصص التاريخية للسودان ومصر وفقا لاتفاقيات عامي 1929 و1959. وفي ما بعد عززت تصريحات لرئيس وزراء أثيوبيا مخاوف مصر والسودان، فقد أعلن آبي أحمد في نهاية مايو الماضي، عن خطة لبناء 100 سد صغير ومتوسط في مناطق مختلفة من بلده خلال السنة المالية المقبلة، وهي سدود ليست لانتاج الكهرباء ولكنها لاستغلال المياه في الزراعة. يشار إلى أنه في اطار المساعي الدبلوماسية وقع رؤساء مصر وأثيوبيا والسودان في مارس 2015، خلال قمة ثلاثية بالخرطوم، وثيقة إعلان تضمن إنشاء آلية تنسيقية دائمة من الدول الثلاث للتعاون في عملية تشغيل السد بشكل يمنع عدم الإضرار بمصالح دول المصب. وكان ذلك كفيلا بحل الأزمة إذا ما التزمت به الأطراف الموقعة. ودخلت الأزمة مرحلة جديدة حينما تمسكت أثيوبيا بالاتحاد الافريقي وسيطا وحيدا ورفضت مشاركة أي وسيط آخر. لاحقا أعلنت جامعة الدول العربية أنها قد تتخذ "إجراءات تدريجية" لدعم موقف مصر والسودان في خلافهما مع إثيوبيا. لكن إثيوبيا رفضت ذلك في حين لم ترفض مصر والسودان وساطة الاتحاد الإفريقي لكنهما اقترحا مشاركة أطراف أخرى في وساطته. وهنا بدأ موقف مصر والسودان أكثر مرونة وايجابية من موقف الطرف الآخر. تاريخيا كان للاستعمار والقوى الدولية أدوار سالبة في منطقة القرن الأفريقي أورثت أزمات من بينها أزمة سد النهضة الماثلة؛ إذ يؤكد السودان أن المنطقة التي اقيم فيها السد على بعد 40 كيلومترا من الحدود مع السودان وتسمى بني شنقول هي أرض سودانية منحتها بريطانيا التي كانت تستعمر السودان إلى ايطاليا التي كانت تستعمر أثيوبيا بشرط ألا تقام فيها أي سدود، علما بأن المقاول الرئيس لمشروع السد هو شركة ساليني الإيطالية. لاحقا قام مكتب الاستصلاح الأمريكي التابع لوزارة الخارجية الأمريكية بين عامي 1956 و1964 خلال فترة حكم الإمبراطور الأثيوبي هيلا سيلاسي، بتحديد الموقع النهائي لسد النهضة متجاهلا اتفاقيتي عامي 1929 و1959 لمياه النيل التي تنص إحداهما على الرجوع إلى مصر. يذكر أنه بعد يوم واحد من الإعلان عن مشروع السد رسميًا فيمارس 2011 مُنحت الشركة الأمريكية وي بيلد عقدًا بقيمة 4.8 مليار دولار دون مناقصة تنافسية. ولذا يمكن الربط بين ذلك كله وعدم ضغط واشنطن على أديس التي رفضت في مارس 2020 التوقيع على اتفاق بين الدول الثلاث رعته واشنطن نفسها. [email protected]

5115

| 19 يونيو 2021

أزمة سياسية واقتصادية عاصفة

بلغ من تأزم الأوضاع في السودان، سياسياً واقتصادياً أن برزت توقعات ومؤشرات قوية لتغيير سياسي وشيك، فإن لم يكن انقلاباً تقليدياً، فإنه تغيير سيتجاوز الوضع الحالي المتأزم والمسدود الأفق، وقد تذهب كل الوجوه المتنفذة حالياً، مدنية وعسكرية فلم تعد مجتمعة على إدارة أزمة البلاد، فبعد رفع الدعم كلياً عن الوقود أغلق محتجون عدداً من الشوارع في الخرطوم أمس الأول الخميس مرددين هتافات بسقوط النظام، ويعتبر الوقود سلعة إستراتيجية تتوقف على سعرها بقية أسعار السلع، وظلت أسعار الوقود ترتفع بشكل تصاعدي مخيف؛ إذ كان جالون البنزين في أبريل 2019 عند سقوط النظام السابق 27 جنيهاً فقط ليرتفع بعد عام إلى 126 ثم بعد 6 أشهر إلى 562 ثم بعد 10 شهور إلى 675 إلى أن بلغ الأسبوع الماضي 1305 وهو سعر فوق مستوى الخيال قبل سنتين. وزير المالية في حكومة الفترة الانتقالية الحالية قال بشكل صريح إن وزارته رفعت يدها تماماً عن دعم الجازولين والبنزين ولن تدعم هاتين السلعتين، وقال الوزير إنهم مصرون على هذه الخطوة ولو أدى ذلك لإسقاط الحكومة، وتتبع الحكومة روشتة صندوق النقد الدولي وهي روشتة غير معنية بالفقراء على وعد بإعفاء الديون واجتذاب التمويل، لكن الإشكال أن الفقراء في السودان ليسوا فئة محدودة يمكن معالجة أوضاعهم بشكل منفصل، وإنما أكثر من 95% من المواطنين هم فقراء تهوي بهم هذه السياسة المجحفة في درك سحيق من المعاناة وكبد العيش، ومن مظاهر هذه المعاناة مستوى التضخم الذي وصل مستويات قياسية وارتفع إلى 363 % في أبريل الماضي وهي إحصائية تعتبر قديمة نظرا لسرعة تدهور الاقتصاد السوداني. إن ما تشهده البلاد من تضخم مخيف، يسميه أهل الاقتصاد بالتضخم الحلزوني، حيث تؤدي زيادة الضغوط على الأسعار إلى ردود أفعال تُنتج المزيد من التضخم، وخطورة هذا النوع من التضخم أنه يغذي نفسه بنفسه. ولعل رفع الدعم ابتدره النظام السابق بخطوات تدريجية، لكن لم يجد ذلك التدرج فتيلاً، واعتبر حينها قفزة في الظلام، ومغامرة غير محسوبة العواقب، منظرو حكومة الرئيس السابق عمر البشير تحدثوا حينها عن ما أسموه بالعلاج بالصدمة، باعتبار ذلك إحدى الوصفات الاقتصادية في الأوقات العصيبة، المعارضون للخطوة قالوا إن الحكومة أدخلت نفسها في ورطة وأرادت مد يدها لجيب المواطن المنهك واختارت الطريق السهل، وانتعشت في ذلك الوقت آمال معارضي البشير بقدوم ربيع سوداني يطيح بنظامه، لأن المواطن في رأيهم لم يعد يحتمل مزيداً من تدني مستوى معيشته، واليوم ذات الأحزاب الحاكمة اليوم المعارضة بالأمس للبشير، أصدرت آنذاك بيانات تدين إجراءات رفع الدعم ودعوا صراحة للثورة والعصيان المدني، وعلى أثر ذلك خرجت التظاهرات وتوالى التصعيد حتى أطيح بالبشير، هذه الحكومة ظلت تردد أنها تنفق نحو مليار دولار سنوياً على دعم الوقود، لكن لا يعرف المواطن أين تذهب الأموال التي يوفرها رفع الدعم. إن ما أخذ على حكومة البشير أن غاية طموحاتها كانت كيفية إدارة الأزمة والتعامل مع الحلول الترقيعية والمسكنات الوقتية؛ أما قادة اليوم فلا حتى هذه يجيدونها، بل إن ذات الأمراض التي أمسكت بتلابيب النظام السابق تمسك بالوضع الحالي؛ ففي ذات الوقت الذي فشلت فيه تلك في ترشيد الإنفاق الحكومي، فشلت في توفير مدخلات الإنتاج وظلت تفرض الضرائب الباهظة والإتاوات على صغار المنتجين، ولذا يتراجع الاقتصاد والإنتاج الجالب للعملة الصعبة في ظل انعدام خطط وسياسات تشجيع الإنتاج، فيما ينحدر العمل السياسي لهوة عميقة لا قرار لها. البلاد اليوم أمام تحدي إقرار إصلاحات سياسية جذرية مُفضية إلى واقع اقتصادي يتجاوز نهج الإقصاء والانتقام السياسي، فضلا عن الفساد الحكومي المستشري الذي تسير به الركبان ولم يعد في حاجة إلى إثبات. إننا نفهم كما في الدول المتحضرة، أن الخصومات السياسية تستعر في العام ومع ذلك مضبوطة بالقانون وتبرز أكثر أيام الحملات الانتخابية ويهدأ بركانها بعد فوز أحد أو مجموعة من الأحزاب المتنافسة؛ لكن أن يتم خلط الخاص بالعام وتزر النساء والأطفال وزر خصومة عائلها في السياسة، فهذا الذي يثير العجب ويعجب له العالم كله، فبينما يتدهور الاقتصاد ينشغل الساسة بمعاركهم العبثية وقد انحدرت خصوماتهم السياسية إلى مستنقع آسن؛ انتفت معه الشهامة والرجولة والقيم السودانية فطردت عوائل السياسيين السابقين من بيوتهم إلى قارعة الطريق بينما لا يزال رب الأسرة يقبع في المعتقل بدون محاكمة مما يمثل سقوطاً قيمياً كبيراً، فبهذا السقوط لن يستطيع السودانيون بناء وطن كباقي الشعوب وربما تلك العلة الكؤود تفسر تأخر البلاد وتزيلها قائمة الدول الفقيرة. ولعل أخطر أزمة في الأسبوع الماضي كانت أمنية من حلال التوتر المخيف بين قوات الجيش القومي وما يعرف بقوات الدعم السريع، لأن أي صدام بينهما يعني انهياراً كاملاً للبلاد خاصة مع وجود ميليشيات أخرى تابعة لحركات التمرد السابقة، لذلك لابد من المضي قدما وبأسرع فرصة لدمج قوات الدعم السريع لخطورة بقائها بقيادة مستقلة، فطبيعة هذه القوات بوضعها الراهن يصعب ضبطها والسيطرة عليها لكونها ميليشيات غير مدربة تدريباً نظامياً احترافياً وتحت قيادة أسرة بعينها وتخضع للرغبات والطموحات الشخصية لأفراد هذه الأسرة. على القوى السياسية أن تدرك أن الذي يُعنى بالدعم هو الجيش القومي باعتباره مؤسسة وطنية وليس بالضرورة قيادته الحالية، فالجيش ثابت والقيادة بدون شك متغيرة. ويمثل الجيش لحمة الوطن بقوميته وانضباطه وتاريخه المشرف؛ ولذا دعم الجيش أيا كانت قيادته أمر استراتيجي أما السعي لإرضاء قيادته الظرفية ربما يدخل في إطار التكتيك ولن يكون التكتيك ذا جدوى إن لم يخدم الإستراتيجية. [email protected]

4313

| 12 يونيو 2021

إسرائيل.. تداعي الأشكناز وصعود المقاومة

اليوم تسير الرياح بأنباء حكومة جديدة في إسرائيل مبشرة بنهاية مدوية لحقبة نتنياهو، وقد سبقتها تداعي عصبة الأشكناز المتنفذين في اعلام الدولة الاعظم الداعم الأعظم للاحتلال. وصورة المشهد البطولي للمقاومة الفلسطينية في الداخل المحتل تملأ الزمان والمكان. ولا شك أن خيبة نتنياهو التي هي خيبة للدولة المحتلة في المحصلة، جرتها عليه بطولات لا تبدو معتادة في زمان طغيان وجبروت القوة االغاشمة المستبدة بترسانات الأسلحة المتطورة. والحق ما شهدت به الأعداء، فهذه صحيفة هآرتس الاسرائيلية، تقول إن الصواريخ التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية على إسرائيل خلال الحرب الأخيرة بين الطرفين تعكس نجاح الصناعات العسكرية في غزة. وأضافت: أن الهجمات الصاروخية التي تعرضت لها إسرائيل من غزة أدت إلى تغيير ميزان القوة. المعلوم بالضرورة أن أي قوتين متصارعتين متماثلتين في القوة قد يحققان في نهاية المطاف توازن قوتهما، ودون ذلك فهناك منتصر ومهزوم. لكن المقاومة الفلسطينية التي لا سبيل لها لتوازن قوة مادية مع دولة إسرائيل، ظرفيا على الأقل، فإن توازن رعب قد تحقق فأطاح بنتنياهو وبصورة جيش الاحتلال. فالفلسطينيون ضحايا بلا شك، إذ يواجهون عدوا يملك أحدث الأسلحة والإمكانات، ويحظى بدعم غير محدود سياسياً واقتصادياً وعسكرياً من واشنطن في معركة غير متكافئة. ومع وقوف العالم أجمع مشدوها مشدودا أمام جسارة واصرار المقاومة على رد العدوان، حيث تألم المحتلون كما تألم الفلسطينيون من قبل ومن بعد بيد انهم ظلوا يرجون من الله ما لا يرجوه أعداؤهم. ولعل أوقع هزيمة لإسرائيل ليست في حجم الخسائر المادية والبشرية فحسب، وإنما كان في انهيار الروح المعنوية لخصمهم، إذ أن هجمات المقاومة أحدثت هزة قوية في الرأي العام الإسرائيلي ووسائل إعلامه. إن قرار المقاومة الفلسطينية ممثلة في حركة حماس باستخدام ترسانتها الصاروخية كان على ما يبدو بادراك منها بأن ذلك سيترتب عليه هجوما إسرائيليا كبيرا على غزة، لكنها اتخذت القرار الصعب فكانت من حدد توقيت الحرب وذلك من مؤشرات النصر. ولعل أهم معطى في تقديري أن المقاومة خرجت من اطار فعل التفجيرات في العمق وهو ما يجلب كثير من الانتقاد العالمي ويكبح التعاطف مع القضية الفلسطينية، إلى اطار الحرب المنظمة. فبعد سنوات من الكمون النسبي أظهرت المقاومة نجاحا كبيرا في تكوين منظومة صاروخية قادرة على الوصول إلى كل المدن الإسرائيلية، وعلى إحداث خسائر، وإرباك الحياة اليومية. وغير الهزيمة المعنوية وخسارة نتنياهو السياسية، فإن جزءا مهما من النجاح الإسرائيلي في العالم لا سيما سوق السلاح الدولي ومجال الأمن والمخابرات، ظل قائما على صورة الجيش الإسرائيلي التي انحطت وتداعت بدون شك. من جهة أخرى ومنذ نحو عامين كان هناك منعطف مهم في تموضعات اليهود في مفاصل الولايات المتحدة الأمريكية. في المقال كتبه بيتر بينارت وهو كاتب يهودي أمريكي مخضرم في مجلة نخبوية مؤثرة على متخذي القرار واتجاهات الرأي العام ويحررها غالبية من المنتسبين إلى اليهودية، دينيًّا وعرقيا وثقافةً تسمى The New Republic؛ حمل ذلك المقال الذي نشرته صحيفة هآرتس، اعترافا جهيرا بسيطرة يهودية ليس على هذه المجلة بل كل المجلات والصحف الكبرى مثل نيويورك تايمز والواشنطن بوست وشبكة فوكس وغيرها فضلا عن The New Republic. ومجال الاعلام هو المجال الأكثر تأثيرا على السياسة والسياسيين. وإذا فرقنا بين يهود الشرق وهم ربما اقل تطرفا وأقرب للسلام والتعايش مع العرب والمسلمين، ويهود الغرب وهم النخبة المتحكمة في دولة إسرائيل؛ فإننا سنجد أن الجالية اليهودية في الولايات المتحدة تتكون من اليهود الأشكناز، المنحدرين من شتات يهود وسط أوروبا وشرقها، ويمثلون 90- 95% من اليهود الأمريكيين. فالدولة الاسرائيلية هي صدى ليهود الغرب بثقافتهم الشاذة والمتعالية على الثقافة الشرقية فضلا عن شعورهم الباطني بأنهم سُرّاق لأرض فلسطين ولا علاقة لهم بها ولا لأجدادهم فهم شعب أوروبي بديانة يهودية محرّفة ومختلقة في غالبها. إن الولايات المتحدة هي موطن أكبر تجمُّع يهودي في العالم لكن المفارقة المدهشة تتبدى في قوة تأثيرهم في الدولة الامريكية بالنظر لنسبتهم الضئيلة مقارنتهم بحجم سكان الولايات المتحدة، ففي سنوات قليلة مضت قُدِّر تعدادهم بين 5.5 مليون و8 ملايين، وهذا يمثل 1.7%- 2.6% من إجمالي السكان. فهذا التأثير تحقق بالإعلام والمال وهذا المقال يبشرنا بتهاوي سيطرتهم الاعلامية على اقل تقدير. لقد ختم الكاتب ربما متهكما أو معترفا أن يوما ما ربما تخبر محررة في النيويورك تايمز أو النيويوركر أو ربما حتى صحيفة The New Republic بأن مقالة زميلة لها قد تصدر حول رأس السنة الصينية الجديدة أو عيد الفطر. وأضاف مختتما ان احسنت الترجمة: "الفكر يجعلني ابتسم". فهناك تحول مفاهيمي وسط قطاعات كبيره من بين اليهود الامريكان خاصة الأصغر سنا وفقا لمراقبين ومتابعين. قد يجادل البعض بأن الحزب الديمقراطي الفائز باخر انتخابات يمثلون بمنظور أمريكي وغربي سياسة "متوازنة" تجاه الامر الواقع في فلسطين، وحتى مع اعتبارهم أهون الشرين إلا أن واقع الاحتلال الإسرائيلي يظل مرفوضا بشكل مبدئي وعقدي وهذا ما لا يؤمن به الديمقراطيون في توازنهم المزعوم. بل بنظرة اكثر شمولية وقفزا فوق الواقع المستبد في فلسطين قد نجد أن في هذا "التوازن" ظلما بينا بل تجميلا لواقع الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. إن آخر تصريحات الرئيس الديمقراطي جو بايدن حول حرب غزة الاخيرة كان يتحدث عن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، فهي عنده ضحية وليست معتدية وقد خالف توجهات الرأي العام الامريكي الذي خرج لاول مرة في تظاهرات حاشدة مؤيدة وداعمة للفلسطينيين ومنتقدة لإسرائيل. [email protected]

3474

| 05 يونيو 2021

قبول الآخر والمعادلة الصفرية

في غمرة غياب التفكير المنطقي والعقلي لا يتنبه الإنسان إلى كثير من الحقائق الماثلة؛ من هذه الحقائق أنه إذا كانت آراء شخصين متفقة دائما فليست هناك حاجة لوجودهما معا فأحدهما يكفي، وتقبل الآخر يعني ببساطة احترام الآخر وتقدير وتفهم ما لديه من مفاهيم وأفكار وتقاليد وقيم، بل إن تقبل الآخر يرتبط بقبول الذات بكل ما فيها من قوة وضعف، فإذا تقبلت نفسك وذاتك فلا شك أنك ستقبل الآخر. ولا يعني بالضرورة تقبل الآخر الذوبان فيه أو أنك ستخسر ما لديك من قيم وأفكار ومعتقدات، وقد ترقى عملية عدم قبول الآخر إلى حالة ناتجة عن تعارض تخيلي للمصالح والقيم. إن الطبيعة البشرية مجبولة على الاختلاف والتنوع، وما البشر إلا شعوب وقبائل مختلفة العادات والمعتقدات تتعارف وتتآلف، وعطفا على ذلك فإن الأصل ألا يشكل الاختلاف تهديدا ولا يثير ذعرا، أما الوحدانية المطلقة فهي من صفات الخالق عز وجل، وعلى العكس فإن صفة البشر وفطرتهم التعددية والاختلاف. بعض الفلاسفة يرون أن الحب مثل الكراهية وليس نقيضا لها، إذ إنه درجة من درجات الاهتمام بالآخر، بيد أن عدم الاكتراث هو نقيض الحب، فلكي تقبل الآخر ليس مطلوبا منك أن تحبه وبالضرورة ألا تكرهه، بل قبول الآخر هو شعور محايد تجاهه، فلذلك هذا أقصى ما يطلب منك للوصول لمعادلة تعايشية منصفة وحيوية. لكن ما هو خطير ومقلق حقا تبني نهج المعادلة الصفرية تجاه الآخر، ويعني ذلك أن يرتبط مكسبك بالضرورة بخسارة الطرف الآخر، والأسوأ حين يعتقد صاحب ذلك النهج الاقصائي أن ذلك لابد أن يكون مُطلقا أي مكسبًا كاملا مقابل خسارة كاملة، وهذا يشبه حالة السارق والمسروق منه، فمقدار ما يكسبه السارق مساوٍ تماما لما يخسره المسروق منه، أي المجني عليه، فالسرقة تتيح للسارق مثلا أن يربح شيئا ولكن ما ربحه هو بالضبط ما خسره الآخر، بينما المعادلة غير الصفرية في اطار قبول الآخر تتيح للطرفين، أو لكل الأطراف، الربح وبالتالي يسود السلام الاجتماعي، إذ إن الحالة المغايرة للمعادلة الصفرية هي حالة التوازن في الحقوق والواجبات بين الأطراف وهي سبب رئيس في تحقيق الاستقرار في مجتمع من المجتمعات. ولكي ندرك أهمية الآخر ومن ثم ضرورة وحتمية قبوله والتعايش معه، يجب أن نسأل من هو الآخر المطلوب قبوله؟ فالآخر بالضرورة هو غيرك، ولكن قد يكون قريبا جدا منك، مثل أفراد عائلتك وفيهم الأب والأم، والأخ، والأب، والزوجة، وقد يكون ابن القبيلة، والجار، وابن البلد، وكذلك كل من تجمعه بك الإنسانية في فضائها العريض. وقبول الآخر ينسجم ويتناغم مع قبول الرأي الآخر، وعدم إقصاء الآخر والتعايش مع الآخر، وعليه يجب الاقرار بأن تقبل الآخر عملية تربوية تستجيب لحقيقة أن الإنسان بفطرته كائن اجتماعي، وهي عملية تتضامن عدة جهات في غرسها وجعلها جزءًا من عملية التنشئة الاجتماعية كالأسرة والمدرسة والدولة. وقبول الآخر عملية تواصلية وحوارية، وبالتواصل تتراكم المعرفة ويزداد تبادل الخبرات وتتنوع التجارب لدى الأفراد، فالحوار يثري الذكاء عبر عملية متبادلة وعلاقة تكافُئِية تبتعد تماما عن المعادلة الصفرية المعتلة. وثقافة الاختلاف تتطلب احترام وجهات نظر الآخرين، وأن اختلاف الآراء والأفكار درجة من درجات التفكر والتدبر، التي تعد ظاهرة صحية لا تنحو إلى تسفيه آراء الآخرين والتقليل منها ومصادرتها، فالاختلاف لا يفسد للود قضية، وكلما كان المجتمع أكثر استعدادا للتعايش والانسجام والتقارب والتناغم، كان المجتمع أكثر تطورا وتقدما واستقرارا. وعلى المستوى الوطني فإن قبول الآخر بين الكيانات والفعاليات السياسية يرسخ لتداول السلطة وتقنين ظاهرة الاختلاف كظاهرة طبيعية في السياسة، ومن ثم تحقيق هدف النظام السياسي، وهو حفظ الدولة والمجتمع من التفكك عبر آلية التداول السلمي للسلطة، مع الاشارة إلى أن غياب قبول الآخر يجعل المعادلة الصفرية حاضرة في العلاقات بين اطراف الوطن الواحد من خلال سرقة طرف لحقوق طرف آخر، فتكون سببا للانقلابات والصراعات إما بقصد استعادة حقوق أو بقصد الاستحواذ. إن قبول الآخر على مستوى العلاقات الدولية كان قد مهد في عصور مضت إلى نشاط حركة الترجمة خلال الخلافة العباسية في القرنين الثاني والثالث للهجرة، فقد تمكن المترجمون من ترجمة أهم المؤلفات اليونانية إلى العربية فغدا باب الانفتاح على الحضارات الأخرى مشرعا وازدهرت المعارف مما أثرى الحركة الثقافية والعلمية في ذلك الوقت. [email protected]

8256

| 29 مايو 2021

دولة القانون ومحك استقلال القضاء

ثلاثة مرتكزات أو سلطات تقف عليها دولة القانون؛ السلطة القضائية، والسلطة التشريعية (البرلمان)، والسلطة التنفيذية (الحكومة)، في الخرطوم اليوم تبدو الدولة عرجاء عرجاً مُقعداً، فلا سلطة تشريعية قامت أصلا منذ أبريل 2019، فيما تلقى القضاء والنيابة العامة ضربة قاتلة، فدخلت البلاد في ما يشبه الفراغ الدستوري، بضربة واحدة أقال السلطة الانتقالية رئيس القضاء وقبلت استقالة النائب العام الذي ظل مغاضباً تنازعه لجنة بمسمى لجنة إزالة التمكين ظلت تستجمع في يدها سلطات تنفيذية وقضائية وتشريعية في آن واحد في ظل تجاهل السلطة الانتقالية لتصرفاتها إلا من انتقادات متفرقة وخجولة وبشكل فردي من حين لآخر. وفيما ظلت الهيئة القضائية تشكو لطوب الأرض من تدخلات السلطة التنفيذية وتعطيلها للعدالة بشكل مكتوم، وكذلك شكا النائب العام بشكل جهير، استخدمت السلطة الانتقالية مبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع، فوجهت مع قرارها إقالة رأس السلطة القضائية وقبول استقالة النائب العام، انتقادات حادة لكلا الاثنين رئيسة القضاء والنائب العام، متهمة إياهما ببطء سير عمل الأجهزة العدلية والنيابية في تقديم العديد من المتهمين للمحاكمات وكشف الجرائم، فوقع عليهما حال من ألقاه مولاه الجبار في اليم، وقال له إياك إياك أن تبتل، فبعد أن رفع النائب العام صوته وقبل أن تتبعه رئيسة القضاء، كان لابد من ضربة مزدوجة توحي من ناحية بجدية السلطة في إرساء العدل وإعمال القانون ومن ناحية أخرى الحيلولة دون تحول الخلل في الجهاز القضائي لقضية رأي عام كاسح تصعب مواجهته. مع سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل 2019 وتولي سلطة انتقالية (عسكرية – مدنية) زمام السلطة في البلاد، وُعد الشعب السوداني بقيام نظام ديمقراطي تسود فيه دولة القانون القائمة على استقلال السلطات الثلاث، غير أن من تولوا الأمر نسوا على ما يبدو وضع خمر السلطة في أكواب العدل، وما دروا أن غياب العدل يصنع الثورة وهو أقل تكلفة من الظلم. لقد ظلت تدابير الانتقال نحو الديمقراطية عرجاء؛ إذ لم تتم تهيئة القضاء وتعزيز استقلاليته، إذ يشكل الدعامة الأساسية التي تحمي الديمقراطية وتقويها من خلال فرض سيادة القانون وإعطاء بعد قوي للمؤسسية، فاستقلال القضاء يعد مدخلاً أساسياً وحقيقياً للانتقال نحو الديمقراطية، ومن ثمّ مقاربة مختلف القضايا والملفات بنوع من الجرأة والنزاهة والموضوعية. وفقا للوثيقة الدستورية وهي دستور الفترة الانتقالية، فإن مجلس السيادة الانتقالي يعتمد تعيين رئيس القضاء وقضاة المحكمة العليا ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية بعد ترشيحهم من قِبل مجلس القضاء العالي، لكن هذه الوثيقة التي تم تعديلها أكثر من 4 مرات منذ العمل بها في أغسطس 2019 بحجج ومزاعم كثيرة، لم تطبق بنودها المتعلقة بالجهاز القضائي؛ فلمَ تشكيل مجلس القضاء العالي وقد أوشكت الفترة الانتقالية على الانتهاء، فرئيسة القضاء المقالة عينها مجلس السيادة على هواه، كما انطبق ذات الأمر على النائب العام، وتقول الوثيقة الدستورية: "يعتمد المجلس تعيين النائب العام بعد ترشيحه من قِبل المجلس الأعلى للنيابة العامة"، لكن كذلك لم يتم تشكيل المجلس الأعلى للنيابة، فعين مجلس السيادة النائب العام المستقيل، وحتى بعد إقالة رئيس القضاء، فإن ذات النهج بدا مستمرا من خلال تحركات محمومة للسلطات السياسية الحاكمة لتعيين رئيس القضاء الجديد. بموجب القانون الدولي فإن استقلال القضاء يتمثل في عدم جواز أن تقع سلطة التعيينات القضائية في يد جهة سياسية واحدة لا سيما السلطة التنفيذية ويمثل مجلسا السيادة والوزراء السلطة التنفيذية. وبالضرورة فإن استقلالية القضاء تعني عدم وجود أي تأثير مادي أو معنوي أو تدخل مباشر أو غير مباشر وبأية وسيلة في عمل السلطة القضائية، كما تعني أيضا رفض القضاة أنفسهم لهذه التأثيرات والحرص على استقلاليتهم ونزاهتهم. في جانب آخر من وجه العدالة وسيادة القانون كانت ما تسمى بلجنة إزالة التمكين التي يتولى أمرها سياسيون معلومة انتماءاتهم السياسية، قد بدأت برفع وتيرة استهدافها للنيابة العامة، عقب موافقة النائب العام المستقيل على فتح بلاغات ضد عضو بتلك اللجنة الذي دخل في تناوش علني مع النائب العام إثر تصاعد الخلافات بين الطرفين بعد عزم اللجنة إنهاء خدمة 56 من رؤساء النيابة ووكلائها، إلى جانب فصل 56 من القضاة، ولعل المقصود من ذلك تمكين منسوبي الأحزاب التي ينتمي لها أعضاء اللجنة في سلك القضاء والنيابات، كما تم فصل الآلاف بين موظفين وسفراء ومسؤولين، فضلا عن اقتحام النقابات والمؤسسات والمقار الصحفية والإعلامية بالقوات المدججة بالسلاح، وإغلاقها. وكان النائب العام المستقيل يتساءل بمرارة: هل يمكن للقاضي المفصول أن يستأنف إلى لجنة إزالة التمكين؟، وفي النهاية خيّر النائب العام مجلس السيادة بين بقائه في منصبه ولجنة إزالة التمكين، وفي حين أن اللجنة تتحجج بصلاحيات منحتها لها الوثيقة الدستورية وتصف قراراتها بـ"الثورية" تتغاضى في نفس الوقت عن بنود ونصوص بذات الوثيقة تنص على استقلال القضاء وتساوي المواطنين أمام القانون بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والعقدية، وهكذا انطبق عليهم قول الفيلسوف برنارد شو "عندما يريد الرجل أن يقتل نمرا يسميها رياضة وعندما يريد النمر قتله، يسميها شراسة"، وظلت اللجنة لا تسمح للمواطنين بالاستئناف ضد أحكامها وقراراتها وتعطيل إجراءات الاستئناف في غياب كامل ومتعمد للمحكمة الدستورية العليا ملاذ الاستئناف الحصين. وبلغ العسف الذي لازم قرارات وإجراءات اللجنة مبلغا أن اضطر رئيس لجنة إزالة التمكين وهو جنرال كبير وعضو بمجلس السيادة لتقديم استقالته، مبينا أن هنالك انتقادا مستمرا من كافة مستويات الحكم ومعظم المكونات السياسية لقانون ونهج عمل اللجنة، وأيضا عدم مباشرة لجنة الاستئنافات لعملها، مما أعاق دورة العدالة، فضلاً عن التهاتر المستمر بيننا وبقية أجهزة ومؤسسات الدولة وفي وسائل الإعلام. [email protected]

3018

| 22 مايو 2021

انتخابات مبكرة.. مخرج طوارئ

مع سيل دماء جديدة تحت مقصلة الصراعات السياسية في السودان بعد فض ثانٍ لمتظاهرين ليلة 29 رمضان المنصرم قرب قيادة الجيش السوداني بالعاصمة الخرطوم، بدت تعقيدات الأزمة السودانية شاخصة بعد انسداد كلي في مخارج الحلول؛ فهناك واقعٌ مأزوم أصبح يستعصي على فهم كل من تحدثه نفسه الاحاطة به؛ وهو برمته مشهد بانورامي مدهش أو بالأحرى مفزع، أشبه بلوحة سيريالية ألوانها متداخلة بشكل فوضوي، تناقضات وتقاطعات بدون نهايات أو خواتيم، إنها حلقة مفرغة ودوامة تبتلع كل أمل في فجر جديد. حادثة الفض أشعلت من جديد الصراع بين طرفي السلطة الانتقالية المدنيين والعسكريين، فالمدنيون وهم قلوبهم شتى وجهوا سهام الاتهام للعسكريين لا سيما ما يعرف بقوات الدعم السريع، بينما قال العسكريون انه "تم قفل محيط القيادة العامة من مبدأ حماية المواطنين وحتى لا يتم استغلال المسيرات من جهات لها أجندة ترمي لإجهاض مسيرة الانتقال وخلق فتنة بين الشعب وقواته المسلحة". لكن الحقيقة تقول ان الشباب الغض الذين يُدفع بهم في أتون صراع عدمي، بينما المحرضون يقفون من وراء حجاب، هم ليسوا إلا وقودا لهذا الصراع. إن إشكالية السلطة تكمن في أنها رغبة جامحة عند بني البشر بيد أن بعضهم ينحو إلى انتزاعها بغير الوسائل الشرعية، والسلطة السياسية. وإزاء تلك الحالة ألقى العسكريون بورقة الانتخابات في وجه المدنيين الذين يحاذرونها ويخشونها؛ فقد جدد الجنرال شمس الدين كباشي عضو مجلس السيادة عدم تمسك وتشبث الجيش بالسلطة، مبينا أنه بموجب الوثيقة الدستورية التي تحكم فترة الانتقال، شريكة في الحكم، ولا تمانع في حال اتفاق الجميع على تقليص الفترة الانتقالية والدخول في انتخابات مبكرة يتم فيها التداول السلمي للسلطة من خلال خيارات المواطن للفائز فيها. وسواء كان عرض الانتخابات كلمة حق أريد بها باطل أو دعاية سياسية ظرفية وخلط الأوراق، فإن كل أدوات التغيير تبدو غير مجدية لا المحاولات الانقلابية ولا حتى الانتفاضة الجماهيرية في ظل غياب أي تأمين ضد سرقتها كما حدث في ثورات الربيع العربي وكذلك في 2019 عقب الاطاحة بالرئيس السابق عمر البشير؛ فلم يبق إلا بروز صراع قبلي وجهوي مسلح سيقضي حتما على ركائز الدولة السودانية. ليس التخلف الاقتصادي في السودان والذي كان مدعاة للاحتجاجات التي أطاحت بالبشير، كان بسبب نقص الموارد الطبيعية، ولكن كان ولا يزال بسبب عجز الحكومات المتعاقبة بعد الاستقلال عن إدارة الموارد التي تزخر بها البلاد. لا يذكر السودان إلا وتذكر خيراته الزراعية والحيوانية والمائية فضلا عن مخزونات هائلة من المعادن أبرزها الذهب، ويزخر إقليم دارفور وحده بكميات هائلة من اليورانيوم. لكن هذه الثروات لا تنعكس على اقتصاد البلاد بسبب سوء إدارتها، فعدم الاستقرار السياسي كان السمة الغالبة لفترة ما بعد الاستعمار أي (65) عاماً. كذلك فالسودان بلد متعدد القبائل واللغات والاعراق والأديان وبدلا أن يكون هذا التنوع مصدر قوة إلا أن النظام السياسي في السودان فشل في إدارته ومن ثمّ تحول هذا التعدد إلى عامل ضعف. بعد مرور نحو 8 أشهر على اتفاقية السلام الموقعة بين السلطة الانتقالية وعدة جماعات سودانية متمردة، بهدف إنهاء سنوات من الصراعات المسلحة في البلاد في اكتوبر 2020 لا يبدو أن مقايضة تقسيم غنائم السلطة بالسلام بيع رابح إذ تضمن الاتفاق بروكوتولات لتقاسم السلطة، وتقاسم الثروة. لكن قوات هذه الجماعات دخلت العاصمة بعد الاتفاق ودون الشروع في بروتوكول الترتيبات الأمنية مما يزيد من خطر انفجار الصراع المسلح داخل المدن هذه المرة. ومع بريق ورقة الانتخابات الملوح بها من قبل العسكريين إلا أنها تبدو حاليا حلما من أحلام اليقظة ليس لعدم جدية كل أطراف الحكم الحالي الذين نالوا مكاسب بدون هذه الانتخابات في ظل شكل من أشكال الحكم الشمولي فحسب، ولكن الانتخابات تبدو بعيدة المنال، ففقهاء القانون الدستوري يقولون ان جدية الانتخابات تعرف من "مجموعة الخطوات التي تبدأ بتحديد موعد الانتخابات وتنتهي بالاعلان الرسمي عن نتائجها" وهذا ما لم يتم البت فيه بل حتى الحديث عنه حتى من باب الدعاية السياسية، فلم تشكّل السلطة الانتقالية حتى اللحظة مفوضية قومية للانتخابات. ولو صلُحت نوايا الحاكمين في الخرطوم اليوم وهذا أمر مشكوك فيه، فإن عملية الانتخابات قضية حتمية لتأسيس حكم راشد لمصلحة الشعب والدولة لكون الانتخابات محصلة لحالة ديمقراطية يفترض أن تتوافر فيها شروط وضمانات وحريات وحقوق ثابتة، خاصة وأن غياب الديمقراطية كان الأمر الغالب على فترة ما بعد الاستقلال الأمر الذي تسبب في حالة عدم الاستقرار المزمنة في البلاد. فالنظم العسكرية كانت تريدها مسحوقاً تجميلياً يخفي الكوابح المفتعلة في طريق التبادل السلمي للسلطة. وظلت سمة الأنظمة العسكرية السابقة، ان ﺭﺋﺎﺳﺔ ﺍﻟﺤﺰﺏ الحاكم الذي تصنعه على عجل ﻫﻲ ﺭﺋﺎﺳﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ، في الوقت الذي يفترض فيه أن الرئاسة هي ﺑﻨﻴﺔ ﻭﻫﻴﻜﻞ وليست شخصا، وغالبا ما تكون هناك ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻏﻴﺮ ﺭﺳﻤﻴﺔ غير منظورة تقوم بدور ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﺮﺳﻤﻴﺔ. إن الأصل الفلسفي لقيام الانتخابات يتمثل في رغبة الفصل بين الحاكم كشخص، وبين السلطة باعتبارها وظيفة، ليصبح الأساس في ممارسة السلطة التفويض الشعبي بما يترتب على ذلك من تقييد لسلطات الحاكم، استنادا إلى مبدأ حكم القانون. فالانتخابات هي الوسيلة التي تمكن المواطنين من المشاركة، في عملية اتخاذ القرارات. وعن طريقها يمكن لهم قبول أو رفض الخيارات السياسية، وفي الوقت ذاته قبول أو رفض من يطرحون هذه الخيارات. وطالما الهدف ارساء الديمقراطية فالانتخابات تأتي أولا لا تسبق الديمقراطية بأي حال من الأحوال. [email protected]

1344

| 15 مايو 2021

عقدة المنشار.. مأزق العدالة

المبالغة في تصوير الصراعات الاجتماعية والسياسية هو شأن الروايات، فالمبالغة أداة عند المؤلف لترويج وتسويق وتشويق روايته بغية الاستحواذ على القارئ، لكن "رواية" حاضر الصراع السياسي في السودان بدت واقعية بكل دراميتها بدون تدخل، فهي ذاتية التفرد والغرابة والاحتدام والاصطراع، وكأن شياطـين السياسة هربت بعد أن كثرت أعـداد السياسيين الذين يقومون بواجبهم، فانزوت في بقايا جدران إرم ذات العماد، التي غضب الله على أهلها فهلك من هلك وهجرها من هجرها. في سياق "الرواية" السودانية وحيث المباغتة سلاح ماضٍ يقصم ظهر الخصم قصما؛ وفي اطار مباغتة تكتيكية، طالب أحد المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية بأن يمثل أمام المحكمة بدلاً من أن يمثل أمام قضاء السودان في ظل السلطة الانتقالية الحالية. وقال أحمد هارون أحد قادة نظام الرئيس السابق عمر البشير، إنه قد يكون في المحكمة الجنائية نجاشي آخر الزمان لا يُظلم عنده أحدٌ، رغم علمه بأن تلك المحكمة مسيسة وأنشئت لمحاكمة الأفارقة ودول العالم الثالث، وقد ظل هارون يرفض المثول أمام المحكمة الدولية لنحو 20 عاما لسبب يعتبره مبدئيا، وهو عدم المثول أمام قاض أجنبي لما فيه من طعن في القضاء السوداني. ويبدو أن هارون وهو قاض ووزير داخلية أسبق، قد وضع الجنائية الدولية تلكم العنقاء أمام حالة استثنائية تماما؛ فكيف سيتبدى حالها أمام متهم يطلب المثول أمامها، ودولته ستماطل ممانعة خوفا من أن يبقى الحبل على الجرار، فتورط افاداته شخصيات متنفذة اليوم. في ذات الوقت لن تكون المحكمة سعيدة، وهي أداة سياسية للقوى الدولية لخلط أوراق اللعبة السياسية في السودان الذي غدا دولة حليفة لتلك القوى التي تتخفى وراء لافتة المجتمع الدولي، الذي تتماهى الخرطوم اليوم مع خططه واستراتيجياته، فأي عقدة وضعها هارون في المنشار؟. وبعيدا عن الجدل القانوني بشأن تحديات إقرار العدالة في ظل وضع سياسي هش ومضطرب، فإن هارون بدا سياسيا ماهرا رغم ظروف اعتقاله المعلومة، إذ إنه أراد أن يقول للمنظمات الحقوقية الدولية إن العدلة في السودان منتهكة ومستباحة. ويأتي اتهام هارون متوافقا مع انتقاد مندوبة واشنطن لدى الأمم المتحدة التي قالت الأسبوع الماضي: "في هذه المرحلة الانتقالية على الحكومة السودانية تحمل كامل مسؤوليتها في حماية المدنيين. وللسودان خطة شاملة لحماية كافة المدنيين في البلاد، لكن الخطة مجرد حبر على ورق". لقد تحول خصوم هارون بخطوته الجريئة من وضعية الهجوم إلى وضعية الدفاع، وفقدوا ورقة ضغط طالما ظلوا يستخدمونها وهي تسليم المطلوبين للمحكمة الدولية، إذن فالرجل كما وصفه البعض، قام بعملية انزال مظلي خلف صفوف أعدائه، فأصبحوا في حيص بيص، فعلى خصومه أن يعملوا بدلا من الضغط عليه بورقة المحكمة وبعضهم كانوا قادة ميدانيين أيام استعار حرب دارفور، أن يخلصوا رقابهم، وقد يسعون لتسوية أوضاع هارون وبقية المعتقلين بتسريع إجراءات تقديمهم لمحاكمات ناجزة وعادلة. اليوم "الرواية" السودانية غارقة في وحل تحديات عدالة مشكوك فيها، فغبار الاصطراع السياسي ران على صفاء العدالة فجعلها باكية منتحبة، ولم تكن تلك التحديات منحصرة في توفير العدالة لقادة ورموز النظام السابق باعتبارها حقا تكفله عدالة السماء قبل عدالة الأرض، وانما هذه التحديات تحاصر فترة ما بعد سقوط نظام الرئيس البشير؛ فرغم أن من مبررات الانقلاب على البشير أنه كان بصدد اصدار قرار بفض اعتصام الجماهير أمام قيادة الجيش، فإن من تسلموا السلطة منه هم من قاموا بفض الاعتصام بعد شهرين، عقب استلامهم السلطة واستمرار الاعتصام، وسالت فيه دماء كثيرة وما زال عمل اللجنة المكلفة بالتحقيق في تحديد المسؤولين يراوح مكانه. ومن تحديات العدالة اصرار السلطة الانتقالية على تعيين رئيس القضاء، متجاوزة نص الوثيقة الدستورية، الدستور المؤقت للفترة الانتقالية التي نصت على تعيينه من مجلس القضاء العالي، كما تم تعطيل المحكمة الدستورية وحرمان المعتقلين من الاستئناف لديها. كما أن هناك تصريحات موثقة لأحد قادة الفترة الانتقالية يقول فيها إنهم يفضلون مواصلة حبس المعتقلين حتى لا ينالوا أحكاما مخففة إذا ما قدموا لمحاكمات. لقد ظلت المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بالسودان تحديدا أداة للاستخدام السياسي؛ خارجيا كانت القوى الفاعلة في المجتمع الدولي ناقمة على نظام الرئيس عمر البشير فتم استخدامها لاسقاط النظام في الخرطوم، وعندما سقط فلم يعد المجتمع الدولي متحمسا للمضي قدما في تقديم المطلوبين للمحاكمة، بل فترت همة المجتمع الدولي حينما ابدى البشير تعاونا فيما سمي بالحرب على الارهاب، وحينها اصيبت المدعية العامة للمحكمة بإحباط شديد، وأعلنت في عام 2016 في تقرير لها لمجلس الأمن أنها جمدت التحقيقات وحفظت ملف جرائم الحرب في دارفور، بسبب عدم تحرك المجلس للضغط من أجل اعتقال البشير وبقية المطلوبين للمثول أمام المحكمة. وفي السنوات اللاحقة لم يتخذ المجلس خطوات جدية عدا التجديد الروتيني للقرارات المتعلقة بدارفور، بيد أن الأمر ترك دون حل جذري حتى تبقى المحكمة أداة ابتزاز وسيفا مسلطا على نظام الخرطوم، إذ كان بالامكان انهاء الملف بتسوية كان يمكن أن يوافق عليها البشير، ففي ظل استحالة القبض على رئيس الدولة، وهو على سدة الحكم، إذ ينافي ذلك القواعد المستقرة في القانون الدولي والسوابق القانونية المتعلقة بحصانة رؤساء الدول، كان من الممكن أن يوافق البشير على محاكمة المسؤولين الآخرين داخل السودان وعبر القضاء الوطني مع موافقة المحكمة الجنائية على ايجاد صيغة تمكنها من المراقبة أو الإشراف الجزئي أو الفني، خاصة وأن نظام المحكمة الجنائية ينص على أن دورها بمثابة دور تكميلي لدور المحاكم الوطنية. [email protected]

2138

| 08 مايو 2021

هجرة الموت مأساة لم تحرك ضميراً

شباب كزهور الحديقة نضارة وألقا وعطرا، رفعوا شارة النصر وهم يبتسمون أملا حيث تضيق مساحات الأمل فيما هم مقدمون عليه لتصل لحيز يقترب من الصفر. أولئك الشباب الذين لم يتعد عمر أكبرهم عشرين عاما، كانوا في حاجة إلى جبل من القوة والعزم ليعادلوا وزن حبة من الأمل. وهكذا الشباب دائما عاصف التوثب ضاري، فلم يجعلوا من اليأس الذي يمسك بتلابيب وطنهم قيدا يخنق الأمل فيهم، فقرروا ركوب رحلة الموت الزُّعاف. قبل غرقهم في بحر لجيٌّ يغشاه موج من فوقه موجه، قام أفراد عصابات الاتجار بالبشر بتصويرهم بغرض الترويج لاسم عصابتهم (التجاري) حتى يقع في براثن طمعهم المزيد من الشباب وطلاب الهجرة إلى أوروبا، فكان يطلب منهم القول بأنهم مغادرون إلى جنة أوروبا في مركب فلان بن فلان. لم تدر تلكم الزهور اليانعة أنها بين الأباطح يغشاهم بها الغدر، فحين ضاقت بهم قساوة الأوضاع في أوطانهم. فقبل سويعات من مغادرتهم وهم قد يدرون أو لا يدرون أن ليس في هذا البحر المتوحش سِوى الروم خلف ظهرهم روم. وألا موانئ سوى الموت سيرسون فيها ويبق من بعد ذلك الأنينُ هويّة أهلهم وذويهم. لم تمض سويعات ويا ويح قلوب أمهاتهم إلا وقد امتلأت رئاهم الغضة بماء مالح، مرة بعد مرة حتى سكنت أنفاسهم للأبد. في بحر الأسبوع الماضي وفي عرض البحر غرق قارب يحمل نحو 130 مهاجراً قبالة السواحل الليبية. بابا الفاتيكان وصف المأساة بأنها لحظة عار. فيما التزمت حكومات الدول الأوروبية الصمت ومعها حكومة موطن الضحايا. المنظمة الدولية للهجرة ومفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، قالت ان الحادث يمثل الخسارة الأفدح من حيث عدد الضحايا منذ مطلع العام الجاري. العار كذلك أبى إلا أن يكون حاضرا حتى بعد وقوع الكارثة؛ فقد كشفت المتحدثة باسم المنظمة أن عددًا من الدول لم تستجب لدعوات التحرك سريعًا لنجدة ما يزيد على مائة شخص، رغم إرسال نداءات استغاثة متكررة. بدورها اتهمت ما يعرف بمنصة "هاتف الإنذار"، السلطات الأوروبية بالتعنت الكبير فيما يتعلق بالتجاوب مع نداءات البحث عن المفقودين، والاكتفاء بما قام به خفر السواحل الليبي. وكل ما استطاعت المفوضة الأوروبية المكلفة بشؤون الهجرة عمله أنها عبرت عن حزنها لغرق قارب المهاجرين. للأسف ان جهود تجمع إقليمي مثل الاتحاد الأوروبي يحوز على امكانات مادية ولوجستية لا تحدها الحدود، انحصر في معالجة ملف الهجرة من خلال البحث الحثيث عن طرق لصد المهاجرين القادمين إلى دوله وكأنه بصدد أسراب من الذباب. وفقا للمنظمة الدولية للهجرة أنه في العام الماضي 2020 غرق نحو 2276 شخصا أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا بحرا. وكشفت المنظمة أن أكثر من 22 ألف شخص غرقوا منذ 2014 في الطرق البحرية الأربعة الرئيسية المودية إلى أوروبا. اليوم طوفان موجات اللجوء نحو أوروبا جعل مشكلة اللجوء تقفز إلى قمة أجندة المشاكل الدولية المزمنة خلال السنوات الأخيرة، حيث ضاقت أوروبا بها ذرعا وطفقت تلتمس الحلول بكل السبل الميكافيلية وفي أي مكان وبأي وسيلة وطريقة. ولم يعد المشكل كما كان في السابق مجرد ترف تنشغل به الحكومات والمنظمات الطوعية لإظهار "إنسانية" العالم المتحضر وللتعويض النفسي جراء الشعور بالتقصير تجاه عالم استعمروه سنين عجافا فدمروا كل شيء فيه فطفق أبناؤه يزحفون نحو الجاني علهم يجدون في قلبه رأفة لكن هيهات. الإثم الأوروبي دعا منظمة أطباء بلا حدود التي تتخذ من جنيف مقرا لها لرفض أي تمويل لأنشطتها الانسانية مصدره الاتحاد الاوروبي، وقالت ان ذلك جاء احتجاجا على سياسات الردع المخزية التي ينتهجها وتكثيفه الجهود لابعاد المهاجرين عن الشواطئ الاوروبية. ولئن لم يتمكن العالم المتحضر المزوّد بكل أسباب القوة من فرض الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة على الأنظمة الديكتاتورية بسبب تضارب المصالح، فليكن ذلك بممارسة النفاق عبر حلول جزئية تذر الرماد على العيون ولا تقرب الحلول الجذرية والمستدامة. في عام 2016 رأت أوروبا أن أفضل استجابة لأزمة اللاجئين، التطلع إلى بلدان أخرى لحل هذه المشكلة نيابة عنها مقابل بعض الفتات المالي وربما التطبيع وكسر العزلة الدولية لدى البعض الآخر. وكشفت قناة ألمانية عن تسريب وثيقة سرية رسمية تؤكد سعي المفوضية الأوروبية للتوصل إلى اتفاق مع أربع دول أفريقية، بحيث تلتزم باستعادة لاجئيها من أوروبا. وذلك مقابل مزايا تشمل فتات مساعدات وتسهيلات بتأشيرات دخول الدبلوماسيين للبلدان الأوروبية. ولم يكن في خلد المفوضية أن تفوح رائحة هذا الاتفاق، ولولا أنه يجلب العار لما شدد سفراء الاتحاد الأوروبي خلال اجتماع لهم بشأنه على أهمية عدم تسرب الوثيقة للرأي العام الأوروبي. الأمر المدهش حقا أن وثيقة الاتفاق تعرضت لأوضاع حقوق الإنسان في الدول الأفريقية الأربع، ووصفتها بالكارثية، بيد أن سوء هذه الأوضاع - وفقا للوثيقة - لا يمنع التعاون القوي مع تلك الدول في المجالات الأمنية. منظمة هيومان رايتس ووتش ردت غاضبة: "من السخرية وغير المتصور تعاون الاتحاد الأوروبي الذي تأسس على قاعدة من القيم، مع حكومات مستبدة تحتقر الحقوق الإنسانية، لمجرد الرغبة في منع اللاجئين من الوصول إلى أوروبا". ولا غرو فالميكافيلية في الأصل ثقافة أوروبية فيما يسمونه بالتنظير السياسي الواقعي وهي تسمية مخففة لسياسة "الغاية تبرر الوسيلة". نذكر أن من مقولات ميكافيلي: "إنها متعة مضاعفة عندما تخدع المخادع". لا شك أن أولئك الضحايا قد هاجروا من وطنٍ استبد ضيق العيش وفقدان الأمن والأمان ورغم ذلك فقد أحبُّوه بكل مشاعرهم، فهي أرض طاهرة قدَّسوها بكل ما تحمل من تراث الأجداد وميراثهم. بلادي وإن جارت عليا عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليا كرام [email protected]

1991

| 01 مايو 2021

أفريقيا.. لعنة الموارد واللون

صورة أفريقيا النمطية أنها قارة الانقلابات العسكرية والصراعات الحادة والاضطرابات السياسية المتطاولة، وهي صورة تتكئ على حقيقة عرجاء من ورائها حقيقة أساسية أخرى؛ فكون راهن القارة يجسد تلك الصورة، إلا أن هذا الراهن الذي يؤزها أزا رسّخ له الاستعمار الغربي بدءا من عام 1870، واللعنة التي أصابت هذه القارة، أنها ثرية ثراءً فاحشا بالموارد الطبيعية فوق الأرض وتحتها، والطامعون فيها يرون أن إنسانها لا يستحق هذه الثروات، تأسيسا بنظرة عنصرية مصدرها الأساسي كتاب التوراة المحرف؛ ففيه زعم بأن سواد البشرة إنما أصله لعنة نوح لابنه حام؛ ومن ثم حفدته، وهو ما أسس للتفرقة العنصرية والتمييز اللوني عبر الحقب، هذه الأسطورة تمكنت وانتشرت في أوروبا منذ ما قبل العصور الوسطى. تحتل أفريقيا المكانة الثانية من حيث المساحة بين قارات العالم، حيث تمثل نحو 22 % من مساحة اليابس، وهي مستودع وترسانة للمواد الأولية، ولم يكد يتم استغلال ما يزيد على الطبقة السطحية من أرضها حتى اليوم، ومع ذلك فإنها تنتج ما يقرب من 98 % من إنتاج العالم من الماس و55 % من ذهبه و22 % من نحاسه مع كميات ضخمة من معادن جوهرية مهمة كالمنجنيز والكروم والأورانيوم، وتقدر احتياطيات النفط الخام في أفريقيا بنحو 125.8 مليار برميل، فيما بلغ الإنتاج اليومي، نحو 8.4 مليون برميل، كما تنتج أفريقيا حوالي ثلثي كاكاو العالم وثلاثة أخماس زيت النخيل، وأرضها فيها احتياطيات لا نهاية لها من القوة المائية كما ينمو في أرضها أي نبات في العالم، ومع أنها تضم نحو 13 % من سكان العالم إلا أن نصيبها من الناتج العالمي لا يتعدى 1.6 %. وكرد فعل لآثام الاستعمار التي ضربت جحافله أفريقيا والحامل لجرثومة العنصرية من لدن ذلك التحريف ثم تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، نشأت فكرة الزنجية أو النغريتية، ومنها تحولت نحو "الأفريقية" في غرب القارة ومن هنالك وفدت الفكرتان الأخيرتان إلى شرق أفريقيا بعد الاستقلال، ولم يكن استغلال الاستعمار البشع للقارة يقف عند نهب مواردها وثرواتها الطبيعية فحسب، وإنما طال ذلك الاستغلال الإنسان الأفريقي وحريته، وكرامته، فقد أشار أحد تقارير منظمة اليونسكو، إلى أن ما فقدته أفريقيا من أبنائها في تجارة الرقيق يقدّر بنحو 210 ملايين نسمة، مُعظمهم من الشباب والرجال الأقوياء، وهو ما ساهم في حرمان القارة من الأيدي العاملة الحقيقية، وتعميق تخلفها الاقتصادي. والملاحظة الجديرة بالتأمل، أن ما قبل الاستعمار الأوروبي شهدت القارة استقراراً وازدهارا خلال فترة العصور الوسطى (ما بين القرنين الثامن والسادس عشر) بسبب قيام ممالك أفريقية إسلامية، سادت رِدحا من الزمن في شرق القارة وغربـها، وساهمت هذه الممالك إسهاماً إيجابياً في نقل الحضارة والفكر الإسلامي والعربي إلى تلك المناطق، وبقيت النظم السياسية التقليدية تعمل مع إضافات إيجابية غرستها الحضارة العربية والإسلامية، بيد أن الاستعمار الأوروبي قضى على طبيعة النظام السياسي التقليدي، فكان الفرق في الاستقرار السياسي بين أفريقيا التقليدية وأفريقيا ما بعد الاستعمار، يكمن في أن طبيعة وراثة الزعيم في أفريقيا التقليدية جعلت الشعب في العادة يُدرك إجراءات توليه المنصب بعد الرئيس، ويعرف بسهولة وسلاسة النهج المتبع لتحديد خليفة له في حالة الانتقال؛ وذلك لارتباط السلطة بمركز الزعيم وليس بشخصه، بعكس أفريقيا اليوم المثخنة بجراحات الاستعمار، حيث أضحت فيها شخصية الرئيس المؤسس تلقي ظلالاً كثيفاً على كينونة الدولة ذاتها، وفي مدى إمكانية استمراريتها في غياب الزعيم. فقد عَمد الاستعمار إلى إزالة زعامات قديمة بما فيها ممالك ودول، كما شكّل زعامات حديثة صغيرة في معظم الأحيان، ولم يكن التغيير في كِلا الحالتين إلا وجهاً من وجوه العنف المدمّر، الذي ابتدعه الاستعمار، ولم ينتج عنه سوى تكريس التخلف وتنميته، ونتج عن هذا النسيج السياسي المصطنع أن أصبحت الانقلابات العسكرية الآلية الرئيسية لانتقال السلطة في القارة بدعم وإدارة من المستعمر من وراء البحار. لقد اقتسم المستعمرون الأوروبيون القارة الأفريقية، وكأنها خالية من السكان وكأن لا تاريخ لها، ولا كيانات سياسية فيها، ولا علاقات تربط بين شعوبها. واقُتسمت قطعا مُستطيلة أو مُربعة، تفصل بينها حدود مُستقيمة أو بحيرة، أو مجرى نهر، أو سواه؛ فجزأوا شعوبا أجزاء، وشرذموها أممًا، وجاء مؤتمر برلين 1884- 1885م ليضع خريطة تقسيم أفريقيا التي كان يُطلق عليها المستعمرون وقتها "أرض بلا صاحب"، وليقنن السباق الاستعماري الأوروبي، ويحدّد لكل دولة من الدول حدود مستعمراتها الجديدة. وبعد أن استقلت المستعمرات الأفريقية، نشأت فيها عدة مشاكل تحتاج إلى معالجة دقيقة للعودة إلى الأصول، وللجمع بين الشعوب الممزقة على أسس تاريخها وإثنيتها، وما إلى هذه الإثنية من عادات وتقاليد ومعتقدات، وما فيها من ثوابت اجتماعية وعرقية، وسياسية، فقد كانت القناعة الاستعمارية تنطلق من قاعدة خبيثة مؤداها ضرورة قيام حرب شاملة تُدمّر كل الهياكل والأشكال السياسية والاجتماعية والاقتصادية القديمة، حتى يتسنى للدولة القائدة ترتيب القارة الأفريقية بما يتوافق ورؤيتها، خاصة أن أساس السياسة الغربية، قائم على قاعدة الفك والتركيب. إن ما يجري اليوم في تشاد بعد مقتل رئيسها الجنرال إدريس ديبي الأسبوع الماضي وغيابه بشكل دراماتيكي عن المشهد التشادي يمثل نموذجاً للعبث الاستعماري بدول هذه القارة المكلومة، صحيح أن التغيير عموماً والسياسي خصوصاً، سنة من سنن الحياة في كل مكان وزمان، إلا أن التغييرات السياسية الحادة تكاد تسم مجمل الأوضاع السياسية في أفريقيا فينتج عنها استمرار دوامة الاضطراب وعدم الاستقرار فتلكم بيئة ملائمة لاستمرار نهب مقدرات القارة واستعباد إنسانها. [email protected]

2187

| 24 أبريل 2021

موسكو وواشنطن.. احتمالات الحرب الباردة

على الرغم من أن ما يعرف بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق قد انتهت رسميا قبل 32 عاما، إلا أنها ظلت قائمة بصورة أو أخرى، إذ لم ينته التنافس والصراع بين القوتين العظميين. ولعل المصطلح استخدم لوصف حالة الصراع بدون المواجهات العسكرية، كما كان الحال إبان الحرب العالمية الثانية التي وضعت أوزارها في 1945، بيد أن حالة استقطاب عمت العالم كله فانقسم بين حلفاء للاتحاد السوفييتي وحلفاء للولايات المتحدة. اليوم بدا العالم قلقا من تصاعد حدة التراشق الأمريكي الروسي، لا سيما بعد انتخاب جو بايدن مرشح الحزب الديمقراطي رئيسا للولايات المتحدة. أمس الأول الخميس بلغت التجاذبات بين القوتين الأعظم درجة الغليان، حين قامت واشنطن بطرد دبلوماسيين روس، قالت إنهم قاموا بأعمال ضد الولايات المتحدة، وهدد بايدن أنهم بإمكانهم الذهاب إلى ما هو أبعد من هذه العقوبات، وتضمن الاجراء الأمريكي حزمة واسعة من العقوبات ردا على تدخل روسيا الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وعلى دورها في هجوم إلكتروني واسع طال أمريكا نهاية 2020، وعلى دورها في أزمة أوكرانيا، موسكو ردت بسرعة وتوعدت بالرد على واشنطن بالمثل، مهددة بأن ردها لن يتأخر. قد لا نسمي التجاذب اليوم حربا باردة من حيث أنه لا يصل لدرجة استقطاب كل دول العالم، إذ على الأقل تبدو الصين بكل جبروتها العسكري والاقتصادي على مسافة بعيدة من كلتا القوتين المتصارعتين. ورغم أن حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي وبريطانيا قد عبروا عن دعم القرار الأمريكي، إلا أن الظروف قد اختلفت تماما عما كان في الفترة من منتصف الأربعينيات حتى أوائل التسعينيات؛ فلا شيوعية راديكالية تسعى الولايات المتحدة لاستئصالها بحشد الحلفاء في أوروبا الغربية والشرق الأوسط، ولا دعم ستقدمه روسيا للحركات الشيوعية حول العالم، سيما في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية ودول جنوب شرق آسيا. فخلال تلك الفترة، ظهرت الندية بين القوتين العظيمتين عبر التحالفات العسكرية والدعاية المكثفة وتطوير الأسلحة والتقدم الصناعي وتطوير التكنولوجيا والتسابق الفضائي، مع تصاعد الإنفاق الضخم على الدفاع والترسانات النووية. اليوم في ظل نذر هذه الحرب التي قد نسميها تجاوزا حربا باردة قد تزدهر بين الغريمين الحروب غير المباشرة باستخدام الوكلاء في عدد من مناطق العالم الملتهبة، حيث الموارد والأسواق. وفيما اختلف الغريمان سابقا اللذان كانا حليفين في الحرب العالمية الثانية ضد قوات المحور في كيفية إدارة حقبة ما بعد الحرب العالمية وإعادة بناء العالم، فإنهما اليوم يتسابقان على الاستحواذ على موارد العالم وسرقتها، وكذلك على الأسواق التي تستوعب منتجاتهما وصناعاتهما، والتي تتمثل في أوروبا والشرق الأوسط والشرق الأدنى وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وقد حرص بايدن على تغليف حقيقة الصراع بعناوين أخرى، فهو يقول إذا استمرت روسيا في الاعتداء على «ديمقراطيتنا فنحن مستعدون لتصعيد خطواتنا» في اشارة إلى مزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية. [email protected]

2082

| 17 أبريل 2021

alsharq
حدود العنكبوت

حينَ شقَّ الاستعمار جسدَ الأمة بخطوطٍ من حديد...

3693

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
انخفاض معدلات المواليد في قطر.. وبعض الحلول 2-2

اطلعت على الكثير من التعليقات حول موضوع المقال...

2193

| 03 نوفمبر 2025

alsharq
العالم في قطر

8 آلاف مشارك بينهم رؤساء دولوحكومات وقادة منظمات...

2085

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
حين يصبح النجاح ديكوراً لملتقيات فوضوية

من الطرائف العجيبة أن تجد اسمك يتصدر أجندة...

1290

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
نظرة على عقد إعادة الشراء

أصدر مصرف قطر المركزي في التاسع والعشرين من...

939

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
الكفالات البنكية... حماية ضرورية أم عبء؟

تُعدّ الكفالات البنكية بمختلف أنواعها مثل ضمان العطاء...

936

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
خطاب سمو الأمير خريطة طريق للنهوض بالتنمية العالمية

مضامين ومواقف تشخص مكامن الخلل.. شكّل خطاب حضرة...

906

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
نحو تفويض واضح للقوة الدولية في غزة

تسعى قطر جاهدة لتثبيت وقف اطلاق النار في...

876

| 03 نوفمبر 2025

alsharq
مِن أدوات الصهيونية في هدم الأسرة

ما من ريبٍ أن الحلم الصهيوني لم يكن...

867

| 02 نوفمبر 2025

alsharq
عمدة نيويورك

ليس مطلوباً منا نحن المسلمين المبالغة في مسألة...

759

| 06 نوفمبر 2025

alsharq
الانتخابات العراقية ومعركة الشرعية القادمة

تتهيأ الساحة العراقية لانتخابات تشريعية جديدة يوم 11/11/2025،...

705

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
التعلم بالقيم قبل الكتب: التجربة اليابانية نموذجًا

لفت انتباهي مؤخرًا فيديو عن طريقة التعليم في...

681

| 05 نوفمبر 2025

أخبار محلية