رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. سعد الحلبوسي

مساحة إعلانية

مقالات

120

د. سعد الحلبوسي

الانتخابات العراقية ومعركة الشرعية القادمة

04 نوفمبر 2025 , 04:36ص

تتهيأ الساحة العراقية لانتخابات تشريعية جديدة يوم 11/11/2025، وسط مشهد سياسي لا يمكن وصفه إلا بأنه خليط من الإنهاك الشعبي، والتموضع الخارجي، ورغم كثافة المرشحين وتعدد القوائم، فإن القصة لا تبدأ من الأرقام ولا تنتهي عندها؛ فصناديق الاقتراع في العراق لا تُقرأ بما تفرزه، بل بما يختبئ خلفها.

منذ عام 2003، لم تكن الانتخابات في العراق حدثًا ديمقراطيًا محضًا بقدر ما كانت آلية لإعادة إنتاج النفوذ وتدوير مراكز القوة بأدوات مختلفة، فكل دورة انتخابية تأتي تحت شعار «الإصلاح»، لكنها تنتهي إلى ذات المأزق: بنية دولة ممزقة بين ولاءات ما قبل الوطنية، ونظام سياسي يفتقر إلى القدرة على صناعة القرار المستقل، والمشكلة لا تكمن في شكل الانتخابات بل في جوهر السلطة التي تظل خاضعة لتوازنات لا علاقة لها بالصندوق ولا بإرادة الناخب.

المعضلة المركزية التي تظلل المشهد ليست في من يترشح أو يفوز، بل في من يثق ومن يعزف، فالعراقي الذي أنهكته الوعود يدرك أن الاقتراع لا يغير قواعد اللعبة، لأن هذه القواعد نُفذت بأيدي الطبقة نفسها التي راكمت السلطة والثروة منذ الاحتلال الأمريكي، وعليه، فإن انخفاض نسبة المشاركة لن يكون مجرد رقم في سجلات المفوضية، بل استفتاء غير معلن على مشروعية النظام بأكمله.

أما الولايات المتحدة، من جانبها، لا تريد عراقًا مستقلاً بقدر ما تريد عراقًا مستقِرًّا، والفارق كبير بين الاستقلال والاستقرار؛ الأول يعني أن القرار في العراق يُصنع في بغداد، والثاني يعني أن البلد يبقى هادئًا بما يكفي ليمر النفط بسلام، ولهذا، تمارس واشنطن نفوذها بوسائل مالية ودبلوماسية دقيقة: «الدولار كسلاح سياسي، والمساعدات الأمنية كأداة ابتزاز ناعمة»، فهي لا تبحث عن نصر في العراق، بل عن عدم خسارة جديدة بعد أفغانستان.

وأما إيران، فهي لم تعد تراهن على ضجيج المليشيات ولا على الشعارات العقائدية، بل على تثبيت حضور مؤسسي هادئ داخل بنية الدولة العراقية نفسها، فهي تدير التوازن لا الصدام، وتراهن على الزمن أكثر مما تراهن على من يتزعّم مقاليد الحكم في العراق. وبين هذين القطبين، يطلّ رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في امتحان دقيق: يريد أن يقدّم نفسه كزعيم إصلاحي قادر على ترميم هيبة الدولة، لكنه مكبل بتوازنات داخلية وخارجية معقدة، ويحاول الإمساك بالعصا من الوسط، وهو يدرك أن الولاية الثانية تمر عبر الكهرباء والرواتب والخدمات أكثر مما تمر عبر الخطابات الرنانة.

غير أن الخطر الأكبر في الانتخابات المقبلة لا يأتي من الخارج وحده، بل من الداخل؛ من الكيانات التي وُلدت من رحم الفوضى، تراكمت قوتها بالاقتصاد والولاء العابر للحدود، فإن هي اندمجت، استقرت الدولة، وإن تمردت، تهاوت أركانها، لذلك، فإن معركة الشرعية الحقيقية ليست بين القوائم الانتخابية، بل بين الدولة الحكيمة والدولة العميقة.

وفي مقابل هذه التعقيدات، يطلّ الفاعل الإقليمي العربي والتركي بدور أكثر براغماتية، فأنقرة تتعامل مع بغداد من بوابة الأمن والاقتصاد والمياه، وتسعى إلى شريك يضمن حدودًا آمنة وممرات تجارية نحو المتوسط، بينما تنتهج العواصم الخليجية «سياسة الاقتصاد الناعم»، عبر الاستثمار والطاقة والربط الكهربائي، ومحاولة استعادة العراق إلى فضائه العربي دون صدام، وهذه مقاربة هادئة تعوّل على المصالح لا على الشعارات.

ويبقى المشهد برمته أقرب إلى رقعة شطرنج معقدة؛ فيها من يريد الاستقرار، ومن يريد النفوذ، ومن يبحث عن التوازن، والعراقي الذي يبحث عن دولة، أما الصندوق الانتخابي فليس إلا ساحة اختبار لهذا الصراع المركب، الذي يُدار بعقول خارجية وأيادٍ محلية.

ومن هنا تكون السيناريوهات المحتملة بعد الانتخابات ثلاثة:

الأول: إعادة إنتاج الوضع القائم بشكل محسّن؛ أي حكومة توافقية جديدة تُعيد توزيع المقاعد بلا تغيير جوهري في قواعد اللعبة. الثاني: توازن جديد قد يفرز قوى إصلاحية أو مستقلة تفرض حوكمة أكثر صرامة على المال والسلاح، وهذا احتمال ضعيف لكنه ليس مستحيلاً. الثالث: اهتزاز سياسي وأمني ناتج عن مشاركة هزيلة وصراع على رئاسة البرلمان والحكومة، ما يفتح الباب أمام تدخلات إقليمية ودولية لضبط الإيقاع ومنع الانفجار.

ومهما كان السيناريو، فإن الحقيقة الجوهرية تبقى واحدة: لا يمكن بناء دولة بعقلية المكونات، ولا بسياسة الترضيات، فالعراق، بحضارته العميقة وذاكرته التاريخية، لا يمكن أن يدار كإقطاعية مصالح، بل يحتاج إلى عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، ويضع السلاح والثروة والسيادة تحت مظلة واحدة هي الدولة الوطنية المستقلة العادلة. فالرهان الحقيقي على من يعيد للعراقي ثقته بنفسه، وإيمانه بقدرته على بناء وطن يُدار بالعقل لا بالولاء، وبالمصلحة العامة لا بالمحاصصة، عندها فقط، تتحول الانتخابات من مشهد شكلي إلى مفتاحٍ لنهضة مؤجلة، وتصبح الانتخابات العراقية أداة وعي لا طقسًا موسمياً.

مساحة إعلانية