رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

إرهاب باريس ضد الحضارة والإنسانية

«هذا رعب.. باريس تتعرض لسلسلة هجمات إرهابية غير مسبوقة»... بهذه الكلمات لخص الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الصدمة الإرهابية أو بالأحرى «العمل الحربي»، الذي عاشته باريس إثر تعرضها لاعتداءات غير مسبوقة ليل الجمعة ـ السبت، جرى التخطيط لها في الخارج، وتم تنفيذها بتواطؤ من قبل عناصر محلية. فعند الساعة العاشرة مساء الجمعة، توجهت سبع مجموعات مسلحة، في وقت واحد نحو أهدافها في باريس، نحو مطعم ومسرح في الدائرة العاشرة والدائرة الحادية عشرة، وبعض الجادات في قلب المدينة، ونحو ملعب «ستاد دو فرانس»، في ضاحية سان دوني القريبة..وأطلقت المجموعة الأولى النار على رواد مطعم كمبودي في شارع «اليبير» في الدائرة العاشرة، وهو شارع سياحي معروف يفضي إلى ساحة الباستيل، وتوجهت مجموعة ثانية من ثلاثة مسلحين، نحو مسرح «الباتاكلان»، وتسللت من الأبواب الخلفية وبدأت بإطلاق النار على رواد يتابعون عزف فرقة روك أمريكية. وأودت هذه الهجمات الإرهابية بحياة 140 شخصاً في آخر حصيلة رسمية فيما جرح نحو 300 آخرين جراءها، بينما أفادت الأجهزة الأمنية الفرنسية عن مقتل 8 إرهابيين من الذين شاركوا في هذه الاعتدءات.لقد تخطت هذه الوحشية الإرهابية في باريس مرحلة تاريخية، وهي من دون شك تأتي كردّ فعل مدروس ومخطط له بعناية على التدخل الفرنسي في الحرب ضد «تنظيم الدولة الإسلامية »-«داعش» في سوريا، لكن من دون إغفال أن الخطر الإرهابي أصبح متجذراً على الأرض الفرنسية. وكانت العاصمة الفرنسية، بل كل فرنساـ عاشت تحت وقع الصدمة، من جراء الهجوم الإرهابي الذي وقع يوم الأربعاء 7 يناير 2015 على مقر الصحيفة الأسبوعية المتخصصة في الرسوم الكاريكاتيرية «شارلي إيبدو»، الذي أودى بحياة 12 شخصاً، منهم 4 رسامي كاريكاتير، إضافة إلى 11جريحاً. وأظهرت الأحداث الدامية التي شهدتها فرنسا، مع بداية عام 2015 ولغاية الآن، قصور قدرات وكالات التجسس ومكافحة الإرهاب التي تملك، في كثير من الأحيان، معلومات عن الجناة مسيقاً، لكنها تعجز عن تجميع كل الخيوط إلى أن تسيل الدماء.. وقال بروس ريدل، وهو من كبار المحللين السابقين بوكالة المخابرات المركزية «السي أي إيه»، «المشكلة بالنسبة للمخابرات وأجهزة الأمن الفرنسية أن المواطنين الفرنسيين الذين ذهبوا إلى سوريا أو العراق أو غيرها للمشاركة في الجهاد ثم عادوا أكثر من أن يمكن متابعتهم جميعا على مدار 24 ساعة يوميا».. وأضاف ريدل، «إذا لم يخالفوا أي قوانين، فلا يمكن لأجهزة المخابرات في العالم الديمقراطي أن تلقي القبض عليهم أو تراقبك بصفة دائمة لمجرد أنك جهادي متعصب». متابعا، «المخابرات لن تتنبأ متى يتحول متعصب من شخص متشدد الفكر إلى إرهابي يؤمن بالعنف في أغلب الأحوال».ومما عقد الأمر سفر آلاف الأجانب للمشاركة في القتال في صفوف الجماعات الإسلامية المتشددة في سوريا، مثل تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، و«جبهة النصرة»، وبدأ كثير منهم يعودون الآن إلى أوطانهم بما اكتسبوه من خبرات قتالية... وعادة ما تظهر التحقيقات في أعقاب هجمات المتشددين أو محاولتهم شن هجمات أن وكالات التجسس كان لديها معلومات مسبقة كان من الممكن أن تشير إلى أن هؤلاء المشبوهين يمثلون خطرا وشيكا، لو أنه تم ربط خيوط المعلومات على النحو السليم.في ظل أجواء هذه الهجمات الإرهابية على باريس، يختلف المحللون الغربيون في توصيفهم لمضمون الموجة الحالية من الإرهاب الجديد، ولاسيما بشأن العلاقة الارتباطية بين الإرهاب والإسلام. فعلى الرغم من أن الإرهاب موجود في العديد من الدول، ويصيب بدرجة أو بأخرى العديد من الحضارات والثقافات، فإن بعض المفكرين الغربيين، يركزون على أن الإرهاب لا يمثل شكلا من أشكال الصراع الدولي، بقدر ما يمكن النظر إليه باعتباره حروب المسلمين، سواء فيما بينهم أو بينهم وبين غير المسلمين، وهي حروب قد تتطور إلى صدام كبير للحضارات بين الإسلام والغرب، أو بين الإسلام وبقية العالم. ولا تعود إلى طبيعة المعتقدات الإسلامية، وإنما تعود إلى السياسات والأوضاع العامة في العديد من الدول الإسلامية، مثل حالة الانبعاث الإسلامي، وتعرض الشعوب العربية والإسلامية للإهانات المتواصلة من قبل حكوماتها، ومن قبل القوى الاستعمارية الغربية والشرقية بتدخلاتها العسكرية في شؤونها، إضافة إلى وجود أكثر من 100مليون شاب عاطل عن العمل، وأكثر من 40 مليون أمي، وتزايد التدخلات العسكرية الغربية والشرقية في كل من العراق، وليبيا، وسوريا، والشعور بالظلم والامتعاض والحسد تجاه الغرب، والانقسامات الإثنية والطائفية والمذهبية في العالم العربي والإسلامي وارتفاع معدلات الولادة في معظم الدول الإسلامية، وعجز المجتمعات العربية- الإسلامية عن تحقيق إصلاحات داخلية جذرية.

207

| 19 نوفمبر 2015

أزمة حزب «النداء» وعودة التوريث

أكدت الأزمة السياسية الأخيرة في «حزب نداء تونس»، أنها ليست أزمة ناجمة عن خلافات أيديولوجية وسياسية أو خلافات في البرامج والخيارات الاقتصادية، بقدر ما هي صراعات وحرب مواقع حول «التموقع» المستقبلي سواء للأفراد أو للتيارات التي تشكل هذا الحزب. وتنذر هذه الأزمة الداخلية في حزب «نداء تونس» بتفككه على ضوء انقسامه إلى جناحين، واحد مؤيد للسبسي الابن والثاني مؤيد لمحسن مرزوق أمين عام الحزب.ويبدو أن الرئيس التونسي الذي نجح في جمع الدستوريين في حزب علماني هو النداء وخاض به الانتخابات التشريعية والرئاسية وفاز فيهما، يجد نفسه اليوم بين نارين فإما أن يضحي بابنه نائب رئيس الحزب أو بأمينه العام مرزوق وهو أيضا من المقربين منه، والذي يضع نصب أعينه أن يصبح رئيساً في قصر قرطاج. وتكمن خطورة أزمة حزب«نداء تونس» في التداعيات التي ستتركها على صعيد عمل مؤسسات الدولة في ظل تجربة ديمقراطية هشة، وعلى صورة تونس، وعلى الاستحقاقات الانتخابية القادمة، التي من دون شك ستكون سلبية. فمن تداعيات هذه الأزمة داخل حزب «نداء تونس»، سيناريو حدوث الانقسام في كتلته البرلمانية (86 نائباً)، فإذا ما انقسم الحزب إلى قسمين، أصبحت الكتلة الممثلة له أقل عددا من الكتلة الثانية (حركة النهضة 69 نائبا)، وسيشهد المشهد البرلماني آنذاك انقلابًا جذريًا. فالمشهد البرلماني بنيت هيكليته وموازين القوى فيه على تراتبية واضحة وحلف بين الأحزاب الأربعة(النداء، والنهضة، واتحاد الوطني الحر، وآفاق تونس) مما شكل أغلبية مهمة مكنت الحكومة من الحصول على رقم قياسي من الأصوات بلغ 166 صوتًا، بيد أن هذا الرقم أصبح قابلاً للقسمة بعدما تشبث عدد من نواب نداء تونس (أكثر من 30) بالخروج من كتلة النداء وتشكيل «كتلة موازية»، ولئن كان قرارهم المبدئي الإبقاء على موقفهم الداعم للحكومة، فإن فرضيات التقارب مع أحزاب أخرى بدأت تتأكد بشكل تصاعدي. ويمكن أن يؤدي الانشقاق إلى انسحاب إحدى الكتلتين من الأغلبية، وتبقى رغم ذلك الحكومة قائمة، وقد تتحول إلى حكومة أقلية وتواصل مهامها ولكن تكون في هذه الحالة حكومة ضعيفة سياسيا، ولكن ضعفها لن يؤثر على وجودها وعلى استمرارها. ويمكن أن يمتد تأثير الانشقاق في الكتلة البرلمانية لحزب «نداء تونس» نحو تركيبته التنظيمية، إذ من المحتمل أن ينشأ من صلب الأزمة حزب جديد يكون على شاكلة ظروف نشأة الحزب أي حزب«نداء تونس». وكان هذا التصدع الذي يعيشه حزب «نداء تونس» متوقعًا لأن قيادات الحزب هذا اجتمعوا حول الرفض لمشروع حزب« النهضة الإسلامي» ولم يجتمعوا حول مشروع وطني ديمقراطي واضح. ويتهم يساريو حزب«نداء تونس»، التيار الدستوري الذي يستمد مرجعيته من الحزب الاشتراكي الدستوري الذي كان أسسه الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في ثلاثينيات القرن العشرين والذي يقوده حافظ قائد السبسي، بأنه يسعى إلى جرّ الحزب إلى تحالف مع حركة النهضة وإلى تجريده من هويته كحزب ديمقراطي حداثي. فالجناح الذي يقوده حافظ قائد السبسي يعتمد على مجموعة من رجال الرئيس السابق بن علي، أي «الرافد التجمعي »المنتمين السابقين (لحزب التجمع)، داخل الحزب وضع حد لسيطرة اليساريين والنقابيين، الذين يشغلون اليوم أكثرية «المواقع القيادية العليا في الحزب»، وأن المنتمين السابقين للتجمع يرون في السبسي الابن «الحليف المناسب» لإنهاء سيطرتهم. وكذلك يسعى السبسي الابن إلى التقرب من حركة النهضة لتثبيت أقدامه. والحال هذه، قد نكون أمام إعادة إنتاج «قضية» التوريث بإخراج جديد تبدأ على الصعيد الحزبي وقد تنتهي إلى قصر قرطاج الذي أبى بورقيبة أن يؤهل ابنه لدخوله رئيسا بعده، وحاول بن علي تأهيل زوجته وأحد أصهاره للإبقاء على الحكم في إطار"العائلة"، مسألة يتعين على «حزب نداء تونس »أخذها بعين الاعتبار. وهناك مخاوف حقيقية في تونس الآن من سعي الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي من تثبيت ابنه كوريث له في الحكم بالاستناد إلى أقلية محافظة. فالرئيس الباجي قائد السبسي أصبح ماهراً للغاية في العلاقات العامة. فهو يجيد استخدام لغة الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والأسواق الحرة، فيما يُثابر على الحفاظ على الأدوات القديمة والاعتباطية في عملية اتخاذ القرار. وخلال ما بات يعرف بـ«الربيع العربي» في السنوات الخمس الماضية، سقطت الأنظمة العربية فيما يمكن تسميته «الجُمْهوريانيّة السُلالية»، وهو شكل من أشكال الحكومات يُترجم نفسه تقريباً بتعبير الإرْداف الخلفي: «الرئاسة الملكية»، هاهو الرئيس الباجي المنتخب ديمقراطيا، يريد أن يحافظ على الهيمنة العائلية على الحكومة التونسية، لكي تختصر الدولة التونسية إلى مجرد أدوات لتعزيز المصالح الخاصة والشخصية، بدلاً من تحقيق المصلحة العامة.

220

| 06 نوفمبر 2015

التوافق وإعادة إنتاج الأزمة التونسية

في حوار عبر صحيفة الشرق القطرية، أكد زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، على ضرورة «الديمقراطية التوافقية»، إذ برهنت تونس قدرة القوى الإسلامية والعلمانية على التعايش والتوافق الديمقراطي. وأماط زعيم حركة النهضة اللثام عن سر تجاوز تونس للمرحلة الانتقالية وذلك عبر نقطتين، أولاهما: إن حركة النهضة — كما يقول — رفضت أي قانون للإقصاء برغم أننا كنا الأغلبية في البرلمان، وكنا قادرين على سن القوانين ورفضنا وصف كل من اشتغل في عهد بائد بأنه مجرم؛ ولأن الإقصاء يدفع أي مجموعة للعنف والاستغلال الأجنبي. ولو أقر قانون حظر العمل السياسي لمن عملوا مع بن علي لدخلت تونس في منعرج خطير.أما النقطة الثانية لنجاح تونس، فهي أن المراحل الانتقالية لا يصلح فيها الانفراد بالحكم حتى لو جاء عبر صناديق الاقتراع، مشيراً إلى إن الائتلاف الرباعي الحاكم يضمن مصلحة البلد والجميع يدرك عدم قدرته على الانفراد بالحكم. وعلى هذا الأساس نجحت تونس وسقطت ثورات الربيع العربي خلال مرورها بالجسر الانتقالي من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، حيث الإقصاء والسعي للانفراد بالحكم مما جعلها تنتهي بما لا تحمد عقباه. لكن زعيم حركة النهضة يجزم بأن كل المجتمعات العربية سائرة نحو الحرية والديمقراطية لكن بأوقات مختلفة وبأثمان مختلفة وبدون تراجع. فالعالم العربي بدأ تاريخًا جديدًا عام 2011 ولن يتوقف. يُشَّبِهُ العديد من التونسيين هذه «الديمقراطية التوافقية »بمولود جديد ناجم عن زواج غير شرعي، بين اليمين الليبرالي بزعامة حزب« نداء تونس» واليمين الديني بزعامة حزب «النهضة الإسلامي»، والذي أفرز تشكيل حكومة الحبيب الصيد، المتكونة من أربعة أحزاب سياسية، هي «النداء» و«النهضة» و« الاتحاد الوطني الحر» و« آفاق تونس»، وهي أحزاب جميعها ذات توجّه ليبرالي.. وفيما كانت الحكومة السابقة بقيادة حزب «النهضة الإسلامي» تلقب بــ «حكومة الترويكا» نظراً لمشاركة حزبين صغيرين فيها، هما: حزب المؤتمر وحزب التكتل، عقب انتخابات 23أكتوبر 2011، فإن الحكومة الحالية التي يترأسها الحبيب الصيد تلقب بــ «الكواترو» أي «الرباعية». في تقويم موضوعي لنتائج تجربة «الديمقراطية التوافقية» في ظل حكومة الحبيب الصيد، يمكن القول إن الأحزاب الأربعة يجمعها قاسم مشترك، ألا وهو الإيمان بالليبرالية الاقتصادية، والاندماج في نظام العولمة الليبرالية عبر الاعتماد على المؤسسات الدولية المانحة والدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، من أجل الحصول على القروض، وجلب الاستثمارات، واتباع نهج التنمية الذي كان سائدًا خلال العقود الخمسة الماضية، والذي وصل إلى مأزقه مع بداية الألفية الجديدة، واندلاع الثورة مع بداية 2011.. فقد كانت للأزمة الاقتصادية والمالية العالمية لسنة 2008-2009، تداعيات خطيرة على الاقتصاد التونسي، لجهة أنها كشفت بصورة جلية مأزق نمط التنمية المتبع في تونس، القائم على ثلاثة قطاعات أساسية، هي:-قطاع صناعة المنسوجات والملبوسات الذي يعتمد على اليد العاملة الرخيصة. -قطاع الصناعات الصغيرة والمتوسطة، الذي يقوم بتصنيع قطع الغيار الميكانيكية والكهربائية والإلكترونية، التي تأتي مادتها الأولى من الخارج ثم تعود إليه، من دون الارتباط بحلقات إنتاجية أفقية. وفضلاً عن ذلك، اصطدم قطاع الصناعات الصغيرة والمتوسطة بعوائق بنيوية، منها غياب الشفافية ودولة القانون التي تحمي استثمارات القطاع الخاص، ومحدودية فرص الحصول على تمويل من جانب المستثمرين المحليين، الأمر الذي يجعل هذا القطاع الصناعي غير قادر على خلق فرص عمل جديدة.- قطاع السياحة الذي يشكل مصدر الدخل الثالث من العملة الصعبة للبلاد، فهو موجه لذوي الدخل المتوسط والضعيف من الأوروبيين. وفي ظل الأزمة العالمية التي تعيشها بلدان الاتحاد الأوروبي، وتفاقم ظاهرة الإرهاب في تونس، تقلص عدد الوافدين من السياح الأوروبيين إلى تونس. ويجمع الخبراء على أن هذه القطاعات في مجملها لا توفّر فرص عمل كافيةً للوافدين إلى سوق العمل مِمّن هم على درجة عالية من التعليم، الذين ارتفع عددهم إلى نحو 80000 سنويا.والحال هذه أبقت حكومة «الديمقراطية التوافقية» التي أسسها تحالف حركتي «النداء» و«النهضة» على نفس تلك المنظومة الاقتصادية والاجتماعية المأزومة التي تشكلت تاريخيًا واستطاعت التداخل مع الدولة، الأمر الذي أدّى إلى مزيد من تفقير الفقراء وإثراء الأثرياء، وإعادة إنتاج شروط الأزمة الهيكلية التي تعاني منها تونس، لاسيَّما بعد تخلّي حزب «النداء» من خلال الحكومة عن الجانب الاجتماعي في تصوره «الاجتماعي الديمقراطي»، وتغلّب الشق اليميني في الحكم على حساب إمكانية تغليب العمل على رأس المال، أو على الأقل التخفيف من التناقض التاريخي بينهما.

266

| 30 أكتوبر 2015

أزمة (حزب نداء تونس)

تحول «حزب النداء» الطرف المهيمن في الائتلاف الحاكم في تونس إلى «الرجل المريض» بسبب الأزمة الهيكلية التي يعاني منها، والتي تفاقمت بعد وصوله إلى السلطة عقب نجاحه في احتلال المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية التي جرت في 26 أكتوبر 2014، حين نجح في قلب المعادلة السياسية في البلاد بتمكنه بعد عامين من تأسيسه من صياغة خارطة حزبية جديدة لعل من إيجابياتها إحداث توازن مع حركة النهضة رغم ثنائية الاستقطاب وسلبياتها وتبعاتها. وتعمقت أزمة الحزب لأنه لم يعقد مؤتمره رغم كثرة الحديث عن المواعيد المؤجلة لعقده، لا قبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية ولا بعدها، وهذا يضع علامات استفهام كثيرة حول الديمقراطية داخله وبالتالي يستنقص من شرعية هياكله وقياداته. ولم تكن هذه الأزمة الهيكلية التي شهدها «حزب النداء» مفاجئةً في شيء للمتابعين والمحللين للمشهد السياسي التونسي، ذلك أن هذا الحزب الذي منحه قسم كبير من الشعب التونسي، لاسيَّما الطبقة المتوسطة، الأكثرية، لاعتقادها أنه الحزب الأوفر حظاً لإلحاق الهزيمة بمشروع الإسلام السياسي المتمثل في انفراد حركة النهضة بالمشهد السياسي التونسي منذ انتخابات 23 أكتوبر 2011، لم يكن منذ تأسيسه سوى «تحالف» انتخابي للحد من هيمنة النهضة أكثر من كونه حزب يتمتع بمرجعية فكرية وبرنامج اقتصادي ومجتمعي وثقافي لبناء مجتمع جديد، ودولة وطنية ديمقراطية في مرحلة ما بعد الانتقال الديمقراطي تلبي أهداف الثورة التونسية. ولهذا صدم الشعب التونسي والرأي العام، وبطبيعة الحال قاعدته الانتخابية، حين أقدم على تشكيل الحكومة الجديدة مع «حزب النهضة الإسلامي»، ضمن ما بات يعرف في تونس بـ«الديمقراطية التوافقية».بعد أن أصبح الحزب في قبة البرلمان المنتخب بنحو 86 نائباً، وأصبح رئيسه السيد محمد الناصر، وهو من حزب «نداء تونس»، اتخذ الزعيم التاريخي للحزب السيد الباجي قائد السبسي قرارا بأن يصبح السيد محمد الناصر الرئيس المؤقت للحزب، وكل من ابنه حافظ قائد السبسي، المشرف على الهيكلية بالحزب، وفاضل عمران رئيس كتلة نداء تونس بمجلس نواب الشعب، أعضاء داخل الهيئة التأسيسية للحزب، التي أصبحت بهذه الإضافة تضم 14 عضواً. وتمت التزكية للقرار من قبل جميع الأعضاء باستثناء الطيب البكوش الذي رفض الإمضاء. وكان الناطق الرسمي للحزب السيد الأزهر العكرمي صرّح للصحافة التونسية بأنه تم رفض إضافة كل من حافظ قائد السبسي ومحمد الناصر وفاضل عمران إلى الهيئة التأسيسية لنداء تونس، باعتبارها الهيئة التي تمثل الشرعية التاريخية للحزب، نظرا لغياب إمضاء الأمين العام الطيب البكوش على وثيقة الإضافة للهيئة التأسيسية، حيث إن القانون المنظم للأحزاب في فصله الثاني يشترط الإجماع في إضافة عضو أو أكثر. وبما أن الطيب البكوش لم يمض على الوثيقة المذكورة ولم يوافق على الإضافة فإن وجود قائد السبسي الابن ونائب رئيس الحزب ورئيس الكتلة النيابية للنداء هي مسألة غير شرعية وغير قانونية وهو ما سيعيد الهيئة التأسيسية إلى تركيبتها الأصلية دون زيادة أو نقصان، المتكونة في الوقت الحاضر من 11 عضواً. لقد كشفت الأزمة السياسية الأخيرة في «حزب نداء تونس»، أنها ليست أزمة ناجمة عن خلافات أيديولوجية وسياسية أو خلافات في البرامج والخيارات الاقتصادية، بقدر ما هي صراعات وحرب مواقع حول «التموقع» المستقبلي سواء للأفراد أو للتيارات التي تشكل هذا الحزب، لاسيَّما مع اقتراب موعد انعقاد أول مؤتمر للحزب، الذي سيفرز هياكل منتخبة،لاسيَّما موقع الأمين العام للحزب، باعتباره من أشد المعارك الساخنة، نظرا لعلاقتها بمعركة توريث حافظ قائد السبسي على رأس قيادة الحزب.

317

| 25 أكتوبر 2015

الحركة التنويرية التونسية وجائزة نوبل للسلام

تلقى الشعب التونسي بكل اعتزاز قرار الهيئة المنظمة لجائزة نوبل للسلام الجمعة9 أكتوبر الجاري، عن فوز المنظمات الوطنية الأربع:(الاتحاد العام التونسي للشغل، الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين)، الراعية للحوار الوطني في تونس بجائزة نوبل للسلام للعام 2015، إذ يرى فيه اعترافًا دوليًا صريحًا بدور المجتمع المدني التونسي في إنقاذ مسار الانتقال الديمقراطي في مرحلة دقيقة مرت بها تونس. وكان الرباعي الراعي للحوار في تونس سنة 2013، تشكل إثر أزمة سياسية وأمنية عصفت بالبلاد، تمثلت في اغتيالات سياسية وأعمال إرهابية أودت بحياة زعيمين للمعارضة اليسارية والقومية، وعدد من الجنود في مرتفعات جبل الشعانبي غرب البلاد على الحدود التونسية-الجزائرية. ومن الجدير بالذكر أن هذه المنظمات الأربع تنتمي جميعها إلى المجتمع المدني، وإن اثنتين منها تشكلتا في مرحلة النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، قبل استقلال تونس في العام 1956. أما نقابة المحامين فقد تأسست بعد الاستقلال (في العام 1958) و«رابطة حقوق الإنسان» تم تأسيسها العام 1977، وبرزتا في طور الدفاع عن الحريات العامة والحريات الخاصة، والنضال الديمقراطي من أجل افتكاك الحقوق السياسية والمدنية من قبضة السلطة الديكتاتورية. وتنظر النخب العربية إلى هذا التتويج الدولي لتونس بمنحها جائزة نوبل للسلام، عبر الرباعي الراعي للحوار الوطني، بأنه لم يكن صدفة ولا حدثا طارئا أو مفاجئا بل كان التتويج الطبيعي لمسار طويل من الحركة الإصلاحية التونسية بمدونتها التنويرية والتحديثية العميقة والعريقة، التي بدأت منذ القرن الثامن عشر، واستمرت حتى حصول تونس على استقلالها في 20مارس 1956. وقد كانت لهذه الحركة الإصلاحية التنويرية محطات واضحة راكمت العمق التاريخي لتونس الذي بدأ مع دستور قرطاج ومدونة القديس سانت أغسطين وتأسيس بيت الحكمة في القيروان وجامع الزيتونة أعرق جامعات العالم. منذ عصر النهضة العربية الأولى، يعتبر المصلح خير الدين التونسي من أعظم المنظرين العرب لجهة مطالبته بضرورة اقتداء أقطار العرب الحديثة بفلسفة ونهج الحداثة الأوروبية الغربية، ومعرفة أساس قوة أوروبا وازدهارها، وبكيفية خاصة دور الدولة الحديثة ومؤسساتها السياسية القائمة على الحرّية في المجتمع المدني. وأسهم المصلح خير الدين في وضع الدستور التونسي، الذي أعلن عنه رسمياً من قبل محمد الصادق باي في 29 يناير لعام 1861، حيث كان خير الدين رئيساً لمجلس الشورى، نظراً للثقة القوية التي كان يتمتع بها عند الباي. وكان الميثاق الأساسي، أو دستور عهد الأمان يعتبر أول دستور عربي يقر في بلاد الإسلام، وهو متكون من ثلاثة عشر فصلاً، ومائة وأربع عشرة مادة مرقمة حسب الطريقة الفرنسية. وشاع مفهوم الدستور في تونس في عشرينيات القرن الماضي مع الشيخ عبد العزيز الثعالبي، مؤسّس الحزب الليبرالي الدستوري الذي قاوم الاستعمار الفرنسي، ثمّ استعاده وطوّره ابتداءً من العام 1934 أبو الاستقلال الحبيب بورقيبه، بحيث بات يشكّل عنصراً موجّهاً في تأكيد الهويّة السياسية التونسيّة. اتُّخذ هذا المفهوم وسيلة لبلوغ الحداثة القضائية والمؤسّساتية، واندرج في سياق قطيعة مع النظام الاستعماري ومع الاستبداديّة البايويّة (نسبة إلى الباي). لكن لم يبدأ الوطنيّون بالتعبير بشكلٍ واضح عن ضرورة إنشاء مجلسٍ تأسيسي إلاّ بعد وصولهم إلى عتبة السلطة في 20 مارس 1956. عندما أطاح بورقيبة بسلطة الباي في 25 يوليو 1957، بإعلانه ميلاد الجمهورية التونسية، تغيّرت المعطيات رأساً على عقب، وبات على المجلس التأسيسي أن يستأنف الورشة من حيث أوقفت في 14 أبريل العام 1956. وأنجز المجلس التأسيسي المنتخب في فجر الاستقلال(1956-1959) صياغة دستور عام 1959، الذي احتل مكانة بارزة في تأسيس النظام الجمهوري، وبناء الدولة التونسية الحديثة التي تبنت فلسفة الحداثة بكل منطوياتها الفكرية، عبر تركيز أسس دولةٍ مدنيّة من النوع العقلاني-الشرعيّ، ما كان حتّى ذلك الوقت محصوراً فقط بالحداثة الغربية. لكن المجلس التأسيسي في ذلك الوقت أخفق في إرساء نظام ديمقراطي، وضمان الحقوق والحرّيات بشكل فعّال. واحتوى دستور سنة 1959 على 64 فصلا وأدخلت عليه خلال السنوات اللاحقة عديد التعديلات منها ما كان في عهد الحكم البورقيبي. ومنها ما كان في العهد النوفمبري وانتهى إلينا سنة 2010 قبيل الثورة مكوّنا من 78 فصلاً. إن التوقف عند هذه المحطات التاريخية أكثر من ضروري بالنسبة للتونسيين اليوم خاصة الجيل الجديد من الشباب الذين لا يعرفون لماذا حازت بلادهم جائزة نوبل، فمنح هذه الجائزة الدولية الأولى لتونس ليس صدفة فقد توفرت لتونس كل أسباب الاستثناء ونجاح التجربة الانتقالية في تونس لحد الآن ونجاة البلاد من حرب أهلية مدمرة هو ثمرة هذا الإرث الطويل من تجذّر المشروع الإصلاحي التونسي الذي لم يبدأ اليوم ولا بالأمس، ولم يولد مع 14 يناير 2011، بل كان سلسلة حلقات متراكمة بدأت مع العصر القرطاجني والعربي الإسلامي وتجذر في العصر الحديث بدءًا من القرن الثامن عشر تحديدا.إنها تونس العظيمة التي تتجدد ولا تموت وبنيل هذه المنظمات الأربع الراعية للحوار الوطني، جائزة نوبل للسلام، فقد منحت الشرف لتونس، ولكل فعاليات المجتمع المدني وعموم التونسيين الذين آمنوا بقيمة السلم الأهلي ودافعوا عن حقوقهم المدنية بكل شجاعة، لاسيَّما أن هذه الجائزة تشكل في الوقت الحاضر سندا دوليا جديدا لثورة تونس ولشعبها ودعما لها في اتجاه استكمال بناء أسس ديمقراطيتها الناشئة بالحوار والتوافق الضامن للتعددية ووحدة الوطن وأمنه في منطقة تعصف بها الصراعات. وتستحق الثورة التونسية مثل هذه الجائزة، لأنها كانت ثورة قوّية في صراعها مع النظام الديكتاتوري السابق، بنهجها السلمي وتَفَوُقِهَا الأخلاقي، وبعدالة مطالبها في الحرّية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وقوية بقاعدتها الاجتماعية العريضة التي انخرطت فيها طبقات المجتمع وفئاته وأجياله كافة، وقوية بالتماسك الداخلي للقوى المشاركة في صنع فصولها البطولية، ثم قوية بنفَسها الثوري الطويل الذي لا يكل ولا يتقطع بأثر من عياء. فما جرى هو بروز حركة احتجاجية لها طابع ثوري في إطار وطني، أسقطت نظاماً قديماً تهاوى بسرعة، ولكن من دون أن تعرف كيف سيكون عليه النظام الجديد، وهذه أحداث غير منتظرة، وهي أحداث سلمية في العمق، قامت على أساس احترام حقوق الإنسان والطموح ونشدان الحرّية والتآخي وردّة فعل ضد الفساد والغنى الفاحش وفجور الأغنياء. وفي هذا السياق، استطاعت تونس أن تُصَحِّح ربيع "الثورات العربية"، وتُؤَكِّدُ الاستثناء التونسي في تَفَرُّدِهِ على الموافقة على دستور ديمقراطي وليبرالي وتوافقي في آن معاً، وهي بهذه الخطوة أنهت المرحلة الانتقالية بعد انتظار دام لنحو سنتين ونصف. إنها اللبنة الأولى في بناء مؤسسات الدولة المدنية الديمقراطية التعددية، التي عجزت الأيديولوجيات الشُمُولِيَة عن بنائها في العالم العربي، لكن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة المتشبع بالثقافة الفرنسية والمتأثر بكمال أتاتورك، كان أول من أرسى الدولة المدنية ذات الاتجاه العلماني عند العرب،لاسيَّما أن الدولة المدنية ليست بدولة عسكرية، وليست أيضاً بدولة دينية، لكنها ليست بالضرورة أن تكون دولة علمانية بالمعنى الغربي للكلمة.

443

| 16 أكتوبر 2015

العروبة وتبدل لباسها التاريخي

لا تزال العروبة تشكل موضوع نقاش محتدم ومتجدد داخل المدارس الفكرية والسياسية العربية، بسبب القراءات المتناقضة حول مضمونها، بين دعاة التجديد والتجاوز للمفاهيم والأطر الأيديولوجية التي سجنت العروبة في قوالب جامدة، وبين دعاة التشكيك في معناها ووجودها. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، تبنت العروبة أفكار عصر النهضة الأوروبية. فأوروبا كانت ماثلة في ذهن المثقفين والسياسيين المتحمسين لإحياء العروبة من سباتها العميق فعلى الصعيد الفكري والثقافي كان هناك تياران: تيار الإصلاح الديني، وتيار ليبرالي. أما على الصعيد الاجتماعي السياسي، كانت ثمة حركتان متعاكستان حركة مجتمع متأخر بدأ يتلمس تأخره نتاج الصدمة مع الغرب، ويريد إعادة بناء ذاته وصياغة هويته، وتحديث بنيته بأدوات بعضها محلي ذو أبعاد تاريخية، وبعضها مضادة، مصدرها الضغط الخارجي، الذي كان يدفع إلى إعادة إنتاج المجتمع المدني وفق معطيات العصر الحديث وشروطه، ولاسيَّما تحكم المراكز الاستعمارية، وإلى إعادة تشكيل بنى المجتمع وفق المصالح الرأسمالية الغربية، ومنطق التطور الرأسمالي اللامتكافئ لمصلحة ظهور رأسمالية تبعية و«هامشية » في العالم العربي، حيث أصبح هذا الأخير منطقة هامشية وآمنة للسوق الرأسمالية العالمية وفي ظل سيطرة الحركة القومية العربية الناصرية والبعثية ذات المضمون الأيديولوجي المناهض للاستعمار الغربي والإمبريالية، والكيان الصهيوني، في الخارج، وللطبقات الإقطاعية والرأسمالية في الداخل.وكان المحتوى السياسي والاجتماعي للعروبة يتمثل في تحقيق استقلال البلدان العربية عن الاستعمار البريطاني والفرنسي وعن الهيمنة الغربية، وتحقيق التقدم في الميدان الاقتصادي والاجتماعي من خلال اضطلاع الدولة بالقيادة الاقتصادية إلى جانب القيادة السياسية (بمعنى التحديث والعصرنة) والقضاء على سيطرة رأس المال الكبير على الحكم وهيكل إنتاجه بأجنحته المحلية (البرجوازية الكبيرة وكبار الملاكين العقاريين) وأجنحته الأجنبية (الاحتكارات الرأسمالية الغربية). ولقد فهمت الحركات القومية العربية الأيديولوجية التي رفعت راية العروبة أن فك علاقة التبعية البنيوية بين العالم العربي والامبريالية الغربية وكسرها وقطعها وبالتالي تحقيق التحرر الوطني والاستقلال السياسي الحقيقي يتطلب بناء الدولة القومية باعتبارها "المبدأ الأوحد للتنظيم" من أجل قيادة القوى القومية إلى الصراع مع المصالح الغربية في العالم العربي، وإلى تحقيق فكرة الوحدة العربية على أرض الواقع من خلال تجربة (وفشل) الوحدة المصرية -السورية (1958-1961). وكانت فكرة العروبة، التي اعتنقها عبد الناصر والبعث تعني تحرير العالم العربي من السيطرة الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة، وإحداث التغيرات الواسعة في الأوضاع السياسية العربية تعبر عن آفاق تجاوزية لواقع التجزئة القطرية والانقسامات القبلية والعشائرية، وعن الدعوة إلى بناء إستراتيجية تنموية قومية راديكالية تفتح أمام العرب الطريق إلى التحرر بواسطة الوحدة العربية، وإلى بناء اقتصاد وطني متحرر خارج إطار الاقتصاد العالمي الرأسمالي في آن معاً. ركز العسكر الذي شكل العمود الفقري للحركات القومية الأيديولوجية على مقولة "التنمية الاجتماعية"، باعتبارها هاجساً مركزياً في فلسفته السياسية، حيث كان هذا الهاجس أحد العوامل الذي جعله يصطدم بالامبريالية، ويركز على مقولة "الوحدة الوطنية" وبناء التحالف الوطني، الذي يضم الفلاحين والعمال والمثقفين ورجال الأعمال، ويبرز الجيش كأحد أعمدة التغيير والتحديث في المجتمع من خلال إجراءات وقوانين الإصلاح الزراعي، وسياسة التمليك والاستثمار، وتحديد ملكية الأرض، وتأميم الصناعات وبناء المشاريع الضخمة التي تتسم بالشمول والاستيعاب العام كسد أسوان. وإدخال عدة شعارات جديدة إلى قاموس السياسة العربية كمقولة "الاشتراكية" وحقوق الجماهير" ومكسب الحكم والشعب، "والتحرير والصمود"، والنماذج القومية. والحال هذه لم تبق العروبة، كما كانت في الحقبة الاستعمارية، أساسا أو مبدأ لرابطة سياسية، تكرس حلم الدولة العربية في الاستقلال وتكوين دول سيدة ومستقلة، يمكن أن تتوحد في المستقبل لتعوض عن انهيار حلم المملكة العربية، وإنما تحولت إلى حركة شعبوية تجمع بين العداء للاستعمار الأوروبي والكفاح ضد النخب والطبقات الاجتماعية الارستقراطية التي ستظهر وكأنها الحليفة الرئيسية للغرب الاستعماري. ولذلك انتقلت العروبة من تبني المفاهيم الليبرالية للحداثة الغربية: المواطنة، والنزعة الدستورية في حقبة ما بين الحربين، إلى تبني المقولات الأيديولوجية لحركات التحرر القومية، التي تقوم على خوض الصراع ضد الاستعمار الغربي، ومن أجل الاستقلال وتكريس سيادة الدول، لتتخذ شكل الثورة والانقلاب الاجتماعي والسياسي الذي يشكل مدخلا لاستكمال العمل من أجل الاستقلال غير الناجز والسيادة الناقصة. ومع صعود حركات الإسلام السياسي بعد هزيمة الحركة القومية العربية، تعمقت أزمة العروبة، بسبب العلاقة المتوترة بين العروبة والإسلام. فلا شك أن قضية العلاقة بين العروبة والإسلام،استقطبت ولا تزال اهتمام العديد من الحركات الإسلامية الإصلاحية والمفكرين القوميين العرب منذ عصر النهضة وإلى يومنا هذا. وبقدر ما نجد فريقاً من المثقفين يدافع عن الأطروحة التي تفترض علاقة التلازم بل التطابق الأصلي والتعايش التاريخي بين العروبة والإسلام، وإن أي خلاف بينهما لا وجود له، باعتبار أن واقعية العروبة تنبعث من حضارة الإسلام، وعلى دور الإسلام والعربية لغة وثقافة في تكريس مقومات العروبة وفي بعث الوعي العروبي، وعلى أن الإسلام يزود العروبة بركيزة حضارية قوية. بقدر ما نجد في المقابل فريقاً من المثقفين يدافع عن الأطروحة التي تفترض الخلاف والتناقض بين العروبة والإسلام، لاسيَّما الذين يجعلون من العروبة عقيدة قومية من جهة، ولدى الذين يرفضون التخلي عن الشرعية الدينية في السياسة لمصلحة القومية العلمانية البعيدة عن الدين. إذا أرادت العروبة أن تكون الخيار الأيديولوجي، والمشروع الثقافي للأمة العربية في القرن الحادي والعشرين، والهوية الثقافية المميزة للعرب عن غيرهم من الأمم والشعوب، والهوية السياسية المؤسسة لسياسة ودولة فاعلة في النظام الدولي العالمي، فعلى العروبة أن تتبنى مفاهيم التعددية الفكرية والسياسية، والمواطنة، وإعادة تثمين الوطنية المحلية الدستورية والليبرالية، والتأكيد على مرجعية احترام حقوق الإنسان، والحريات الشخصية والاعتقادية، والديمقراطية. فالمشروع الديمقراطي النهضوي، هو الخيار العروبي الوحيد، الذي من خلاله يمكن للعرب أن يبنوا مستقبلهم السياسي والاقتصادي والثقافي، وأن يؤسسوا عبره وحدتهم الوطنية والقومية الحقيقية، بعيداً عن الانقسامات المذهبية والطائفية: سواء تمثلت في صعود الانقسامات المذهبية داخل الدين الواحد أو تنامي العصبيات الجماعية على أساس ديني بين أصحاب العقائد المختلفة. فالطائفية تعبر عن إخفاق السياسة القومية في بناء إطار تضامنات فعلية وطنية ما فوق طائفية. وكما يقول المفكر برهان غليون، حتى تنجح العروبة في استعادة مكانتها، ينبغي أن تغير أيضا من جلدها الذي أصبح ضيقا جدا عليها، وهو جلد الخمسينيات والستينيات الذي ارتبط في مفهومه وأسلوب تجليه وقيمه وغاياته بالقضية القومية، لتلبس جلد الفكرة الوطنية الإنسانية، أي أن تكون في نمط تفكيرها ووسائل عملها وغاياتها حاملا لقضية الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة الأخلاقية والقانونية. عندئذ ستكون عروبة للمستقبل، وسيرتبط بها لا محالة الانبعاث الفكري والاجتماعي والسياسي العربي القادم، فتكون أيديولوجية المستقبل لا أيديولوجية الماضي، سواء كان الماضي القريب القومي أو الماضي البعيد التاريخي أو الديني.

625

| 09 أكتوبر 2015

العلاقة الإستراتيجية بين «النداء» و«النهضة»

أجرت قناة «نسمة» الفضائية ليلة الثلاثاء 22 سبتمبر الماضي، حوارًا مع رئيس الجمهورية التونسية السيد الباجي قائد السبسي، تناول فيه موضوع العلاقة بين حزب «نداء تونس» وحزب «النهضة» الإسلامي، كما أجرت قناة «الجزيرة مباشر» في الوقت عينه حوارًا مع الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب «النهضة»، ويلمس المتابع السياسي للحوارين المنفصلين الأخيرين، مدى انسجام المواقف بين «الشيخين»، لاسيَّما فيما يتعلق بطبيعة هذه العلاقة بين الحزبين الحاكمين، وشروط تواصل قيامها وتطورها في المستقبل، في ظل واقع الجمهورية الثانية ما بعد الثورة، أي الجمهورية البرلمانية التي يتقاسم فيها رئيسها (قائد السبسي) صلاحيات السلطة التنفيذية مع رئيس الحكومة الحبيب الصيد، مع الملاحظة أن الثاني يقف خلف الأول وينصت إليه بانتباه كلما اجتمعا رسميًا، كما تابعنا الأول وهو يتجاوز صلاحياته الدستورية، فهو تارة يدعو رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ورئيس اتحاد الشغل ورئيسة اتحاد الأعراف إلى قصر قرطاج ليملي عليهم نصائحه وتوجيهاته، في نطاق النزعة التماثلية مع ما كان يقون به الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في عهد الجمهورية الأولى، حيث كان يمارس نزعة الأبوة على الشعب التونسي. كما كشف الشيخ راشد الغنوشي خلال حواره مع «الجزيرة مباشر» أنه لا خلاف في صلب الائتلاف الحاكم (أحزاب «النداء» و«النهضة» و«الاتحاد الوطني الحر» و«آفاق تونس» بقيادة رئيس الحكومة السيد الحبيب الصيد) نفس الموقف عبر عنه الرئيس الباجي قائد السبسي أثناء ظهوره على قناة «نسمة»، عندما أرجع التعيينات المعلنة إلى حرية اختيار رئيس الحكومة ليرد بذلك قائد السبسي على منتقديه من داخل «النداء »الذين اعتبروا في وقت سابق أن القائمات المعلنة بخصوص حركة الولاة والمعتمدين الأول كانت بتدخل مباشر من الرئيس ونجله حافظ قائد السبسي. لقد أصبح الرئيس الباجي قائد السبسي يتباحث مع الشيخ راشد الغنوشي في كل كبيرة وصغيرة، وأصبح التشاور بينهما عنواناً للمرحلة السياسية التوافقية.. ولكن أهم ما يمكن أن يقرّبهما، أو يجمع بينهما، ويجعل منهما شبه حليفين رغم الخصومة التاريخية بينهما، هما أمران في غاية الأهمية، ولا يدرك معناهما إلا من خبر السياسة مثل رئيس النداء ورئيس الحركة. فالرجلان اليوم ورغم ما يُقالُ عن خلافاتهما التي تخبو حيناً وتتصاعد أحياناً، هما من يرسم سياسة تونس، شئنا أم أبينا، بل هما من يصنعان المحراك لكل الأحداث التي جرت وتجري في البلاد منذ الثورة إلى الآن، وحتى في زمن صعود بعض نجوم السياسة الآخرين على الركح، فقد كان الغنوشي والباجي هما من يدفعان من خلف الستار أو يجذبان من وراء الكواليس. كما أن ما يجمعهما أكثر بكثير مما يفرقهما، فالرجلان قد يختلفان في المنطلقات الأيديولوجية والفكرية والسياسية لكل منهما، وقد يختلفان أيضاً في التكوين العلمي والشخصية الاجتماعية والجذور القبلية والجهوية والطبقية، لكنهما بالتأكيد يلتقيان فيما يخص الراهن اليومي للسياسة التونسية منذ لقاء باريس وإلى اليوم. إنّ الباجي قائد السبسي، رئيس الحزب الأغلبي، لم يكن بمقدوره أن يحكم وحده، والشيخ راشد الغنوشي، رئيس الحركة الثانية لم يكن بمقدوره أن يبقى خارج الحكم. وبالتالي فالنقيضان تقابلا تحت إكراهات الحكم، وحكم الأمر الواقع، وواقع المشهد السياسي الذي لخبطت هزيمة التكتل والشابي والمرزوقي كل أوراقه، وفرضت على الشيخين إعادة الحسابات كل من ناحيته، فأفرز الفرز صياغة مشهد سياسي لا يجوع فيه الذئب ولا يشتكي الراعي. فوضع الشيخ راشد الغنوشي اليوم كزعيم مبجل مكرّم في البلاد، وكشريك في الحكم، وكشخصية وطنية ودولية، جعلت الرئيس الباجي قائد السبسي يفضل التعاطي معه على غيره من الشركاء حتى وإن كانوا بنسبة أكبر من الحقائب الوزارية، بل فيهم من لم يقابلهم منذ اقتسام المناصب في وزارة الحبيب الصيد. لكنه يتعامل مع الشيخ راشد الغنوشي بشكل شبه يومي تقريباً. وفي حواره الأخير مع قناة «نسمة»، أكد رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي طبيعة العلاقة الإستراتيجية بين «النهضة» و«النداء»، عندما فهم المتابعون من كلامه أن العلاقة هذه أصبحت الآن ذات طبيعة إستراتيجية أي من ثوابت الواقع السياسي التونسي، ولم تعد مجرد تحالف تكتيكي بين طرفين سينتهي بانتهاء المرحلة أي بانتهاء ما بقي من الفترة الحالية التي تمثل امتدادا للمرحلة الانتقالية. ويُفهم من كلام قائد السبسي أن «النهضة» على شكلها الحالي أصبحت شريكًا بارزًا في الحياة السياسية ولم يعد هناك أي موجب لإقصائها، لكن كل ذلك مرتبط بشروط لمّح إليها قائد السبسي أيضا وهي التزامها بثوابت النظام الجمهوري وبمدنية الدولة وبشروط وقيم الوحدة الوطنية التي أصبحت المنقذ الوحيد لتونس وميزتها الأساسية مقارنة ببعض الدول الأخرى والقطع مع كل ما من شأنه تعكير صفو التعايش السلمي بين مختلف التونسيين ومع كل أشكال التشدد والتطرف وفق الثوابت التي رسمها الدستور وهي حرية الضمير والمعتقد والدين. ومن الواضح أن النهضة قد فهمت جيّدا «قانون» هذه الشراكة الإستراتيجية المرشحة للدوام وهو ما يتضح من التصريحات الأخيرة لزعيمها راشد الغنوشي حول الموقف من الوضع في سوريا ولاسيَّما حول قانون المصالحة وموقفه من تحركات المعارضة التي وصفها بـ«الفوضوية» عندما خرجت للشارع.

233

| 02 أكتوبر 2015

خلفيات دخول بوتين الحرب في سوريا

لا يوجد أدنى شك في عقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن بلاده تعتبر المستهدفة الأولى من قبل الإرهاب الدولي المرتكز على الجماعات الإسلامية المتشددة، وبسبب المخاوف من دور آت للإسلاميين، وعلى خلفية الحساسية الخاصة من التيارات الإسلامية التي ارتبطت، في شكل مباشر أو غير مباشر، بالوضع الداخلي في روسيا، إبان حربها على التطرف والنزعات الانفصالية في شمال القوقاز. وواضح أن التيارات التي بدأت معتدلة في هذه المنطقة أخذت تنحو نحو التطرف الديني لاحقاً. كما هي الحال للولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، فإن تعبير "الحرب العالمية الثالثة" الذي استخدمه الرئيس السابق لوكالة المخابرات المركزية "سي أي إيه" المحافظ الجديد جيمس ووسلي لوصف الحرب ضد الإرهاب الأصولي لا يزعج الروس.إنها تتوافق على الوجه الأكمل مع الرؤية الروسية في نطاق أنها تصرف الأنظار عن الأسباب الداخلية المولدة للإرهاب في روسيا. أما اختلافها الوحيد مع المقاربة الأمريكية فيستند على فكرة أن الحرب الباردة مثلت شكلا من الحرب العالمية الثالثة. وزد على ذلك لا يتعب فلاديمير بوتين من تكرار أن بعض الغربيين - العبارة عائمة جدا وتفسح في المجال لكل التأويلات بدون تحديد أحد وقد احتفظوا في مقارباتهم لروسيا على "عقلية الحرب الباردة"، لكن عندما يتعلق الأمر بمكافحة شاملة ضد موجة إرهابية تجد جذورها في الأصولية الإسلامية، فإنه يتفق تماما مع نظيريه الأمريكي والإسرائيلي.أضف إلى ذلك أن النجاحات العسكرية التي حققتها المعارضة السورية خلال الشهور الممتدة من ربيع العام الحالي وحتى الصيف الماضي، والتي تشكلت تهديدا جدياً ببقاء النظام السوري، جعلت الرئيس فلاديمير بوتين يعتبر أن بقاء الدولة السورية وعدم انهيارها، مسألة حياة أو موت لروسيا، إنّها قضية وجود لروسيا التي تعتقد أنّ خروجها من سوريا خروج من كلّ المنطقة العربية. وفضلا عن ذلك، فإن الاستقرار في سوريا يعزز الاستقرار في المناطق الجنوبية من روسيا ذات الأغلبية السكانية المسلمة. فبعد سقوط نظام معمر القذافي في خريف 2011، شعرت موسكو بأنها أُخِذَت على حين غرة. وجعل الشعور بـ«الخيانة» في القضية الليبية موسكو ترفض بشدة أي شكل للتدخل العسكري الأجنبي في سوريا، وهذا تحديداً ما دفعها إلى استخدام حق النقض (الفيتو) إلى جانب الصين ضد كل مشروع قرار مجلس الأمن الذي حمل إدانة شديدة لاستخدام العنف المفرط من جانب النظام، في الوقت ذاته، حرصت موسكو على اتخاذ موقف أكثر أمناً بالنسبة إلى مصالحها، فيما يتعلق بالتطورات الدراماتيكية في سوريا. ترى موسكو في الأزمة في سوريا باباً لاجتراح المبادرات وهي تتقاسم الرؤى عينها مع الدولة السورية: محاربة الإرهاب وهزيمته هما المدخلان الحقيقيان لإيجاد تسوية سياسية للأزمة.وكذلك تدرك روسيا أنّ من يسيطر على سوريا يسيطر على الممر الإستراتيجي لجلّ الشرق الأوسط وبالتالي يتحكم ويسيطر على كلّ من أوراسيا العظمى وآسيا الوسطى.وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد دعا منذ أكثر من شهرين، إلى العمل من أجل بناء تحالف إقليمي دولي حقيقي لمكافحة الإرهاب، تحالف يجمع الدول العربية والإقليمية على أن تكون الدولة السورية والجيش العربي السوري جزءاً أساسياً من هذا التحالف ولاسيَّما بعد فشل "التحالف" الذي بنته الولايات المتحدة لـ"مكافحة داعش".. الدعوة لم تلقَ تجاوباً، واكتفى الغرب بغارات تستهدف "داعش" في العراق، وتتمدد بخفر إلى بعض مواقع "الدولة الإسلامية" في سوريا. ويذكر في هذا الصدد أن الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) الجنرال المتقاعد ديفيد بتراوس، انتقد الثلاثاء الماضي، أثناء حديثه في جلسة استماع في مجلس الشيوخ، طريقة تعامل إدارة أوباما مع الأوضاع في العراق وسوريا، واصفا إياها بـ"المتراخية".وقال إن "التحالف الدولي" الذي تقوده الولايات المتحدة لقتال تنظيم «داعش» لم يحقق تقدما «كافيا» في العراق وسوريا، مؤكداً أن الحرب في سوريا هي «كارثة بحجم تشرنوبيل لكن على المستوى الجيوسياسي».وأضاف بتراوس أن «تداعيات انهيار سوريا قد تبقى ماثلة لفترة طويلة وكلما سمحنا (لتلك الحرب) بأن تستمر لفترة أطول، كان الضرر أكثر فداحة».. روسيا التي ذاقت مرارة الإرهاب قبل غيرها، أدرى باحتمالات تدحرجه إلى كل مكان آمن في العالم. والرئيس فلاديمير بوتين لا يراوغ عندما يقول إن روسيا قلقة من عودة مواطنيها الذين قاتلوا مع «داعش»، و«جبهة النصرة». القلق يجب أن يكون ذاته في واشنطن وباريس ولندن وبرلين.بالنسبة للرئيس بوتين، يشكل الانخراط المعلن لفصائل جهادية متحدرة من الشيشان وجمهوريات آسيا الوسطى السوفيتية سابقاً في التنظيمات الجهادية المتشددة المقاتلة على الأرض السورية، تهديداً مباشراً لروسيا عند ارتداده إلى الأراضي الروسية. هنا تختلف الحسابات الروسية عن مثيلاتها الأمريكية في تقييمها لخطر «داعش» وأخواتها، على الأقل لاعتبارات القرب الجغرافي، حيث تستدعي مباشرة البعد الدولي للصراع في سوريا. يضاف إلى ذلك خشية بوتين من قدرة الدول الإقليمية المناهضة للنظام السوري على إقناع الرئيس الأمريكي باتخاذ سياسة أكثر تشدداً حياله، لاسيَّما مع فشل السياسات الأمريكية الواضح حيال سوريا منذ العام 2011 حتى الآن.الحضور العسكري الروسي في سوريا ليس جديداً، وتعزيزه ليس غريباً. ولهذا السبب بالذات دخلت روسيا جديا في الحرب في سوريا، وهو ما يشكل انقلابا حقيقيا في موازين القوى بوجودها العسكري المعلن والمتزايد على الساحل السوري، بعدما جعلت التوازنات الإقليمية السائدة في الشهور الأخيرة هباءً منثوراً. فالأحداث الأخيرة تظهر أن روسيا عززت تواجدها العسكري في اللاذقية بشكل كبير، حيث كشف مسؤولون أمريكيون أنها نشرت 30 مقاتلة جوية، وقاذفة من طراز سوخوي 24 وسوخوي 25 وسوخوي 30، وصلت بالفعل إلى سوريا، إضافةً إلى مروحيات وعربات مدرعة وطائرات من دون طيار وسوى ذلك، كما أن السفن الروسية التي تنقل الذخيرة والعتاد والمحروقات لم تنقطع عن الرسو في الموانئ السورية آتية من الموانئ الروسية في البحر الأسود.

427

| 29 سبتمبر 2015

تَفَجُّر أزمة هيئة الحقيقة والكرامة في تونس

تشكلت هيئة الحقيقة والكرامة في تونس بناء على القانون رقم53 لسنة 2013، والمؤرخ في 24 ديسمبر 2013، المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية، التي تم تعريفها على النحو التالي: إنها مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها، ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر ضرر الضحايا، ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية، ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها، ويرسي ضمانات عدم التكرار، والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يسهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان.وترأست هيئة الحقيقة والكرامة في تونس السيدة سهام بن سدرين، وهي شخصية مثيرة للجدل في تونس، بسبب ماضيها في العهد السابق خلال مرحلة النضال ضد الديكتاتورية، حيث كانت متحالفة مع الرئيس السابق لحزب المؤتمر منصف المرزوقي المقيم في باريس آنذاك، ومع زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي، الذي كان مقيما بلندن. وبعد انتخابات 23 أكتوبر 2011، التي أوصلت حركة النهضة الإسلامية إلى السلطة، ما مكنها من تشكيل حكومة الترويكا بمشاركة حزبين علمانين صغيرين، هما حزب المؤتمر بزعامة المنصف المرزوقي، وحزب التكتل بزعامة الدكتور مصطفى بن جعفر، توطدت علاقة السيدة سهام بن سدرين مع النهضة الإسلامية، ومع الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي، اللذين لعبا دورا رئيسيا في إيصالها إلى رئاسة الهيئة، حين كان المجلس الوطني التأسيسي تهيمن عليه حركة النهضة. بدأت أزمة هيئة الحقيقة والكرامة، حين قامت السيدة سهام بن سدرين بغزو قصر قرطاج يوم الجمعة 26 ديسمبر 2014، بهدف الحصول على أرشيف القصر الذي يعود إلى300 سنة مضت، أي منذ بدايات تأسيس الدولة الحسينية من قبل البايات سنة 1705، حيث تمسكت بن سدرين بحقها في نقل الأرشيف من القصر إلى مقر الهيئة، وهذا ما رفضه الأمن الرئاسي. واتفق معظم المحللين في تونس، أن ما قامت به سدرين يعدّ عملاً غير لائق، وغير بريء، ويحتوي على نية سيئة مسبقاً، ولاسيَّما أنها اختارت توقيتا مريباً جداً، وتحديداً قبل فترة قصيرة من تسلم الرئيس الباجي قائد السبسي مقاليد رئاسة الدولة التونسية من الرئيس المؤقت محمد المنصف المرزوقي في قصر قرطاج بعد أداء اليمين الدستورية في مجلس النواب يوم الأربعاء 31 ديسمبر 2014، وهو ما يدل على وجود مخطط للتلاعب بالأرشيف من قبل بعض الأطراف السياسية وإدخال البلاد في حالة من الفوضى والبلبلة وتصفية الحسابات الشخصية. وبهذه الحادثة وضعت سهام بن سدرين رأسها برأس الرئيس المنتخب السيد الباجي قائد السبسي، وهو أمر لا يمكن غفرانه.وعلى خلفية هذه الأزمة، تتجه رئاسة مجلس النواب نحو تشكيل لجنة برلمانية للنظر في الوضع الداخلي لهيئة الحقيقة والكرامة على خلفية الشكوى التي رفعها للغرض العضو البارز بالهيئة السيد زهير مخلوف، والذي دعا ضمنيا إلى ضرورة تدخل مجلس نواب الشعب، للاطلاع على ما اعتبره حقائق تتعلق بالتصرّف الإداري داخل الهيئة موجها انتقادات قوية إلى رئيستها سهام بن سدرين والتي اتهمها بتقديم تصريحات ومعطيات مغلوطة حول عمل الهيئة. هناك شبه إجماع لدى الرأي العام التونسي، بأن رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين تهدر المال العام، وتتخذ قرارات فردية دون الرجوع إلى مجلس هيئة الحقيقة والكرامة. ويتساءل الرأي العام التونسي، كيف يمكن أن نطمئن على هيئة الحقيقة والكرامة في يد سهام بن سدرين وهي مشتبه بها في أكثر من ملف فساد؟.في ظل احتدام الأزمة الداخلية لهيئة الحقيقة والكرامة، وقع حوالي 70 نائبا، على نص عريضة تطالب بفتح تحقيق برلماني حول وجود شبهة فساد مالي وإداري لابن سدرين وهيئة الحقيقة والكرامة. وتتجه أحزاب سياسية نافذة وذات أغلبية واضحة داخل مجلس نواب الشعب المكلف بالإشراف على هيئة الحقيقة والكرامة والتي ليست «هيئة دستورية» كما يشاع لإيجاد «توافق» على تجاوز المشاكل التي تمرّ بها هيئة الحقيقة والكرامة، والتي تصاعدت وتيرتها بشكل لافت للغاية وذلك باتجاه «تغيير» رئيستها سهام بن سدرين والبحث عن شخصية «توافقية» حتى تتمكن الهيئة من مواصلة ما هو منوط بعهدتها من مهام. ومن الأسماء التي يجري تداولها كـ«خليفة» لابن سدرين المحامي مختار الطريفي والزعيم المعارض نجيب الشابي وغيرهما، وحسب ذات المعلومات أيضا فإن حركة النهضة تسعى إلى «تمرير» اسم رئيس حزب التكتل مصطفى بن جعفر ليتولى «خلافة» بن سدرين، لاسيَّما أن بن جعفر لم تعد لديه «شواغل سياسية» كبيرة وحزبه غير ممثل في البرلمان ويكاد يكون «غائبا» عن الساحة السياسية؟! لكن تسمية ابن جعفر على رأس هيئة الحقيقة والكرامة ليست مقبولة، باعتباره كان جزءًا من الترويكا الحاكمة سابقًا، وبسبب«وقوعه» هو نفسه في نفس «المواقف المسبقة» التي وقعت فيها ابن سدرين، والتي تعكس بشكل جلي وواضح «تفكيره» في كل ما له علاقة بنظام الرئيس الأسبق ابن علي ونظام الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة. إذا أرادت هيئة الحقيقة والكرامة أن تحقق مسار العدالة الانتقالية بصورة ناجحة في تونس، بعد مرور أربع سنوات على الثورة، فعلى هيئة الحقيقة والكرامة أن تواجه العديد من التحدّيات لكي تثبت استقلاليتها في تعاطيها مع الملفات بكل موضوعية وبكل تجرد، وتدحض كل الشبهات التي تهدف لجعلها آلية للتشفي والانتقام وتصفية الحسابات، وهو رهان كبير ويستوجب مواقف جريئة لكي تبعث برسائل واضحة للجميع.موضوع العدالة الانتقالية مطلب تاريخي وعادل للشعب التونسي بكل أطيافه، الذي انتقل من حكم نظام تسلطي إلى حكم ديمقراطي، وتبقى القضية المركزية لتونس تتمثل في موضوع العدالة الانتقالية وكيفية التعامل مع الماضي بالتشدّد أو بالمرونة لكن مع الحفاظ على قيم العدالة والتضامن الاجتماعي وتعويض الضحايا والعمل على إصلاح النظام القانوني، وأولاً وقبل كل شيء كشف الحقيقة الكاملة والتمكّن من معرفة حجم الأضرار التي لحقت بالمجتمع التونسي، والأفراد، جراء سياسة التسلط وسوء استخدام السلطة والنفوذ. ولكن ماذا نعني بالعدالة الانتقالية؟ هل هي عدالة خاصة؟ أم عدالة للمرحلة الانتقالية تختلف عن القواعد العامة للعدالة؟ أم أنها شيء آخر؟هذا ما يجب أن تجيب عنه هيئة الحقيقة والكرامة المعنية بتحقيق مسار العدالة الانتقالية وفق أسس احترام قيم وأعراف حقوق الإنسان، والقانون الدولي.

417

| 26 سبتمبر 2015

إقالة الجنرال توفيق تُعَّبِدُ الطريق لخلافة بوتفليقة

أجمعت الطبقة السياسية في الجزائر ومعها منظمات المجتمع المدني، أن إقالة الجنرال توفيق، الرجل القوي الذي قاد جهاز الاستخبارات في الجزائر طيلة 25 عاماً، وتعيين مكانه اللواء بشير طرطاق، وهو مستشار الرئيس للشؤون الأمنية على رأس المخابرات، تعبد الطريق بصورة جذرية أمام الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة والمقربين منه من أجل تنطيم خلافته بعد سيطرتهم بشكل كامل على الجيش والمخابرات. وغداة إنهاء مهمات الفريق محمد مدين المعروف بالجنرال توفيق كتبت صحيفة «لوكوتيديان دورون» إن الجزائريين «لا يعرفون إن كانت السلطة ستغير معسكرها قريبا»، لكن «الأكيد أن مرحلة ما بعد بوتفليقة ليست بعيدة حتى وإن كان معسكره وعلى رأسهم شقيقه الأصغر السعيد يسيطر حالياً على كل مقاليد الحكم» في غياب من كان يوصف بـ«سيد الجزائر». ويعتبر الجنرال توفيق مدين الرجل القوي في الجزائر (76سنة)، وقد استلم رئاسة جهاز المخابرات منذ 1990، وهو رجل يوصف بـ«الخفي» حيث لا يظهر على الإعلام أو في المناسبات الرسمية، حتى أن معظم الجزائريين لا يعرفون شكله، وحتى وسائل الإعلام لا تملك صوراً له سوى واحدة أو اثنتين سربتا عبر الإنترنت. ويتساءل الجزائريون من سياسيين، ومثقفين، وإعلاميين، كيف يمكن إنهاء وإقالة الرجل الأقوى في الجزائر (الجنرال توفيق) من منصبه كرئيس جهاز المخابرات عمّر فيه ربع قرن من الزمن،من قبل رئيس يتساءل الجميع حول قدراته الصحية في قيادة البلاد، في إشارة إلى الرئيس بوتفليقة، الذي تعرض لجلطة دماغية عام 2013، أفقدته القدرة على الحركة، وأقعدته على كرسي متحرك. ورغم أن المعطيات السياسية في الجزائر تشير أن قرار إحالة قائد المخابرات إلى التقاعد جاء ضمن سلسلة تغييرات أجراها بوتفليقة منذ عام 2013 داخل المؤسسة العسكرية في البلاد، لإعادة هيكلة للجيش في إطار تجسيد مبدأ الاحترافية، فإن العديد من المحللين الجزائريين يرون في هذه الإقالة بأنها جاءت لإضعاف قائد جهاز المخابرات،إذ مسّت هذه التغييرات بالدرجة الأولى، جهازي الأمن الداخلي والخارجي والأمن الرئاسي المرتبطين بجهاز المخابرات، كما تم في نهاية أغسطس الماضي سجن القائد السابق لجهاز مكافحة الإرهاب في المخابرات، وإنهاء مهام مقربين منه، الجنرال عبد القادر آيت أوعرابي (أحد المقربين من الفريق محمد مدين)، وأُحِيل إلى القضاء العسكري حسب صحف محلية، دون الكشف عن التهم الموجهة إليه رسميًا، وحولت إدارة عدة أجهزة ومصالح كانت تابعة للمخابرات إلى قيادة الأركان، كما تم تغيير كل من قائدي الحرس الجمهوري، وجهاز الدرك الوطني. وبعد سيطرة الرئيس بوتفليقة والمقربين منه بشكل كامل على الجيش والمخابرات إثر إقالة الجنرال توفيق، أصبح الطريق مفتوحاً أمام الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة من أجل تنطيم خلافته. ومن المؤكد أن مرحلة ما بعد بوتفليقة ليست بعيدة حتى وإن كان معسكره وعلى رأسهم شقيقه الأصغر السعيد يسيطر حالياً على كل مقاليد الحكم في غياب من كان يوصف بـ«سيد الجزائر». فبعد 16 سنة من الحكم، هاهو الرئيس بوتفليقة المنهك بفعل المرض، ينتقل إلى البحث عن خلافته، بل إن بوتفليقة بحسب رأي الخبراء الجزائريين، يُحَضِّرُ نفسه لترك السلطة مع إشرافه على خلافته من خلال سيناريو محكم هو الآن بصدد تنفيذه يتضمن تحويل جهاز المخابرات إلى «قوقعة خاوية» منذ 2013 بعد نزع صلاحيات واسعة منه وإسنادها إلى رئيس أركان الجيش الفريق قايد صالح الذي عينه بوتفليقة بعد إقالة الفريق محمد العماري في سنة 2004 لأنه وقف ضد الولاية الثانية لرئيس الجمهورية. في اختصار، يمكن القول إن إقالة الجنرال توفيق لم تكن قراراً ارتجالياً، بل إنها تدخل في سياق التغييرات الأخيرة التي شهدتها وتشهدها المؤسسة العسكرية، والتي تؤكد أمرين: الأول أنه أصبح لرئاسة الجمهورية اليد الطولى على كل مؤسسات الدولة، وأصبح الرئيس بوتفليقة طليق اليد لينفذ السياسة التي يرتئيها للبلاد، والثاني أنه سيتم تسريع خلافة الرئيس، من دون أن يعني ذلك أن الرئيس بوتفليقة يرشح شقيقه السعيد لخلافته، بل ربما أراد فقط أن «يضمن حماية أقاربه من أي تصفية حسابات» بعد رحيله. وسبق أن أكد الرئيس بوتفليقة في يوليو الماضي أنه يتمنى أن ينهي ولايته الرابعة التي تستمر حتى 2019. وقبل ذلك بشهر واحد خرج مدير ديوان الرئاسة الرجل القوي في السلطة أحمد أويحيى لينفي أي طموح للسعيد بوتفليقة لتقلد منصب رئيس الجمهورية. وقال آنذاك «من يعرف السعيد من قريب أو من بعيد يدرك دون أدنى شك أنه لا يلعب في هذا الاتجاه. الجزائر ليست مصر»، في إشارة إلى الحديث عن توريث الحكم بين الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وابنه جمال قبل «ثورة يناير» 2011.

755

| 18 سبتمبر 2015

المعارضة التونسية والمعركة مع الفساد

تطالب الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني الدولة التونسية بكل مؤسساتها إسقاط مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، لأنه يتنافى مع مسار العدالة الانتقالية، باعتبارها عملية متعددة الأوجه تتجاوز النهج القانوني الرسمي لمفهوم العدالة المعروف، والتي نص عليها الدستور ولهيئة الحقيقة والكرامة التي تشكلت للإشراف على مسار هذه العدالة الانتقالية ببعديها السياسي والاقتصادي مثلما نص على ذلك القانون الذي أحدثها وتحديدا الفصل 53.فهذا المشروع يُعَّدُ ضرباً لهيئة الحقيقة والكرامة واعتداء عليها وعلى صلاحياتها، ولاسيَّما على صلاحيات لجنة التحكيم والمصالحة التابعة لها. فمن بين مشمولات هيئة الإشراف على مسار العدالة الانتقالية، الانتهاكات التي حصلت في مرحلة الديكتاتورية، وتطبيق استراتيجيات مكافحة الإفلات من العقاب أو « العدالة الانتقالية» لاسيَّما فيما يتعلق بكشف الحقيقة ومحاسبة الفاسدين وإيجاد ضمانات عدم العودة إلى ما وقع في عهد الديكتاتورية وجرائم الفساد ونهب المال العام قبل الثورة، وجبر الأضرار والإنصاف للضحايا، ومطالبة الدولة التونسية بتنفيذ سياسة التنحية، والعقوبات والإجراءات الإدارية الخاصة بالموظفين الكبار والصغار ورجال الأعمال المتورطين في جرائم الفساد. كما يجب على الدولة التونسية أن تشارك في عملية الإصلاح المؤسسي لدعم سيادة القانون واستعادة ثقة الجمهور وتعزيز الحقوق الأساسية ودعم الحكم الرشيد. ليست القضايا المحورية التي تربّينا عليها ومنها القضية الفلسطينية المركزية، أكثر أهميّة من قضية محاربة الفساد، والكرامة وذود الإنسان عن نفسه من هجمة الفقر والإهمال والفساد. فالفقر في تونس بات يشكل أكثر حالة اغتراب للشعب التونسي وهو في وطنه.. وإذا عدنا إلى قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الذي طرحه رئيس الجمهورية بهدف المصادقة عليه من قبل البرلمان، فإن هذا القانون يقع تحت سطوة نزعة سلطوية فردية ـ وطبقة رأسمالية «أوليغارشية» فاسدة، توظف أجهزة الدولة لتمكين جذورها عميقاً في الدولة والمجتمع. فيتماهى في سياق ذلك الرئيس مع الدولة/ السلطة، فيصبح أي انتقاد لآليات اشتغال الدولة نقداً شخصياً للرئيس وبطانته وللطبقة الرأسمالية الفاسدة التي يدافع عنها. وتضيع الفواصل بين شخص الرئيس والدولة الوطنية الديمقراطية التعددية التي يناضل الشعب التونسي من أجل بنائها.. فاختصار الدولة إلى حدود سلطة الحاكم الفرد، يقــود إلى قطيعة ابستمولوجية/ معرفية وسياسية واقتصادية مع طبيعة الدولة المؤسساتية، ويحوّلها إلى سلطة ذات جوهر شخصاني- فئوي. وبالنسبة لرجال الأعمال المعنيين بهذا المشروع ـ الذي قدمه رئيسه الدولة وزكته الحكومة ـ والذي يقر نصه بتجاوزاتهم ومخالفاتهم فإن إعلان التصالح معهم قبل محاسبتهم سيعني بالنتيجة مكافأة مجموعة من الفاسدين الذين مولّوا الحملات الانتخابية السابقة للأحزاب والأطراف السياسية الفاعلة حاليا في مؤسسات الدولة لهذا السبب، تشكلت في تونس مؤخرا جبهات رفض لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية. الجبهة الأولى، وتتشكل من خمسة أحزاب معارضة خارجة عن الحكومة، وتنتمي إلى يسار الوسط. وهذه الأحزاب الخمسة تنتمي إلى العائلة الديمقراطية الاجتماعية، وهي الحزب الجمهوري (مية الجريبي) والتكتل من أجل العمل والحريات (مصطفى بن جعفر) والتحالف الديمقراطي (محمد الحامدي) والتيار الديمقراطي (محمد عبو) وحركة الشعب (زهير المغزاوي). وقد اتفقت هذه الأحزاب الخمسة قبل أسبوع على تأسيس تنسيقية وطنية فيما بينها لإسقاط مشروع هذا القانون، فضلا عن تنظيم مسيرة وطنية بالعاصمة والدعوة إلى تحركات بالجهات يوم 12 سبتمبر 2015. وللإشارة فإن العائلة الديمقراطية تضم بعض الأحزاب الأخرى لعل أهمها حزب «المؤتمر»الذي لا يلقى ترحيبا بين الأحزاب سابقة الذكر. كما أن رفض المصالحة الوطنية يشمل العديد من الأطراف الأخرى أهمها الجبهة الشعبية التي لم تكن معنية بتنسيقية العائلة الديمقراطية الاجتماعية ما يعني أن الأحزاب الخمسة سالفة الذكر قد نظرت في مشروع قانون المصالحة ورأت فيه نارا قادرة على إذابة الثلج في مشاوراتها فحاولت البحث عن قبس يعيد الروح لمبادرتها. فالعائلة الديمقراطية لا تتفق حول نوعية الالتقاء ذلك أن حزب التكتل يدافع عن انصهار أحزابها في حزب واحد فيما تدافع الأغلبية عن ائتلاف لا يقضي على خصوصية كل حزب، لكن الناحية الشكلية لا تحجب العديد من الأسباب الموضوعية. إذا كان حزبا النهضة والنداء في النهاية خيّرا الحكم معا وتوسيع الائتلاف الحاكم ليشمل حزبي الاتحاد الوطني الحرّ وحزب آفاق تونس وبذلك يضمن الائتلاف الحكومي أغلبية ساحقة في البرلمان، فإن أحزاب المعارضة لم تتجاوز خلافاتها وبقيت رهينة «ضغائن »الماضي وأحقاده. فالجبهة الشعبية لم تتجاوز بعد علاقتها المتوترة والمتشنّجة بحزبي الترويكا سابقا التكتّل خاصة المؤتمر من أجل الجمهورية، ورغم علاقة النضال الطويلة التي كانت تجمع الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية وزعيم حزب العمال حمة الهمامي وزعيم حزب المؤتمر ورئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي، فإنه ومنذ انتهاء الانتخابات بدت العلاقة فاترة بين الرجلين، كما هاجمت القيادات في كلا الحزبين بعضها ببعض في أكثر من مناسبة وحول أكثر من ملف. ورغم مواقفهما الموحدة من القضايا الوطنية الكبرى والراهنة ورفضهما لسياسات الحكومة الحالية التي يعتبرانها فاشلة وستجرّ الوبال على البلاد، فإن ذلك لم يقرّب وجهات النظر بينهما إلى درجة البحث عن أرضية عمل مشتركة. فالجبهة الشعبية ترى أن حزب المؤتمر لم يقم بدوره في حماية الدولة من تغلغل المتشددين في مفاصلها وقبل عن طيب خاطر أن يكون أحد أذيال النهضة في ائتلاف تتحكّم النهضة في قراراته دون منافسة من شريكيها، كما تتوجّه الجبهة الشعبية بالنقد اللاذع لرئيس الجمهورية السابق المرزوقي وترى أنه لم يعمل على توحيد التونسيين بل كان مطية وسببا في الفرقة والتشرذم. وفي المقابل يرى حزب المؤتمر انه الأولى بتزعّم المعارضة وهو الذي أعلن زعيمه المرزوقي عن تشكيل حراك شعب المواطنين – المعارض للسلطة. ولعل هذا الصراع الخفي في الغالب والمعلن في بعض الأحيان سيؤثّر على وزن جبهة المعارضة لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية، والمتشكلة من العديد من الأحزاب الديمقراطية واليسارية والقومية، التي ستنزل جميعها إلى المسيرة الوطنية يوم السبت 12 سبتمبر الجاري، بهدف استخدام الشارع كوسيلة للضغط على الحكومة من أجل سحب المشروع من أروقة مجلس النواب. علماً أن الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يمثل أكبر قوة اجتماعية في البلاد لم يؤيد جبهة المعارضة هذه، باعتباره أعلن موقفه الذي يتسم بالبراغماتية والوسطية، إذ يطالب بإجراء تعديلات جذرية على هذا المشروع. وهكذا، ستكون المسيرة الوطنية اختبارًا حقيقيًا للحشد الجماهيري الذي يمكن أن يقوم به هذا التجمع الكبير من الأحزاب الرافضة لمشروع قانون المصالحة، ونقطة تصادم حقيقية مع أجهزة الأمن، لأن هذه المسيرة الوطنية تعتبرها الحكومة تحديًا صارخاً لحالة الطوارئ، الذي تعيش فيه تونس منذ آخر عملية إرهابية بسوسة في نهاية شهر يوليو الماضي، والبلاد أصبحت مهددة بحدوث عمليات إرهابية أخرى داخل العاصمة حسب تقارير أجهزة الاستخبارات الغربية. وإذا كان النزول إلى الشارع أصبح تقليدا ًنضاليًا سلميًا لدى الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في تونس طيلة السنوات الخمس الماضية، فإن جبهة المعارضة الديمقراطية هذه أصبحت تخشى من عودة ممارسات الدولة البوليسية، لاسيَّما في مجال القمع للمظاهرات والاحتجاجات الاجتماعية من قبل أجهزة الأمن، والاعتداءات على الحريات الديمقراطية التي أضحت من مكاسب الثورة، لاسيَّما حرية التعبير، وحرية التظاهر. لاسيَّما أنّ الائتلاف الحاكم أعلن حالة الطوارئ تحت غطاء «مقاومة الإرهاب»، ولكن الحقيقة غير ذلك، فهو أداة لضرب التحركات الاجتماعية من أجل مواصلة الالتفاف على الثورة وتمرير قوانين تخدم وتدافع عن الأثرياء والفاسدين، منها قانون المصالحة. تخوض المعارضة التونسية اليوم المعركة ضد الفساد الذي يلتهم 27 مليار دينار من الناتج المحلي الخام(حوالي 14 مليار دولار أمريكي)، إذ سجلت تونس خلال السنوات القليلة الماضية تراجعا في المؤشر العالمي لمدركات الفساد من المرتبة 75 إلى المرتبة 79 عالميا. وحذفت حكومة الصيد الحالية من قاموسها السياسي مقاومة الفساد، وهو ما يؤشر إلى العودة إلى المربع الأول واعتبار الفساد من المواضيع المحرمة. ولأن الأحزاب الكبرى التي تتشكل منها هذه الحكومة تتجنب الخوض بعمق في ملف الفساد لتجنب الإحراج في علاقة بالمال السياسي وأيضا في علاقة هذه الأحزاب برجال الأعمال لاسيَّما المورطين منهم في قضايا فساد. ومثل التعاطي مع ملف رجال الأعمال المورطين في الفساد النقطة السوداء في سجل الحكومات المتعاقبة ما بعد الثورة وربما تطرح المسألة بأكثر وضوح مع الفائزين اليوم في الانتخابات في ظل وجود عدد لا بأس به من رجال الأعمال صلب البرلمان وأيضا في التركيبة الحكومية الجديدة. ويشكل مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الأخير مدخلاً خطيراً للتصالح مع الفاسدين ومع من نهبوا أموال التونسيين، نحن مع المصالحة، لكن بعد المحاسبة وفي إطار الشفافية والدستور ومسار العدالة الانتقالية. ولأنه في حال المصادقة عليه قريباً من البرلمان، سيحصن قانونيا من كل الذين شاركوا في الفساد وانتهاك قواعد الحوكمة الرشيدة، واستولوا على أراض وأموال عمومية وإن كانوا مأمورين. ونحن نشدد على ضرورة البدء بمحاسبة هؤلاء وكشف عمن أعطاهم الأوامر، ونحن نعترض على « قطع الطريق » وإعلان مصالحة سابقة لأوانها مع متهمين بالفساد ومخالفة القوانين وإن نفذوا تعليمات تحت الضغط دون التورط مباشرة في السرقة والرشوة. إنّ إخراج البلاد من الأزمة الاقتصاديّة الخانقة لا يمرّ عبر التغاضي عن الفساد وإعادة الاعتبار للفاسدين ولناهبي المال العام بقدر ما يقتضي وضع منوال تنمية جديد موجّهة لخلق الثروة وتوفير مواطن شغل، إلى جانب اتّخاذ إجراءات جريئة أخرى أساسا، إعادة هيكلة المنظومة الجبائيّة، إعادة النّظر في المديونيّة وتعليقها، واستعادة الأموال المنهوبة، وفرض ضريبة على الثروات الكبرى، هذا ناهيك عن إصلاحات في قطاع الفلاحة، والتقدم في إحداث خلايا للحوكمة ومقاومة الفساد في صلب المؤسسات العمومية وإدراج مكافحة الفساد في الهياكل التنظيمية للإدارات وكل مرافق الدولة. وجميع الإصلاحات الكبرى المطلوبة في جل القطاعات اليوم على غرار الديوانة والصحة والطاقة والمناجم..إلخ تمر في جزء كبير منها عبر مقاومة الفساد والمفسدين. كيف ستوفق الحكومة في مقاومة الإرهاب والتهريب إذا ما كانت وصفة النجاح تمر حتما عبر مكافحة الفساد؟ والجميع يعلم أن شبكات التهريب لا تعمل بمفردها بل لها امتداد وعروق ومصالح من داخل أجهزة الدولة تتواطأ مع مافيا «الحاويات» والتجارة الموازية. والإصلاح يبدأ من مقاومة لوبيات الفساد والتهرب الضريبي لحماية النسيج الاقتصادي من جهة وحماية الفقراء من جهة أخرى. كيف ستكسب حكومة الصيد الثقة والتأييد الشعبي إذا ما أسقطت من حساباتها تحت وقع الضغوطات الاقتصادية، موضوع مكافحة الفساد في الوقت الذي مازالت تطرح فيه هواجس ومخاوف التونسيين من ممارسات الماضي ومن بينها ما يتداول هذه الأيام حول مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية مع رجال الأعمال الفاسدين، الذين هربوا أموال تونس إلى الخارج، إذ تم الكشف مع بداية سنة 2015عن حوالي 349 حسابا سريا في بنوك سويسرية بمئات المليارات من الدنانير التونسية تعود لحاملي الجنسية التونسية من بينهم رجال أعمال وأحد المرشحين للرئاسة؟!! وهنا قد يتساءل التونسيون من سيضمن عدم تواصل نهب ثروات ومقدرات الشعب في ظل حكومة لم تقدم ولو رمزيا ما يفيد تعهدها والتزامها بمحاربة الفساد والمفسدين؟ فمشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية يحمل بشرى سارة للهيئات المالية الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، وبالتالي يحمل أيضا مؤشرات إيجابية تقدم للمستثمرين الأجانب. بالتأكيد سيكون هناك شك قد يتحول إلى شكوك، وكلما قويت موازين الشك خفّت موازين الثقة في مناخ الاستثمار وجدية مكافحة الفساد وبالتالي في القدرة على إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وهناك خشية من أن يجد الفساد في مشروع القانون نفسا يتجدد من خلاله. فالتسويات تبقى دوما قابلة للنقاش ولا يمكن أن يحصل بشأنها إجماع وحتى التوافق، بشأن الملف الشائك، سيكون مرحليا وخاضعا لتوازنات سياسية. الأهم الآن أن لا يتحول قانون المصالحة الاقتصادية والمالية إلى فتنة كبرى، وإنما أن يحدث داخل مختلف الأوساط السياسية والشعبية جدلاً سياسياً منتجًا حول السبل الكفيلة لمحاربة آفة الفساد.

343

| 11 سبتمبر 2015

احتدام الصراع في تونس حول قانون المصالحة

تظاهر يوم الأربعاء الماضي العشرات من الأشخاص وسط العاصمة التونسية من حركة «لا لن نسامح»، التي تكونت إثر الإعلان عن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الجديد، الذي اقترحه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، في 20 مارس الماضي، وتبنته الحكومة التونسية في 14 يوليو الماضي، وأحالته لمجلس النواب للمصادقة عليه، ورفضته المعارضة ومنظمات غير حكومية وبعض الهيئات، والمؤيدون لها ممن رفضوا القانون، مرددين هتافات «لا للمصالحة مع الفاسدين» و«لا.. لن نسامح»، محذرين من القانون الذي تطغى عليه الرغبة في تبييض الفساد والإفلات من العقاب، وعدم ضمان تكرار جرائم الفساد بل يشجع على مزيد من الفساد. وتقدم الوزير مدير الديوان الرئاسي رضا بالحاج إلى واجهة الأحداث، حين شارك في ندوة أقامتها دار الصباح في نهاية شهر أغسطس الماضي، ليدافع عن مشروع رئاسة الجمهورية حول المصالحة الاقتصادية والمالية. فقال إن النص القانوني تم طرحه لإنجاح مسار العدالة الانتقالية في مجال الانتهاكات المالية، ولتحسين مناخ الأعمال والتشجيع على الاستثمار وتسوية الوضعيات العالقة وتعبئة موارد الدولة من العملة الصعبة.انكماش الوضع الاقتصادي في تونس له أسباب خارجية مثل المناخ الاقتصادي الدولي وبينها الاستثمار الخارجي.. لكنه مرتبط كذلك بعوامل داخلية من بينها تأثر الوضع الاقتصادي جراء «انكماش» الإدارة وكبار الموظفين والمستثمرين التونسيين.وقد تبين أن التتبعات القضائية لآلاف الموظفين العموميين خلال 5 أعوام أضعف مردودية الإدارة والموظفين وقلل من فرص المبادرة لديهم وهم يلاحظون أن زملاءهم يتعرضون «للهرسلة» لمجرد تأشيرهم على عقود أو محاضر أو إمضائهم صفقات في سياق مسؤوليتهم الإدارية وتطبيقا لتعليمات صدرت لهم أي أنهم لم يسرقوا ولم يحصلوا على رشاوى.. وهؤلاء ينطبق عليهم الفصل 2 من مشروع قانون المصالحة الاقتصادية. ويقدر العدد الإجمالي لهؤلاء الموظفين السامين والمسؤولين السابقين في الإدارة الذين سيشملهم قانون المصالحة بحوالي 7 آلاف موظف سام ومسؤول وطني وجهوي والأبحاث متواصلة وقائمتهم ستطول. وهؤلاء جميعا ليس بينهم من تورط في الارتشاء والفساد لكنهم عرضة للتبعات بسبب تطبيق تعليمات سياسية وإدارية وينطبق عليهم الفصل 96.. ويقدر من يعتبرون «متهمين» بــ 300 والبقية «شهود» التحقيق مفتوح معهم وقد يتطوّر.. البعض من هؤلاء قام بأفعال ـ مثل التوقيع على عقود أو محاضر جلسات ـ وبعضهم مجرد شهود.. وغالبيتهم في وزارات أملاك الدولة والوزارة الأولى وقعوا أو شاركوا في صياغة عقود. ونتيجة التتبعات التي تشمل هؤلاء فإن زملاءهم حاليا متخوفون من أي مبادرة وأصبحوا يساهمون في «شلل» الإدارة وهو ما ينعكس سلبا على التنمية وفرص الاستثمار والادخار والتشغيل والتنمية الجهوية.ولا علاقة لهؤلاء الموظفين ـ الذي قد يرتفع عددهم ـ بالموظفين «الذين استفادوا» أو اتهموا بالرشوة والذين يشملهم الفصل الثالث من مشروع قانون المصالحة الاقتصادية مثلهم مثل رجال الأعمال «المستفيدين» والذين فتح لهم المشروع باب تسوية وضعيتهم القانونية عبر مسار صلح قانوني مالي.. ووضعية هؤلاء تختلف عن وضعية عائلة الرئيس الأسبق بن علي الذين صودرت أملاكهم ولديهم ملف خاص.أما بالنسبة للذين خالفوا «قانون الصرف» ولديهم أرصدة بنكية غير قانونية وأملاك غير مصرح بها في الخارج، فقد خصص الفصلان 7 و8 من مشروع القانون لهذه الفئة أي لرجال الأعمال الذين لديهم مصالح وممتلكات وأموال في الخارج بصفة غير قانونية.. ونعتقد أن إقرار قانون لتسوية وضعياتهم سيساهم في إرجاع مناخ الثقة وتدفق أموال على تونس وعودة مستثمرين للاستثمار في بلدهم.وبالمقابل، يقول الأكاديمي حسين الرميلي والعضو البارز بالجبهة الشعبية، بأنه صدم من مشروع قانون المصالحة، لأن المطلوب كان إصلاحات هيكلية في 3 أو 4 محاور أساسية يشعر من خلالها الشعب بتغيير حقيقي بعد سنوات قليلة. أما أن يكون القانون من أجل العفو على «الفاسد» فإن هذه النماذج ستكون مثالا سيئا لبقية الموظفين .فالإدارة التونسية تحتاج اليوم إلى ثورة لضرب المنظومة البيروقراطية بما يضمن عدم عودة منظومة الفساد، لأن الاستبداد يعتمد على البيروقراطية والفساد ومنح الامتيازات للذين يطبقون التعليمات. وكل هذه المعطيات تجعلنا نؤكد أن مشروع قانون المصالحة جاء خارج السياق .ثم إنه لم يتضمن بعض الأرقام تجعلنا مثلا على يقين من تخفيض العجز في الموازنة بنسبة 40 بالمائة وغيرها مما قد يدفعنا إلى قبوله رغم تحفظاتنا عليه. فالمشكلة ليست في 7 آلاف موظف يتعرضون إلى مضايقات وإنما في المنظومة التي تهيئ الموظف للرشوة والفساد إضافة إلى تبييض رجال الأعمال الفاسدين ومنحهم الأراضي بالمليم الرمزي ليتم بيعها بعد ذلك بالمليارات. فإذا قمنا بإصلاحات هيكلية يمكننا بلوغ نسبة نمو سنوية بـ 4 و5 بالمائة خلال السنوات القادمة باعتبار أننا نعاني اليوم من إعاقة في البنية التحتية ومشروع ميناء النفيضة انطلق بالتوازي مع ميناء طنجة بالمغرب لكن ميناء طنجة انطلق في العمل ومشروع ميناء النفيضة مازال في الرفوف بسبب الترسانة البيروقراطية التي يتحتم اليوم الثورة عليها وتغييرها.إن أولويات التونسي اليوم توفير الشغل والمقدرة الشرائية التي تدهورت بشكل كبير وغيرها من الملفات الحارقة التي تتطلب برنامج إصلاح هيكلي متكامل. أما أن نحول اليوم الوجهة من أجل 40 أو 50 رجل أعمال فهذا غير مقبول ولا معقول. فالشعب التونسي على يقين أنهم لن يكونوا رأس مال وطنيا باعتبار أن أموالهم متأتية من السرقة، فكيف يفسح لهم في المجال لتبييضهم بما يعبد الطريق لعودة منظومة الفساد. وما دمنا لم نغير المنظومة والقوانين ونعمل على إصلاح حقيقي فإننا سنهيئ المناخ لعودة الفساد من جديد. بالنسبة للغالبية من التونسيين، فإنهم يرون أن مشروع المصالحة الاقتصادية والمالية يتنافى مع مسار العدالة الانتقالية التي نص عليها الدستور ولهيئة الحقيقة والكرامة التي تشكلت للإشراف على مسار العدالة الانتقالية ببعديها السياسي والاقتصادي مثلما نص على ذلك القانون الذي أحدثها وتحديدا الفصل 53.فهذا المشروع يُعَّدُ ضرباً لهيئة الحقيقة والكرامة واعتداء عليها وعلى صلاحياتها وخاصة على صلاحيات لجنة التحكيم والمصالحة التابعة لها. فمن بين مشمولات هيئة الإشراف على مسار العدالة الانتقالية كشف الحقيقة ومحاسبة الفاسدين وإيجاد ضمانات عدم العودة إلى ما وقع في عهد الديكتاتورية والفساد قبل الثورة ونحن نعترض على «قطع الطريق» وإعلان مصالحة سابقة لأوانها مع متهمين بالفساد ومخالفة القوانين وإن نفذوا تعليمات تحت الضغط دون التورط مباشرة في السرقة والرشوة.ثم إن مشروع القانون هذا سيحصن قانونيا من شاركوا في الفساد وانتهاك قواعد الحوكمة الرشيدة واستولوا على أراض وأموال عمومية وإن كانوا مأمورين. ونحن نشدد على ضرورة البدء بمحاسبة هؤلاء وكشف عمن أعطاهم الأوامر. وبالنسبة لرجال الأعمال المعنيين بهذا المشروع ـ الذي قدمه رئيس الدولة وزكته الحكومة ـ والذين يقر نصه بتجاوزاتهم ومخالفاتهم فإن إعلان التصالح معهم قبل محاسبتهم سيعني بالنتيجة مكافأة مجموعة من الفاسدين الذين مولّوا الحملات الانتخابية السابقة للأحزاب والأطراف السياسية الفاعلة حاليا في مؤسسات الدولة. وفي سياق هذا الرفض لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، دعت «منظمة الشفافية الدولية» البرلمان التونسي لعدم المصادقة عليه، وحذرت من الفساد واختلاس المال العام في حال تمريره، على عفو بحق من كان لهم أفعال تتعلق بالفساد المالي والاعتداء على المال العام، وإمكانية الصلح مع رجال الأعمال الذين تورطوا في قضايا فساد مالي، وتشكيل لجنة مصالحة برئاسة الحكومة للنظر في مطالب الصلح. واعتبرت منظمتا «الشفافية الدولية» و«أنا يقظ» التونسية لمكافحة الفساد، أنه يجب على البرلمان التونسي رفض مشروع هذا القانون بصيغته الحالية، حيث يشكل تدخلا صارخا في عمل السلطة القضائية وانتهاكا جسيما لقيم المساءلة والشفافية المكرسة في الدستور التونسي، وسيشجع كل من تسول له نفسه على اختلاس المال العام في المستقبل. وقال رئيس منظمة الشفافية الدولية، خوزيه أوغاز، إن قانون المصالحة سيميع مفهوم الحقيقة والكرامة، حيث سيخول لكبار المتحايلين الذين كدسوا الثروات تحت لواء الديكتاتور السابق، زين العابدين بن علي، التهرب من العدالة مقابل ضخ بعض ما حققوه بطرق غير مشروعة في عجلة اقتصاد البلاد، ولن يزيد ذلك الفاسدين إلا سطوة ونفوذا. وفي سياق هذا الجدل المثير الدائر في مختلف الأوساط السياسية الرسمية والشعبية في تونس حول مشروع المصالحة الاقتصادية الذي كانت رئاسة الجمهورية تقدمت به، بين الأكثرية السياسية المتسلحة بنتائج الانتخابات والتي ترى أن بإمكانها، بلغة الحسابات، تمرير مشروع قانون المصالحة هذا، وربما بسهولة أيضا، وبين المواقف السياسية المعارضة لهذا المشروع جملة وتفصيلاً والمستندة إلى الحراك الشعبي، هناك موقف وسطي براغماتي، يجسده الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يمثل العمود الفقري للمجتمع المدني التونسي، القادر أن يقف نداً للحكومة، فهو من حيث المبدأ مع المصالحة الوطنية ومع تخصيص آلية للمصالحة الاقتصادية يمكن أن لا تقترن بالضرورة بالمسار السياسي والحقوقي، ولو أن البعض يستغرب هذا الموقف، لكن النقابات مع المصالحة وفق مسار العدالة الانتقالية.

326

| 08 سبتمبر 2015

alsharq
TOT... السلعة الرائجة

كثير من المراكز التدريبية اليوم وجدت سلعة سهلة...

5232

| 06 أكتوبر 2025

alsharq
استيراد المعرفة المعلبة... ضبط البوصلة المحلية على عاتق من؟

في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ...

2187

| 02 أكتوبر 2025

alsharq
الإقامة الدائمة: مفتاح قطر لتحقيق نمو مستدام

تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في...

1926

| 05 أكتوبر 2025

alsharq
حماس ونتنياهو.. معركة الفِخاخ

في الوقت الذي كان العالم يترقب رد حركة...

963

| 05 أكتوبر 2025

alsharq
إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق

منذ أكثر من مائة عام ارتُكبت واحدة من...

891

| 30 سبتمبر 2025

alsharq
الوضع ما يطمن

لسنا متشائمين ولا سلبيين في أفكارنا وتوقعاتنا ولكن...

885

| 03 أكتوبر 2025

alsharq
النسيان نعمة أم نقمة؟

في لحظة صفاء مع النفس، يطلّ النسيان عليَّ...

852

| 30 سبتمبر 2025

alsharq
تعلّم كيف تقول لا دون أن تفقد نفسك

كم مرة قلت «نعم» في العمل بينما في...

756

| 02 أكتوبر 2025

alsharq
بين دفء الاجتماع ووحشة الوحدة

الإنسان لم يُخلق ليعيش وحيداً. فمنذ فجر التاريخ،...

678

| 06 أكتوبر 2025

alsharq
كورنيش الدوحة بين ريجيم “راشد” وعيون “مايكل جون” الزرقاء

في فجرٍ قطريّ عليل، كان البحر يلمع بألوان...

651

| 30 سبتمبر 2025

alsharq
النعمة في السر والستر

كيف نحمي فرحنا من الحسد كثيرًا ما نسمع...

627

| 30 سبتمبر 2025

alsharq
الشريك الرئيسي في إعداد الأجيال القادمة

كل عام، في الخامس من أكتوبر يحتفى العالم...

627

| 05 أكتوبر 2025

أخبار محلية