رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تظاهر يوم الأربعاء الماضي العشرات من الأشخاص وسط العاصمة التونسية من حركة «لا لن نسامح»، التي تكونت إثر الإعلان عن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الجديد، الذي اقترحه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، في 20 مارس الماضي، وتبنته الحكومة التونسية في 14 يوليو الماضي، وأحالته لمجلس النواب للمصادقة عليه، ورفضته المعارضة ومنظمات غير حكومية وبعض الهيئات، والمؤيدون لها ممن رفضوا القانون، مرددين هتافات «لا للمصالحة مع الفاسدين» و«لا.. لن نسامح»، محذرين من القانون الذي تطغى عليه الرغبة في تبييض الفساد والإفلات من العقاب، وعدم ضمان تكرار جرائم الفساد بل يشجع على مزيد من الفساد.
وتقدم الوزير مدير الديوان الرئاسي رضا بالحاج إلى واجهة الأحداث، حين شارك في ندوة أقامتها دار الصباح في نهاية شهر أغسطس الماضي، ليدافع عن مشروع رئاسة الجمهورية حول المصالحة الاقتصادية والمالية. فقال إن النص القانوني تم طرحه لإنجاح مسار العدالة الانتقالية في مجال الانتهاكات المالية، ولتحسين مناخ الأعمال والتشجيع على الاستثمار وتسوية الوضعيات العالقة وتعبئة موارد الدولة من العملة الصعبة.
انكماش الوضع الاقتصادي في تونس له أسباب خارجية مثل المناخ الاقتصادي الدولي وبينها الاستثمار الخارجي.. لكنه مرتبط كذلك بعوامل داخلية من بينها تأثر الوضع الاقتصادي جراء «انكماش» الإدارة وكبار الموظفين والمستثمرين التونسيين.
وقد تبين أن التتبعات القضائية لآلاف الموظفين العموميين خلال 5 أعوام أضعف مردودية الإدارة والموظفين وقلل من فرص المبادرة لديهم وهم يلاحظون أن زملاءهم يتعرضون «للهرسلة» لمجرد تأشيرهم على عقود أو محاضر أو إمضائهم صفقات في سياق مسؤوليتهم الإدارية وتطبيقا لتعليمات صدرت لهم أي أنهم لم يسرقوا ولم يحصلوا على رشاوى.. وهؤلاء ينطبق عليهم الفصل 2 من مشروع قانون المصالحة الاقتصادية.
ويقدر العدد الإجمالي لهؤلاء الموظفين السامين والمسؤولين السابقين في الإدارة الذين سيشملهم قانون المصالحة بحوالي 7 آلاف موظف سام ومسؤول وطني وجهوي والأبحاث متواصلة وقائمتهم ستطول. وهؤلاء جميعا ليس بينهم من تورط في الارتشاء والفساد لكنهم عرضة للتبعات بسبب تطبيق تعليمات سياسية وإدارية وينطبق عليهم الفصل 96.. ويقدر من يعتبرون «متهمين» بــ 300 والبقية «شهود» التحقيق مفتوح معهم وقد يتطوّر.. البعض من هؤلاء قام بأفعال ـ مثل التوقيع على عقود أو محاضر جلسات ـ وبعضهم مجرد شهود.. وغالبيتهم في وزارات أملاك الدولة والوزارة الأولى وقعوا أو شاركوا في صياغة عقود. ونتيجة التتبعات التي تشمل هؤلاء فإن زملاءهم حاليا متخوفون من أي مبادرة وأصبحوا يساهمون في «شلل» الإدارة وهو ما ينعكس سلبا على التنمية وفرص الاستثمار والادخار والتشغيل والتنمية الجهوية.
ولا علاقة لهؤلاء الموظفين ـ الذي قد يرتفع عددهم ـ بالموظفين «الذين استفادوا» أو اتهموا بالرشوة والذين يشملهم الفصل الثالث من مشروع قانون المصالحة الاقتصادية مثلهم مثل رجال الأعمال «المستفيدين» والذين فتح لهم المشروع باب تسوية وضعيتهم القانونية عبر مسار صلح قانوني مالي.. ووضعية هؤلاء تختلف عن وضعية عائلة الرئيس الأسبق بن علي الذين صودرت أملاكهم ولديهم ملف خاص.
أما بالنسبة للذين خالفوا «قانون الصرف» ولديهم أرصدة بنكية غير قانونية وأملاك غير مصرح بها في الخارج، فقد خصص الفصلان 7 و8 من مشروع القانون لهذه الفئة أي لرجال الأعمال الذين لديهم مصالح وممتلكات وأموال في الخارج بصفة غير قانونية.. ونعتقد أن إقرار قانون لتسوية وضعياتهم سيساهم في إرجاع مناخ الثقة وتدفق أموال على تونس وعودة مستثمرين للاستثمار في بلدهم.
وبالمقابل، يقول الأكاديمي حسين الرميلي والعضو البارز بالجبهة الشعبية، بأنه صدم من مشروع قانون المصالحة، لأن المطلوب كان إصلاحات هيكلية في 3 أو 4 محاور أساسية يشعر من خلالها الشعب بتغيير حقيقي بعد سنوات قليلة. أما أن يكون القانون من أجل العفو على «الفاسد» فإن هذه النماذج ستكون مثالا سيئا لبقية الموظفين .فالإدارة التونسية تحتاج اليوم إلى ثورة لضرب المنظومة البيروقراطية بما يضمن عدم عودة منظومة الفساد، لأن الاستبداد يعتمد على البيروقراطية والفساد ومنح الامتيازات للذين يطبقون التعليمات.
وكل هذه المعطيات تجعلنا نؤكد أن مشروع قانون المصالحة جاء خارج السياق .ثم إنه لم يتضمن بعض الأرقام تجعلنا مثلا على يقين من تخفيض العجز في الموازنة بنسبة 40 بالمائة وغيرها مما قد يدفعنا إلى قبوله رغم تحفظاتنا عليه.
فالمشكلة ليست في 7 آلاف موظف يتعرضون إلى مضايقات وإنما في المنظومة التي تهيئ الموظف للرشوة والفساد إضافة إلى تبييض رجال الأعمال الفاسدين ومنحهم الأراضي بالمليم الرمزي ليتم بيعها بعد ذلك بالمليارات. فإذا قمنا بإصلاحات هيكلية يمكننا بلوغ نسبة نمو سنوية بـ 4 و5 بالمائة خلال السنوات القادمة باعتبار أننا نعاني اليوم من إعاقة في البنية التحتية ومشروع ميناء النفيضة انطلق بالتوازي مع ميناء طنجة بالمغرب لكن ميناء طنجة انطلق في العمل ومشروع ميناء النفيضة مازال في الرفوف بسبب الترسانة البيروقراطية التي يتحتم اليوم الثورة عليها وتغييرها.
إن أولويات التونسي اليوم توفير الشغل والمقدرة الشرائية التي تدهورت بشكل كبير وغيرها من الملفات الحارقة التي تتطلب برنامج إصلاح هيكلي متكامل. أما أن نحول اليوم الوجهة من أجل 40 أو 50 رجل أعمال فهذا غير مقبول ولا معقول. فالشعب التونسي على يقين أنهم لن يكونوا رأس مال وطنيا باعتبار أن أموالهم متأتية من السرقة، فكيف يفسح لهم في المجال لتبييضهم بما يعبد الطريق لعودة منظومة الفساد. وما دمنا لم نغير المنظومة والقوانين ونعمل على إصلاح حقيقي فإننا سنهيئ المناخ لعودة الفساد من جديد.
بالنسبة للغالبية من التونسيين، فإنهم يرون أن مشروع المصالحة الاقتصادية والمالية يتنافى مع مسار العدالة الانتقالية التي نص عليها الدستور ولهيئة الحقيقة والكرامة التي تشكلت للإشراف على مسار العدالة الانتقالية ببعديها السياسي والاقتصادي مثلما نص على ذلك القانون الذي أحدثها وتحديدا الفصل 53.فهذا المشروع يُعَّدُ ضرباً لهيئة الحقيقة والكرامة واعتداء عليها وعلى صلاحياتها وخاصة على صلاحيات لجنة التحكيم والمصالحة التابعة لها. فمن بين مشمولات هيئة الإشراف على مسار العدالة الانتقالية كشف الحقيقة ومحاسبة الفاسدين وإيجاد ضمانات عدم العودة إلى ما وقع في عهد الديكتاتورية والفساد قبل الثورة ونحن نعترض على «قطع الطريق» وإعلان مصالحة سابقة لأوانها مع متهمين بالفساد ومخالفة القوانين وإن نفذوا تعليمات تحت الضغط دون التورط مباشرة في السرقة والرشوة.
ثم إن مشروع القانون هذا سيحصن قانونيا من شاركوا في الفساد وانتهاك قواعد الحوكمة الرشيدة واستولوا على أراض وأموال عمومية وإن كانوا مأمورين. ونحن نشدد على ضرورة البدء بمحاسبة هؤلاء وكشف عمن أعطاهم الأوامر. وبالنسبة لرجال الأعمال المعنيين بهذا المشروع ـ الذي قدمه رئيس الدولة وزكته الحكومة ـ والذين يقر نصه بتجاوزاتهم ومخالفاتهم فإن إعلان التصالح معهم قبل محاسبتهم سيعني بالنتيجة مكافأة مجموعة من الفاسدين الذين مولّوا الحملات الانتخابية السابقة للأحزاب والأطراف السياسية الفاعلة حاليا في مؤسسات الدولة.
وفي سياق هذا الرفض لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، دعت «منظمة الشفافية الدولية» البرلمان التونسي لعدم المصادقة عليه، وحذرت من الفساد واختلاس المال العام في حال تمريره، على عفو بحق من كان لهم أفعال تتعلق بالفساد المالي والاعتداء على المال العام، وإمكانية الصلح مع رجال الأعمال الذين تورطوا في قضايا فساد مالي، وتشكيل لجنة مصالحة برئاسة الحكومة للنظر في مطالب الصلح. واعتبرت منظمتا «الشفافية الدولية» و«أنا يقظ» التونسية لمكافحة الفساد، أنه يجب على البرلمان التونسي رفض مشروع هذا القانون بصيغته الحالية، حيث يشكل تدخلا صارخا في عمل السلطة القضائية وانتهاكا جسيما لقيم المساءلة والشفافية المكرسة في الدستور التونسي، وسيشجع كل من تسول له نفسه على اختلاس المال العام في المستقبل. وقال رئيس منظمة الشفافية الدولية، خوزيه أوغاز، إن قانون المصالحة سيميع مفهوم الحقيقة والكرامة، حيث سيخول لكبار المتحايلين الذين كدسوا الثروات تحت لواء الديكتاتور السابق، زين العابدين بن علي، التهرب من العدالة مقابل ضخ بعض ما حققوه بطرق غير مشروعة في عجلة اقتصاد البلاد، ولن يزيد ذلك الفاسدين إلا سطوة ونفوذا.
وفي سياق هذا الجدل المثير الدائر في مختلف الأوساط السياسية الرسمية والشعبية في تونس حول مشروع المصالحة الاقتصادية الذي كانت رئاسة الجمهورية تقدمت به، بين الأكثرية السياسية المتسلحة بنتائج الانتخابات والتي ترى أن بإمكانها، بلغة الحسابات، تمرير مشروع قانون المصالحة هذا، وربما بسهولة أيضا، وبين المواقف السياسية المعارضة لهذا المشروع جملة وتفصيلاً والمستندة إلى الحراك الشعبي، هناك موقف وسطي براغماتي، يجسده الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يمثل العمود الفقري للمجتمع المدني التونسي، القادر أن يقف نداً للحكومة، فهو من حيث المبدأ مع المصالحة الوطنية ومع تخصيص آلية للمصالحة الاقتصادية يمكن أن لا تقترن بالضرورة بالمسار السياسي والحقوقي، ولو أن البعض يستغرب هذا الموقف، لكن النقابات مع المصالحة وفق مسار العدالة الانتقالية.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم خارج إطار العطاء، بل نراهم ذاكرة الوطن الحية، وامتداد مسيرة بنائه منذ عقود. هم الجيل الذي زرع، وأسّس، وساهم في تشكيل الملامح الأولى لمؤسسات الدولة الحديثة. ولأن قطر لم تكن يومًا دولة تنسى أبناءها، فقد كانت من أوائل الدول التي خصّت المتقاعدين برعاية استثنائية، وعلاوات تحفيزية، ومكافآت تليق بتاريخ عطائهم، في نهج إنساني رسخته القيادة الحكيمة منذ أعوام. لكن أبناء الوطن هؤلاء «المتقاعدون» لا يزالون ينظرون بعين الفخر والمحبة إلى كل خطوة تُتخذ اليوم، في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله – فهم يرون في كل قرار جديد نبض الوطن يتجدد. ويقولون من قلوبهم: نحن أيضًا أبناؤك يا صاحب السمو، ما زلنا نعيش على عهدك، ننتظر لمستك الحانية التي تعودناها، ونثق أن كرمك لا يفرق بين من لا يزال في الميدان، ومن تقاعد بعد رحلة شرف وخدمة. وفي هذا الإطار، جاء اعتماد القانون الجديد للموارد البشرية ليؤكد من جديد أن التحفيز في قطر لا يقف عند حد، ولا يُوجّه لفئة دون أخرى. فالقانون ليس مجرد تحديث إداري أو تعديل في اللوائح، بل هو رؤية وطنية متكاملة تستهدف الإنسان قبل المنصب، والعطاء قبل العنوان الوظيفي. وقد حمل القانون في طياته علاوات متعددة، من بدل الزواج إلى بدل العمل الإضافي، وحوافز الأداء، وتشجيع التطوير المهني، في خطوة تُكرس العدالة، وتُعزز ثقافة التحفيز والاستقرار الأسري والمهني. هذا القانون يُعد امتدادًا طبيعيًا لنهج القيادة القطرية في تمكين الإنسان، سواء كان موظفًا أو متقاعدًا، فالجميع في عين الوطن سواء، وكل من خدم قطر سيبقى جزءًا من نسيجها وذاكرتها. إنه نهج يُترجم رؤية القيادة التي تؤمن بأن الوفاء ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل سياسة دولة تُكرم العطاء وتزرع في الأجيال حب الخدمة العامة. في النهاية، يثبت هذا القانون أن قطر ماضية في تعزيز العدالة الوظيفية والتحفيز الإنساني، وأن الاستثمار في الإنسان – في كل مراحله – هو الاستثمار الأجدر والأبقى. فالموظف في مكتبه، والمتقاعد في بيته، كلاهما يسهم في كتابة الحكاية نفسها: حكاية وطن لا ينسى أبناءه.
8799
| 09 أكتوبر 2025
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
4035
| 13 أكتوبر 2025
في زمن تتسابق فيه الأمم على رقمنة ذاكرتها الوطنية، يقف الأرشيف القطري أمام تحدٍّ كبيرٍ بين نار الإهمال الورقي وجدار الحوسبة المغلقة. فبين رفوف مملوءة بالوثائق القديمة، وخوادم رقمية لا يعرف طريقها الباحثون، تضيع أحيانًا ملامح تاريخنا الذي يستحق أن يُروى كما يجب وتتعثر محاولات الذكاء الاصطناعي في استيعاب هويتنا وتاريخنا بالشكل الصحيح. فلا يمكن لأي دولة أن تبني مستقبلها دون أن تحفظ ماضيها. لكن جزءًا كبيراً من الأرشيف القطري ما زال يعيش في الظل، متناثرًا بين المؤسسات، بلا تصنيف موحّد أو نظام حديث للبحث والاسترجاع. الكثير من الوثائق التاريخية المهمة محفوظة في أدراج المؤسسات، أو ضمن أنظمة إلكترونية لا يستطيع الباحث الوصول إليها بسهولة. هذا الواقع يجعل من الصعب تحويل الأرشيف إلى مصدر مفتوح للمعرفة الوطنية، ويهدد باندثار تفاصيل دقيقة من تاريخ قطر الحديث. في المقابل، تمتلك الدولة الإمكانيات والكوادر التي تؤهلها لإطلاق مشروع وطني شامل للأرشفة الذكية، يعتمد على الذكاء الاصطناعي في فهرسة الوثائق، وتحليل الصور القديمة، وربط الأحداث بالأزمنة والأماكن. فبهذه الخطوة يمكن تحويل الأرشيف إلى ذاكرة رقمية حيّة، متاحة للباحثين والجمهور والطلبة بسهولة وموثوقية. فبعض الوثائق تُحفظ بلا فهرسة دقيقة، وأخرى تُخزَّن في أنظمة مغلقة تمنع الوصول إليها إلا بإجراءاتٍ معقدة. والنتيجة: ذاكرة وطنية غنية، لكنها مقيّدة. الذكاء الاصطناعي... فرصة الإنقاذ، فالذكاء الاصطناعي فرصة نادرة لإحياء الأرشيف الوطني. فالتقنيات الحديثة اليوم قادرة على قراءة الوثائق القديمة، وتحليل النصوص، والتعرّف على الصور والمخطوطات، وربط الأحداث ببعضها زمنياً وجغرافياً. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحوّل ملايين الصفحات التاريخية إلى ذاكرة رقمية ذكية، متاحة للباحثين والطلاب والإعلاميين بضغطة زر. غير أن المشكلة لا تتوقف عند الأرشيف، بل تمتد إلى الفضاء الرقمي. فعلى الرغم من التطور الكبير في البنية التحتية التقنية، إلا أن الإنترنت لا يزال يفتقر إلى محتوى قطري كافٍ ومنظم في مجالات التاريخ والثقافة والمجتمع. وحين يحاول الذكاء الاصطناعي تحليل الواقع القطري، يجد أمامه فراغًا معرفيًا كبيرًا، لأن المعلومة ببساطة غير متاحة أو غير قابلة للقراءة الآلية. الذكاء الاصطناعي لا يخلق المعرفة من العدم، بل يتعلم منها. وعندما تكون المعلومات المحلية غائبة، تكون الصورة التي يقدمها عن قطر مشوشة وغير مكتملة، ما يقلل من فرص إبراز الهوية القطرية رقمياً أمام العالم. فراغ رقمي في عالم متخم بالمعلومات.....حين يكتب الباحث أو الصحفي أو حتى الذكاء الاصطناعي عن موضوع يتعلق بتاريخ قطر، أو بأحد رموزها الثقافية أو أحداثها القديمة، يجد أمامه فراغًا معلوماتيًا واسعًا. مثالنا الواقعي كان عند سؤالنا لإحدى منصات الذكاء الاصطناعي عن رأيه بكأس العالم قطر2022 كان رأيه سلبياً نظراً لاعتماده بشكل كبير على المعلومات والحملات الغربية المحرضة وذلك لافتقار المنصات الوطنية والعربية للمعلومات الدقيقة والصحيحة فكثير من الأرشيفات محفوظة داخل المؤسسات ولا تُتاح للعامة، والمواقع الحكومية تفتقر أحيانًا إلى أرشفة رقمية مفتوحة أو واجهات بحث متطورة، فيما تبقى المواد المحلية مشتتة بين ملفات PDF مغلقة أو صور لا يمكن تحليلها والنتيجة: كمٌّ هائل من المعرفة غير قابل للقراءة الآلية، وبالتالي خارج نطاق استفادة الذكاء الاصطناعي منها. المسؤولية الوطنية والمجتمعية تتطلب اليوم ليس فقط مشروعاً تقنياً، بل مشروعاً وطنياً شاملًا للأرشفة الذكية، تشارك فيه الوزارات والجامعات والمراكز البحثية والإعلامية. كما يجب إطلاق حملات توعوية ومجتمعية تزرع في الأجيال الجديدة فكرة أن الأرشيف ليس مجرد أوراق قديمة، بل هو هوية وطنية وسرد إنساني لا يُقدّر بثمن. فالحفاظ على الأرشيف هو حفاظ على الذاكرة، والذاكرة هي التي تصنع الوعي بالماضي والرؤية للمستقبل، يجب أن تتعاون الوزارات، والجامعات، والمراكز الثقافية والإعلامية والصحف الرسمية والمكتبات الوطنية في نشر محتواها وأرشيفها رقمياً، بلغتين على الأقل، مع الالتزام بمعايير التوثيق والشفافية. كما يمكن إطلاق حملات مجتمعية لتشجيع المواطنين على المساهمة في حفظ التاريخ المحلي، من صور ومذكرات ووثائق، ضمن منصات رقمية وطنية. قد يكون الطريق طويلاً، لكن البداية تبدأ بقرار: أن نفتح الأبواب أمام المعرفة، وأن نثق بأن التاريخ حين يُفتح للعقول، يزدهر أكثر. الأرشيف القطري لا يستحق أن يُدفن في الأنظمة المغلقة، بل أن يُعاد تقديمه للعالم كصفحات مضيئة من قصة قطر... فحين نفتح الأرشيف ونغذي الإنترنت بالمحتوى المحلي الموثق، نصنع جسرًا بين الماضي والمستقبل، ونمنح الذكاء الاصطناعي القدرة على رواية قصة قطر كما يجب أن تُروى. فالذاكرة الوطنية ليست مجرد وثائق، بل هويةٌ حيّة تُكتب كل يوم... وتُروى للأجيال القادمة.
2388
| 07 أكتوبر 2025