رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
جمعة الصياحات المفتقدة بعد غيبة طويلة فرضتها تعاسة الحرب، ازدانت أشجار الهجليج التي تمنح الظل والمأوى بأعلام أنسابة الخضراء والوردية، دُهنت حوائط قصر المسك بأبيض لمّاع استُورد من خارج السلطنة على عجل، دُهنت نوافذه بالأخضر الزرعي وباب الماهاجوني الذي يتوسطه بأزرق شفاف كان يمنحه البريق، مُلئت أزيار الفخّار المكلفة بالسقاية حتى أعناقها، طُيِّرت في السماء حمامات بيضاء للسلام، وبركت في الطرق التي تؤدي إلى قصر الصياحات مئات الدواب التي حملت الأعلام الخضراء والوردية أيضاً. كانت السلسلة السباعية في زيٍّ جديد، وكان الحاجب نفسه في زيٍّ جديد، والخصيان الذين يحرسون ويروحون ويجيئون بأزياء جديدة أيضاً. جاء أهل أنسابة كما لم يجيئوا من قبل قط، حتى في الجمعة الظليلة، جاءوا من رأسها القاحل ورأسها الممتلئ ضجةً، من بطنها الممتلئ عزةً، من أكتافها التي تحملت الوزر، ومن ساقيها اللتين لن تنفرجا أبداً لمفترٍ. كان كرنفالاً نابضاً حيًّا، أحيته أنامل الجدات في عزفها على الطبول الصفراء وتحريك الأرجل المنغَّمة بالسكك والخرز، وفي صوت الجدة «تمائم شريف» وهي تغني قصائد العودة المرتجلة، وطهارة الطاهرات التي كانت وجوهاً غضة، وفوانيس ملونة، وضفائر شديدة السواد يخنقها العقيق. طفن على الجموع بمباخر مزركشة تضخّ عطر الصندل وقناني بنية اللون فيها هذيان مسك، وحين أمر السلطان شخصياً بترطيب الحلوق بشراب القضيم المنقّح بماء الورد صفّق الناس حماساً ورهبة. حضر ملوك الأرياف كلهم، حضروا بألبسة المناسبات المطرزة وعمائم الضباب الفخمة وعلى أحصنة أصيلة لم تكن تُستخدم إلا نادراً. حضرت أرامل الشهداء ونساء العائدين، حضر أطفال اليتم، وكأنّ أرواح الموتى نفسها رفرفت بابتهاج في تلك الجمعة جديدة الطعم. وقف حلحلوك المجنون تحت شجرة هجليج ظليلة، في يده علمٌ أخضر يرفرف، في رجله عناقيد خرزٍ قديم، في عينيه لمعان قنديلٍ متوهّج، ومن فمه تتساقط حكايات المجانين التي كانت في طيّها حكم.«قابلت الخائن هاشم درب في صحراء ’أم حلق‘ اليابسة، نعم قابلته، ارتمى فوقي وقال: عضّني يا حلحلوك، عضّني أرجوك، فهربت منه، هل أعض خائناً بذمّتكم، هل أعض خائناً؟».لم يكن الناس يضحكون، ولا كانوا يبكون، فقد بدا أنهم استنفدوا الضحك واستنفدوا البكاء، وما عادت سوى مشاعر موحّدة تجاه أنسابة العظيمة.هبط الجليل المهاب عن فرسه الأسود المخطط على أيدي عبيده الخارقين، ثبّت عمامة الضباب السوداء على رأسه وخطا بحذاء جلد النمر المغاربي إلى داخل القصر. هبّت رائحة مسك، مدّ الجميع أعناقهم، هتف هتاف وزغردت مزغردة وصرخ الحاجب الذي عند الباب:– الأب الشيخ يوسف كرا.دخل الحكيم دوباجي مبجَّلاً، والمفتي لاليا البرناوي منتفشاً، والترزي كردمان مرتدياً واحداً من أزياء السلم الجديدة والمفصّلة بعناية. وكان هناك العشرات من رسّامي المناسبات من داخل السلطنة وخارجها، ينتشرون بأقلامهم وقماش فنهم، يلتقطون ويوثّقون.كان نجَّام الآن ممتلكاً الرزينة نظر بالكامل بعد أن تركت بيتها تماماً وأقامت في بيته. كان توهانها معضلة، وعدم توهانها معضلة، وإصرارها على النكش الدائم لشعرها وبعثرة أزرار الفساتين أعباء أخرى تضاف إلى أعبائه. وحين كان في مهمته الجليلة في الحرب كانت تتغذى بالنبق وتأكل الحميض نيئاً بلا طبخ، وأجّلت حتى سواك أسنانها وترتيق الثقوب في فساتينها انتظاراً لعودته.
400
| 08 يونيو 2015
ما حدث بيني وبين مغني أسماك البحر، جون القصير، برغم ما تركه في نفسي من أثر، لم يكن الأسوأ في تلك الرحلة على الإطلاق، فقد حدث الأسوأ فجأة، ولم تبق سوى أيام قليلة على بلوغ بر الإسكندرية، حسبما نوه قبطان السفينة، وابتدأنا نحن غير المصنفين عشاقًا للبحر، نجهز أنفسنا لمعانقة اليابسة. لقد لاحظت، ولابد أن غيري أيضًا قد لاحظ، أن القبطان لويجي آر كميلسون، قد تغير فجأة. شاهدناه في أحد الأيام، يتمشى بخطوات أوسع قليلًا من خطوات مسن مثله. كان يرتدي زي بحار قديما مهلهلا، أحمر اللون، يحيط عنقه بأوسمة وميداليات فضية وبرونزية، ويحمل في يده بوقًا من النحاس، ملوثًا بالأتربة، بينما تطل من جيب قميصه، ورقة قديمة أشبه بالخرائط التي كانت تستخدم في الصراع مع البحر. حييته فلم يرد على تحيتي، وحين ظهرت سونيا أفرين الملكة، تتهادى في مجال نظرته ونظرات الآخرين، وضَح تمامًا أنه أعد لها شركًا عاطفيًا بعيدًا كل البعد عن توقعي وتوقعها، وتوقع أي أحد آخر من المسافرين. رأيت لويجي آر كميلسون، المفترض حتى تلك اللحظة، أنه قبطان سفن شراعية متقاعد، وأحد هواة غرائب البحر الذين يشنون حروبًا ضارية على اليابسة مهما كان تحضرها وعذوبة مدنها، ويتسلى بملاطفة الحسناوات بلا أي غرض محتمل، ينحني أمام ملكة الجمال، يقبل يديها وقدميها وذيل قميصها، ويبكي، ويعلن بصوت الدموع الفاجر، استعداده أن يتحضر، ويقلع عن هوى البحر الركيك، ويقيم تحت قدميها في أي مدينة تحددها في العالم الفسيح. كانت الملكة قد اضطربت تمامًا في تلك اللحظة، فاجأها الشرك العجوز غير المتقن، واضطربت، كانت تنز من عينيها السحريتين نظرة خوف، يفور في فمها الوردي شبح استيضاح، وتحركت يدها اليمنى مرارًا أمام عينيها، بلا أي هدف محدد. لم تكن مرتها الأولى في مواجهة عاشق مهووس مثل القبطان لويجي، بكل تأكيد، وتعيش في بيئة ممتلئة بالمطبات والحفر، وثقلاء الدم، ومخترعي لغة الإغواء، وأصبحت ملكة في ذلك الشوك، لكن المفاجأة، والمفاجأة وحدها ما جعلها تضطرب. استدارت لتمضي متعثرة، بينما عاشقها العجوز، لا يزال منكفئًا على السطح، وقد تقاطر منه العرق، وتدافع عليه المسافرون، يحاولون إيقافه على قدميه، وقطعًا يبحثون في بؤسه وبؤس اللحظة، عن هيبة البحار القديم الذي عشقته ثلاثمائة حورية ملتهبة طوال سنوات قهره للبحر، ولم يلتفت لإحداها، كما كان يردد دائمًا.ذلك اليوم، وما تلاه من الأيام حتى بلوغنا بر مصر، لم تكن ثمة فرقة لأسماك البحر، تقيم ضجيجها وفوضاها على السطح المضاء بالفوانيس الملونة، ولا مغنٍ يمجد شاربي وعنفواني. ولا مسابقات تجرى وأسئلة تجاوب، أو واحد مثلي يحكي عن البلاد المجهولة، وينصب فارسًا للحكي. عثروا على القبطان لويجي مساء ذلك اليوم نفسه، في غرفته ميتًا أمام رقعة شطرنج قديمة باهتة المربعات، كان يلاعب وسواسًا قويًا كما يبدو، لأن الأحصنة والجنود التي في جيشه، كانت منهزمة. لم تكن ثمة آثار لجريمة ارتكبت عن عمد، ولا رسالة انتحار موقعة، ولا أي أداة من تلك الأدوات التي اشتهرت عبر التاريخ في إنهائها حياة العشاق، وحين رفعوه وعروه، وفتشوا جسده جيدًا، لم يعثروا إلا على جغرافيا العمر المرسومة على الجلد، وفتاق متورم عند السرة، ووشم غائر في ساعده الأيمن، يمثل نورسًا بلا جناحين.
215
| 01 يونيو 2015
تلك الجمعة، وفي الساعة التي تقرض فيها الأجساد بأسنان التعب أو تسعل الرياح الهضمية هنا وهناك أو تختلي أوجاع الظهر بسلسلة فقارية، مات صانع الطبول نظر حبايب، وجدوه عند نقطة تجمّع القوافل المسافرة أمام بيت مال أنسابة، نفس النقطة التي شهدت تلبيته وركوبه وانزلاقه عن ظهور الإبل من قبل. كان يحتضر بمشقة، يشهق ويزفر، وأحياناً يغني أو يضحك أو يقهقه. حملوه إلى الجزء الأكثر رحابةً والأوسع صدراً لاستقبال الفضوليين وعابري السبل في بيته الفقير. جاءه رعاة الطب الحقيقيون ورعاة الشعوذة المنتشرون بغزارة في أنسابة، حُضّرت الأكاسير المختلفة واتّقد البخور وتعالت دعاءات وبسملات والتمّت النائحات من حيث لا يعلم أحد، وجاء الحكيم دوباجي إلى حي الرديم لأول مرة منذ أن أصبح الحي رديماً وأصبح كبير ممارسي الطب دوباجي. كان محاطا بالعبيد، وكان في مهمة سلطانية عنيفة، فيها وعود وأمنيات بلا حصر، وربما يلغي بعدها حظر السفر للمفتوقين والعمي والطرشان وحاملي ركاكة اللسان إلى الأبد. فتح صانع الطبول عينيه بمشقة ليرى إحرامه نظيفاً ومرتّباً وحزام الوسط محشواً بمال الحج، ونموذجاً منحوتاً من خشب الزان يمثل الكعبة مشرقةً وذات بعدٍ روحاني أحضروه من أحد تجار منحوتات الخشب على عجل. سأل عن جرعة ماء وعن الطريق إلى مقام إبراهيم، أغلق عينيه ببطء لا ليطوف أو يسعى أو يرمي الجمار أو يقبّل الحجر، ولكن ليموت بسلام.ولأول مرة أيضاً جاء إلى الحي المهاجر اليمني عباد عبد الرب، لم تكن مهمته عنيفة كمهمة الحكيم بقدر ما كانت استرداداً متأخراً لواحدٍ من الألقاب المتعددة التي فقدها بعد أن انقلب رغد الرشيد على حظه، لقب الشيخ عبد الرب، حيث تعالت الأصوات عند رؤيته:– الشيخ عباد عبد الرب يتلو ما تيسّر من الذكر الحكيم.وللمرة الثانية، وفي أقل من عامين، أقسم الكثيرون أنهم شاهدوا السلطان رغد الرشيد، بشحمه ولحمه وعمامته المذهبة، ممتطياً حصانه «المهراجا» الذي أُهدي إليه من بلاد الهند، يتجول في مناخات حي الرديم الحزين والغاضب.وربما للمرة الخمسين أو المائة شوهد حلحلوك المجنون، لم يكن زائراً ولا معزّياً ولا حتى عابراً عاديّا للطريق، كان مجرد مجنون يشاهَد للمرة الخمسين أو المائة في حي الرديم البعيد.وكجزء روتيني من مهامه الأمنية وحفظ النظام في تلك الوفاة غير العادية، كان لابدّ أن يشاهَد الأمير مساعد ونفر من كتيبته مبثوثين في بؤس تلك الليلة.دفنوه في مقابر «أولاد غرب» المخصصة لدفن المعوزين وذوي الحاجات وفتات القبائل، وسار في موكبه قرابة الألفي شخص يتقدمهم الحكيم دوباجي، الذي امتدت مهمته العنيفة إلى الفجر، والمهاجر عبد الرب الذي كان سخياً في تلاوته لآيات الاستشهاد كلها وسخياً في مواساته لتلميذه آدم نظر.
292
| 25 مايو 2015
كان الرجل الذي قدم إلينا، في تلك الأمسية، بوصفه شيخا واصلا، ومعالجا روحيا كبيرا ومعروفا، في زيارة للبلاد، قصيرا بعض الشيء، ممتلئ الجسم، يرتدي ثوبا رماديا طويلا، وعمامة بيضاء لفها على رأسه بإتقان، كان يبدو ثابت النظرات، وممتلئة ثقة، وما أن انتهى الصديق الذي استضافنا في بيته، من تقديمه إلينا حتى انهمر يتحدث عن نفسه بسخاء. قال إنه تخصص في علاج كل شيء، عالج ملوكا ورؤساء، وموظفين كبارا في دول عديدة، ولدرجة أنه لم يعد إلى بيته منذ خرج منه، قبل ثلاث سنوات، وأخرج من محفظة جلدية، كانت في جيبه، ورقة مطوية فردها أمامنا، وكانت تحوي خطابا مكتوبا بخط اليد، وموقعا من أحد الأعيان الخليجيين، يشهد بكفاءته، ويزكيه، ويصفه بالعلامة الشيخ.بدا لي الرجل في تلك اللحظة، شخصية روائية بالفعل، قطعا أستفيد منها، وكنت دائما أتتبع مثل تلك الشخصيات، وإن عثرت على إيحاء قوي، أكتبها، معالج للأمراض، يخرج من بيته منذ ثلاث سنوات ولا يعود، ولو دخل نصا روائيا، ستمتلئ تلك السنوات بأحداث كثيرة وغريبة بلا شك، وربما تتكون فيها حياة اجتماعية جديدة للرجل في أماكن متعددة بعيدة عن بيته، كنت محتاجا لاختبار ما، أخفض به من تلك الغطرسة، وأعرف أنها غطرسة خواء، وليست غطرسة امتلاء، ولطالما كان الخاوون، يبدون بامتلاء زائف. نظرت إلى الرجل بتأن، وقلت بصوت هادئ: سيدي، أعاني من تقلب المزاج، والأرق في كثير من الليالي، وأنوي أن أهجر الكتابة نهائيا، هل تساعدني في ذلك؟انتصب في جلسته أكثر، وابتسم، قال:- أبشر، اعتبر نفسك لست كاتبا منذ الآن، سأكتب لك عدة عبارات على ورقة، اختر منها واحدة في سرك وضع أمامها علامة واطوها، وسأخبرك ماذا اخترت.انتزع ورقة من دفتر كان أمامه على الطاولة، كتب عليها:* الحارس أضاع الكرة.* أمك طبخت ملوخية.* باب النجار مخلع.* ما بعد الشدة إلا الفرج.* الحمام المشوي لذيذ.* النساء مزعجات.قدم إلي الورقة، وقرأت العبارات وفهمت على الفور أنه وضع عبارة الشدة والفرج وسط هذه الفوضى لأختارها، وابتسمت بخبث. وضعت علامة أمام: أمك طبخت ملوخية، وطويت الورقة وقدمتها له.قال: لقد اخترت: ما بعد الشدة إلا الفرج، هاهي. فتح الورقة وهو يمررها أمام الحاضرين، ثم قلبها، وطالعته: أمك طبخت ملوخية.ما حدث بعد ذلك، كان سريعا، تلون وجهه بأصباغ شتى، وهو يشاهد سخرية الحاضرين، ويسمع ضحكاتهم. نهض حاملا دفتره، وخرج من بيت الصديق.
254
| 18 مايو 2015
مقطع من روايةحين أصبحت اللاجئة الإرترية: أببا تسفاي، وبعد عدة أشهر من ظهورها في المدينة، بائعة شاي معتمدة في موقف باصات السفر، وأصبح لها ركن مستقل، وثمة نار توقد، وبراد للماء، وأكواب بيضاء ومشجرة، وزبائن من رواد المكان، مسافرين، ومودعين وبلا سبب،، وأيضا حساد من بائعات الشاي القدامى، حين انحسر بيعن بظهورها، كان عبد القيوم علي، أو عبد القيوم مشكلة، كما يعرف دائما في أي مكان ولجه، وسيلجه مستقبلا، بما في ذلك رحم أمه، وبيوت العربدة السرية في قاع المدينة، قد تنفض من آخر عقوبة بالحبس، استغرقت عامين، ويسعى للعودة إلى موقعه القديم في موقف باصات السفر، متبطلا بجدارة، وأي شيء يمكن أن يكون خلاف رجل عادي سيعيش في سلام.كانت أببا فتاة رائعة، امرأة مثل النسيم، كما قال حسن شجر، السبعيني الطويل محني الظهر، صاحب الثياب البيضاء اللامعة، وطقم الأسنان الذي فيه سن ذهبية، ورئيس الخفراء المعين في المكان منذ أكثر من عشرين عاما. كما قال أكثر من مئة مسافر متبايني الأعمار والسحنات، عبروا إلى مدن عدة، في أيام مختلفة واستعذبوا نكهة أببا وشايها المخلوط بشيء من القرنفل والحبهان، ومجد الجمال الذي لا يشبهه أي مجد. كما قال عبد الغني، لاعب كرة القدم المخضرم، هداف دوري الدرجة الأولى، منذ كان اللعب بأقدام حافية، وعلى ملاعب ترابية، وبكؤوس من البلاستيك الشفاف. كان عبد الغني متوفرا على مقعده المتحرك القديم، ذي الحديد الصدئ، الذي يدفعه ثلاثة من صبيان الحي الذي يعيش فيه، يوميا إلى المكان، حتى يتسلى الرياضي المقعد حاليا بمراقبة حركة السفر والمسافرين، في ذلك الميدان المكتظ، والآن يتسلى بمراقبة لاجئة فرت من حرب منهكة، استهدفت الناس والبيوت، إلى حرب أشد إنهاكا، استهدفتها شخصيا، وهي بعيدة عن وطنها المدمر. الحقيقة أن عبد الغني لم يعلق طواعية على عنفوان أببا، لم يقيمها إلا حين سئل، وكان تقييمه مفخرة بحق وسط شيوخ ما زالوا يتذكرون هدفا بديعا أحرزه في مرمى خصمه، وهو معلق في الهواء ربما منذ ثلاثي أو أربعين عاما، لا أحد باستطاعته التذكر. ذلك أنهم صفقوا بحماس، وانضموا للركب العاشق لبائعة الشاي الجديدة. أيضا مختار، عامل الصحة المسؤول عن رش المبيد الحشري في المكان من حين لآخر، علق، لكن تعليقه لم يكن مهما على الإطلاق، ولا كانت اللاجئة الجميلة، ستزداد وهجا به، فقد نصبت امرأة رائعة.. فتاة حلما، سيتعلق به الجميع، وانتهى الأمر، وتلك الأقوال المأثورة، وعبارات الغزل والهيام، التي يطلقها مختار، وسائقو الباصات ومساعدوهم، وبعض الجزارين، وموردو الأغذية، وموظفو الحكومة الفقراء، الذين يأتون للنبش والتفتيش في المكان بقصد وبغير قصد، وغيرهم، لن تجدي، وستصبح مجرد ترهلات في وصف الجمال، يستحسن أن تزال ببعض الردود القبيحة، أو تنظف اللاجئة منها أذنيها، بمجرد أن تنطق.
301
| 11 مايو 2015
حقيقة أعتبر رحيل الشاعر الكبير محمد مفتاح الفيتوري، خسارة كبيرة، فقد كان واحداً من صنّاع القصيدة العربية الحديثة الأوائل، ومن الذين عتقوا الشعر من عبوديته القديمة وأطلقوه حراً، ليشدو كيفما يشاء، ومعروف أيضاً أنه وبرغم تقلّبه في مسألة الهويّة التي كانت سودانية في البداية، ثم ليبية، ثم سودانية في الآخر مرة أخرى، إلا أن قصيدته لم تفقد أبداً اتزانها، هي نفس القصيدة الأولى التي خرجت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وأعني من ناحية الحرارة والتوهج، وهكذا تمكن قراءة الفيتوري في أي وقت، دون إحساس بأنه تطوّر أو تأخر، حسب تلك التصنيفات المعروفة. كنت تعرّفت على شعر الفيتوري باكراً، كانت دواوينه الأولى التي تتغنّى بإفريقيا ككيان حر، بلا عبودية ولا سادة يتحكمون في خيراتها، موجودة في مكتبة بيتنا التي وعيت قرائياً على الكتب التي كانت فيها، فقد كانت المكتبة المنزلية في أيام طفولتنا، أداة فاعلة من أدوات الحياة العامة، تماماً كسلة الخضار، ومطبخ البيت والسرير الذي ينام عليه الشخص. بعكس هذه الأيام التي أصبحت فيها المكتبة، إما ديكور خامد بلا روح، وإما مجرد رف مغبر لا يحمل سوى كتاب أو كتابين لا يقترب منهما أحد من أهل البيت. أذكر أنني قرأت كل تلك الدواوين، ودواوين لشعراء من جيله أو أجيال أخرى، ومنها دواوين لفؤاد حداد، وصلاح جاهين، وعبد الرحمن الأبنودي الذي رحل أيضا في الأيام الماضية، وكنت أحفظ قصيدة الفيتوري الشهيرة: معزوفة لدرويش متجول، أسوة بأبناء جيلي جميعاً، حيث كانت تلك القصيدة، أغنية خالدة لا يملّ من ترديدها الجميع.بعد ذلك تابعت الفيتوري في قصائده التي كتبها في منفاه، أو مغتربه بعيداً عن السودان، وكان يحمل هوية ليبيا ويعمل دبلوماسياً ليبيا، تنقّل في عدة أماكن، حاملاً سحنته التي هي سحنتنا، وقصيدته التي هي عربية، بدم إفريقي، وكان قد أصدر ديوانه: قوس الليل... قوس النهار، الذي أعتبره مواصلة لتجربته الحياتية، الشعرية الصوفية، وأيضاً الحارة بدم إفريقيا، وأظنني كثفت قراءاتي بعد ذلك في مجال السرد، فلم أطلع حتى الآن على ديوانه الأخير الذي أصدره في الألفية الجديدة.شعر الفيتوري، إضافة إلى نكهته المسيطرة كأناشيد تحرّرية أو صرخات تنادي بالعدل والمساواة، أخذ كثيراً من التجربة الصوفية، ولا أعني هنا، نظم القصيدة المادحة بالصورة التي تعودنا عليها عند الصوفيين، ولكن نظم قصيدة تحوي كثيراً من التأملات الفلسفية والحوارات بين الذات والذات، ولعلّ قصيدته "ياقوت العرش" من تلك القصائد التي حملت ذلك النهج، وطافت به على الآلاف من متذوقي الشعر.رحم الله محمد الفيتوري، الذي سيظل شعره خالدا، ويظل اسمه من العلامات الكبرى التي يتوقف أمامها كل جيل.
611
| 04 مايو 2015
كما هو معروف، ومثلما للكتابة طقوسها الخاصة التي لا تتم إلا بها، فإن للقراءة أيضا طقوسها، أنا شخصيا أقرأ الكتب بيقظة وانتباه شديدين، وأنا جالس على مكتب، أو ركن هادئ. أخاف أن يفوتني شيء من صفحات الكتاب أو أسطره، تماما مثلما تعلمت أن أقرأ الكتب الأكاديمية، أثناء جلوسي للقراءة، أحاول الوصول إلى أكبر عدد من الصفحات، حتى أعود في المرة القادمة لمواصلة الكتاب، وأنا ممتلئ به، وإلا قد أضطر لإعادة قراءة صفحات قرأتها من قبل، من أجل الدخول إلى جو الكتاب. هذا الطقس ينطبق على كل الكتب، سواء كانت روايات أو غير روايات، مثل كتب التاريخ والفلسفة، والطب، وحتى علم الفلك. لقد تعلمت منذ صغري كما ذكرت، أن القراءة تعني المعرفة، والمعرفة تعني الشبع الروحي قطعا. خلال مصادقتي للقراء، تعرفت إلى طقوس مختلفة، هناك من يقرأ وسط آخرين بدون أن يفقد صفاء ذهنه، هناك من يقرأ مستلقيا، ولكن بذهن مفتوح، وهناك من يحب أن يستمع لقارئ متمكن يدهشه، خاصة الذين يحبون الشعر، وهكذا، كلها أساليب سجلت للقراءة، والمحصلة هي أن ثمة كتبا تقرأ، ومعرفة تكتسب، وهذا هو الشيء المهم. على أن تلك الطقوس التي ذكرتها، قد تختل من وقت لآخر، بسبب ظروف تحيط بالقارئ، فتأتي قراءته متعجلة، يقوم بها بفعل عادة القراءة، لكنه غير مستمتع، وأذكر أنني جربت القراءة في الطائرات أثناء السفر، وأصررت عليها بشدة، فلم أكن أستوعب جيدا وسط ضجيج المحرك، وحركة الركاب والمضيفات، وصراخ الأطفال الذي دائما ما يحدث في الطائرات، وأذكر أنني حملت معي مرة كتابا حاولت قراءته في عشر سفرات متعاقبة، وكنت في كل مرة أعود لقراءة الصفحات الأولى من الكتاب مرة تلو مرة، ولا أستطيع أن أتقدم خطوة، ولم أكمله إلا في ساعات استقرار، في بيتي. وكم كنت أستغرب حين أرى قراء يحملون كتبا في المطارات، ويقرأون فيها بنهم، حتى وهم يزحفون في صفوف الجوازات. هؤلاء يحملون طقسا مختلفا عن طقسي بلا شك، يتيح لهم أن يستمتعوا بالكتب في أقصى مواقف الصداع، وتلف الأعصاب.الإنترنت المكتشفة في هذا العصر، أعتبرها من أهم وسائل تأسيس القراءة، إن لم تكن أهمها في هذا العصر الذي بات فيه الفرد يعتمد عليها في معظم شؤونه، فخلافنا لقوانين الآباء القديمة ومحاولات تثبيت قوانين صعبة وملزمة للأبناء، يكون الجذب هنا طاغيا، فقد مهدت بالطبع لجسور عريضة بين الكاتب وقرائه، وبين القارئ والقارئ الآخر، وخلال متابعتي للقراء، في كثير من المواقع التي تهتم بالقراءة، وتناقش الكتب، انتبهت إلى أن الاختلاف في الآراء يتعدى أحيانا التذوق الشخصي الذي ذكرته، وينزح إلى أشياء أخرى، أعتبرها ليست من جوهر القراءة. فتجد من يصف كتابا بالركاكة، واللغة الشوارعية، بينما يكون الكتاب مكتوبا بلغة جيدة، وأخاذة. من يصف كاتبا بأنه لا يعرف كيف يكتب، بينما يكون الكاتب حاصلا على جوائز في الكتابة، وهكذا إلى التقييمات الخاطئة التي تطال البعض من أشخاص، يشك القارئ لتعليقاتهم، بكل أسف، أن يكونوا قراء أصلا.
398
| 20 أبريل 2015
خريف «أم دبابيك» الوعر، خريف طيور «أبو السعن» الصاخبة، الكركي التي تهاجر، وتستقر، وتتناسل، وتلتقط الحبوب دون وجلٍ من شرك أو فخ صيد. ليس في الأرض شبر لا يرتوي أو يخضرُّ، ليست في السماء سحابة لا تضخّ أو تفرز، وليست في جسد الريف كله غدة لا تفرح أو تضخّ الفرح.هي قرية أم حراب، الخريفية الآن والجافة في المواسم الجافة، مثقوبة السماء والأرض، والتي في حاجة إلى تجوال كثيف لتُعرَف، وإلى سكنى مؤطّرة لتُهضَم، وإلى بالٍ طويلٍ جداً لتستمر السكنى المؤطرة... سكنى مؤطرة. البيوت أغلبها من صفيح وقش وخيش، وأقلها من طين رطب ومتماسك، هي بيوت الريف كله، وبيوت العاصمة التي في أحياء المسكنة، الشوارع، أزقة الوحل التي تتلهى ببلاهة الحمير، أصوات البوم، أصوات النعاج، فحيح زواحف الأرض، زواحف اللدغ، الرجال المحتشمون، والثرثارون، وناقضو الوعود، والمحافظون. النساء الكبيرات في الريف، الصغيرات في غير الريف، ورقص أرجل الغيد على صوت «نقّارة» هي طبل الأفراح المعتمد والمسيطر. كل شيء في ريف قرية أم حراب يوحي بشيء، كل ثرثرة تقود إلى ثرثرة، كل مخلوق يحيا لأنه أراد أن يحيا، الرجال يريدون، النساء يردن، والأطفال في حلمات الأثداء أيضاً يريدون.حين كان آدم نظر صغيراً، وفي كثافة إزعاج الصغار الذي يريد أن يعرف وأن يتقصى، حدّثه أبوه عن سيرة قرية أم حراب وسير منابع التنجر الأخرى التي تجاور أم حراب وتشبهها في كل شيء إلا اتساع صدرها. هناك ولد صانع الطبول، هناك زرع وحصد واغتنى وافتقر، واستلّ تلك الهجرة البعيدة إلى العاصمة «جوا جوا».– في أم حراب لم نكن نحمل همّا للقمة العيش، لم نبت أبداً جائعين، ولم نمسِ وبطوننا تقرقر. كلهم أهلنا، وكل بيت بيتنا. نحن أنجبنا الملك «برجاوي» الذي كان فارساً ومهاباً وكان سلاطين «جوا جوا» تخشاه. أنجبنا «أبو العز» قائد قوافل الحج العظيم. هل تعلم أن تمائم شريف المغنية أصلها من التنجر لكنها أنكرتنا؟ وهل تعلم أن سوق الفخاريات، هذا الذي تراه الآن أهم أسواق «جوا جوا»، أسّسه التنجر حين كانوا يتاجرون في الجلود وفرو الثعالب ولحم الخراف؟ كان سلاطين أنسابة يحكموننا بالفعل، لكنهم لم يكونوا أبداً أكثر من سلاطين نسمع عنهم ولا نراهم.ويسأل إزعاج الصغار الذي لا يهدأ:– وهل عاشت أمي أيضاً في أم حراب؟– نعم، وكانت وردة، وردة لم تتفتح، ولكن للأسف تفتّحت في غير مكانها.في تلك الأيام كوّن الصغير فلسفته عن قرية أم حراب، اعتبرها الجنة التي خرج منها نظر حبايب مندحراً، لا ليحمل رسالةً أو ليبدأ منه تكوين الخليقة كما تعلّم عن آدم في مدرسة المهاجر، ولكن ليعيش هكذا، متذكراً وكابوسياً، إلى نهاية العمر: خروج آدم كانت فيه حكمة كبيرة، ولكن لماذا خرجت؟.وكانت الرزينة حين تسأل والدها عن قرية أم حراب تسأله بتعثر اللسان البنّاتي حين يسأل أباً، لا يتردد، يقول: «قد تعودين إليها ذات يوم، ستعودين يا رزينة».
306
| 13 أبريل 2015
كان عبد القيوم، صيادا أخرق لكل ما هو أخرق. وكان لصا قديما موثقا بالصور الأمامية والجانبية والبصمات والمراقبة اليومية التي تفرض على أصحاب السوابق، أن يسجلوا حضورهم مرتين في اليوم، لدى أقرب مركز للشرطة إليهم، ومن أوائل الذين خدشت هيبتهم وجربت الكلاب البوليسية الألمانية المسماة "رن تن تن" في التعرف إليهم وسط طوابير المشبوهين، عند دخولها الوطن منتصف السبعينيات، لأول مرة. كان الذي يتعرف إليه الكلب البوليسي ويعضه كاشفا عن جريمته، لا يسجن فقط، لكن تحمل المدينة كلها ملامحه، وتزدريه حتى بعد خروجه من السجن، ذلك أن عروض الكلاب لم تكن مغلقة بغرض محاصرة الجريمة فقط، بل جزء من ترفيه المواطنين، تقام في الساحات العامة، والميادين الرياضية، وأحيانا على خشبة المسرح الوطني، ويحضرها جمهور شبيه بجمهور كرة القدم، وذلك الجمهور الذي يتوفر عادة، في الحفلات الغنائية، أو عند زيارة حيدر باخريف المعروف بشمشون إفريقيا للمدينة، وعرضه لقواه الخارقة. تلك الأيام وبناء على تداعيات تعرف الكلاب وعضها واستفزازها للمشبوهين، قصرت قامة الإجرام كثيرا حتى بلغت الربع، أمن المال العام على نفسه فتسكع في الخزائن وبين أيدي الموظفين العموميين، دون أن يعتدي على حرمته أحد، حافظ الخاص على خصوصيته فبقيت في السر لا يقترب منها لص، أمنت ربات البيوت على غسيلهن، الذي كان يسرق من الحبال، فنشرنه بلا خوف، أمنت العربات على إطاراتها والعيون على سوادها وكحلها، وأحلام الفتيات الصغيرات على براءتها، وفكر كثير من الناس في سرقة مقتنياتهم الشخصية بأنفسهم وقضاء عدة أيام بين أسئلة المحققين، أو جدران السجون، حتى لا تنقرض مهنة السرقة، التي تعد واحدة من أكثر المهن أصالة لدى الشعوب.اقترب من اللاجئة أببا ومن حيرتها في ذلك اليوم الذي هبطت فيه المدينة، والتي حول رونقها الناس بجميع فئاتهم وأمزجتهم، وتنوع رغباتهم، اقترب من وجهها حتى ألمت بأنفاسه المتلاحقة كاملة وعدتها.. كلمها بلغة واضحة لكنها متعجلة، دون أن يبدو مجرما قديما موثقا بالصور والملاحقة، وعضته الكلاب الألمانية، أثناء تجاربها الأولى في البلاد، اقتادها بلطف طارئ، خال من الغواية، إلى أن ظل بعيدا عن أعين رواد المكان، في الواقع كان مطعما صغيرا، خارج موقف السفر، اختص بتوفير عصير الفواكه، والوجبات الخفيفة، جلب لها شطيرة محشوة بجبن (سمسوم) المصنوع محليا، وكوبا من عصير المانجو المخلوط بقشره حفاظا على الفيتامينات كما يعتقد الكثيرون، واستعان بلاجئين قدامى من وطنها، يعرفهم وصادفهم في المكان، ليفهم مأساتها كاملة، وبشتى الرموز، ويعرض خدماته.النظرة اصطادته بلا شك، ولن يعترف أبدا بأنه كان ضحية لنظرة صائدة. ذلك اليوم تغير برنامج يومي معروف الفقرات، دأب عبد القيوم على طاعته سنوات طويلة حين يكون خارج السجن.
310
| 06 أبريل 2015
منذ عدة أيام عقد الملتقى السادس للرواية العربية في القاهرة، وكانت دورة جديدة بعد غياب أربع دورات، حيث عقدت الدورة الماضية عام ٢٠١٠، وحصل الكاتب الليبي إبراهيم الكوني على جائزتها.هذه الدورة كانت مميزة، من حيث التنظيم الجيد، برغم كثافة عدد الضيوف الذين حضروا، وذلك الكم الهائل من المشاركات التي ازدحمت بها القاعات، كانت ثمة شهادات في الكتابة، قدمها روائيون راسخون وروائيون في بداية سكة الرسوخ، ثمة دراسات عن فن الرواية، من جميع نواحية مثل اللغة والفكرة، وجماليات الكتابة. ولأن بهاء طاهر قدم تجربة كبيرة وثرية على مدى نصف قرن تقريبا، كانت الجائزة من نصيبه هذه المرة، وقدمت له في نهاية فعاليات الملتقى. من إيجابيات مثل هذه الملتقيات، أنها تقرب المسافة بين المبدعين في شتى الأقطار العربية، حيث تناقش أشياء كثيرة خاصة بالإبداع، ويتم تبادل الكتب والآراء، على هامش المشاركة، أيضا تقترب الأجيال الحديثة من الأجيال التي سبقتها، بطريقة مباشرة، تختلف كثيرا عن تلك التي أصبحت الأكثر استخداما، وأعني: مواقع التواصل الاجتماعي. أيضا من الإيجابيات، أن هناك عددا كبيرا من القراء، والمهتمين بالشأن الثقافي، يمكنهم أن يلتقوا بكتابهم المفضلين، سواء في مقار الندوات، أو حيث يقيمون، وهذا أيضا دافع للكاتب أن يكتب أكثر، ولعل حفلات التوقيع التي يقيمها الناشرون لكتاب عرب، ربما نشروا عندهم، لها أيضا مردود جيد من حيث التعريف بالكاتب لدى جمهور ربما قرأ له كتابا وأحب أن يحصل على توقيعه عليه.طبعا الملتقى كان خاصا بالرواية، وبالتالي كانت أيامه كلها تشريحا لذلك الفن الذي لم يعد حكرا على الصفوة من ناحية الكتابة والقراءة، وإنما تحول إلى فن أثير لدى كل الناس، ولدرجة أن أصبحت كتابة الرواية، هي الفرع الذي يبدأ به الناس، دخولهم إلى عالم الإبداع، وكنت كتبت كثيرا في ذلك الشأن، ونوهت إلى أن الكتابة الروائية، ليست عملا عاديا حتى يتم التعلق به من دون قراءة، ولا تدريب، ولا خلفيات كبيرة، وهناك كتاب كبار في القصة، وعلى مستوى العالم، ظلوا مخلصين لمشاريعهم القصصية، بمبرر قوي جدا، وهو أنهم لم يقرأوا روايات كافية، ولم يتدربوا على كتابة الرواية حتى يكتبوها، ولعل من فوائد مثل هذه الملتقيات أيضا، أنها تبين للذين ازدروا الرواية بكتابتها بطرق رديئة، أشياء كثيرة خافية، تحفزهم على الاطلاع أكثر قبل الولوج إلى عالم يحتاج لمهارة كما ذكرت، قبل أن يلجه الكاتب.عموما نحتاج كثيرا للملتقيات الإبداعية، نحتاج للاحتكاك بين الإبداع ومنتجيه، ومستثمريه، وأعتقد أن الملتقيات الخاصة بأي فرع إبداعي، أكثر جدية من الندوات البسيطة التي تقام كفعاليات مصاحبة لفعاليات أكبر، مثل معارض الكتب.
616
| 23 مارس 2015
كانت تسير على الطين، على الحصى، على الأوساخ المهيمنة، ولا تعرف إن كانت ستحتمل السير الضال حتى النهاية، أم تسقط؟، إن كانت فريسة في تلك اللحظة، أم صيادا للحظة قادمة أرقى وأجمل؟ فجأة تذكرت مفسر الأحلام قمزحاي تيرسو، ذلك الذي قدم لها ذات يوم كزوج محتمل، وسبته حين اكتشفت زيفه، وأقسم أن يستبدل سبابها بالمتعة في يوم من الأيام، وكانت قد نسيت أمره، ولم تتخيله كابوسا محتملا في مثل هذا الليل الموحش، الذي جاء مصادفة، ومن دون أي تخطيط..نعم، حين فرت من منتجع الساحرات، كانت تفر إلى سند، ولم تكن تعلم أنها تفر لليل وحدها. ارتعدت قليلا، وأرادت أن تكف عن الرعدة، حفاظا على طاقة المشي، حتى تعلق بجسر يعبر بها إلى البر، حين اضطرت للارتعاد أكثر. لقد كان ثمة هيكل نحيل، يدخن ببطء، يمشي بجانبها، وإحدى يديه في جيب سرواله. ضحك قليلا ثم صمت، ولولا الظلام الذي لا تنيره سوى أضواء الفوانيس الشاحبة، أمام البيوت لكانت قد رأت أسنانه عادية جدا، فقط سيصورها الخيال المضطرب، أسنان ذئب.كانت أنفاسها قد اشتعلت بشدة، وقمزحاي تيرسو يسير بجانبها، يدخن أو يبصق، أو يخرج ريشة ديك رقيقة من جيبه، يحك بها أذنه، ثم يعيدها. لم يلمسها قط، ولم يحاول تجاوزها واعتراض اتجاهها أو النظر بافتتان إلى وجهها الفاتن برغم الخوف والعتمة، وأيضا لم يقل لها، استرخي وواضح أنه انتبه إلى عدم استرخائها. كان الليل أمينا في بثه للظلام، لكن الفوانيس الشاحبة في قلب بيوت الخشب والصفيح، وتلك المشتتة في الشوارع، ويلتم البعض، من حولها، كانت تصارع أمانته، وترشوه بشيء من الضوء، كان الإحساس المبالغ في رهافته لدى اللاجئة، كافيا لتحس أن جيوشا من الوساوس، عالقة بسرتها. ستجرب أن تجعل ردة الفعل إرادية وتصرخ، ملأت حلقها بكثير من لقم الانفعالات، وصرخت بالفعل، لكنها لم تر حشودا التمت، ولم تسمع أصوات خطوات تركض، . واكتشفت بعد أن بلعت ريقها، أن الصرخة كانت عالقة في الحلق، واختطفها الريق حين ابتلعته. لا تدري كم ساعة مشت في ليل حي المرابيع القاحل، يرافقها قمزحاي تيرسو بصمته المؤلم ولدرجة تمنت فيها لو تحدث فجأة، لو أمسكها بخشونة، ضاغطا إياها في صدره، ولو صيرها ضحية في بداية سلم الصعود نحو الاستقرار. فقط لتحس بأنها برفقة أحد.. همست: قمزحاي.ولم تتلق أي رد.همست: مفسر الأحلام... لدي حلم جديد.ولم تتلق أي رد.
386
| 16 مارس 2015
هذه الأيام، تقام دورة جديدة لمعرض الرياض الدولي للكتاب، وقبله كان ثمة معرض في مسقط، والقاهرة، والدوحة وتأتي معارض قادمة في أبو ظبي والشارقة، ودول المغرب العربي، وهكذا، اهتماما ملحوظا بالكتاب، وإحدى أدوات تسويقه المهمة، التي هي معارض الكتب. وكلنا يعرف بالطبع أن معارض الكتب، في أي مكان في العالم، تقام فيه، هي جزء مهم من أجزاء صناعة الكتاب التي لم تعد صناعة عادية تقوم بها مطابع مغمورة وبلا تقنيات، وفي أزقة مظلمة كما كان في السابق، حين لم تكن النظرة للكتاب، تتجاوز محتواه إلى مظهره، بل أصبحت بفضل التقنيات الحديثة ووسائل الدعاية والاتصالات، صناعة مهمة مثلها مثل صناعة النفط والإلكترونيات والسيارات وغيرها. صحيح أنها صناعة ما تزال محدودة لدينا، في الوطن العربي، لكن أرى أنها تتقدم باستمرار، وقد بدأت دور النشر التي تشارك في معارض أوروبا وأمريكا، تستلهم أبجديات هذه الصناعة وتطبقها في بلادنا العربية، وقريبا قد يصبح الكاتب استثمارا ناجحا كما هو في الغرب، بمعنى أن ترعى كاتبا وتربيه، ويأتيك بعائداته التي هي عائداتك في النهاية. مبدأ استثمار الكاتب والكتاب، هو المبدأ السائد الآن في أوروبا وأمريكا، ليس هناك كاتب لا يأتي بالربح إذا ما استثمر جيدا، ولا كتاب لا يباع ما دامت سبل البيع قد تيسرت له. الكتاب هناك، ليس بضاعة كاسدة على الأرفف تنتظر من يعطف عليها، ينفض عنها غبارها، من حين لآخر، ويتحسر ولكن بضاعة حية تركض مع غيرها من البضائع الاستهلاكية، وتباع في كل المنافذ جنبا إلى جنب مع السكر وملح الطعام. وكنت شاهدت في بريطانيا، كتبا مهمة في الأدب والسياسة، موجودة في السوبرماركت، وتشد الزبائن. وقد أخبرني ناشر أوروبي أن أي كتاب تصدره داره هو في النهاية كتاب رائج، ليس لأنه ينبغي أن يكون كذلك، ولكن صناعته هي التي تجعله رائجا، عشرات الندوات تقام له، عشرات التوقيعات تقام وفي أي مكان فيه من يستطيع القراءة، مئات الملصقات التي تمتلئ بالزخرفة ومئات المراجعات في كل صحيفة فيها ركن أو زاوية ثقافية، أشرطة فيديو وأقراص مدمجة، وعيون مفتوحة على السينما لإمكانية تحويل الكتاب إلى شريط سينمائي، ونشر إلكتروني لعشاق القراءة من الكمبيوتر، وأشياء أخرى عديدة ربما تشعر القارئ العربي بالدهشة إذا ما طبقت لدينا.
489
| 09 مارس 2015
مساحة إعلانية
في منتصف العام الدراسي، تأتي الإجازات القصيرة كاستراحة...
1974
| 24 ديسمبر 2025
حين تُذكر قمم الكرة القطرية، يتقدّم اسم العربي...
1332
| 28 ديسمبر 2025
في هذا اليوم المجيد من أيام الوطن، الثامن...
1140
| 22 ديسمبر 2025
تستضيف المملكة المغربية نهائيات كأس الأمم الإفريقية في...
1080
| 26 ديسمبر 2025
أرست محكمة الاستثمار والتجارة مبدأ جديدا بشأن العدالة...
1056
| 24 ديسمبر 2025
-قطر نظمت فأبدعت.. واستضافت فأبهرت - «كأس العرب»...
876
| 25 ديسمبر 2025
لماذا تقاعست دول عربية وإسلامية عن إنجاز مثل...
663
| 24 ديسمبر 2025
-قطر تضيء شعلة اللغة العربيةلتنير مستقبل الأجيال -معجم...
645
| 23 ديسمبر 2025
انتهت الاحتفالات الرسمية باليوم الوطني بحفل عسكري رمزي...
558
| 23 ديسمبر 2025
منذ القدم، شكّلت اللغة العربية روح الحضارة العربية...
531
| 26 ديسمبر 2025
في عالم اليوم، يعد التحول الرقمي أحد المحاور...
510
| 23 ديسمبر 2025
حين تتكلم اللغة، فإنها لا تفعل ذلك طلبًا...
453
| 24 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية