رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

ساحة الحكاية

كان عاما عاديا، مثل معظم أعوام تجيء وتمضي، لا خطب جللا بمعنى الخطب الجلل، لا زلازل، ذات روح تدميرية، لا براكين خامدة أو مهتاجة، ولا مفاجآت يمكن أن تغير نمطا متأصلا لشعب ما، كأن تذوب الديكتاتوريات فجأة، في أنهار من الديمقراطية، كأن يعتذر الظلم المتأصل في الدنيا، للضحايا المظلومين، كأن يخاف الجوع، وتستحي قلة الحياء، أو تنفعل جماهير كرة القدم العريضة أمام فقرة ثقافية بلا جماهير في العادة، وردت في كتاب.نحن في جزء يبتعد قليلا عن الشاطئ، في المدينة التي تقع على ساحل البحر مباشرة، يسميه سكان المدينة: "منتجع الساحرات" بلا سبب معروف أو موثق لذلك، ولعله ناتج من أسطورة أو خرافة، من تلك التي يتناقلها الناس عادة، وتسميه الأوراق المسجلة رسميا في مصلحة المساحة، وإدارة الأراضي: "ساحة المزاد".كان فيما مضى بساطا ذهبيا من الرمل الناعم، تفترشه البهجة الكبرى حين تأتي مواسم الأعياد، حيث تنصب فخاخ الرزق المتنوعة لتصطاد المعيدين، خاصة الأطفال.تغرس الأراجيح الدوارة في المكان، تغرس لعبة المنطاد الطائر، والحصان العملاق ذي الأجنحة، وتنتشر ألعاب شعبية مثل الغربال، ورغاوي الصابون المبعثرة في الهواء، والطبق المكفي على جائزة يخمنها المشاركون، والتنشين نحو دائرة مرسومة على جدار خشبي، ببندقية محشوة بطلقات من الفلين، يأتي "حبيب الله المحبوب"، الحاوي، ذلك الطويل الأعرج، الغامض بحذائه الباتا المنقط، ولحيته الطويلة البنية وملابسه المزركشة الشبيهة بملابس النساء، من حيث لا يعرف أحد، يتوسط خيمة من القماش الأخضر، مزدحمة وضاجة، رسم على مدخلها، وجه شيطان أسود بعدة قرون وأنياب، كتب تحته: ابتعد من فضلك، يأكل النار وأمواس الحلاقة المسننة، يخترع البط والأرانب البرية، والسلاحف الملونة، واللمبات المضيئة بلا كهرباء، ويشق مرافقته القصيرة، الرشيقة جدا "سرسورة" إلى نصفين متساويين، في طقس مرعب ومرغوب من المشاهدين، في الوقت نفسه، ثم يذهب إلى حيث لا يعرف أحد، ويعود في موسم جديد.

281

| 14 سبتمبر 2015

بيت الغسيل

كان (بيت الغسيل) الذي أخذت إليه بعد ذلك، في الواقع سجناً مبنياً من خشب أشجار (التبلدي) المعمرة والقوية، وملحقاً بالكتيبة، ويقع مباشرة خلف خيمة مساعد القائد ديدام. يحرسه عدة أفراد من سرية (جبّارين)، إحدى سريات الكتيبة التي كلها من أبناء قبيلة (الفولاني)، حيث ينحدر القائد طلسم، ومعروفين بالشراسة وليِّ الأعناق حتى كسرها، ويتولى أمر المحكومين داخله، عسكري تدل نجومه على الكتف ونياشينه على الصدر، أنه برتبة قائممقام، كان اسمه (برهاني)، ولم يكن واحداً من جنود الحكومة الذين كانوا تحت إمرة (موسى عرديب)، وكانوا تحت سمعي وبصري ويتبعون لمجلسنا الحاكم حتى ساعة الغزو، ولعله كان قائداً في مدينة أخرى أو واحداً من المحاربين الذين نبعوا من الفقر وهوامش القرى، يرتدي زيًّا بلا ماض. كان المحاربون واعين بفداحة الثورة التي أشعلوها ضد حكم يملك الحديد والنار، ولا يملكون إلا الشرر، وهدير الحناجر، واعين بتمردات قد تحدث وسط فوضويين التموا هكذا بلا عدة ولا عتاد، وخيانات قد تنبع في وسط حراس ثورتهم، ومن ثم أنشأوا تلك السجون الخشبية، أسموها بيوت الغسيل، وألحقوها بكل الكتائب التي تحيط بمدينة السور، تماماً كالسجن الملحق بكتيبتنا وأُساق إليه الآن. كانت تعليمات القائد الحمّال واضحة في حقي، سلَّمها لسرية (جبّارين)، وسلموها بدورهم لمشرف الغسيل، أن أغسل من الشوائب التي لا تزال عالقة بعقيدتي، أن ينظف قلبي، وتنظف مشاعري حتى أُشفى. لم تكن ثمة وسيلة محددة للغسيل، لأن القائممقام هو الذي يحددها، ولا زمن معلوما لانتهائه، لأنه من يحدد الزمن. كان الداخل موحشاً بشدة، ثلاث غرف متماسكة بلا أسقف، فرشت بحصى مدبب يشتعل حين تشتعل الشمس، ولا ينطفئ حتى لو انطفأت. كانت حيطانها خشنة، وعليها أوتاد حادة يعلَّق عليها المغسولون، وعدة أسطال ضخمة مملوءة بمواد الغسيل موزعة هنا وهناك. عثرت على (ولهان الخمري) الذي لم أكن أعلم بوجوده بيننا، ولم أره من يوم ارتعاشنا في السوق الكبير، حين كان يبكي بعينيه وثدييه الضخمين، مثبتاً إلى أحد تلك الأوتاد، وعلى ثدييه المتدليين كثدي امرأة، آثار عناكب، رضعت وارتوت وذهبت، واستغربت كيف يغسلون رجلاً كولهان، وماذا ينتظرون من وراء غسله، وهو الذي لا تجدي سوائل الدنيا كلها، في تنظيف ساعة واحدة من ساعات عمره الذي تجاوز الستين، قلت للقائممقام برهاني، حرره.. حرره يا شيخ، وخلت نظراته الملتهبة، تذكرني بموقعي في الكتيبة، وموقعي الحالي في ضيافة غسيله، شممت آثار أجساد شويت، وآثار عيون اقتلعت، وكانت دهشتي عظيمة حين عثرت على (ودعة) المصَّاص، معالج السموم وتشنج العضلات، ولم أكن قد انتبهت إلى غيابه عن المعسكر. كان مغروساً حتى عنقه في سطل ممتلئ بالقار وبراز العناكب، ويصرخ في جنون.

255

| 07 سبتمبر 2015

جوع

انتبهت حورية إلى عروقه المجلجلة في عنقه، وآثار مرض الإكزيما على يديه وساقيه العاريتين حتى الركبة، انتبهت إلى عينيه الممتلئتين بنوازع العلة والذهول، وقميص سجنه الدمور الذي يحمل رقما فظا. انتبهت إلى حسنات ربما تكمن في عيوبه الجلية، وسعاله الذي كان كسعال مصابي سل الرئة، وأيقنت بيقين المتمكنات من اليقين، أنها منحت فرصة العمر أخيرا، لامتلاك خادم يتيم، معتوه، جبار، وطويل النظر إلى أبعد مستوى. وقفت وسط حشد المزارعين الفقراء فقيرة مثلهم، وسعت أذنيها، تستمع إلى مواصفات البؤس في إفريقيا، كما كان يوصف، ومأساة العالم الثالث، غير المتحضر، كما كانت توصف، وتنفست بأنفاس حارة، كان يتنفس بها الآخرون. وحين فرغ الغشيم من خطبته، صفقت بحماس، رققت صوتها إلى أبعد حد، نادته: يا غشيم. جاءها على الفور، مثل ومضة من لهب حي، كان يقهقه ويبكي في الوقت نفسه، تتساقط نظراته على الأرض، وترتفع إلى السماء، وتستقيم على خط الأفق، لتمتص غبار الشوارع. كان جائعا بحق، ويابس الفم بشدة، تقرقر الحموضة في ثلثي معدته، وتسعل مصارين الجوع في بطنه، بذلك السعال الشحاذ، أخذته إلى بيتها، أجلسته على حصير أخضر من سعف الدوم، كان ممدا في بيتها، أطعمته من فطائر اللحم، والبيض المهروس بالصلصة، وشرائح البطاطا المقلية في زيت عباد الشمس، وأعانت عصارته الهاضمة، التي لم تصادف شبعا مثل هذا، منذ زمن، بشاي أسود. كان الغشيم يأكل مثل جرذ، كانت عيناه صغيرتين ومضطربتين ومتجاوزتين للحد المعقول من التماسك، ترعيان في بيت الحضرمية بلا هدف، وكان جسده الذي تهتك من ضغط الحبال وضراوة التعذيب في السجن، يرتعش بين حين وآخر. وحين فرغ من آخر قطرة مرة من الشاي الأسود، تجشأ تجشؤا كاملا، كلمها بلسانه المريض، لأول مرة منذ تبعها في الطريق، ولقبها بلقب هائل تحول بمرور الأيام إلى لقبها الدائم، في لسانه بعد كل طعام مشبع. قال: - شكراً يا عمتي شجرة الدر. كانت قد ابتسمت بالفعل، محتفية باللقب، رغم أنها لم تفهمه، لا تعرف مغزاه، وسعيدة أنها أشبعت جائعاً مضطرباً من دون خوف، ضحكت بالفعل حين نهض الغشيم، ينقر على بطنه من الشبع، شد الحصير الأخضر، لعب به، وحوله إلى شكل مركب، ثم دوره وحوله إلى شكل أسطوانة، ثم حمل أطباق العشاء الفارغة حملا قاسيا، خشنا، ذهب بها إلى حوش البيت، غسلها بالليف والصابون ولمعها بسائل فيري، وهو يردد: قاهر الدهون العصري، ومضى بها أخيرا إلى حبل للغسيل في فناء البيت، علقها من أطرافها النحاسية وعاد متأرجحا إلى الداخل.

361

| 31 أغسطس 2015

رعب

لم يكن جيشًا جرارًا، ذلك الذي اقتحم الخنادق، وأكل النار وسف رمادها، وتسلى بسيوف ورماح العسكريين، واتخذ من سواعد المحاربين الذين حشدناهم للمواجهة، أوتادًا يقطر منها الدم، ألصق بها راياته الخضراء، ولكن وباء غريبًا لم أشهد له مثيلًا من قبل. كنا على الحدود أنا والحاكم نستطلع الأمر، حين علمنا بظهور غبار كثيف في الأفق، حين اتضحت الرؤية أكثر، حين استحالت إلى كابوس. وحين تضخم الكابوس، وأصبحنا بالكاد نعرف إن كنا حقيقيين أم مجرد أوهام عالقة بذيل الحقيقة. رأيت الحاكم الموقر يوسف دامير، يسقط عن ظهر جواده وفي عنقه وخز سيف، ولم استطع بكاءه أو انتشال ما تبقى فيه من روح.. رأيت القائد موسى عرديب يسقط مطعونًا في قلبه، وبقايا صوته العسكري، تتراكض وسط الغبار، ولا يلتقطها أحد، رأيت العشرات ممن أعرفهم ولا أعرفهم، يسقطون، وشممت طعم الدم أول مرة في حياتي، وكان حارًا جدًا. لم تكن الخنادق التي اشتعلت فيها النار وانفجرت على أطرافها حبات البارود، شركًا، ولا خطط فاسكو السخيفة المستخرجة من كتابه التاريخي، شركًا، ولا الروح المعنوية التي حرصنا طيلة تلك الأشهر الماضية على إبقائها عالية برغم المرض والحصار.. قلت لجوادي العبَّار مشوش الذهن، والذي يصهل كمجنون: نموت أم ننجو يا عبار؟.. فلكزني قبل أن ألكزه وانطلق. كان يتقي النار بالنار، وسهام الجهاديين في الحدود، بسهام الجهاديين التي كانت لا تحبو إلى داخل المدينة، ولكنَّها تئز أزَّا. الحفاة العراة، الملثمون، لابسو الأبيض والأخضر المرقَّع، لابسو الفوضى وعطر الدم، من يا ترى المتَّقي من بينهم؟.. ولا أحد يعرف.. وأتذكر صراخ (عطايا) بائع الروب والخميرة يوم حاورناه في (خزي العين).. كلهم المتَّقي.. كلهم المتَّقي.. كان (التقلاوي ديدام) فرَّاش مجلسنا السابق الذي اختفى في تلك الليلة المهووسة، موجودًا في داخل الهدير.. رآني ورأيته، تأملني وتأملته، رفع حربته إلى عنقي، وراوغتها.. وصلت إلى مبنى مجلس المدينة بصعوبة، ولم يكن ثمة مجلس لمدينة، ولكن ذكرى لقاعات ومكاتب وأوراق، الآن مجلودة بسياط النار وتحترق، وصلت إلى ساحة المجد التي أمنَّاها كما اعتقدنا، وأنا مشوش باحتمال ضياع أهلي.. وضياع محبوبتي وإرث الحياة وتاريخها كله، ولم تكن الساحة آمنة، ولكن شركًا ولعنة، كانوا يلمون غنائمها النظيفة يرصونها جانبًا، ويبصقون على تلك التي كانت متسخة ولا تبدو غنائم.. لكزت العبَّار بشدة وتواريت. قصدت أماكن لم تكن أماكن.. وأحياء لم تعد أحياء.. وشوارع لا تبدو شوارع بأي حال من الأحوال، أشم الغبار والدم، وأضع يدي على أذني حتى لا يصرعني الهدير في تجواله وترصده، وتوقفت في النهاية أمام مقهى خزي العين المجلود بسياط النار أيضًا، ربطت العبَّار إلى جذع شجرة ميتة، وارتميت على الأرض بجواره، أغمضت عيني... فجأة وجدت نفسي واقفًا على قدميَّ، ثمة سيف مسنون في رقبتي، ورمح يلتصق بظهري، وعدد من الملثَّمين يرتدون ثيابًا بيضًا متسخة بالطين والدم، يخاطبونني في قرف.. تشهد.. تشهد .. أود أن أتشهد حقيقة، لكني لا أعرف الشهادة.. وأسمع صوتًا يأتي من العدم والنصل قد بدأ يحز في العنق.. لا تقتلوا من لم يرفع السيف.. لا تقتلوه.. خذوه إلى حيث أمر سيدنا المتَّقي.

213

| 24 أغسطس 2015

مسمى

فجأة ترقيت.. نعم ترقيت إلى وظيفة أعلى، ولا أعرف أبدًا كيف جاءت تلك الترقية، لطباخ هزيل، تم غسيله في بيت (برهاني) أيامًا طويلة حتى جف. غاب القائد عبَّادي في جوف المدينة يومين عريضين بناء على طلب المتَّقي، الذي جاء يحمله رسول قيل إن اسمه (عكرمة الضراب)، وشاهدته يهبط عن جواده الرمادي، أمام خيمة القائد، واكتشفت من مشيته وهزة رأسه، وريشة من ريش الدجاج، خلف أذنه تستخدم في الكتابة، أنه قريبي الشاعر (مسمى طاؤوس)، الذي كان يبيع قصائد الشعر للريفيين في مقهى (خزي العين)، ولم أندهش أبدًا. مادح الجنود الخيالة الذين لم يملكوا أبدًا إيحاءات مدح، وناظم آخر أغنية محتالة، ترنح بها المغني (جريح)، في خزي العين قبل أن يندثر، والآن رسول المتَّقي، لأن الضرورة لابد قد حتمت ذلك ولا أعرف كيف عثر على المتَّقي، الذي لا أعرف حتى الآن إن كان حقيقة أم مجرد خيالات فقراء. لم أخبر أحدًا باكتشافي، ولا ظننته اكتشافًا ثريًا، ولكن مجرد حدث عادي، تمامًا كالأحداث التي كانت تجري في مدينة السور، حين كانت مدينة: مخلوف المجنون عاريًا في الطرق، يبحث عن أخشاب من النار، ليبني بها سفينة، إحدى بائعات الهوى من حي (ونسة)، تابت فجأة وتوقفت عن دفع الضرائب، فقيرة من حي (أرض الكوثر)، باعت طفلًا لسائح.. دجال إفريقي يأتي فقيرًا، ويفر حاصدًا ثروة.. هكذا. أرسلوا في طلب غداء للرسول المحترم، وأعددناه كما طلب، ذكروا أنه يحب اللحم مشويًا، يحب طعم الملح و(الحبهان) على حسائه، فشوينا اللحم، وأكثرنا من الملح والحبهان على الحساء. وقالوا يحمل أنباء جديدة للقائد، ولم نسأل، لأن لا أخبار جديدة ولا قديمة، ستحفر كوة في ظلام المصير. وقد سمعنا في الآونة الأخيرة أن حكومة العاصمة قد بترت (السور) وضواحيها، وأريافها التي تغلي بهوس المتَّقي وأتباعه، عن جسد الوطن، وتفرغت لابتكار وسائل لحماية بقية الجسد، لكن لم يكن ذلك مؤكدًا. كان مسمى قد اختفى عن عيني أثناء إرهاصات الحرب، وبالتحديد، في ذلك اليوم الذي أقيم فيه عرس الغرابة، عرس الملكة نديمة، والبكباشي صبير الذي لم تحبه أبدًا. لم يكن واحداً من السواعد التي التمت من كل شبر لتفتدي المدينة. لم يكن في صحبة من تجمعوا للاحتماء في سرداب ساحة المجد، ولا كان مرتبكًا، ومفزوعًا مثلنا، يوم ارتبكنا وفزعنا في السوق الكبير، سوق حمزة وابنه. ولم تنعه الأخبار التي تواترت ونعت من مات. في الحقيقة لم يكن ذكره يرد إلى خاطري أبدًا في تلك الأيام العصيبة، بالرغم من قرابتنا المؤكدة، حيث يعتبر واحدًا من أبناء العمومة، فلم يكن مسمى الذي كان قد تجاوز الخمسين بلا عيال ولا زوجة، من ذلك النوع الذي يترك في الذهن خامات ذكرى.

276

| 17 أغسطس 2015

مقطع عن الريف

صيحات الديكة، إيذان بانقضاء غشاوة الليل. فقه الريف: التفاف حول أي بداوة كانت، أي بساطة كانت. تلتقط الأشياء كساءاتها من اللون، والشجر، من الحليب، من الدهشة، وجرعات الدواء المكثفة لنسيم يصحو، ويلفح. الغاديات، الرائحات، واردو أسواق الوهن، المزارعون الخلص، والرعاة الخشنون ، يتشققون وينسون، وينسون ويتشققون، وتذّكر الأرض. التجارعناوين بارزة لتجارة الهمس، أغنياء بذاكرة الدفاتر، فقراء من هاجس الكنوز، من الصادر والوارد، والورق البنكي إلا ما ندر. السحالي، الزنازن، العناكب اللاسعة، ثعالب البر وذئابه، جرذان البيوت الهوجاء، ولصوص المحاصيل شرهون للشبع المسروق، ينهشون الحصاد، يقبضون رواتبهم ، قطنا، ودخنا وقمحا، وشعيرا وبقايا ضريس. تشب طيور القطا من خلف سحب ترطن بالمطر حينا، وبأكذوبة المطر أحيانا، يتعرف الخدر على أهله بسهولة، يتسلقهم . والأرق على أهله بسهولة، يتسلقهم، يندس غبار المواسم، تحت وسادات نوم الطقس، يدهنها بأصفره، وأحمره.، وأسوده، ورماديِّه الكثيف. يهاجر المهاجرون إلى المدن ليكسبوا صفة الشوق، يغازلون الحسناوات، ينهزمون، يعود المهاجرون من المدن ليسكبوا عطر الوجد، على الطرق الفقيرة ، ليرقدوا تلك الرقدة السمينة، تحت ظل الضحى، أي خبز ، وأي كسرة ، وأي نعاس رزين . من جرح الريف تقتات مدن، وعواصم، واشتهاءات، إلى جرح الريف تنفذ بكتيريا العلب، والسجائر المهربة، والتخمة، و السالمونيلا ، وألعاب الحظ، واليانصيب، وهبوط الأغنيات، يتسلل الحواة مكلفين بالغش، والشعراء خلف قوام أصلي رشيق، وموظفو الخدمة المدنية كارهين حتى لغرائزهم، وعرق أجسادهم. خلف جرح الريف يرقد نهر من التراث، والعادات، والتناحر، ونصرة الأخ ظالما أو مظلوما، فوق جرح الريف تلقي السلطات لحافا أصم، ولهفة كذابة، وشخيرا قاسي القلب. من بين ثنايا الكرى الملتف في أي قيلولة، ينبت الحسد، وتنضج الغيرة، تغلي مراجل من ثرثرة ، وتقوى، وعراك، وبكاء لميت، واشتياق لحي، وتعتاد سنانير الصيد على صيدها مهما وهن: أي يمام، و بشرون، وأي طائر قيلدون ثمل. تفتح أقاويل البيئة مزاليجها الهشة لتبث الوقائع، يكتب الآباء رسائل منغمة بأحبار الدواة وريش القصب والطير، لتمضي إلى أي خط عبر خطوط الوطن العريضة، العاصمة، خط الغرب، خط الشمال، خط الموت الجنوبي، الأمهات يكملن الرضاعة حولين ناعمين مشبعين، الشمس تلفح لكنها لا تميت، والقمر مولد كهرباء الغشامة، يحفرها في العتمة بإصرار إلى أن يموت. آبار الأرتواز، المحفورة بالسواعد الخشنة، قيء المطر ومساحة الري النحيلة، والخيران، ورق على الشجر المرتوي، تحت الشجر المهدم، ظل بلا مظلات، وصدقة بلا متصدق، السواعد عرجاء ومستقيمة، ومبتورة، وطرية العود، الأرجل حافية، وكاسية كالحافية، الطلاسم عصية على الفهم، وسهلة في نفس الوقت، البلدة بنت الريف لا محالة، من أم خضراء، في بيت أخضر، بجلباب أخضر، من أسرة هي أسرة الخضار أبا عن جد.

346

| 10 أغسطس 2015

عن الاختلاف

يعد موقع (Good reads) على الإنترنت، أحد المواقع المهمة بالنسبة لقراء الكتب، خاصة الروايات، حيث يضع المشتركون فيه، ما قرأوه، ويعلقون عليه، وربما يقتبسون مقاطع معينة أعجبتهم في كتاب، ويضعونها لمشاركة الآخرين فيها، وقد درجت على زيارة هذا الموقع من حين لآخر، نوعا من التواصل مع القراء، ومعرفة الآراء المتباينة في أعمالي الشخصية، أو أعمال لكتاب آخرين، قرأتها وكونت عنها رأيا. وقد أعجبني أن الكتب توضع بترجماتها المختلفة، ويكتب كل قارئ حسب لغته أو اللغة التي قرأ بها الكتاب. المهم في هذا الموقع الجيد، أن اسم الكاتب لا يهم كثيرا، وإنما نصه الذي يطرح، ويمكن لأي قارئ مهما كان صغيرا، أو متواضع القراءة أن يدلي برأيه فيه بكل حرية، قد يتفق مع كثيرين، وقد يختلف مع كثيرين، ولكن يبقى الرأي موجودا، ويمكن أن يطالعه قارئ آخر، أو يطالعه الكاتب نفسه، إن مر بذلك الموقع، وقد نالت روايات شهيرة مثل مئة عام من الكوليرا، لجابرييل ماركيز، وحفلة التيس، لماريو فارجاس يوسا، وروايات لاستيفن كينج، حظا من القراءة والتعليق، بجميع اللغات التي ترجمت لها، بينما أعمال أخرى، لم تحظ إلا باهتمام قليل. ولعل ذلك ناتج من الشهرة التي تحظى بها تلك الأعمال، وأنها تدفع القارئ لاقتنائها ومن ثم الإدلاء برأي حر فيها، في ذلك الموقع المهم. ما يبين اختلاف الأذواق، أو اختلاف توجه القراءة وعمقها، هو أن تجد رأيا إيجابيا بصورة مدهشة، لكتاب مثل: ذكرى غانياتي الحزينات، لماركيز، يقابله رأي سلبي بطريقة غريبة لنفس الكتاب، واتهام للروائي العظيم. بأنه تعب، وما كان يجدر به أن يكتب هذه الرواية، وهو الذي كتب مئة عام من العزلة، والحب في زمن الكوليرا، وأحداث موت معلن. وشخصيا من الذين كانوا سيدلون بذات الرأي السلبي، غير المعجب إطلاقا، بتلك الرواية، التي أعتبرها ناتجة عن إرهاق شديد، أكثر منها نصا جديرا بالقراءة. الأعمال العربية أيضا لها حظها من الوجود في ذلك الموقع، مع انتشار الإنترنت، وظهور أجيال جديدة، تفضل القراءة الإلكترونية، أكثر من القراءة الورقية، أو تطرق الشبكة الفضائية باستمرار، وأكثر الكتب التي تحظى بالتعليق، هي القائمة السنوية، لجائزة البوكر العربية، ويبدو أنها حدث ينتظره القراء سنويا، رغم أنها في رأيي الشخصي، ليست معيارا لجودة النص الذي يدخل تلك القائمة، ولا معيارا لرداءة نص لم يدخلها، وهي أيضا خاضعة للذوق الخاص للجنة التحكيم التي تجيز هذا، وترفض هذا. هذه القائمة، يبدأ القراء بإدراجها في الموقع بمجرد ظهورها، وتبدأ التعليقات فيها، ومن الطريف أن الروايات التي تحصل على الجائزة السنوية، في معظمها لا ترضي القراء، وتجد كل قارئ، يختار روايته، ويصفها بأنها هي الرواية التي كان من المفترض أن تحصل على الجائزة. بالنسبة لي، دائما ما أهتم برأي القارئ، مهما كان حجمه، ولذلك لم تغضبني بعض الآراء السلبية التي وجدتها عن بعض أعمالي، رغم بعد أغلبها عن الموضوعية، اعتبرتها ظاهرة طيبة أن يهتم أحد بكتاب أصدرته.

382

| 03 أغسطس 2015

حصار

كان الحاكم دامير قد سعى، وفي وقت متأخر جدًا، إلى محاولة سحب عبارة (ما ترونه مناسبًا) من الأسواق، وآذان تجار لم يحفظوها فقط، لكنهم ملأوها بالحطب، وحولوها إلى موقد، واستبدالها بعبارة أكثر ملاءمة، بعد أن اكتشف مرارة طعمها الذي حرمه شخصيًا من لحوم الظباء المجففة التي يعشقها، لكن التجار كانوا حذرين، وملاعين، ولهم قراءات لا تتبع الواقع تمامًا، ولكنَّها تخترع واقعها، كانوا يرون في الحرب القادمة، رغم كل الدلائل، وأحبار الذكرى والتاريخ التي توثق باستمرار، مجرد كذبة كبيرة، وميدان ثراء جديد، تعود بعده الحياة إلى مجراها الطبيعي. اجتمعنا بتجار المحاصيل، وتجار الكساء، والذين يبيعون الشمع وصابون الغسيل، رفعنا أصواتنا ورفعوها، مددنا الأيدي ومدوها، اشتبكنا واشتبكوا، وخرجنا بنتيجة أن الذي يستطيع أن يأكل ويلبس، ويضيء ليله ويستحم، هو الذي يستحق أن يبقى مواطنًا بعد الحرب.. وكانت نتيجة بشعة، لخصها صهري (جماري)، نيابة عن زملائه من التجار. وألقى بها حارة وحارقة، ليس في وجوهنا، نحن مسؤولي الحكومة فقط، ولكن في وجه المدينة كلها. في إحدى الليالي، كنت برفقة الحاكم دامير، على ظهر فرسينا المرهقين من تقصي التبعات. كنا نتفقد الحياة وقد غدت لا حياة، نتفقد البؤس، وقد غدا سمة، نتفقد (شبح طلحان)، يترنح في الحواري والأزقة والحفر ومسامات الليل التي اتسعت ومصت، وننحشر في بيوت العزل التي أنشئت مؤخرًا لمرضى (التخمة الكاذبة) الذين يتضخمون وينفجرون، ولا نستطيع إلا أن نبكيهم، سألني الحاكم عن مصادر الثروة التي أتحكم فيها، وما موقعها في كل ذلك؟ واكتشفت في تلك اللحظة فقط، أننا بلا ثروة. توقف مجيء القوافل التجارية التي كانت تضخ في عروق الحكومة ضرائب مهولة وذات وقع، توقف ورود ضرائب الرعي والزراعة، وحصاد المواسم في قمم الجبال، وقد بدأ التجار برغم إيقادهم للشح، وتأجيجه وحصاد ثماره، يتباطأون في الدفع وقد لا يدفعون. كنا محاصرين بلا شك.- يسألني الحاكم في هلع:- هل نحن محاصرون يا ميخائيل؟ هل نحن محاصرون؟بدأت أقرأ ذهني المتعب، أحاول العثور على مكونات الحصار في تلك الكتب القديمة التي قرأتها ذات يوم في مدرسة المعلم (جبير)، واستنتجت أننا بالفعل في قلب حصار محكم دون أن ندري، أو ندري لكننا نتصنع عدم الدراية. لم يدخل أحد إلى المدينة منذ زمن، ولم يخرج أحد، لا ذهب مستكشفا منا، ولا عاد رسول منهم يحمل الجمر، وأرقم وجاويد، صلة الجمر بيننا وبينهم، ميتان أو مفقودان.حصار محكم بالرغم من أن حراس الخنادق المبثوثين في المداخل، لم يسمعوا قعقعة لسيف، أو طنطنة لرمح، أو شهقة لبارود، ولا رأوا شخصا واحدًا معطرًا بريح المسك، يهلل ويكبر، في مرمى رؤياهم، أو حواسهم التي لم تنم أبدًا منذ نشطوا وتحفزوا.. قلت بمرارة:- للأسف يا سيدي.

326

| 20 يوليو 2015

بعد الحرب

خرجت من الخيمة، وفي فقرات عنقي ألم مباغت، في القلب ذكرى عاودت الظهور بشدة، ولدرجة فكرت فيها أن أستعيد الخاتم المدفون من حفرته العميقة، أسميه خميلة جماري، أحتضنه بقوة ونبكي معًا. كان الجنود قد تركوا انشغالهم بطيف الحرب، رصوا سيوفهم وحرابهم ودروعهم على أرض ملساء، وتجمعوا للصلاة، توما يغسل يديه من دم خروف مصروع أمام خيمة الطبخ، وينهض متورم العينين. اقترب مني (التقلاوي ديدام) الذي كان من قبيلة النوبة المستوطنة في منطقة جرداء، جنوب (السور)، وعمل تحت إمرتي فرَّاشًا في مجلس المدينة أكثر من عشر سنوات، واختفى بعد ليلة مهووسة مشتعلة، كنت موجودًا فيها وشاهدتها حتى انطفأت، لأشاهده في يوم السقوط، وسط الهدير رافعًا حربته المسنونة في وجهي، ثم بعد السقوط هنا في المعسكر، مستشارًا خاصًا في أمور عدة. كان مزهوَّا بثوبه الأخضر المرقع، ومشيته الجديدة ذات الخطوات المنغّمة، وذلك السيف الفضي المدلى من خصره الأيمن، وكنت دائمًا ما أتحاشى لقاءه الذي يأتيني بموقعي القديم وموقعه الجديد، ويزيد من ارتباكي وتوعكي، لكن لا مناص من اللقاء في تلك المساحة الجلفة، وفي جوف ذلك المصير الموحش، وبمساعد القائد الذي يملك صلاحية الولوج حتى للأحلام.كان مبتسمًا عن أسنان تحتضن غصنًا أخضر من سواك (الأراك)، تنز من ثيابه رائحة المسك، وهمس في أذني مستهزئًا:- لم يكن عشاء الأمس جيدًا يا ميخائيل بك.. اللحم نيئ والثريد بلا بهارات. اجتهد.. اجتهد أكثر.طأطأت رأسي ومضيت، ورفع رأسه ومضى.أديت صلاة الظهر في خشوع حقيقي، كنت قد بدأت أفتتن بالدين الجديد، كان ثمة عدل وتسامح، وتعاليم شديدة الرقي لم أكن أعرفها من قبل، برغم مخالطتي للكثيرين من حامليها. أمَّنا الشيخ (مفتاح الفلاح) الذي كان إمامًا لجامع (السور) الكبير، وأقاله التركي (يوسف دامير)، حاكم المدينة الراحل، حين لم يعجبه أداؤه في خطبة الجمعة التي ألقاها أيام إرهاصات الحرب، وأفاجأ بوجوده هنا هؤلاء الناس الذين أعادوه إمامًا محدد الصلاحيات، كما كان دائمًا. كان عن يميني معمم يمني اسمه (العلوي جبّار القرنين) لا أدري من أين جاء، فلم أشاهده من قبل في المدينة التي لا ينقطع سيل الغرباء عنها، حيث يأتون للسياحة أو بحثًا عن الربح، أو بلا أي هدف محدد. كان صانعًا للدروع، ومروِّضًا لخيل الحرب ذات الصهيل القوي، ونافخًا لآلة عصية على النفخ اسمها (الكارور)، نحتت من جذوع أشجار السنط اليابسة، وتستخدم في لم الجنود من تشتتهم، حين لا بد أن يلتموا، وزار خيمتنا في مرات عديدة ليصنع وجبة (المقلوبة) اليمانية التي لم نكن نعرفها من قبل، وكان يبهّرها ببهار حار تدمع بملامسته العيون، يخرجه من جيبه. عن يساري أعرابي من قبيلة (آل بطّاح) البدوية، التي تترحل في مناطق واسعة حول مدينة (السور)، اسمه (ودعة)، ويلقبونه بودعة المصَّاص، لم يكن جنديًا ولا طباخًا ولا مهللًا أو مكبرًا، ولكن معالجًا متخصصًا في تدليك تشنجات العضلات، وتحضير لبخات الجروح والحمى، ومص سم العقارب والثعابين التي تتكاثف في تلك الأصقاع، وتعوق شراسة الحروب في أحيان كثيرة، حين تفترس الدماء المحاربة.

287

| 06 يوليو 2015

نديمة

كانت نديمة مشغول موجودة في ذلك المساء العادي، ملكة على مقعدها المرتفع الذي يمكّنها من مراقبة نشاط مقهاها من دون أن تضطر إلى الانحناء أو مد الرقبة كثيرًا، أو الاستدارة غير الضرورية. ترتدي قميصها الأحمر ذا الحواف المطرزة بالبرتقالي، والذي يساعدها على النشاط كما تقول، على يديها أساور من ذهب عياري من نقش اليهودي إيزاك)، تاجر الذهب الكبير، وحولها عدد من شباب المدينة، كاشفين لصدورهم المغطاة بالشعر، يكلِّمونها في همس، ولا ترد على أحد. وخمنت أن قولونها العصبي لا بد متشنج بشدة، إمساكها المزمن لا بد في القمة، اقتربت منها، وابتعد المحلقون، قلت: استخدمي الفجل بعد غليه في نار هادئة، واخلطيه بالعسل، استخدمي قشر الليمون المجفف بعد سحقه.. استخدمي نبات (الدندرة) المر ثلاث مرات في اليوم.. هذا يساعدك. كانت وصفات مخترعة، اخترعتها في تلك اللحظة، وأردت أن أستحلب بها ابتسامة من تلك الملكة الواجمة، لكنَّها لم تبتسم، ولا بدت قابلة للابتسام في أي لحظة. وبصوت بعيد عن صوتها الممتلئ بالتعرجات، الذي طالما استمعت إليه من قبل، رددت:- هل سمعت الأخبار يا ميخائيل بك؟- أي أخبار يا ملكة؟. ثورة الخراب.. أي ثورة؟رددت مندهشًا وأنا أحدق في وجهها، محاولًا أن أقرأ المزيد.وبصوت رتبته جيدًا ليكون عميقًا وجارحًا، ومغرقًا في التطرف الحزين، حكت الملكة نديمة، عن قائد أسطوري اسمه (المتَّقي)، نبع من قرية منسية اسمها (أباخيت)، على شاطئ النيل أو تخوم الصحراء، لا تدري بالتحديد، عن بطشه وجبروته، سيرة زهده وتعاليه على الدنيا الفانية، وآلاف الفقراء الذين تبعوه بمجرد أن ظهر، ويتبعونه إلى آخر الأرض لو مشى إلى آخر الأرض.. لقد هزموا الحكومة بجدارة حين سمعت بأخبارهم، وأرسلت إليهم سرية مستخفة، فيها جنود عدة ومدفعان صدئان، خرجوا إلى القرى، ودكوها. إلى الجبال، ودكوها. إلى الوديان، ومساقط المطر، ودكوها. والآن بالتحديد يزحفون نحونا.. يقتربون من مدينة (السور) التي تقول الأخبار، إن المتَّقي سيتخذها قلعة ينطلق منها.كان ثمة أخبار رسمية وردتنا منذ أيام عدة، عن تمرد طفيف لبعض الغوغاء في قرية اسمها (أباخيت) تقع قريبًا من النيل، على بعد عشرين يومًا من (السور) وتتبع لأقاليم الوسط. كانوا يطالبون ببناء مخازن كبيرة وصلدة، لحفظ غلالهم من القمح والذرة والسمسم حتى لا تفسدها الريح والأمطار، واحتوت الحكومة استياءهم بسهولة حين ربطت زعيمهم إلى جذع شجرة من أشجار السنط، وضربته بالخيزران، وقبل ذلك بأسابيع عدة، تمرد (الشريف علوبة)، زعيم إحدى المناطق الريفية الغنية بالزراعة والرعي، حين أعاد جباة الضرائب الذين أرسلناهم إليه في إجراء عادي وروتيني، محملين بأكياس ممتلئة بالرمل والحصى وبعور الإبل، وكان أن ذهبت إليه شخصيًا برفقة جنود عدة مسلحين تسليحًا رثَّا. تحملنا ركاكة لسانه، وقهوته المرة، وبصقه للتمباك على ثيابنا، وبذاءة أتباعه وهم يشركوننا بالقوة في مسابقة بربرية لشد الحبل، ويهزموننا، وعدنا في النهاية بضرائبنا كاملة لا تنقص قرشًا واحدًا، وفيما عدا ذلك، لا شيء.. لا شيء سوى المجنون (مخلوف) الذي ضبط عاريًا في الطريق العام، يبحث عن أخشاب من النار، وبائعة الهوى (طلاسم) التي تابت فجأة، وتوقفت عن دفع الضريبة، وربة منزل من حي (أرض الكوثر) الفقير، باعت طفلها الرضيع لسائح أوروبي.. لا شيء.

232

| 29 يونيو 2015

مهمة

كانت المهمة التي كلَّفني بها الحاكم (يوسف دامير) قاسية جدًا، لكنني اعتدت على قسوة المهام، وإنجازها بكفاءة مهما تشعبت. ومنذ خلفت والدي في مهنة تجميع ثروات الحكومة، وتحديد مسار إنفاقها، وأنا أستعذب المشاق، أسافر إلى القرى والوديان، والسفوح التي بها زراعة ورعي، أو أغوص في أحياء مزرية في المدينة، بحثًا عن رماد ثروة قد يكون منثورًا هنا وهناك. لست شحيح المدينة الأول، كما دوّنت أحبار جماعة الذكرى والتاريخ، وكما تهمس الألسنة حين يمر فرسي العبَّار في مكان ما، ولكن حريصًا، وحارسًا أكيدًا ضد الخلل والتبذير. وحين أجلس إلى نفسي أحيانًا، أعد ما أنجزه حرصي وتوجيهي السليم من آبار نقية للمياه، وطلمبات حديثة للري، ومرابط للدواب في الأسواق، وحتى مساحات خضراء للتنفس، أحس بالزهو، وأستغرب، كيف طاش مني لقب (البكوية) حتى الآن؟.. وكيف لم يضعوني حاكمًا للإقليم مكان ذلك التركي صاحب النزوات يوسف دامير؟ لم أكن أحسده حقيقة، لكن مجرد استغراب.. مجرد استغراب فقط.سميت مهمتي بمهمة التأكد، وصدر فيها مرسوم رسمي من مكتب الحاكم دامير. وكانت، في الحقيقة، مهمة غير محددة الملامح. كان علي أن أحدّق بذهني كله، لأعثر على ملامحها وسط الضباب. أحضرت أوراقًا وقلمًا، وبدأت في التحديق بما ظننته خيوطًا قد تقودني إلى الطريق. كانت أحبار جماعة (الذكرى والتاريخ) السرية، قد محت أشياء كثيرة وقديمة من حوائط المدينة، وكتبت مكانها إرهاصات الحرب. كتبت عن عطايا، ولد الحكومة الجديد وذلك المستقبل المجيد الذي ينتظره، واستعانت برسام مبتدئ ليرسمه بلا حاجبين ولا عين، وعلى فمه عظم جاف من عظام الكلاب. كتبت عن الجرداء أم العيال السبعة، تلك التي تلاشت، وجفت في (خزي العين) من دون أن تعطي ضوءًا أو ملامح للطريق. وفي حائط مجلس المدينة بالتحديد، عثرت على رسم مستهزئ للببغاء الإفريقي (كيكور)، ومنقاره ملتصق بفم متورم الشفتين لامرأة زنجية، بينما وجه قريب الشبه بوجه دامير، منكفئًا على الأرض، وقد كتب على الرسم.. هكذا تدار الأمور في زمن الحرب.بدأت بحي (ونسة) الذي كان برغم وعورته، واتساخه الشديد، موردًا هامًا من موارد الثروة، ولعله المورد الوحيد الذي لا يتأثر بشح الأمطار، أو هلاك الماشية، ولا يملك عذرًا من تلك الأعذار التي يسوقها دافعو الضرائب كلما ملّوا، أو استسخفوا يد الحكومة الطويلة، وهي تلاحقهم. لم أكن قد دخلت الحي منذ مدة طويلة وكنت من رواده في شبابي المبكر، وقبل أن ألتحق بتلك الوظيفة الهامة، حيث أكتفي بمندوبين أقل شأنًا، يخوضون في وحله حتى القاع، ويعودون بالحصاد. كنت أبحث عن (ولهان الخمري) تاجر المنكر والرغبة، أتأكد من إغلاقه لتجارته، واستعداده ليكون قليل الذوق الرسمي في الحرب القادمة.

248

| 22 يونيو 2015

حرب- من نص أباخيت

جلست بجوار (خميلة جماري) في بيت والدها الأنيق، في حي (كاهير) الراقي، حيث أقيم وتقيم هي، ويقيم معظم أثرياء المدينة ووجهائها. وقد اكتمل الشقاء لاستقبال المتَّقي وأتباعه، ودحرهم الكبير، الذي أكده قادة الجيش بعد أن رتقوا صقورهم ونجومهم على الأكتاف، وأزالوا رائحة العتة من ثيابهم، ولم أستطع تذوق ذلك الطعم أبداً.كانت ساحة المجد قد حفرت كلها، وجهزت كخنادق آمنة لاحتواء المأزومين والعاجزين والذين قد يجرحون في الحرب أو يصابون بالهيستيريا، الخنادق عند مدخلي المدينة المحتملين، مملوءة بالحطب والقش وثقاب إشعال النار، وعدد من الخطط والمناورات التي استخرجت من كتاب (فاسكو) العسكري، الذي وصفه الحاكم بالسخف، قد وزعت، ورصت طوابير من المجندين الذين حصدوا من الأحياء، ودربوا على قرقعة السيوف، ووخز الحراب، واستخدام البنادق الصدئة، على عجالة، أمام تلك الخنادق.. لم تكن ثمة أخبار، أي أخبار من حكومة العاصمة البعيدة، ولا سمعنا بجيش جرار ولا حتى حطام جيش، في طريقه إلى نصرتنا، وأرقم وجاويد، رسولا الهلاك، التعسان.. غادرا بالكفن متقن التفصيل، ولا يعرف أحد إن كانا ما يزالان رسولين قد يعودان بجمر جديد، أم جثتين مهملتين في عراء التيه بلا غطاء ولا قبر.كنا في مرجل يغلي، يغلي ويغلي، ولا أحد يملك القدرة على إطفائه. كان الغلاء على أشده، الجوع على أشده، العري على أشده، ولم تكن التظلمات الشعبية تأتي همساً كما كان في السابق، ولكن ألفاظاً نابية نسمعها في ترف، وحجارة تلقى على مجلس المدينة بلا توقف، ونبال صيد للعصافير حولها الصبية الجائعون إلى نبال رجم ممتلئة بالمأساة، ولأول مرة ظهرت في المدينة بوادر مرض (التخمة الكاذبة)، الذي يصيب المصارين بالهلع، فتضخ غازاتها وتنتفخ حتى الموت.كان الحاكم دامير قد سعى وفي وقت متأخر جداً، إلى محاولة سحب عبارة (ما ترونه مناسباً) من الأسواق، وآذان تجار لم يحفظوها فقط، لكنهم ملأوها بالحطب، وحولوها إلى موقد، واستبدالها بعبارة أكثر ملاءمة، بعد أن اكتشف مرارة طعمها الذي حرمه شخصياً من لحوم الظباء المجففة التي يعشقها، لكن التجار كانوا حذرين، وملاعين، ولهم قراءات لا تتبع الواقع تماماً، ولكنَّها تخترع واقعها، كانوا يرون في الحرب القادمة برغم كل الدلائل، وأحبار الذكرى والتاريخ التي توثق باستمرار، مجرد كذبة كبيرة، وميدان ثراء جديد، تعود بعده الحياة إلى مجراها الطبيعي. اجتمعنا بتجار المحاصيل، وتجار الكساء، والذين يبيعون الشمع وصابون الغسيل، رفعنا أصواتنا ورفعوها، مددنا الأيدي ومدوها، اشتبكنا واشتبكوا، وخرجنا بنتيجة أن الذي يستطيع أن يأكل ويلبس، ويضيء ليله ويستحم، هو الذي يستحق أن يبقى مواطناً بعد الحرب... وكانت نتيجة بشعة، لخصها صهري (جماري)، نيابة عن زملائه من التجار. وألقى بها حارة وحارقة، ليس في وجوهنا نحن مسؤولي الحكومة فقط، ولكن في وجه المدينة كلها.

455

| 15 يونيو 2015

alsharq
السفر في منتصف العام الدراسي... قرار عائلي أم مخاطرة تعليمية

في منتصف العام الدراسي، تأتي الإجازات القصيرة كاستراحة...

1974

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
قمة جماهيرية منتظرة

حين تُذكر قمم الكرة القطرية، يتقدّم اسم العربي...

1332

| 28 ديسمبر 2025

alsharq
الانتماء والولاء للوطن

في هذا اليوم المجيد من أيام الوطن، الثامن...

1140

| 22 ديسمبر 2025

alsharq
الملاعب تشتعل عربياً

تستضيف المملكة المغربية نهائيات كأس الأمم الإفريقية في...

1080

| 26 ديسمبر 2025

alsharq
محكمة الاستثمار تنتصر للعدالة بمواجهة الشروط الجاهزة

أرست محكمة الاستثمار والتجارة مبدأ جديدا بشأن العدالة...

1056

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
بكم تحلو.. وبتوجهاتكم تزدهر.. وبتوجيهاتكم تنتصر

-قطر نظمت فأبدعت.. واستضافت فأبهرت - «كأس العرب»...

876

| 25 ديسمبر 2025

alsharq
لماذا قطر؟

لماذا تقاعست دول عربية وإسلامية عن إنجاز مثل...

663

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
مشــروع أمـــة تنهــض بــه دولــة

-قطر تضيء شعلة اللغة العربيةلتنير مستقبل الأجيال -معجم...

645

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
احتفالات باليوم الوطني القطري

انتهت الاحتفالات الرسمية باليوم الوطني بحفل عسكري رمزي...

558

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
معجم الدوحة التاريخي للغة العربية… مشروع لغوي قطري يضيء دروب اللغة والهوية

منذ القدم، شكّلت اللغة العربية روح الحضارة العربية...

531

| 26 ديسمبر 2025

alsharq
التحول الرقمي عامل رئيسي للتنمية والازدهار

في عالم اليوم، يعد التحول الرقمي أحد المحاور...

510

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
عولمة قطر اللغوية

حين تتكلم اللغة، فإنها لا تفعل ذلك طلبًا...

453

| 24 ديسمبر 2025

أخبار محلية