رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
بداية لابد من الاعتراف بأن الكتابة الإبداعية، ينبغي أن تكون مشروعا مؤسسا، أو في طور التأسيس دائما، وله ما يسنده، لدى من انصاع لضغط الكتابة على حياته، وكتب، ومؤكد أن القراءة الواعية المتنوعة، في أي وقت، تعد من دعائم المشروع، كذلك الوقت الذي يجب أن يقتطع، ويثبت عند ساعات معينة، وطبعا كثير من الطقوس المجدية التي تساهم بجدارة في دعم المشروع الكتابي، ولطالما كانت كل مشاريع الإبداع القائمة على هذا النهج، ناجحة جدا، خاصة في أوروبا وأمريكا حيث الكتابة الإبداعية، وظيفة محترمة، تغني عن كل الوظائف، ويتبعها في العادة جيش من الوظائف الأخرى، مثل وظائف التحرير، والتصحيح، والوكلاء الأدبيين، والنشر، وهكذا ليجد الكاتب نفسه في النهاية، عنصرا مؤسسا لشراكة مهنية جيدة، ويكون مشروعه مثار اهتمام، ويتطور باستمرار.حتى الصفحات الشخصية التي ينشئها الكاتب على الإنترنت، وصفحات التواصل الاجتماعي، التي ينشئ فيها حسابا، تدار بواسطة آخرين تدربوا على معطيات مشروع الكاتب وأصبح بإمكانهم التصرف بكل حرية وبلا أي مشاكل، من ناحية مخاطبة الناشرين ووكلاء الكاتب، وبعض القراء المهمين حين يطرحون آراء يهم الكاتب أن يعرفها.بناء على ذلك فليس أسهل من التخلي عن وظيفة امتهنها الكاتب في بداياته، والتفرغ للعمل كاتبا فقط، يستطيع اختراع وقته وطقوسه براحته، يستطيع اختيار مكان الكتابة، وزمنها ويسافر بلا لوائح تؤجل سفره أو تلغيه، وبلا أعباء وظيفية تنتظره حين يعود، إن كان قد عثر على حيلة وسافر. وقد كان التركي: أورهان باموق مهندسا وأقلع عن الهندسة، كما ذكر في كتابه: ألوان أخرى، وكان ماركيز صحفيا وأقلع عن الصحافة طبعا، وكثيرون كانوا مهنيين، وتركوا مهنهم الأصلية بلا رجعة، وبالنسبة لأماكن الكتابة، وكيفية اختيارها، أعرف كتابا أوروبيين، لا يكتبون إلا في أفريقيا، حيث يقضون أشهرا في الكتابة حتى تنتهى أعمالهم ويغادرون، وهناك من عاش في المغرب، وكتب فيها أعظم كتاباته مثل بول بولز، صاحب رواية السماء الواقية الرائعة، ومن عاش في أوروبا من الكتاب الأفارقة والآسيويين المهميين، من أجل الكتابة فقط.أذكر في برنامج للتوقيع شاركت فيه. في مهرجان طيران الإمارات بدبي، منذ عدة سنوات، أن شارك معنا كاتب إيطالي في حوالي السبعين، لم يكن معروفا بطريقة جيدة، بالنسبة لي في ذلك الوقت، لكن كان موجودا بكامل مقومات الكاتب التي من المفترض أن يكونها: كتب مترجمة لعدة لغات، مرصوصة في معرض جانبي للكتاب، وجمهور عريض من جنسيات عدة، يشتري الكتاب، ويقف في صف التوقيع، والأهم من ذلك، سكرتيرة تتولى كل شيء حتى إسناد الكاتب في المشي، وكان كما بدا لي يعاني من شلل طفيف.. وبالطبع ليست هناك مهنة من المهن العادية، يمكنها أن تعوض كل ما ذكرته، وتهب البريق الذي تهبه صنعة الكتابة.
284
| 14 مارس 2016
لم يعد قسم السيد محارب إلى دار المزاين، خلال تلكما الشهرين أبدًا، كان كعادته بلا قرش إضافي يزيد على حاجته، وحاجة جدته عاقبة، وأخته السارة التي باتت من مستخدمي مساحيق التجميل الخطرة، ورواد صالونات التزيين التي تستهلك الكثير من المال، وتمنح القليل لوجه واحدة مثل السارة، يحتاج إلى جهد كبير لتحويله إلى وجه جذاب، والمائة ألف دينار المطلوبة في دار المزاين، ستظل معلقة، ولا يعرف إلى متى. وكان كلما مر بجانب دكة المطرودين في طريقه إلى عمله صباحًا، انزاح بوجهه بعيدًا، يخاف أن يرى الإفريقية جالسة عليها، تتكئ على حقيبتها القماشية، وتحاور يونانيًا، مشردًا، ومضفر الشعر، أو تصغي إلى مطالب غريبة من نمساوي معتوه لا يعرف أحد لماذا جاء أصلًا إلى هذه البلاد.لا يستطيع الجزم أن تعاطفه تجاه مأساتها قد خف، لكن بالمقابل بات يخاف من ذلك التعاطف الخطر، يتمنى لو انعتق منه في التو واللحظة، يتمنى لو لم يكن أصلًا. المزيون الأخ، المتدرب في حلقة الدراويش جاء مرتين خلال تلك المدة. في المرة الأولى كان متحفظًا قليلًا، قال إن سميتا قد قطعت شوطا طويلًا في العلاج لدى الشيخ، وبات بمقدورها الآن، أن تأكل للجني وجبتين فقط، بدلًا من تلك الثلاث التي كانت تخصصها له، قال إنه شاهدها كثيرًا تتمشى في دار المزاين في منتهى الأناقة محاطة بفتيات معجبات، ولم يسمع لها شخيرًا غير إنساني، وشم في إحدى المرات، عطرًا نفاذًا ينبعث من جسدها، ولم يكن لجسدها عطر حين جاءت. سأل في تردد عن المبلغ المطلوب، وماذا حدث في شأن تدبيره، وأجابه قسم السيد كاذبًا، بأنه اقترب من تدبيره بالفعل، وسيأتي بنفسه إلى دار المزاين، يسلمه للمهدي مساعد الشيخ، في يده. أراد أن يسأل المزيون، عن الحكاء السعودي غيث بن بريك، وأين وصل في علاجه؟، أراد سؤاله وخاف من السؤال، انتظر أن يتحدث المزيون عن تلك الشخصية المهمة، في دار المزاين من دون سؤال، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث. وقبل أن يغادر المزيون عائدًا إلى تدريبه، لمَّح إلى أن ثمة صراع خفي، يدور بين المزيون الكبير ومساعده، يتناقله الدراويش همسًا، قال:- ربما تحدث تغييرات كثيرة هناك، أنا ذاهب.في المرة الثانية، كان المزيون أكثر أريحية، عرج على أخيه في بوابة الدخول عند فندق سواري، قبل أن يذهب إلى البيت ويستبدل زي الدراويش الأخضر. قال:- يقرئك الشيخ (هارون) مساعد الشيخ المزيون السلام ويخبرك أن سميتا في صحة جيدة، ومعنويات عالية، ولم تبق سوى عدة أسابيع، وينتهي العلاج، وأن ذلك كله قد تم بلا مقابل.. لن تكون مضطرًا لأن تدفع شيئًا. جملة مفرحة بلا شك وتحتاج إلى زغرودة عالية، لو كان يستطيع أن يزغرد، لكن السؤال الملح في الوقت الحالي:- وأين المهدي؟أجاب المزيون، ولا تبدو على وجهه أي صيغة لانفعال خاص:- معنا في حلقة الدراويش، لقد خفض الشيخ رتبته.
439
| 07 مارس 2016
في حلقة كنت شاهدتها من برنامج تلفزيوني تبثه إحدى القنوات الفضائية، وأشاهده من حين لآخر، كنت أقف مبهورا أمام عدة شخصيات استضافها البرنامج مصادفة، في أثناء طوافه في العاصمة، طارحا أسئلة تتعلق بكل منطقة يزورها. شخصية عوض الكريم، الملقب بعوض (زنقلة) منذ صغره، حين كان يدرس القرآن في الخلاوي، واكتسب بطنا ممتدا، ميزه عن بقية التلاميذ. ذلك الخياط الشهير في منطقته، ويمثل محله منتدى رياضيا وثقافيا، ومكانا تأتي إليه أخبار المنطقة أولا، ثم تنتشر منه بعد ذلك، لا يمكن أن يكون إلا شخصية روائية، يمكن كتابتها بصورة تليق بها، وهو ما يدعم القول، إن الرواية حتى لو كانت ممعنة في الفنتازيا، فهي في النهاية رواية ذات جذور واقعية، وإن الأدب مرجعيته الحياة نفسها.أيضا شخصية (شروم)، الشاب ذو الرأس الحليق، الذي اقتحم تجمع المشاركين في البرنامج، غير عابئ بالأسئلة أو الأجوبة التي تطرح، واستخدم لغة شارع غريبة، واصفا مقدم البرنامج، بأنه (الكاشف دخيل الله)، وتعني أنه جاء مستكشفا منطقتهم أو حيهم من دون استئذان، وتدخل فيما لا يعنيه، ثم تحدث بعد ذلك عن اختراعاته التي يعمل عليها ليل نهار، وسوف تغير وجه الكرة الأرضية، ومنها دراجة نارية يجري تحويلها إلى طائرة مقاتلة، ستذهب إلى فلسطين، وتحررها من قبضة إسرائيل الغاشمة، وأرجوحة تحمل الجالس عليها إلى أي مكان، من دون أن يخسر قرشا واحدا في المواصلات المكتظة بالبشر. وأخيرا ألقى قصيدة عن الحب والهجران وجراح القلب، لا علاقة لها بالشعر، ولكن ثمة علاقة وثيقة بينها وبين الفنتازيا.الشخصية الأخيرة، هي شخصية بائع الفواكه الذي يلقب بـ(ميس كول) أي مكالمة ضائعة أو رنة بلا رصيد، والتي أوجدتها الهواتف المحمولة في عالمنا المعاصر، وتحدثت عنها من قبل في روايتي العطر الفرنسي، حين سميتها رنة (أحتاج إليك بلا رصيد).هذه الشخصيات الغنية، وغيرها من الشخصيات التي تظهر في برامج مختلفة، وفي الشوارع ودور السينما، والحفلات العامة، والمطارات وكل مكان، هي عماد أي كتابة تأخذ من الواقع وتكتمل بالخيال، شخصيات مدهشة في رأيي، وتبرئ كتابتي وكتابة غيري ممن ينتهجون منهج الواقعية السحرية في الكتابة، من جنحة الإمعان في الفنتازيا، وعدم الارتباط بالواقع، تلك التهمة التي طالما توصف بها كتابتنا.لقد كتبت رعشات الجنوب بعد مشاهدتي تلك الحلقة بفترة، ومن دون أن أدري، وجدت شخصية شروم موجودة، وشخصيات أخرى، شاهدتها في برامج أو التقيتها في الشارع العام، وهذا العام كنت في الخرطوم، وأيضا كانت ثمة شخصيات بلا حدود، أتمنى أن يتسع الوقت لاستلافها.
496
| 29 فبراير 2016
منذ فترة، قرأت في إحدى الصحف، قائمة تضم أفضل مئة رواية عربية، صدرت منذ تعلم العرب، كتابة الروايات، وقد امتدت خيارات تلك القائمة حتى وصلت للجيل الحالي الذي يكتب، وينال الجوائز. ومن الذين شملتهم بالطبع: نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف والطيب صالح، وبهاء طاهر، وواسيني الأعرج والمسي قنديل، ومن جيلنا ضمتني، وخالد خليفة وعلي بدر، وهكذا أخذت اسما من جيل تسعينيات القرن الماضي وعدة أسماء من جيل ما بعد الألفية.حقيقة، الروايات التي ذكرت في تلك القائمة، كلها تقريبا روايات شهيرة، وحظيت بقراءات عالية ومراجعات متأنية، سواء أن كانت بالسلب أو الإيجاب.. بمعنى أنها من الروايات التي تم تداولها على حساب أعمال أخرى لنفس الكتاب، ربما تكون أفضل منها، وأكثر صلابة في مواجهة النقد، لكن كان نصيبها أن لا تحظى بشهرة كبيرة، ودائما ما أضرب مثلا برواية بندر شاه للطيب صالح، التي تجلى فيها آسلوبه، وتوظيفه للأسطوري والخارق بجدارة، لكن موسم الهجرة، غطى عليها. كذلك روايات للعملاق نجيب محفوظ، أعتبرها أقوى من الثلاثية المعروفة لكل قارئ ودارس، وهكذا روايات أخرى لكتاب آخرين، تجد متعة فيها أكثر من التي ترشح للجوائز، أو توضع في قوائم الأفضل دائما.لن أسأل عن المسؤول عن وضع تلك القوائم، وعلى أي معيار بنى اختياراته، لأنني وضحت أن شهرة العمل، لها دور كبير، كذلك ما يكتبه القراء في مواقع منتديات القراءة على الإترنت، المنتشرة بشدة، أصبح مرجعا لبعض الناس، حين يريدون أن يتعرفوا على كاتب أو يعرفوا ماذا يقول الناس عن أعماله، وهذه مسألة خطرة جدا، لأن الآراء ليست واحدة بالطبع، ولا تخضع لتقييم علمي أو فني للأعمال المطروحة في تلك المنتديات، إنما للتذوق الشخصي، ولذلك تجد نفس العمل قد حكم عليه أحدهم بالإعدام، وجاء آخر، تحته مباشرة ليعيده للحياة مرة أخرى.كذلك تأتي مسألة أخرى، وهي أن هناك كتابا معروفون في بلادهم، وقدموا إسهامات جليلة، في حقل الكتابة، وأصبحوا معلمين لها، لكنهم لم ينشروا في دور عربية ناسعة النطاق، وبالتالي لم يصلوا لمعظم القراء المتاحين في الوطن العربي، وبالتالي لم يعرف كتابتهم أحد خارج محيط بلادهم. هؤلاء يظلمون كثيرا حين يأتي الترشيح للجوائز، وحين توضع قوائم الأفضل، ولو رشحوا لأي جائزة، لربما نالوها عن جدارة.عموما يوجد اختلاف كبير حول مفهوم الأفضل، والأوسع انتشارا، والأعلى مبيعا، وكلها مفاهيم دعائية في رأيي، أكثر منه مفاهيم نقدية أو علمية، إن أرضنا أن نضع قائمة لأفضل مئة رواية عربية، علينا اختيار الروايات بناء على قيمتها الفنية، وليس على شهرتها، وعلينا أيضا أن نبحث في كل البلاد العربية عما هو مدفون أو مخبأ، لنخرج بقائمة نزيهة، وإلا فلا داعي أصلا لمثل هذه القوائم التي ربما تمجد نصوصا وتدفن نصوصا أخرى.
388
| 22 فبراير 2016
منذ أن اعتمدت قبل ثمانية أعوام، في أبوظبي، نسخة عربية من جائزة الرواية البريطانية العالمية، أو جائزة البوكر، كما تسمى، وازدادت كما هو معروف، حمى الكتابة الروائية استعارا في الوطن العربي. روائيون متقاعدون أو منسيون، نفضوا ذاكراتهم الهرمة، وجلسوا على طاولات الكتابة. كتاب صغار بلا أياد تخربش، أو أقدام تثبتهم على درب الكتابة، انتفخت أحلامهم بشدة، وكتاب مثابرون، ثابروا أكثر وكتبوا أكثر، وهكذا.. وتجد في كل يوم جديد رواية جديدة ودار نشر جديدة، وترشيح لجائزة البوكر، ثم قلقا وانتظارا مريرين، حتى تعلن القائمة الطويلة، لتشتعل حمى أخرى، هي حمى الخسارة، حين لا يرضى من خسر، بقرار لجان التحكيم، وهكذا، ثم تعلن القصيرة، وخسارة أخرى، والفائز بالبوكر، في النهاية، ليزداد الجدل، إلى أن تبدأ النسخة الجديدة. جائزة البوكر، للذي يفوز بها في النهاية، قيمتها المادية ستون ألف دولار، وهو مبلغ ليس بالكثير إذا ما قورن بجوائز عربية أخرى، مثل جائزة العويس وجائزة الشيخ زايد التي تضخ إلى الأحلام مبالغ أكثر كثيرا من مبلغ البوكر، وجائزة كتارا الجديدة، التي تمنح حلم تحويل العمل إلى دراما أو سينما، وأتوقع أن تصبح أهم جائزة مستقبلا، لكن لماذا يتسابق الناس على البوكر خاصة، ويصابون بالحمى والهستيريا؟ الأسباب كثيرة بلا شك، فجائزة البوكر، لا تشترط ماضيا حافلا بالكتابة، ولا تجربة ممتدة منذ عشرات السنين، ولا اسما رنانا أو لامعا، ولكن المفترض أنها تتعامل مع النص بحيادية تامة، باحثة عن خصوصيته وفنياته، وقد حصل المصري يوسف زيدان على الجائزة في نسختها الثانية عن رواية "عزازيل"، ولم يكن اسما ولا كان صاحب تجربة، لكن رأى المحكمون أن روايته تستحق الجائزة ومن ثم نالها، وأبعدت روايات أخرى ربما كانت في رأي كثيرين أكثر وقعا وتمثيلا للرواية العربية من عزازيل. وهناك كتاب بعده، حصلوا على الجائزة من نص أول وثان، وكانوا في نظر التحكيم يساحقون، وفي السنوات الأخيرة، باتت لجان التحكيم، تنظر بإمعان إلى كتابات الشباب، وكم من نص شاب، اعتمد في القوائم، ولم تعتمد نصوص لكتاب يحملون تاريخا معروفا من الكتابة.أيضا ستتاح للحاصل على الجائزة، أو الذي يدخل القوائم، أن يعاد طباعة نصه مرات عدة، لأن القارئ العربي ما زال تحت رحمة استفزازه بجائزة ما، حتى يسعى لقراءة الروايات، ثم تأتي فرصة أن يعبر النص الحاصل على الجائزة، إلى لغات أخرى، ويصدر عن دور نشر أوروبية محترمة، من دون وعكة أو معاناة أو انتظار لسنوات طويلة من أجل ذلك العبور.الآن أعلنت القائمة القصيرة للنسخة الحالية، وفيها تنوع بين الشباب ومن اكتهلوا في الكتابة، وبالطبع ستحسم في أبو ظبي، مسألة الحصول على الجائزة، ولا بد أن كثيرين ابتدأوا يكتبون من أجل الموسم المقبل.
316
| 15 فبراير 2016
وصلتني أخيرا رسالة من كاتبة، اتهمتني فيها بالتحيز الواضح، لجنس الرجال، استنادا إلى الشهادة التي ألقيتها في أحد الملتقيات الروائية، منذ فترة بسيطة، وكانت بعنوان: «مشكلة كتابة أم مشكلة تلقي ونشر؟»، وذكرت فيها أن كتابة الرواية أصبحت موضة، لدرجة أن تمارسها ربات البيوت، وهن يطهون الطعام، وعمال ترميم الشوارع، وهم يردمون الحفر، وحتى يمكنك العثور على خادمة، تغلق باب غرفتها آخر الليل، وتجلس لتكتب رواية. تقول الكاتبة التي وصفت نفسها بالموهوبة، ووصفت النساء بأنهن أكثر صدقا، ومهارة في الكتابة من الرجال، إنني خضت دربا موحلا، حين تفهت من دور ربات البيوت، وسلبتهن الحق في الكتابة والتعبير عن أنفسهن، ونوهت إلى أن كتابة الرواية فن لا يجيده إلا الرجال.هذا كلام كبير جدا، وفيه لي واضح لعنق المداخلة، وإدخالها عنوة في صراع المرأة/ الرجل، الذي ليس من ضمن شواغلي، وأنا لم أقل شيئا من ذلك، ولا تفهت من دور المرأة التي كتبت كثيرا من قبل، عن إمكاناتها اللامحدودة في كل فن، وأنها الأقدر في صياغة المشاعر، وفي كتابة رواية اجتماعية، تلم هي بتفاصيلها، ولا يستطيع الرجل ذلك. لقد كنت أتحدث عما أسميته موضة كتابة الرواية، الخواطر التي بلا طعم تصبح رواية، البكاء على الورق الأبيض يصبح رواية، والنقر على مفاتيح الكومبيوتر، بلا خبرة يصنع رواية، ليس الأمر مقصورا على المرأة، ولكن على الجميع. أنا أتحدث عن تجارب أعرفها، عن كتب أنفقت فيها مبالغ طائلة، وجلست لأقرأها باعتبارها روايات، ولم أعثر على شيء، وتركتها لأبحث عن غيرها، وفي كل مرة تتكرر المأساة، حيث لا يلفت نظري إلا القليل مما يكتب. هنا تأتي الخطورة، أن يضيع الموهوب وسط غير الموهوب، أن يفر القراء بلا رجعة، وتأتي أجيال كتابية حقيقية، لتنتج زخما إنسانيا رائعا، ولا تجد من يقرأه أو يتأثر به، وبالتالي اندحار جديد للثقافة التي هي في الأصل مندحرة، وتتعلق بقشة لتبقى صامدة.حين كتبت وكتب زملائي من نفس الجيل، كنا عشاقا للقراءة أولا، قرأنا كل ما استطعنا قراءته، الشعر والرواية والتاريخ والمسرح والفنون، تأثرنا بكل ذلك، وجلسنا نصيغ هوياتنا الكتابية الخاصة، وبالتالي تجد في جيلنا وجيل من سبقونا، وبعض من أتوا بعدنا، هويات واضحة، وكتابة مبدعة جليلة وجاذبة، ولها قارئ مستديم يبحث عنها إن غابت، ويفرح إن عثر عليها، واليوم لا يوجد شيء من هذا.على الكاتبة الموهوبة التي خاطبتني أن تراجع ما كتبته، وتلغي صفة التحيز عن مداخلتي، وعليها أيضا إن خاطبتني مرة أخرى، أن تلغي صفة الموهوبة عن نفسها، لأن لا أحد موهوبا يعرف بأنه موهوب، وأنا شخصيا لا أعرف حتى الآن إن كنت موهوبا أم لا؟
395
| 08 فبراير 2016
فجأة، وأنا أوشك على السقوط، في وسط الغرفة الطينية الضيقة، وجدت نفسي محاطة بنساء غريبات، نساء لم أرهن من قبل قط، كن ثلاث، كانت أكبرهن في نحو التسعين، عجوزا حقيقية، بكل تهدل العجائز، وانحناء الظهر، والسعال الداكن المتقطع، والنظرات التائهة، وانطفاء الجلد من كل أثر للحياة. كانت ترتدي ثيابا زرقاء فاتحة، وتعلق على عنقها المجعد تميمة، كانت من سمات العجائز في تلك الأيام، وغالبا تحتوي على آيات قرآنية، أو أدعية عن درء العين والحسد، أو مقاطع من صلوات النصارى واليهود إن كانت العجوز منهم. كانت الثانية، في منتصف العمر، ضئيلة الجسم، وتبدو قد نشأت في حي فقير، أو أرض جرداء، لأن قدميها كانتا حافيتين، وخشنتين، ووجهها بدا لي شبيها بوجوه الأغنام، ولا أعرف السبب، والثالثة كانت فتاة، في مثل عمري أو أكبر قليلا، كما قدرت، وتبدو من طبقة أعلى قليلا، لأن أصابعها نظيفة، أظفارها تحمل آثار طلاء جمالي، ووجهها منفعل بالحياة، برغم الكابوس الذي نحن بداخله كلنا.. جلست النساء على حصير السعف القذر في منتصف الغرفة، وجذبتني إحداهن لأجلس بدوري، وأحسست بالخوف فجأة، كنت في الأصل خائفة، والآن خائفة جدا، تمنيت لو كنت برفقة أمبيكا بسواس، أوماريكار فندوري، أو جارتي القديمة زينة، أو أي واحدة أخرى، من اللائي عرفتهن مؤخرا، أيام سرداب ساحة المجد، وتضخم لدي هاجس مرضي أن أولئك النسوة الغريبات، سيقتلنني، وبرغم أنني تمنيت فعلا أن أموت وجسدي لا يزال محافظا على عنفوانه، إلا أنني أرحب بموت أقل عنفا، أقل مشقة، مثل الموت بسم التربان، المستخلص من عشبة ضارة، وتباد به القوارض، أو بصندل الموت كما يسمونه، وهو خشب، من شجرة عطرية، لا توجد في السور ولكن في أماكن بعيدة، ويرسل غازا ساما، إن تم إحراقه، وكان يستخدم أيضا لأغراض تخص الزراعة وآفاتها. بدأت أبحث بنظرات ضائعة عن خنجر مدسوس هنا أو هناك، عن حبل قوي قد أخنق به، عن سواعد أقوى من ساعدي، وبدت لي كل السواعد، بما فيها ساعد المرأة التسعينية، قوية وقوية جدا.قالت الفتاة فجأة، وكان صوتها جافا إلى أقصى حد، ربما لم يكن صوتها، وجفف خصيصا لمناسبة إيذائي، لم أكن أعرف ولا أستطيع أن أعرف:* أنا نجيمات..أشارت للمرأة متوسطة العمر، رددت:* هذه الخالة منحدرة.. ثم إلى المرأة العجوز: وهذه سيدتنا أم الطيبات.كانت أسماء غريبة للغاية، ولنساء مختلفات تماما، ولا يتفقن إلا في تغطية الرأس والثياب الزرقاء التي انتبهت إلى أنها من قماش واحد، لابد قسم عليهن، نجيمات، اسم غريب، على السور، لا أعتقد بوجوده، خاصة في الجيل الذي أنتمي إليه وتنتمي إليه الفتاة أيضا.. منحدرة، اسم كبير، ومخيف، لم أسمع به قط، وأم الطيبات، سمعت به، وكان داخل قصة أسطورية، حكتها لنا إحدى الجدات ونحن أطفال ما نزال: كانت أم الطيبات التي داخل القصة، امرأة عجوزا أيضا، وكانت طيبة، رقيقة القلب، يحتمي بها الأطفال إن خافوا، وتطعمهم في لحظة الجوع، فقط كانت تتحول إلى ضبع في الليل، يطارد الأطفال أنفسهم، ويلتهم من يقنصه.
310
| 01 فبراير 2016
لا شك بأن رأي القارئ لأي نص شعري أو روائي، يعد عند الكاتب من الأشياء المهمة، وبالتحديد من الأعمدة التي ربما ترتكز عليها كتابته بعد ذلك، بالرغم من أن بعض الكتاب يتعالون على القارئ، ولا يهتمون بآرائه، ناسين أنهم يتوجهون إليه وحده، ولولا وجود قارئ ما وجدت الكتابة أصلا. وقد سعدت كثيرا بظهور أجيال جديدة من القراء المحنكين، يمكنها أن تشارك الكاتب خفقاته وانفعالاته، وتتعمق في نصه بعيدا، وتخرج بأشياء ربما لم يكن الكاتب نفسه يستطيع استخراجها لولا هؤلاء القراء. الآن توجد على الإنترنت، كما هو معروف، عشرات المواقع العربية والأجنبية التي تشجع على القراءة، وتساهم في انتشار الكتاب، فالذي تعجبه رواية أو مجموعة شعرية، لا يحتفظ بإعجابه داخله، وإنما يبثه لأصدقائه ومعارفه، الذين يسرعون باقتناء الكتاب، ويتحدثون عنه بعد لك.منتديات القراءة تلك، أصبحت تقوم بمهام المقاهي الثقافية التي كانت سائدة فيما مضى، وقد جلست في العديد من تلك المقاهي أيام بداياتي في مصر ورأيت كيف كان الناس يبدون آراءهم في الكتابة، وكيف أن كتابا مغمورا، سطع فجأة وسطا على ذهن القارئ، لأن عدة قراء مهمين، تحدثوا عنه باحترام، ومن تلك الكتب كما أذكر، رواية "العطر" للألماني "باتريك زوسكيند" التي تتحدث عن صانع العطور القاتل في بحثه عن عطر إنساني، ورواية "عالم صوفي" التي تتحدث عن تاريخ الفلسفة، وكثير من الروايات العربية الجميلة التي ما كان لها أن تنتشر كل ذلك الانتشار لولا وجود مَن قيمها انطباعيا، بعيدا عن تعقيدات النقد الأكاديمي.من تلك المواقع الحافلة بالنشاط القرائي، موقع "جود ريدز"، وتعني القراءة الجيدة. كل قارئ يمكنه أن يسجل حسابا في ذلك الموقع، يمكنه أن يضع قائمة بالكتب التي قرأها أو يريد قراءتها، أو التي أوصى بها أحد أصدقائه. يمكنه أيضا أن يضع رأيه في الكتاب بلا تردد، ويشارك الآخرين آراءهم فيه، وفي النهاية يمكنه أن يقيم الكتاب باختيار نجمة أو نجمتين أو حتى خمس، حسب رأيه.ولأن القائمة الطويلة أو القصيرة من جائزة البوكر العربية، تعد موسما خصبا للقراءة، بتنويهها للكتب المختارة، فإن القراء دائما ما يمنحونها أولوية خاصة، يضعون القائمة، ويبدؤون في تشريحها، وربما منحوا احترامهم لرواية دخلت القائمة الطويلة، وخرجت، وعدم احترامهم لرواية وصلت حتى القائمة القصيرة، أو حتى نالت الجائزة الكبرى. إنها التقنية نفسها المتبعة في منح بعض الجوائز الغربية، منها جائزة في اسكتلندا، حيث ترشح لجان التحكيم عدة كتب للجائزة، وتترك أمر اختيار الكتاب الذي سيفوز بها، لترشيحات القراء، وبالطبع المسألة هناك قائمة على ترشيحات حقيقية، وليست نابعة من تعصب لبلد ما، جاء منه المبدع، كما هو الحال عندنا.لذلك وإيمانا مني بضرورة القارئ الذي أثق في بعض تقييماته، وضعت على غلاف الطبعة الثانية من كتابي السيري "قلم زينب"، آراء القراء ممن قرأوا الطبعة الأولى، وليس آراء النقاد كما اصطلح على ذلك. فقد اعتبرت هؤلاء القراء، أعمدة أساسية في الارتقاء بالعمل الإبداعي. وأنوي مستقبلا أن أملأ الأغلفة الخلفية لرواياتي بآراء القراء سلبية كانت أو إيجابية.
447
| 25 يناير 2016
كان العمل في فندق سواري كثيفا بشدة في ذلك اليوم، فقد قدم إلى الفندق في أول المساء ثلاثة من الأفارقة يأتون لأول مرة، ولابد من أنهم كانوا مهمين بشدة في بلادهم، أو لعلهم في الدنيا كلها، لأن معظم سكان الغرف تجمعوا في البهو لتحيتهم حين عرفوا بوجودهم، وزغردت لهم واحدة من عاملات الطبخ زغرودة طويلة صاخبة، واستخدم أحد الجرسونات صينية حمل الأطباق آلة إيقاع همجية وظفها لتحيتهم، وحتى مدير الفندق الذي لا يشاهده أحد إلا نادرا، ولا يعرف قسم السيد من أين يدخل ومن أين يخرج، ولقبه في سره بصاحب البوابة السرية، شوهد في ذلك اليوم بابتسامة من صنع أسنان أكلها التبغ، ينحني أمامهم باحترام. كانت هواتفهم المحمولة ترن داخل جيوبهم بلا توقف، وسواعدهم قوية وهي تمتد لمصافحة الآخرين، وحين تحدث أحدهم ليشكر الجميع على حفاوتهم، كان باستطاعة قسم السيد أن يسمعه بوضوح، وأن يفهمه، فقد كان يتحدث العربية نظيفة بلا أي شائب أجنبي. انتظر حتى اقترب منه أحد المحتفين، وكان يشغل هاتفه المحمول في وضع التصوير، يطارد الرجال، من زاوية إلى زاوية. سأله بلهفة: من هؤلاء؟كان قد صنفهم سياسيين مرموقين، أو لاعبي كرة معتزلين يعملون سفراء للنوايا الحسنة، تلك الوظيفة التي سمع بها كثيرا ولا يعرف معناها. ثم عاد وصنفهم أعضاء فرقة موسيقية، ربما قدموا لإحياء حفل في البلاد، وكانوا في الواقع لا يشبهون السياسيين، ولا المغنين الذين تضج وجوههم مجونا وصعلكة، وأبعد ما يكونون عن لاعبي الكرة، لأن أجسادهم فيها ترهل، وتعرجات، وعن المستثمرين الغازين للبلاد، الذين ألف وجوههم، وحقائبهم، وأحلامهم التي تندلق حتى لو سعلوا.إنهم يوسفو ودوقاجي والأحدب الأفريقي.ما أهميتهم؟إنهم أكثر ثلاثة أشخاص في الدنيا كلها بلا أهمية على الإطلاق. أنت أهم منهم، أي متسول أهم، أي كانون يشعل فيه الفحم أهم.. أي..قاطعه قسم السيد وقد داهمته دهشة مخبولة، والهاتف الكاميرا في يد الرجل، وكاميرات أخرى في أيدي رجال ونساء، ما زالت تطارد الزوايا، وتبتدع الصور، أكواب عصير الفراولة في أيدي الجرسونات، وعقود من الورد المتشابك في طريقها إلى الأعناق، وعدد من النزلاء، تزاحموا على كتوف الرجال، وضعوا أيديهم عليها، ليحصلوا على صور تذكارية، كيف؟تأتي أهميتهم، من كونهم بلا أهمية، هذه هي الحقيقة.ردد حامل الكاميرا الهاتفية، وابتعد محاولا أن يلتقط صورة لأحد الرجال الثلاثة، وهو ينحني ليحكم رباط حذائه.
292
| 18 يناير 2016
كان نوفمبر شهر بناء المحبة كما يطلق عليه، وثمة اعتقاد موروث عند أهل المدينة، لا يعرف من رسخه في الأذهان وحوله إلى اعتقاد رسمي، يضخ للأجيال كلها أن نوفمبر هذا روماني قديم اشتهر بالحكمة والكرم والسعي بين الناس، يحمل عطرا اسمه المحبة، كان يصنعه من سحق عدد من النباتات العطرية، وخلط المسحوق بقطرات من عرقه الخاص. كانت تجارة النباتات العطرية المسحوقة كنبات اللهبة، والتوكير، والمشوق، تنتعش في ذلك الشهر، يشتريها الناس كلهم، يخلطونها بالعرق، ويعبئونها في قناني صغيرة، ليوزعوها على الأهل والأحبة، والأصدقاء الذين يودون أن يظلوا معهم طيلة العمر: الزوج لزوجته وأبنائه، الزوجة لزوجها وأبنائها، الأبناء لآبائهم وأحبتهم، العشاق لبعضهم، والمرؤوسون لرؤسائهم تملقا... وهكذا. ودائما ما تحدث مواقف ضد المحبة من بعض الذين لا يروقهم ذلك التقليد، أو حتى مجرد عناد ورغبة في الرفض، حين يرفض رب عمل من الوجهاء عطر عامل فقير عنده مخلوط بعرق غزير، أو ترفض جارة حسناء عطر جار متلصص يود أن تعشقه، وربما كان عرق بعض الأشخاص نفَّاذا ونَتِنًا، ويؤدي للصداع و"الاستفراغ"، وبالتالي فقدان بوادر المحبة بدلا من اكتسابها. أو إلغاء تلك التي كانت مكتسبة في الأصل، بلا عرق وعطر. لكن أعتقد وبناء على تجاربي الشخصية، وتجارب صديقات وجيران وأهل، أن تلك العطور الممزوجة بعرق الناس التي ينتظرون بها شهر نوفمبر من كل عام، لا تستخدم إلا نادرا، وتحتفظ بقيمتها الرمزية فقط، كذكرى من أحباب، أو أهل في غاية اللطف والجمال. جهزت عدة قنان من عطري المخلوط بعرق "أسلته" برياضة قاسية، حين ركضت في البيت الواسع أكثر من خمس عشرة دقيقة. كانت واحدة لأبي، وواحدة ستنتظر عودة أمي التي سافرت للعاصمة عند عمي طانيوس، من أجل علاج تمزق الظهر الوهمي أو الحقيقي لا أدري بالضبط، وجاءت الأخبار أنها تتحسن بشدةـ بعد أن عرضت على الحكيم "مهران"، وكان مصريا شهيرا متخصصا في علاج الحاكم العام وأسرته وبعض الخاصة من التجار والوجهاء، ولا بد من أن طانيوس يعرفه، وأيضا كنت متأكد أن أبي يعرفه جيدا، وربما التقيا مرة أثناء رحلة من الرحلات التي يقوم بها جماري الزعيم لمصر. كانت ثمة قنينة خاصة من عطري لمريا توموس، والدة ميخائيل الذي أصبح الآن محورا أخاذا في حياتي كلها، ولم يكن بحاجة لعرق في عطر أو عطر مخلوط بالعرق لاكتسابه، فقد كان يشم العطر المخلوط بالعرق حيا، ومباشرا، أثناء وجوده معي في أوقات كثيرة ولطيفة.
348
| 13 يناير 2016
كنت أرى ميخائيل أحيانا، أراه عابرا في طريق أسلكها، أوواقفا في متجر، أدخله بغرض التسوق أو الفرجة، لكن هناك مرتين لصقت فيهما صورته بذهني، بشدة. مرة حين رأيته، وكان على ظهر جواد مرتفع، وفي يده اليسرى مروحة حمراء، من القماش، يهزها بتناغم، كان طربوشه لامعا جدا، حذاؤه بنيا، بسيور من الجلد، تمتد حتى منتصف الساقين، وقد ترك قميصه، مفتوحا قليلا، وثمة شعر أسود داكن، يرقد في الصدر، ويتنفس عبر فتحات القميص. بدا لي أخاذا، وخارجا لتوه من قصيدة: إغواء، لشاعري الإسباني المفضل: ريماس:كان خوان نصف قمر،ونصف شمس إن أردت أيضا.كان طويلا، ربما أطول من التاريخ،وعميقا، ربما أعمق من التراث،وكانت عيناه تشبهان زهرة،هو يقول ذلك، وتقول الطبيعة: لاالزهرة هي التي تشبه عينيه،كان يحمل بعض الرياح الطيبة،ورمى لي حفنة منها،ويحمل رسائل الجنود القدامي لحبيباتهن،وأهداني طريقة كتابتها.لم يكن بقربنا نهر ليمسك به، ويهديه إلى،ولم تكن ثمة صحراء، ليلغها تماما عن البصر.نعم، لقد علق بذهني في تلك المرة، وكنت أتوقع أنه تعلق الاضطراب القديم، ذي الرعشات البلهاء، الذي يضحكني كلما تذكرته، لكني الآن في العشرين، وعدت من مصر، أحمل عالما جميلا، أحاول رسمه هنا، وقد تورد خداي أكثر، والتهبت مشيتي أكثر، وامتلك جسدي شخصية مميزة، وأحمل حقيبة من جلد تمساح حر، على كتفي، معبأة بأدوات زينتي، وأحس بأن ثمة حليبا دافئا مطمورا في صدري، وأستطيع بلا مشقة كبرى أن أقيم حوارا بناء مع القبح، وأقنعه بضرورة أن لا يصير قبحا.كانت مدينة السور، محاطة بكثير من القرى المبعثرة، وحاضرة لمنطقة ممتدة وغنية، كانت في الحقيقة، ميدان فوضى كبيرا، ولم يعرف أحد أبدا أن هناك علما للجمال، يدرس بعيدا، ومن أساسياته، محاربة السفاهة، والكلام النابئ والسيطرة على الفوضى، حتى لو صدرت من ديك، يطارد دجاجة ساعة النزوة. قلت للسيد رضاوي ذات يوم، وكان تركيا، متخصصا في بيع الماء، من آبار حفرتها له الدولة المستبدة، وقيل إنه قريب حاكم السور دامير، وكان يزورنا بحكم علاقته بوالدي، قلت له وألاحظ انتفاخ بطنه بصورة غير خلاقة بالمرة: علم الجمال يعتبر بطنك ساحة معركة، يتقاتل فيها فارسان شديدان، ومن المفترض أن ينتصر الذي يمحوها تماما. كان التركي قاسيا، كعادة أهله الذين لازمتهم صفة قمع الدنيا منذ أن عرفوا الدنيا. فلم يبتسم ولم يطالب بأي تفسير لمقولة علم الجمال التي أجزم أنه لم يفهمها، ورماني بكوب من الفخار كان أمامه. يومها لم ينخدش حتى أنفي الذي لامسه الكوب، ولا تحطم سوى الكوب الفخاري الهش، وخاصمني أبي لفترة، نعم صديقي، خاصمني ولم يقل إنه ندم على إرسالي لدراسة علم الجمال، فقط فهمت بأنه قال ذلك في سره.
262
| 04 يناير 2016
كنت من مرتادي مقهى (خزي العين) الذي يقع في وسط المدينة تقريبًا، وعند نقطة تجمع مواصلات الريف، التي كانت حميرًا وأحصنة وإبلًا يؤجرها أصحابها للسفر بين المدينة والقرى، أمر عليه مرتين أو ثلاثًا أسبوعيًا، ألتقي بعدد من الأصدقاء والمعارف، أثرثر معهم أو ألاعبهم النرد والورق، أو أصطاد خبرًا قادمًا من العاصمة والمدن الأخرى، لم يأت بطريقة رسمية بعد. كنت أفضله على نادي (يوتوبيا) الأرستقراطي الذي أرتاده في المناسبات فقط، ولا تعجبني وجوه مرتاديه التي كانت كلها استعلاء وغطرسة.. وكانت نديمة، صاحبة المقهى، سخية في كل شيء. سخية في ضحكاتها، توزعها على الجميع. سخية في حديثها، تدلقه بلا تحفظ. وفي استطلاع للرأي أجراه عدد من عشاق الصرعات، لاختيار، أتفه امرأة في المدينة وأحبها إلى قلوب الجميع، وجرى في مقهاها وتحت سمعها وبصرها وضم بضع نساء أخريات من نساء المدينة، توَّجها الجميع بلا استثناء.. المرأة التافهة الحبيبة لكل قلب.في أحد الأيام سألت نديمة عن ماضيها البعيد، قبل أن تحط برحالها في مدينة السور، وتسكنها تلك السكنى المميزة، قالت: ماض مضى واندفن، لا تحفره يا سيدي.. عن مستقبلها، وهي في تلك اللجة العميقة بلا زوج ولا أهل ولا حبيب وهدف لتحرشات بلا حصر.. قالت: أنا زوج نفسي وحبيب نفسي وأهل نفسي، حتى لو تحرش بي حاكم البلاد العام.. لا تهتم.. أرجوك.. ولم أهتم بالفعل.دخلت إلى مقهى (خزي العين) في ذلك المساء، دخولي الذي اعتدت عليه دائمًا، ملابسي منسقة بعناية، حذائي مغسول ولامع، وطربوش أحمر جديد يغطي رأسي. لم أكن أحمل لقبًا حكوميًا خاصًا بالرغم من منصبي الحساس في مجلس المدينة، لكن اللقب كان موجودًا بالفعل، وأسمعه يتردد باستمرار على جميع الألسنة التي تخاطبني، وحتى على لسان التركي (يوسف دامير) رئيس مجلس المدينة، وحاكمها الموقر.. مرحبًا ميخائيل بك.. تعال إلى مكتبي يا ميخائيل بك... هكذا..كان (خزي العين) مزدحمًا كعادته في كل مساء، مضاء بفوانيس الجاز ذات اللهب المتراقص، وزبائن بسحنات شتى، بعضهم من داخل المدينة، وبعضهم من الريف، يشغلون موائده المصنوعة من خشب الزان المغطى بوبر الإبل، يحتسون الشاي والقهوة وعصير التلبدي، أو يدخنون تبغ (الدردار) الخشن، الذي يستخرج من مزارع محلية في أطراف المدينة، ويعالج بمادة (العطرون) التي تكسبه خشونة أكثر، وتوصله إلى شرايين المزاج بسهولة. عثرت على قريبي (مسمى طاؤوس) الذي كان شاعرًا عاطلًا عن العمل، ويقضي أمسياته في (خزي العين)، يتصيد أعيان الريف القادمين إلى المدينة، يبيعهم قصائد المدح التي يرتجلها أمامهم، وكان في تلك اللحظة برفقة ريفي بعمامة فخمة ورداء من جلد الخراف، يتساومان على قصيدة محتالة بصوت مرتفع.
467
| 28 ديسمبر 2015
مساحة إعلانية
في منتصف العام الدراسي، تأتي الإجازات القصيرة كاستراحة...
1971
| 24 ديسمبر 2025
حين تُذكر قمم الكرة القطرية، يتقدّم اسم العربي...
1329
| 28 ديسمبر 2025
في هذا اليوم المجيد من أيام الوطن، الثامن...
1137
| 22 ديسمبر 2025
تستضيف المملكة المغربية نهائيات كأس الأمم الإفريقية في...
1077
| 26 ديسمبر 2025
أرست محكمة الاستثمار والتجارة مبدأ جديدا بشأن العدالة...
1053
| 24 ديسمبر 2025
-قطر نظمت فأبدعت.. واستضافت فأبهرت - «كأس العرب»...
873
| 25 ديسمبر 2025
لماذا تقاعست دول عربية وإسلامية عن إنجاز مثل...
663
| 24 ديسمبر 2025
-قطر تضيء شعلة اللغة العربيةلتنير مستقبل الأجيال -معجم...
645
| 23 ديسمبر 2025
انتهت الاحتفالات الرسمية باليوم الوطني بحفل عسكري رمزي...
558
| 23 ديسمبر 2025
منذ القدم، شكّلت اللغة العربية روح الحضارة العربية...
531
| 26 ديسمبر 2025
في عالم اليوم، يعد التحول الرقمي أحد المحاور...
510
| 23 ديسمبر 2025
لُغَتي وما لُغَتي يُسائلُني الذي لاكَ اللسانَ الأعجميَّ...
447
| 24 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية