رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في البداية لم يألف عبد القيوم اسمه على الإطلاق، وبدا له شبيها باسم مدمرة أمريكية الصنع، تتلفت على شواطئ البحر الأحمر، فكر أنه يشبه أيضا، أسماء متطرفين يهود، شاهدهم في نشرة للأخبار، يرددون أمام هيكلهم: اشكروا الرب، اشكروا الرب، وأسماء ديدان المحاصيل التي يلعنها المزارعون باستمرار، بوصفها من ألد أعداء الحياة الرغدة، وتذكر أنه شاهد مرة في سينما الإنجليز، القريبة من موقف باصات السفر، والتي يغشاها من حين لآخر، شريطا سينمائيا يتحدث عن سطوة المال في وول استريت، بنيويورك، كان فيه ممثلا يؤدي شخصية سمسار عقارات مدمن اسمه: قمزحاي. أربكته اللحظة بالتأكيد، ولم يقل شيئا، بينما أكمل الغريب:أنا منتج سينمائي.الرجل نفسه، الذي قدم للاجئة أببا، في حي المرابيع المنتفخ بإخفاقات اللاجئين، بوصفه مفسر أحلام عالميا، وكان من الممكن أن تصاحبه كزوجة، لولا أن جمالها لم يكن غبيا لهذه الدرجة، يقدم نفسه الآن بمهنة أخرى، بعيدة عن تفسير الأحلام، ويسكت من دون أن يمنح سيرته التي يشكلها وينوعها بحسب المكان والناس، فرصة أن تنساب وتؤكد أنه يحافظ على رشاقة الجسد بالركض اليومي عشرين ميلا، يأكل بيضتين فقط في اليوم، لتظل سعراته الحرارية متزنة، ويتدرب باستمرار على تقوية ذاكرته، حتى تكون صافية، حين يجد الوقت ليجلس لكتابة مذكراته. عبد القيوم لم يكن معنيا بكل ذلك حقيقة، وعلى رأسه ورم شعوري بائس، أكبر من أن يستأصله، ويجلس خاوي الوفاض، يستمع إلى أحلام لاجئ، فر من الحرب بمستواها المميت جسديا، إلى حرب أخرى، قد تشله عقليا. هو لا يعرف ماذا في سجلات ماضيه؟ وما الذي جاء به إلى سجن الاحتياط مشوه الدموع هكذا؟ فليس من المعتاد أن يصادف أحد منتجا سينمائيا، حتى في الحياة الحرة، ناهيك عن التي خلف القضبان.الذي تكون في ذهن عبد القيوم تلك اللحظة، وبدا له منطقيا ولا يحتاج إلى لي عنقه حتى يتمنطق، واستوحاه من هيئة الرجل العامة: من شعره الذي كان مبعثرا لم يلتم بتسريحة تهذبه منذ زمن، سرواله الواسع خاصة في منطقة الخصر والأرداف، وواضح أنه صدقة من فاعل خير، وحذائه الذي كان من قماش ممزق وبائس، هو أن الرجل ربما عمل ساعيا في سينما أو متسولا أمام سينما، أو وعدت بتشغيله إدارة لسينما، أو يحصل مجانا على تذاكر دخول للسينما، وربما أيضا يقوم بسرقة الناس في طوابير السينما..هكذا، ومهنة المنتج التي اختار أن ينسبها لنفسه، كانت خاطئة، لأنها مهنة ثراء بحت وحتى لو قامت آلاف الحروب، وتشرد ملايين الناس، لن يحدث أبداً أن تجد منتجا سينمائيا، يتنفس في جحر مثل هذا، ويأكل العدس والفول البائت، برفقة لصوص مغمورين. لكن مهما كانت مهنته ومهما كان حلمه، ماذا فعل ليدخل السجن الاحتياطي؟ هو عبد القيوم، أحب امرأة مشردة، أخلص لها، آواها في ظل وستر تشردها بمهنة ذات عائد، وعاقبه عشاقها الآخرون، بتلك المدسوسة المرتبكة. ماذا فعل قمزحاي تيرسو؟
390
| 02 مارس 2015
إنها الأحلامنعم، الأحلام، ولا شيء أقل أو أكثر.حين قاومت إعصار الحرب، ونفدت، والتحقت بالوطن البديل، كان ثمة درجة من درجات الحلم، أن يصبح وطنا بديلا، وليس ظلا معوجا، تنهار تحته القيلولة. وحين هبطت في موقف باصات السفر، في ذلك اليوم القاسي، الذي تحاول أن تنتزع منه الذكريـات المرة، تلقيها بعيدا، وتعض على ما تبقى من ذكريات جيدة، بما فيها سخاء عبد القيوم، ولهفته، وانشغاله بمحاولات رعايتها، كان ثمة درجة أخرى، من درجات الحلم، صعدت. كان ثمة نشاط مثمر، ومأوى، وعشاق بلا حصر، ولعل الدرب يأتي بغريب ممتلئ، لينتزعها، صاعدا بها درجة أو درجات إلى القمة.لكن هل الغرباء الممتلئون، يأتون من هذا الدرب عادة؟، وإن صادف وأتوا، هل يسمحون لأعينهم أن ترتدي نظرات الهيام المحتمل، وهي تطالع صانعة شاي كادحة، في موقف باصات فوضوي، مهما تألق جمالها؟هي ليست صانعة شاي على الإطلاق، ولا تذكر أنها اهتمت بالشاي أصلا في سنواتها السابقة، أو حتى كانت تشربه بانتظام، ولولا أن عبد القيوم، كبلها بتلك الوظيفة من دون وظائف أخرى ربما خطرت بباله في ذلك الوقت، لما فكرت فيها على الإطلاق. ولما التصق بها واحد مثل عبد الباسط، أو ناهوم، أو مختار سالم الملقب بالموت، لأنه عاد إلى الدنيا، ونعشه في الطريق إلى المقبرة.كان عبد القيوم، جسرا من جسور متعددة، كان لابد أن يعبر بها الحلم، والآن فهمت بجلاء، لماذا لم يكن يخطر ببالها، ساعة أن يخطر الأعزاء بالبال: كان أبوها تسفاي مديتو، المدفون في قبر بعيد جدا، يخطر لأن آثار أصابعه على وجهها، وشعرها، مازالت موجودة. أمها هيلان القروية، المدفونة بقربه، تخطر، لأن الأم حتى لو ماتت وهي تلد طفلها، سيذكرها، سيخترع لها وجها، يتذكرها به، ويخترع لها مواقف أم، يعتبرها مواقفها. إخوتها الثلاثة، الذين لا تعرف إن كانوا أحياء، أو موتى، يأتون دائما، يغنون ويرقصون، ويلعبون الكرة والجمباز، كما كانوا يفعلون وهي معهم. وفي إحدى الليالي، جاء: نحاي علولو، مدرس تنسيق الحدائق، في معهد ميكائيل عفرتو، حيث حصلت على شهادتها. علولو علمها التنسيق، وفي الوقت نفسه، احتال على قلبها بطريقة أو بأخرى، واعتقله عدة أشهر، في مغامرة حب، لم تكن منصفة لها، وهي فتاة غضة بلا أفق، يحب أو يكره، ومنصفة له، لأنه عانقها كثيرا، ولأنه افترى في تلك الأيام، وأضاف إلى طبخة الحب، بهارات من الغيرة، لم يكن من حقه إضافتها.لكن علولو أيضا، لم يكن سيئا، ولم يكن متقدما في السن، لتبتئس من عناقه. كان في عشرينيات العمر، وتلك الشعرات البيضاء التي توجد في رأسه، ليست من كبر السن، ولكن من الخوف. فقد كان علولو يخاف سبعة أشياء بعينها، وتميز في الخوف منها، أهمها: قشر الليمون الحامض، وعصير الأناناس ذو الرغوة، والطيور المهاجرة، وأحمر الشفاه الموضوع بغموض، عند بعض السيدات.
326
| 23 فبراير 2015
ذلك الصباح كان ثمة مشكلة طارئة، تواجه أببا، بعد أن انتقل المكان كله في الأيام الماضية، إلى نكهتها وحدها، ملغيا النكهات القديمة للأخريات، بلا رجعة. اضطر عبد القيوم بمساعدة تاريخه القديم في السرقة، إلى استعارة أبسطة جديدة من المخمل وسعف النخيل، وأكواب إضافية من الزجاج السادة والمشجر، وموقد آخر يعمل بالغاز، من عدة أماكن في المدينة، لتلبية طلبات المسافرين والعابرين، وسائقي السفر ومساعديهم، وعاطلي المتعة المقيمين بصفة دائمة في المكان. كان يسرق ويردد في نفسه: أستعير فقط. يغافل بائعة غافية، وبائعا مشغولا بمغازلة أنثى، أو ربة بيت مهملة وتترك الباب مفتوحا، ليسرق ويردد في نفسه: أستعير فقط. وقال لأببا وهو يسلمها الغنائم ورأسه مرفوعة، ومتفرجو الساحة يحاصرونه بنظرات كلها عداء: استعرتها من أجل أن تتوسعي في الخدمة، وسأعيدها لاحقا. لكن من المؤكد أن تلك الغنائم التي كانت بلا أي قيمة مادية، ولن تحسب سرقات جيدة إذا ما أراد أحد تصنيفها، لن تعود إلى أماكنها الأولى أبدا، من المؤكد أن الموقد سيتلف آجلا أو عاجلا، بالمطر أو التراب أو حتى بلا سبب، الأكواب الزجاجية ستتحطم بقصد وبدون قصد، وأبسطة المخمل والسعف القديمة ستبدو أقدم، حد إلقائها في مقلب للقمامة، بدون تأنيب للضمير. وحتى اللاجئة نفسها، قد يأتي عليها زمن وتمرض أو تحترق، أو يتسخ وجهها، أو ترتقي لحياة أخرى، تاركة حياة الخفقان المر، وعبد القيوم وغيره من العشاق التافهين، مجرد علامات طريق عتيقة، مرت بها ذات يوم وتجاوزتها. لكن على الأقل، كانت سعيدة جدا في ذلك اليوم، وتحس بأنها تمددت بالفعل، وتحولت إلى أخطبوط، ولو طلب عبد القيوم منها قبلة في تلك اللحظة، لنالها بلا تردد، ولو طلب أكثر، لنال أكثر. كانت بائعات الشاي القديمات: حواء وسعيدة، وسيدة الجيل، قد انتبهن، وفي لحظة كساد عظيمة، إلى أنهن مهددات بالمرض النفسي بما فيه: الاكتئاب الحاد، والوسواس القهري، والشيزوفرينيا، وربما بالموت القاسي الذي يضطر فيه الميت إلى استدانة شاهد مقبرته، ومصاريف عزائه، من ميت آخر، إذا ما ظلت تلك اللاجئة أببا، أو: سخافة، كما أطلقن عليها في السر والعلن، تتمدد هكذا بمساعدة جلف صعلوك، يبدو أنه يعشقها. نادين عبد القيوم ذات يوم، وكان يمر بالجوار، متأنقا بثوب بلدي رمادي اللون، وعمامة بيضاء، لأول مرة منذ عرفنه، حدثنه بمرارة عن معنى أن تعول عيالا، ويصبح عيالك غير معالين بالمرة. معنى أن تعود إلى البيت بلا لحم أو سمك أو خضراوات أو سلة نبق مر على أقل تقدير. كلمنه عن أجر الباص من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنا، عن أجر السقف، إذا ما قرر الإنسان أن يستأجر سقفا فقط، بلا أرض ولا جدران، والدواء إن احتاج المرض المتوقع دائما في السن المتقدمة، إلى دواء، وحدثته حواء بالتحديد عن عملية بتر للساق، مقرفة، وغير ناجحة تماما، تعرض لها زوجها عامل البناء، نهاية الأسبوع الماضي، وما زال أجر أطبائه وممرضيه، هما تافها، يجلس بالثقل كله على ظهر الأسرة.
558
| 21 فبراير 2015
وغير بعيد من مكتب رئيس السوق: حسن شجر، حيث كانت تجري مراسم استفزاز عبد القيوم، ومحاولات تلقينه القسوة، ليدخل السجن، كانت بائعة الشاي اللاجئة: أببا تسفاي، منهمكة في أحلام كثيرة، دأبت على الانهماك فيها منذ كانت مواطنة في وطنها، تملك بطاقة شخصية، وحصة في التموين، وشهادة من معهد اسمه معهد ميكائيل عفرتو، للتطريز وفنون الديكور، تثبت أنها متخصصة في تنسيق الحدائق. وكانت حقيقة قد درست ذلك الفن عن عمد وإصرار، وامتلكت يقينا ربما كان متجاوزا، حين أكدت لنفسها بأنها ستنسق حديقة البيت الأبيض، حيث يقيم الرئيس الأمريكي: رونالد ريغان، ذات يوم. لم تكن تراعي أنها في أريتريا، وأنها في عالم ثالث، إن تطور ذات يوم، فسيكون عالما ثالثا متطورا، لا أقل ولا أكثر، وعلى الأرجح سيكون هكذا ثالثا فقط إلى الأبد. لم تكن تراعي أن أمريكا بعيدة جدا، وحتى قباطنة الطائرات النفاثة، يشكون من وجع الظهر، وآلام الطحال والبواسير، إذا ما اضطروا لقيادة الرحلات إليها من بلد في إفريقيا أو آسيا، ثم كيف يحقق حالم حلمه، ولا توجد أي إشارة بدء معروفة، لتتبعها؟ثم لتتمزق الأحلام، أو لعلها لا تتمزق، وفقط تختبئ حتى يحين وقت خروجها ممتلئة نشاطا من جديد.إنها الحرب..نعم الحرب.تلك التي تنشأ لأسباب مهما اجتهد السياسيون في رصفها، وزيادة أوزانها، لا ترتقي لتكون أسبابا. الحرب قد تنشأ لأن نعجة عادية، وقد تكون بلهاء وبلا أي قيمة مادية أو معنوية، قتلها سوء الحظ في حدود بلد مجاور. قد تنشأ لأن جرادة بلا موهبة كبيرة، هاجرت من بلد لتموت في البلد الذي يليه، ويشاركه الانفعالات، ولأن الاستقرار كلمة نابية في عرف البعض، وعليه يجب إبادتها، وتنصيب الفوضى مكانها. ولأن هناك أشخاص كثر عليهم أن يموتوا بأي طريقة.. هكذا.. وفي أيام معدودة، كانت أببا وملايين غيرها بلا ضفاف، ترسى عليها أحلامهم، بلا بيوت ولا حياة، ولا يعرفون إلى أين ومن أين، وكيف ولماذا؟ كثيرون ماتوا.. كثيرون تمنوا أن يموتوا وكثيرون كانوا محظوظين لأنهم لم يكونوا أصلا أحياء، حين اشتعلت الحرب.أببا كانت من المحظوظين، غير المحظوظين.محظوظة لأنها التحقت بنازحين أعانوها كثيرا، سهلوا على أنوثتها تحمل تحرشات رجال الحدود، وأعراب الطرقات الذين لم يكونوا ودودين ولا رائعين، وبدعم بسيط كانوا يلمونه من هنا وهناك، داووا عندها الجوع والعطش، وشبه العري أو العري كاملا، حين تتمزق الملابس من كثافة الاستخدام. محظوظة لأن ناقلي المهاجرين من الحدود إلى المدن، كان معظمهم عشاقا للمال، وحذرين من كمائن العسكر التي ربما تكون منصوبة في الطرق والأحراش، فلا تشدهم تفاصيل المرأة،لكنها أيضا غير محظوظة حتى هذه اللحظة، لأن نهاية هجرتها، لم تكن بسعة الأحلام الكبيرة، ولأنها لن تنسق حتى حديقة البلدية العامة اليابسة، في الوقت الحالي، وستصنع الشاي للعطاشى والمحبطين والمتعجلين بحقائبهم وآمالهم. عبد القيوم. ما له عبد القيوم؟
462
| 09 فبراير 2015
في الرواكيب الضيقة المصنوعة من الخشب، والمعروشة بجريد النخيل في الغالب، كان يستريح السفر، ويعدٌل المزاج بشيء من الشاي والقهوة، يأخذ سجائر "البحاري" المحلي الرخيص حصة كبيرة لدى الزبائن، وتأخذ السياسة المنتقدة دائما وكرة القدم، والمشاكل التي تعني أحدا أو لا تعني أحدا، والأحلام المجهضة قبل تكونها، مثل أحلام الهجرة إلى أوروبا، والزواج بفاتنة السينما صوفيا لورين، واكتساب شهرة بيليه البرازيلي، حصصا متفاوتة.. كان السهر في ذلك المكان يوميا، وكانت الشتائم النابية حاضرة أيضا وبقوة كبيرة.. يزداد حضورها كثافة كلما هزم فريق كروي من فرق المدينة أو العاصمة، فريقا كرويا منافسا، أو اغتاظ غيظا عاديا من غيظ آخر عادي، أو انقلب حاكم بغتة علي حاكم متمترس منذ زمن في ساعة من ساعات الصباح الأولى، كما يحدث بين حين وآخر، أو انتفخ أحدهم بالعرق الرخيص، في حي الصهاريج، ذلك الطرف البعيد من المدينة، في الجانب الجنوبي منها، حيث الخمارات العشوائية، وبنات الهوى المستهلكات، وتجارة مخدر البانجو الذي لم تستطع السلطة تحجيمها أو إجهاضها أبدا، ثم جاء إلى المكان مفتعلا مشكلة، أو متحرشا بمسافرة. كان دور البائعات حياديا وباردا، توفير الظل والنكهة والغزل العجوز، والشهادة لصالح أرزاقهن إذا وثب الأمر إلي بعيد، لكن الأمر لم يكن يثب إلى بعيد كثيرا، فسرعان ما كانت تكسر أجنحته، وتقلم أظفاره بالوسطاء الذين يدخلون بحسن النوايا وسوئها في نفس الوقت. وكان المزايدون القدامى الذين شتتوا، ورحل نشاطهم إلى طرف بعيد غير مطروق في المدينة، يأتون أحيانا بعادة الحنين، يسألون عن خشب قديم، أو حديد تالف، أو جليسة للأطفال، أو لا شيء على الإطلاق، كان حنينهم يواجه بالضحك من رواد السفر، وكانت ريالاتهم السمينة، سرعان ما تتحف ويذهبون. في نفس ذلك المكان تشاغب "حسن شجر"، الرئيس الرسمي المكلف بمراقبة موقف السفر، عض أذن مساعده المراهق الإثيوبي، دامستا، عندما هزم فريق النجوم الكروي، فريق الشعلة المنافس، الذي يشجعه، في دوري الدرجة الأولى المحلي، وارتدى المراهق عنوة شعار البطل المتوج.. قميصا أصفر من التيل عليه نجوم حمراء.. في نفس ذلك المكان انكسر حسن شجر أيضا، أصيب بحمى القاذورات نادرة الحدوث، وصعبة الشفاء، وتورمت عينا مختار سالم، عامل الصحة المسؤول عن رش المبيدات، الملقب بالموت، لأنه مات مرة واستيقظ قبل أن يدفن، عندما أحرجه الجالسون، وأعادوا جنيهين فقط لا غير سرقهما بخفة من جيب عابر. في نفس المكان أيضا، سقط صفوان الدرويش، صديق العالم السفلي، الوزير السابق كما يدعي، جامع النقود الفضة والذهب ومداوي أمراض الكآبة والحزن حين يقتضي الأمر.. اجتاح فيضان الضحك يوما ما.. وفيضان البكاء يوما آخر، قسمت في نفس المكان ثروات لم تجمع قط، أعلنت خطايا بعضها يغتفر وبعضها لا يغتفر أبدا، وأعلنت توبات قد تقبل في المجتمع وقد تظل تائهة بلا قبول، نصب على دول العالم الثالث الفقيرة، حكام افتراضيون لا يعرفهم أحد، وعقدت زيجات سريعة وانفضت، وكانت قصة الحب التي نضجت بين المجنونة ثريا، التي كانت ترابط بصفة دائمة في المكان واختفت بعد ذلك، وسائق الباص الأرعن: صلاح صلحاب، وانتهت بموت السائق منتحرا، ومندهشا من جمال ثريا الذي كان يخبئه الجنون، من روائع حكايات المكان التي لن ينساها الناس أبدا.
413
| 02 فبراير 2015
عندما تغيرت طقوس العيد، بتغير الزمن بعد ذلك، نفض جيوب الخواء من المفاجآت، اختفى المحبوب الحاوي، وصاحبته، واقتصرت البهجة على مصافحات الأيدي، واللمعة الفقيرة في عيون الصغار الذين يرتدون القديم المستهلك، وجملتي (كل عام وأنتم بخير) وبالصحة والسلامة اللتين تطلقان آليا من الجميع، جاءت فكرة تحويل المكان الذي كانت تقام فيه الاحتفالات، إلى ساحة للمزاد من قبل مستثمرين أعجبهم موقعه القريب من وسط المدينة. رتق الظل الذي كان ممزقا أو منعدما تماما، بأفرع من شجر النيم الوارف، ونبات اللبلاب المتسلق، وخيام من القماش الباهت، الثقيل، يمكنها أن تساهم بالظل وإيواء السلع.، اخترعت نسمات باردة، برذاذ من مياه الخراطيم التي توجه للرمل، وأيضا بجرادل المياه الضحلة، وفي أيام قليلة انتشر البيع والشراء كأنه كان موجودا أصلا ولم يوقد حديثا. بيع وشراء وبيع وشراء.. وقوافل من المال الحي تأتي راكضة، تلقي برحالها في المكان وتذوب..كان الحكي العادي بالصراخ، النداءات على السلع بالصراخ، ودائما ما يوجد العراك المتكرر بسبب وبلا سبب، يوجد التطرف الأعمى في الجوع والشبع، وإفراز الغدد لأي نوع من الهرمونات، ومحترفون في حيل المزادات، بعضهم من أهل الساحل وبعضهم من إثيوبيا المجاورة ومن عمق إفريقيا أيضا، يتكاثرون في المكان، يستبدلون أشياء عالية القيمة بأشياء تافهة، وأشياء تافهة بأشياء أتفه منها. حتى مبيدات القمل والصراصير، ومزيلات العرق ومرطبات الوجه والأجولة الفارغة، وحبوب اللقاح، ومدرات الخصوبة لدى النساء، كانت تحلق، وسيارات الخدمة العامة المتقاعدة عن العمل كانت تجد من يسندها ويمسك بيدها في آخر العمر، ولم يكن غريبا أبداً أن تجد لصا يسرقك في الليل، ويبيعك ما سرقه منك في النهار، ومتسولا صادفته عشرات المرات وأعطيته صدقات، يصيح مناديا على خروف أسترالي، أو دراجة نارية من نوع " فيسبا"، المنتشر في البلاد، جاء يستبدلها بأخرى أنظف، وأكثر بريقا، وقيل إن مرضى فقراء، جاءوا بأسرة كانوا يرقدون عليها بالمستشفى الحكومي، وألحفة كانوا يتغطون بها، وباعوها هناك، وألقي القبض على داية في قسم التوليد، كانت تعرض مولودا غير شرعي للبيع وكانت التقطته من آثار أم صغيرة، طالبة في مدرسة ثانوية، أنزلته في المستشفى وفرت في إحدى الليالي. ولن يستطيع من عاصروا فترة ازدهار المزاد تلك أن ينسوا ذلك اليوم الذي عثر فيه محافظ المدينة على نظارته الطبية المفقودة منذ زمن، معروضة للبيع بسعر لا يمكن أن تعرض به، نظارة طبية لمتسول، وأوشك أن يلغي المكان. وكيف صاح الرحالة الموزمبيقي، ناماتو كيجا، متعجبا حين شاهد تمثالا لبوذا، من طين الصلصال، صنعته زوجته منذ أربعين عاما، ونحتت عليه اسمها، معروضا لدى تاجر تحف رخيصة، لم يسمع بموزمبيق، ولا بزوجة رحالة، هوايتها نحت التماثيل. تلك الأيام كان للعملة الوطنية رحم خصب ومنتج، كانت للشراء قوة ضارية. وكان للقرش العادي المتوفر لدى كل الناس ابتداء من المتسولين إلى رؤساء الحكومات، صوته الجهوري الذي يسمع في أقصى بقاع الأرض.
698
| 26 يناير 2015
حين أصبحت اللاجئة الإرترية، أببا تسفاي، وبعد عدة أشهر من ظهورها في المدينة، بائعة شاي معتمدة في موقف باصات السفر، وأصبح لها ركن مستقل، وثمة نار توقد، وبراد للماء، وأكواب بيضاء ومشجرة، وزبائن من رواد المكان، مسافرين، ومودعين وبلا سبب، وأيضا حساد من بائعات الشاي القدامى، حين انحسر بيعهن بظهورها، كان عبد القيوم علي، أو عبد القيوم مشكلة، كما يعرف دائما في أي مكان ولجه، وسيلجه مستقبلا، بما في ذلك رحم أمه، وبيوت العربدة السرية في قاع المدينة، قد تنفض من آخر عقوبة بالحبس، استغرقت عامين، ويسعى للعودة إلى موقعه القديم في موقف باصات السفر، متبطلا بجدارة، وأي شيء يمكن أن يكون خلاف رجل عادي سيعيش في سلام.كانت أببا فتاة رائعة، امرأة مثل النسيم، كما قال حسن شجر، السبعيني الطويل محني الظهر، صاحب الثياب البيضاء اللامعة، وطقم الأسنان الذي فيه سن ذهبية، ورئيس الخفراء المعين في المكان منذ أكثر من عشرين عاما. كما قال أكثر من مئة مسافر متبايني الأعمار والسحنات، عبروا إلى مدن عدة، في أيام مختلفة واستعذبوا نكهة أببا وشايها المخلوط بشيء من القرنفل والحبهان، ومجد الجمال الذي لا يشبهه أي مجد. كما قال عبد الغني، لاعب كرة القدم المخضرم، هداف دوري الدرجة الأولى، منذ كان اللعب بأقدام حافية، وعلى ملاعب ترابية، وبكؤوس من البلاستيك الشفاف. كان عبد الغني متوفرا على مقعده المتحرك القديم، ذي الحديد الصدئ، الذي يدفعه ثلاثة من صبيان الحي الذي يعيش فيه، يوميا إلى المكان، حتى يتسلى الرياضي المقعد حاليا بمراقبة حركة السفر والمسافرين، في ذلك الميدان المكتظ، والآن يتسلى بمراقبة لاجئة فرت من حرب منهكة، استهدفت الناس والبيوت، إلى حرب أشد إنهاكا، استهدفتها شخصيا، وهي بعيدة عن وطنها المدمر. الحقيقة أن عبد الغني لم يعلق طواعية على عنفوان أببا، لم يقيمها إلا حين سئل، وكان تقييمه مفخرة بحق وسط شيوخ ما زالوا يتذكرون هدفا بديعا أحرزه في مرمى خصمه، وهو معلق في الهواء ربما منذ ثلاثين أو أربعين عاما، لا أحد باستطاعته التذكر. ذلك أنهم صفقوا بحماس، وانضموا للركب العاشق لبائعة الشاي الجديدة. أيضا مختار، عامل الصحة المسؤول عن رش المبيد الحشري في المكان من حين لآخر، علق، لكن تعليقه لم يكن مهما على الإطلاق، ولا كانت اللاجئة الجميلة، ستزداد وهجا به، فقد نصبت امرأة رائعة.. فتاة حلما، سيتعلق به الجميع، وانتهى الأمر، وتلك الأقوال المأثورة، وعبارات الغزل والهيام، التي يطلقها مختار، وسائقو الباصات ومساعدوهم، وبعض الجزارين، وموردو الأغذية، وموظفو الحكومة الفقراء، الذين يأتون للنبش والتفتيش في المكان بقصد وبغير قصد، وغيرهم، لن تجدي، وستصبح مجرد ترهلات في وصف الجمال، يستحسن أن تزال ببعض الردود القبيحة، أو تنظف اللاجئة منها أذنيها، بمجرد أن تنطق.
326
| 20 يناير 2015
كان صيداً وعراً لحورية مصلح في ذلك الصباح. فمنذ شاهدت المدرس الغريب في سوق البلدة، وشمّت ما استطاعت شمّه من تفاصيله، لم تفارقها حكة الجلد ولا عتمة العينين ولا ارتعاشة الجسد المبالغ فيها، وبدأ صداع «الشقيقة» البربري، الذي هزمه منذ عهد علوب الحضرمي، أحد أزواجها السابقين، يتقافز؛ يجمع عدّته وعتاده لبناء مساكن في رأسها مرة أخرى.كان يسأل عن «تنباك» من صنف العماري الذي يرد من مدينة الفاشر في غرب البلاد؛ يعيد إلى رأسه المضعضع بعض التماسك، وكانت تسأل عن سجائر «كنت» أنيقة ومهرّبة لتغسل الرئة من وسخ سجائر «البرنجي» المحلي الصعلوك، كما اعتادت في الأعوام الأخيرة.التقى السؤالان بغتةً عند شاطر، تاجر الأغذية والمزاج المرموق في البلدة؛ ركضا إلى أذنيه معاً، احتكّا في الطريق وتعارفا، ثم عادا ممتلئين إجابةً من التاجر معاً.فجأةً عطس الغريب بقوة. رائحة في التنباك العماري، وارد الفاشر، فحلة وقوية يعرفها المزاجيون، اندلقت إلى خياشيمه، قبّلت المزاج المضعضع حتى عطس. أحست حورية بعطاسه غريباً، أجنبياً، ومهرّباً مثل سجائر الكنت؛ أيقظ أشجانها القديمة؛ بعث فيها روحاً طائشة ونشاطاً غريباً وجدّة مدهشة. أحبت عطاسه بتهور، وجادلت في السعر المعروف لسجائرها المهربة، وهي كاذبة، لتطيل وقائع الحب والدهشة.عطس الغريب مراراً وهو يقرّب كيس التنباك من أنفه ويبعده بنشوة، وتهوّرت مراراً وهي تشتري أشياء لا تستخدمها عادةً، ولم تشترها من قبل أبداً، وبدت وقفتها وهي حاضنة ذهولها المباغت ورعشتها العميقة وقفة بناءٍ هشّ يتلاعب به مطر غزير، وحين كوّر سفّة كبيرة من التنباك وضعها على شفته السفلى وانصرف راضياً. كانت في ذروة الذهول، لدرجة أنّ شاطر أيقظها بلكزة من كيس مشترياتها غير الضرورية.كانت قد تجاوزت الأربعين منذ زمن، بشعرٍ مصبوغ حتى جذوره، وحنّاءَ متقنة جداً على يديها وقدميها، وجسدٍ رشيق الشحم، ورائحة طلح معتّق تنزّ منها، وعينين رمّمهما كحل استفزازي وأوقدهما ناعستين، وكان قد تجاوز الأربعين، هو الآخر.كانت من دماء البلدة الأصيلة، حقنت في عروقها نطفة، وترعرعت في جسد البيئة حتى كبرت، وكان دماً جديداً استخلصته وزارة التربية والتعليم من إحدى قرى الشمال البعيد، وحقنته في عروق البلدة منذ عدة أيام فقط مدرّساً ابتدائياً لمواد العلوم والدين والجغرافيا.لم يكن «أعمشَ» لكنّ نظارة الشمس فوق عينيه كانت توحي بعمشه؛ لم يكن واهن الجسد لكنّ وهن الغربة والسفر والوساوس كان يتقاذفه؛ لم يكن أصلع الرأس لكنه يخطو إلى الصلع بجدارة؛ لم يكن أنيقاً ولا جذاباً ولا لامع الحذاء، ولا أهلاً لليالي الطيش في بلدة جانبية، لكنّ حورية مصلح لم تنسه أبداً. في ذلك الصباح المختلف جداً عن صباحاتها المألوفة جرّدها من نعمة الرسوخ السَني؛ اندلق عطراً خطراً تناثر في رأسها وعينيها وصدرها اللاهث ومرفقيها ومسار تقلباتها لثلاثين سنة قادمة. كانت تحسّه في كل نفس من سجائر الكنت المهربة التي أخذت تشعلها واحدة إثر أخرى؛ تعصره في خيالها بقوة وتجسّه بأنامل الخيال، وتعدّ الفطور والقهوة وشاي الحليب الكامل الدسم من دون جوع أو عطش أو مروءة.
379
| 29 ديسمبر 2014
لن أدعي بأن ما حدث كان مصادفة بحتة، وحدث فقط، حين هاجت دمائي فجأة، واختلت سيطرتي على نفسي، وأنا أشاهد حلما غاليا، جذابا، شيدته بخلاياي، وأكثر من خلاياي، على مدى عامين تقريبا، يتفكك أمامي بلا أمل في إعادة ترميمه.لن أقول إن أم جمعة عيسى، بائعة الشاي الصبية، المثقفة، الوغدة في دلالها، الرائعة حد تحول الروعة عندها إلى نصل جارح، قاتل،- لوكريثيا الحواري الضيقة، كما كنت أسميها دائما، على اسم بطلة رواية إسبانية أحببتها، قد استفزتني في ذلك اليوم بالتحديد، تعدت على بيوت حلمي المتعددة، الممتلئة بالأمل، وبعثرت مكوناتها، لا لن أقول ذلك، ولن أكون صادقا إن قلت، فقد كان الأمر مخططا بعمق، ومثلما خططت للحلم أن يحلق عاليا في سموات حياتي، خططت له أن ينهار في ذلك اليوم الشتائي من شهر ديسمبر، ولأول مرة منذ سمعت بجملة: كانت النية مبيتة، أحسست بأنني صاحب تلك الجملة، أمسكها بين يدي، ألهو بها، ويمكن أن أوزعها لآلاف الناس أو حتى أبيعها لمشاريع الغدارين، حين ينوون اقتراف الغدر.. النية مبيتة، يا لها من عبارة وغدة، وقحة، سيئة الأخلاق، مسلحة بكيمياء الهوس، ومسؤولة عن كل تفاصيل الانتهاك، وتدمير الذات والآخرين.أعرف أن أمي مرفوعة ضو البيت، التي بلغت الستين عاما منذ أيام فقط، بصحة ليست جيدة، وليست سيئة، وكانت عملت خادمة في البيوت، وماشطة لشعر النساء التقليديات، ودلالة لبيع السلع الحريمية المستهلكة، من ملابس وعطور، وأدوات منزلية، وأحيانا بائعة للحقن البلاستيك، والزجاجات الفارغة أمام باب المستشفى الكبير، بعد أن توفي أبي، حتى تعلمت في الجامعة، وحصلت على شهادة في علم الاجتماع، لن تصدق ما حدث، ستقول إن عبدالقيوم، ابن بطني، كان أسيرا لصحبة سيئة في ذلك اليوم، كان مخدرا بمواد لا يعرفها، وسيئ الحظ بدرجة كبيرة، وربما سكرانا أجبر على السكر، والذي حدث، لا يمكن أن يحدث لو كان ذلك الولد أنيقا، ودافئا وقليل الكلام كما نعرفه كلنا.ستقول أختي نجلاء، التي تصغرني بستة أعوام، وهي الآن زوجة، وأم، وموظفة في شركة طيران محلية، وليست صغيرة ولا دلوعة، ولا تعشق الشكوى والبكاء المتواصل بلا سبب كما كان في السابق، إن عبدالقيوم، شخص متمدن وحضاري إلى أبعد حد، وقارئ جيد للكتب، لكن في الوقت نفسه ولأسباب غير معروفة، قد يضحي بالثور من أجل أن يحصل على الحبل الذي ربط به الثور. وقد يقطع إصبعه شخصيا، إن أحس بأن ذلك الأصبع لم يعد مهما. نعم ستقول نجلاء ذلك أو شيئا شبيها بذلك، ولطالما كانت صاحبة أكثر أفكار ملتوية عرفتها، وأذكر حين خطبت، أن ظلت تخترع الدروب المتعرجة لخطيبها، حتى أوشك أن يفر.
335
| 15 ديسمبر 2014
دخلنا حي وادي الحكمة بعد أكثر من ساعة ونصف من السير البطيء المتوعك في فوضى وزحام مروري لا يطاق، وسائق حافلة مكتوب على ظهرها بخط مكسر: "كل الأيام واحدة يا حبي" تعدّاني بإصرار مجنون، وسبني ببذاءة. متسولون بلا عدد غارقون في اللجة لا يعبأون بالخطر، باعة الأقلام الرخيصة ومناديل الورق، وحقائب القماش المتسخة، يلحون في البيع، والمشردون الذين تضج بهم شوارع العاصمة يحملون خرقا ملوثة، يدحرجونها على زجاج السيارات، ويسألون عن أجر التنظيف.كان النهار على وشك أن يتلاشى. ساعة أخرى، ويرابط الليل ضاخا آلامه وهواجسه، وأفرنجي عن يميني، مستثار، وقلق، ومتحمس لمهمة لا يعرفها جيدا، ووصفتها له بلا تفاصيل كثيرة، وقد اخترع هو في تلك الساعات التي أنفقها بصحبتي في سوق عائشة، ومكتب سمسار العقارات نعمان، الذي استأجرت منه بيتا صغيرا متواضعا ورخيص الثمن في أحد الأحياء، وفي رحلة السيارة، اخترع شخصيات متعددة، فيها حارس شخصي وممرض عند الضرورة ورجل أمن متحفز ساعة الخطر. أراد أن يرتدي تلك الشخصيات كلها وهو يرعى "نيشان" حتى أتمكن من علاجه من الفصام أولا، ومن ثم أبحث عن احتمالات إصابته بسرطان الغدد فيما بعد. قصة تخاطر نيشان معي وإرساله رواية، لم أعد أهتم بها كثيرا في الوقت الحالي على الأقل، ولا أريد أن أشغل بها ذهني وأبحث عن أسبابها، وكيفية حدوثها، وقد أرهقتني استعادتها منذ أمس.ما أردته الآن وبجدية كبيرة، هو أن أعمل على المصير القاحل الذي كتبته، وأحاول أن أزينه ببعض الخضرة، حتى لو قاوم تزيينه، وأصر على أن يظل قاحلا. أردت أن أؤدي ما ظننته واجبا مستحقا، في لحظة تنازل وخيم من كاتب روائي، منتشر في الوطن وغير الوطن، إلى مجرد إنسان عادي يمكن ببساطة أن يكنس حوش جيرانه لو وجده متسخا، أو يحلب عنزة لامرأة مسنة مرتعشة اليدين، أو يحمل طفلا صغيرا على ظهره ويعبر به شارعا مدججا بحوادث المرور. أظن ذلك لن يكون غريبا علي، أعني امتلاك الشخصية المحسنة، فقد فعلتها مرات من قبل. فقط هذه المرة، كان لا بد من تغيير نمط الحياة كلها، لتنجح الشخصية. لقد فكرت في البداية أن أسكن نيشان في بيتي، أن أخلي له إحدى الغرفتين، حيث يوجد فرع للمكتبة الكبيرة، وأضع سريرين، واحدا له، وآخر لجوزف أفرنجي، وبذلك أكون على مسافة خطوات معدودة من بؤرة الصداع.. وغيرت رأيي في لحظة صفاء بعيدة عن التعاطف، حين وجدت الأمر لا يستحق كل هذا.
642
| 08 ديسمبر 2014
في حديث لي عن القصة القصيرة جدا، أو القصة الومضة كما يسمونها، والتي انتشرت بشدة هذه الأيام وأصبح لها كتاب وقراء ومشجعون، قلت إن قصة بهذا الخجم قد تقول شيئا لكنها لن تمنح متعة كبيرة، لقارئ يبحث عن المعرفة والمتعة، في آن معا، وغالبا ما يهتم بهذا النوع من الكتابة، قراء الشعر الذين قد يجدون فيه بعض العزاء بعد أن تغبر الشعر واتسخ. لكن بالرغم من ذلك، فما زال يوجد في أي نوع من الإبداع، مبدون يمكنهم التعبير برصانة وإجادة ما يعملون عليه، والمشكلة هنا هو كيفية العثور على هؤلاء المبدعين وسط الكم الهائل من الكتب التي تنتشر في كل مكان.بين يدي كتاب جيد، يحوي مجموعة من القصص القصيرة جدا، إضافة إلى مجموعة من النصوص والخواطر الشفافة. كتاب: ما ينقصك للأديبة السعودية: منيرة الإزيمع، صدر هذا العام عن دار مدارك المعروفة. ومنيرة ليست صوتا جديدا في الكتابة، فقد صدرت لها مجموعتان مماثلتان في السابق، لم أطلع عليهما، لكن كتاب ما ينقصك، هو حقيقة وجبة دسمة من المفردات والمعاني، والحكايات العامة والخاصة التي يمكن قراءتها بمزاج عال، والاستمتاع بها إلى أقصى حد... القصص هنا في معظمها ليست ومضات سريعة شاحبة، لا توحي بشيء، وإنما قصص تتحدث عن النفس وخلجاتها أولا، عن المجتمع وما يدسه من لؤم تجاه المرأة، عن الطرق والأسواق، والمجالس، وعن عالم المرأة المضيء والمظلم في آن معا. لقد كتبت القصص بأطوال متفاوتة، وحتى التي كتبت في سطر أو سطرين، كانت معنية بإيصال فكرة ما. ولطالما كنت من المنادين بعدم التفريق بين ما يكتبه الرجل وتكتبه المرأة، باعتباره وجعا إنسانيا في النهاية، لكن هذا لا يمنع أن الخلق المختلف للمرأة والرجل، يمنح التنوع في الإبداع أيضا، وأظن أن منيرة استفادت من مفردات النساء المستخدمة في الحياة اليومية، لتمنحنا هذا الكتاب الممتع في كل خاطرة من خواطره، وكل سطر من سطوره، ولعل ذلك يكون بادرة تصالح بيني وبين هذا النوع من الكتابة، فأبحث عن الجديد المتميز فيه.إذن الكتابة الإبداعية أنواع كثيرة، فيها ما يكتب حيوات كاملة، وما يكتب ومضات من حيوات، وداخل كل نوع توجد أنواع أيضا، توجد أمزجة ولغات مختلفة، ودائما ما نجد نماذج قد تقربنا أو تبعدنا عن القراءة، وأذكر أنني قرأت مرة للكاتب السعودي حسن البطران مجموعة من القصة القصيرة جدا، وأحسست بنفس إحساسي وأنا زقرأ: ما ينقصك لمنيرة الإزيمع، فكلاهما قدم عملا مدهشا يستحق التوقف عنده طويلا. في المقابل قرأت قصصا ورايات لآخرين وأحسست بفداحة الوقت الذي أضعته.ما ينقصك، يستحق القراءة، ويستحق أن يؤخذ نموذجا للكتابة الجديدة، التي بدأت تنتشر هذه الأيام.
588
| 01 ديسمبر 2014
أتيح لي في الأيام الماضية أن ألتقي بقراء مختلفين في معرض الشارقة للكتاب، خلال ندوة عن روح الكتابة، أو الكتابة وارتباطها بالمفردات اليومية، وقد لاحظت أثناء مروري بأجنحة المعرض، زحاما حقيقيا من القراء على اقتناء الكتب بمختلف مواضيعها، بالرغم من أن الحديث قد طال عن قرب اندثار الكتاب الورقي، ليحل محله الكتاب الإليكتروني، وفي ذلك ما يقلل من شأن تلك النظرية، فالكتاب الورقي خاصة في عالمنا العربي، حيث الدخول إلى الإنترنت والقراءة من أجهزة الكيندل والآي باد، ليست متاحة للجميع، وحتى أولئك الذين يملكون امتياز الدخول، واقتناء تلك الأجهزة، غالبا ما يستخدمونها للترفيه، أو التواصل في المواقع المختلفة. وجود الكاتب في تلك المعارض، من حين لآخر، واللقاء بزملائه في الكتابة، أو قراء ربما يعرفونه، أعتبرها ضرورة حيوية بالرغم من مشقتها. هنا يحدث ثمة تحاور مباشر، وأسئلة تطرح وتجاوب، وفي النهاية فائدة قصوى لكلا الطرفين، الكاتب يعرف من يقرأه وينتقده، والقارئ يملك حرية أن يلقي بأسئلته عن تجربة الكاتب، ولا بد يحصل على أجوبة عن مجمل تجربته.أتحدث عن توقيع الكتب في المعارض، وأعني أن يجلس الكاتب على طاولة رصت عليها كتبه، منتظرا أن يأتيه أحد ليوقع له إهداء على الكتاب. هذه ظاهرة انتشرت كثيرا في معارض الكتب في السنوات الأخيرة، وبات كل من يصدر عملا في أي مكان، يعد القراء بأنه سيكون موجودا في زمن معين للتوقيع، حتى من أصدر عملا واحدا، يتأنق ويأتي وينتظر، وهناك من يزينون طاولاتهم بالورد، ويضعون قطعا من الحلوى، رمزا للاحتفال، وفي نهاية اليوم ربما يأتي قراء كثيرون، وربما يأتي قلة، ومحتمل جدا أن لا يهتم أحد، وتخرج للصحف صور براقة تمثل الكاتب جالسا مبتسما في حفل توقيع لروايته أو كتابه الشعري.هذه الظاهرة قديمة في أوروبا بالطبع، وتحشد جمهورا كبيرا بالضرورة، ولكنها ما تزال متعثرة في عالمنا العربي، حيث القراءة ليست أولوية ولا تربية راسخة نربيها لأبنائنا، وشخصيا لا أجلس للوقيع إلا مضطرا حين يلح الناشر في ذلك، ولكن لا مانع لدي على التوقيع إن صادفني أحد يحمل كتابا لي لم يشتره تحت ضغط الحرج، ومشاهدتي جالسا على طاولة، تشبه كثيرا طاولات البيع في الأسواق الشعبية، وقد كتبت من قبل عن جلوسي في أحد الأيام البعيدة، لتوقيع سيرة لي اسمها مرايا ساحلية، صدرت في بداية الألفية الجديدة، وكنت محرجا فعلا، حين اشترى الكتاب عدة أشخاص تحت الحرج مني، وقارنت ذلك بالإسباني زافون الذي شاهدته يوقع رواية ظل الريح، في لندن حين صدرت ترجمتها الإنجليزية، وكان يجلس في الشارع يرتدي تي شيرت عاديا ويقف أمامه طابور من القراء بلا نهاية، ليوقع لهم باسمه على الرواية، وبعضهم يقف منذ الفجر في انتظار أن يأتي الكاتب.إذن لا بد من التواصل مع القراء بأي طريقة، ولكن لا بد أيضا من الصبر والانتظار حتى نصل إلى مرحلة أن ينتظرنا القراء لنوقع لهم، لا أن ننتظر نحن قارئا ربما يأتي وربما لا يأتي.
314
| 26 نوفمبر 2014
مساحة إعلانية
في منتصف العام الدراسي، تأتي الإجازات القصيرة كاستراحة...
2004
| 24 ديسمبر 2025
حين تُذكر قمم الكرة القطرية، يتقدّم اسم العربي...
1611
| 28 ديسمبر 2025
أرست محكمة الاستثمار والتجارة مبدأ جديدا بشأن العدالة...
1131
| 24 ديسمبر 2025
تستضيف المملكة المغربية نهائيات كأس الأمم الإفريقية في...
1083
| 26 ديسمبر 2025
-قطر نظمت فأبدعت.. واستضافت فأبهرت - «كأس العرب»...
942
| 25 ديسمبر 2025
أدت الثورات الصناعيَّة المُتلاحقة - بعد الحرب العالميَّة...
711
| 29 ديسمبر 2025
-قطر تضيء شعلة اللغة العربيةلتنير مستقبل الأجيال -معجم...
669
| 23 ديسمبر 2025
لماذا تقاعست دول عربية وإسلامية عن إنجاز مثل...
669
| 24 ديسمبر 2025
انتهت الاحتفالات الرسمية باليوم الوطني بحفل عسكري رمزي...
558
| 23 ديسمبر 2025
منذ القدم، شكّلت اللغة العربية روح الحضارة العربية...
534
| 26 ديسمبر 2025
في عالم اليوم، يعد التحول الرقمي أحد المحاور...
513
| 23 ديسمبر 2025
صنعت التاريخ واعتلت قمة المجد كأول محامية معتمدة...
483
| 26 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية