رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

الكلمة الأخيرة لمفكّر فلسطيني حر

كتاب يجمع بين دفتيه مقالات المفكّر الفلسطيني الأخيرة، والتي تركّزت بشكل أخص حول القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني -الإسرائيلي، إضافة إلى قضايا عامة تخص الشأن العربي والإسلامي، وينتهي برسائل الود والتقدير التي كُتبت بأقلام أعلام المثقفين في رثائه، بعد وفاته بسرطان الدم رحمه الله. لم يكفّ المفكر - وهو يحظى بالمواطنة الأمريكية - أن يسوم الإدارة الأمريكية نقداً لاذعاً يفضح ازدواجية معاييرها وسياسة الكيل بمكيالين لا سيما فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، كفلسطين والعراق، الأمر الذي عرّضه لمضايقات شتّى طالته بتأثير من اللوبي الصهيوني المتنفّذ في مرافق الولايات المفصلية! وهو رغم هذا لم يكن ليغض الطرف عمّا يجري فوق أرضه من سياسات فاشلة تبنتها السلطة الفلسطينية، وبالأخص في عملية سير المفاوضات بين الطرفين. تأتي أهمية هذه النصوص عن توثيقها لحقبة تاريخية شهد المفكّر على مجرياتها ووقائعها والكثير من أحداثها، تناولها بالدراسة والتحليل، ورسخّت لديه حصيلة متينة من المبادئ والأفكار والآراء والقناعات ما جعلها بمثابة عصارة فكر وجهاد وعقيدة. إنه إدوارد وديع سعيد (1935: 2003)، المولود في مدينة القدس الفلسطينية والمتوفى في مدينة نيويورك الأمريكية، أحد أشهر المفكّرين والمثقّفين والأدباء العرب في القرن العشرين، وأكثرهم تأثيراً في الدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني وقضيته العالمية. وهو كذلك أكاديمي حاصل على درجة الدكتوراة في النقد الأدبي والأدب المقارن من جامعة هارفارد الأمريكية، حيث انخرط في سلك التدريس الجامعي، وشغل بالإضافة إليه مناصب أخرى كمحرر وكاتب عمود في عدد من الصحف العربية والعالمية، كما كان نشطاً إعلامياً من خلال الندوات والمحاضرات والحوارات الإذاعية والتلفزيونية.ينقسم كتاب (خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة) إلى عدة أقسام، تبدأ بـ (السيرة والأعمال)، ثم تتطرق إلى مواضيع مثل (الاستشراق/ الإسلام/ القضية الفلسطينية/ حول مفهوم المثقف)، وتنتهي برثائه. وعن مراجعته، فتعتمد على الطبعة الثالثة الصادرة منه عام 2011 عن (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع) والذي عني بترجمته من لغته الأصلية المترجم التونسي أسعد الحسين، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص. تحتل مقالة (خيانة المثقفين) عنوان الكتاب، والذي ألحق فيه المفكّر العار بزمرة من المرتزقة وأصحاب الأقلام المأجورة الذين تكفّلوا بشنّ هجمات تستهدف الحطّ من قيمة الإسلام ووصمه بالتعصب والجهل والتخلف والظلامية، وذلك عندما كان يتصدى لأجندات السياسة الغربية وحملتها الشرسة للنيل من الإسلام وأتباعه! بيد أن دور هؤلاء المثقفين من الخطورة بمكان في التأثير على عقول العامة وتثقيفهم وتشكيل وعيهم الجمعي، لا سيما فيما لو قاموا بالتحريض على معاداة الحق والتصفيق للظالم، الأمر الذي سيؤدي لا محالة إلى سيادة الطغيان وتفشّي العدوان وتغييب العقل وضياع الحق. أما عن حركة الاستشراق التاريخية كمفهوم وكهدف، فهي إن خدمت ابتداءً الأهداف الاستعمارية أو الاستكشافية أو التبشيرية، فإنها تأخذ على عاتقها في الوقت الحاضر خدمة المصالح الإسرائيلية-الأمريكية، ودعم الخطط الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية، وهي بهذا لا تحقق أي نوع من الموضوعية أو الحيادية لا على مستوى الفكر ولا التحليل ولا الحوار البنّاء بين الطرفين المتنازعين. وللقضية الفلسطينية نصيب الأسد من نصوص المفكّر الأخيرة وكأنه يوصي بها بعد أن قال كلمته وكفّى ووفّى، وهو ما برح ينادي بأن الخيار المتاح للحل السلمي وحقن الدماء هو إقامة دولة واحدة ثنائية القومية، تتعايش فيها القوميات الثلاثة، مسلمين ومسيحيين ويهودا. وهو في دعوته هذه لم يكن يغفل عن تسليط الضوء على الأعمال الوحشية التي كان يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، يساندها في هذا الكثير من دول العالم ذات المصالح المشتركة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وأدوات الإعلام الأمريكي بقضّه وقضيضه، وشريعة (خيانة المثقفين) الآنفة الذكر. يقول صديقه الأستاذ والفيلسوف والناقد والسياسي الأمريكي (نعوم تشومسكي) في نعيه الذي جاء تحت عنوان (صوت من لا صوت لهم): «كان لي إدوارد سعيد صديقاً حميماً وعزيزاً خلال سنوات عديدة. إن موته خسارة فادحة تتعدى بكثير دوائر الذين كان لهم امتياز معرفته. لقد اشتهر عن جدارة لمساهماته اللامعة في إنتاج ثقافي غيّر عملياً من طرائق رؤيتنا للعالم الحديث ولأصوله التاريخية. ناضل بلا كلل ولا هوادة من أجل العدالة والحرية وحقوق الإنسان ليس للشعب الفلسطيني وحده - وهو الذي لا يضاهي في النطق باسمه، محيياً آماله وقضيته في أزمنة مظلمة فاجعة - وإنما أيضاً للعديد غيره من الشعوب المحرومة والمعذبة في أرجاء العالم كافة. كان إدوارد سعيد حقاً صوت من لا صوت لهم، تتخطى شجاعته والتزامه كل حدود بشكل يستعصي على الوصف. إني لواثق من أن ميراثه سوف يكون مصدر إلهام وتوجيه لسنوات عديدة في المستقبل. وخير تكريم لهذا الشخص الرائع أن نسعى بأفضل ما نستطيع إلى مواصلة التقدم في الدروب التي فتحها ومهدها بكامل تألقه ونزاهته». ختاماً، إنه كتاب لا ينم وحسب عن موسوعية الفكر وموضوعية الطرح والتحليل، بل عن شرف الانتماء والإباء والأصالة والكرامة العربية كما ينبغي أن تكون.

1983

| 02 نوفمبر 2023

سنابل قمح ترويها دماء فلسطينية 2-2

..... نواصل الحديث حول كتاب «دفاتر فلسطينية» لمؤلفه معين بسيسو. يُصبح الكلب أداة من أدوات التعذيب والذي كان يأكل اللحم يومياً في بداية توظيفه، حيث أصبح بعد أربعة أشهر «يمضغ قطعة اللحم فقط ويبصقها إلى جوار القروانة، وعليك أن تمد يدك وتتناولها وتأكلها أمام السجّان». وفي سجن القناطر الذي تختلط فيه أطياف المساجين، والذي كان يضم بين جدرانه عددا من اليهود الذين تم احتجازهم أثناء العدوان الثلاثي، يحمل الصدى المتردد مصرياً من زنزانة ما، رجاءً يخص الفلسطينيين وحدهم. يقول معين: «في الصيف يأخذك القطار إلى البحر، وفي الشتاء يأخذك المطر إلى الشجر، ومن بعيد كان يأتي إلينا صوت أحد المسجونين العاديين وهو يصرخ في الليل يحمل البشارة: عنبر فلسطينيين.. كله يسمع! ما سجن انبنى على سجين.. ولا مستشفى انبنت على مريض.. أخوكم المعلم عبدالباسط عبدالعال.. طالع من عشرين سنة أشغال.. عقبال عندنا وعندكم يا حبايب». ثم يقرر السجناء الفلسطينيون مع رفاقهم المصريين فلاحة مزرعة بزعامة مهندس زراعي معتقل بينهم، فالسماد أمكن تصنيعه طبيعياً من دورات المياه في الواحات، والبذور أمكن تهريبها مع السجين المراسل، أما الماء فكان بالإمكان استدراجه من النبع البعيد. بعد استغراب وضحك مأمور السجن ومن معه، تتم الموافقة ويتم استحضار ثور للحرث، الذي ما أن أتم عدة أيام حتى خر فأصبح طعاماً دسماً للمساجين الذين نسوا طعم اللحم. يصف معين ثمرة جهدهم بعد ذلك قائلاً: «الماء بدأ يسيل من النبع يجري في قناة، والقناة كانت تتحول إلى شرايين والرفاق يصيحون: الماء الماء». يصر السجناء المصريون على تخصيص مزرعة للفلسطينيين يفلحونها كما شاءوا، وقد زودوهم بالماء والبذور من غير شرط، أطلقوا عليها «مزرعة غزة». يهرّب أحد الرفاق راديو ترانزستور يعتبره البقية بمثابة «إلهاً عجيباً»، يسمعون من خلاله سيل من أكاذيب يبثها مذيع ناعق من ميكروفون (صوت العرب) ينفي بها وجود معتقلين فلسطينيين في سجون مصر الحربية، وكان يصدح هامزاً لامزاً: «يا إذاعة 14 تموز 1958، يا إذاعة عبدالكريم قاسم، اسمعوا أيها العرب». كانت المؤثرات الموسيقية كفيلة بإقناع العرب بهذه الكذبة «إلا أننا كنا في زنزانة ونعرف جيداً أننا معتقلون». هكذا كان يعلق معين مع رفاقه الغاضبون الذين كانوا يهتفون «كذاب كذاب.. لا بد أن يقدم للمحاكمة.. نحن هنا». ليس كل من يقع في براثن السجن ظالماً، بل منهم الشرفاء ممن يدفع الثمن رصيداً من عمره، غير أن الكثير من الظالمين طلقاء، حيث يعقّب معين -في مفارقة- لحظة خروجه من السجن وهو ينظر إلى المشاة قائلاً: «وما أكثر المعتقلين في الشوارع ولكنهم يمشون». يُفرج عن الرفاق أخيراً، وأولئك السجّانون -الذين لا يترددون في اعتقال الجنين وهو في رحم أمه- يصافحونهم بعناق، أولئك الذين ما برحوا يصورون فلسطين في «الكلبش والزنزانة والكرباج»، غير أن شجرة الزيتون تبقى خير ما تمثل شموخ الأرض. يقول معين عن هذه اللحظة في خاطرة أكثر شموخاً: «وعليك أن تتذكر أن عليك أن تعتذر إلى الزيتونة حينما تسألها قطعة صابون لكي تغتسل». ومن صفحات ضمت ذكريات عذبة، يبدو لموسم الحصاد ذكرى شاعرية لدى معين، عن سنابل قمح تتنشق شعاع الشموس وتسكن مع سكون الليل البهيم. يقول: «وكان أبي يأخذني معه دائماً في موسم الحصاد، وفوق كومة من سنابل القمح كان يضع فروة خروف ويغطيني بفروة أخرى. وهكذا كنت أنام وتحت رأسي سنبلة وفوق رأسي نجمة». ويمضي به والده إلى جانب قناة ماء تفصل بين (غزة) و(بئر السبع) حين كان يعلمه الصيد. يقول: «وعلمني كيف أحب الماء الذي تخرج منه الطيور». وبعد طول فراق وفي دفتره السابع يزوره والده، فيبدو حينها كالشجر الذي يموت واقفاً، ويبدو هو كالشبل من ذاك الأسد. يقول: «فلقد كان هو.. هو! المتشرد العظيم الواقف أبداً وغير القابل للسقوط». أما عن كيف يورق الماء على سبورة العلم أشجاراً بأصابع المعلم الفلاح! يقول معين وقد تحدث عن معلمه الذي كان يشبه قطرة المطر: «وحينما يتحول الفلاح إلى مدرس تتحول الأشجار كلها إلى أصابع طباشير». لكن فلاح غزة لا يأبه بسياج أحاط بأرضه، حيث تأخذه شمس الحقل نهاراً ليحصد قوته، حتى يحمله ليله فوق نعش: «الفلاح من غزة يقص بأصابع يديه الأسلاك الشائكة ويذهب لزرعه، يعود بحزمة سنابل ويسقط مثقوباً بالرصاص. وفي صباح اليوم التالي يعلنون قتل متسلل». ختاماً، ومع معين بسيسو الذي امتن لزنزانته التي لا تفرق عن زنازين أخرى بلا قيود، فقال: «علمتني الزنزانة السفر إلى مسافات بعيدة، وعلمتني أيضاً الكتابة لمسافات بعيدة». ومع كل هذا الوجع الذي جاء فلسطينياً بامتياز ولم يكن يحمل ذنباً، فقد جادت قريحة الإمام الشافعي من ذي قبل فأطرب إذ قال: وإني لمشتاق إلى أرض غزة .. وإن خانني بعد التفرق كتماني سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربتها.. كحلت به من شدة الشوق أجفاني

582

| 26 أكتوبر 2023

سنابل قمح ترويها دماء فلسطينية 1-2

لأنها دفاتر تخص شابا فلسطينيا خطّ نصوصها خلف القضبان، فهي توحي للوهلة الأولى أنها تصف نضالا أودع على إثره أحد سجون الاحتلال، إلا أنها مع نضاله تسجل موقفه كمعتنق للشيوعية حين اعتقلته السلطات المصرية على أعقاب مظاهرات، منتصف القرن الماضي! يتنفس إهداؤه الروح الفلسطينية الحرة وهو يهديه بخط يده «إلى شعبنا الفلسطيني في زنازين الأرض المحتلة يرفض أن يستنكر فلسطينيته»، وتشهد دفاتره كذلك على نضال رفاقه السجناء وقد «كتبوا إحدى السيمفونيات الهامة في تاريخ شعبهم»، رغم الحصار والتشرد والاعتقال والتقتيل. «فما استنكروا فلسطينيتهم، وما عضوا الشيوعية»، بل واتفقوا مع رفاقهم المصريين من أتباع الحزب على شن الاستنكار بأقلامهم! عليه، أتت هذه الدفاتر. يقدم الشاعر سميح القاسم للدفاتر الذي يعتبرها جاءت في الزمان والمكان المناسبين، من أجل التصدي لدعاة النكوص والتخاذل والتسليم المذل «فلا الوطن تحرر ولا الشعب استقل ولا الدول ذات السيادة تحققت، وما زالت القدس عاصمة روحنا وتاريخنا وحلمنا، عرضة يومياً لمشروع التهويد الهمجي». ومن (دفاتر فلسطينية)، أو بالأحرى من دفاتر مارد السنابل معين بسيسو (1928: 1984) في طبعتها الثانية الصادرة عام 2014 عن (دار الفارابي للنشر والتوزيع)، والذي يزين غلافها بلوحة زيتية وهو يشتمل بكوفية، أعرض صفحات من زنازين العذاب وأخرى من عذب الذكريات، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): في البداية، كان الدخان يتصاعد في جو القاهرة كالحجارة التي كان البوليس يتصدى لها بالقصف، ويبحث عن الشاعر الذي لم يكن حينها سوى طالب في الجامعة الأمريكية، متخفياً جائعاً وخاطره يقرض شعراً يتساءل فيه: «لمن الشارع من يملكه؟ نحن أم من يملك الجيش الكبير؟ طردت منه الجماهير التي زرعت من قلبها في القصور. لم تعد تدوي به صيحاتها وهي في ثورتها الكبرى تسير. حاكموها.. عاقبوا كل فم صارخ في وجه حفار القبور.. هذه أرضي ولن أزرعها جثثاً.. بل سنبلات وزهور». أي شرف يبقى لرجل عمل في القوة البوليسية؟ يكيل معين في الدفتر الرابع سيلا من الذم في حق من ماتت ذمته، وقد شهد على ما شهد من سوأة الأخلاق: «حينما يتحول أحدهم إلى شرطي مباحث أو مخابرات فهو على استعداد لكي يحلب ثدي أمه ويقدم حليبه كأس عرق». يأتي أبو نحل -وهو أحد عراة الشرف- إلى بيت أم بسيسو التي ربته صغيراً ليعتقله وإخوته، في خيانة سافرة لكرم المأوى الذي حظي به وأفراد عائلته حين لجؤوا إليهم مشردين! يمسك بمعين، فتصرخ آمنة مستنكرة: «جئت تعتقله.. لماذا؟ لقد كان يدافع عن أطفالك. لم يبق إلا أن يسلخ جلده ويقدمه له لحافاً». يصور معين الموقف بعينه التي كانت تراقب أبو نحل، والذي: «كان يريد أن يخبئ عينيه فنظر إلى قدميه دون أن يدري. دائماً المباحث ينظرون إلى أقدامهم الكبيرة، الأقدام التي كبرت من فرط متابعة وملاحقة الأيدي التي تكتب». وعن حفاوة الاستقبال التي استهلت فيها المطارق جماجم الرفاق في الزنزانة، تأخذ الحمية أحدهم عندما شاهدها تنهال على معين، إذ أنه «الرفيق القائد». يصف معين تلك اللحظات الجارحة قائلاً: «وعرفوا أنني الكبش، رأس هذا الطابور من المعتقلين الفلسطينيين. وأغمي عليّ من هول الضرب وصحوت، وإذا برأسي بين يدي، ممنوع عليّ أن ألتفت إلى اليمين أو إلى اليسار، إلى الأمام أو إلى الخلف. كان على الرأس الفلسطيني أن يدخل ثقب الإبرة. تحس كأن محراث يدور في رأسك. ماكينة الحلاقة تدور ويسقط شعرك، هذا الصوف الفلسطيني المطلوب دائماً». يشتد الوضع سوءا كما يصفه معين في دفتره الخامس، ويقرن ما يجري على الأرض الفلسطينية من مسح مذل، بما يجري عليه وعلى كل فلسطيني معتقل، فيقول: «ماذا فعلوا بالوجه الفلسطيني؟ لقد حلقوا شعر الرأس وحلقوا الحاجبين. ماكينة الحلاقة التي دارت في الرأس الفلسطيني، كانت تدور كالمحراث في الأرض الفلسطينية. لم أكد أعرف أولئك المحكومين معي في الزنزانة، ولكن حينما استيقظنا في السادسة صباحاً على مفتاح وكرباج السجان عرفنا أننا لا يمكن أن نكون غير فلسطينيين». ليس بالضرورة أن تلسع الكرابيج الظهور العارية حتى تتعالى الصرخات، إذ تتكفل صرخات الرفاق بنقل العدوى، فيصرخ بقية الرفاق للسعات لم تحدثها كرابيج! يلون معين هكذا مشهدا وحشيا بريشته قائلاً: «حينما تخلط لونين يخرج لون ثالث. فماذا كان يحدث حينما كان السجان يخلط بكرباجه مائة صرخة لمعتقل؟ العذاب دائماً يأتي من خارج الزنزانة، فحينما يبدؤون تعذيب جارك في الزنزانة المجاورة يبدأ العذاب بالنسبة إليك، إنك تنتظر دورك وهم يعرفون كيف يطيلون عذابك في الانتظار، فقد لا يأتي دورك في هذه الليلة ولكن ألسنة النيران قد بدأت تشتعل في عظمك. كل صرخة تأتي إليك من خارج الزنزانة لسان نار، دخان النيران يتسرب من جسد جارك المعتقل، إنهم يذبحونه بالنار ويخنقونك بالدخان». يتنبأ أحد الرفاق بطول أمد القضاء فيقول: «سوف يطول نومنا في سجن مصر العمومي» لكن معين لم يكن يراه سوى قدراً، فيقول: «والزنزانة هي حجرة نوم الفلسطيني».

894

| 19 أكتوبر 2023

كلمات بيضاء لحياة مفعمة بالألوان

كتاب يتّصف بأنه (مميز بالأصفر)، ويضم بين دفتيه تجميعا لاقتباسات وعظات وخواطر وحكايات، تعزف ألحاناً عذبة تتناغم وطاقة التفاؤل والحب والجمال والسعادة التي تحيا بها الحياة بأغلى ما فيها، أو بواقعها، ولا غرابة أن يصفه عنوانه الفرعي بأنه (مقرر مختصر في العيش بحكمة والاختيار بذكاء). إنه المقرر الذي يقرّ في مقدمته بـ «أهمية التصرف بلطف ‎وكرم وإحسان مع الآخرين، وتوطيد علاقات قوية راسخة مع الأشخاص الذين نحبهم، واختيار توجهات ذهنية تساعدنا أثناء عيش ساعات الحياة اليومية العادية، واكتشاف معنى الرضا والإشباع النابعين من تقدير المتع البسيطة والاستمتاع ‎بها». تعرض قائمة المحتويات ستة عناوين رئيسية تحدد أطر ذلك المقرر الذي اعتمده الكتاب من وجهة نظر مؤلفيه التنمويين، وهي: (الإحسان / الكرم / المتع البسيطة / التوجه الذهني / الزواج / الأبوة). وفي هذه المراجعة عرض لشذرات من مأثور القول بالاعتماد على الطبعة الأولى الصادرة منه عام 2018 من مكتبة جرير، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر). ويعتقد البروفيسور (صامويل هولدنسون) أن صعوبة الشعور بالسكينة في حضرة شخص فاقد للطمأنينة، و»عدم القدرة على التمتع بهدوء البال عندما يكون أحد الجيران محملاً بالهموم» هو ببساطة تعريف لمعنى (الإحسان). فيقترح الكتاب - وهو يعني بهذا المفهوم النبيل - أن تبعث لشخص فقير تعرفه ورقة نقدية بقيمة عشرين دولاراً سراً دون أن تفصح عن نفسك، وذلك كترجمة عملية للإحسان في الحياة. ومن جانب حياتي آخر، يظهر الحب وكأن له يدين تساعدان المحتاج، وقدمين تسعيان نحو الفقير، وعينين تبصران العوز، و»أذنين يسمع بهما تنهدات المكروبين».. هكذا يتحدث القديس (سانت أوجاستين) في مفهوم (الكرم) الذي يأتي الحب كشكل من أشكاله. وفي (صنيع معروف عشوائي)، يسرد الكتاب قصة دارت أحداثها عام 1891 والتي لم تنتهِ بالبساطة التي بدأت بها، حيث يقصد فندق (بيلفو هوتيل) في ليلة مطيرة «زوجان عجوزان يحتميان من عاصفة في منتصف الليل» عندما كانت جميع فنادق ولاية فيلادلفيا ممتلئة بالنزلاء، في حين «لم تكن هناك غرفة شاغرة للإيجار في أي مكان». يستقبلهما موظف شاب تأخذه الشفقة ويتعاطف مع ظرفيهما، فيعرض عليهما «السرير الوحيد المتاح.. سريره الخاص». يرفض الزوجان بينما يصرّ الشاب العطوف، فيقبلان أخيراً.. وقبل مغادرتهما في الصباح يشكرانه على اهتمامه غير العادي، ويخاطبه العجوز قائلاً: «أنت الشخص الذي ينبغي أن يكون مدير أفضل فنادق الولايات المتحدة. ربما أبني لك في يوم من الأيام فندقاً تديره أنت». يضحك الثلاثة ثم يفترقون، وينسى الموظف الشاب الموقف «ولكن العجوز لم ينسه». وبعد عامين «تم إنشاء مبنى هائل شبيه بالقلعة في نيويورك سيتي، وكان صاحبه هو العجوز الذي تأثر بموظف فندق فيلادلفيا رحيم القلب. وكان هذا هو الوقت المناسب لدعوة الشاب لرؤية الفندق الهائل الذي ينتظره». ‎ يصل ويصطحبه العجوز نحوه قائلاً: «(هذا هو الفندق الذي بنيته لتديره أنت). وأثناء وقوفهما عند زاوية الشارع بجوار الفندق الذي سرعان ما سيصبح فندق والدورف أستوريا هوتيل صاحب الشهرة العالمية، تم تعيين الموظف الشاب جورج بولدت أول مدير للفندق. وعلى مدار السنوات الثلاث والعشرين التالية، وحتى وفاته عام 1916، ظل بولدت مخلصاً للفندق وللثقة التي أولاها إياه ‎ويليام والدورف أستو». والكتاب وهو يقتبس قول الرئيس الأمريكي (ابراهام لنكولن) في توصية كلا الوالدين بقيادة السيارة بالطريقة التي يريدان أن يقود بها أبناؤهما، تأخذ وصيته منحى مجازيا كما المعنى المباشر فيه، إذ يقول موضحاً: «هناك وسيلة واحدة لتنشئة طفلك بحيث يتخذ الطريق الذي ينبغي أن يسير فيه، وتلك الوسيلة هي أن تسير أنت نفسك في هذا الطريق».. فالقيادة بذوق وتوخٍ وحذر تضمن السلامة وتضمن الوصول إلى الوجهة المبتغاة، وكذلك هو السير على طريق الخير والحب والفضيلة، لا ينتهي إلا بها. وعندما ينصح الكتاب - وهو يستمر في حديثه عن (الأبوة) - بعدم الخلط بين النجاح والثروة، يستعين برأي الرئيس الأمريكي (تيودور روزفلت) الذي كان يعتقد أنه لا يوجد أي إنجاز في الحياة سواء كان التحاقا بجامعة أو إصدار كتاب أو تحصيل ثروة أو تقلّد منصب رئيس البلاد «يضاهي نجاح رجل أو امرأة يمكنهما الشعور بأنهما أديا واجبهما، ويكبر أولادهما وأحفادهما ويدعوان لهما بالرحمة». والكتاب وهو يذكّر بالموارد الثلاثة المتاحة لكل فرد والتي تلعب دوراً مؤثراً في حياته «الحب والدعاء والصفح»، لا يُصبح أجمل من قول اللاعب (كاري ويستنجسون) الذي وكَّل أمره لله بكرة وعشياً، وهو يقول: «في الليل، أسلّم كل أموري لله، فهو الذي لا ينام أبداً». ومع تلك الدفقة الإيجابية نحو الحياة، لم يأت من فراغ وصف الكتاب لكلماته بمجرد كلمات تُنطق أو منشورات للتداول أو رسائل للاستهلاك الصباحي، بل «‎إنها كلمات تجلب الهدوء، كلمات تجلب الشفاء، كلمات تقدم التشجيع وتحث على التغيير وتكافئ على الجهد».

1977

| 12 أكتوبر 2023

التأثير الإعلامي.. فلسفة وواقع ملموس

ليس للتأثير الإعلامي المطلوب أن يُستوفى بتوليفة من مادة وشاشة وشخص يتناولهما كما قد يعتقد الكثيرون استسهالاً، إنما هو تأثير يتحقق بمنطق يدرس أبنية الكلمات، وفلسفة تستحث مهارات مراقبة الواقع وتحليله، ومنهج يستدل بالمعلومة وفق معطيات مسبقة. كان هذا المفهوم العبقري مادة الورشة التدريبية التي نظمها مركز قطر للصحافة الأسبوع الماضي، بالتعاون مع المؤسسة القطرية للإعلام، وبحضور كريم من أصحاب الاختصاص، وبتقديم فذّ من الخبير الإعلامي والمستشار الإستراتيجي د. عبد الله جودت، والذي له باع طويل في تقديم الخدمات الاستشارية والدورات التدريبية وإدارة المؤسسات الإعلامية، فضلاً عن مشاركاته في المؤتمرات والملتقيات العربية والإقليمية، وقد حصد في هذا العديد من الجوائز العالمية.. وهو الذي استهل حديثه بتعريف عام للإعلام كـ «محاولة إحداث أثر». فمع الإسهام الفعّال من المشاركين الذين أثروا مادة الورشة، سواء عن طريق طرح الآراء والمشاركة في الاستبيانات الإلكترونية والتعاون في إنجاز بعض التمارين العملية، إضافة إلى الألغاز التي كان (يستفز) بها المحاضر المَلَكة المنطقية لعقولهم في نهاية كل يوم.. فقد جاءت مادة الورشة ثرية بما يكفي لتعزيز فلسفة التأثير الإعلامي، وللاطلاع على أنواعه ومجالاته ونظرياته وأدوات قياسه وإستراتيجيات تعظيمه. فعلى مدى الأيام الأربعة، تم عرض المفاهيم الأساسية للتأثير الإعلامي من خلال (سباعية الاتصال)، وهي: (المرسل) هويته ومبادئه وأهدافه وصورته الذهنية لدى المستقبل. (المستقبل) خصائصه واحتياجاته واهتماماته ونظرته للمرسل وتوقعاته منه. (المضمون) مدى تميّزه عمّا سواه وتوافقه والأهداف المرسومة. (الوسيلة) تناسبها وهوية المرسل وقدرتها على حمل رسالته. (التشويش) مسبباته كفئة الخصوم أو الأصدقاء، وكيفيته تقنياً كان أو لغوياً أو عضوياً أو نفسياً. (التغذية الراجعة) مصدرها كعينة ممثلة للجمهور المستهدف، أدواتها من وسائل دقيقة وتقنيات موثوقة، طرق تحليلها بموضوعية أو بانطباعات شخصية، فحصها بعمق أم بسطحية، ومدى الحرص على تحديثها. أخيراً (التأثير) وهو (رأس السنام). قادت تلك السباعية لفهم أعمق للتأثير الذي جاء في التعريف التقليدي كـ «مجموعة التغيرات التي تحدث لدى الأفراد والمجموعات والمؤسسات والأنظمة والظروف الاجتماعية أو المادية أو السياسية، خلال مدة زمنية معينة». أما عن أنواعه، وبينما قسّمه ابن القيّم إلى أربعة في كتابه الفوائد من حيث مدة بقائه وسرعة حدوثه، كان أجودها (سريع الحصول/بطيء الزوال)، فقد قسّمه آخرون إلى: سطحي وعميق، مباشر وضمني، ومدى تأثير المخرجات وتأثير العوائد. وعن مجالاته، فقد تشعبّت إلى: تأثير معرفي، تأثير في القيم والقناعات، تأثير في الاتجاهات والانطباعات، تأثير في السلوك. وعند الحديث عن نظرياته، فقد مثّلت نظرية (الرصاصة القاتلة) الحملات الدعائية المكثفة، وجاءت نظرية (التأثير التراكمي) تتوخى العائد على المدى الطويل، بينما نظرية (الغرس الثقافي) تتدرج وتراقب، مع غيرها من النظريات. أما عن وسائل قياسه، فتنوعت، مثل: الاستبيانات، إطلاق الوسوم، الحوارات المفتوحة، الاستعانة بالمؤثرين، دراسات الرأي العام. غير أنه من أجل تعميقه، لابد من الخوض في مراحل تبدأ بالتخطيط العام يتبعه المرحلي يليه الإنتاج وما يلزمه من ترويج والحرص على انتشاره وتحقيق التفاعل والتأثير، وتنتهي بمرحلة التقويم والتطوير. ختاماً أقول: لا يخلو التأثير الإيجابي المرجو في كل نواحي الحياة من نية صادقة، فإنما هو نتاج لقول صادق أو عمل متقن، كما وصفه الخليفة علي بن أبي طالب فيما يُنسب له: «الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان».. أو إنه هو الإخلاص الذي جاء معناه ضمناً في قوله ﷺ «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه».

1119

| 09 أكتوبر 2023

أبعاد وجدانية للآلام الجسدية 2 - 2

نواصل الحديث حول كتاب «الألم النفسي والعضوي» لمؤلفه د. عادل صادق، إذ يستمر المؤلف وهو يكشف جانباً من الإنسان يحرص على إخفائه، فقد يكبر أحدهم ويتعلم وينضج ويوصف بالمتزن والعاقل، غير أنه في لحظة ضعف إنساني واحدة كخوف أو وحدة أو تعب أو تهديد، يفزع الطفل في داخله فيصرخ منادياً على من يحب: «كن بجانبي وابعث الدفء في وحدتي».. ألم داخلي يمتزج بألم خارجي! أيهما الأصل وأيهما الصورة يا ترى؟ لكنه يبدو من ناحية أخرى ألماً ضرورياً، حيث يأتي الألم أحياناً ليحمي الإنسان بشكل ما .. إنه حقاً ضروري كالأكسجين! فعند موت إنسان عزيز لا بد وأن تكون معاناة الألم عند شريكه أقوى من معاناة الفقد، وإلا فقد عقله، فمن غير الأكسجين تموت خلاياه ومن غير الألم تموت نفسه. لكل منا عزيز يقوى ارتباطه به ليصبح كرباط الجسد، ويصبح موته كفقد جزء من هذا الجسد. يقول د. صادق: «إنه شكل من أشكال التوحّد التي لا غنى للإنسان عنها في رحلة حياته .. وإلا مات الإنسان». يتوقع المؤلف أن حياة بعض المرضى ستضطرب لو أن عقاراً سحرياً شفاهم كلية من أمراضهم التي عانوا منها سنيناً طوالا، حيث إن هذا الألم كان في حقيقة أمره (دعامة) وعامل استقرار لهم، فلما زال، زال الأمان، وأصاب حياتهم بالارتباك! يستطيع الجسد تحمّل آلاما جمّة، لكن النفس لا تستطيع حمل صراعات الهزيمة والفشل والموت، فيأتي الجسد ليحيط بالنفس كالمظلة. يقول د. صادق: «الجسد مظلة تحيط بالنفس .. مظلة تتلقى أشعة الشمس الحارقة فتكتوي بها وتمنعها عن النفس». وفي حديثه عن الاكتئاب، يعترف له أحد أساتذته بأن الاكتئاب يسبح في دمه، ويحيله ناراً يشعر بلسعها في جسده وفي ملابسه، تكاد أن تصيبه بالجنون. يقول د. صادق: «معظم الناس تنسى أنها ستموت»، ويستطرد ليقول: «المكتئبون يرحبون بالموت». لذا، عادة يشير المريض العضوي إلى ألمه، لكن لا يستطيع المريض النفسي فعل ذلك! إن مرضه أشد فتراه يشير إلى السماء. يشرح المؤلف حالة أم لم تجد ابنتها في نهاية يوم دراسي وهي تنتظرها كعادتها عند بوابة المدرسة، فصعدت الدماء إلى رأسها عندما نهشتها أوهاماً مخيفة كاختطاف ابنتها أو قتلها، ما أصابها بالصداع المزمن من وقتها، على الرغم من أنها وجدت ابنتها أمامها في لحظة أوهامها تلك! لا تزال تلك الأم تعتقد أنها مصابة بورم في المخ بسبب هذا الصداع المزمن. وفي حالة أخرى يصف المؤلف صاحبها قائلاً: «ينفجر رأسه بالصداع أو يشتعل بطنه بالأوجاع» .. إنه صاحب الشخصية القهرية، حيث إن القلق هو أهم حالة نفسية تصيب الإنسان بالصداع، وقد يتزامن بتزامن القلق في حياة الإنسان، وفي أسوأ الحالات يصيب حياته بالشلل .. فلا تفكير ولا تركيز ولا عمل. يقول د. صادق: «وفي حالة القلق المزمن يألف الإنسان الصداع بحكم العشرة وتمضي حياته والصداع في رأسه أو على رأسه». وعلى الرغم من أن أصحاب الشخصية القلقة ترعبهم فكرة الموت، إلا أنهم يعيشون زمناً أطول عن أصحاب الشخصيات الأخرى، وذلك حسب آخر (مفارقات) التقارير العلمية. ومن ناحية علمية كذلك، لم يُعرف حتى الآن سبباً قاطعاً للصداع النصفي، ويُعتبر الأذكياء والطموحين والمثقفين أكثر عرضة للإصابة به، وعندما يصيب الصداع الرأس، تتأثر الأوعية الدموية والأغشية والعضلات ماعدا المخ! عجباً له، فهو كالسيد، يصدر عنه الألم لكنه لا يشعر به. واستكمالاً لأنماط أخرى من الشخصيات، فإن الشخصية الهستيرية تقيم مجزرة ضد دبوس لا يرى بالعين المجردة قد اقترب منها عن غير قصد وأحدث جرحاً بريئاً، كما أن الويل والثبور قد يطول كل من حضر الحادثة الشنعاء ولم يبدِ تعاطفاً. تتأثر هذه الشخصية بالإيحاء، كما أن الافتقار إلى التحليل الموضوعي هو أحد سماتها، وهي شخصية تستمر بالصراخ حتى بعد انقضاء الألم. بعد كل هذا، يؤكد المؤلف أن عذاب الإنسان في حقيقته مركّب، فيبدأ بنقطة باهتة تنتهي إلى جبل شاهق، وهو يستمر يخلق لنفسه سلسلة من عذاب تلو عذاب يلفها بيديه حول عنقه، في حين يتصارع مع ذاته ومع رغباته التي قد تتعارض مع الدين والعرف، فتُكبت تلقائياً في اللاشعور. غير أن للنفس أفاعيل أخرى، حيث ترتسم «كلمة الحب» على وجه المحبين تلقائياً، وعنها يقول د. صادق متعجّباً: «وما زال العلم عاجزاً عن تفسير ذلك النور الذي يملأ الوجه حين يشعر الإنسان بالحب والسلام والطمأنينة». يختم د. عادل صادق حديثه عن الإنسان وهو يقطع طريقه بين الرجاء في الحياة وبين الموت المحتّم، فما الموت إلا (رحمة) في أحيان لا يُرتجى سواه، فيقول بيقين المؤمن: «وقد يجيء الموت في لحظة يتصاعد فيها الألم إلى أقصاه .. وفي ذلك رحمة، لأنه مع هذا الألم الشديد تهون الحياة ولا يشعر بالأسف لمغادرتها فقد كانت كلها حتى لحظاتها الأخيرة معه مصدراً لكل ألم». وما الألم سوى (نعمة) يُعطي الإنسان -بعد أن يبرأ منه- دفقة جديدة للحياة وبمفهوم آخر عنها، فهي تستحق العيش مهما كان .. «إنه الرضى الذي يملأ النفس سروراً فيجعل للألم مذاقاً مقبولاً». إنه إذاً قول حكيم عن الألم .. ألم وإن كان يُفسّر علمياً كإنذار لخلل بيولوجي أصاب أحد أنسجة الجسم، فإنه يعطي للحياة معنى .. وأي معنى؟!

795

| 05 أكتوبر 2023

أبعاد وجدانية للآلام الجسدية 1 - 2

هل يمكن للألم العضوي أن يُستثار فيتضاعف، أو يُهمل فيخبت؟ إن هذا التفاعل المتناقض ليس سوى انفعالاً وجدانياً مصدره (العقل) وحده، يصبّ في حقيقة (الألم) كمعنى، أو معنى خاص يتشكل بصورة أو بأخرى لدى كل إنسان، حسب الشخصية أو الموقف أو التوقيت أو الاستعداد، وحسب عوامل أخرى في قائمة لا تنتهي! من خلال هذا المعنى، يعرض المؤلف رأيه العلمي في لغة عذبة مستخدماً أسلوب السهل الممتنع رغم مادة الكتاب العلمية، والتي تفرض على القارئ قدر عالٍ من التصالح النفسي والسلام الداخلي. غير أن الكتاب لا يصلح للقارئ «الموسوس» الذي قد تلحق به علّة ما من حيث لا يحتسب تعود لهواجسه وحسب، والتي بطبيعتها تحيل كل مرض عضوي لسبب نفسي، ظاهر أو خفي!. أما المؤلف، فهو د. عادل صادق (1943: 2004)، تعلّم وتخرج في كلية الطب عام 1966 نزولاً على رغبة والده، رغم ميله نحو الأدب والفن الموسيقى. حصل على درجة الدكتوراه في الأمراض العصبية والنفسية عام 1973، وعمل أستاذاً للطب النفسي والأعصاب بكلية طب عين شمس. شغل مناصب أخرى منها رئيس تحرير مجلة الجديد في الطب النفسي، وأمين عام اتحاد الأطباء النفسيين العرب، وافتتح عام 2000 مستشفى يحمل اسمه لعلاج الإدمان والأمراض النفسية لا تزال تمتد شهرته على مستوى الشرق الأوسط. عُرف بالنبوغ منذ صغره وبدماثة الأخلاق وإخلاصه للعمل وسعيه الحثيث نحو رفع وعي المجتمع بالمرض النفسي وسبل علاجه، وذلك من خلال مؤلفاته وأبحاثه التي تجاوزت الثلاثين إصدار، والتي أهلّته عام 1990 للحصول على جائزة الدولة في تبسيط العلوم. يعالج المؤلف من خلال كتابه القصير (الألم النفسي والعضوي) سبعة مواضيع رئيسية. فيبدأ في الفصل الأول -وبشيء من فلسفة- بالحديث إجمالاً عن الألم، كإحساس وكانفعال وكعقاب للذات وكوخز للضمير وكبديل للصراع وكتعبير عن العدوان وعن الحب، لينتقل في الفصل الثاني للحديث عن الأمراض النفسية وارتباطها بالألم، كالقلق والهستيريا والفصام والاكتئاب والتوهم المرضي، في حين يعرض في الفصل الثالث أنماط الشخصيات من منظور علاقتها بالألم، كالشخصية القهرية والشخصية الهستيرية والشخصية القلقة. أما الفصل الرابع فيوضح فيه ماهية الأمراض النفسجسمية متطرقاً إلى الآلام المصاحبة لها، كالصداع والروماتيزم وآلام الوجه وآلام أسفل الظهر، بينما يخص الفصل الخامس للمرأة وللحديث عن آلامها كأنثى وكأم، وعن آلامها المرتبطة بطفلها تحديداً وقد أسماها بـ (المحيّرة). وقبل الختام، يُفرد المؤلف الفصل السادس لطرق العلاج، ومن ثم يختم حديثه في الفصل السابع عن معنى الحياة، وكيف أن الحياة بلا ألم إنما هي حياة بلا معنى. أو بمفردة واحدة هي (الموت). تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 2015 عن دار الصحوة للنشر والتوزيع، وتستلهم من كنوز المؤلف المعرفية ما يبعث على الأمل، وتقتبس منها نزراً يسيراً بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي: المخ مركز الإحساس بالألم، وبدونه لا شعور للألم. وكأنه سيد الأعضاء! على الرغم من أن المخ لو قُطع بسكين لما شعر الإنسان بشيء، «ومن العجيب أن نعرف بعد ذلك أن المخ هو الذي يدرك الألم الصادر عن أي مكان في الجسم». ومن العجيب كذلك أن يتم إدراك الألم في عضو ما دونما أي استثارة لنهاياته العصبية، فقد يسمع إنسان ما صوت جرس دون وجود جرس حقيقي، كما يستشعر مريض ما ألماً في رجله رغم بترها. إذاً، إن للعقل دورا حيويا عندما يتدخل ليجعل من الألم (عملية وجدانية). إما أن يستشعر الألم ويضخمه، أو أن يستبدله بشيء من الرضا والمرح، وكل هذا يعتمد في الأساس على استعداد الإنسان وانفعالاته وتوقعاته وتاريخه مع الألم. عليه، لا بد أن يتعاطف الإنسان مع ألمه، فينحاز أو يميل، إذ أن حيادية المشاعر تعني التبلد. تعني الموت، ولا يصاب بهذه الحيادية إلا المريض العقلي. إن المسار الحقيقي للألم يبدأ من العقل وينتهي في الجسد. من الوجدان إلى العضو، إما حقيقة أو وهماً. وقد تكثر الأوهام وقد يتمسك بها المريض طالما أنها تحقق له منفعة ما، وقد نكون فعلاً نحتاج لآلامنا! من هذه الحقيقة يرى المؤلف أن الألم يرتبط وبقوة بالحب، فقد يحتاج إنسان ما لحظة موته إلى الحب، فيبث عقله ألماً إلى جسده فوراً، فينادي على من يحب ليحصل على آخر جرعة حب. الألم هو النداء، وهو استعادة لخبرة حب أو لحظة حب أو موقف حب. وقد يموت شريك عمره أو رفيقه العزيز، فتزوره آلام في نفس الأعضاء التي تألم منها شريكه، كنوع من التعبير عن الأسى!.

1701

| 28 سبتمبر 2023

العنصرية كاستعداد فطري وخلق مكتسب.. ووسائل مواجهتها

كتاب يتناول العنصرية كظاهرة شهد عليها المجتمع الإنساني منذ القدم، والتي لا تزال جاثمة بثُقلها فوق جسد الألفية الثالثة رغم الجهود الحثيثة التي تم بذلها حتى الآن من أجل تجاوزها إلى مرحلة ما بعد العنصرية! يبحث هذا الكتاب في أصل العنصرية كاستعداد فطري يولد بولادة الإنسان، وكخُلُق مكتسب يُفعّله التدخل البشري وتؤسس له ثقافات الشعوب المختلفة باختلاف مذاهبها ومشاربها، وذلك من خلال عرضه الكثير من التجارب والدراسات والأبحاث التي تناولت هذه الظاهرة. لذا، يسعى الكتاب في طرحه نحو إيجاد أكثر الحلول جدية وعملية في نبذ العنصرية، إذ أن اعتماد منهجية (عمى الألوان) وحسب لا يكفي للتغاضي عن لون البشرة المتفاوت بتفاوت الأعراق وراثياً وجغرافياً، بل تكمن الموضوعية في المشاهدة المباشرة وصدق الإقرار بدرجاتها، ومن ثم التعامل مع أصحابها على أسس طبيعة لا تعكس أي تمايز أو أفضلية لعرق على آخر. ينقسم الكتاب الذي حمل سؤالاً مباشراً لعموم البشر (هل نولد عنصريين؟) إلى ثلاثة أقسام رئيسية، يندرج تحت كل منها مجموعة من المقالات بقلم عدد من الكتّاب والأساتذة والأطباء الحاصلين على درجة الدكتوراة في مجالاتهم العلمية، وقد جاء عنوانه الفرعي معبّراً في (اضاءات جديدة من علم الأعصاب وعلم النفس الإيجابي). فبينما يلقي القسم الأول الضوء على ما أسماه بـ (سيكولوجية جديدة للعنصرية)، ويحاول القسم الثاني (التغلّب على التحيز)، ينتهي القسم الثالث بالدعوة إلى (تقوية مجتمعنا متعدد الأعراق). وعن مراجعة الكتاب، فتعتمد على طبعته الأولى الصادرة عام 2020 عن (منشورات تكوين للنشر والتوزيع)، والذي عنيت المترجمة المصرية (جهاد الشبيني) بترجمته بحِرَفية من نصّه الأصلي، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): توضّح مقدمة القسم الثاني في الحديث عن تقنية عمى الألوان، بأن الإحساس بالعرق من عدمه ليس هو جذر التحيّز العنصري في حقيقته، إنما كيفية الإحساس تجاهه، حيث إن اتخاذ لون الجلد كمعيار للمفاضلة العرقية ومن ثم الوسم بالدونية هو أمر «مشروط اجتماعياً»، بينما معاينة لون الجلد كما هو، هو أمر «محتّم إدراكياً».. وبين التوجهين فرق جوهري! ليس هدف الإنسانية الواقعي ممارسة التعمية عن تلك الاختلافات الطبيعية بين أعراق الجنس البشري، بل في التواؤم مع الطريقة التي تستجيب فيها الأدمغة تجاهها، وإدراك الأسباب المؤدية إلى توجيه تلك الاستجابة على النحو المطلوب. أما في موضوع (العقل المساواتي)، ومن خلال مشاركة عدد من الأفراد في تجربة تتعلق بالتحيز العرقي، تخلص عالمة نفس في أن ردود الأفعال المتحيزة التي تصدر تلقائياً من مشاركين صُنّفوا كأقل تحيّزاً، تعمل فيما بعد على تنبيه المستثيرات العنصرية لديهم، بحيث تتسم ردود أفعالهم في تجارب أخرى بحرص أكبر درجة، إذ أن «المساواتية مهارة». ومن الممكن جداً أن يطوّر الأفراد سلوكياتهم من خلال تعلّم طرق استجابة غير متحيّزة نحو المواقف المختلفة، كما ينبغي تحفيز جهود قوية تستهدف تنظيم السلوك مستقبلاً بعد أي تجربة تنتهي بالفشل في التصرف من غير تحيّز. فتضرب مثلاً قائلة: «لنقل مثلاً أنك مازحت زميلك بدعابة جاءت عنصرية دون قصد: «مرحباً، أفضل دائماً أن يكون معي في فريق كرة السلة رجل أسود». بعدها، ينتابك شعور بالذنب ـ وهو مرتبط بالعمليات العصبية التي تساعدك مستقبلاً على التفكير مرتين قبل التحدث. وبالنسبة إلى من يشعرون بقلق إزاء النوازع العنصرية غير الواعية، تقدم هذه القدرة على التعلم من أخطائنا سبباً للتفاؤل». ومن خلال الحديث عن المجتمع الصحي في موضوع (العنصري غير الصحي)، يبدو أن الاضطرار للتصرف بأسلوب غير عنصري يشكّل عامل ضغط يُضاف إلى ما يتعرّض له الإنسان من ضغوط نفسية في حياته اليومية! بيد أن العلاج الفعّال يتطلّب تغييراً ذاتياً بادئ ذي بدء. إذ أن «إضمار العنصرية في مجتمع متعدد الثقافات يتسبب في ضغط يومي، الضغط الذي يمكن أن يؤدي إلى مشكلات مزمنة مثل السرطان وارتفاع ضغط الدم وسكري النوع الثاني. وعلى الرغم من أن التفاعلات بين الأعراق المختلفة ليست أمراً ضاغطاً في طبيعته، فإن الأشخاص الأقل تحيزاً يظهرون استجابات فسيولوجية مختلفة اختلافاً ملحوظاً عند التعامل مع أعراق أخرى. وفي هذه الدراسات الثلاث، كان الأشخاص الذين يحملون توجهات إيجابية تجاه غيرهم من المنتمين إلى أعراق أخرى يستجيبون بطرق سعيدة وصحية ومتكيفة عند التعامل مع أعراق مختلفة». ختاماً، قد يتفق الكثيرون مع الرأي القائل بصعوبة التحكّم في الاستجابات الإدراكية التي تصاحب الوهلة الأولى في التعامل مع أي فرد.. الوهلة التي باتت تتطلّب -في التو واللحظة- تمحيص المعتقدات والأعراف والافتراضات الكامنة عميقاً في النفس البشرية والتي غُذّي بها الإنسان وعليها نشأ وكبر واعتاد.. غير أن الأمر يستحق كما لا يستحق أي شيء آخر انتهاج أسلوب نوعي في التفكير والسلوك، والذي من شأنه أن يعمل على خلق بيئة أكثر تعايشاً وأكثر إنسانية، تسع كل البشر.

1158

| 23 سبتمبر 2023

«ما قل ودل» كمنهج نحو الكتابة الإبداعية

كتاب يعرض فيه كاتبه جملة من الخواطر تحيط بأجواء الكتابة، اعتمد فيها لغة فلسفية تسبر جوهر الكاتب، وفعل الكتابة، والكلمات، وما بين السطور! ففي استهلاله، يفترض أن كل ما تم التعارف عليه عن «كيفية عمل الكتابة» ليس إلا «تصورات خاطئة» بل «وضارة أيضاً»، حيث يعتقد أن معظم الناس يظنون أن ثمة «طرائق خفية غير منظورة» تتم من خلالها عملية الكتابة! بيد أن الأمور التي تعرض لهم في أدمغتهم دون التيقن من مصدرها وكيفية حدوثها، تكون محل ثقة كبرى لديهم.. ما يدلّ على وجود إشكالية كبرى حول مفهومي «الإبداع والعبقرية». ومع هذه الفرضية، يؤكد الكاتب أن ما تلقّاه عن الكتابة - كغيره من الكتّاب - تم أصلاً عن طريق «التجربة والخطأ»، فقد كان عليه أولاً اجتياز حدود التلقين الأكاديمي الذي لم يكن مجدياً في الأساس، ومن ثم تعلّم أسس الكتابة الصحيحة شيئاً فشيئاً.. وكل ذلك تحصّل عن طريق حب اللغة، وعمر طويل أمضاه في القراءة، «وأتت البقية من سنوات من الكتابة وتدريس الكتابة». ومع هذا اليقين، والحق الذي أعطاه لنفسه في نبذ ما تعلّمه سابقاً وتعليم نفسه بنفسه مجدداً، يعطي القارئ نفس الحق ويدعوه لفحص كتابه هذا، وأن يقرر بنفسه ما يصلح له وأن يتجاهل ما دونه، فليس كتابه مقدّساً ولا يضم مبادئ ملزمة، بل إنه يحرّضه على مخالفته ومقارعته بالحجة. فمن خلال كتابه (بضع جمل قصيرة عن الكتابة)، يعرض الكاتب والأكاديمي الأمريكي (فيرلين كلينكنبورغ) عددا من الجمل القصيرة عن الكتابة، تأتي بمثابة إرشادات مبدئية، تهتم بتوضيح الفكرة التي تعتمل في المخيلة، وإيجاد أسلوب متفرّد في الكتابة، وتعنى باكتشاف «ماذا يعني أن تكتب؟». وعن مراجعته، فتعتمد على طبعته الأولى الصادرة عام 2018 عن (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع)، والذي عني بترجمته من لغته الأصلية القاص والشاعر والمترجم الليبي (مأمون الزائدي)، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): يعتقد الكاتب أنه «من السهل أن تقول ما تود قوله في جملة قصيرة».. كنهج واضح في الكتابة. فعلى الرغم من التلقين الذي تلّقاه الكتّاب في السابق عن (طفولية) الجمل القصيرة، وأنها «مجرد خطوة أولى نحو كتابة جمل أطول»، إلا أنها «ببساطة تقول قطعتها وتترك المسرح». أما عن ظرف الكتابة، فيجب التعلّم بأن للكتابة أن تتم في أي مكان وأي زمان وتحت أي ظرف، إذ إن «كل ما تحتاجه حقاً هو رأسك». لذا، يعتقد الكاتب أن ما يتصوّره الكتّاب حول طقوس الكتابة وأجوائها، مثل: كوخ وسط غابة، هدوء تام، حبر خاص، قلم مفضّل، ضوء قمر، عاصفة رعدية، شاي أخضر، مائدة وكراسي ووسائد.....، إنما هي عوائق تعرقل غرض الكتابة في حد ذاتها. غير أن الاستعجال في إتمام الكتابة، والانتهاء من حظوة الأفكار الآخذة في التدفق - وكأن لا نهاية لها - يولّد شيئا من العصبية، رغم أن الاسترسال في حبل الأفكار قد يقود إلى التفكير من زوايا معينة تقود إلى بدايات جديدة، «فإن من شأن ذلك أن يجعل قطعة مختلفة تأتي إلى حيز الوجود».. فلا خوف إذاً من اتّباع طريقتين لتناول موضوع ما، ولا يجب الاعتقاد بنهج بعينه، ولا بأس من الانقطاع عن الكتابة أثناء الكتابة. ثم يتحدث الكاتب عن (إغواء القارئ) الذي تم التعارف على تزامنه مع الكلمة الأولى والتي لا بد أن تأتي مثيرة.. كاعتقاد خاطئ. فيقول: «ورغم ذلك، ما زلنا نعتقد أن الموضوع هو كل شيء! نحن نعتقد أن الكاتب هو قصته، وأن سلطته تعتمد إلى حد ما على ما حدث في حياته! يضج الناس لسرد قصصهم في الكلمات، وهذا لا يجعل منهم كتّاباً، ولا يجعل قصصهم ذات أهمية. إذا كنت أنت هو قصتك، فمن أين ستحصل على أخرى؟ إذا فهمت كيفية بناء الصمت والصبر والوضوح في نثرك، ‎كيفية بناء الجمل التي هي رشيقة وإيقاعية ودقيقة ‎ومليئة بالتصورات، ‎يمكنك حينها الكتابة عن أي شيء، حتى نفسك». ثم يأتي الكاتب ببعض الاقتباسات من منشورات مختلفة، كأمثلة تطبيقية للنقد، فيعمد إلى تحليل الإشكالية في النص، وتصحيحها على طريقته. يقتبس منها: ‎»المرأة في الثانية والعشرين، جلدها لوحته الشمس مثل الذي لزوجين ‎متقاعدين من ولاية فلوريدا».. فيعقّب ناقداً بغرض التصحيح، قائلاً: «‎يا لها من امرأة غريبة! أن يكون لها جلد زوجين متقاعدين من فلوريدا في حوزتها. كيف يمكن لجلدها الذي لوحته الشمس أن يشبه ذلك الذي للزوجين؟ لماذا تقارن مع شخصين؟». ختاماً أقول: نعم، قد يكون ملهماً أن يتساءل أحدنا عن خاطرة لاحت له لوهلة ما، إذ لا تكمن الجاذبية فيما لاح فجأة، بل في كيفية وصوله إلى الفكر والاهتمام.. من مكان لآخر.. من تيار متدفق للأفكار إلى توقف مفاجئ.. فتحلو الملاحظة لبرهة ثم لتمضي بعد ذلك.. وقد استعان الكاتب بهذه التقنية في حياته، إضافة إلى كتابة جُمله القصيرة عن الكتابة.

1302

| 14 سبتمبر 2023

العودة إلى أندلس الماضي.. لاستشراف مستقبل أكثر تعايشاً «2-2»

نواصل الحديث حول كتاب «العودة إلى أندلس الماضي» لمؤلفه خوليو رييس (المجريطي). فبينما يفرد الكاتب الفصل الثاني (الأندلس والحضارة العربية: ماض مشترك) للحديث عن أثر الحضارة الإسلامية في الأندلس والتي مهَّدت لقيام نهضة أوروبية شاملة في كافة الميادين، يشير في الفصل الثالث (رسالة النبي محمد: القرآن ومبادئ الإسلام)، بإجلال إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويسرد رحلته الشاقة في الدعوة وما عاناه مع قومه الذين كذَّبوه. وهو يتحدث عن الوحي الإلهي وأول لقاء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم مع جبرائيل عليه السلام، ودعوته بـ «اقرأ». ويقول: «أعلن محمد صلى الله عليه وسلم أن مهمته هي إبلاغ الناس القرآن أو الوحي الإلهي. ويمكن تعريف القرآن على أنه (تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)». ويتطرق إلى ما احتوى عليه القرآن الكريم من مواعظ وتعاليم وحكم وأخلاق في كافة نواحي الحياة، ويستفيض عن كل ركن من أركان الإسلام مع شرح مختصر للمذاهب السنية، ويُشير إلى الإمام القرطبي بـ «كاتبنا العظيم للأحاديث». كما يتطرق إلى شعراء العرب، وقصص التراث العربي، والنوابغ من علماء الأندلس، كما يتحدث عن أثر الحديث والفقه في التراث الإسباني. أما في الفصل الرابع (الأندلس والفتح، وخلافة قرطبة، وممالك الطوائف، والغزوات الإسلامية، ومملكة غرناطة) فيتحدث الكاتب عن الفتح العربي- الإسلامي للأندلس ووضعها إبان هذا الفتح، وما تعاقب على حكمها من أمراء وخلفاء مسلمين، ثم استقلالها فيما بعد عن الإمبراطورية الإسلامية في المشرق، معرّجاً على ملوك الطوائف ودولة المرابطين ومن بعدها دولة الموّحدين، انتهاءً بدولة بني الأحمر التي تداعت على إثرها بلاد الأندلس عقب سقوط مملكة غرناطة آخر معاقل المسلمين عام 1492م. يقول عن الحضارة التي أسسها المسلمون: «في هذا الإقليم تشكلت حضارة أشعت بضوئها على الغرب والشرق لكونها منطقة التقاء وتقابل ثقافي وبشري، نسيتها أوروبا، لكنها بقيت دائماً في الذكرى الخالدة للعالم الإسلامي». ثم ينتقل إلى الفصل الخامس (إسبانيا الإسلامية: التراث الأندلسي)، ليذكّر كيف كانت اللغة العربية في الأندلس مرادفاً للعلم والذوق الرفيع، ومحط إقبال جميع أطياف المجتمع لتعلمها والتحدث بها، دون اللاتينية. وهو بهذا يؤكد على أثر اللغة العربية في اللغة الإسبانية كما يظهر في خمسة آلاف كلمة عربية متداولة فيها، والتأثير العربي في كل ما هو إسباني. فيقول: «ظلت هذه الحضارة باقية في إسبانيا لمدة ثمانية قرون. ورغم أن حرب الاسترداد بدأت من المراكز المسيحية فقد تعايشوا مع المسلمين لفترة طويلة في وقت كانت فيه العادات والتقاليد والفنون واللغة الموجودة في إسبانيا المسيحية غير أصيلة، وكان لها جذور مسلمة». لذلك، وتماشياً مع هدف الكتاب الذي أصرّ عليه الكاتب، يطالب بإدخال اللغة العربية في مناهج التعليم، والدين الإسلامي كمصدر للقانون. يفسح الكاتب المجال في الفصل السادس (الأدب العربي: مقدمة، الأدب الجاهلي والأدب الإسلامي: القرآن، والأدب العربي، والانحدار والنهضة) ليأتي على الأدب العربي، ابتداءً من عصر الجاهلية وحتى خروج المسلمين من الأندلس أواخر القرن الخامس عشر. وعندما ينتقل إلى الفصل السابع (القانون في الإسلام: مصادر القانون الإسلامي والعلوم الشرعية في القانون الإسلامي، التراث الإسلامي في العلوم التشريعية الإسبانية)، يتناول الشريعة الإسلامية من حيث مصادرها ومدى تأثيرهـا في القانون الإسباني، ويتطرّق إلى «قوانين مسلمي الأندلس» التي استمر العمل بها في القضاء الأندلسي حتى نهاية الوجود الإسلامي في شبه جزيرة أيبيريا. أما في الفصل الثامن (إسبانيا حلقة الوصول بين الشرق والغرب) فيدعو بلاده إسبانيا للاستيقاظ من السبات الذي بدأ مع سقوط غرناطة، لتسترد هويتها، وتلعب دورها المحوري المتمثل في التعدد الثقافي الذي يحظى بها تاريخها، لا سيما أمام التراجع الأخلاقي الذي يستشري في الغرب، وضرورة إعادة التوازن الروحي والأخلاقي والذي لن يتكفل به بحق سوى دين الإسلام. يظهر المجريطي في الفصل التاسع (التحكيم الدولي: حلول سلمية للصراعات الناتجة عـن التقاء كلا العالمين، الجهاز التحكيمي، عناصر تشريعية دولية، المنهج التحكيمي والنصاب القانوني في الاتفاقيات) وهو يناضل عن دول العالم الإسلامي، ويطالب العالم الغربي بعدم التدخل السياسي والاجتماعي فيها، مسلّطاً الضوء وبقوة على القضية الفلسطينية ومطالباً الغرب بإيقاف التدخل العسكري لصالح إسرائيل. يعرض عدداً من الحلول السياسية والقانونية لإنصاف المسلمين والتعايش بسلام بين الشرق والغرب، فيطالب بـ: «الاعتراف الضمني بالإسلام ديناً حقيقياً يقف على قدم المساواة مع المسيحية، مع الإلغاء النهائي لمصطلح كافر الذي يُستخدم في القانون الكنسي لتسمية المسلمين». وهو في حديثه عن هوية بلاده المزدوجة الشرقية- الغربية، يجعل له دوراً مستقبلياً في تحقيق التوافق والتكامل بين الحضارتين، من خلال (التحكيم الدولي لحل المنازعات) الذي نادى به. ينبّه في الفصل العاشر (الروابط التاريخية بين الشرق والغرب: أصول السلوك أجل تحقيق التوافق والاندماج والمودة في علاقة الشرق بالغرب) على ضرورة التعايش في خضم الحملات المفتعلة حول الإسلام، وذلك بالتركيز على التاريخ المشترك بين الغرب والشرق لا سيما ما يظهر في تاريخ الفتح الإسلامي للأندلس أوائل القرن الثامن، والحملات الصليبية نحو الشرق، والتاريخ العثماني- الأوروبي، حيث يرى أن لبلاده الدور المستقبلي الفاعل في تحقيق التكامل بينهما. ورغم موضوعية الكتاب، فهو لا يخلو من شجن! لذا تجدني أختم ببيت من نونية أبي البقاء الرّندي التي نظمها في رثاء الأندلس بعد سقوط آخر معاقلها: (أعندكم نبأ منْ أهلِ أندلسٍ.. فقدْ سرى بحديثِ القومِ ركُبانُ). وعندما زرت إقليم أندلوسيا، شاهدت التاريخ ماثلاً وعلمت بالنبأ.. وليس الخبر كالعيان!

612

| 07 سبتمبر 2023

العودة إلى أندلس الماضي.. لاستشراف مستقبل أكثر تعايشاً «1-2»

كتاب يلّفه الإبهار.. وهو يجمع في شمولية بين التاريخ والدين والحضارة والسياسة والقانون، عمد فيه الكاتب نحو سبر ماضي وطنه الإسباني الذي ترعرع في ظل الخلافة الإسلامية، ليقوده مستبصراً إلى الحاضر بتحدياته المحلية والدولية، ومن ثم استشراف المستقبل في رؤية أكثر تعايشاً. ومما يعزز من قيمته، التمجيد الذي حظيت به الحضارة الإسلامية في الأندلس بقلم الكاتب غير المسلم، وهو يدين لها بالفضل الكبير لما هي عليه إسبانيا الحالية، الأمر الذي أضفى على الكتاب روح المصداقية والحيادية والإنصاف. ومما يمعن في هذه الروح التوقيت الذي وضع فيه الكاتب كتابه هذا، حين كان الإسلام يواجه هجمات مغرضة في دعاوى إرهاب وتخلّف، حيث تصدى لها منكراً، وموضحاً وجهة النظر الأخرى. وعلى الرغم من تخصص الكاتب في علم القانون، إلا أن له عددا من المؤلفات في التاريخ الأندلسي، وكانت لفتة كريمة منه أن يتلقب بـ «المجريطي» نسبة إلى «مجريط» الاسم العربي لمدينة (مدريد) فترة الحكم الإسلامي (91- 795 هـ /‏‏ 711- 1492م). لذا، ينجح الكاتب (خوليو رييس روبيو) في توجيه كتابه (الأندلس: بحثاً عن الهوية الغائبة) إلى أصحاب الفكر الموضوعي، ويدعو من يهوى العودة إلى الماضي، لا للبكاء على الأطلال، بل للاستبصار ولاستقراء التاريخ وإنصاف ذوي الحقوق. فيحاول الاستفادة من الماضي بما يحوي من عبر ودروس، ابتداءً من الاعتراف بالفضل وردّه لأصحابه، ثم إسقاط الدروس المستخلصة على الحاضر. لذلك، يطالب بسنّ القوانين والعمل على تحقيق مستقبل واعد في إطار تحالف مشترك، وذلك من خلال الدور المحوري لبلده إسبانيا الذي يدعوه إلى تفعيله رسمياً. تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2014، عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، والتي جاءت مباشرة عن لغته الأصلية. ومن محاور الكتاب الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل)، أسرد في مقتطفات ما جاء في فصول الكتاب العشر، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): يتطرق المجريطي ابتداءً إلى الخلفية التاريخية التي شكلّت إسبانيا الحالية. فعلى الرغم من العلاقات الوطيدة التي جمعت بين إسبانيا في الماضي، بحكم موقعها الجغرافي، وبين شعوب الأمم المختلفة كالفينيقيين واليونانيين والقرطاجيين والونداليين والجرمانيين، إلا أنها لم تترك أثراً كما فعل الغزو الروماني والفتح الإسلامي.. أثراً لا يُمحى عن هويتها. فبينما ورثت إسبانيا عن روما اللغة اللاتينية ونُظم أدبية وفنية ودينية وقانونية وسياسية، فقد انصهرت في ثقافة إسلامية موحَّدة على اتساعها من الهند شرقاً حتى الشمال الأفريقي غرباً. يقول الكاتب معقّباً على هذا الأثر: «لقد شكَّل هذا التراث الثقافي لكلتا الحضارتين جزءاً من هويتنا المزدوجة»، وهي الهوية التي جاء الكتاب للبحث عنها. وعلى الرغم من أن السيطرة العربية آنذاك كانت سمحة مقارنة بالسيطرة الرومانية، إلا أن التعصب الديني الذي أجج أواره الصليبيون في العصور الوسطى جعل كل فضل أداه المسلمون في إسبانيا ولمدة ثمانية قرون يُنسى وبإجحاف متعمد! يُكمل المجريطي وهو لا يزال يشير إلى الهدف من وضع الكتاب: «وبمجرد طرد آخر الممالك الإسلامية من إسبانيا بعد سقوط غرناطة، بقي أثر لا يمحى لهذه الحضارة المميـزة من خلال المظاهر الفنية والأدبية واللغوية والثقافية التي ورثناها عنهم». لذلك «فعلى إسبانيا أن تستيقظ من هذه الفترة الطويلة من السبات، التي امتدت منذ 1492م حتى وقتنا هذا، وأن تستعيد هـذه الهوية الغائبة. عبر سلسلة مـن الإجراءات، يجب أن تعود إسبانيا إلى المصير الذي منحه الله لها دون أن تتنازل عن كينونتها ولا عن المسؤولية المنسوبة إليها، وذلك لثروتها متعـددة الثقافات، فعليها أن تكون الحكم والوسيط للتفاهم بين الشرق والغرب». يوضح الكاتب أنه اعتمد في طرح الفكر العقائدي الإسلامي على جهود الشيخ أبو الأعلى المودودي في تفسير القرآن الكريم وتحليل نصوصه، بموضوعية واحترام كبيرين لتعاليمه وللتقاليد الإسلامية، منحّياً في ذلك أي رأي أو شعور خاص. وهو في هذا لا يستبعد إثارة الجدل بين طبقات المجتمع الإسباني على اعتبار أن عمله هذا ما هو إلا انحرافاً إذا تم تناوله بعيداً عن الموضوعية، أو اعتباره بمثابة فتح إسلامي جديد. يتحدث الكاتب في الفصل الأول الذي جاء كمقدمة عن الظروف التي كانت تسود شبه الجزيرة الإيبيرية والتي مهّدت للفتح الإسلامي، وتحديداً الحروب الأهلية التي دارت رحاها في المجتمع القوطي في ظل تفاوت طبقي مرير بين طبقة النبلاء وطبقة العبيد، الظروف التي لم تخف على المسلمين في الجانب المقابل للساحل الأندلسي ودفعتهم من ثم إلى شنّ هجوم عسكري عام 710م بقيادة القائدين موسى بن نصير وطارق بن زياد. ويذكر تاريخ شبه الجزيرة الإيبيرية قبائل (الوندال) التي احتلتها لفترة لم تدم طويلاً بعد طردهم من قبل القوط، وهي القبائل التي اشتق العرب منها اسم (الأندلس).

792

| 31 أغسطس 2023

في أروقة الأدب وأحوال القلوب ودروب الحياة

في هذا الكتاب القصير الذي ضمّنه الكاتب مجموعة مقالات تبعثرت في أدراج مكتبه المقفل حتى حين، يجده القارئ وقد تنقّل بين أروقة الأدب العربي وهو يسرح مع نسائم الحب المحلّقة بأصحابها، ويطرق في مسيره العذب هذا أبواباً من الواقع المرّ لم يكن من مرّه بد! تتوقف تلك المقالات بين نبضات الكاتب، ليجود فيها من بعض خواطره، قد يجدها القارئ - وبشيء من العجب - تُشبه خواطره. يقول في ثنايا الكتاب: «لا تسألوا عقل الكاتب عن جفاف أفكاره، فما تقرؤونه ليست حروفاً ذات مدة صلاحية! هي أجزاء من قلبه قررت الذوبان، وما زالت تسيل قطرة قطرة». يحمل الكتاب عنوانا رهيفا لمقالة ضمن مقالاته.. فبعد معسول الكلام عن العشق وأهله وأحوالهم، يخلص الكاتب إلى المغزى، فيحثّ الكلام على أن يكون كـ (حديث العصافير).. فهي تتحدث طوال الوقت، لكن لكل حرف تنطقه معنى، وللحديث هدف، ولبدايته ونهايته حدود معلومة. وقد صدق الكاتب فيما اعتنق فوضع كتابه، وجاء اختيار العنوان - من ضمن المقالات المعنونة فيه - موفقاً، وهو يُهديه إلى المنكسرة قلوبهم في الأرض.. أولئك الذين آثروا الصمت وقد كُسرت أحلامهم!. يقدّم الكاتب نفسه في مقدمته ليتحدث مع القارئ «صديق الهواية المشتركة»، حيث يعتقد أن كل قارئ لا بد وأن يحمل في داخله «أديب صغير».. وليكبر، عليه أن يتمرّس على الانفتاح في المخاطبة والحوار، ويغوص صامتاً في أعماقه، ليستنبط مما يقرأ حديثا آخر. وعن الكاتب نفسه، فهو كويتي امتهن الرياضيات وهوى الأدب، فجاد بأحاديث يرويها في كتابه الأول (حديث العصافير). لذا، تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى الصادرة منه عام 2017 عن دار دريم بوك للنشر والتوزيع، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): في موضوع (أنانية البشر)، يطلق الإنسان لشطحاته العنان في تصوّر نعيمه وحده في الجنة، بين الأنهار والفواكه والطيور والنمارق والقصور، بينما زيارة الأخلاء والتسامر مع الأصحاب وإقامة محافل شكر النعم، لا نصيب لها في تلك الشطحات! أهي أنانية متأصلة كما يرى الكاتب؟ أم أن كلا من أولئك قد علم مسبقاً بما سيشترك به والآخرون من نعيم فلا يجد داعي لذكره؟ أم أنه اكتفى بمخالطتهم في الدنيا، فلا مكان لهم عنده في الآخرة؟ ينعى الكاتب نفسه والقوم وهو يتساءل في مقالة (كيف سقطت الأندلس؟)، إلا أنه يمتنع عن الاستزادة في نبش التاريخ وفتق الجروح، فهموم اليوم تكفي للطم الجيوب وسمل العيون.. وهو في مقالة (حضارات) وبقدر ما يثير من الإعجاب بحضارات متغايرة على كوكب نسكنه، بقدر ما يثير من الشجن على حضارة عربية- إسلامية، شعت لتنطفئ.. ولعلها تعود!. وهنا، يتطرق الكاتب إلى حوار دار بينه وبين جمع من العرب في جلسة خاصة، تباهى فيها فرعون مصري.. على بابلي حتى النخاع.. على شامي أموي.. على بربري أفريقي.. على آخر حضرمي أصّل للعرب أجمعين...، وقد استعانوا به ليكون حكماً منصفاً في الحديث عن تلك الحضارات الراقية، التي عملت على تأسيس قواعد حضارية ضخمة شيدت فوقها أمجاد الأمم القائمة حالياً، وقد اعتبر نفسه مزيجاً من تلك الحضارات التي تشرّبها منذ الصغر، فقال: «ليس مهماً أن تكون من بلد سادت حضارته الأفق! فالحضارة العثمانية في تركيا والتي امتدت إلى العراق طيلة أربعة قرون كانت في وقتها تمثّل أمل الشعوب الطامحة إلى مستقبل أفضل، ولكن ضعفت شوكتها، وكثرة الرشاوى والفساد أدى إلى انهيار تلك الحضارة الرائعة! ولن أنكر أن بلاد الشام كانت في فترة ما قبلة المسلمين إبان العصر الأموي، وكانت فتوحات المسلمين حينها تنذر بأن الإسلام سيقف على قمة هرم الشعوب لوقت طويل». وعلى ما يبدو، لم يرق حكم الكاتب للقوم كما أوضح في خاتمة مقاله، فتولوا عنه مدبرين يديرون أحاديثهم بعيداً عنه، ولسان كل واحد منهم يغني على ليلاه قائلاً: «يصطفلوا / بصرهم / ما يشوفون شر / بكيفهم عيني / في ستين داهية / لا فزيت». وفي متفرّقات، يومض قلب الكاتب في ومضة (جرأة) ليفرّق فيها بين قول الحق وبين وقاحة المقال، إذ يقول: «الجرأة لا تعني أن تكون وقحاً، بل أن تكون منصفاً، وأن تقولها بصوت عال».. وفي ومضة (معلمتي الوردة) التي بدت مكتفية بذاتها ومتصالحة مع الطبيعة، يقول: «يعجبني في الوردة كثير من الصفات.. فهي صامتة، والصمت أبلغ من الكلام أحياناً.. شامخة، لا تخفض هامتها لأيّ كان.. جميلة، تعجب كل من رآها.. ملونة، تسرق الأنظار وتبهر العقول.. مليكة الغنج، تتمايل مع نسائم الهواء بدلال.. راقية، لا تهتم بمن حولها لتكون ذات جاذبية.. ألا يكفي أن النحل يصنع العسل من رحيقها؟». أخيراً أقول: إنه كتاب يرقّ معه الحديث.. فتستمر العصافير بأحاديثها، ولنستمر نحن بالإنصات لها.. ومن ثم التبصّر.

873

| 24 أغسطس 2023

alsharq
السفر في منتصف العام الدراسي... قرار عائلي أم مخاطرة تعليمية

في منتصف العام الدراسي، تأتي الإجازات القصيرة كاستراحة...

1926

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
الانتماء والولاء للوطن

في هذا اليوم المجيد من أيام الوطن، الثامن...

1131

| 22 ديسمبر 2025

alsharq
الملاعب تشتعل عربياً

تستضيف المملكة المغربية نهائيات كأس الأمم الإفريقية في...

1056

| 26 ديسمبر 2025

alsharq
بكم تحلو.. وبتوجهاتكم تزدهر.. وبتوجيهاتكم تنتصر

-قطر نظمت فأبدعت.. واستضافت فأبهرت - «كأس العرب»...

810

| 25 ديسمبر 2025

alsharq
محكمة الاستثمار تنتصر للعدالة بمواجهة الشروط الجاهزة

أرست محكمة الاستثمار والتجارة مبدأ جديدا بشأن العدالة...

798

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
التاريخ منطلقٌ وليس مهجعًا

«فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف...

717

| 21 ديسمبر 2025

alsharq
لماذا قطر؟

لماذا تقاعست دول عربية وإسلامية عن إنجاز مثل...

663

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
مشــروع أمـــة تنهــض بــه دولــة

-قطر تضيء شعلة اللغة العربيةلتنير مستقبل الأجيال -معجم...

621

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
احتفالات باليوم الوطني القطري

انتهت الاحتفالات الرسمية باليوم الوطني بحفل عسكري رمزي...

549

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
معجم الدوحة التاريخي للغة العربية… مشروع لغوي قطري يضيء دروب اللغة والهوية

منذ القدم، شكّلت اللغة العربية روح الحضارة العربية...

522

| 26 ديسمبر 2025

alsharq
التحول الرقمي عامل رئيسي للتنمية والازدهار

في عالم اليوم، يعد التحول الرقمي أحد المحاور...

498

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
قمة جماهيرية منتظرة

حين تُذكر قمم الكرة القطرية، يتقدّم اسم العربي...

459

| 28 ديسمبر 2025

أخبار محلية