رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تبدو الخرطوم اليوم وكأنها تجلس على فوهة بركان قوامه تسوية سياسية معلبة ومعيبة تقوم على مشروع خارجي غير وطني لا ينفصل عن مشروع الفوضى "الخلاقة" المعلوم، الذي بدت ثورات الربيع العربي إحدى أهم آلياته، علم الثوار العرب بذلك أم لم يعلموا. فالحالمون سموه ربيعا والمتربصون وراء الكواليس جعلوه صيفا قائظا يأتي على الأخضر واليابس. اليوم في السودان تُستيقظ الفتن النائمة ويصبّ الزيت على نارها؛ فمن الفتن القبلية والعنصرية في النيل الأزرق مرورا بجنوب كردفان وانتهاءً بدارفور. ولعل الرافعة الأكبر للفوضى في البلاد تلكم الكتل الجهوية والقبلية التي انتظمت في مليشيات شديدة التسليح، وتدخل المعترك السياسي عطفا على قوتها وعتادها. العسكريون بشقيهم (الجيش القومي وقوات الدعم السريع) تنقصهم الدربة السياسية، وإن كان الجيش باعتباره مؤسسة قومية عريقة تعمل بشكل تلقائي على تجاوز هذه الاشكالية لكونها اشكالية ظرفية مرتبطة بالقادة الحاليين كأشخاص، إلا أن هذه الاشكالية بالنسبة لقوات الدعم السريع فتبدو اشكالية بنيوية ومتأصلة لأسباب متعلقة بنشأتها وبذهنية قائدها. فبالرغم من أن الرجل تحت سيطرته قوات ضاربة قوامها نحو 40 ألف مقاتل ومصادر دخل تدر أموالا طائلة لكنه لا يستطيع لعب دور سياسي احترافي، فهو كما ينظر له من الخارج مثل صاحب شركة أمنية كبرى كـ "بلاك ووتر" تقدم خدماتها الأمنية مقابل المال فمثلما قدم خدماته لنظام الرئيس عمر البشير مقابل تمكينه من مساحات واسعة تضم أغنى مناجم الذهب في البلاد، فقد قدم خدماته للاتحاد الأوروبي في مجال محاربة الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط وقبض ثمنها، وما زال يقدم الرجل خدماته في اليمن وسبق أن طلب منه تقديم خدمات في ليبيا لصالح الجنرال خليفة حفتر. ولعل قوات الدعم السريع لا يعتبرها الكثيرون قوات نظامية ولا هي في الحقيقة قوات غير نظامية فقد تم ضمها للجيش السوداني شكليا لكنها احتفظت باستقلاليتها وبطبيعتها غير النظامية حيث بقيت على إشكالاتها التكوينية من حيث الانتماء الجهوي لأفرادها ومن حيث التزامها العسكري وفقا لما هو متعارف عليه في الجيوش النظامية حول العالم. وقبل اسابيع ثار جدول بسبب تصريحات لنظار القبيلة التي ينتمي إليها قائد الدعم السريع، يقول فيها (ولدنا خط أحمر) محذرا من التعرض له، والصحيح أن الوطن خط أحمر وليس الشخصيات لأنها فانية ويبقى الوطن. ويعتقد بعض الأكاديميين أن الميليشيات تمثّل شكلًا خاصًا من أشكال العنف المنظم الذي يسعى إلى اكتساب الشرعية السياسية. ويقول البروفيسور بول ريكست أستاذ دراسات الأمن القومي في الكلية الحربية للجيش الأمريكي، أن الميليشيات تنظر إلى نفسها على أنها تحمي مجموعة سياسية أو عرقية أو قبلية أو دينية أو عائلية محددة من الأذى، بسبب الثغرات التي يعتقد أن الدولة غير قادرة أو غير راغبة في سدها. وتعمل الميليشيات، باعتبارها قوى لملء الفراغ، كأوصياء محليين يتدخلون لتوفير القوة السياسية أو السلامة العامة. وغير قوات الدعم السريع هناك عديد من المليشيات المسلحة تابعة لحركات التمرد السابقة في دارفور والنيل الأزرق، ليضاهي حال المليشيات في السودان حالها العراق وسوريا وليبيا واليمن. من جانب آخر، وفي اطار الصراع المفتعل بين المدنيين والعسكريين الذي ظهر بعيد اسقاط نظام الرئيس البشير ضغط المدنيون لإزاحة اثنين من الجنرالات من ذوي الخبرة السياسية والأمنية وهما رئيس اللجنة السياسية بالمجلس العسكري السابق ومدير الأمن الأسبق، فانكشف ظهر العسكريين سياسيا وأمنيا مما ساعد في تهيئة بيئة ملائمة للفوضى الأمنية والسياسية. وفي حادثة فض الاعتصام في القيادة العامة للجيش تواطأ الطرفان مدنيون وعسكريون فيها بعد اتفاقهما على استحواذ السلطة دون غيرهم. ويحاول التحالف المدني ابتزاز العسكر باعتبارهم هم من نفذ والتنفيذ دليل قوي على تورطهم. بينما سال لعاب المدنيون ساعة الفض سيلا عرما وبقيت عيونهم جاحظة تلقاء كراسي السلطة وقد انتهى دور الشباب الذين تظاهروا واعتصموا فكان لابد من فضهم بأي طريقة وبأي وسيلة دون ان يقال لهم سعيكم مشكور فقد كان المهرولون إلى السلطة في عجلة من أمرهم لإكمال مراسم الزواج السلطوي مع العسكريين. إن أحداث منطقة النيل الأزرق جنوبي شرق البلاد أكدت أن السودان يعيش السودان وضعا أمنيا وسياسيا مقلقا، فما إن ينتهي صراع قبلي فيه حتى ينشأ آخر في مكان ما من البلاد. وتعود جذور الصراع في إقليم النيل الأزرق إلى مئات السنين، لكن قبضة الدولة المركزية حالت دون انفلات الأوضاع. اليوم يعمل العسكريون وبعض من احزاب تحالف الحرية والتغيير على تسوية تستند إلى مسودة دستور مقدمة من اللجنة التسييرية لنقابة المحامين، ويصر البعض على أنها نسخة مترجمة لأصل أعدته سفارات أجنبية بعينها. في المقابل تعد قوى سياسية مستبعدة مناهضة هذه التسوية عبر الخروج في مسيرات احتجاجية وهي ذات الجموع التي خرجت من قبل وطالبت بطرد رئيس بعثة الأمم المتحدة فولكر بيتريس بسبب انحيازه لطرف بعينه وهو قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي. وتصف هذه القوى التسوية بأنها تسوية سياسية حكيت في الغرف المظلمة ومرتبطة بالاجندة الخارجية التي تريد اعادة صياغة الواقع السياسي وتجاهل القوى الحية ذات الوزن الشعبي والمعبرة عن الطيف السوداني الواسع. وتلوم هذه القوى قيادة الجيش الحالية لعدم ايفائها بالتزاماتها بعد قرارات 25 أكتوبر من العام الماضي والتي سميت بتصحيح المسار. حيث التزم قائد الجيش بالوقوف على مسافة واحدة من الجميع وضرورة اشراك جميع القوى السياسية في اتفاق حول الفترة الانتقالية. ستطالب جموع تظاهرات اليوم السبت الجيش بعدم تسليم البلاد لوكلاء الخارج المستهدفين لقيم المجتمع وهويته. وتسعى هذه التظاهرات ترسل رسالة قد تعيد التوازن للمسرح السياسي وترسم الصورة الحقيقية لتوجهات الرأي العام الرافض للتدخل الأجنبي والعازم على على إسقاط أي تسوية ثنائية لا تعير الاجندة الوطنية الاهتمام اللازم.
2064
| 29 أكتوبر 2022
وسط حالة أقرب للشغب أسقط البرلمان البريطاني (مجلس العموم) رئيسة الوزراء ليز تراس ومن قبلها في المدى القريب أسقط بشكل درامي كل من تريزا ماي، وبوريس جونسون، غير أن سقوط تراس كان الأكثر درامية نظرا لقصر مدتها في السلطة، إذ أعلنت استقالتها بعد 45 يوما فقط. ورغم أنها ومع تعالي الأصوات داخل حزبها حزب المحافظين الحاكم للتخلص منها بسبب تراجع شعبية الحزب إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ بريطانيا والاضطراب الذي تسببت به في سوق المال، إلا أنها أعلنت تحديها لهذه الأصوات تحت قبة البرلمان قبل وقت قصير من استسلامها إعلان استقالتها. لعل الصخب والشغب الذي يثور باستمرار في البرلمان البريطاني يذكر الكثيرين بمسرحية مدرسة المشاغبين الكوميدية التي عرضت في 1971. وهي بالمناسبة مقتبسة عن الفيلم البريطاني (إلى المعلم مع الحب). وحفلت المسرحية بسخرية لاذعة من رموز السلطة المدرسية التي تتمثل في ناظر المدرسة، بينما يُمعن أعضاء البرلمان البريطاني في السخرية من رئيس الوزراء إذا اظهر ضعفا في أدائه. ويقول المدافعون عن المسرحية أنها كانت انعكاساً لفترة انهارت فيها القيم التقليدية للمجتمع المصري والعربي بشكل عام، وهي فترة ما بعد النكسة وما بعد الانفتاح حيث تحولت قيم كثيرة مثارا للسخرية. ولعل بروز حالة السخرية في البرلمان البريطاني جاءت كذلك بعد فترة عصيبة مرت بها بريطانيا ولا زالت منذ مخاض خروجها من الاتحاد الأوروبي، مرورا بجائحة كورونا وانتهاءً بالحرب الحالية في أوكرانيا. في يونيو 2016 أعلن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون أنه سيقدم استقالته من منصبه بعد 3 أشهر بعد صدور نتيجة استفتاء بقاء البلاد في الاتحاد الأوروبي والتي أظهرت موافقة 51.9% لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي وقال إنه لن يشرف على عملية خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي وسيتركها لغيره. وفي ديسمبر 2018، قدم 48 نائباً محافظاً رسائل عدم الثقة ضد رئيسة الوزراء تريزا ماي لرئيس (لجنة 1922) مما استدعى إجراء تصويت بعدم الثقة في قيادتها للحزب. وصوّت 200 من أعضاء الحزب الذي تترأسه لصالحها، بينما صوت 117 نائيا من حزبها ضدها. فضلا عن أصوات نواب المعارضة. في سبتمبر الماضي أيضا أعلن رئيس الوزراء بوريس جونسون استقالته. وجاءت استقالة جونسون بعد أيام من الدراما السياسية والمعارك العلنية والخفية بينه وبين خصومه داخل حزبه، إلى أن وصل إلى اللحظة التي بقي فيها وحيدا في ساحة المعركة يواجه مصيره بمفرده، فكان أمامه خياران، إما الاستمرار في القتال وبالتالي يعزله الحزب خلال أيام قليلة أو إعلان استقالته من زعامة الحزب ليحافظ على البقية الباقية لديه من شعبية وطاقة للمعارك السياسية المقبلة. وجاءت استقالة جونسون، بعد أشهر من فضيحة انتهاكه لقواعد مكافحة وباء كورونا في المملكة المتحدة، والتي عرفت باسم "بارتي غيت" واستضافته حفلًا في مقر الحكومة بلندن، وخلف ذلك غضبا واسعا واتهامه بالكذب. كما واجه اتهامات بأساء استخدام مكتبه بمكافأة أصدقائه وعقد صفقات مع المتبرعين. بعد شهر ونصف من المكابدة والعنت في رئاسة الحكومة، أعلنت ليز تراس استقالتها، وقالت إنها كانت تظن أنها الشخصية المناسبة للمنصب، وأضافت أنها تولت المسؤولية، في وقت أزمة عالمية، وتراجع اقتصادي وعدم استقرار على المستوى الدولي. واعترفت أنها لن تتمكن من تنفيذ الوعود التي قدمتها عند انتخابها من قبل نواب الحزب، في البرلمان. إن التجربة المريرة لتراس تثبت أن السلطة بمعناها القيادي والسياسي لها مواصفات لا تتوفر عادة للمفكر أو المثقف أو الفني، وأعظم فليسوف قد يعجز عن إدارة قرية صغيرة. ويبدو أن التكامل بين السياسي وفريق من الخبراء والباحثين أمر مفقود حتى في أعرق الديمقراطيات. فالسياسي بالرغم من أن لديه الأسباب والظروف والمواهب التي تجعله زعيما، او قائدا، فإنه يحتاج لفريق لديه الاسباب والمواهب، لكي يفكر في الامور التي تعرض على طاولته، ويتأملها بعيدا عن ملاحقة الاحداث. وقديما، كانت مهمة القيادة أو الحكم أبسط مما هي عليه الآن. فقد كانت الدول قليلة ومعزولة نسبيا. لقد كانت الامور التي تتدخل فيها الدولة قليلة، قد لا تتعدى الدفاع عن البلد وصيانة الأمن وكفالة القانون فيه. ولكن، مع التقدم الهائل والسريع في كافة مجالات الحياة، صارت الأمور المطروحة على الحاكم كثيرة ومتشعبة ومعقدة لأبعد الحدود. فالسلطة السياسية لم يكن ممكنا لها أن تتخذ القرارات السليمة في كل المجالات، بسبب تشعبها وتعقدها، وحاجتها الى تخصـصـات كـثـيـرة، وخلفيات متنوعة. وقبل عقدين من الزمان أثيرت في المملكة المتحدة قضية علاقة الفكر والخبرة بالسياسة؛ فهناك من كان يتحدث عن قضية تناقص دور البرلمان، إذ أن كثيرا من الأمور العامة التي تعرض عليه معقدة لدرجة لا يستطيع النائب أن يحيط بها كلها تماما، في حين أن يأتي لمناقشة الموضوع المطروح مزودا بـآراء عـشـرات الخبراء، واحيانا مصحوبا بهم، الأمر الذي يجعل الغلبة في الاقناع غالبا للسلطة التنفيذية، والعكس قد يكون صحيحا كما في حالة تراس. وإلا فلن يبت طرفا في مسألة ما أو يحكم فيها إلا بالعموميات فقط. فلو أن أي رئيس الوزراء أحاط نفسه بخبراء من أعلى المستويات من الجامعات أو من الحياة العامة، كالكتاب الصحفيين ومؤلفي الكتب وذوي الافكار المتميزة، فقد يجعل الوزراء يفقدون الكثير من سلطاتهم لصالح رئيس الوزراء المزود بهؤلاء الخبراء، رغم انه ليست لهم صفة تمثيلية سياسية. في الولايات المتحدة ترصد ميزانية سنوية ضخمة لعضو الكونجرس، يكوّن بها جهازا فنيا مساعدا له، هم في الغالب من الخبراء المخضرمين والشباب، يعدون لـه الدراسات والمواقف المختلفة. والشباب من ذلك الفريق هم في الغالب سياسيون يبدأ كثير منهم حياته السياسية من ذلك المكان حياتهم السياسية. فحكومة الرئيس الشهير جون كنيدي كانوا يسمونها "حكومة هارفارد" لأن أغلب من أتى بهم من مستشارين ومساعدين كانوا من جامعة هارفارد.
870
| 22 أكتوبر 2022
ارتفعت سخونة المسرح السياسي السوداني نهاية الأسبوع المنصرم إلى درجة الغليان مع تسرب أنباء عن تسوية سياسية بين المكون العسكري ومجموعة الحرية والتغيير المجلس المركزي المعروفة اختصارا بـ "قحت1" بعد انشقاقها لمجموعتين متباينتي الرؤى السياسية. وفيما سربت قحت1 بعض المعلومات عن هذه التسوية التزم المكون العسكري الصمت حتى هذه اللحظة، وربما ذلك يفسر قلقه من ردود فعل بقية المكونات السياسية المعارضة بشدة لهذه التسوية التي جرت مفاوضاتها في الغرف المظلمة حسب وصفها، واستبعدت بقية المكونات التي شكلت الغالبية الغالبة. فضلا عن نكوص المكون العسكري عن تعهدات قطعها، منها الانسحاب من العمل السياسي وعدم تسليم السلطة إلا لحكومة توافقية عريضة لا تستثني أي قوى سياسية عدا حزب المؤتمر الوطني الذي حكم البلاد برئاسة الرئيس السابق عمر البشير. سريعا أعلنت نحو 24 مكونا من المكونات السياسية والنقابية والجهوية والقبلية رفضها لهذه التسوية التي وضعت المؤسسة العسكرية تحت نيران الاتهام بعدم الوقوف على مسافة واحدة من قطاعات الشعب السوداني. مع تكاثر الجدل السياسي وغلبة التسويف والتعنت والتمنع طوال الفترة التي أعقبت إجراءات الجيش قبل عام وذهاب حكومة عبد الله حمدوك، حيث لا تراضي ولا توافق بين الكتل السياسية، كان مؤملا أن يستخدم الجيش صلاحياته لفرض الاستقرار وتهيئة البلاد لانتخابات مستحقة، لا أن يخضع لطرف بعينه تسنده قوة خارجية إقليمية ودولية، تجد فيه أفضل من ينفذ أجندتها في الداخل السوداني. ويرى عسكريون أن تسوية مشبوهة كتلك ستفقد قيادة الجيش من تبقى من الجنرالات الذين تحملوا مسؤولية التغيير الذي أطاح بالرئيس السابق عمر البشير، ليبقى الجنرال عبد الفتاح البرهان وحيدا وهو الخاسر الاكبر ومعه قائد قوات الدعم السريع الجنرال محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي باعتبار أن هذه التسوية لو استمرت شهرا فانها قد لا تكمل الشهر الثاني لأنها ضد إرادة مجاميع وطنية مؤثرة وتمثل الأغلبية وكونها مفروضة من الخارج. فهذه التسوية تقف على سيقان مسودة دستور كتبته لجنة تسييرية لنقابة المحامين وذات توجهات سياسية بعينها، وذلك بدعم وتشجيع سفارات أجنبية لها تدخل معلوم في الشأن السوداني. غير أن التحكم الخارجي في التركيبة السياسية السودانية ظل عصيا على مر تاريخ البلاد. لقد تجاهل المكون العسكري حقيقة أن الحوار الداخلي لابد أن يكون دون اقصاء وذلك هو السبيل الوحيد للوصول إلى حل سياسي للازمة السودانية. وأن تجاوز هذه الحقيقة يعني إعادة إنتاج الازمة مما قد يتسبب في تهديد كيان الدولة السودانية وتماسك نسيجها الاجتماعي. صحيح أن الموضوعية تستوجب فصل القيم السياسية المطلقة عن حقائق الواقع النسبية في أية تسوية سياسية، إلا أنه يجب أن يستند تسلسل خطوات التسوية السياسية إلى تحليل مستمر لمدى وجود اتفاق سياسي كاف في كل مرحلة من مراحل العملية. كما يجب الاعتراف بضرورة وجود مراحل عدة للاتفاق وإعداد الدستور المؤقت قبل بلوغ المرحلة الدستورية النهائية. وفي الحالة الراهنة التي يصر طرفان دون الأطراف الأخرى على مسودة دستور بدا لقيطا سيكون من الصعب الحصول على مشاركة موسعة تضمن فترة انتقالية مستقرة وسلسة. إن تلك التسوية أغفلت ضرورة إيجاد توازن بين الحصول على دعم كاف من النخب السياسية دون اقصاء والعسكرية وبين ضمان قبول اجتماعي واسع. بيد أن الذي جرى تحت الأقبية بين العسكريين والقلة القليلة المعروفة اختصارا بـ "قحت1" والتي انشقت عنها قحت2، تنازلات متبادلة. والاشكالية أن تنازلات المكون العسكري تضمنت النكوص عن تعهدات لكامل الشعب السوداني وليس لـ "قحت1"، بينما تنازلات "قحت1" في اصلها مواقف سياسية متأرجحة وتخص مؤيديها. لقد تراجع البرهان عن بيان 4 يوليو الماضي بانسحاب الجيش من العملية السياسية وكذلك تعهده بعدم اقصاء أي مكون سياسي من الحوار والمشاركة في ترتيبات الفترة الانتقالية. أما تنازلات "قحت1" تمثلت في تراجعها عن شعار اسقاط الانقلاب واللاءات الثلاث (لا شراكة، لا تفاوض، لا مساومة) مع العسكر. فضلا عن رضوخها لقيام المجلس الأعلى للجيش بسلطات واسعة. ولعل النتيجة البارزة أن العسكر أصبحوا محور العملية السياسية ورب قائل أن هذا ما يطربهم، فـ "قحت" تفككت الى قحت1 وقحت2 واليوم الازمة تتعمق في قحت2 نفسها حيث عارض التسوية حزب البعث العربي. كما حزب المؤتمر الشعبي الذي ذكر انه ضمن هذه التسوية يشهد خلافات عميقة وصدر تصريح لأمين الثقافة والإعلام بالحزب ينفي مشاركة الحزب في التسوية. وركز الرافضون للتسوية في على أن التسوية ثنائية وتلقي بظلال سالبة على الوضع الدستوري لقومية الجيش وقيادته وضرورة وقوفه على مسافة واحدة من اطراف الازمة، ويقدح في مصداقية اعلانه الابتعاد عن العمل السياسي. كما أن مسودة دستور اللجنة التسييرية لنقابة المحامين لا يصلح لأن يكون اساسا لعملية سياسية ذات مصداقية ولن يقود إلى حكومة كفاءات وطنية ومستقلة، وأنه يمثل الجهة التي تبنته لا غير ولا يرتكز على اعلان سياسي صادر عن توافق معلن مما يجعله مقطوع النسب سياسيا وثوريا ويعيد تجربة الاقصاء، وهو في احسن الاحوال ورقة من بين أوراق عديدة. لكن قد يبرز سؤال حول ما هي التسوية التي يريدها العسكريون؟ فمع ملاحظة القلق الذي ينتاب العسكريين لاسيما البرهان والمتمثل في مستقبله السياسي فيما بعد الفترة الانتقالية والانتخابات، فإن التسوية المثالية للعسكريين هي تلك التي تضمن وتحدد مستقبلهم. فالسودان ليس ذلك البلد الذي يظل رئيسه السابق معززا ومكرما، محفود محشود لا عابس ولا مفند، فحتى الجنرال عوض ابنعوف الذي أعلن اسقاط البشير وتم الانقلاب عليه بعد 24 ساعة لجأ للقاهرة ولم يأمن حتى رفقاء السلاح على نفسه رغم أنه تنازل بدون مقاومة أو شوشرة. وليس مستقبل عسكر المرجو اليوم أن يكتفوا بالجلوس في بيوتهم مطمئنين بلا ملاحقات قضائية وإنما هو أين يكون موقعهم في هرم السلطة طالما مد الله في أعمارهم.
2442
| 15 أكتوبر 2022
الجدل المحتدم حول شرعية استفتاءات روسيا لضم مناطق لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون الأوكرانية، يكاد يسكن الفضاء الفاصل بين حدود المنطق والسيريالية. وفيما تقول كييف إنها مصممة على طرد الاحتلال الروسي من أراضيها التي ورثتها من الاتحاد السوفييتي السابق، ومن خلفها دول الغرب. تقول موسكو إن نتائج الاستفتاءات لصالح الانضمام لروسيا سبقتها استطلاعات للسكان تؤيد فكرة الانضمام. وأعلنت أن النتائج بلغت في دونيستك (99.2%)، في ولوغانسك (98.4%)، وفي زاباروجيا (93.1%)، وفي خيرسون (87.5%). وتشكل هذه المناطق مجتمعة نحو 20% من مساحة أوكرانيا). لقد نشأ مفهوم تقرير المصير تاريخيا مع موجة ثورات التحرر من الاستعمار الأوروبي. وفي عهود أسبق كان حق تقرير المصير ردة فعل مناهضة لمفهوم الحق الالهي أو السلطة السياسية غير المقيدة بالقانون، والذي قامت عليه انظمة الحكم في العصور الوسطي المسيحية في أوروبا أو عصور الظلام، حيث كان اقليم الدولة وسكانه يعدان ملكا خاصا للحاكم وذلك وفقا لنظام الاقطاع الذي ساد خلال تلك العصور. اليوم تجادل موسكو بأن حق تقرير المصير، هو أمرٌ معترفٌ به دوليا ومكفول بموجب العهود والقوانين الدولية، مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر سنة 1966، الذي ينص على "أن جميع الشعوب لها حق تقرير مصيرها بنفسها وهي حرة في تقرير مركزها السياسي وتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي". وتجادل كييف بأن روسيا احتلت أراضيها وأجرت استفتاءات قسرية تحت أسنة الرماح. خبراء السياسة يقولون إن تعريف مصطلح حق تقرير المصير من الناحية السياسية يشير إلى "حق كل شعب في حكم نفسه بنفسه واختيار نظامه السياسي ومستقبله اختيارا حرا علي ان يكون هذا الشعب مقيم في ارضه بصورة مستمرة". لو أن النظام القائم في أوكرانيا التزم الحياد ولم يستجب لتحريض الغرب وأعلن أنه ليست له حاجة للانضمام إلى حلف الناتو، لجنب أوكرانيا هذا التدمير البنيوي واقتطاع اجزاء منها لصالح روسيا من قبل أن تتأزم العلاقات مع موسكو، على اعتبار أن ذلك كان يشكل أهم الضمانات التي تطالب بها روسيا، ولما وقف العالم أجمع على حافة حرب عالمية نووية ثالثة. ومع حفلات الضم المثير للجدل ستجد روسيا أنها أمام واقع جديد مثقل بالأعباء في الأقاليم الأربع التي ضمتها إليها، من ذلك إعادة الإعمار وتأهيل البنى التحتية وقيل أن ذلك يتطلب نحو 35 مليار دولار لكل إقليم. ولربما تعول موسكو على استرجاع هذه الأموال وهي تعلم الأهمية الاقتصادية لهذه الأقاليم. يقال إنه خلال الحقبة السوفيتية تم انشاء صناعات ضخمة في لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون وهو ما شكل أساس اقتصاد أوكرانيا. وتعتبر خيرسون وحدها المورد الأساسي للحبوب ليس لأوكرانيا فحسب وإنما لكل أوروبا. بعيدا عن ما يجري في أوكرانيا يلح تساؤل عن تقرير المصير، من يمنحه ومن يستحقه؟. في القرنين الماضيين، ومن جانب واحد قررت الدول الاستعمارية بضربة لازب مصير الدول التي تستعمرها. لقد اقتسم المستعمرون الأوروبيون المستعمرات، وكأنها خالية من السكان وكأن لا تاريخ لها، ولا كيانات سياسية فيها، ولا علاقات تربط بين شعوبها. واقُتسمت قطعا مُستطيلة أو مُربعة، تفصل بينها حدود مُستقيمة أو بحيرة، أو مجرى نهر، أو سواه؛ ففرقوا شعوبها شذرا مذرا، وشرزموها أمما. ولما استقلت تلك المستعمرات، نشأت فيها عدة مشاكل تحتاج إلى معالجة دقيقة للعودة إلى الأصول، وللجمع بين الشعوب الممزقة على أسس تاريخها واثنيتها، وما لهذه الإثنية من عادات وتقاليد ومعتقدات، وما فيها من ثوابت اجتماعية وعرقية، وسياسية، ومثال ذلك وجود العرف فى ثلاث دول هى ارتريا واثيوبيا وجيبوتى. ومن ناحية أخرى وبسبب الصراعات التي زرعها المستعمر، أصبح حق تقرير المصير يرتبط كذلك بمطالب بعض الجماعات العرقية أو الدينية في الانفصال عن وطن الأم وتكوين دول جديدة. فإن كانت المطالبة بحق تقرير المصير لقيام دولة مستقلة، فليست كل الدولة التي قامت استنادا إلى تطبيق هذا الحق في السنوات الأخيرة تمتلك مقومات الدولة القابلة للاستمرار والنجاح. بل إن ظروفا سياسية إقليمية ودولية بما في ذلك موازين القوى العسكرية، فرضت قيام دول جديدة دون أن تنطبق عليها شروط حق تقرير المصير لا من الناحية القانونية ولا من الناحية السياسية. في العقدين الماضيين تعرضت 5 دول عربية لخطر التقسيم تحت حجج ومزاعم حق تقرير المصير، بل انشطر بعضها بشكل رسمي معترف به دوليا مثل جنوب السودان وآخر بدون اعتراف مثل الصحراء الغربية وجمهورية أرض الصومال. بينما كردستان العراق بدأت خطوات من جانب واحد لكنها لم تكتمل، أما كل من اليمن وليبيا فتنتظران دورهما. لعل السبب الرئيس والعامل المشترك في تلك الانشطارات كان ضعف الدولة المركزية ووهن سيطرتها على أراضيها، وليس السبب كان انطباق شروط تقرير المصير سواء من الناحية القانونية أو السياسية. فدولة مثل الصين لن تسمح بانفصال تايوان عنها. كما ليس من المتوقع أن يحصل الكاتلونيون على استقلال اقليمهم عن أسبانيا. ولن نسمع يوما بأن حق تقرير المصير قد منح لسكان أستراليا الأصليين أو الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية. ولا يصبح حق تقرير المصير بمرجعيته القانونية قابلا للتطبيق إلا لشعب يعيش على ارضه، ويشغلها بصورة مستمرة غير متقطعة كما ينطبق على الشعب الفلسطيني، ولا ينطبق على جماعات الشتات الاسرائيلية التي احتلت أرض فلسطين، ولم يستطع القانون الدولي إعادة الحق الفلسطيني المسلوب طالما ظلت اسرائيل كيانا جاء بإرادة القوى المستعمرة.
1422
| 01 أكتوبر 2022
تبدو منظمة الأمم المتحدة اليوم عاجزة أمام أكبر أزمة تواجه العالم في الوقت الحالي رغم قدرتها النظرية على التمام، وتتمثل أزمة اليوم في حرب أوكرانيا التي يمثل طرفاها أكبر قوتين عالميتين، روسيا من جانب والولايات المتحدة الأمريكية من جانب آخر من راء حجاب. الأمر الذي ينذر بمواجهة شاملة تستخدم فيها الأسلحة النووية. ولربما مثّل انهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991، المحطة المفصلية في تاريخ منظمة الأمم المتحدة عقب بدء عملها رسميًا في أكتوبر 1945، فقد برز بقوة مصطلح النظام العالمي الجديد والذي ارتبط بالمدلول الأيديولوجي للحكومة العالمية وسيادة عهد القطب الواحد. وغلفت النوايا المستبطنة للنظام العالمي الجديد بمجموعة قوانين واطر نظرية مخادعة، وهو وفقا لتلك الخدعة، نظام رشيد يضم العالم بأسره، ليس فيه انفصال أو انقطاع بين المصلحة الوطنية والمصالح الدولية وبين الداخل والخارج. سعيا للاستقرار والعدل للجميع، ويضمن حقوق الإنسان للأفراد. ما قبل النظام العالمي وما بعده شهدت اجتماعات أروقة المنظمة المختلفة احتجاجات على عملها من رؤساء بعض الدول وبطريقة ساخرة؛ وكان للقطب العالمي الثاني – الاتحاد السوفييتي آنذاك – نصيب من الاستخفاف بالأمم المتحدة؛ ففي حادثة شهيرة لرئيس وزراء الاتحاد السوفيتي نيكيتا خريتشوف، حين قام في العام 1960، بطرق طاولة الوفد السوفيتي بحذائه اعتراضًا على خطاب رئيس الوفد الفلبيني الذي كان قد انتقد السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي وتصرفاته في شرق أوروبا واصفًا إياها بالاستعمارية. كذلك كان للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي موقف احتجاجي حين خاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة لأول مرة في العام 2009، وكان اللحظة الدرامية عندما استصحب القذافي نسخة من ميثاق الأمم المتحدة، والذي قرأ منه بعض الفقرات، قبل أن يعمد إلى تمزيقه إربا إربا وإلقائه أمام القادة والرؤساء. وفي مرة وجه رئيس فنزويلا الراحل هوغو شافيز نقدا لاذعا للرئيس الأمريكي الأسبق في خطابه قائلا: "لقد جاء الشيطان إلى هنا أمس"، وأضاف: "رائحة الكبريت ما زالت موجودة إلى الآن، وأنا أقف أمامها"، وتلا ذلك بقراءة صلوات، بينما كان يمسك صليبًا، وذلك بحجة أنه يريد التخلص من الشيطان جورج بوش، منتقدًا سياسات الولايات المتحدة الخارجية. هناك بدون شك تناقضات فاضحة للمنظمة جعلت مدادا كثيرا يسيل داعيا لإصلاحها بدون جدوى. فمجلس الأمن على سبيل المثال يملك كما هو موضح في الفصل السابع المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة، القدرة على الحكم على قانونية حرب ما من عدمه، لكن لو أن دولة من عضويته التي تتمتع بالعضوية الدائمة للمجلس وحق نقض قراراته، طرفا في حرب فلا يستطيع المجلس اتخاذ قرار بعدم قانونية تلك الحرب إذ بامكانه نقض القرار بكل بساطة. قبل العام 1965، كان مجلس الأمن يتألف من 11 عضوا، ستة منهم غير دائمين، قبل توسيعه إلى 15 عضواً منهم 10 غير دائمين، بعد تعديل المادة 23 (1) من ميثاق الأمم المتحدة. وعلى الرغم من ذلك لا يزال نحو 60 دولة عضوا في الأمم المتحدة لم تجلس أبداً على مقعد غير دائم في مجلس الأمن، علما بأن الإجراءات التي يتخذها المجلس ملزمة لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وعند البت في مسألة ما إجرائيا، يتعين على تسعة أعضاء التصويت لصالح القرار لكي يتم اعتماده. فيما يتعلق بجميع المسائل الأخرى، يجب أن يصوت تسعة أعضاء لصالح القرار "بما في ذلك الأصوات المؤيدة من الأعضاء الدائمين." بمعنى أخر، يمكن للتصويت السلبي من جانب أي من الدول الخمس دائمة العضوية (الصين أو فرنسا أو الاتحاد الروسي أو المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة) أن يمنع اعتماد المجلس لأي مشروع قرار يتعلق بالمسائل الموضوعية. ولطالما هناك خلل بيّن ومعترف به يصعب توقع الانجاز ففاقد الشيء لا يعطيه؛ فمع نشوب الحرب في أوكرانيا لم يملك الأمين العام للأمم المتحدة غير أن يتمنى على أعضاء مجلس الأمن الدخول في مفاوضات جادة من أجل السلام على أساس مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. معربا عن أسفه بشدة إزاء الانقسامات التي منعت مجلس الأمن من التصرف ليس فقط بشأن أوكرانيا، ولكن بشأن التهديدات الأخرى للسلام والأمن في جميع أنحاء العالم. وعندما فشل المجلس في ذلك بحكم تركيبته وآلية عمله قرر في 27 فبراير الماضي الدعوة لعقد جلسة طارئة للجمعية العامة في قراره 2623 (2022)، آخذاً في الاعتبار أن عدم إجماع أعضائه الدائمين منعه من ممارسة مسؤوليته الأساسية في الحفاظ على السلام والأمن الدوليين. حديثنا هنا لا يتبنى موقف هذا الطرف أو ذاك، ولكن بيت القصيد في الاشارة إلى الاختلالات التي تعتري المنظومة الأممية؛ فبعد فشل مجلس الأمن السلطة الأعلى في هذه المنظومة اتخذت الجمعية العامة قرارا في جلستها الطارئة في الثاني من مارس 2022 استنكرت بموجبه "عدوان الاتحاد الروسي على أوكرانيا". لكن قرارات الجمعية العامة غير ملزمة، لا للدول الكبرى ولا للمستضعف منها. إذن فقرارات مجلس الأمن ملزمة لكن تستطيع أي دولة من الدول الخمس نقضها سواء لصالحها أو لصالح من تحب. في مسألة غزو العراق في 2003 نوقشت مشروعية غزو الولايات المتحدة الأمريكية له واحتلاله، وقال الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك: "لقد أوضحت أنها لا تتوافق مع ميثاق الأمم المتحدة. من وجهة نظرنا ومن وجهة نظر ميثاق الأمم المتحدة، كانت – الحرب - غير قانونية". معلنها صراحة أن الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق كانت غير قانونية. بل ان لجنة تحقيق بريطانية في حرب العراق، خلصت إلى أن إجراءات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قد قوضت سلطة الأمم المتحدة. المدهش أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رفض غزو العراق لكن لم يهرع لدعم الرئيس العراقي صدام حسين، بينما اليوم الولايات المتحدة ترفض غزو روسيا لأوكرانيا مع دعمي سخي عسكريا وإعلاميا واقتصاديا.
1827
| 24 سبتمبر 2022
رحلت الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا، ورحلت معها كاريزما فريدة، جمعت متناقضات شتى؛ صرامة مفرطة في شؤون الحكم مع قدرة كبيرة على الصمود في مواجهة الأزمات، بيد أنها في ذات الوقت امتلكت روحا لطيفة وأكنافا موطَّأة السّماح. هكذا تبدو الزعامة الناجحة عبر التاريخ الإنساني؛ لا صرامة فظة تفضُّ الناس وهم يجمحون، ولا لين وتساهل يحملُ الناس على الفوضى حملة واحدة. رحلت إليزابيث ولم تكن امرأة عابرة للزمان والمكان، بل صنعت تاريخا تقرأه الأجيال القادمة ثم غادرت في هدوء وصمت. ورغم قيادة هذه الملكة لأعتى الإمبراطوريات التي غابت عنها الشمس لاحقا، بقبضة حديدية، لكن ذلك لم ينقص من أنوثتها شيئا، فحب الزينة غريزة من غرائز المرأة فظلت تتزين بتاج قيمته نحو 25 مليار جنيه إسترليني وهو أغلى تاج في العالم من الناحية المادية والتاريخية. كما ظلت ترتدي بجانبه أغلى أنواع المجوهرات مثل ذلك الذي يحتوي على أندر الماسات الوردية في العالم، وبلغت قيمته نحو 25 مليون جنيه إسترليني. يقولون أو هكذا أرادت الملكة أن ينظر لها بأنها لا تتدخل في السياسة غير أن أقدامها كانت تغوص في السياسة حتى أخمصها لكن بدهاء ومهارة فائقة. بريطانيا ليس لها دستور مكتوب يلزم الملكة بنصوصه لكنها بدهائها السياسي لم تحتج يوما إلى خرق الأعراف والتقاليد التي تحكم البلاد، كما لم تستطع يوما أن تمرر ما تراه مناسبا من سياسة سواء عبر مجلس اللوردات أو مجلس العموم. كما أن ذكاءها الاجتماعي مكنها من أن تُلقي محبتها في قلوب عامة البريطانيين، فكانوا رهن إشارتها ليس رهبة وخوفا ولكن حبا وتقديرا. عبر التاريخ كان الخليفة معاوية بن أبي سفيان مثالا للدهاء والفطنة فجمع بين محبة الناس له ورهبتهم منه. وكان معاوية يقول أن دهاءه كان حرزاً له من أن يقع في ما يسوؤه. وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان واليا على دمشق وقد جاء ابن الخطاب دمشق زائراً، واستقبلهُ معاوية بموكبٍ مهيب، استاء بسببه الخليفة عمر بن الخطاب؛ لأنَّ ذلك ليس من مظاهر الحكم الإسلامي، وكان عمر شديدا يأخذ بقوة كل من يراه محالفا للدين، لكن معاوية أجابه بدهائهِ المعروف قائلاً: يا أمير المؤمنين استقبلتك بتلك الحال؛ لأنَّنا نجاور الروم، وأردتُ أن أُريهم مظاهر السلطان عندنا. فسكت الخليفة. وقيل أن معاوية صعد المنبر يوم الجمعة يخطب في الناس إماما فلما صعد المنبر أمام الناس في دمشق تذكر أنه ليس على وضوء فاحتار في أمره. أينزل عن المنبر ويكون حديث الناس، أم يكتم خبره ويحفظ ماء وجهه، ولكن يُسخط الله عليه. غير أن دهاءه أسعفه، فصاح قائلاً: يا غلام ائتني بوَضوء (أي إناء فيه ماء) لكي أعلّم الناس كيف كان يتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. اليوم وقد آل أمر ملك بريطانيا لأبن الملكة الراحلة الأكبر تشارلز، فإن الأنظار تتجه نحوه لترى كيف يحكم وقد قضى جلّ عمره متدربا على الحكم برعاية والدته إليزابيث. لقد ذُكر أنه خلال فترة ولايته للعهد كان أكثر مباشرة في التدخل في السياسة وقيل أنه كان في بعض الأحيان يبعث بخطابات للوزراء مبديا رأيه في شأن بعينه. وقد أعلن موقفه مؤخرا صراحة في سياسة رئيس الوزراء المستقيل بوريس جونسون القاضية بترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا، ورأى أن ذلك القرار خطأ وغير إنساني ولا يتناسب مع القيم البريطانية. ويرى المتابعون لشأن الأسرة الحاكمة أن تشارلز إن لم يرث كاريزما والدته لكنه قطعا لن يكون "متمردا" على التقاليد الملكية مثل والده الأمير فيليب الذي رحل العام الماضي. ومما يميز الملك الجديد دراسته لعلم الأنثروبولوجيا والأركيولوجيا والتاريخ في جامعة كامبريدج، وهو أول أفراد الأسرة الحاكمة الذي يحصل على شهادة جامعية مرموقة. ومعروف أن الأنثروبولوجيا هي علم دراسة كل جوانب ومناحي حياة الإنسان وكيف يعيش وكيف يفكر وكيف يتفاعل مع بيئتهم. أما الأركيولوجيا فهي فرع علم الإنسان الذي يركز على المجتمعات والثقافات البشرية الماضية وليس الحاضرة. فهذه الدراسة تعتبر قيمة مضافة لكل ما تعلمه من أمر الحكم. فضلا عن أنه استكمل خدمته العسكرية، وأصبح طيارا في سلاح الجو البريطاني، وخدم في الجيش واستمر في الخدمة 7 سنوات منذ العام 1969. ربما يستبشر المسلمون خيرا بتولي تشارلز العرش لما عرف عنه من آراء ايجابية تجاه الإسلام والمسلمين؛ فهو يتوفر على معلومات غزيرة حول الإسلام من بين أفراد العائلة الملكية وكثير من البريطانيين لاسيما النخبة السياسية. وقد كشفت علاقته مع مسلمي بريطانيا هذه الحقيقة. لقد جاءت إحدى أهم شهادات الملك تشارلز المنصفة للإسلام في محاضرة بمركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية عندما كان وليا للعهد في العام 1993، أكد فيها أن الإسلام يمكن أن يعلمنا طريقةً للتفاهم والعيش في العالم، فالإسلام يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، والدين والعلم، والعقل والمادة. وفي التالي، أصبح تشارلز الحاكم الأعلى للكنيسة في إنجلترا، وألقى خطاباً، شدد فيه على أهمية العلاقة بين الإسلام والغرب، وطالب بأن تتغلب أوروبا على انحيازها ضد الإسلام وعاداته وقوانينه، ودافع عن الإسلام باعتباره ديناً سماوياً، مؤكدا أن التطرف ليس من الدين الإسلامي وأنه لا يرتبط بالإسلام أكثر من ارتباطه بالديانات الأخرى، ومن بينها المسيحية. ومن أقواله حول الإسلام: "العالم الإسلامي هو القيِّم على واحد من أعظم كنوز الحكمة والمعرفة الروحية المتراكمة المتاحة للبشرية". وإبان الحملة الظالمة على المؤسسات الخيرية الاسلامية في بريطانيا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 كان تشارلز أول من تبرع لهذه المؤسسات لمنحها الحصانة والشرعية ضد تلك الهجمات التي لاحقتها.
2846
| 09 سبتمبر 2022
قامت العملية القهرية لتشكيل نقابة صحفية في السودان الأسبوع الماضي، على خطة رغائبية محددة باستخدام الدعاية لفرض أجندة سياسية وسط فوضى المشهد السياسي في البلاد. من نحو 6 آلاف صحفي سوداني مسجل تجمع نحو 600 صحفي وعقدوا انتخابات على عجل ودون أي مرجعية قانونية أو مؤسساتية، وانتخبوا نقيباً ومجلساً وسط دهشة وصمت الغالبية الغالبة. ذات الحاضنة السياسية التي احتضنت حكومات رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، هي ذاتها من يقف خلف هذا الجسم الصحفي الشائه. وزير الإعلام الأسبق في حكومة حمدوك الأولى تزعم لجنة الانتخابات معلنا رفضه التام لنداءات مسجل تنظيمات العمل بوقف هذه العملية لعدم شرعيتها ومخالفتها القوانين المنظمة والأعراف المعلومة. في ظل حكومة حمدوك استنكر الاتحاد الدولي للصحفيين بشدة حل الحكومة للاتحاد العام للصحفيين السودانيين، واحتلال قوات الأمن لمقره الرئيسي في الخرطوم، ومصادرة جميع أصوله وتجميد حساباته المصرفية. وشدد الاتحاد الدولي على أن الاتحاد العام للصحفيين السودانيين هو الممثل الشرعي للصحفيين في السودان، وأن آخر اجتماع لجمعيته العمومية الذي عقد في عام 2014 تم فيه انتخاب قادته وفقا لقواعد ولوائح العمل النقابي وبحضور مراقبين إقليميين ودوليين، ويجادل قادة اتحاد الصحفيين من يقولون إن الاتحاد قد انتهت فترة ولايته أثناء إيقافه القسري بأن ذلك لا يعني أن يقوم مجموعة من الصحفيين بتنظيم انتخابات؛ إذ من المفترض أن يتحول الاتحاد السابق إلى لجنة تسيير ريثما تقام انتخابات بإشرافها بمعية مكتب مسجل تنظيمات العمل ومن ثمّ تنتقل الصلاحيات لمن يتم انتخابهم. يشار إلى أن خطابا من الأمين العام للاتحاد الدولي للصحفيين أنطونيو بلنقر كان موجها لوزير الإعلام حينها وهو ذاته من يتبنى النقابة الجديدة الشائهة، حيث انتقد الخطاب إنكار الوزير لشرعية الاتحاد العام للصحفيين السودانيين مذكرا إياه بأنه كان حتى وقت قريب مشاركا في العديد من الأنشطة التي كان ينظمها الاتحاد العام للصحفيين السودانيين مثل ورش العمل والندوات والدورات التدريبية والاجتماعات، وكان أيضا يشارك في إعدادات امتحان السجل الصحفي للصحفيين الجدد التي ينظمها سنويا اتحاد الصحفيين السودانيين الذي أيد حله وتطويق مقره بالقوة العسكرية. والطريف أن الاتحاد الدولي ذكر الوزير المتواطئ بأن مساعي اتحاد الصحفيين الشرعي هي التي كللت بإطلاق سراحه عندما كان كاتبا صحفيا في ذلك الوقت من معتقلات جهاز الأمن والمخابرات خلال فترة نظام الرئيس عمر البشير. وبلغ استياء وغضب المنظمات المهنية الدولية من ذلك الوزير بسبب الإجراءات التعسفية ضد الصحافة والصحفيين في السودان في عهده، أن أعلن الأمين العام للفيدرالية الأفريقية للصحفيين وقيادات الاتحادات القُطرية الأعضاء في الفيدرالية الأفريقية للصحفيين اعتزامهم مخاطبة مؤسسة غلوبال ميديا فورام لسحب جائزة الشجاعة الصحفية التي نالها في عام 2013 بعد أن أصبح اليوم سيفا مسلطا على رقاب زملائه الصحفيين. ولعل تفسير ولوغ ذلك الوزير والكاتب الصحفي في ذلك النهج الديكتاتوري المتعسف جاء بسبب تحوله بعد التغيير السياسي في أبريل 2019 إلى ناشط سياسي ضمن تيار سياسي عرف بتحالف الحرية والتغيير، فانقلب على كل ما كان ينادي به طالما تعارض ذلك مع مصالح انتمائه السياسي لذلك التحالف. وكان ذلك شأن بعض الصحفيين الذين تحولوا لنشطاء سياسيين أو أنه تم استغلال صفتهم الصحفية للقيام بأدوار في إطار الصراع السياسي. قبل شهور مضت حوّلت صحفية، الصحافة السودانية من ضحية للاستبداد السياسي إلى كيان مستبد؛ وسط دهشة عقدت الألسن، رمت تلك الصحفية بحذائها، سياسيا سودانيا أثناء مؤتمر صحفي عقده مع مجموعة أخرى من السياسيين. وبررت الصحفية فعلتها المنافية للقيم الأخلاقية والمهنية قبل أن تعتذر لاحقا بأنها "رسالة من الشعب السوداني". واستغلت الصحفية، فرصة مُنحت لها لمخاطبة المنصة لاعتباريتها الصحفية وحقها في إلقاء سؤال في سياق المؤتمر الصحفي. حضرت قبل سنوات ورشة نظّمها الاتحاد الدولي للصحفيين والنقابة الوطنية للصحفيين الجزائريين بالجزائر العاصمة وقد تشكّل فيها إجماع كامل من جانب المشاركين على سيطرة اشكالية (من هو الصحفي؟) على المشهد الصحفي العربي إجمالا. وكانت أهم توصيات الورشة ضبط مهنة الصحافة وتشديد قواعد ولوج المهنة حماية لها من التميّيع والاستغلال. والتمييع تستفيد منه، بل تشجعه سلطات الاستبداد. لأن عدم نقاء الجسم الصحفي من الدخلاء يشجع على التدخل في عمل الصحفيين والتأثير السلبي عليهم، ويتحول بعض الصحفيين إلى نشطاء سياسيين مستغلين المنابر الصحفية لبث الدعاية السياسية، كما حاولت تلك الصحفية. الملاحظة الجديرة بالوقوف عندها أن فعل تلك الصحفية لم يلق التصفيق والتشجيع إلا من كيانات وشخصيات سياسية، وليس من كيانات أو شخصيات مهنية، الأمر الذي يرجح الدفع والغرض السياسي من وراء تصرف تلك الصحفية. إن أوضاع الصحافة في دولة من الدولة غالبا ما تكون تيرمومترا يقيس مدى صحة مزاعم توفر أجواء الحرية والديمقراطية وسيادة حكم القانون. فليست نصوص الدستور والقوانين وحدها كافية للحكم على احترام الحكومات للحريات وحقوق الإنسان. اليوم في ظل حقبة ما بعد التغيير السياسي بدا المشهد الصحفي على عكس ما وعد السياسيون، بئيسا وكئيبا وحاله يغني عن سؤاله؛ فغدت المؤسسات الصحفية والإعلامية مثل غرائب الابل التي ينالها الضرب والتنكيل غِلا وكرها. لقد توقفت أكثر من 21 صحيفة عن العمل، فتشرد مئات الصحفيين وأصبحوا بدون دخل، وحرم ذلك السودان من الصحف وتنوعها في عهد يوصف بعهد الحرية. ولعله منذ أن صدرت أول صحيفة سودانية في عام 1919م، لم تشهد الصحافة السودانية مثل هذه المأساة، فضلاً عن إغلاق قناتين تلفزيونيتين بالقوة الجبرية فيما رزحت عدة وسائل إعلام تحت سيطرة مشرفيين عينتهم حكومة حمدوك ووزير إعلامه، واعتبر الاتحاد الدولي للصحفيين أن إغلاق هذه المؤسسات وأمر منسوبيها بالمغادرة واحتلال مكاتبها من قبل قوات الأمن خطوة في سياق كبت حرية الصحافة.
1490
| 03 سبتمبر 2022
تبدو أنفاس سكان العالم هذه الأيام متلاحقة وقلوبهم وجلة، ليس بسبب الحرب المستعرة في أوكرانيا فحسب فتلكم كارثة يجب وقفها، ولكن كذلك بسبب تعثر محاولات إحياء الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الموقع في 2015 بعد سلسلة مفاوضات شاقة استمرت 12 عاما، وقد اجهز عليه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 2018 بجرة قلم. وبدأ الجدال حول إعادة إحيائه، كجدال بني إسرائيل حين أمروا أن يذبحوا بقرة، ولو أنهم جاءوا بأي بقرة من البقر فور أمرهم فذبحوها، لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم وبالغوا جدالا وتساؤلا في تبيان ماهية البقرة، فشدد الله عليهم، والجدال مثل الطرق الفرعية، لا تعرف أبدا إلى أين ستوصلك. إن أهمية هذا الاتفاق لا تعني فقط طهران وواشنطن، وإنما تعني العالم أجمع، لخفض التوتر الدولي الذي بلغ أوجه مع تصاعد الحرب في أوكرانيا وتطاولها دون أي إشارات لأي جهود دبلوماسية تحل محل قعقعات السلاح. ورغم أن هذا الاتفاق الدولي كان قد شمل 7 دولا مؤثرةً، وهي إيران والولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين، إلا أنها ظلت في خضم الجدال أقرب إلى مقاعد المتفرجين. ولعل الحديث عن إحياء الاتفاق بدا مستندا إلى نقطة مهمة، وهي أن عدم انسحاب إيران من الاتفاق في السابق مقابل انسحاب واشنطن، أبقى إمكانية إحيائه ثانية واردة، ولذلك بقى للاتفاق اعتبار ما رغم انسحاب واشنطن، أما إذا ما كانت إيران قد انسحبت وحدها فإن الاتفاق حتما كان سيكون في حكم المنتهي ولو تمسكت به الدول الست الأخرى بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. ولو أن دولة بحجم الصين اتخذت نهجا إيجابيا ودعمت التوازن لحال ذلك دون طغيان عبث الجدال وتأثير دولة مثل إسرائيل على القرار الأمريكي، لكن الصين ظلت تستعصم بالمواقف الرمادية التي لا تتناسب مع قوتها العسكرية والاقتصادية وثقلها البشري، فحتى في شأن قضية بسيطة كمخاطبة الرئيس الأوكراني لجلسة مجلس الأمن الأسبوع الماضي اتخذت فيها بكين موقف الامتناع عن التصويت، فما بال الحال عندما تفعل ذات الشيء في قضايا تحدد مصائر هذا العالم المضطرب والموبوء بازدواجية المعايير؟. والمقلق وصول حالة عدم الثقة بين الأطراف المتجادلة لمستوى مرتفع، فقد نتجت عن هذه الحالة محاولات للأطراف المعنية لإدراج قضايا لم تكن مضمنة في الاتفاق الأصل بل بعضها لا علاقة له بالقضية النووية أصلا، وفيما تقول إيران إنها ستقبل برقابة على برنامجها النووي في إطار ما جاء بالاتفاق النووي بدون زيادة أو نقصان، تقول واشنطن إنها تتفهم مخاوف إسرائيل، وأن أي مشكلة في الشرق الأوسط سيصعب حلها في ظل وجود إيران مسلحة نوويا، بيد أن واشنطن وحدها ومن جانب واحد تعتقد متغابية أن المنطقة ستبقى مستقرة وآمنة مع امتلاك إسرائيل لترسانة نووية لا يعلم مدى ضخامتها وغير خاضعة لولاية الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ومن الصعب إقناع طرف في المنطقة بعدم اقتناء السلاح النووي ما دامت إسرائيل تقتنيه بدون رقابة أو حتى عتب، ومن النقاط الشائكة في جدال إحياء الاتفاق النووي مستوى ومدى عمليات التفتيش التي من المفترض أن تقوم بها الأمم المتحدة عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية في منشآت إيران النووية. ولعل اهتمام إيران بإحياء هذا الاتفاق يشير إلى سعيها لإلغاء إجراءات الحظر عليها التي ألغاها الاتفاق في نسخته الأصلية وكانت قد وافقت على تجميد برنامجها النووي، مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة عليها ولعل العقوبات الأمريكية هي الأقسى والأوجع، ولذلك فإن ما يهم طهران هو بقاء واشنطن ملتزمة بالاتفاق وفي ذات الوقت ترفض إحياء الاتفاق إن لم يؤد إلى رفع الحظر عليها أو إبقائه تحت أي مسمى آخر. وفيما يبدو أن إيران تتحدث بلسان واحد وهذا قد يكون مؤشرا على التزامها بالاتفاق، فإن الإدارة الأمريكية الديمقراطية تواجه مقاومة داخلية مما يشي باحتمال تنصل لاحق في حال فوز الجمهوريين بفترة رئاسية مستقبلا، وهذا ما حدث بالفعل في عهد الرئيس الجمهوري ترامب، وكان الاتفاق المراد إحياؤه قد تم في عهد الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما. واليوم يقول العضو الجمهوري في مجلس الشيوخ الأمريكي، تيد كروز، إن العودة للاتفاق النووي الإيراني ستكون لها آثار كارثية على الأمن القومي للولايات المتحدة وحلفائها وأمن الأمريكتين. ليس هذا فحسب ولكن المعضلة الأكبر قدرة إسرائيل على إثارة النقع كلما اقترب الطرفان من توقيع أي اتفاق، ففي الأسبوع الماضي قام وزير الدفاع الإسرائيلي بزيارة أمنية سياسية إلى الولايات المتحدة القصد منها عرقلة الاتفاق والتخويف منه. ومن قبل لم يخف الكاتب والسناتور السابق بول فندلي شيئا عن تغلغل اللوبي الإسرائيلي في الدولة الأمريكية عبر كتابه الشهير "من يجرؤ على الكلام"، فقد حدد في ذلك الكتاب مواقع النفوذ الإسرائيلي في المؤسسات الأمريكية، محدداً النسب المئوية التي تشغل مؤسسات الرئاسة والبنتاغون بعناصر من اليمين المسيحي المتعاطفة مع إسرائيل، وذكر أن ما نسبته 30 % من هؤلاء الذين يشغلون وظائف مهمة في وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون). فضلا عن تغلغله في وسائل الإعلام وقنوات الاقتصاد وغيرها، فذلك اللوبي يشكل قوة ضغط هائلة على صناعة القرار، في أخطر مفاصل الدولة الأمريكية. وترى إسرائيل أن الاتفاق يبقي على إيران محتفظة بمنشآتها النووية، وأنه يسمح لها بتطوير قدراتها النووية التي لم تتعرض للتفكيك، كما أن القيود على برنامجها النووي مؤقتة وإن أبرزها وينتهي بأجل محدد، فإسرائيل تهدف في الأساس إلى أن يلقى البرنامج النووي الإيراني نفس مصير البرنامجين العراقي والليبي، ولا تخفي إسرائيل قلقها من أن الاتفاق قد يضفى شرعية على مكانة إيران كدولة على حافة قدرات نووية ولن يعطيها ذلك مستقبلا مبررا لشن هجوم عسكري على إيران.
737
| 27 أغسطس 2022
اليوم أوروبا والعالم الأول أصحاب النسبة الأعلى في تلويث كوكب الأرض المتجه نحو الهاوية، يصكون آذان العالم صراخا وعويلا بسبب موجة جفاف لم تشهدها أوروبا وأمريكا منذ أكثر من خمسين عاما حسوماً، الجفاف قد تكون أسبابه طبيعية بيد أن أغلبها سياسية بفعل فاعل بما كسبت أيدِ الناس، فقد ظهر الفساد في البر والبحر، فعندما تذكر السّياسة يتحسس الناس بطونهم ويبحثون بسرعة عن دواء للقضاء على حالة الغثيان التي تنتابهم جراء ذكر السّياسة. ولا نبُزّ السياسة في معناها الكلاسيكي الرفيع إذ هي علاقة بين حاكم ومحكوم وسلطة عليا في المجتمعات الإنسانية، لكن السياسة في معناها المظلم وواقعها المعاش تجعل من المجتمعات طائرا مذبوحا يستمتع قاتلوه وهو يرقص رقصة الفلامنكو ويشربون على أنغامها دمه المهدر ظناً منهم أنهم يشربون نخب الانتصار، فالسلطة السياسية في مقدورها جعل الرعية تنفذ أو تمتنع عن أشياء سواء أرادت أو لم ترد. في السودان حيث حصدت السيول والفيضانات منذ الأسبوع الماضي نحو 80 روحا بريئة ودمرت نحو 13 ألف منزلا، بدت النخب السياسية صماء بكماء لا تعنيها معاناة شعبها ولا ترعى فيهم إلاً ولا ذمة، لكنها في غي تشاكسها وخلافاتها سادرة، غارقة. بطبيعة الحال فإن الظواهر الطبيعية لها تأثيراتها الكبيرة على الأرض بصورة مباشرة مثل الزلازل والبراكين والفيضانات وهي تأثيرات لا تُحدث خللا بيئيا، بل تأتي ضمن سياق التوازن البيئي المطلوب، فالطبيعية قادرة على معالجة نتائجها بذاتها. لكن كل فساد في برٍ أو بحرٍ يظهر يكون بسبب النشاط البشري غير الرشيد، وقد رجّحت اللجنة الدولية المعنية بتغير المناخ في مؤتمر ستوكهولم في العام 2013 أن التأثير البشري هو السبب الرئيس لارتفاع درجات حرارة الأرض منذ منتصف القرن العشرين. لا يملك العالم الثالث من الضغوط على الكبار شيئا إلا أن يتمنى أن يصحو الضمير عندهم، والضمير هو تلك القدرة البشرية الطبيعية على التمييز بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل، وبين الخير والشر. وعندما تتواضع تطلعاتنا فإننا نأمل في أن يسوق هذا الضمير المجرمين في حق كوكبنا نحو الشعور بالندم والتأنيب على أقل تقدير، ربما اقتراب الجفاف من شواطئ الكبار، وانتشار موجات الحر بل حتى القطب الشمالي السيبيري تململ من ارتفاع درجات الحرارة، كل ذلك قد يوقظ ضميرا اختطفه اللهث وراء تعظيم الربح المادي بدون أي سقف أخلاقي. لقد حُقّ لقضية حماية البيئة أن تصبح قضية سياسية بامتياز نظرا لأهمية قضية التغيُّر المناخي، وأثرها الواضح على العلاقات الدولية، كما أن الأخطار الكارثية الكونية لا يمكن معالجتها إلا عبر قرارات سياسية في أعلى المستويات، وسبق أن عرضت القضية البيئية على مجلس الأمن الدولي على أساس أن تغيُّر المناخ سوف يؤثر على أمن وسلامة العالم كله، صحيح أنه عندما تطرح القضية البيئية فإن تدافعا دوليا يثور ليبدو للمتابع مثاليا، إلا أن تلك المنتديات تنوء بمزايدات كثيفة، وقيل إن المفاوضين والمندوبين في أحد تلك المؤتمرات قد سلموا وزراء البيئة وثيقة من 43 صفحة، تحتوي على أكثر من تسعمائة صيغة بسبب الخلافات الكبيرة بين الدول. لقد قدرت الأمم المتحدة حجم الأموال المطلوبة لمعالجة قضايا البيئة على المستوى الدولي بنحو 100 مليار دولار بحلول 2020، بينما قدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تمثل الدول الغنية قيمة التعهدات المالية من العالم المتقدم بمبلغ 62 مليار دولار عام ، ويعترف الاتحاد الأوروبي وهو المساهم الأكبر في تمويل مشروعات مكافحة تغير المناخ، بأنه قدم فقط 14.5 مليار يورو (15.78 مليار دولار) عام 2014. بينما صواريخ معدودة في حرب عبثية يمكن أن تحدث خسائر مادية بأضعاف مضاعفة من تلك المبالغ الهزيلة ويبدو مدى هزالها مقارنة بحجم الأخطار البيئية التي من فرط هولها لا يمكن تقدير حجمها حتى بزعم أكثر المتشائمين، واليوم بسبب الحرب الأوكرانية توقف تصدير الأسمدة الروسية وكذلك تصدير القمح الأوكراني لبقية دول العالم، فالحرب الدائرة وإن بدت في ظاهرها حربا عسكرية لكن رقعتها تتوسع في الفضاء الاقتصادي الممتد فغيوم الجوع والمسغبة تجري تسوقها رياح الحرب إلى أرجاء العالم وبعضها غدا مثل الرَّوضِ لم تَترك به النكباءُ زهرَة، ولو ركّزنا فقط على المنطقة العربية نجد أن نحو 42 % من احتياجاتها من القمح و23 % من احتياجاتها من الزيوت النباتية من كل من أوكرانيا وروسيا بحسب برنامج الغذاء العالمي. اليوم على الدول النامية ومنها الدول العربية أن تتنبه إلى ضرورة التركيز على قضية استغلال الموارد الطبيعية، حيث إن المستغل الأول لموارد الدول النامية الدول الصناعية التي تأخذ الإنتاج الطبيعي من الدول النامية، ثم تصنعه وتعيد تصديره، ومن الضروري أن تلتزم دول العالم الأول - وفقا لتصنيف أطلقته على نفسها - بدعم جهود الدول النامية في مجالات مواجهة الآثار السلبية للتغير المناخي والتعايش معها. كما لابد من تشجيع ما يعرف بالسياسة المجتمعية وهي حركة تهدف إلى إشراك العامة في العمل السياسي على المستوى المحلي مثلما هو الحال في حزب الخضر البريطاني وفي أحزاب أخرى وعلى يد المستقلين. وقد تمثلت السياسة المجتمعية في إجراء ضيق النطاق حيال المشكلات السياسية المحلية، فحينما يشكو السكان من تدني الوسط البيئي بسبب إهمال معالجة النفايات المنزلية، فإن رد فعل السياسة "غير المجتمعية" إصدار بيان يدعو إلى تخصيص المزيد من الموارد للتعامل مع قضية النفايات، بينما سيكون رد "السياسة المجتمعية" قيام أعضاء المجلس البلدي المنتخبين بقيادة مجموعة من الأفراد لإزالة النفايات بأنفسهم ثم إخطار المجتمع المحلي عبر وسائط الإعلام، وكأنما المقصود تجاوز عقدة السياسة في الخطب والتنظير والإثارة إلى البيان بالعمل وتأكيد الإحساس بوجود مجتمع محلي أكثر قوة يشعر أن ممثليه ينجزون شيئًا ما، حتى في حالة نقص موارد السلطات المحلية.
533
| 20 أغسطس 2022
يتميز العلماء وأصحاب الفكر المُتقد بمبادرات أو أفكار تبدو غربية وأحياناً مستهجنة للوهلة الأولى، ذلك ربما لأنها تفكير وعصف ذهني خارج الصندوق، وقد يكسر المسلمات القَطعية والتابوهات المقدسة. والتفكير خارج الصندوق يعني حلاً جديداً أو فكرة جديدة لا سابق لها، وهي مهارة بالأساس ترتكز على القدرة على الإبداع. الأسبوع الماضي غرقت الأوساط السياسية والأكاديمية السودانية في بحر أطروحة قدمها أستاذ جامعي له نشاط فكري معلوم ومميز. البروفيسور إبراهيم أحمد أونور الأستاذ بجامعة الخرطوم، رجح في أطروحته بعنوان: "هل الديمقراطية مدخل لنهضة اقتصادية"، بأن الديمقراطية في السودان ستقود لمزيد من عدم الاستقرار السياسي والاضطراب المجتمعي، داعياً لنظام الحزب الواحد وما أسماه بالشمولية الواسعة، وذلك بتذويب كافة الأحزاب والكيانات السياسية في حزب واحد. ومضى أونور يؤكد أنه ليس بالضرورة أن تكون الديمقراطية مدخلا للنهضة الاقتصادية بل العكس في واقع كالواقع السوداني. إذ أكد أن النهضة الاقتصادية والاستقرار السياسي يمكن أن يتحققا حتى في ظل نظام غير ديمقراطي، مضيفا إن ذلك الأمر ممكن أن يتحقق عبر نظام الحزب الواحد مع توسيع قاعدة المشاركة الشعبية وهو ما أطلق عليه نظام (الشمولية الواسعة). فما الذي دعا الرجل للصدع بهذه الفكرة الجرئية؟، وهل صحيح أن هناك ما يعضد هذه الفكرة؟. اليوم تعيش البلاد حالة سيريالية من الفوضى والعبث السياسي وعدم الاستقرار، حيث عدم احترام القوانين والقيم، وكذلك عدم قدرة الدولة على حماية القوانين من أهواء السلطويين قبل أهواء العامة، فضلا عن إخفاقها في ضمان فعالية آليات استيعاب الصراعات داخل المجتمع الذي يحد من انتشار ثقافة العنف، وحالة عدم الاستقرار السياسي وفقا لعلماء السياسة هي "عدم قدرة نظام الحكم على التعامل مع الأزمات التي تواجهه بنجاح وعدم القدرة على إدارة الصراعات القائمة، داخل المجتمع بشكل يستطيع من خلاله أن يحافظ عليها في دائرة تمكنه من السيطرة والتحكم فيها ويصاحبه استخدام العنف السياسي من جهة وتناقص شرعيته وكفاءته من جهة أخرى". وفي ذات الوقت يستعر جدل علمانية الدولة التي يراد بها إعادة صياغة المجتمع والإنسان السوداني في الإطار المادي الغربي، وصولا إلى تنميط حياة الناس مع سيطرة وهم التحكم الكامل فيها بزعم أن ذلك من مقتضيات الديمقراطية. وربما راع ذلك العالم، أن دعاة الديمقراطية يطالبون أهل السودان باستبدال قيمهم وثقافتهم وموروثاتهم بالعلمانية باعتبارها شرطاً للديمقراطية. ويقول دعاة العلمانية زاعمين بأن دولة المواطنة في إطار العلمانية تعني تساوي الجميع أمام القانون وهذا القانون المراد فرضه لا يستجيب ليس لحقوق ثلة من المواطنين فحسب وإنما لا يستجيب لحقوق الغالبية العظمى من المواطنين. إن الديمقراطية من حيث المنشأ لم تكن فلسفة جاهزة الأسس، كاملة الآليات، حاضرة باعتبارها خيارا من بين خيارات فلسفية سياسية أخرى، وللمرء أن يأخذ بها أو يرفضها ويأخذ بغيرها، لكنها وليدة صراع مرير حقاً بين شعوب بجميع أطيافها، والقابضين على السلطة بمختلف محاورها، وقد كانت محصورة بين النبلاء من السياسيين وملاّك الأراضي، فلم يكن للعبيد، ولا الخدم، وللنساء، ولا للفقراء، الحق في الترشح، أو التصويت، فكل من كان لهم الحق في المشاركة السياسية في شؤون الدولة لم يكونوا يتجاوزون نسبة 20 % من مجموع السكان، فالديمقراطية كانت مقصورة على أصحاب النفوذ، لكن بما أن الديمقراطية وليدة ظرف سياسي واجتماعي خاص، فهي من المفاهيم التي لا تقف على سلم ثابت، ولا تأخذ شكلاً محدداً لا يمكن التغيير فيه. وحتى النصف الأول من القرن الماضي كانت الديمقراطية مرتبطة بالعلمانية، والعلاقة بينهما كاللازم والملزوم، ولا شك أنها تخلّقت في رحم الغرب ونمت وترعرعت في حضنه، وقد أُشربت العلمانية فكراً، ومن ثمَّ ليس هناك بد من أخذها كما هي من غير فكّ للارتباط بينها وبين العلمانية، وبالتالي فإنها لا تتفق مع منهج آخر لاسيما المنهج القائم على حضارة وقيم، ويصرّ دعاة الديمقراطية بسمتها الغربي بأن يصبح علمانيا كل فرد أراد أن يكون ديمقراطياً. لقد أثبتت التجارب أن كثيرا من العلمانيين، حكومات وأحزاباً، أن ممارسة السياسية لديهم ظلت ممارسة استبدادية، وأن جل همهم رفض وقمع الآخر المخالف في الفكر والدين، والعلمانيون الشرقيون على سبيل المثال في تركيا في عقود سابقة، استعملوا فوهات المدافع صوب الصناديق التي رشَّحت مناوئيهم. ونفس الحال في ممارسات حكومات عربية وإسلامية تتبنى النهج العلماني، فإنها لا تقبل بوجود تعددية إذا كان خصومهم طرفاً فيها، بل هناك أحزاب علمانية لم تصل إلى السلطة بعد، تدعو إلى منع قيام أحزاب بصيغة إسلامية، وعدم إعطاء الشرعية القانونية والمظلة الدستورية لها. على الرغم من أن في الغرب العلماني أحزابا دينية لها هياكل ومؤسسات ديمقراطية واضحة من القمة إلى القاعدة في داخلها، وفي ممارسة السلطة خارج إطارها، مثل الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني، والحزب المسيحي الديمقراطي الإيطالي، ودولة الاحتلال الإسرائيلي تقودها اليوم أحزاب دينية في إطار دولة علمانية ديمقراطية. عندما تم تسويق الأيديولوجيا العلمانية الديمقراطية في الوطن العربي وبقاع أخرى غير الفضاء الغربي، كانت هناك إشكالية تمثلت في التوفيق والمواءمة بين الأفكار التحررية في العلمانية الديمقراطية وبين حقيقة استلاب حرية الأمم والشعوب؛ حيث إن القيم الفاضلة والحرية مفاهيم لا تتجزأ، ولعل من عهدت إليهم تلك الأيديولوجيا للتبشير بها من أبناء أرض الاستنبات وهم ممن تأبطوا الفكر العلماني، تجدهم غارقين في نخبويتهم، متنكبين الطريق الموصلة إلى السلطة، بل في أحايين كثيرة فشلوا في تشكيل حتى جماعة ضاغطة وداعمة لما يبشرون به. كما أنهم تقاعسوا في أحايين أخرى عن دعم من يشاركهم الهدف، فقط لكونهم يختلفون معهم سياسيا، إن البديل المطلوب نموذج حكم سياسي شوري يكافح غرائب النبت، وكذلك الحرص على العمل على نشر المفاهيم الوسطية وتحجيم ظاهرة التطرف والغلو.
1221
| 13 أغسطس 2022
ما من شك في أن الإعلام يضطلع بدور حاسم في نجاح المشاريع السياسية والاقتصادية، ويشكل مع القوة العسكرية أهم مصدرين للقوة في المجتمعات والدول، كما أن العلاقة بين النظامين السّياسي والإعلامـي، عـلاقـة تأثير مـتـبـادل، غير أن حجم التأثير يختلف بين الطرفين وفـقاً لطبيعة العلاقة بينهما، ووفـقاً لشكل النظام السياسي ودرجـة الديمقراطية التي يتمتع بها، ودرجة الحرية السياسية التي يتمتع بها الإعلام في معالجة القضايا السياسية والاجتماعية، وكذلك درجـة استجابة النظام السياسي لملاحظات وآراء وسائل الإعلام تجاه القضايا، وتجاه الأداء الحكومي لتلك القضايا، ولعل العبء الأكبر في هذه المقاربة يقع على السلطة السياسية باعتبارها صاحبة السلطة التنفيذية وتتحكم في مفاصل الدولة إجمالاً. في السودان وفي ظل أزمة سياسة تؤز البلاد أزاً، تَشخصُ إشكاليات تحول دون دعم وسائل الإعلام المحلية لقضية الانتقال الديمقراطي عقب التغيير السّياسي الذي حدث في أبريل 2019، وأطاح بنظام الرئيس السابق عمر البشير. ولعل الإعلام السوداني ابتداءً وقبل كل شيء مطالب بحماية المواطن البسيط من الاستغلال السياسي من لدن النخب السياسية المتعطشة لكراسي الحكم بأي ثمن، لقد ذهب المفكر الفرنسي الشهير ولفريد باريتو في كتابه "عقل المجتمع" إلى أن أغلبية الناس تحكمهم، في أغلب الأوقات، عواطف لا عقلانية، ويعيشون نوبات من الهيستيريا والرعب والحماسة، تسهل عملية تلاعب النخب السياسية بعواطفهم؛ لذلك حتى في حالة حدوث الثورة ونجاحها، فإن الحكم يؤول في النهاية إلى نخبة سارقة لثورة البسطاء، تاركة الجماهير الضعيفة في معاناتها. علاوة على ذلك فإن الدولة لا تنضج بدون إعلام يعي ما له وما عليه، ولا يتأتى ذلك إلا بمرجعية سياسية تؤمن بالعمل الإعلامي باعتباره قريناً أساسياً لعمل الدولة، بل هو وجهها وأيقونتها في زحمة التنافس والمغريات. والمتتبع للشأن السوداني خلال فترة ما بعد هذا التغيير يُدرك حجم الانسداد الذي يُكابده الأفق السّياسي، رغم الآمال العريضة التي كانت معقودةً على استقرارٍ سياسي قائم على حكم ديمقراطي، يتيح تحريك عجلة التنمية باستثمار موارد البلاد الطبيعية الضخمة؛ فرغم الفرح والآمال العراض إلا أن الأوضاع في السودان لا يبدو أنها تسير إلى نهايات سعيدة، بسبب أخطاء وسوء تقدير السلطات السياسية، بما فيها النخب والفعاليات السّياسية، وقد يتحمل الإعلام السوداني جانبا من المسؤولية، أو أنه نفسه ضحية لاعتلال المشهد السّياسي برمته. ولعل التحدي الأكبر لوسائل الإعلام في السودان وفي الدول العربية الأخرى عقب ثورات الربيع العربي ظل متمثلا في البيئة السياسية المثخنة بالخلافات العميقة بين مكونات الطبقات السياسية. لقد حاولت دراسة صدرت حديثا للكاتب، التعرف على الإشكاليات والتحديات التي تواجه وسائل الإعلام السودانية وتحد من فعاليتها في دعم التحول الديمقراطي، وكذلك معرفة الأبعاد والتأثيرات السلبية المتبادلة بين وسائل الإعلام السودانية والأوضاع السّياسية، فضلا عن التعرف على مدى مساهمة السلطات السياسية (إيجابا أو سلبا) في التأثير على الدور الذي تضطلع به وسائل الإعلام في زيادة الوعي السّياسي، وتضمنت الدراسة التقارير المهنية التي تناولت فترة ما بعد التغيير السّياسي، والتي أشارت إلى تدهور أوضاع الصحافة الورقية في السودان بشكل كبير، مما دفع سبعا من الصحف اليومية للتوقف عن الصدور، وفاقم ذلك من ظاهرة هجرة الصحفيين نحو وظائف أخرى، بعضها شاق. وعزا مختصون أزمة الصحافة السودانية إلى 4 أسباب وهي: تراجع حجم الإعلان بنحو 60 %، وانخفاض التوزيع بمقدار 25 %، إضافة إلى ارتفاع كلفة الإنتاج بأكثر من 50 % خلال الفترة ذاتها، وعدم توفر البيئة المهنية والمادية اللازمة لاستقرار الكوادر الصحفية والفنية. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن معدل التوزيع الحالي يتراوح بين 35 إلى 40 ألف نسخة يوميا وهو معدل منخفض جدا مقارنة بعدد سكان السودان البالغ نحو 39 مليون نسمة، كما أنه بعيد عن المعيار العالمي لمنظمة اليونسكو الذي يفترض معدلات توزيع 100 نسخة لكل ألف من السكان (عبد الرحمن، 2021). وليست معاناة الصحفيين ومضايقتهم مقتصرة على هذه التحديات فحسب، بل نجدها ممتدة إلى إعاقة ممارسة مهامهم وأداء دورهم الرقابي. لقد خلصت تلك الدراسة إلى أن الإعلام السوداني لم يتمكن من دعم الانتقال الديمقراطي بسبب اضطراب هامش الحريات الإعلامية، كما أن وسائل الإعلام السودانية فشلت في تشكيل رأي عام داعم للانتقال الديمقراطي بسبب إرباك الخلافات السياسية العميقة للأداء الإعلامي، وبدا واضحا أن الطبقة السّياسية لا تتفهم دور وسائل الإعلام إلا في إطار محاولة استغلالها وتسخيرها لخدمة أجندتها الحزبية الضيقة، فهي لا تساعدها على القيام بدورها في إطار قومي، ومن ثمّ لا تلتزم بتوفير المعلومة الصحيحة والبيئة التي تتيح التعبير عن الرأي بموضوعية استنادا للمعلومة الصحيحة. المطلوب أن يعمل الطرفان، الطبقة السّياسية والإعلاميون على بناء وتعزيز الثقة بينهما لاسيما في هذا الظرف الحساس الذي تمر به البلاد، مع وضعهما في الاعتبار أن حرية الإعلام ومهنيته، والتحول الديمقراطي السلس الآمن، وجهان لعملة واحدة، وفي ذات الوقت على وسائل الإعلام التحلي بالقدرة على تمثيل كافة الاتجاهات المختلفة داخل المجتمع السوداني؛ فمن الضروري أن تتاح لهذه الاتجاهات فرصة الوصول إلى الجماهير، وأن تعرض أفكارها دون أية قيود سواء بسبب السلطة الحاكمة أو بسبب تحيزات الإعلاميين السّياسية والفكرية. نخلص إلى أن رفاهية الدول وتطورها وأمنها مرهون باستقرارها السّياسي، ولا يتحقق الاستقرار السّياسي إلا بالوعي السّياسي لكل قطاعات المجتمع: قيادات وأفرادا. ولكون أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين السياسة والإعلام، فضلا عن مهمة الإعلام المرتبطة بإشاعة الوعي؛ فإن هناك مسؤولية تضامنية ثقيلة تقع على عاتق كل من النخبة السّياسية لاسيما الحاكمة منها، ووسائل الإعلام.
1474
| 06 أغسطس 2022
فيما تتعاظم خسائر الشرق والغرب جراء الحرب المستعرة في أوكرانيا، هناك مستفيد يبدو في حالة كمون وترقب يوزع الابتسامات الماكرة هنا وهناك، وإن رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم. ليست الحرب في أوكرانيا نزهةً وحرباً خاطفةً حاسمةً، تستعيد بها روسيا توازناً مع الغرب ترى أنه اختل ولابد من إعادة الأمور إلى نصابها، أو أنها كرة تصد بها الولايات المتحدة وصويحباتها الأوروبيات هجمة روسيا على أوكرانيا وترد بها الصاع إلى روسيا صاعين. لكن الأمر يبدو حرب استنزاف عسكري واقتصادي طويلة لا يعلم مداها الزمني ولا مآل حجم خسائر أطرافها المتورطة فيها. فهذه الحرب المشتعل أوارها، قائمة على نسق مفهوم الحروب التقليدية المكلفة، إذ أن القوة العسكرية هي المعيار الأبرز لقوة الدول حتى وقت قريب. بيد أن الصين ذلكم العملاق الماكر مكرا تهابه الثعالب، قد جاءت بنموذج مختلف في الصراع الدولي لا يعطي اعتبارا للقوة العسكرية التقليدية. فبينما هناك 800 قاعدة عسكرية أميركية تنتشر في 70 دولة بها 200 ألف جندي، نجد أن للصين فقط قاعدة وحيدة أقامتها في جيبوتي في 2017، وكانت أول قاعدة عسكرية خارج حدودها. الصين وفي صمت جعلت من الاقتصاد رافعة لتقدمها والاقتراب من موقع القوة العظمى. ومنذ عام 2016 أعلن صندوق النقد الدولي أن حجم اقتصاد الصين قد تجاوز نظيره الأمريكي من حيث تعادل القوة الشرائية، بل إن العديد من المؤسسات البحثية الدولية رأت أن الاقتصاد الصيني أصبح عملياً ومنذ عام 2010، الأول في العالم وهذا ما أكده الباحث الاقتصادي أرفيند سوبرامانيان من معهد برينستون الأمريكي في حين اعتبرت دراسة أجراها آنذاك الخبير الاقتصادي في جامعة كاليفورنيا روبرت فينسترا أن الزعامة الاقتصادية العالمية ستنتقل إلى الصين في عام 2014م. ظلت الولايات المتحدة تشعر بالخوف، وربما بالغيرة تجاه الصين منذ أن بدت ماردا اقتصادياً يخطو بسرة فائقة نحو القمة. ولعل الغيرة الأمريكية تبدت في حديث المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما أهم مفكري المحافظين الجدد، الذي سبق أن قال بأن النظام الصيني سينهار بسبب فقدان قنوات الاتصال بين قمة الهرم السياسي والقاعدة الجماهيرية. ورأى مؤلف كتاب (نهاية التاريخ والرجل الأخير) منذ نحو عقد من الزمان أن الصين دولة مركزية قوية تاريخياً استطاعت أن تقود نمواً اقتصاديا مستمرا، ويعود لها الفضل بأداء رائع في السنوات الثلاثين الماضية، لكن غياب آليات المحاسبة تجعل البلاد معرضة لما أسماه "مشكلة الامبراطور السيئ". ومن المفارقات أنه في ذات الفترة حافظت الصين على مرتبة السوق الأكثر جذبا للاستثمارات المباشرة في العالم، حيث وصل حجم السوق آنذاك إلى 111.7 مليار دولار. ووفقا دراسة أمريكية حديثة نشرها مركز بلفور للعلوم والشؤون الدولية بجامعة هارفارد الأمريكية هذا العام، فقد تفوقت الصين في عدة مجالات؛ حيث أصبحت ورشة التصنيع الأولى في العالم، كما أنها الشريك الاقتصادي الأول لمعظم الدول في العالم، وهي أيضا الحلقة الأكثر أهمية في سلاسل التوريد العالمية الحيوية في العالم، وكذلك هي موطن العدد الأكبر من الشركات العالمية الأكثر قيمة. وهكذا رضي من رضي وأبى من أبى فإن الصين نجحت في أن تتحول من دولة معزولة وتوشك أن تصبح قطبا حقيقياً بذاتها. وحسب الدراسة المشار إليها، فإن الولايات المتحدة التي ظلت الاقتصاد الرائد عالميا منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، غير أنها باتت اليوم تواجه منافسا جديًا وهو الصين، التي نجحت في سد الفجوة مع الولايات المتحدة في معظم السباقات الاقتصادية، بل وتجاوزتها في البعض الآخر. وأقرت الدراسة بأن النمو الاقتصادي للصين بلغ 4 أضعاف مثيله في الولايات المتحدة على مدى العقود الأربعة الماضية. وبلغ عدد السكان في 2020 نحو 1.4 مليار نسمة، فخُمس سكان العالم يعيشون في الصين، وتجاوز حجم القوة العاملة أكثر من 800 مليون شخص بما يفوق إجمالي سكان قارة أوروبا، كما تجاوز عدد خريجي الجامعات حاجز 9 ملايين عام 2021، حسب مصادر حكومية صينية. ويمكن تفسير موقف الصين من الحرب في أوكرانيا التي انتهجت فيها ما يعرف بسياسة الحبل المشدود إذ هناك اعتبارات دفعت بكين إلى تبني موقف محايد بشكل متزايد بشأن الحرب. فالصين من ناحية تعتمد بشكل كبير على التجارة مع الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، على الرغم من التحركات الأخيرة لتوسيع العلاقات الاقتصادية مع دول الآسيان وغيرها من الشركاء غير الغربيين. ومن هنا فإن الدعم المفتوح لموسكو قد يؤدي لفرض عقوبات غربية من شأنها الإضرار باقتصاد البلاد. ولروسيا أيضا اعتبار في هذه السياسة التي تنتهجها الصين حيث الأهمية الاستراتيجية لروسيا بالنسبة للصين تتبدى في سياق التنافس الأخير مع الولايات المتحدة وحلفائها الديمقراطيين. ومن تلك الاعتبارات تركيز الصين الاستراتيجي طويل الأمد على تنمية العلاقات الوثيقة مع الدول النامية في العالم، التي يعتبر مبدأ السيادة الوطنية بالنسبة لها أمرًا مقدسًا. وتجدر الإشارة إلى أنه من العوامل المهمة طويلة المدى التي يجب مراعاتها عند تحليل موقف بكين من نزاع أوكرانيا أنها تنظر إلى روسيا كشريك استراتيجي حاسم في محاولتها لتحدي هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها، وهو صراع تتوقع الصين أن تستمر فيه. هدفها أن تصبح "دولة اشتراكية حديثة عظيمة" بحلول الذكرى المئوية لجمهورية الصين الشعبية في عام 2049.
650
| 04 يوليو 2022
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم...
8769
| 09 أكتوبر 2025
كثير من المراكز التدريبية اليوم وجدت سلعة سهلة...
6936
| 06 أكتوبر 2025
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا...
3153
| 13 أكتوبر 2025
في زمن تتسابق فيه الأمم على رقمنة ذاكرتها...
2343
| 07 أكتوبر 2025
في خطوة متقدمة تعكس رؤية قطر نحو التحديث...
1743
| 12 أكتوبر 2025
قبل كل شيء.. شكراً سمو الأمير المفدى وإن...
1692
| 08 أكتوبر 2025
مع دخول خطة وقف إطلاق النار حيز التنفيذ،...
1689
| 10 أكتوبر 2025
لم يكن الإنسان يوماً عنصراً مكمّلاً في معادلة...
1686
| 08 أكتوبر 2025
في السنوات الأخيرة، تصاعدت التحذيرات الدولية بشأن المخاطر...
1086
| 09 أكتوبر 2025
حين نسمع كلمة «سمعة الشركة»، يتبادر إلى الأذهان...
945
| 10 أكتوبر 2025
سنغافورة بلد آسيوي وضع له تعليماً خاصاً يليق...
939
| 09 أكتوبر 2025
يخوض منتخبنا انطلاقاً من الساعة السادسة مساء اليوم...
891
| 08 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تابع الأخبار المحلية والعالمية من خلال تطبيقات الجوال المتاحة على متجر جوجل ومتجر آبل