رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس هناك جذر أو ظرف واحد يمكن الإحالة عليه حصريا في تفسير وتفاقم ظاهرة التطرف. فالتطرف تفاقم كسيرورة تخلقت في رحم جذور وظروف عميقة ومركبة ما كان لها أن تنتج غير التطرف، ولو أنتجت غيره لكان ذلك هو الغريب حقاً. في موازنة ما بين الخارجي والداخلي من العوامل والظروف، ليس ثمة بريء، فالكل أسهم وبمزيج من الغباء والحماس في إنتاج هذا الوحش البشع: التدخلات الخارجية العسكرية وغير العسكرية، الحكومات الفاشلة، السياسات القمعية وغياب الحرية، الاقتصادات المهترئة، الإحساس العميق بالإذلال والهزيمة واللامعنى، الفكر الخلاصي القائم على مانوية الأسود والأبيض، تسيد التفسيرات الدينية الأكثر تشددا وتعصبا، و... التعليم! ولهذا الأخير، أي التعليم (والديني تحديداً) نصيب مُعتبر في إيجاد المناخات القابلة والمولدة للتطرف. لكن من المهم موضع النقاش هنا حول دور ونصيب التعليم المُعتمد في معظم مناهج التدريس العربية الحكومية، ضمن سياق مجموعة عوامل أعم وأكثر تعقيدا. وهذا يُقصد منه رفض حصر المسألة كلها بالتعليم، برغم أهميته الكبيرة، وحتى لا تُفهم السطور التالية وكأنها تتغاضى عن كل العوامل الأخرى.انطلاقا من ذلك التقديم، تجادل هذه السطور بأن جزءًا ليس باليسير من ثقافة التعصب والتطرف التي تتبناها منظمات التطرف وعلى قمتها داعش هو مُدرس نظريا لطلابنا بشكل أو بآخر. قد يتم ذلك بشكل أقل بشاعة طبعا وبطريق أقل خشونة، لكنها تؤسس الممارسات المختلفة ضد الآخر تبدأ بالتعالي الشعوري عليهم واحتقارهم وتصل في أقصى صورها إلى ممارسة العنف ضدهم. أي ثقافة تقوم على إعلاء الذات فوق الآخرين عوض أن ترسي قواعد مساواة تامة معهم، على أساس المواطنة والهوية الوطنية الحديثة المشتركة، وقائمة على التنوع الذي يحترم الاختلاف ولا يرى سوى التعايش إطارا للحياة البشرية هي ثقافة متطرفة وإقصائية ومآلاتها داعشية. تتأسس معظم المساقات الدينية التي تُدرس للتلاميذ في معظم الدول العربية، إن لم يكن كلها، على منهج التلقين والتلقي واستدعاء الثقافة والآراء الدينية التي كانت سائدة في قرون ماضية، ويتم اعتماد المفسرين والتفسيرات التي أنتجت في تلك القرون، وربما كانت تناسب الظرف والزمان آنذاك، وتطبيقها في الزمن الراهن. ومع أنه ليس من الإبداع ولا اجتراح المُعجز القول بأن ما ناسب زمانا ومكانا ما لا يناسب كل زمان ومكان إلا أننا ومع كل الأسى لا نجد هذه البديهية التي لا تحتاج إلى نقاش مُطبقة في جوهر التعليم الديني. لذلك فإنه من "الطبيعي" أن نرى ونسمع تطبيقات لفتاوى الرق والرقيق، على سبيل المثال، في أيامنا هذه لأن هذه الفتاوى وما يرافقها من مسائل مُستلة من التاريخ السحيق، وتُدرس في كل المناهج الدينية. ونرى ونسمع من يبرر أو على الأقل "يتفهم" ممارسات داعش في بيع وشراء النساء والأطفال باعتبارهم سبايا حرب. ومن "الطبيعي" أن نقرأ ونسمع لمفت هنا أو هناك يتحدث عن ضرورة غزو المسلمين لأراضي وبلاد غير المسلمين، لأن الغزو والغنائم هي التي تحل مشكلات الاقتصاد والفقر التي تواجه المسلمين. كيف لا وهذه المسائل و"أحكامها" تدرس كجزء من المنهج الديني وعندما يسيطر التخلف الفكري والتطرف على أفراد أو مجموعات فإن التطبيق الطبيعي لما تتم دراسته نظرياً يكون هو في النهاية ما نشهده جميعاً ويصدم وعينا الجمعي.إصلاح التعليم الديني أصبح مشروعا ملحا يحتاجه العالم العربي اليوم قبل الغد، وفي الواقع تأخرنا فيه كثيرا إلى أن أنتج ما أنتج. والإصلاح التعليمي والديني المطلوب ليس مجرد إضفاء رتوش تجميلية هنا وهناك، أو التمسح بقيم "التسامح والتعايش" لفظيا ونثرها في مقالة في كتاب، أو قصيدة في مساق. الإصلاح التعليمي المطلوب يجب أن يكون ثورة حقيقية تقوم أساسا على نفض النظام التعليمي كله وإعادة تأسيسه على قاعدة المواطنة والمساواة والدولة المدنية، وبعيدا عن الشرعيات الدينية التي تستخدمها النظم الحاكمة، أو المنظمات المتطرفة المعارضة لها. وعندما يتم إعلاء قيم المواطنة والمساواة المدنية على حساب كل القيم المُعرفة والمفرقة الأخرى بما فيها القيم الدينية، سوف تنتج أجيالا لا ترى في أفراد الوطن سوى مواطنين كاملي الأهلية يتنافسون بحسب الكفاءة والقدرة، وفي ميدان الحقوق والواجبات التي يكفلها وينظمها الدستور. من دون أن يتحقق ذلك فإن ميدان التفسير الديني يظل مفتوحاً لكل من هب ودبَّ كي يضع معايير الولاء والانتماء، فيدخل هذا ويخرج ذاك من دوائر الولاء التي يرسمها. وهي تفسيرات يكون التأسيس لها قد تم في مناهج التعليم التي تصنف الناس وفق معايير لا علاقة لها بالمواطنة والمساواة. على ذلك وعملياً، فإن ما تقوم به منظمات التطرف والدوعشة هو التفعيل العميلي والميداني لما هو مُنظر له أصلا في التربية الطويلة والمعمقة التي يتلقاها الطالب على مقاعد الدرس. فالمناهج العقيمة والجامدة والتي تنطوي على ثقافة إقصائية كامنة تعمل على تجهيز الأفراد وتحضيرهم لأي مشروعات تطرف مستقبلية. فإذا ما اشتغلت بقية عوامل تسعير التطرف التي أشير إلى عناوينها العامة في مقدمة هذه السطور، فإن وحدات الاشتعال تكون جاهزة ولا تحتاج إلا إلى شرارات الإيقاد. تحتاج مناهج التعليم العربية إلى ثورة حقيقية تقيم الاعتبار للعقل ولدراسات النقد والفلسفة وعلوم الاجتماع والأنسنة وعلم النفس والفنون، إضافة إلى العلوم التطبيقية والتقنية، ومنطلقة نحو المستقبل. وهذا يجب أن يكون ذلك على حساب مناهج التلقين والتحفيظ والإيغال في الماضي والتراث وحبس عقول التلاميذ والأجيال الشابة في معلقات التغني بأمجاد الماضي. من دون أن يكون هناك مسار عريض منشغل بتطوير التعليم وتحريره من السيطرة الدينية الجامدة والمغلقة، فإن كل جهود مكافحة التطرف وصده في المنطقة العربية لن تحقق أي نجاح طويل المدى.
959
| 28 ديسمبر 2015
صاحبة "شهرزاد ترحل غربا" ومؤلقات وإبداعات أخرى لا تحصى رحلت أوائل هذا الشهر. قليلون هم من يرحلون لكن لا يغيبون، وفاطمة من هؤلاء. في رحيلها تحضر تأملات تبادلتها وإياها منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة هي عمر صداقتي مع الراحلة الغالية، تفرض نشرها ثانية. إبداع فاطمة المرنيسي, الروائية, والكاتبة, والسوسيولوجية المغربية, يأتي من التقاطها لحوادث أو صيرورات عابرة نمر بها جميعاً فلا نكاد نعطيها أية أهمية. في كتبها الأولى, حول المرأة المغربية والعربية واضطهادها وثقافة الحريم التي عاشتها, ربما كان كثيرا مما التقطته المرنيسي معروفاً, لكن مخبأً خوفاً من الفضيحة! لكن مرارة المعالجة وجرأتها هو ما ميز ما قدمته. في سلسلة كتبها وأفكارها المتواصلة تقدم إضاءات جديدة. في كتاب "شهرزاد ترحل غرباً" أبحرت المرنيسي في مفهوم "حريم الغرب" المسجون بأسوار الزمان (التمسك بفترة الشباب والنضارة واعتبار ما خلاها لا يستحق أن يُعاش) والذي بمعنى ما لا يختلف عن حريم الشرق الذي كان يُسجن بأسوار المكان. في الجدل حول العولمة تساءلت المرنيسي باكراً من الفائز فيها: السندباد أم الكابوي؟ وهو تساؤل فيه تراكيب قد تبدو للوهلة الأولى غير متسقة, حيث يُقارن سندباد الحكايات الماضية في قرون الشرق بكاوبوي الغرب في الزمن الحاضر. وحيث تُقارن عولمة راهنة في قلبها رأسمال لا يهدأ من التجوال بحثاً عن الربح, بعولمة عصر السندباد التي لم تكن فيها الشركات متعددة الجنسيات ولا الضرائب ولا حقوق الملكية الفردية! لكن المرنيسي المهمومة بحوار الشرق والغرب على قاعدة ندية تواصلية وليس أسبقيات أفضلية تكسر محددات الزمن وتلتقط فكرة الأدب والترحال باعتبارهما قلب تعولم الشرق القديم, وتطرحهما بديلاً تواصلياً عن عولمة اليوم التي تراها متوحشة ويحتل العنف موقع القلب منها. السندباد عندها هو الرحالة الذي لا يعرف حدوداً للجغرافيا, بوصلته وصية أبو تمام "اغترب تتجدد", وأنشودته ترانيم الشاعر الصوفي التنيسي: "وسافر ففي الأسفار خمس فوائد: تفرج نفس, والتماس معيشة, وعلم, وآداب, ورفقة ماجد". الكاوبوي عندها هو الرحالة المهجوس بتملك الجغرافيا واحتلالها واعتبارها ثروته الخاصة. همه نصب القواعد والأركان وحماية ما تم احتلاله من أراض. عند السندباد الأمر أبعد كثيراً مما قد توحي به الأشعار ورومانسية التعرف على جغرافيات جديدة. فمن أهم ما فيه وعنه هو ما نقلته عن الجاحظ, ناصحاً خلفاء بني العباس, قائلاً: "الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك". وهي تتوقف هنا عند النظرة الاستكشافية المعرفية إلى "الغريب" واعتباره مصدرا للمعرفة يتم التواصل معها لزيادة المعرفة الذاتية. هذه النظرة الإيجابية للغريب تسم عولمة السندباد وتفترق عن عولمة الكاوبوي الذي برأي المرنيسي نظر للغريب نظرة استعداء مسبقة. ففي خضم دفاعه عن الجغرافيا التي أحتلها وسيجها وحصن نفسه فيها وخلف أسيجتها, صار يتعامل مع الغريب بالرصاص والتحصينات. من يقترب من السياج يدفع ثمناً غالياً. ثم في المرات التي يخرج فيها الكاوبوي من قلعة تحصيناته يخرج مدججاً بالسلاح غازياً ومحتلاً جغرافيات جديدة. ما نفهمه من طرح المرنيسي لمفهوم السندباد التواصلي the communicator أنها تريده بديلاً لمفهوم الكاوبوي المعولم. الأول فيه اندفاعة المعرفة والاستكشاف لذات المعرفة, والثاني فيه اندفاعة الإمبرطورية الباحثة عن المغانم. وطرح كهذا, وفي سياق نزوع إنسانوي عارم في الدوائر الثقافية والأكاديمية التي تنشط فيها المرنيسي يستحق التقدير بلا تردد. لكنه في ذات الوقت يحتاج إلى تنمية من أكثر من جانب حتى يزداد غنى وصلابة ويفلت من الاتهام بالمركزية الشرقية عكساً للمركزية الغربية. في المقام الأول تأتي مسألة تحرير مفهوم السندباد والكابوي من أية إحداثيات جغرافية وزمانية وإعطائهما صفة الصيرورة التي قد تتواجد في أي جغرافيا وفي أي زمان. بهذا التحرير يتم تفادي التورط في مانوية تبسيطية تعتبر الشرق ملاذ البراءة والغرب مصدر التوحش بما يخدم في المقام الأول أطروحات تصفيف الحضارات والثقافات ضد بعضها بعضا. في شرق السندباد الذي حفل بأدبيات رائعة حول الاستفادة من الغريب وترجمة الثقافات والانخراط معها وفيها واستيعاب علومها كان هناك كاوبوي يغزو العالم أيضاً بحثاً عن المصالح واحتلال الأراضي وضمها وضم ثرواتها. وبعيداً عن البراءة الساذجة التي أحياناً كثيرة ندعيها لأنفسنا كانت هناك حقب في تاريخنا سمتها الغزو الخارجي والاحتلال, أياً ما كانت التسميات التخفيفية التي نطلقها عليها. في المقابل وفي الوقت الراهن نرى سندباد الغرب يقاوم كاوبوي الغرب توكيداً على أن المفهومين غير محصورين بالجغرافيا بل هما خارقان للثقافات. ففي الآن الذي يتوحش فيه الكاوبوي الغربي نجد أن أشد مقاوميه ضرواة هو السندباد الغربي نفسه. ولعل أفضل تجسيد لمفهوم السندباد الغربي هو الحركات الإنسانية المعادية للتوحش الرأسمالي المعولم, والمعادية لأسلحة الدمار الشامل, والمعادية للحروب الإمبريالية البوشية.
1550
| 14 ديسمبر 2015
إرهاب القاعدة في الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 لم يدمر الولايات المتحدة، ومثله إرهابها في مدريد ولندن في السنوات التي تلت، وكذا إرهاب داعش الأخير لن يدمر فرنسا، كما لم يدمر إسقاط طائرة سيناء المنكوبة روسيا نفسها. تأذت تلك الدول كلها بلا شك، وأسقط الإرهاب ضحايا أبرياء من دون وجه حق، واستحق كل النعوت التي انتزعها عن جدارة، بكونه إجراميا ووحشيا ورخيصا. كل الإرهاب الذي توجه إلى بلدان غربية بمسوغات الانتقام أو الرد بالمثل أو ما شاء له من مسوغات، لم يصل لدرجة إحداث خدش في بنية القوة العسكرية والإجمالية للغرب، لكنه "تألق" في تدمير الشرق. "عبقرية" ذلك الإرهاب الخالي من العقل كان توفير المسوغ لقوى سياسية ومشاريع أمريكية متطرفة لإطلاق وحوش الحروب في المنطقة والعالم، فكانت أفغانستان ثم العراق، التي تناسلت من حربها كل الكوارث التي نعيشها الآن. الإرهاب الإسلاموي الغبي الذي انطلق (نحو أرض العدو البعيد) في نيويورك وعواصم العالم الغربي بدا كمراهق أرعن امتلك مسدساً فجأة، وصار يطلق النار في كل الاتجاهات، ومعها أطلق وحوش الحروب علينا. سقطت العراق بسبب إرهاب نيويورك ثم دخلت في سبتمبر التفكك الذي نشهد، ومعه انفتحت أمدية الفراغات السياسية والجغرافية والعسكرية مُستدعية القاعديين والزرقاويين ومتعصبي السنة، ليتحالفوا مع نظرائهم من متعصبي الشيعة، وليتنافس الطرفان في دفع العراق إلى وحل الطائفية الدموية التي لا يعرف أحد متى يبرأ من نزيفها. الإرهاب القاعدي ثم الداعشي دمر سورية أيضاً وأنهى ثورتها السلمية التي كان العالم كله يؤيدها ويصطف مع مطالبها في الحرية والكرامة. وهو ذاته كان قد تمدد إلى اليمن ليتنافس مع متطرفي الحركة الحوثية في تدمير البلد، وإعاقة خروجها من مسار الاستبداد السياسي إلى مسار الانتقال السلمي الربيعي،على رافعة ثورة شبابه المبهرة. وكذا انتشرت رقعة السرطان وتسلل إرهابها إلى ثورة ليبيا على القذافي فأحبطها من الداخل فأخاف الليبيين ومن يجاورهم من مآلات جغرافية ترتع فيها جماعات داعش، لتذبح المارين على شاطئ المتوسط تبعا لدينهم، وتبعاً لولائهم لها أو غيابه. في مستوى تدمير أقل وخلال العشرية التي نعيشها وما سبقها، ما من بلد عربي (وكثير من بلاد المسلمين) إلا واكتوى بنار الإرهاب الوحشي شمالا ويمينا. وقبل تلك العشرية أو أكثر كاد ذات الإرهاب أن يدمر الجزائر بعد أن أدخلها في مقتلة حرب أهلية استنزفت عقدا من السنين، ومعه مئات الألوف من الأبرياء، وثروات البلد، ومستقبلاته. بيد أن الشبح الأخطر من كل ذلك، الآن وراهنا، يقبع في حيرتنا إزاء التساؤل عن النقطة الزمنية التي نعيشها على وجه الدقة في منحنى توغل وتمدد الإرهاب الداعشي الدموي: أنحن في البدايات، أم المنتصف، أم النهايات...؟ حيرة ترهن مستقبلات بلدان عربية ومجتمعاتها للمجهول. يكفي أن نتأمل الرعب الكامن في هذا المجهول عندما نذكر أنفسنا أن داعش يتحكم في حياة سبعة ملايين من الناس في الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها في سورية والعراق، والتأمل في ما يمكن أن يفعله التنظيم من غسل لدماغ عشرات الألوف من الصبية والمراهقين والشبان. كلما امتد حكم داعش على هؤلاء أتيحت له فسحة زمنية أطول كي يضاعف تجنيده لهؤلاء ويقلبهم إلى "ذباحين" في أيديولوجيا العنف والدم التي لا تفهم إلا القتل. لو استمر حكم داعش إلى خمس سنوات قادمة فإن معنى ذلك أن جيلاً شاباً نشأ في مناخ الدعشنة المُتخم، ولو فرضنا أن عشر معشار ذلك الجيل انخرط في القتل الداعشي فمعنى ذلك أن جيشا من الدواعش قد تولي داخليا، تُناط به مهمة تدمير ما لم يتم تدميره من بلدان عربية وإسلامية. خلاصات ذلك كله يمكن تأملها على أكثر من وجه. الأول، هو أن الخسارات الفادحة والدمار الحقيقي جراء الإرهاب الذي صار يتخذ المنطقة العربية مقراً له، تواجهه دول ومجتمعات وبلدان المنطقة. دولنا ومجتمعاتنا هي التي تتفكك وتنهار وتتحطم، وليس المجتمعات الغربية. وما يجب أن يرتبط بذلك مباشرة هو الكف عن إحالة مسؤولية محاربة الإرهاب والقضاء عليه على الغرب، وكأن هذه المشكلة مشكلة غربية وفقط. الطرف الأساسي والمركزي والرئيسي الذي يدمره الإرهاب الداعشي وما سبقه هو الدول العربية، وهي التي صارت مهددة في وحدتها ومستقبلها، وبالتالي هي التي يجب أن تنتفض لمواجهة هذه الكارثة وتضعها على رأس أجنداتها. مسؤولية مواجهة إرهاب داعش هو مسؤولية عربية بالدرجة الأولى، ثم دولية وغربية بالدرجة الثانية. الوجه الثاني متعلق بالجدل والنقاش الذي لا ينتهي حول جذور الظاهرة الإرهابية ومسبباتها والبيئات التي أنتجتها، وهو جدل مهم وضروري لأن له علاقة مباشرة جداً بطرق مواجهتها. هذا الجدل قد ينتقل من مسار البحث الموضوعي المفيد الذي يقود إلى فرض تعديل السياسات وتخليق بيئات غير مواتية لنشوء الإرهاب، إلى مسار المناكفة السجالية التي تستهدف تسجيل النقاط وإدانة هذا الطرف أو ذاك أكثر من أي شيء. بإيجاز مُبتسر وربما مخل في النقاش يمكن النظر إلى الإرهاب الحالي على أنه نتاج ثلاث مجموعات من العوامل: الأولى خارجية ومتعلقة بالسياسات الغربية التدخلية والعسكرية منذ فرض إنشاء إسرائيل في المنطقة، مرورا بكل سياسات الحرب الباردة وتوظيف الأطراف الإسلاموية لخدمة هذا الطرف أو ذاك، وصولا إلى "الجهاد ضد السوفييات" في أفغانستان الأولى، ثم أفغانستان الثانية وبعدها والعراق وما تلا ذلك من كوارث. الغرب مسؤول هنا مسؤولية مطلقة عن الخراب العالمي الذي تسبب فيه، وعليه يقع جزء كبير من المسؤولية في مواجهة ما نحن فيه. المجموعة الثانية من العوامل، داخلية ومتعلقة بفشل دولة ما بعد الاستقلال العربية في بناء مجتمعات واقتصادات قوية تحقق الحدود الدنيا من مطالب الشرائح الأعرض للشعب، وتوفر له الحد الأدنى من الكرامة. والمجموعة الثالثة من العوامل متعلقة بالتعليم والثقافة الإعلامية والاجتماعية التي اتجهت نحو المحافظة في نصف القرن الماضي، بحيث إن الأنظمة التعليمية للدول نفسها أنتجت خصومها وأعداءها بسبب تسلل الخطاب الداعشي الناعم فيها وفي المجال العام بشكل إجمالي.
749
| 23 نوفمبر 2015
الانتفاضة المقدسية العنيفة والبطولية التي خاضها شبان فلسطين في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وفي الداخل الفلسطيني المُحتل، أعادت تدوير البوصلة إلى حيث يجب أن تكون، وأرجعت مسألة العلاقة مع إسرائيل إلى نصابها الحقيقي: مقاومة ضد محتل مستعمر استيطاني. جاءت الانتفاضة في وقتها لأنها قالت الكثير ولأنها عنت الكثير. جاءت تحمل رسالة راسخة ومتجددة تؤكد خسران الرهان الصهيوني على قدوم أجيال فلسطينية عزيمتها أقل من أجيال النكبة والفداء والثورة، أجيال سوف تنسى ما حدث وتقبل بالوضع القائم الذي أساسه الهزيمة وقبول اشتراطات المستوطن الكولونيالي. في قلب التفكير الإسرائيلي الصهيوني تكمن المراهنة على الزمن الذي سوف يعمل، بحسب الأمنيات الصهيونية، على خفوت الحقوق الفلسطينية، وخفوت المطالبة بها خلال عقود من اللجوء والشتات أو تثبيت الأمر الواقع العسكري والاحتلالي الباطش. من هاجر ولجأ إلى خارج فلسطين لن يستطيع أن ينقل حرارة اللجوء والانتماء والذاكرة إلى الجيل الذي يولد في المهجر، ولم ير يوما القرى والمدن والأرض التي يحدثه عنها الآباء. سوف تشتغل آلة النسيان الجبروتية وتُدمج الأجيال الفلسطينية الجديدة في عوالم بعيدا عن فلسطين. أما تلك الأجيال التي تولد في داخلها، فتشتغل عليها آلة التهجير المباشر وغير المباشر، لطردهم تدريجيا من البلاد. الهبة المقدسية الراهنة لطمت هذه الأطروحة الصهيونية في وجهها، وأجبرت الغالبية من الإسرائيليين على تأييد الانسحاب من القدس الشرقية. لسان حال الشبان الذين حموا الحلم الفلسطيني يقول كيف تأملون من النسيان، وتطلبون من يهود العالم بأسره أن يتذكروا أساطير وخرافات مر عليها ثلاثة آلاف سنة، ويحملوها ليأتوا إلى أرض فلسطين. الأطروحة الصهيونية بالغة الوقاحة لأنها هي ذاتها قائمة على الذاكرة وتقديسها رغم خرافاتها، وفي الآن ذاته تطالب من الفلسطينيين أن يقوم مستقبلهم على النسيان. اللطمة الثانية التي وجهتها الهبة الشبابية المقدسية في وجه الفكرة الصهيونية تأتي من زاوية تكسير نظرية «الجدار الحديد»، التي جاء بها فلاديمير جابوتنسكي، أحد قادة الفكر الصهيوني المتطرف، في عشرينات القرن الماضي. جابوتنسكي قال إن عرب فلسطين لن يقبلوا بمستوطنين غرباء يأتون من اقاصي الأرض ويأخذوا أرضهم، وسوف يقاومون بكل قوة. ولهذا لا بد من إخضاعهم بالقوة الجبارة حتى يفهموا أن بينهم وبين هؤلاء القادمين جدار من الحديد لا يمكن قهره ولا اختراقه. وهم، أي الفلسطينين، لن يهدأ لهم بال ولن تخفت مقاومتهم إلا بعد أن يدموا رؤوسهم وهم يضربونها في الجدار الحديد، ويقتنعون بالهزيمة. بعدها، وبعدها فقط، يمكن التفاوض معهم وبحسب شروطنا نحن. نظرية جابوتنسكي هذه احتلت مع الزمن قلب الاستراتيجيات الإسرائيلية، يمينها ويسارها، وأثمرت لاحقا اتفاق أوسلو الذي جاء بحسب المقاس الإسرائيلي طولا وعرضا. كل ما جاء ويجيء خارج النص «الاوسلوي» خاصة بعد فشله المدوي، من انتفاضات، من حروب غزة المتلاحقة، من المقاومة السلمية أو غير السلمية، وصولا إلى الهبة المقدسية، هو تمرد على نظرية الجدار الحديد وإعلان بأنها لم تنجح ولن تنجح طالما هناك شعب حي في فلسطين واجيال شابة متمسكة بفكرة المقاومة والهوية الوطنية. الرسالة الأساسية الثانية لهذه الهبة التي تعيد وصل حلقات الانتفاض والمقاومة ضد إسرائيل واحتلالها هو عفويتها الشعبية وانطلاقها من قلب الرفض الفلسطيني العارم، بعيدا عن القيادات السلطوية، والحزبية، وغيرها. لم توجها أية بيانات صادرة لاحقا بعد أن تفاجأ أصحابها بما يحدث على الأرض، ولم يستطع ولا يستطيع أحد أن يعلن امتلاكه أو قيادته لها. بل ربما أمكن لنا أن نقرأ على هامش متنها الأساس المقاوم، إدانة مبطنة لكل تلك القيادات التي خيبت آمال الفلسطينين على أكثر من صعيد، أهمها صعيد بناء التوافق الفلسطيني وإنهاء الانقسام الذي قدم خدمة تاريخية لإسرائيل لم تكن تحلم بها. الانتفاضة المقدسية اشتغلت بعيدا عن الزحام السياسي والتنافسي والتفاوضي والاوسلوي، وتوجهت نحو البوصلة الحقيقية والعدو الحقيقي. الرسالة الثالثة إقليمية تعيد ترتيب مسألة الأولويات والقضايا، وتعمل على إعادة فلسطين وقضيتها وحقوقها على رأس الأجندة السياسية. في غمار الحروب والتنافسات الإقليمية والحطام الذي ينتشر في المنطقة ضاعت فلسطين، وتحالفت التدخلات الخارجية وحروبها، مع الغباء الأصولي والأطماع الإيرانية المتعاظمة على إزاحة فلسطين عن المشهد، وإحلال قائمة طويلة من القضايا والأزمات التي شغلت الدول والرأي العام. يتحمل أولئك جميعا ومن دون استثناء إغراقنا وإغراق المنطقة في وحل الصراعات والحروب الداخلية التي لا طعم لها، والتي كلها خدمت ولا تزال تخدم إسرائيل. انتفاضة القدس وشبانها في طول وعرض فلسطين أعادت وهج فلسطين ومركزيتها إلى تلك الأجندة التي لا تني تريد التخلص من عبء تلك القضية والانتهاء منها. رسالة الانتفاضة للجميع، بمن فيهم بعض العرب الذين بلغ عندهم «الملل» من فلسطين درجة التخلي عنها والتركيز على غيرها من القضايا، تقول أن دفن الرؤوس في الرمال ليس باستراتيجية، وأنه ما لم تتحقق الحقوق الفلسطينية في التحرير وحق تقرير المصير، فإن المنطقة كلها لن ترتاح أو تنعم بالاستقرار. الرسالة الرابعة للهبة المقدسية البطولية كانت دولية، وهي نسخة موسعة عن الرسالة الإقليمية، وموجهة لصناع القرار في دول المتروبول، وهم في جلهم ممن يريدون الانتهاء من فلسطين وقضيتها، أو تناسيها، والالتهاء بالاجندات الأخرى التي كانت في مجملها نتيجة سياساتهم الخرقاء. انتفاضة القدس أربكت الإهمال الدولي والقت خطابا من ساحات القدس كان اهم من كل خطاباتنا فوق كل المنابر، جوهره أن الحقوق الفلسطينية لا يمكن أن يتم نسيانها، ومن دون أن تنجز على الأرض فإنه لا استقرار في المنطقة. وأن كل مرحلة وكل جيل من أجيال فلسطين عنده العبقرية الخاصة به لمواصلة المقاومة من أجل تلك الحقوق، وضد مغتصبيها الاحتلاليين ومن يعاضدهم ويؤيدهم من قريب أو بعيد.
425
| 26 أكتوبر 2015
هو سؤال ثقيل الوطأة بامتياز: ما الذي حدث للربيع العربي وأين آلت ثوراته التي منحت الشعوب العربية آمالاً عريضة في إمكانية الخروج من أنفاق الاستبداد والفساد والتخلف التي حشرتها فيها أنظمة "دولة الاستقلال"؟ وهو السؤال الذي يحاول الأكاديمي والباحث الألماني "إيبرهارد كينلة" وزميلته "نادين سيكا" الأكاديمية اللبنانية مواجهته والتأمل فيه، في كتاب صادر حديثا بالإنجليزية بعنوان: "الانتفاضات العربية: التغير والتحدي"...The Arab Uprisings: Transforming and Challengeتتفاقم وطأة السؤال بالتوازي مع سرعة الحدث المدهشة وتاريخيته.. ففي مساحة زمنية قصيرة اندلعت انتفاضات شعبية غير مسبوقة، وسقطت أنظمة راسخة، واهتزت عروش أنظمة أخرى، وانتصرت ثورات، ثم ما لبث وأن هُزمت. الأسوأ والأكثر دهشة هو عودة من سقط من الأنظمة، وقد ازداد شراسة وعنفاً. يُضاف إليه أن الأنظمة التي اهتزت استبداداتها هنا وهناك تعلمت الدرس "الانتفاضي" فراجعت إستراتيجياتها في مواجهة شعوبها وإطالة عمرها وأمدية تسلطها. ما الذي حدث إذن؟ ولماذا نجحت ثورات كثيرة في طول وعرض تواريخ شعوب وبلدان العالم، في حين أدار ذلك النجاح ظهره للعرب؟ لن تترك هذه الأسئلة أحدا يرتاح وخاصة ممن تفاءلوا بتلك الانتفاضات الشعبية العفوية، وأملوا باندحار حقبة وانبلاج أخرى.يجمع كينلة وسيكا في هذا الكتاب عدة مساهمات أكاديمية رصينة تقدم مقاربات ومحاولات للإجابة على تلك الأسئلة الصعبة، وللبحث في الجذور التاريخية والسياقات المختلفة التي وفرت نجاحاً أولياً هنا أو هناك، كما في مصر وتونس، أو تحولاً صراعياً دامياً، كما ليبيا وسورية. ثم كيف أثرت موجة الانتفاضات العربية على الوضع القائم للأنظمة المحافظة والملكية، حيث أربكتها في المرحلة الأولى، لكن عززت من حضورها وربما شرعيتها أمام شعوبها في مرحلة لاحقة. يُقرر المحرران ابتداءً ما هو مقرر من أن حالات البلدان العربية سواء لجهة دراسة ثوراتها أو أية جوانب أخرى فيها تتصف بالتشابه الذي يميزها عن دول مجاورة غير عربية أخرى، لكنها تتباين في الوقت ذاته عن بعضها البعض بما يستوجب الحذر من تطبيق مفهوم معين أو إطلاق حكم عام يطال "العرب" أو "الدول العربية" وكأنها كتلة مصمتة واحدة. تتجسد أهمية هذا التقرير الابتدائي والنظري وتحذيراته ونحن نقرأ ونقارن بين ما كتبه فرد لوسون في الفصل الثالث حول "إعادة النظر في الاقتصاد السياسي للانتفاضات العربية: مقارنة بين الجزائر واليمن"، وما كتبه جون شالكرافت متسائلا عن "أي تغيير يمكن أن ينجزه الاحتجاج: الفاعلية وحدودها في الانتفاضات العربية".. المقاربة الأولى تحاول أن تعيد الاعتبار إلى منظور الاقتصاد السياسي في فهم العوامل المسببة للانتفاضات العربية، وكذا العوامل التي أفشلتها. ويرى لوسون أن معظم الأدبيات التي تناولت الربيع العربي فشلت في استكناه أثر الأزمة العالمية المالية في سنوات 2008 و2009، وما نتج عنها من كساد في التجارة الدولية، وزيادة معدلات البطالة في الشرق الأوسط، وبالتالي مساهمتها في تفعيل العوامل الانتفاضية. وهكذا وبسبب الترابط والتبادلية الاقتصادية العالمية فإن البلدان العربية تأثرت مباشرة من تلك الأزمة، وقاد ذلك إلى ضغوطات داخلية متراكمة ومتسارعة انفجرت على شكل الربيع العربي. تنتمي هذه المقاربة إلى نوع التحليل الفوقي والإجمالي الذي يفترض ترك المنعكسات والظروف الناتجة عن تحول عالمي أو إقليمي ذات الأثر على الأطراف المخلتفة. وهنا ثمة افتراض مُستبطن بالتالي، وشبه رياضي، بأن الوحدات المتأثرة، أي الدول والمجتمعات هنا، متجانسة ومصمتة وشبه موحدة في طرائق استجاباتها، كما هي دول الربيع العربي جراء الأزمة العالمية المالية.على الطرف الآخر وشبه النقيض من التحليل تأتي مقاربة جون شالكرافت التي يرى فيها أن الفهم الأدق للربيع العربي ونجاحه أو فشله يجب أن يتأتي من قراءة كل حالة على حدة، أي النظر إلى الاختلافات والتباينات وليس افتراض التشابه المصمت أو الغالب. وأن التحليل المُبدع والمبادر لكل انتفاضة شعبية، ثم لكل انقلاب عليها، ودراسة الظروف المحيطة والتحولات التراكمية هو الذي يفيدنا في نهاية المطاف. لكن وقبل قراءتي لوسون وشالكرافت، هناك فصل تأسيسي مهم قدمه روجر هيكوك بدأ فيه النقاش بمتابعة الثورات الأوروبية الشهيرة في منتصف القرن التاسع عشر، وتمحيص ظروفها التاريخية السياسية والاقتصادية، كل على حدة، والوصول إلى "نماذج" محددة يمكن الاستفادة منها وقياس الانتفاضات العربية عليها. والجهد الذي قام به هيكوك في "مقارنة ما لا يُقارن"، كما هو عنوان فصله، يستحق التقدير لما فيه من جهد سوسيولوجي واقتصاد سياسي وتاريخي، ومقاربة تأملية صعبة بين حقبتين وعامين مختلفتين تماماً: 1848و 2011. يلي ذلك مقاربات تومسا ديملهوبر، الآن ديكوف، إيبرهارد كينلة، ونادين سيكا، حول الملكيات في الخليج وشرعية بناء الدول، وعودة انبعاث الملكيات العربية، والاحتجاج الشعبي وتحول شكل الدولة بشكل عام (كينلة)، وفي مصر وسوريا تحديداً (سيكا). تتعمق هذه القراءات في مصائر الربيع العربي ودينامياته الداخلية والارتدادات التي أنتجها وحالة السيولة الجيوإستراتيجية والسياسية التي تولدت عنه، وهذا ما يُسجل لها ولمحرريها. ما يُؤخذ عليها هو تهميشها لدور الفاعلين الدوليين، سواء دولا كبرى أو إقليمية، في التأثير في تلك المصائر، مقابل التوغل في تحليل آليات الاقتصاد السياسي والبنى الداخلية التي لا أحد بطبيعة الحال يُجادل في جوهريتها. لكن المثال الليبي والسوري يقدمان دليلا كبيرا على أن العامل الخارجي، الدولي والإقليمي، كان الحاسم في إنجاح الثورة في مرحلتها الأولى (ليبيا)، وفي إفشالها في ما بعد مرحلتها الأولى (سوريا)، ثم في تعطيل قيام نظام ناجز وفعال بعد انتصارها، كما هو المثال الليبي ثانية.
1333
| 12 أكتوبر 2015
السؤال الأول: لماذا لم تفتح ولا تفتح روسيا وإيران بلدانها للاجئين السوريين، وكلا البلدين ولغ في الشأن السوري تحت مزاعم حماية السوريين من الإرهاب، وبرر إرسال قنابله وخبرائه بمسوغ مساعدة الشعب السوري في محنته؟ السؤال الثاني: لماذا لا يتوجه اللاجئون السوريون أنفسهم وبمحض إرادتهم إلى روسيا أو إيران، وهي الدول التي هبت لنجدتهم خلال السنوات الماضية فور اندلاع ثورتهم ضد الاستبداد الأسدي؟ لا يبحث هذان السؤالان الاستنكاريان عن إجابة هي واضحة لكل من يتابع المأساة السورية بقدر ما يسلطان الضوء على مفارقة مُمضة كبيرة تُضاف إلى مفارقات مواقف هاتين الدولتين. روسيا تقفل حدودها في وجه السوريين وربما الوصول للقمر أسهل لكثير من السوريين من الوصول إلى روسيا لو أرادوا التوجه إليها. روسيا أيضاً من البلدان غير الجاذبة أصلا بسبب تفاقم الشوفينية الروسية القيصرية وانبعاثها من القبور مع قدوم بوتين، وهي شوفينية يلحظها كل زائر، وتترجم عبر قوانين صارمة في الإقامة والعمل، ناهيك عن التجنيس الذي ربما يعد الأصعب منالاً في شمال الكرة الأرضية كلها. ولعدم وجود تكافؤ الفرص بين الأفراد بغض النظر عن خلفياتهم وجنسياتهم فإن روسيا ليست جهة مرغوبة للسفر أو العمل، بعكس الدول الغربية التي تتهكم عليها روسيا، والتي يرغب في الهجرة إليها كثيرون ومنهم روس أيضا. إيران ليست بأفضل حالا بطبيعة الحال، ذلك أن الشوفينية الفارسية المُتصاعدة تكاد تنافس الروسية في انغلاقها على ذاتها وعدم تقبلها للآخر. والشيء المُفارق في الحالة الإيرانية هو قربها الجغرافي من سورية وبالتالي سهولة أن تكون جهة مطروقة من قبل اللاجئين السوريين. وبرغم إدعاء طهران الرسمي بأن إيران تفتح حدودها للسوريين، وهو إدعاء يحتاج إلى تحقق، فإن السوريين أنفسهم يديرون ظهرهم لها ويغامرون بأرواحهم ويلقون بأجسادهم في البحار والمحيطات عوض أن يصلوا لإيران بمخاطر لا تقارن مع تلك التي تواجههم عند توجههم لأوروبا. إيران وروسيا مسؤولتان تاريخيا عن مئات الألوف من الضحايا السوريين الذين سقطوا خلال السنوات الماضية، سواء على يد النظام أم على أيدي الجماعات الإرهابية المتطرفة من داعش وأخواتها. وهما مسؤولتان عن تهجير ما يقارب من خمسة ملايين سوري إلى خارج بلادهم وأكثر منهم داخل بلادهم، فضلا عن إرجاع سوريا عقودا عديدة إلى الوراء عبر تدميرها التام. كل ذلك من أجل الحفاظ على حكم فرد واحد يحقق للدولتين ما تريدان من بسط البلاد بطولها وعرضها كحصير مفتوح للنفوذ الإيراني والروسي. والبلدان مسؤولان أيضاً عن أي تقسيم قد يحدث لسورية على رافعة إقامة وتأسيس "دولة الساحل العلوية" لتوفير قاعدة وجود دائمة للروس، وإطلالة دائمة للإيرانيين على البحر المتوسط. في خضم هذا الولوج "الاستراتيجي" في الشأن السوري والأرض السورية، وتحت لافتة الدفاع عن الأسد، يتحول الشعب السوري نفسه بملايينه إلى حطام يُداس تحت الأرجل. من يستطيع منه الهجرة والهرب لن يتأخر، فإما أن يلتهمه البحر أو تقذف بها الأمواج ميتا على شواطئها، والمحظوظون ينجون شبه موتى. يحدث ذلك ولا يراه الإيرانيون والروس ولا طبعا النظام في دمشق، وكأنه يحدث في كوكب آخر. لا يكمن الخطر في لا مبالاة طهران وموسكو بملايين السوريين الذين لا يظهرون أساسا على شاشات رادارات الحسابات الإستراتيجية للعاصمتين، حيث ليس ثمة وقت للتفكير أساسا بقضايا هامشية و"تافهة" مثل لجوء ملايين إلى خارج سوريا، أو سقوط آلاف الضحايا. الضوء الأحمر يأتي من محاولة تبرير عدم استقبال إيران وروسيا للاجئين سوريين، وهو تبرير يكشف تفكيراً استئصالياً خطيرا كانت ترجمة نظيرة له قد حدثت في نطاق الاتحاد الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي خاصة في حرب بوتين النازية ضد الشيشان، وحدثت ولا تزال تحدث في إيران وإن كان بوتيرة أقل وحشية وأبعد عن الإعلام ضد كل المكونات غير الفارسية في إيران وعلى رأسها العرب على طول ساحل عربستان والداخل. ذلك أنه نسج وتناغم مع تجارب البلدين "الباهرة" في الإزاحة والإبادة الديموغرافية، يتصاعد حديث عنصري وإبادي يكرر بأن اللاجئين السوريين الذين أجبرتهم حرب النظام وحلفائه على ترك بلدهم هم أصلا من "اتباع" الجماعات التكفيرية أو المتعاطفين معها، ومن الذين لا يؤمنون بالعيش المشترك والتعددية الثقافية والدينية في سورية، وبالتالي فإن التخلص منهم شيء جيد ولا يجب أن يثير الشفقة ولا التحسر. وتبعا لهذا التفكير، إذا أضفنا الملايين السورية التي هجرت داخل سورية بعيدا عن مدنها وقراها وأريافها وأضفناها إلى معادلة "التحليل الإبادي" المذكور لوصلنا إلى نتيجة سريعة مفادها أن معظم الشعب السوري صاروا من اتباع الجماعات التكفيرية، ولا بأس من التخلص منهم، وإعادة تركيب سورية ديموغرافيا وجغرافيا.بطبيعة الحال، وعلى خلفية البشاعة الطائفية والتقسيم الديني الحادث حاليا في قلب المأساة السورية، فإن استمرار سيل تدفق مئات الألوف من اللاجئين السوريين (اتباع الجماعات التكفيرية!) إلى خارج سورية يعني التأثير في التوازنات الديموغرافية وربما قلبها رأسا على عقب في بعض المناطق، مثلما يحدث في مناطق الساحل والمحاذية للبنان، وما حدث في القلمون ثم الزبداني أوضح دليل. خلاصة ذلك كله، أن التغول والاحتلال الإيراني الروسي لسورية يتم بأغلى الأكلاف على شعبها، وبأقلها على طهران وموسكو اللتين يأنف سياسيوها ويتكبرون على السوريين وآلامهم وهجراتهم ولا يبدون أدنى استعداد ولو تظاهري بتحمل جزء من مسؤولية الجريمة التاريخية التي أشرفوا على إنجازها.
451
| 28 سبتمبر 2015
ربما لم يتبق ما يُقال عن أحداث الأقصى الأخيرة وتواصل الجرائم الإسرائيلية التي تحميها وترعاها حكومة يمينية متطرفة، تستهدف في نهاية المطاف تهويد القدس بأكملها وقضم المسجد الأقصى والحرم الشريف، وتقسيمه مكانيا وزمانياً.كل عبارات الشتم والإدانة والشجب قيلت وكُررت. كما أعيد تدوير النواح على مواقف الحكومات والدول العربية والإسلامية وقعودها وتخاذلها عن فعل شيء. وكذا قيل الشيء نفسه عن مواقف منظمة التضامن الإسلامي بل وحتى الدول الغربية والأمم المتحدة. ذلك كله لم يعن شيئاً بالنسبة لإسرائيل لأن حاصل جمعه النهائي رطانة لغوية خالية من دسم الفعل الحقيقي. إسرائيل تنظر بعين الاستهزاء والسخرية إلى العرب والمسلمين ومئات ملاينهم وهي تراهم غارقين في طحان حروب دموية وصراعات تستنزفهم حتى النهاية. إنجازات المشروع الإيراني المقاوم والممانع في المنطقة في إثارة الحروب وتقسيم البلدان من العراق وسورية إلى لبنان واليمن أحالت فلسطين إلى آخر جدول الاهتمام على الأجندة الإقليمية. فكيف والأمر كذلك يمكن لإسرائيل أن تحسب أي حساب لغثاء سيل تصريحات الشجب والإدانة التي تنهال بلا توقف؟ كيف لها أن تحسب أي حساب وهي لم تر ولا حتى مسيرة احتجاج واحدة أو مظاهرة حقيقية في أي بلد من البلدان العربية أو الإسلامية ضد ما تقوم به. بل والأنكى من ذلك أن مظاهرات التأييد والاحتجاج الخجولة التي نُظمت في فلسطين ذاتها تعرضت للقمع والضرب والإهانة من قوات أمن السلطة الفلسطينية التي لم تتفجر بطولتها إلا على الفلسطينيين أنفسهم، وهو أمر يغرقنا جميعا في الخجل والعار حقاً. على كل حال يبقى السؤال الكبير والصعب، ما العمل؟ لن تكرر هذه السطور ما طالب به كثير من المخلصين لجهة استنهاض سياسة عربية وإسلامية قوية وحقيقية، وكذلك مطالبة الدول التي لها علاقة رسمية مع إسرائيل بجهد مضاعف، بما في ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية أوالتهديد بقطعها على الأقل (الأردن ومصر على وجه التحديد). ما تتوقف عنده هذه السطور هو دور الجهات غير الرسمية في العالم العربي والإسلامي في حماية القدس والوقوف ضد تهويدها المتسارع. التهويد المتسارع يهدف ببساطة إلى تحويل القدس كلها، وتحديداً القدس الشرقية، إلى مدينة يهودية خالصة، مقابل هذا الانفتاح اليهودي العريض على القدس والفيضان الذي لا يهدأ والذي يأخذ أشكالاً عديدة، يتمترس العرب والمسلمون وراء خرافة الخوف من التطبيع ويمتنعون طوعا عن زيارة استثمار المسوغ الديني لزيارة القدس، فضلا عن الاستثمار فيها وتشغيل الفلسطينيين. ما الذي يضير القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية لو توافدت إليها مواكب زوار دائمين من العرب والمسلمين وضمن برنامج يستهدف تعزيز صمود المقدسيين والحفاظ على صورة المدينة الإسلامية المسيحية ومتعددة الأديان وليست المقصورة على الجانب اليهودي؟سيقول كثيرون إن مثل هذه الدعوة تعني التطبيع المجاني مع إسرائيل، وكأن التطبيع مع إسرائيل ليس قائماً وعلى أعلى المستويات العلنية والسرية. وكأن التضحية بالقدس وأهلها وهويتها تصبح مقبولة من أجل المحافظة على شعار عدم التطبيع والذي وإن كان مطلوبا بقوة في ظروف وحالات أخرى، فإنه في حالة القدس يتحول إلى سياسة تخدم إسرائيل وتفيدها. ما الذي تريده إسرائيل أكثر من الامتناع الطوعي الإسلامي والعربي عن التوجه للقدس وزيارة الأماكن الدينية والسياحية فيها، والعمل على كسر الصورة والطابع اليهودي الذي يُفرض عليها؟ ما الذي تريده إسرائيل أكثر من الامتناع الطوعي للرأسمال العربي والإسلامي عن الاستثمار في القدس وتشغيل عشرات الآلاف من الفلسطينيين والمساهمة في إبقائهم مزروعين في أرضهم وقدسهم؟ سيقول كثيرون هنا إن فتح الباب للزيارة والاستثمار العربي والإسلامي في القدس سوف يفتح مجالات وقنوات تستغلها إسرائيل على الفور. وهذا صحيح طبعاً، لكن نجاح إسرائيل أو فشلها في ذلك مرهون بنا وبسياستنا وكيفية وآلية الزيارة والاستثمار، ويجب أن لا يمنع ذلك من وضع خطط وقائية تحبط ذلك مسبقا. مع كل سنة تمر تتهود القدس أكثر وأكثر وتضيق عليها حلقة التهويد لتصل إلى مربع الحرم الشريف نفسه. ومع كل سنة تمر تضعف شوكة مقاومة المخططات الصهيونية ويزداد الاستعداد النفسي لتقبل مخططات التهويد.. ذلك أن تهيئة وتحضير الأجواء لتلك المخططات عبر الاعتداءات المتواصلة صارت أمراً يعرفه الجميع. ومع كل سنة تمر تقل حتى أعداد الفلسطينيين المتواجدين في القدس للدفاع عنها، جراء ضغوطات الإفقار والتهجير التي تنفذها إسرائيل بشكل متواصل. ومع كل سنة تمر نقصف، نحن في الخارج، إسرائيل بشعارات عدم التطبيع وفتاوى تحريم زيارة القدس عدة مرات، لمنع كل من يفكر بالتضامن مع أهلها، ثم نأوي إلى وسائد التلطي والكسل فرحين بشعاراتنا بقية السنوات.
630
| 21 سبتمبر 2015
تتأمل هذه السطور وبهدوء السياسات والمواقف التي تبناها "محور الممانعة" بقيادة إيران في العقد الأخير، وما أنتجته على الأرض من وقائع صلبة منافية ومضادة للشعارات التي تُرفع، أو حتى ضد الرغبات والتمنيات التي ربما كان بعضها صادقا وجادا. والافتراض النظري الذي تنطلق منه يأخذ الشعارات التي رفعها محور الممانعة في العشرية الأخيرة محمل الجد ويفترض صدقها. بوصلة محور الممانعة كما نعرف جميعا وكما هو معلن ومتردد بشكل يومي في خطابات أطراف هذا المحور هو مواجهة "إسرائيل".. وبرنامج هذا المحور تبعاً لذلك يُفترض أن يكون خوض حرب كبرى مع إسرائيل وتحرير فلسطين، لكن هذا عملياً لم يحصل.وإذا أردنا أن نحاسب هذا المحور تبعا لإعلاناته ونواياه وخطاباته، فإننا أولا نأخذ إعلاناته وخطابته وتهديداته لإسرائيل مأخذ الجد الكامل.. إذا قيل إن مطالبة محور الممانعة بخوض حرب كبرى وتحرير فلسطين هو أمر فيه تساذج كبير، فهناك ظروف وعوامل واعتبارات كثيرة تحول دون ذلك في الوقت الحاضر، فمعنى ذلك أنه من حق من ينتقد هذا المحور وسياساته أن يعتمد على قاعدة الشك والتمحيص في كل الشعارات والادعاءات، وأن ينتهي ذلك كله بمحور الممانعة كما انتهت الأمور بكل الأنظمة والمحاور التي استخدمت نفس الشعارات ثم لم تنفذها.. على كل حال، طالما وأن التحرير صعب فقد تركز خطاب الممانعة على دعم المقاومة، وهو تعبير فضفاض وغامض يفتح الباب لتفسيرات وتأويلات لا تنتهي، لكنه وهذا هو المهم يسمح بتمرير سياسات وممارسات عديدة، وإقامة تحالفات عابرة للحدود والوطنيات.. الخلاصة أنه إذا كان بالإمكان افتراض جدية خطاب المقاومة والممانعة في فلسطين، ويترجم إلى دعم عملي للمقاومة، فإن توظيف نفس خطاب الممانعة في أي مكان آخر في المنطقة العربية يكون هدفه توفير غطاء لسياسات نفوذ وتعزيز مكاسب إستراتيجية وغيرها، من لبنان إلى اليمن. أطراف محور الممانعة تتفاوت درجة "ممانعتها"، وطبيعتها وتتباين أهداف كل منها، سواء أكانت دولا أم منظمات أم ميليشيات.. إيران هي النواة الصلبة والموجه لهذا المحور، يأتي بعدها نظام الأسد في سورية، وبينهما النظام في العراق المنخرط في هذا المحور ليس لدوافع ممانعة ومقاومة إسرائيل بقدر ما هو تحصيل حاصل تفرضه حقيقة الخضوع للنفوذ الإيراني في العراق وتبعية الطبقة السياسية الحاكمة فيه. يلي ذلك حزب الله في لبنان ثم في السنوات الأخيرة برز نجم جماعة الحوثي في اليمن. في فلسطين نفسها حيث الراية التي يرفعها محور المقاومة هناك حماس والجهاد الإسلامي، الأولى تضع قدما في هذا المحور وأخرى خارجة منذ تحولات الربيع العربي، والثانية يتيح لها صغر الحجم مقدارا أكبر من المناورة حيث لا تُرصد تماما من قبل رادارات مراقبة تحولات الموقف السياسي.. ثم هناك بعض الفصائل الفلسطينية الهامشية من بقايا اليسار الثوري المتقلب والمُنهك من نقل البندقية من كتف حليف إلى آخر.. لكن الغريب، فلسطينيا، هو غياب أي رصيد شعبي أو تأييد حقيقي على مستوى الشارع الفلسطيني لمحور الممانعة، بيد أن هذا موضوع آخر، يستحق وقفة خاصة به، حتى لا يجرنا بعيدا عن التأمل في أجندة وأهداف كل طرف من هذه الأطراف وعلاقتها الحقيقية بجوهر "الممانعة"، أي فلسطين.. الأطراف الثلاثة الأهم في محور الممانعة هي إيران، وسورية وحزب الله.إيران طبعا هي التي تستأثر بالقيادة والنقاش، لأن باقي الأطراف مجرد توابع تدور في الفلك الإيراني.. لنتأمل، ومن زاوية فلسطينية تحررية، الإنجاز الإيراني خلال السنوات المديدة من عمرها الممانع. منذ قيام ثورة الخميني في أواخر سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم مر أكثر من ثلاثة عقود ونصف، وخلالها لم يهدأ الخطاب الإيراني في تهديداته لإسرائيل يوماً ما، بما في ذلك التهديد بتدميرها والدعوة إلى محوها عن الخارطة. عمليا وعلى أرض الواقع لم يطلق أي فرد من الحرس الثوري الإيراني رصاصة على إسرائيل، وكثير منهم وصل إلى الأرجنتين، وقلب أوروبا، وبلدان أفريقية وأرجاء عديدة من العالم، لتنفيذ مهمات. لماذا لم تقم إيران بتحرير فلسطين وتنفيذ تهديداتها طيلة العقود الثلاثة والنصف وبرغم وجود "ولي أمر المسلمين" فيها؟ تلك الفترة الزمنية الطويلة هي أطول من الفترة التي اندلعت فيها حربان عالميتان في أوروبا، احتلت فيها دول، ودمرت أخرى، وحررت ثالثة وهكذا.. وهي نفس العمر الزمني للاتحاد السوفييتي الذي صار إمبراطورية عظمى ثم انهار في سبعين عاماً. لكن لماذا يوجه هذا السؤال لإيران وليس للعرب؟ الجواب لأن إيران هي التي حملت لواء الممانعة وهددت بتدمير إسرائيل. أرادت إيران من خلال "دعم المقاومة" ورفع شعار الممانعة أن تحمل راية فلسطين الجذابة، ونجحت لسنوات ليست بالقليلة في الوصول إلى الرأي العام العربي عبر تلك الراية.. لكن مرة أخرى فإن الخلاصات على الأرض اليوم تقول لنا إن ما تحقق على جبهة "تحرير فلسطين" هو العكس تماماً: تعزز وجود إسرائيل، وتكرس احتلالها، وساهم التدخل الإيراني في القضية الفلسطينية في أحداث الانقسام الكبير والشرخ الرأسي في قلب الحركة الوطنية الفلسطينية، كما ساهم في فصم جغرافيتها أيضا.
1013
| 14 سبتمبر 2015
من حق الرئيس محمود عباس أن يستقيل من رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومن رئاسة السلطة الفلسطينية، وشكره على ذلك، وقبول الاستقالة على ظاهرها، ونتخادع ولا نعتبرها مناورة سياسية، وأن نشجعه على المضي فيها وعدم سحبها. يعرف الرئيس عباس ومؤيدوه ومعارضوه أيضاً أن الوضع الفلسطيني دخل حالة من التكلس القاتل، وأن أحد أهم أسباب هذا التكلس هو تعفن الطبقة القيادية التي ظلت على رأس الهرم السياسي والنضالي الفلسطيني منذ أن انطلقت الثورة الفلسطينية بشكلها الحديث في أواسط الستينيات من القرن الماضي. يعرف الجميع أيضاً أن متوسط أعمار هذه الطبقة يتجاوز الثمانين عاماً، وأن جلهم ممن كانوا في العشرينيات من العمر ورافقوا بدايات النضال الفلسطيني، آن لهم أن يترجلوا ويتركوا لغيرهم قيادة المشهد. لا يخترع أحد العجلة من جديد عندما يقول إن استمرار القيادات لعشرات السنين في مواقعها لا يعني سوى التعفن، فهذه ملاحظة انتقلت من مربع التنبؤ الاجتماعي والسياسي وصارت قاعدة تنتمي إلى قوانين الفيزياء والرياضيات. حتى القادة التاريخيين العظام الذين غيروا مسارات ومستقبلات بلدانهم تنحوا جانباً، وتركوا للدماء الجديدة أن تجري في عروق بلدانهم ومجتمعاتهم وناسهم. في الطبقة القيادية السياسية الفلسطينية الثمانينية العمر والتي تعاني من كل أنواع الأمراض السياسية والجسدية أيضا، ليس هناك وينستون تشرتشل هزم النازية وأنقذ بلاده من كارثة الوقوع تحت احتلالها، وليس هناك شارل ديغول أيضا، ولا نيلسون مانديلا بعظمته التاريخية والنضالية والإنسانية. هؤلاء جميعا قاموا بنصيبهم في القيادة ثم ودعوا كراسيها الأثيرة برفعة ورجولة. على الرئيس عباس أن يقتدي بهؤلاء ويسلم الأمانة مشكوراً. من ناحية سياسية بحتة وبتحليل بارد تحولت السلطة الفلسطينية ومشروع أوسلو برئاستها الحالية إلى منحة سماوية لإسرائيل، لأنها تحقق ديمومة الوضع القائم بشكل مذهل، وهو وضع تعتاش عليه إسرائيل الآن بحبور وارتياح، ويمكن أن تعتاش عليه إلى ما لا نهاية. الوضع القائم يعني أن إسرائيل لا علاقة لها بأكلاف الاحتلال الكولونيالي الذي تفرضه على فلسطين والفلسطينيين وبكونها القوة الاحتلالية من وجهة نظر القانون الدولي، بل تحيل تلك الأكلاف إلى الشعب الواقع تحت الاحتلال ليقوم بالوظائف الحياتية، ولتتصارع فئاته على من يقوم بتلك الوظائف. في الوقت نفسه تبقى القضايا الكبرى مثل السيادة، والقدس، والحدود، واللاجئين، معلقة في سقف المستقبل والأوهام المزروعة في الهواء. هذه القضايا كان من المُفترض أن تكون قد حسمت سنة 1999 مع انتهاء المرحلة الانتقالية من اتفاق أوسلو، وأن تكون قد قامت بعدها الدولة الفلسطينية. عوضا عن ذلك لنتأمل ما حدث ومن منظور تحليلي واسع، يقارن الحالة الفلسطينية بحالات التحرر والاستقلال الوطني التي أعقبت مرحلة التخلص من الاستعمار في آسيا وإفريقيا وغيرها. أولاً، في كل عملية تفاوض بين حركة تحرر وقوة استعمارية كان الهدف واضحا وكان الإطار الزمني واضح، بحيث لا تبقى عملية التفاوض قائمة إلى الأبد، ولا يتغير الهدف. فلسطينيا، وأوسلوياً، لم يكن هناك هدف واحد واضح هو التحرر الوطني وعودة أمور ما قبل الاحتلال إلى نصابها، بل تم تفكيك ذلك إلى مجموعة من الأهداف، القضايا الأساسية التي تم ذكرها، والتي تليها الدولة المفترضة. أتاح هذا للعدو أن يفاوض على كل هدف من الأهداف، ويتلاعب بها، ويعد بتقديم تنازل هنا، مقابل تخل عن هدف هناك. وهذا ورط الحالة الفلسطينية في مسألة التفاوض اللانهائي التي شهدناها. ثانياً، لم يكن هناك أي سقف زمني للتفاوض، بل ثبت أن لا سقف هناك أساساً، واكتشف الفلسطينيون أن القيادة الفلسطينية تفاوض تحت شعار "الحياة مفاوضات". وفي حالة كهذه يسعد الخصم طبعا ولا يكون هناك أي ضغط حقيقي. مقابل ذلك أجهضت كل مشروعات مقاومة الاحتلال أو تحولت طاقتها إلى قتال داخلي. ثالثاً، تمكنت إسرائيل خلال سنوات أوسلو العقيمة من ربط الاقتصاد الفلسطيني والطبقة المنتجة فلسطينيا فضلا عن الجزء الأكبر من القيادة السياسية نفسها بمنظومة السيطرة والامتيازات الإسرائيلية، وبالتالي تم شل هذه الأجزاء الفاعلة من المجتمع الفلسطيني وصارت مرتبطة حكماً وعضوياً بالمحتل نفسه. رابعاً، بسبب تعدد الأهداف ثم غموضها ثم وقوعها في لعبة التنازلات والتخلي والمبادلات، انشق الصف الوطني الفلسطيني رأسياً، وقدم الغباء الفصائلي التنافسي على فتات السلطة الوظيفية، وتحديداً الحمساوي ـ الفتحاوي، هدية سماوية أخرى لإسرائيل تمثلت في فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وخلق انقسام ظلت شقته تتسع مع السنوات، وتخدم إسرائيل يومياً. خامساً، انخرطت السلطة الفلسطينية التي كان من المفترض أن تكون مؤقتة ولمدة خمس سنوات فقط في الشرك الإسرائيلي الذي كان يغريها بسراب الأهداف الجزئية التي يمكن أن تحققها، أن أثبتت حسن سلوكها. وبهذا انفصل مسارها عن مسار كل حركات التحرر السابقة التي لم تقبل أن تُمنح شهادة حسن سلوك من مستعمرها تؤهلها لأن تكون قيادة لبلدها وشعبها. الشرك الإسرائيلي في نظام أوسلو تمثل في وضع تفاحة معلقة بالهواء ودرجات سُلم على السلطة أن تصعده كي تصل إليها. كلما صعدت السلطة درجة، أحرقت إسرائيل تلك الدرجة فما عاد بإمكان السلطة العودة إلى الوراء والهبوط على الأرض. بقيت السلطة تصعد في الهواء الفارغ بحثا عن السراب، ودرجات السلم تُحرق من تحتها. كانت إسرائيل تريد أن تصل بالسلطة إلى ما وصلت إليه الآن، جزء لا يمكن خلعه من حقيقة الوضع القائم، حتى لو قرر القائمون عليها التخلي عنها. لهذا، أصبحت الدعوة إلى حل السلطة الفلسطينية والتخلي عنها تُقابل إما بالاستهجان، أو بالتحليل "الموضوعي" الذي يقول باستحالة ذلك بسبب اعتماد ثلث الفلسطينيين عليها أو ما إلى ذلك من تبريرات. خامساً، وكصورة تقريبية فعالة أكثر لها علاقة بتشتت الأهداف، فإن نظام أوسلو قاد السلطة في نهاية المطاف إلى وضع يشبه وضع فريقي كرة قدم يلعبان من ناحية افتراضية ضد بعضهما البعض، السلطة وإسرائيل. إسرائيل تسجل أهدافا يومياً في مرمى السلطة، والسلطة العتيدة تجري وراء الكرة في طول وعرض الملعب من دون تسجيل أهداف، والسبب ببساطة أن إسرائيل لم تسمح أساساً ببناء مرمى في ملعبها! هكذا هو وضع السلطة ورئاستها وعلى رأسها الرئيس عباس في المعركة مع إسرائيل، ركض باتجاه ملعب العدو الذي ليس فيه مرمى للتسجيل أصلا!. سادساً، خلال تلك المسيرة المريرة، عبر أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً، وعلى خلاف مع كل نواتج حركات التحرر والاستقلال في العالم الحديث، أنتج الوضع الفلسطيني حالة فريدة تتمثل في "الفساد قبل الدولة". في معظم حالات التحرر قامت الدولة ثم جاء الفساد، وبعده انخرطت القوى المحلية في إعادة بناء الدولة المستقلة على أسس ديمقراطية ومشاركة سياسية تقضي على الفساد الذي دب بعد الاستقلال. في الحالة الفلسطينية جاءنا الفساد قبل أن تقوم الدولة، وهذا جانب آخر من جوانب عبقرية أوسلو، التي شلت الشعب واستنزفت طاقاته في كل الاتجاهات التي ليس فيها أهداف حقيقية. بسبب النقاط تلك، وهي جزء من قائمة أطول، يكثف جون كيري وزير الخارجية الأمريكية ضغوطه على الرئيس عباس كي لا يستقيل، ويصرح نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه مستعد للقاء عباس. كل ذلك كي يرجوه في البقاء صاعدا على السلم في الفراغ، والركض في ملعب كرة القدم الذي لا مرمى فيه. سيادة الرئيس "خيب آمالهم واستقيل!".
826
| 07 سبتمبر 2015
في ذات لقاء في أواخر تسعينيات القرن الماضي قال لي الراحل عبد الوهاب المسيري إنه كتب عن فكرة "نهاية التاريخ" في كتاب له صدر عام 1972، واحتل ذلك التعبير جزءاً من عنوان الكتاب. كان ذلك قبل صدور كتاب فوكوياما بعشرين سنة. اختلفت فكرة المسيري عن فكرة فوكوياما جوهرياً، فبالنسبة للأول كانت فكرة "نهاية التاريخ" هي الخلاصة التي تحملها أية أيديولوجية فاشية ترى في نفسها المآل النهائي للبشرية، وترى في ما تطرحه الخلاص المحتم والوحيد للعالم والتاريخ وبالتالي النهاية الطبيعية له. "نهاية تاريخ" فوكوياما كما نعلم هي انتصار الليبرالية الغربية ورأسماليتها في مواجهة الشيوعية، وهو الانتصار الذي دوى عاليا إثر انهيار الاتحاد السوفييتي وزوال التهديد الشيوعي الأيديولوجي للرأسمالية، بكونه التهديد الأكثر جديا لها منذ تبلورها. لا تتوقف هذه السطور عند جوهر هذه الفكرة أو تلك، بل ما تتأمل فيه هو انتشار فكرة معينة وكتاب بشكل هائل مقابل عدم انتشار فكرة أخرى وكتاب آخر قد لا تقل أهميتهما. أذكر تماماً نبرة المرارة التي كانت تغلف كلمات المسيري وهو يقارن بين الاحتفاء العالمي والشهرة الطاغية التي حظي بها فوكوياما وكتابه، والجهل وعدم المعرفة التي كانت مصير كتابه هو. مثال المسيري_ فوكوياما ليس فريداً بطبيعة الحال ولا استثنائياً، بل يمكن القول وبكثير من الثقة إن هناك آلاف الكتب والأفكار صدرت ولا تزال تصدر بلغات عديدة، وفي جهات مختلفة من العالم، لكنها غير محظوظة ولا مؤلفيها لأنها لم تصدر بلغة من لغات المتروبول الغربي المتسيدة راهنا، ولم تصدر في قلب تيار النشر العالمي الذي يعمل على الترويج للكتب والأفكار وتسويقها ضمن آليات نشر معقدة ومعولمة. فهل كنا سمعنا مثلا بــ "صراع حضارات" صاموئيل هانتنغتون أو حتى بــ "استشراق" إدوارد سعيد وما رافق انتشارهما ورواجهما منذ صدورهما في القرن العشرين لو كانا قد صدرا بالأوردو، أو المالاوية، أو الأمهرية، أو لو عاش مؤلفوها في الكونغو، أو تركمانستان، أو سورينام، وتحدثوا وكتبوا بلغاتها؟ وكذا هل كان العالم قد وصله ما كتب ابن رشد وابن خلدون وابن سينا لو كانوا قد عاشوا في ما كانه الكونغو، أو تركمانستان، أو سورينام، وكتبوا بلغاتها؟ تنتشر اللغة والثقافة وما تنتجان من أفكار وكتب على رافعة الفعالية الحضارية والقوة والنفوذ للحضارة المعنية، وهذا هو المدخل الأولي لتأمل تلك الانحيازات في الانتشار والسيادة. وتتداول الحضارات على امتلاك ناصية، أو إمبريالية، الثقافة وما يصدر عنها من كتب وأدب وأفكار حين يحين دور هذه أو تلك. لا نعرف مثلا إن كان ثمة كاتب عبقري يبدع في بقعة نائية من عالمنا اليوم بلغته المحلية التي لا تُترجم إلى "اللغات الحية"، ولا أحد يتابع أفكاره، ولا أحد منا يعرف ماذا يكتب ذلك العبقري. لا نعرف أيضاً في ما إن كانت هناك فكرة أو كتاب خارق للعادة نشر حديثا أو منشور قديما لكنه بعيد عن دائرة الضوء المُسيطر عليها من قبل اللغات والثقافات المتسيدة اليوم. لا نعرف كيف يمكن أن يُزاحم كتاب أو فكرة يتبلوران بعيداً عن المساحات المُسيطر عليها ثقافيا بإمبرياليات وأفكار وإعلام الإنجلوفون أو الفرانكوفون أو الإسبانوفون. كأنه قانون مُستل من الفيزياء أن تترافق إمبريالية ثقافية ولغوية مع إمبرياليات الجيوش والنفوذ والأديان والاقتصاد والتمدد الجغرافي. فعلى روافع السيطرة اللغوية والانتشار والإعلام المُعولم والأكاديميات التي تدور في فلك اللغات السائدة تتقدم الكتب التي كُتبت بلغات المتروبول، وتصير مصدر الإنتاج الفكري "العالمي"، ويتهمش غيرها ما لم يركض إلى نفس الدوائر ويُنتج بنفس اللغات ووفق القواعد المرُسمة من قبل تلك الثقافات الظافرة. ليس هذا حصرا في إمبرياليات اليوم الغربية بل هو سمة لصيقة بكل إمبريالية أنتجتها البشرية في جهاتها الأربع. وهنا والآن، وكما هناك والأمس، يبقى سؤال الحضور والمنافسة من قبل أفكار وكتب "الهامش" صعبا وثقيلا وشبه يائس. اليوم تبطش إمبريالية وسيادة الإنجليزية حتى بلغات المتروبول الأخرى كالفرنسية والإسبانية والألمانية، وفيه يصبح فضاء الأنجلوفون العنوان الأهم لإنتاج الكتب والأفكار. يبدو الأمر مضمار سباق غير عادل، مسارات العدائين فيه متفاوتة السهولة والعسر. المحظوظون القلة، التابعون لفضاء اللغة والثقافة الظافرة، يمتد أمامهم مسار ممهد، مفرودة على جانبيه عوامل الإسناد: إعلام يحتفي بإنتاجهم، سوق يلتهم ما يصدرون ويضاعف نشره وتوزيعه، جامعات ومراكز بحث تناقش أفكارهم وتستضيفهم. الأكثرية غير المحظوظة تمتد أمامها مسارات سباق تعج بالعقبات، أولها ضرورة أن الانتقال إلى الفضاء المتروبولي الثقافي والكتابة بلغته للظفر بالاهتمام. لكن، تتغرب الأفكار عن بيئتها الحضارية عندما تتقولب في لغات ثانية وتصبح علاقتها بالأصل واهية ومُتسمة بالحيرة والتوتر. ليس القصد هنا التشاكي أو استدعاء مظلوميات والوقوف على أطلالها، ذلك أن الكل في الإمبرياليات التاريخية سواء، على اختلاف درجات البطش. لكن القصد تسجيل ملاحظة وشحذ التفكير فيها، مع الإبقاء على مساحة المشترك الإنساني التي تروض وروضت الإمبرياليات وأبقت في تلك المساحة ما أنتجته الثقافات عبر التاريخ أياً كانت لغاتها وأيا كانت أمدية مكوثها في الظل أو المركز: ففي ذلك المشترك العميق ما زلنا نستمتع بالكاما سوترا الهندية، ونقرأ بعدها طاغور، ونتعلم من صن تزو فن الحياة قبل فن الحرب، وتارة نتصفح ألف ليلة وليلة وأخرى الشاهنامة.
514
| 31 أغسطس 2015
يستحق صادق جلال العظم، الكاتب والمفكر السوري، أن نحتفي قبل ومع احتفاء الألمان به هذا الأسبوع في مدينة فيمار، ويُمنح بها في احتفال مهيب في قلعتها، ميدالية الشاعر الألماني الكبير "جوته"، ابن مدينة فيمار وأحد أهم مشاهيرها. ليس هذا غريبا على قلم العظم الذي اجترح الشجاعة وسار ضد التيار ولم ينجرف وراء الأدلجة الشعبوية طيلة سنوات طويلة من الكتابة والفكر. لم يتوقف هذا العقل المفكر عن الإنتاج والسجال وخوض معارك التحديث والنقد طيلة نصف قرن، وفي اللحظات شديدة الاختبار التي يواجهها كل مثقف وكاتب، وتضغط عليه أصناف الإكراهات والمساومات العديدة، وقف العظم مع ضميره الفكري، وصرح عنه من دون مواربة. في نقده للهزيمة "النقد الذاتي للهزيمة"، نفض الكسل التحليلي التآمري الذي كان (وما زال) يلقي باللائمة على الغرب والآخرين ويعلق على مشجب الخارج كل الهزائم والتخلف الذي نرتع فيه. في نقده لسيطرة الدين على الفضاء العام وتفشي "ذهنية التحريم" كسر الخطوط الحمر وقدم نقدا من داخل منظومة العقل الديني. وفي نقده لنمط آخر من الكسل الفكري أنتجته مقولات "الاستشراق" الإدوارد سعيدية، قال إن شطب عمل الاستشراق والمستشرقين دفعة واحدة، وهو النتيجة التي لم يردها أو يدعو إليها سعيد أساسا، يعني تعزيز فكر المؤامرة، وتوفير عتاد رخيص وكسول للفكر الرجعي والظلامي كي يتمترس وراءه في نقد كل شيء له علاقة بالغرب. إنه "استشراق معكوس" بحسب عنوان مقاربته في نقد "الاستشراق" لسعيد. وعندما يتعلق الأمر بحرية الفكر والتفكير والنقد ينطلق العظم ليقف في النقطة القصوى من الحريات، وليكون ذات تاريخ واحدا من الأسماء العربية النادرة التي وقعت بياناً أدان فتوى الخميني الداعية لقتل الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي. لم تتكلس ثقافة العظم عند القناعات اليسارية التي ظلت تشكل الدافعية الأخلاقية والإنسانوية في مقارباته، ولم يقع أسيرا لأيديولوجيا تتجمد عند مقولاتها أو حتمياتها ولا تعترف بحركة التاريخ. بل عن اليسار العربي نفسه يقول العظم إنه تفرع بعد عقود طويلة إلى ثلاث مجموعات، إحداها البقية الباقية من الأحزاب الماركسية العربية التي تفتت إلى درجة قريبة من الاختفاء، وثانية احتفظت ببرامج أحزاب ماركسية الحرب الباردة واقتربت في العقدين الأخيرين من الإسلام السياسي الجهادي، وثالثة وهي الأكثر عددا والأوسع حضورا تراجعت إلى خط الدفاع الثاني نحو إحياء المجتمعات المدنية وتبني خطابات ديمقراطية في مواجهة المد الأصولي والرجعي. وكذا يرى العظم الإسلاموية السياسية التي تتفرع بدورها إلى إسلام سياسي تستغله الدول وآخر تستغله التنظيمات، وأسهم ذلك كله في انبعاث الطائفية والتعصب. فرح العظم بالربيع العربي واحتفى به فكريا ووجدانيا وسياسياً، حيث رأى فيه عودة السياسة إلى الناس وعودة الناس إلى السياسة بعد عقود طويلة من الجمود والاستبداد. رفض الاستقرار الظاهري الذي يتفاخر بإحلاله الاستبداد واسماه "استقرار القبور". رأى في لحظة "ميدان التحرير" عودة التاريخ إلى المنطقة، وظل متفائلا حتى اللحظة، ورغم كل السوداوية التي هبطت على الثورة الأقسى في بلاده سوريا. وعن سوريا نفسها كتب ونطق بأجرأ ما قد ينطق به مثقف في موقعه، وعبر عما كان يجول في عقول الكثيرين، لكن الخشية من الاتهام بالطائفية أسكتتهم. وعبر في محاضرة شهيرة له عما أسماه "العلوية السياسية" والتي تعني وقوع سوريا الطويل في قبضة نظام اشتغل على إعادة إنتاج البلد العريق وفق نظام اعتمد الطائفية العلوية وقوض بها الأكثرية السنية، واستأثر بالحكم، والاقتصاد، والمال، والأمن عبر فئة زبائنية أقلوية. انتقد العظم التوجهات الغربية التي تصاعدت بعد الثورة السورية بزعم الدفاع عن الأقليات في سوريا، وقال إن سوريا وتاريخها لم يشهدا أي حروب أهلية إثنية أو طائفية تستدعي هذا النفير المزيف للدفاع عن الأقليات، وكأن الأكثرية السنية تنتظر اللحظة السانحة لتبطش بالجميع. على العكس من ذلك، قال إن الشريحة الأعرض التي واجهت ولا تزال تواجه الحد الأقصى من القتل والدم والتهجير والتدمير هي الأكثرية السنية. لأي كان أن يختلف مع العظم في تحليله وتقديمه لمفهوم "العلوية السياسية" وأن يوجه له النقد على ذلك ويناقشه، لكن تجاوز الاختلاف والنقد المقبول إلى الاتهام بالطائفية والشحن الطائفي، كما حملت بعض الردود على العظم بسبب فكرة "العلوية السياسية" يتحول إلى نكتة سمجة. يقف العظم في أرضية إنسانوية صلبة متجاوزة للإثنيات والطوائف والأديان، ومن يحشره في "الطائفة السنية السورية" يكشف ضحالة الوعي، تثير التساؤل حول مدى الفهم والإدراك العميق عند مُطلق الاتهام. في سنوات الهزيع الأخير من القرن الماضي وبدايات القرن الحالي انخرط العظم في السجال العريض حول العولمة، وكان من المفكرين العرب القلائل الذين أثارتهم هواجسها، ومنحنياتها، وتهديمها للحدود القومية، وتسويتها الأرض لارتحال رأس المال بلا قيود، ومعه أنماط وقيم وحيوات جديدة. كان من أوائل من لاحظوا أن الجوهري في العولمة الحديثة وما يجعلها مفترقة عما سبقها من عولمات هو في ارتحال مراكز الإنتاج، وليس ارتحال رأس المال فحسب. رأس المال لم يتوقف عن التعولم منذ أن عرف البشر السفر: من طريق الحرير، إلى الممرات البحرية التي طافت حول القارة السمراء، ثم وصولا إلى العالم الجديد كانت التجارة هي المعولم (السلمي) الأساسي للعالم، إلى جانب الحرب معولمة العسكري. في العولمة الغربية التي تفاقمت بعد انهيار الحرب الباردة تعولمت مراكز الإنتاج رغم أن معظمها بقي غربي المركز والسيطرة. صارت الرساميل الغربية تنتج في آسيا وإفريقيا وغيرها، بينما مقراتها الأساسية في الغرب. بين فيمار وبرلين تولدت اللحظة اللوثرية التقدمية في الغرب، والتي أرادت تحرير الفرد من هيمنة الكهنوت الكاثوليكي. ترافقت لحظة الصعود تلك مع لحظة ارتكاس حاد في العالم الإسلامي وفي فهم الدين. يمكن أن نقول إن اللحظتين اختطا اتجاهين متعاكسين تماماً، حيث تكرست في الفضاء الإسلامي كاثوليكية إسلاموية، هي الأب الروحي للسلفيات المعاصرة، عبر إكمال هيمنتها على الفرد. مارتن لوثر أراد أن يحرر الفرد في علاقته مع الله، في تحد كبير للمؤسسة الكنسية الدينية، في حين أن الفرد في العالم الإسلامي كان يزداد خضوعا لسيطرة المؤسسة الدينية التي كانت قد اختطفت المباشرة بين الفرد والله، وقطعت طرق التواصل المباشر معه. اللحظة اللوثرية كانت تنهي المسيحية السياسية، واللحظة المناظرة لها عندنا كانت تؤسس للإسلام السياسي اللاحق. العظم يرى في هذا الأخير كارثة على السياسة والدين، ويدعو إلى لحظة لوثرية تعلي من شأن التدين العفوي والشعبي الذي حفل بالتعايش والإبداع طيلة قرون مديدة.
874
| 24 أغسطس 2015
هل ختان الإناث "خصوصية ثقافية" لبعض المجتمعات الإفريقية والإسلامية، ويعبر عن تقاليد متوارثة وراسخة وله رمزية اجتماعية تشير إلى انتقال الأنثى من مرحلة إلى أخرى، أم أنه ممارسة وحشية تنبغي إدانتها ومحاربتها باعتبارها اعتداءً على أجساد إناث قاصرات لم يشاركن في اتخاذ القرار بحق أجسادهن، وذلك تبعا لمنظور جمعيات حقوقية كثيرة؟ وهل التمسك بختان الإناث تعبير عن "الأصالة" والتمسك بالثقافة المحلية، ورفضه ومحاربته يعتبران "تغريبا" للمجتمع المعني وتخليا عن القيم المحلية والثقافة السائدة؟ يشير هذا المثال إلى الجدل المعقد والمستمر حول مسألة مهمة ودائمة الحضور والاشتباك الدائم بين القيم والثقافة المحلية والقيم والثقافة الإنسانوية أو الكونية، وحول خطوط التماس بين منطومتي القيم. بمعنى آخر، هل هناك قيم إنسانية تتوافق عليها الثقافات والحضارات المختلفة، مقابل قيم وممارسات خاصة بكل ثقافة ومجتمع ولا ينبغي للحضارات السائدة والقوية في أي زمن ما أن تحاول تغييرها؟ الإجابة عن هذا السؤال النظري تبدو سهلة ومباشرة، لكن التعقيد يأتي دوما في الحالات والأمثلة التطبيقية، حيث تختفي الحدود التي تكون واضحة عند النقاش النظري، وكما يوضح مثال الختان التطبيقي. تزداد حدة المسألة وتشابكها عندما تُتهم القيم التي حملها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأنها قيم غربية، تركز على حقوق الحريات الفردية مقابل الحقوق العامة للمجتمعات والشعوب. بعيدا عن مثال "ختان الإناث" هناك قائمة طويلة من الأفكار والقيم والممارسات التي يدافع عنها منظرو "الخصوصية الثقافية" بكونها خاصة بمجتمعات معينة، ويجب ألا تخضع لأي منظومات قيم قادمة من خارج السياق الثقافي المحلي الخاص بتلك المجتمعات. أطروحة "الخصوصية الثقافية" تظل حاضرة بقوة، بكونها الأطروحة الأثيرة لمجاميع عريضة من المنظرين والمثقفين الذين ينطلقون من أرضيات مختلفة وأحيانا متناقضة، لكنهم يلتقون على أرضيتها. على مربع "الخصوصية الثقافية" يلتقي أصحاب الأيديولوجيات الدينية والتقليدية والمحافظة، كما يلتقي أعداء "الغربنة" سواء قدموا من خلفيات يسارية راديكالية أم غيرها. وهناك، أي في نفس المربع، يلتقي الجميع مع مثقفي ومنظري الدفاع عن الوضع القائم، سواء كان اجتماعيا أم اقتصاديا أم سياسياً. يتحد هؤلاء جميعا ضد "القيم الوافدة" في دفاع مستميت عن "التقاليد" وما هو قائم، وهي عملية رجعية في جوهرها ومناقضة لمنطق وواقع الحداثة والتحديث الذي تعيشه تلك المجتمعات جميعا، والتي تعتد بخصوصياتها الثقافية. تصبح هذه الأخيرة قيدا يكبل أي مشروعات تقدمية، وفي وضع كالذي نعيشه، حيث سيطرة الإعلام المشبع بمكونات الخصوصيات الثقافية، يؤول المجتمع بأسره إلى حال كاريكاتوري متشتت بين مظاهر حداثة رثة، وخصوصيات ثقافية تحبط المجتمع وتشل حركته. تاريخيا وفي قلب جدل الحداثة وما حولها ثارت معركة لم تهدأ حول مفهوم "التقدم" (progress). وبحسب الحداثة الكلاسيكية تسير المجتمعات من أشكال تقليدية وما قبل حديثة في بناها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، إلى أشكال حديثة ووفق مسار خيطي. في البنية التقليدية وما قبل الحديثة تقوم العلاقات على الولاءات الغريزية، ويتكلس الاقتصاد على نحو بدائي وغالبا زراعي، وتظل السياسة استبدادية غير تشاركية، وتكون للأديان والغيبيات السيطرة الثقافية على الفضاء العام. كلما تقدمت المجتمعات وفق المسار الخيطي، تبعا لنظرية الحداثة، تتخفف من كل تلك الأثقال، حيث تتحول ولاءات الأفراد فيها إلى الأوطان والدول، وتخفت الإثنيات والطوائف، ويصير الاقتصاد إنتاجيا وصناعيا، والسياسة تقترب من المشاركة الديمقراطية، كما تنحسر وطأة الأديان والغيبيات على الفضاء العام. خلال هذه السيرورة طويلة المدى يُعاد تعريف الفرد من: "من أنت" (بمعنى إلى أي قبيلة أو طائفة أو دين تنتمي)، إلى "ماذا تعمل" (بمعنى ما هي مهنتك أو إنتاجك أو إضافتك الحقيقية للمجتمع، بغض النظر عن أصلك). هناك تفاصيل أخرى كثيرة مرتبطة بهذا الجدل لا تحتملها وقفة سريعة كهذه. لكن ما يتوجب التأمل فيه هو النقد الشرس الذي تعرضت له فكرة الحداثة وما تستبطنه وتعلنه من حتميات تاريخية تفترض انتقال المجتمعات والبلدان من مرحلة متأخرة معينة إلى أخرى متقدمة، وبشكل خيطي، على مدرج التقدم. كل المجتمعات تسير على هذا المدرج ولو بسرعات متفاوتة، ومآلها النهائي هو الحداثة والتحديث الليبرالي تحديدا، لأنه ليس هناك أي مستقبل عملي وحقيقي آخر للبشر، كما نظر فرانسيس فوكوياما بعد انهيار الشيوعية. جزء من النقد الشرس لفكرة "التقدم" يقوم على ضرورة احترام "الخصوصيات الثقافية" للمجتمعات، وعدم الخضوع للمنطق الحداثي الذي يفرض عليها تبني قيم "غربية" وغريبة عنها، بالإضافة إلى الإقرار بأن ما يناسب مجتمعا ما وينجح فيه ليس بالضرورة مناسبا للمجتمعات الأخرى وحتمية نجاحه فيها. في الشكل العام يبدو هذا النقد موضوعيا وصائبا، لكن في التطبيقات العملية وآليات استغلاله، كما شهدها العالم خلال القرن الماضي على الأقل، نقرأ قصة ثانية تماماً. أطروحة "الخصوصية الثقافية" براقة ومغرية لكنها توفر مسوغا فعالا لتفادي الانخراط في عمليات الانفتاح السياسي والثقافي والاجتماعي. وهي أطروحة تفترض أن الحداثة سوف تقوم بمسح كل الخصوصيات الثقافية وتسوية الأرض الاجتماعية عولميا، وإزالة كل المميزات بين الشعوب. هذه الفرضية المُتوهمة هي عمليا ما يمنح فكرة "الخصوصية الثقافية" قوتها الإضافية، رغم أنها فرضية هشة ولا علاقة لها بالواقع. لا إزالة الفروقات الثقافية بين الشعوب والجماعات مطلوبة ولا هي ممكنة أصلا. لننظر إلى الفرق بين الثقافتين الفرنسية والأمريكية مثلا، وكلتاهما تقع في قلب الحداثة الغربية. لكن التنظير للخصوصية الثقافية يأتي في الغالب من تلك الدوائر التي تدافع عن "الوضع القائم" وما يمنحه من مكتسبات لنخب محددة. فمثلاً ثمة قراءات تقول إن الديمقراطية لا تناسب المجتمعات العربية أو غير الغربية، لأنها تتناقض مع خصوصياتها الثقافية، أو فكرة الدولة المدنية العلمانية القائمة على فصل السلطات لا تناسب هذا المجتمع أو ذاك، لأنها غربية ولا تتواءم مع المجتمعات غير الغربية. أو أن فكرة حقوق الإنسان برمتها ورغم مكوناتها المختلفة، التي تدافع عن حريات الأفراد وتساوي بينهم، لا تناسب المجتمعات غير الغربية. على هذه الأطروحات العتيدة تعتاش كل الممارسات التي تحبط المجتمعات، ويتوسدها مثقفو ومنظرو الدفاع عن الوضع القائم، ويتظلل بها الاستبداد دوماً.
1080
| 17 أغسطس 2015
مساحة إعلانية
في عالم اليوم المتسارع، أصبحت المعرفة المالية ليست...
2091
| 22 سبتمبر 2025
في قلب الدمار، حيث تختلط أصوات الأطفال بصفير...
744
| 23 سبتمبر 2025
من يراقب المشهد السياسي اليوم يظن أنه أمام...
687
| 18 سبتمبر 2025
بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى،...
678
| 22 سبتمبر 2025
منظومة دراسية منذ القرن الثامن عشر وما زالت...
663
| 18 سبتمبر 2025
يُعدّ وعي المُستثمر بالقواعد والأحكام المنصوص عليها في...
636
| 21 سبتمبر 2025
منذ تولي سعادة الدكتور علي بن سعيد بن...
600
| 18 سبتمبر 2025
يؤكد اهتمام جيل الشباب القطري بالخط العربي؛ تزايد...
489
| 21 سبتمبر 2025
يتداول في هذه الأيام في أغلب دول الخليج...
462
| 21 سبتمبر 2025
بين الحين والآخر، يتجدد في مجتمعاتنا الخليجية نقاش...
447
| 17 سبتمبر 2025
لم يَـبْـقَ موضعٌ في القلب العرباوي لم تنل...
447
| 22 سبتمبر 2025
ها هي أنديتنا الممثلة لنا في مسابقاتها الخارجية،...
444
| 19 سبتمبر 2025
مساحة إعلانية