رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تفيض على غزة وقطاعها حرب النكبة بلاجئيها فترتبك في استقبالهم ومعهم مستقبلها الغامض، لم تتوقع يوما ما إن يهبط عليها في أيام قليلة إضعاف سكانها. تشرع أبوابها وتصير، كما رفح وخان يونس وكل القطاع، محطة لاجئين. يرتمي أصحاب البيارات الواسعة والبيوتات الوديعة في خيام ضيقة سرعان ما تحيط بها قنوات المجاري الوسخة. هو بالتأكيد حلم عابر، بل كابوس مزعج سينتهي سريعا كما جاء. القادمون الجدد ما عادوا ضيوفا عابرين. تحولوا إلى ناس غزة وقطاعها. مشطورين بين حلم العودة الذي يسري كالدم في عيونهم، ومواجهة إكراهات الحياة اليومية. فتحوا دكاكين صغيرة، وأخذوا أولادهم إلى مدارس الوكالة. في كل صباح يعبون هواءً قادما من البحر، يملأ صدورهم ويهمس لقلوبهم ببعض الأشياء عن الأمكنة هناك. حمل شبابهم بنادق ولثموا وجوههم بكوفيات، قبلوا أيادي الجدات على مصاطب بيوت المخيمات وغابوا. من لم يغب انخرط في النضال ضد الحياة الباطشة والطائشة، تحولت الحياة مع زمن غزة المختلف والمُشتت إلى نضال دائم. من يمارس الحياة هنا، يمارس بطولة مفروضة عليه. لم يخترها، وربما لا يحب أن يُنعت بها أو تلصق به. هذا هو حال نعيم صاحب المطبعة الوحيدة في المخيم، والذي وجد نفسه بطلاً رغم أنفه، كما يصور ببراعة عاطف أبو سيف في روايته الجديدة "حياة معلقة". قبل أن تنطلق الانتفاضة الأولى في أواخر ثمانينيات القرن الماضي كان نعيم يطبع بيانات المقاومة بالسر. عرض نفسه وعائلته الصغيرة لخطر كبير، لكن نداءً داخليا كان يلح عليه. لما تلاحقت الانتفاضات صارت صور الشهداء المتلاحقين تلتقي في مطبعة نعيم، ومن هناك تخرج في "بوسترات" كبيرة تتزين بها أزقة المخيمات وشوارع المدن وواجهات المحلات. ازدحمت غزة ومدن القطاع بصور الشهداء. نعيم يحتفظ بالصور الأصلية لكل شهيد. يتصفحها في بعض الليالي ويحدق في عيون الشباب الغضة كما الورد. يسيل دمع صامت من عيونه وهو يقرأ في عيونهم أحلامهم. يدفع بالصور في الدرج السفلي لطاولة قديمة، ويمسح دمعته قبل أن يغادر المطبعة إلى بيته. هناك تأتيه صورة آمنة. زوجته التي رحلت مبكرا وتركت له ثلاثة أولاد وبنتا في عمر الزهور. آل على نفسه ألا يتزوج ويرعى أولاده. قال للمختار الذي ضغط عليه أن يتزوج لو كنت أنا من مات لما تزوجت آمنة ولأصرت على البقاء مع الأولاد لتربيتهم. يكبر الأولاد وتتفرق بهم سبل غزة: سالم في السجن محكوم عليه بخمسة مؤبدات، سليم حالم دائم بالسفر وإكمال الدراسة في الخارج ويغادر، سها تتزوج وتذهب مع زوجها إلى السعودية، سمر تبقى مع أبيها تكمل دراستها الثانوية. لا يزعم نعيم أي بطولة ويرفض أن تؤخذ له صور، فهو يقوم بعمله وحسب، كما يقول. كل أمانيه أن يخرج سالم من السجن ويعود سليم من السفر وتزوره سها ويلتقون جميعا على "الطبلية" يفطرون في الصباح، ويشربون الشاي بالميرمية. حلم أصغر من صغير، لكن صاحبه يموت قبل أن يتحقق. يقتل فجأة بطلقة قناص إسرائيلي صبيحة يوم عادي وهو يهم بفتح باب المطبعة. تنخلع قلوب أهل المخيم على نعيم الذي أحبه الجميع: المختار وصفي، والحاج خليل، ويوسف مجايليه في العمر، ونصر وآخرون من الشباب الذين طوق نعيم أعناقهم بخدماته النضالية والسرية. يعود سليم على وجه السرعة من إيطاليا كي يحضر جنازة أبيه الذي تاق لعودته تلك، ويرفض أن يُعمل لأبيه بوستر كي يوزع في أنحاء المخيم كبقية الشهداء. لا يريد لأبيه أن يُختزل في بوستر، ثم إنه ليس بطلاً، يقول، بل ضحية. ينخرط سليم في مرافعة ونقاش طويلين مع نصر، ممثل النضال الشبابي المتواصل في الرواية، حول معنى ومغزى البطولة التي لم يخترها نعيم. يغضب نصر من نزق سليم وفلسفته ورفضه لفكرة البوستر، فنعيم أحق أهل المخيم ببوستر يليق به وهو الذي كان قد صمم بوسترات لكل شهداء المخيم وغيرهم. لم يكن هذا نقاشاً عابراً، بل يتمحور ويتقلب ويصير جوهر الرواية. شخوصها وأحداثها يركضون (ويلعبون) في ملعب ثلاثي الأضلاع ميدان الحياة للبشر هنا. ضلعه الأول مطبوع عليه بوستر يحمل شارة النصر ويقول إننا أبطال، والضلع الثاني عليه بوستر يحمل صورة أم ثكلى ينهمر دمع من عيونها على ابنها الشاب، ويقول نحن ضحايا، والضلع الثالث ليس عليه شيء سوى عبارة صغيرة تقول بل نحن أناس عاديون، فُرضت علينا البطولة كما البكاء. في مركز هذا المثلث المتوتر نتابع عاطف أبو سيف، وهو باقتدار روائي وبثقة ينتقل إلى الصف الأول من روائيي العربية اليوم، يدير شخوص روايته ويحاول أن يريح حيواتهم المعلقة من "التعليق" الذي يشدها ويمزقها في الاتجاهات الثلاثة. هو سجن من نوع أكثر لؤماً، حيث البطولة ذاتها تصير سجنا داخل سجن. يختار عاطف أبو سيف أن تكون هناك "تلة المخيم" التي تختصر تاريخه: هنا بنى الانجليز نقطة لهم بسبب ارتفاع التلة وإطلالتها على الجوار ومدى الرؤية الذي تمنحه. هنا وصل أوائل اللاجئين، احترقت خيامهم. وهنا أقامت إسرائيل ما كان أقامه الانجليز من نقاط سيطرة عسكرية. لكن هنا أيضاً قتلت المقاومة ضابطا إسرائيلياً، وبعده "تحررت" التلة. فيها أقام نعيم مطبعته، وعليها سكن الحاج خليل وابنته يافا. يافا التي يعشقها سليم، ابن نعيم، لكنه يقدم طموحه، وأنانيته، بالسفر ومتابعة أحلامه على العشق الرهيف الذي كسر قلب يافا. تنطوي على جرح قلبها وتنشط في جميعات حقوقية وسياسية، ثم تسافر إلى لبنان في مهمة عمل، وهناك تبحث عن عمها المفقود الذي سمعت قصصه ألف مرة من أبيها المكلوم على فقدانه. "التلة" هي أفق المخيم الجميل. ينظر أهل المخيم إليها فيرون البيوت الخمسة الوحيدة يتوسطها بيت الحاج خليل ومطبعة نعيم، فيمدهم ذاك بطمأنينة غامضة. يصعد "الشباب" إليها ونصر يتقدمهم. ورث عن أبيه الشهيد حبه لفلسطين وشعورا مقداما لا يهاب، يظل يبعث في قلب أمه التي ترملت شابة خوفا عميقا بأن يلحق بأبيه باكراً أيضاً ـ يغادر ذات صباح بعد أن يشرب كأس شاي بالميرمية، يمص عِرق الميرمية بعد أن ينهي الشاي، يقبل زوجته، يخرج ثم لا يعود إلا محمولا على الهتافات. ظلت التلة متعمدة بقصص بطولة تفاقمت المبالغة حولها حتى صارت أساطير، إلى أن جاء العميد صبحي بقرار من حكومة غزة يقضي بهدم البيوت على التلة واستثمار الأرض في مشاريع تفيد المخيم: مول كبير، ومسجد كبير، ومركز شرطة كبير. المشروع كله قائم على الفساد والمستفيد الأكبر منه هو خميس، ابن الحكومة، والذي صار "البزنس" جزءاً من حياته. وبعد أن كان مجاهدا مغوارا صار يجاهد في تجارة الأنفاق، والآن يريد فتح مول فوق التلة. العميد صبحي مستفيد أيضاً لأن خميس وعده بعدة محلات في المول. أما مركز الشرطة والمسجد فكأنهما الحارسان أو المُشرعان الضروريان لوجود "المول": الأول يمنح الحماية الأمنية، والثاني يمنح الشرعية الدينية. صمدت "التلة" في وجه إسرائيل لأن الناس كانت تعرف أنها تواجه عدواً واضحاً، سقطت "التلة" يوم ضاعت البوصلة بين "المول" و"المسجد" و"المخفر"، وما عاد أحد يواجه عدوا واضحا.
889
| 02 فبراير 2015
ينبني النموذج النظري لـ"الدولة الإسلامية" كما يراه وينظر له أمحمد جبرون الباحث والجامعي المغربي في كتابه الجديد "مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة" على ثلاثة أركان، هي: البيعة، العدل، المعروف، وتشكل في مجموعها والنقاش حول تطورها والأشكال التي اتخذتها العمود الفقري للكتاب. وهي، بحسب المؤلف، قلب وجوهر التسيس الإسلامي، ومناط أسسه وأهدافه، إذ يقول: "ومن خلال مطالعة متأنية لنص القرآن، وتدبر سياسي لآياته من جهة، وقراءة متفحصة للتجربة التاريخية للرسول، بروح عصرية وأدوات معرفية مُستمدة مما أسلفنا قوله على مستوى فهم القرآن وفقه السنة، اهتدينا إلى جملة من المبادئ الكلية التي يرجع إليها تدين الدولة أو إسلاميتها في التجربة التاريخية الإسلامية. وهي على التوالي: البيعة والعدل والمعروف". ورغم الأهمية البالغة التي ينسبها المؤلف لهذه الأركان الثلاثة فإنه لا يخبرنا بمنهجية الاهتداء إليها وعلى أي أسس استنباطية اختارها، بل ثمة قدر من الانتقائية الواضحة، إن لم نقل الاعتباطية في اعتمادها. لماذا، مثلا، لا تكون الأركان المؤسسة للتسيس الإسلامي هي تلك التي قال بها محمد عابد الجابري: الشورى والتفريق بين الرسالة والسياسة والمسؤولية العامة والفردية؟ ولماذا لا نقول إن الحرية بمفهومها الواسع والانعتاقي من السلطة والجبر هي أحد أركان وأهداف التسيس الإسلامي؟ ولماذا لا نقول إن المساواة، وليس العدل، هي التي تستحق أن تكون واحدة من تلك الأركان. وبعيدا عن حسم الخلاف حول أي من هذه المفاهيم يستحق أن يكون ركنا من "الأركان"، فإن ما هو مهم منهجيا توضيح المبرر المنطقي والجدلي الذي يسوغ تضمين أحدها واستبعاد آخر. واستطرادا لأولويات المفاهيم المركزية ولدفع النقاش مع المؤلف إلى مساحات إضافية، يمكن الزعم هنا أن مفهوم المساواة وهو المفهوم الثوري الكبير الذي حققته الحداثة السياسية أهم بكثير من ناحية التأسيس لفكرة الدولة ودولة الحداثة عموما، ودولة "الحداثة الإسلامية" خصوصا، من مفهوم العدل. المساواة أهم من العدل، لأن مركزية هذا الأخير والتوق له تحصيل حاصل رغم طوباوية تحققه التام على الأرض، فكل منظومة فكرية وفلسفية وكل تجسيد سياسي واجتماعي لتلك المنظومات يولي الاهتمام الأولي لقيمة العدل وإعلاء مكانته. بيد أن المساواة بين الأفراد بغض النظر عن العرق والدين واللون والمرتبة الاجتماعية هي التحدي الكبير الذي يواجه التنظير، والتجسيد العملي، لفكرة الدولة الإسلامية الحديثة. وفي قلب هذا التحدي تقع فكرة المواطنة الكاملة التي تدفع بولاءات الأفراد الفرعية إلى الهوامش وتعتبر ولاءهم للدولة وبكونهم مواطنين فيها هو الأولى والأساسي. وهنا، في قراءة وبحث جبرون، لا نجد التقعيد المطلوب لفكرة المساواة وموضعتها في نظرته وتنظيره للدولة الإسلامية. ولا نجد على سبيل المثال، وارتباطاً بمسألة المساواة، أي نقاش معمق لموضوعة غير المسلمين في الدولة الإسلامية المُنظر لها. وربما أمكن القول هنا إن خفوت موضوع المساواة في مقاربة الكتاب يقودنا إلى مسألة إشكالية أخرى وهي الاعتماد على خصوصية الحالة المغربية التي استولت على المؤلف واعتبرها المثال التوضيحي، عبر تفكيكه وفهمه، للنموذج النظري الذي يقترحه. فمن ناحية أولية، تنحصر معالجة الكتاب في التجربة السياسية العربية (وليس الإسلامية بشمولها) قديما وحديثا. وفي الإطار العربي "الحديث" تفرد مساحة موسعة لمناقشة الحالة\ النموذج التي تم تطبيق "النموذج النظري" عليها وهي حالة المغرب. ويبرر المؤلف هذا التركيز والاستدلال في المغرب بكون "... الدولة المغربية خلال العصر الحديث من الأمثلة التاريخية النموذجية التي تعكس بجلاء اعطاب الدولة الإسلامية (دولة العصبية)، وقصورها في هذا المنعطف التاريخي الحاسم..".. بيد أن الحالة المغربية وتطورها وتاريخها تتسم بخصوصية لا تمثل أو تعكس بقية العالم العربي أو الإسلامي، وتثير بالتالي إشكالية منهجية حول مدى فعالية النموذج النظري. فالمغرب يمتاز مثلا بالتناغم الديني وعدم وجود مواطنين غير مسلمين بنسب مهمة، وبسيرورة تاريخية تمتد عدة قرون من حكم شبه متصل (دولة المخزن ماضيا وحاضرا)، وبسبب ذلك يبدو تطبيق النموذج النظري (البيعة، العدل، المعروف)، الذي يركبه المؤلف/المؤلفة على الحالة منطقيا. لكن سوف نصطدم بمشكلات منهجية من نوع مختلف لو طبق ذلك النموذج في منطقة أخرى مختلفة عن المغرب، مثلا في المشرق، حيث التعددية الدينية، وحيث سيرورات الحكم المناطقي تحت ظل الدولة العثمانية مختلفة عن السيرورة المغربية، وهكذا، ففي حالات كثيرة لن نجد استمرارية مباشرة أو غير مباشرة لذلك النموذج الذي لو استمر من دون انقطاع لقاد المسلمين وبلدانهم إلى حداثتهم السياسية كما تقترح المخطوطة. وهكذا فإننا لا نستطيع الخلوص إلى مبادئ نظرية تتأسس على التجربة التاريخية ويكون طموحها الإسهام في "الحداثة السياسية" لمفهوم الدولة الإسلامية من دون التعرض للسيرورات التاريخية في شكل التسيس الحديث في المجتمعات والدول المسلمة في إندونيسيا وماليزيا وتركيا على سبيل المثال، واختبار النموذج النظري الذي يقترحه المؤلف. فضلا عن ذلك فإن التطبيق المعاصر لبعض أركان النموذج النظري يثير تساؤلات منهجية أيضا، مثلا كل دول الخليج تعتمد على مفهوم "البيعة" في إطار "أهل الحل والعقد" في شرعنة الأنظمة القائمة. فأين نضع هذا في سياق تطور سيرورة هذا الركن، وهل يختلف توظيفه عن التوظيف التاريخي من قبل النخب الحاكمة، وهل صلابته في هذه الدول تقف في وجه آلية البيعة في العصر الحديث المتمثلة في الديمقراطية والانتخابات؟. ما لا يبدو واضحا تماما أيضا، هو موضعة السياق والنص في تشكل وتطور "الدولة الإسلامية". ففي الوقت الذي يكرر فيه المؤلف ضرورة عدم الخضوع للسياق لتحديد مفهوم الدولة الإسلامية عند المفكرين المعاصرين، فإنه يخضع عمليا "مفهوم الدولة الإسلامية" لفقه التاريخ (أي السياق بشكل أو بآخر). ويؤكد على "الشرعية الأخلاقية" للتاريخ غير المتوائم مع المثال الطوباي ويكشف عن "الإكراهات" التي مرت بها تلك الشرعية وأهمية فهم وقبول تلك الإكراهات التي شكلت الصيغة التي تبلورت إليها "الدولة الإسلامية". وكل ذلك قد يشير إلى قبول لإكراهات السياق في الماضي، ورفضها في الحاضر. في الوقت ذاته يحتاج المؤلف إلى التوسع في فكرة نقده خضوع الإسلاميين لمسألة السياق في تطوير أفكارهم إزاء "الدولة الإسلامية الحديثة"، وتناول السؤال النظري والمعمق حول تطور الأفكار وتبلورها في أي زمن ما، والعلاقة العضوية المشتبكة دوما مع السياق مقابل سلفية الأفكار التي تنقطع عن السياق وتتعالى عليها.
1172
| 19 يناير 2015
عند جذور جدران الحجارة في طول وعرض قرى وحواضر بلاد قداسة ما بين المائين هناك شهادة الكون الفائضة: تَخوْضُرُ الحجرِ واستنبات الزهر بين الشقوق يقول إن الناس هنا كانوا هنا قبل ضربة شق النهر وقبل صرخة وليد المهد. تغيّرُ لون الحجر وانحلاله مع بُنيّ الأرض وتماهيه فيه يقول إن نبع الماء سقى الشجر والحجر هنا، وظل يفور بالليمون، فيطلع فوق الأسطح وعلى الجباه. كلما اخضرت الحجارة وتلاحمت أساساتها مع البني كلما هزِئت أسقفها وأقواسها بالغزاة... وتعالت واستطالت على قرميدهم الغريب النازل على الأرض باستعلاء وفوقية. لطالما تحسر الغزاة على مشهد قرى فلسطينية بسيطة وفقيرة تطرز أفق البلاد، لكن غفوتها على ساعد سلاسل الحجر البني، تزدري مستوطنات متوحشة البناء، فولاذية الجدران وصلبة الأسطح، متوترة لا روح فيها، روح السارق في أسقف قرميد الغزاة جففت أرواح ساكنيها. تحوم عدسة هذا الفلسطيني المبدع، أسامة السلوادي، رهيفة بلا كلل تلتقط الجمال المنثور في أرض طرية زاد جمالها كلما اصلب حجرها في وجه المحتلين. تدور، وتدور، تقترب، وتقترب، ثم تحضن العين ما تختار بكل الدقة... والعناق.. تتجول في سماء الأرض وفوقها كأنها كيوبيد الأليف والمحبب يحمل سهامه ويقنص بها القلوب. هذه المرة ترضى عنه فينوس، إلهة الجمال، وتربت على شعره كلما قنص صورة بديعة وأودعها دفتي واحد من كتبه: "ملكات الحرير"، "كتاب القدس"، "كتاب الحصار"، "فلسطين... كيف الحال"، و... "ها نحن".. يصيبنا السلوادي بسهام عدسته فلما نتصفح ما تلتقطه وقد مستنا أقدار الصبابة والأصالة والغموض، لا ندري عندها إن صرنا نتنقل بين صفحات صور أم نشاركه هذا العناق الطويل الممتد بطول الأرض مما احتضنته الكاميرا اللعوب. تتحول عملية التصوير إلى عناق متواصل، إلى رحلة وئيدة الخطى في عوالم كنا نظن أننا نعرفها ونراها في عادي أيامنا. تجبرنا براعة عدسته على التأمل في ما كنا نراه دوما ونعبر عليه بلا انتباه. تضطرنا إلى التخلي عن السرعة التافهة التي تمتطينا عندما نمرُّ محاذين الجمال وغير آبهين به. أرتنا عدسته "ملكات الحرير"... حقولا وبساتين وصبايا وتطريزات أثواب لم نكن نراها حقا رغم أنها كلها كانت أمام عيوننا دوما. عندما تصفحنا "الملكات" اخترقتنا حاسة البصر واخترقنا بها عوالم جديدة... صرنا زرقاء يمامة في اكتشاف أقرب الأشياء إلينا. اليوم تخترقنا حاسة السمع ونخترق بها عوالم جديدة. يجبرنا السلوادي، هذا الكيوبيد الموهوب، أن نُصخي السمع بهدوء شديد إلى "بوح الحجارة"، وعنوان كتابه الجديد عن حجر فلسطين وعمارتها، ندني برؤوسنا وآذاننا إليها لتهمس لنا بكل الأسرار: بتواريخ الميلاد، وأسماء المواليد الأُول. بلون جدران الغرف، ونوافذ شموس الآلهة التي كانت تطمئن منها عليهم. تهمس في آذاننا بهتاف "في البدء كان الحجر"... و"في الختام كان بقاء بناته وساكنيه". إن كنا تجولنا في صور "ملكات الحرير" رائين ومعانقين، ففي "بوح الحجارة" نواصل التجوال والعناق... منصتين وسامعين. تتوالى السردية الطويلة لهذه البلاد وأهلها بصرا وسمعا تجبلها الكاميرا والالتقاط المتمهل. بين دفتي هذا الكتاب المصور ثمة أكثر من مائتي لوحة بديعة تحوم حول حجارة فلسطين وعمارتها وسلاسلها القديمة وأسواقها العتيقة وجدران قراها المتكئة على كتف ماض عريق. تطوف الصور حول "الحجارة" كأنما كانت الشاهد اليقظ على بدء حراث أناس البلاد وزيتونهم. تحلق حولها وفوقها وتحتها فتستنطقها لتحكي وتستكمل الحكاية. إذن يمكن للحجارة أن تنطق في صور وأن تبوح لنا بروايتها هي لملحمة الوجود الفلسطيني واستعصائه على الإذابة والإبادة. في البدء هناك بانوراما الصورة العريضة والكلية، الـ"زووم آوت"، تقول إن لهذا الحجر الذي شكّل وجه الأرض الطيبة وآوى ناسها مذاقا سحريا غريبا. وهو إذ يطلع من الأسفل صاعدا في جدار، أو منحيا في قوس، أو متعرجا في زقاق، أو مصلبا في شباك أو مصطبة، أو منتشرا بلا انتظام في كل مكان، فإنما ليكون امتدادا آخر للناس والأرض والتراب. يُصبحون جميعا خلطة غامضة ومعروفة معا كزعتر البراري. يصّاعد الحجر طبقة إثر أخرى في اجواز شجر التين والسنديان، منداحا على امتداد سماوات ثمان. في اللقطات القريبة والحميمة، الـ"زووم إن"، نظل أيضاً أسرى طائعين للكيوبيد وعدسته. يقودنا أولا إلى "شبابيك"، الجزء الأول من سفره الحجري. وفيه تنفتح طاقات عتيقة في طول وعرض جدران الحجارة الطيبة. تنفتح للخارج، بثقة واطمئنان مُلّاك الزمن وأصحاب البيوت والكروم. ترحب بالمارين والغرباء: واسعة، عريضة، ولونها أخضر. تطل على بستان، أو حارة، أو فضاء منسدح، أو تلة تتمايل فيها شجرة كلمنتينا تثغو تحتها ماعز. في إحدى الصور المبدعة هناك حمامة بيضاء تطير فاردة جناحيها محاذية لشباك قديم.وهذا زخرف عثماني ممهور باسم الدولة العلية وسلطانها. وهذه زخارف يتوسطها صليب يعانق السماء كأنما العدسة تجثو في مذبح الأرض وتلتقط ما اعتلى. نقلبُ صفحة فيحضننا باب مترع بالعتق بجانبه مفتاحان كبيران يسيل منهما عرق حماة المحاريث. هنا "أبواب" محطة أخرى يتوقف عندها كيوبيد. أبواب تلاحق أبوابا في تصاوير وألوان كأنما لم تكن. أكل هذه الأبواب تتوسط جدران حجارتنا ونمر عليها ولا نراها؟ نترك الـ"أبواب" خلفنا لندخل إلى الـ"أقواس" فنرى كيوبيد وقد تعربش في أقصى نقاط تحدبها تاركاً سهام عدسته تلتقط زوايا التقاء الأقواس مع زرقة السماء وبياض غيومها. في عمقها البعيد نرى تلاحق بيوتات الحجر. هنا تتحول الأقواس كلها إلى أمهات من روح وحجارة لينة تحضن كل ما تحتها. من جوانب طيات ثوبها نرى أفقا ثريا لا نهاية له.. نرى بيوتا ونوافذ وأبوابا وبرتقالا وأشواكا وخيولا وعصافير تتدفق من أسفل الأقواس.. أطياف لأمواج من الناس عطروها بالحكايا ورائحة التبغ، ودفعوها إلى أعلى بأكتافهم يوم عبروا من تحتها.
1384
| 12 يناير 2015
التمديد الطويل للمفاوضات الإيرانية الغربية (خمسة زائد واحد) حول الملف النووي إلى شهر يوليو القادم يعد بالتأكيد نجاحا إيرانيا كبيرا. هذه المفاوضات هي في العمق والجوهر مفاوضات إيرانية مع الولايات المتحدة (أي واحد زائد واحد)، وتبدو بقية الدول الغربية تابعة لما تقرره واشنطن. لكن كيف يمكن أن توافق واشنطن مرة تلو الأخرى على تمديد المفاوضات مع الدولة "المارقة" وهي والجميع يعلمون أن طهران تشتري الوقت لأهدافها الخاصة. ليس ثمة إجابة مباشرة أو سهلة على هذا السؤال. كما أن ليس ثمة أي سذاجة عن الطرف الأمريكي. ولا طبعا عند الطرف الإيراني. ما يتبلور على نار هادئة هو "الصفقة الكبرى" بين الطرفين والتي احتاجت إلى وقت إضافي كي تنضج مكوناتها من ناحية. والتي تحتاج إلى وقت إضافي في الإقليم كي تنتهي بعض التطورات أو تأخذ الاتجاه الذي يصب مباشرة في مصلحة تلك الصفقة ويتوافق معها. لا مكان للصدف هنا ولا للتساذج أو التخادع، بل نحن في قلب عملية "انتظار" الوصول إلى تلك الصفقة. عملياً، سوف تحدد الشهور القادمة (مع نتيجة المفاوضات ومضمون "الصفقة") شكل الشرق الأوسط الجديد وموقع إيران والعرب فيه. ويصير على الجميع الانتظار حتى يتم الاتفاق التفصيلي على جوانب الصفقة والتحالف الجديد الذي ينشأ في الإقليم. ليس مهما الجدل في ما إن كانت إيران تنتزع موقعا ودورا إقليميا رغم انف الولايات المتحدة التي تبدو وكأنها ملت من المنطقة ولم يعد لديها الطاقة الكافية ولا الرغبة في متابعة كل ملف من الملفات، أم أن ذلك يتم وفق الرغبة الأمريكية وتبعا لتحولات بوصلة سياساتها ومصالحها في المنطقة (وإعادة تبوصلها نحو آسيا). المهم، بالنسبة للمنطقة العربية ككتلة جماعية، وللدول العربية منفردة خاصة دول الخليج، هو نتائج تلك الصفقة وانعكاساتها عليهم. وتبعا لذلك فإن السؤال الكبير هو انعكاسات ما سوف يأتي على العرب خاصة إذا تعزز النفوذ الإيراني وثبت مواقعه في البلدان التي تعزز فيها في العقد الأخير من السنين. وتحديدا في العراق وسوريا ولبنان واليمن. والسؤال الثاني المرتبط بذلك يتعلق بإمكانية أم عدم إمكانية القيام بأي فعل عربي جماعي أو منفرد لتحديد انعكاسات الصفقة وتخفيض تأثيراتها السلبية. إيران الخامنئية قد ترث إيران الشاهنشاهية ودورها كشرطي للخليج. وهذه المرة مدفوعة بجموح إضافي مرتبط بالشيعية السياسية التي تشكل الآن المسوغ الموضوعي (المُفتعل) للمشروع الإيراني برمته، وبها تطرح إيران نفسها كحامية للشيعة في المنطقة والعالم. لا يعني ما سبق إعلان إيران عدوة للعرب فهذا غير مطلوب وغير عملي ومدمر للطرفين وللمنطقة عموماً. لكنه يعني ضرورة أن يتحرك العرب خاصة دول الخليج ومصر في اتجاه موازنة النفوذ الإيراني وتحديده وفق المصالح المشتركة، من دون أن يكون أي طرف من الأطراف فوق الطرف الآخر. وهذا يتطلب صوغ مقاربة عربية متماسكة نحو إيران تقوم على الندية واحترام السيادات ورفض التدخلات عبر الحدودية أيا ما كان شكلها ومسوغها، خاصة المسوغ الديني. وهذه المقاربة ربما تبدأ من فهم تعريف إيران لنفسها وفهم تناقضات ذلك التعريف، أو التعريفات، ثم تعزيز التعريف الذي يسهل من خلاله التعامل معها. وهنا يمكن القول أن إيران الحالية تتصارع فيها وداخلها ثلاث "إيرانات": آل "إيران الأولى" هي إيران الوريثة للإرث الفارسي الامبرطوري المشحون بالتاريخ والذي يدفع بالبلد نحو مشروع توسعي إقليمي دائم ويرى في إيران تلك الدولة التي يجب أن تمتلك مشروعا إمبراطورياً متفوقا على جوارها، وهذه آل "إيران" عابرة للحدود بالتعريف. وال "إيران" الثانية هي إيران التشيع السياسي التي أطلقها الخميني وترى في نفسها حامية للشيعة في العالم وليس فقط في المنطقة، وهي أيضاً إيران عابرة للحدود ولا تحترم سيادات الدول. وال "إيران" الثالثة هي إيران الدولة الأمة أي nation state والتي تلتزم بالقانون الدولي وتحترم سيادات الدول ولا تستبطن أي مشروع ايديولوجي أو امبرطوري متخط للحدود. ليس هناك حدود فاصلة وواضحة بين هذه الإيرانات الثلاث كما ليس ثمة كتل داخل إيران صارمة الملامح يمثل كل منها إيرانه الخاصة به. بل هناك تداخل وغموض التعريفات حيث تبدو هذه الإيرانات كثلاث دوائر تتداخل في منطقة الوسط، بما يعني اشتراكها في عناصر عديدة لكن اختلافها في عناصر أخرى. ما يمكن للعرب وللعالم التعامل معه بسهولة أكثر وندية واحترام متبادل هو ال "إيران" الثالثة القائمة على مبدأ الدولة الأمة والتي يكون مواطنوها إيرانيون بالتعريف (ولا يكون التعريف الفارسي أو التعريف الشيعي هو التعريف المركزي المحدد لهوية الدولة). وهذا يتناسب ويتواءم مع دول الجوار سواء العربي أو التركي ذلك أن كل دولة في المنطقة تنتهج سياسة خارجية وفق مبدأ الدولة الأمة ولا تطلق مشروعا عابرا للحدود يهدد إيران. وبتفصيل أكثر، وعلى سبيل المثال، ليس هناك مشروع قومي عربي يهدد وحدة إيران أو سيادتها أو يطلب ولاء الإيرانيين العرب (البالغ عددهم تسعة ملايين). وليس هناك مشروع قومي تركي عابر للحدود يطالب بولاء ملايين الإيرانيين ذويي الأصل التركي. كما ليس هناك مشروع سني يتدخل في النسيج الإيراني ويشتغل على السنة الإيرانيين بدعوى أنهم مضطهدين أو سوى ذلك. وفي المقابل هناك مشروعات إيرانية شيعية أو إمبراطورية تقوم بالعكس وتتدخل في أكثر من بلد عربي بهذا المسوغ أو ذاك. السؤال العملي إذن والذي يحتاج إلى تفكير عربي وجهد عربي وسياسة خارجية عربية يحوم إذن حول إمكانية تعزيز إيران الثالثة، إيران الدولة الأمة. التي من حقها أن تدافع عن مصالحها، لكن في إطار احترام مصالح دول الجوار. وكيف يمكن تقوية الكتلة أو الكتل الإيرانية في داخل الدولة والمجتمع الإيراني التي تؤمن بالدولة الإيرانية كدولة امة يكون التعريف الإيراني، وليس الفارسي أو الشيعي، هو المحدد الأهم في تشكيلها وصوغ سياستها الخارجية.
987
| 29 ديسمبر 2014
خضعت تمظهرات الهُويّات الفلسطينيّة لتحوّلات عميقة وجذريّة في التاريخ المعاصر في سياق حقبة ما بعد الاستعمار الغربيّ للمنطقة، واستمرار السياق الاستعماريّ الصهيونيّ في فلسطين. في السياق الإقليميّ، تنافست هُويّات قوميّة وحديثة تحيط بفلسطين على استبدال وَ/أو إعادة إنتاج مزيج الهُويّات المتبقّية من الماضي البعيد والماضي القريب، نحو الهُويّات (وتفرّعات الهُويّات) الدينيّة والإسلاميّة والعروبيّة والقَبَليّة والإقليميّة. استنزفت النخب الحاكمة في الدول القوميّة الوليدة في الشرق الأوسط طاقاتها في سعيها لتأسيس (أو-بالأصحّ- تخليق) هُويّات وطنيّة متميّزة حول ما يُفترض أن تدور حولها "القوميات" الوليدة و"مواطَنتها". وبعد عقود على نشوء الدول الوطنية (القطرية) العربية لم تتم بعد تسويةُ التوتّرات بين المركّبات المختلفة (والمتضاربة أحيانًا) لهذه الهُويّة الموحّدة المنشودة، والتي تدور في المقام الأوّل حول صدارة مكوّناتها الدينيّة أو القوميّة.بعض تلك التوترات يجد صداه في عمليّات تشكيل وإعادة تشكيل الهُويّة الفلسطينيّة. بدءًا من نهاية القرن التاسع عشر حتّى يومنا هذا، يمكن النظر إلى الجدال والتنافس والتصالح وَ/أو الصراع بين "القوميّ" و"الدينيّ" كمسار تكامليّ في عمليّة صياغة الهُويّة الفلسطينيّة، وكجزء من عمليّة تدوين تاريخ هذه الهُويّة.رغم ذلك، تبقى فكرتا "القوميّ" و"الدينيّ" عاجزتين عن توفير فهم شامل لنشوء وتشكيل الهُويّة الفلسطينيّة بالمنظور التاريخيّ. رغم الطبيعة النافذة لهذين الآليتين في تأسيس الهُويّات، فقد جرى تطويعهما -كما ستدّعي هذه المقالة- لسياق وسيرورة أقوى، ألا وهي المقاومة.وعلى خلاف الحالات العربيّة/ الشرق أوسطية الأخرى، تجاوز السياق الاستعماريّ المتواصل في فلسطين الإطار الزمنيّ للتجارب الاستعماريّة الأخرى، بحضوره الشامل وبالجهاز التمييزيّ الوحشيّ المفروض على الفلسطينيّين، هذا السياق مازال يقوم بدور المصمّم المطلق للهُويّة الفلسطينيّة وللواقع الفلسطينيّ السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ.الردّ الفلسطينيّ الذي لا ريب فيه لهذا السياق على امتداد القرن الأخير كان المقاومة. فكرة المقاومة أدّت دورًا عظيمًا في التأثير على مفهوم الفلسطينيّين لذاتهم الجماعيّة، وفي خلق "فلسطينيّتهم". وبوعي أو دون وعي، تحوّل فعل المقاومة إلى "مانح" الشرعّية المركزيّ، وأُجبِرَ حتّى "القوميّ" و"الدينيّ" على تقديم (وإعادة تقديم) أنفسهما للجماهير من منظور المقاومة. الملاحظات سوف تركز على مرحلة ما بعد الحرب. اقترابا من سؤال: وماذا بعد؟الهوية الوطنية national identity مفهوم جديد في التاريخ السياسي للجماعات البشرية ومرتبط عضويا بمفهوم "الدولة الأمة" nation state. وربما يمكن اعتبارها الشقيقة التوأم للدولة الحديثة. في مرحلة ما قبل الدولة الوطنية لم يكن ثمة حاجة لهذا المفهوم الذي صار له أن يتطور خلال القرنين الماضيين. متوازياً. مع تكرس فكرة السيادة القومية. ليحتل مكانة قريبة من المقدس. كانت المجموعات البشرية والأقوام وفي سياق الأنظمة الإمبراطورية العابرة للحدود الجغرافية والديموغرافية معرفة بقواسم ومميزات لكل منها يتمثل في الاشتراك في الجغرافيا. وكثافة العلاقات التبادلية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدينية والمكونات المشتركة. مقارنة ببعضها البعض. وما ينتج عن ذلك من وعي رخو بذات جمعية متعينة.العوامل المشتركة التاريخية والثقافية والاجتماعية تلك. وإلى جانب طبيعة العلاقة مع "الآخر" والرغبة في التمايز عنه. وقفت وراء تبلور الهويات الوطنية كنتاج سيرورات مركبة وظروف مختلفة. طبيعة العلاقة مع الآخر في فضاءات عريضة من العالم حددتها تجربة الكولونيالية الغربية التي أسهمت في بروز واستقواء هويات وطنية في البلدان المُستعمرة. لكن هذه الهويات لم تكن نتاجا حصريا لهذه الكولونيالية. بل هي إعادة استحضار لمكونات تاريخية وجغرافية وثقافية وتشغيلها في إنتاج "هوية وطنية" مقاومة للاستعمار. وهكذا فإن "المقاومة" اشتغلت عمليا على إعادة صوغ تصور الجماعة الوطنية عن نفسها وأصبحت الآلية الأهم في تشكل الهوية الجمعية. وفي الوقت نفسه لا يمكن القول إن المقاومة هي الآلية والمكون الحصري للهوية الوطنية حتى لو كانت تلك الهوية قيد الاستعمار.ويمكن تصور عبور الهوية الوطنية في العصر الحديث وفي السياق الكولونيالي وما بعد الكولونيالي في مرحلتين: الأولى هي انتزاع "الوطنية" والتحرر من المستعمر. ثم انتزاع "المواطنة" من النظام السياسي في مرحلة الاستقلال. معنى ذلك أن التحرر من الاستعمار لا يجلب معه التحقق الكامل للهوية الوطنية. بل تخلصها من السيطرة الخارجية فقط. بينما لا تُنجز تماما إلا من خلال تحقيق "المواطنة" في المرحلة الاستقلالية التالية. ومن المهم مفهوميا كسر حصرية المقاومة بالكفاح المسلح. فإضافة إلى هذا الأخير فهي تتضمن الأفكار والآليات والممارسات والجهود التي تتوجه أساسا نحو رفض النظام الفوقي للاستعمار أو القوة الأجنبية المسيطرة والتمرد عليه والتخلص منه. وهذه كلها تشكل مع الزمن وتكرس الفعل المقاوم الوعي بالذات الجمعية. ويصبح الالتزام بها. سواء عبر الممارسة المباشرة أو الإقرار بشرعيتها. هو المُعرف الأساسي لمعنى الانتماء لقوم ما. على ذلك قد تكون المقاومة. في السياق الفلسطيني مثلاً. الكفاح المسلح. أو المقاومة السلمية. أو النضال ضد السياسات العنصرية (كما في حالة فلسطيني الداخل).وخلال مرحلة التحرر من الاستعمار فإن المقاومة (على المستوى الفلسطيني وغيره) وتبعا لتعقلها بكونها مؤسسا تكوينيا مرتبطا بالهوية تشتغل على عدة مستويات مهمة. أولها. أنها تعمل على منح الشرعية وحجبها للأفكار والممارسات التي تنشأ تحت الحكم الكولونيالي. فمن (وما) يلتزم بالمقاومة وأهدافها وينخرط فيها ينتمي لـ"الجماعة الوطنية" ويتصف بـ"هويتها". وثانيها. كونها تصبح أحد أهم معايير التأثيم الفردي والجماعي بدءاً من الحد الأدنى وهو الشعور بالتقصير لعدم الانخراط فيها وممارستها. ووصولا إلى الحد الأعلى وهو الطرد من الهوية الوطنية في الحالات القصوى كالخيانة والتخابر مع العدو. وثالثها. أنها تعمل على شرعنة الفعل النظري والعملي. السياسي. والديني. والاقتصادي. والفني. والثقافي. وتعطيه رخصة مزاولة الحياة الاجتماعية: وينشأ تبعا لذلك "الاقتصاد المقاوم" و"الفن المقاوم" و"الدين المقاوم". وكأن أيا من هذه الأنشطة لن يتمتع بممارسة الشرعية الكاملة ما لم يرتبط بالمشروع الأعلى "المقاوم". تطورت مركزية المقاومة في سيرورة تشكل الهوية الفلسطينية ومرت في حقب متلاحقة. خاصة في أعقاب بروز حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي. وشبه التماهي بين المقاومة والهوية. وظلت كذلك إلى توقيع اتفاق أوسلو. عندها توقفت المقاومة (كإطار جامع للهوية والفاعلية الفلسطينية) وانتقل الوضع الفلسطيني إلى الغموض الخطر. ومكمن الخطر في هذه الحقبة يتمثل في الوقوف في منتصف الطريق حيث أخرجت المقاومة ذاتها من المعركة ضد المستعمر قبل إنهاء مهمتها الطبيعية وهي التحرر والاستقلال. وقبل الانتقال إلى الدولة الحاضنة الحديثة للهوية الوطنية. أدى ذلك إلى بروز مشروعين متناقضين "المقاومة عند حماس" و"الحل السلمي" عند الفصائل الوطنية. وبذلك لم تعد المقاومة هي المشروع الناظم والجامع للفاعلية والهوية الفلسطينية. خلال الحقب الزمنية راكمت منظمة التحرير وحركة حماس "رأسمال مقاومي". تم استنزافه في مشروعين غير متجانسين: المفاوضات. والأسلمة. رصيد فصائل منظمة التحرير من سنوات الستينيات وحتى أوسلو. تم استنزافه في مشروع المفاوضات وبناء السلطة الفلسطينية. ورصيد حماس المقاومي تم استنزافه في مشروع الأسلمة المجتمعية. ومع نفاد الرصيد المقاومي بأكمله عند الطرفين تنكشف المشروعات الخلافية وتصطدم ببعضها البعض وتتحرك من دون إقناع وفي غياب غطاء المقاومة.
973
| 22 ديسمبر 2014
جزء من هذه الملاحظات التي تتناولها هذه السطور جاء في إطار نقاش موسع في مؤتمر عقد في جامعة بير زيت مؤخراً حول المكانة السياسية والإستراتيجية لقطاع غزة. وهي ملاحظات جاءت ضمن ورقة تتناول بعض جوانب المأزق الذي تواجهه حركة حماس، على ثلاثة مستويات: داخلي ووطني وإقليمي ـ دولي. كما تناولت ضرورة إطلاق مشروع مراجعات معمق بشأن الممارسة والفكر والسياسة التي تتبعها حماس. من الصعوبة تلخيص كل النقاش في هذه المساحة المحدودة، لهذا ربما من المفيد تخصيصها للتركيز على الآراء والمراجعات التي طرحها أحمد يوسف، أحد قيادات وأصوات حماس التي تتحلى ببعد نظر وجرأة على رفع الصوت بضرورة إجراء مراجعات جذرية، ونشرها هذه الأيام، في دراسة موسعة بعنوان "في أفق المراجعات: إستراتيجيات ما بعد الحرب على قطاع غزة: حماس والحاجة إلى مقاربات سياسية وأيديولوجية جديدة". ينطلق يوسف في ورقته من تقديرات عدة، من ضمنها أن "خروج حركة حماس من الحكم، ومغادرة مواقع المسؤولية، يعطيها إمكانية التفرغ لإجراء مرجعات في الفكر والأداء الحركي والدعوي (وأن) أداء الحركة في الحكم لم يكن على المستوى المطلوب والمأمول، خصوصاً لمن نعتقد فيه أنه أمل الأمة ومستقبلها الواعد. (و) أن تعاملها مع الآخر لا يدل على وجود حيوية في تفكيرها، وتجديد في وسائلها وأساليبها. (و) أن تعاطيها مع المتغيرات المحلية والعربية والدولية لابدَّ من مراجعته. (و) أن قرار السلم والحرب لم يشارك فيه أشقاء الوطن. (و) أن القرارات الحركية لا تخضع أحياناً للشورى في المؤسسات الحركية، (و) أن الظروف المتجددة والمتغيرة التي تحياها المنطقة العربية والمحلية تتطلب من الحركة الإسلامية في فلسطين أن تراجع دائماً برامجها وخططها، وهذا يتطلب من قياداتها أن تبدأ، بشكل جدي، تغيير برامج الحركة، حيث إن برامجها منذ الانطلاق في ديسمبر 1987م لا يمكن أن تصلح لهذا العصر. (و) أن النظام الانتخابي الداخلي، وطريقة الترشح وشروطه، لابدَّ من مراجعتها وإعادة النظر فيها". تشير هذه المقاربة إلى جوانب من المأزق الذي تعيشه حماس على المستويات المختلفة، ويقدم يوسف مقترحات مباشرة وجريئة لحماس برسم التفكير والمراجعة والتبني، ويؤسس لها ويناقشها بتوسع، لكن عناوينها الرئيسية يمكن إجمالها في ما يلي: • مناقشة موقع العمل العسكري والوصول إلى طرح اقتراح تجميده لفترة زمنية محددة في حدود خمس سنوات، بهدف التقاط النفس وتوفير الفرصة لإعادة بناء قطاع غزة وبناء الإجماع الوطني. • مواصلة نقاش فكرة التفاوض المباشر مع إسرائيل، استتباعا لما صدر من تصريحات سابقة على لسان د. موسى أبو مرزوق، نائب رئيس المكتب السياسي، وهنا يقول يوسف: "إن ملف التفاوض هو باب يجب أن يبقى موارباً، لأننا سوف نحتاج إليه طالما بقي الوضع الفلسطيني هو حالة تحت الاحتلال، ولكن أي تحركاتٍ في هذا الاتجاه تستلزم الوضوح والصراحة والاتفاق، حتى لا يضيع الجهد وتستنزف الطاقات بمن يعمل على وضع العصا في الدواليب ومن يحاول تخليصها، في مراوحة لا طائل وراءها ولا مردود".• العمل على إعادة العلاقات مع مصر وإيران ودول الخليج، خاصة السعودية والإمارات، مع مواصلة تعزيز العلاقة مع قطر وتركيا، وفي ملف العلاقة المتدهورة مع مصر منح أمن واستقرار سيناء أولوية قصوى والانطلاق من ذلك.• على مستوى المشروع الوطني يعيد أحمد يوسف طرح فكرة الدولة الواحدة ويرى أن أي حل مستقبلي حقيقي ودائم لن يبتعد في شكله النهائي عن هذا الحل، ويدعو، ولو بشكل غير مباشر، حماس لتبني هذا الخيار. • وعلى المستوى الوطني السياسي يقدم يوسف طرحا مهما يقوم على خوض أي انتخابات فلسطينية تشريعية قادمة على أساس الشراكة السياسية مع القوى الأخرى، خاصة تيار فتح، أي أن تخوض الحركتان الانتخابات ضمن قائمة انتخابية واحدة توافقية وليس تنافسية، وعلى برنامج واحد، بما يضيق مجالات الكيد السياسي وإفشال الطرف الآخر في حال الاستئثار بالفوز. ومن المهم الإشارة إلى أن هذا الطرح قدم منذ سنوات من قبل ناصر الشاعر، نائب رئيس الوزراء في حكومة حماس التي تشكلت بعد انتخابات ٢٠٠٦ في الضفة الغربية وقطاع غزة. كما أن خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس يتبنى هذه الفكرة إلى حد بعيد. • وعلى نفس المستوى أيضا، يدعو يوسف حركة حماس إلى دعم سلام فياض كرئيس قادم في أي انتخابات رئاسية (وفي حال عدم ترشح أبو مازن)، ويعدد مزايا فياض وأهليته للرئاسة وفرص توفر إجماع وطني عليه، لكن لا يذكر ما قد يكون عليه موقف حماس في حال حصلت هذه الانتخابات (الأمر الذي يستبعده كثيرون على أي حال) وترشح لها أبو مازن مرة أخرى. • واستطرادا حول الموقف من الرئيس عباس يدعو يوسف إلى دعم خطته الرامية إلى الانضمام للمنظمات الدولية وتعزيز موقفه وعدم تعطيله، ومنحه حرية التحرك وشرعيته بكونه رئيس كل الشعب الفلسطيني. • يطالب يوسف حماس والإسلاميين بالخروج من شرنقة الحزب الإسلامي إلى فضاء العمل الجبهوي مع الأطراف الوطنية الأخرى اعتمادا على مبادئ الشراكة السياسية والتوافقات الوطنية، وعدم الالتصاق بالأجندات الحزبية الضيقة.• يدعو يوسف أيضاً حماس إلى النظر في تغيير ميثاقها الذي أصدرته عام ١٩٨٧ بكون ممارسة حماس وسياساتها وفكرتها قد تجاوزته، وبسبب استغلاله من قبل إسرائيل ولما فيه من طروحات "لا سامية" تحرف عدالة قضية فلسطين عن مسارها وبكونها قضية ضد احتلال واستعمار وليست موجهة لأصحاب دين معين بسبب دينهم.مراجعات وطموحات أحمد يوسف، ونداءاته تتسع أيضاً لتشمل الخطاب الإعلامي وضرورة التزام المهنية والبعد عن الشعبوية، وإعادة صيغ العلاقة مع الغرب، والابتعاد عن كل ما له علاقة بالقاعدة وداعش، فكريا وممارساتيا، وتفادي المبالغة في الاحتفاليات الحزبية المستفزة، وكثير غير ذلك. ليس من المتوقع أن تستمع حماس لكل نصائح ومراجعات أحمد يوسف، لكنها أفكار في غاية الأهمية، وعلى العقلاء في الحركة تأملها والإنصات لصوت العقل الذي تدعو له والأخذ بمعظمها، إن لم يكن كلها.
1212
| 24 نوفمبر 2014
ربما ليس ثمة ثابت في التاريخ سوى حركته غير الثابتة دوماً. من حقبة لحقبة ومن طور لآخر يستمزج السخرية من المتصدين للتنبوء بمساراته. تتلاحق أحداثه في مسار يبدو وكأنه مُعلم بالمستقبل. فيتسرع كثيرون بإطلاق تقديرات وتنبوءات بما سوف يكون عليه المستقبل. ثم يصدمهم التاريخ وحركاته المفاجئة بانعطافات هنا ونتوءات هناك. أو بانحراف على يمين المسار وشماله. أو حتى الخروج منه تماما واستحداث آخر جديد.لنتأمل مثلا النبوءة العارمة بحتمية وحصرية اندراج البشرية ودولها وشعوبها في مسار الديمقراطية الليبرالية وبكونه المسار الإنساني الأخير والوحيد الذي آل إليه العالم بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الكتلة الاشتراكية ومشروعها الأيديولوجي. في تلك اللحظة التاريخية. في أوائل تسعينيتات القرن الماضي. والتي اتسمت بكثافة الحدث وحدته وضخامته. المتجسد في انهيار المثال الأبرز والأقوى للنظرية شبه الوحيدة التي تحدت فكرة الرأسمال وإنتاجاته وصياغاته لحياة المجتمعات واقتصاداتهم وثقافاتهم. فداجة وفجائية وضخامة الانهيار تلك للإمبرطورية والأيديولوجية التي سيطرت على ثلث العالم تقريبا خلال سبعة عقود أو أقل تفسر جزئيا هوس التنظير الظافري. الذي مثل فرانسيس فوكوياما. ذروته الأيديولوجية بالاستعجال بالتبشير بأبدية و"سرمدية" نموذج الديمقراطية الليبرالية. فوكوياما. وآخرون لا حصر لهم. أطلقوا العنان لتفاؤل جامح يقول بأن شعوب العالم ومجتمعاته تتجه. وإن بسرعات متفاوتة. نحو تبني نموذج الديمقراطية الليبرالية. لأنه النموذج الأكثر استجابة لتطلعات حرية الإنسان بالدرجة الأولى. وإطلاق طاقاته. صحيح أن عماده الاقتصادي القائم على رأس المال يخلق تفاوتا هائلا وكبيرا بين البشر ويهدد تحقيق العدالة الاجتماعية. الأمر الذي تفوق فيه النموذج الاشتراكي المُنقضي. لكن مآلات ذلك التفاوت ستنتظم في في آليات ضابطة تقلل من منعكاستها. وتقلص فجواتها. ارتكز ذلك التفاؤل الكبير على هبات ديمقراطية في هذه المنطقة او تلك من العالم. أهمها التحولات الديمقراطية الكبرى في أوروبا الشرقية. وبعض جمهوريات آسيا الوسطى التي قد خضعت طويلا لحكم السوفييت. ثم في أمريكا اللاتنيية وبعض مناطق آسيا وإفريقيا. إذن سقطت الأيديولوجية الأكثر تهديدا لليبرالية الديمقراطية. وحق لهذه الأخيرة أن تنتشي ولو ظرفيا. الايديولوجيات الأخرى لم تكن تشكل تهديدات حقيقية لليبرالية. وظلت ثانوية أو مكملة لواحدة من ايديولوجيتي الصراع الكبرى. احتلت الحركات الدينية مواقع متفاوتة في خارطة الصراع الايديولوجي والسياسي العريض بين الليبرالية والماركسية. لكنها بالمجمل وقعت فريسة التوظيف من هذه أو تلك. ولم تشكل أي منها بحد ذاتها طرحا متماسكا ومتكاملا يصل إلى حد البديل العالمي. هامشية الحركات الدينية والأصولية أسس (أو رسخ) النظرة لها بكونها زائلة وبأن نهايتها هي الانقضاء الحتمي رغم استطالة عمرها هنا أو هناك. رآها مفكرون كثر على أنها مجرد طفرة على جنبات التطور الإنساني الآيل نحو سيادة العقلانية والبراغماتية على حساب الدين والغييات. وانطلاقا من هذه النظرة فإن كثيرون لم يأخذوا اطروحة صاموئيل هانتنغتون حول صراع الحضارات (... أو الاديان) وبكونه الصراع القادم الذي يحتل مواقع وميادين الصراع بين الايديولوجيات.بعد مرور ما يقارب خمسة عقود ونصف على لحظة انتصار الليبرالية الديمقراطية. والتنظير لها والاحتفاء بغلبتها. كيف يتبدى المشهد الايديوـسياسي عالمياً وإنسانياً؟ يمكن القول أولا أن الفكرة الليبرالية الديمقراطية تشهد انحساراً تدريجيا. وإن كان بطيئا. أو على الأقل فإنها بالكاد تسيطر على الفضاءات والمواقع التي تعتبر مواقع حضورها ووجودها التقليدي. بعيدا عن "الفضاء الغربي" نجد تنويعات لسياسات وأفكار مختلفة او هجينة وليس بالضرورة متبلورة على شكل ايديولوجيات منافسة. لكنها بالتأكيد تقع خارج التصنيف "الليبرالي الديمقراطي". اول "النماذج" التي يمكن ملاحظتها والتي تأكل من "الفضاءات الحيوية" لليبرالية الديمقراطية هو نموذج الليبرالية غير الديمقراطية واهم ممثيله روسيا والصين. فهنا ثمة مكونات عديدة. خاصة اقتصادية. مستوردة من. او معدلة عن. الأصل العائد للنظرية الرأسمالية في شكلها. وعضوية علاقتها. مع الليبرالية الديمقراطية. لكن هذه المكونات صارت تشتغل كوحدات مستقلة وليس كجزء من كل هو النموذج الأم. النموذج الروسي ـ الصيني الذي يقول بإمكانية تحقيق اقتصاد ناجح وفعال (... وليبرالي) من دون الضرورة لتبني سياسة ليبرالية يحقق حضورا. أو ترجمة وتقليد له. في مناطق كثيرة من العالم ومن ضمنها العالم العربي. هذا "النموذج" هو. بلغة أخرى. إعادة تأهيل للاستبدادوية والسلطوية. وحمايتها من تهديدات المكون الديمقراطي الذي يستكمل المكون الليبرالي في النموذج الأم. ثاني النماذج المطروحة حاليا. خاصة في الشرق الأوسط. هو ما تقدمه الحركات الدينية خاصة تلك التي لا تعترف بفكرة "الدولة" وتريد أن تستجلب أشكالا فوق دولتيه (مثل الخلافة. أو المرجعية الدينية العابرة للحدود. أو سوى ذلك). ما تطرحه هذه الأصوليات لم يكن يأخذ بجدية في العقود الماضية. كما لم تأخذ الأطروحة الهنتغتونية بالجدية الموازية. لكنها اليوم أصبحت جزءا فعالا من المشهد وتقدم تهديدات حقيقية للأوضاع القائمة. من ناحية المضمون والمكون الفكري فإنها مناقضة جذريا لليبرالية وللديمقراطية وترفضهمها معاً. واللافت. والخطير معاً. في شأن الأصوليات الدينية يكمن في تجاوز تأثيراتها وانعكاساتها وما يمكن أن تحدثه في فضاءات المعسكر المنافس. فهنا تؤثر الدعاوى الاصولية المتطرفة على الفضاء الليبرالي الديمقراطي نفسه وتشكك في صحته حتى عند أهله. وتساهم بقوة في نشوء تيارات متطرفة وعنصريات رافضة لليبرالية نفسها بكونها تسمح لمن هو غير ليبرالي وغير ديمقراطي بالعمل وتعترف بوجوده.
869
| 17 نوفمبر 2014
الانتخابات الرئاسية التونسية القادمة يوم 23 نوفمبر القادم تشكل منعطفا كبيرا في التجربة التونسية الديمقراطية التي يراقبها العرب ويرون فيها التجربة الوحيدة الناجحة حتى في تجارب الربيع العربي، النجاح الحذر للتجربة أسبابه عديدة وليس الآن مجال نقاشه، وهي في مجملها أسباب تولدت عن السياق التونسي المدني وآلياته الداخلية، وعقلانية "خريطة طريق" ما بعد الإطاحة بابن علي، ثم المراقبة اللصيقة لما كان يحدث في بلدان عربية أخرى والاستفادة منها (مصر. وليبيا على وجه الخصوص). مقاربات إسلاميي تونس ورشدهم أسهمت في الحفاظ على مسار ما بعد الثورة توافقيا. وأطفأت كثيرا من احتمالات الانفجار هنا وهناك، وتخلي حركة النهضة عن الحكومة في مرحلة من المراحل لصالح تشكيل حكومة تكنوقراط تقود البلاد إلى الانتخابات التشريعية والرئاسية عكس نضجاً متفوقا في صفوف الإسلاميين في تونس عندما نقارن ممارساتهم بإخوان مصر مثلاً أو تطرف إسلاميي ليبيا. في سجالات الإسلاميين مع بعضهم البعض ومع خصومهم ثمة جدل عريض كان يُثار دوما بين خياري "المغالبة" و"المشاركة" في الحكم. أنصار "المغالبة" هو الأكثر تطرفا وتوترا والظانون بأن مسألة الحكم نزهة لا أكثر ولا أقل أنصار "المشاركة" هم الأكثر عقلانية وهم من كانوا ومازالوا يدركون أن قيادة أي بلد ليست كقيادة أي حزب أو تنظيم، وأن ما ينطبق على "الجماعة" لا يمكن أن ينطبق على البلاد بأسرها، "مغالبة" الإخوان في مصر قادت إلى كوارث سياسية، و"مشاركة" النهضة في تونس قادت إلى التطبيق العملي والناجح لمقاربة "التوافق الوطني". و"التوافق" ليس أمرا سهلاً وميسورا لأنه يعني التنازل والمساومة والبحث عن أرضيات مشتركة، والابتعاد عن الغرور السياسي الذي يوفره الفوز الانتخابي. والظافرية الانتخابية تأتي بمقادير هائلة من الثمالة التي تعمي المُنتصر عن رؤية الأمور على حجومها الحقيقية، ذلك أن الفوز النسبي الانتخابي الذي يكون لا يكون إلا بنسبة مئوية ضئيلة، يتحول إلى "نصر مؤزر" يمنح صاحبه الحق الحصري للنطق باسم الشعب والبلاد. والتنطع لإعادة كتابة الدستور، وصوغ المجتمع، وسوى ذلك. والقيادات، حتى العقلانية منها، يُسكرها النصر الانتخابي خاصة مع تسييد الشعارات الكبرى وضغط القواعد الحزبية التي تكون قد انتظرت مثل هذه اللحظة طويلاً.على المستوى الوطني الأعم لا يبدو أن هناك مقاربة ناجحة سوى مقاربة التوافق قادرة على احتلال الحقبة الانتقالية التي تلي أي سقوط أي نظام استبدادي. ذلك أن المسارعة للقفز إلى انتخابات يكون الهدف منها حسم "القيادة الوطنية" لتؤول إلى قوة معينة تتصدى للحكم منفردة لا يحقق الانتقال الديمقراطي المطلوب، ليست هذه نظرية جديدة في التقعيد لمراحل الانتقال الديمقراطي بل هي النمط الأكثر نجاحاً في التجارب العالمية (خاصة الأمريكية اللاتينية). حال الدول والمجتمعات الخارجة من الاستبداد تكون خليطا من الهشاشة الوطنية، وفقدان القواسم المشتركة العميقة (ما عدا قاسم العداء للنظام الاستبدادي)، وغياب التجربة السياسية والديمقراطية الحقيقية التي لم تكن لتتيحها عقود السلطوية والانسداد السياسي، يُضاف إلى ذلك أن الخصومات الأيديولوجية والسياسية التي تنشأ في الصف الوطني، رغم توحده على خصومة المُستبد، تنفلت من كل قيودها في مرحلة التحرر الثوري، وقد تتحول إلى آلات تدمير حقيقية إن لم يتم ترشيدها ولجم انفلاتاتها الهوجاء. على هذا، تكون نقطة البداية في حقبة التوافق الوطني، وكما طُبقت في التجربة التونسية، الاتفاق على الدستور الجامع، وهو اتفاق يجب أن يسبق الانتخابات التشريعية والرئاسية، وعلى أساس الدستور التوافقي تنطلق العملية السياسية بمساراتها المتعددة، أما كتابة الدستور بعد إجراء الانتخابات التشريعية أو الرئاسية فسوف يقود إلى التشكيك في حياديته واستمرار الاتهامات المُتبادلة بشأنه وبأنه كتب تحت تأثير الغالبية التي فازت بالبرلمان، أو القوة المسيطرة على الحكم (مثلاً، الدستوران المصريان اللذان صيغا بعد ثورة يوليو تعرضا ومازالا يتعرضان للنقض وتهم الانحياز وعدم الحيادية). قطعت التجربة التونسية إلى الآن أشواطا كبيرة ورائعة، وآخرها الانتخابات البرلمانية، ونتائج تلك الانتخابات تعزز منطق التوافق لأنها أشارت إلى عدم إمكانية أي حزب من الأحزاب الإنفراد بالحكم، وتفرض منهج المشاركة وإنشاء حكومة تآلف وطني، الشيء المقلق، مع ذلك، إن كثيرين يخشون أن يكون حزب نداء تونس هو حصان طروادة الذي يتسلل تحته النظام القديم برموزه وعفنه وفساده، من حق التونسيين أن يعلنوا عن تلك الخشية بأكبر صراحة ممكنة وبأعلى الصوت، وعلى نداء تونس أن يثبت العكس، ومصدر الخشية الثانية أن تتسلل الثمالة إلى نداء تونس وتنحو باتجاه إقصاء النهضة عن المشاركة في الحكم والنزوع نحو الإقصاء والتهميش عبر التحالف مع الأحزاب الليبرالية والعلمانية الأخرى، فتنقطع مسيرة التوافق الضرورية والمطلوبة والملحة في الفترة الانتقالية، في المراحل القادمة وبعد أن يترسخ المسار الديمقراطي تصبح خيارات الحزب الفائز بالانتخابات إزاء التحكم بالسلطة معقولة ومفهومة، لأنها ستقوم على أرضية صلبة، لكن الآن مازالت تلك الأرضية طرية ولا تتحمل انفرادات الأحزاب الأيديولوجية بالحكم والسلطة. التخوفات التي تُثار حول "نداء تونس" قد تتعزز في حال فوز القائد السبسي بالانتخابات الرئاسية، وهذا يجب أن يدفع القوى الأخرى المنافسة للتوافق لإنجاح مرشح يعبر عن الربيع التونسي، وحتى يعادل فوز نداء تونس بالانتخابات التشريعية ويعود المشهد السياسي التونسي إلى نقطة توازن القوى التي تفرض على الجميع البقاء في منطق "التوافق"، فوز القائد السبسي بالانتخابات الرئاسية يكسر ذلك التوازن، ويزيد من إغراء قوى النظام القديم كي تعود بقوة إلى الساحة، وهذه المرة على رافعة الديمقراطية والانتخابات. وإن حصل هذا فإن التجربة اليتيمة التي نعتز بها في المنطقة العربية تدخل مرحلة الخطر الحقيقي.
485
| 10 نوفمبر 2014
عندما طالب الفلسطينيون في شهر سبتمبر. 2011. دول العالم جميعها بالاعتراف بـ "فلسطين" كدولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة. قرأ كثيرون الخطوة بكونها قراراً إستراتيجياً قررت عبره القيادة الفلسطينية تغيير مسار أوسلو الطويل والفاشل. آنذاك كتبتُ في هذه الصفحات أن الخطوة تنطوي على ما هو أهم من "تغيير قواعد اللعبة" وهو التغيير في "اللعبة" ذاتها وفي "الملعب" التي تُخاض عليه (فلسطين: تغيير قواعد اللعبة... والملعب!). بيد أن التخوف الذي خشيه كثيرون وأنا منهم. تمثل في أن يتم تحجيم الخطوة الإستراتيجية الكبيرة وحمولتها وآفاقها الواسعة إلى مجرد "ورقة ضغط" على إسرائيل ومحض خطوة تكتيكية تندرج في سياسات الضغط التفاوضية وتُبقي الفلسطينيين في "الملعب التفاوضي" وفي "لعبة أوسلو التفاوضية". بعد كل الآمال الكبيرة يومها. وانتزاع الفلسطينيين زمام المبادأة والفعل وارتباك إسرائيل ومؤيديها في واشنطن والغرب. خضع الفلسطينيون لضغوطات دولية من هنا وهناك وجمدوا المسار الأممي. وعادوا "إلى طاولة المفاوضات". وأضاعوا ثلاث سنوات أخرى. اليوم كأن التاريخ القريب على أهبة أن يعيد نفسه. فثمة زخم كبير وإعادة امتلاك لزمام المبادرة بعد إعادة نفض الغبار عن المسار الأممي. وقرار وباتجاه التحرر من لعبة وملعب المفاوضات. لكن في ذات الوقت هناك التخوف ذاته: تخوف العودة ثانية إلى المفاوضات بعد رفع الأسقف وتحضير الأرضية لملعب جديد تُخاض عليه المعركة. ما كُتب في الجولة الأممية الأولى قبل ثلاث سنوات ينطبق تماما اليوم وكأنه كُتب تعليقا على آخر ما استجد فلسطينيا على الصعيد الأممي. ويستحق الاستعارة والعودة إليه أدناه. بما يشير إلى أن كل ما جرى في الفترة الماضية لم يكن سوى تضييع للوقت في الجانب الفلسطيني. واستثمار له في الجانب الإسرائيلي. الوقت المهدور فلسطينيا يُستثمر دائما إسرائيليا عبر تعميق وترسيخ الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس. الاحتلال والاستيطان والتهويد هما الآن أسوأ بكثير من الحال الذي كان قبل ثلاث سنوات. آن الأوان للعبة إهدار الوقت وتقديمه هدية ثمينة لإسرائيل أن تتوقف. قبل ثلاث سنوات علقت على التطور الفلسطيني الأممي بما يلي وهو ما ينطبق على ما يحدث اليوم: "... الإنجاز الفلسطيني بالتوجه إلى الأمم المتحدة والحصول على عضو دولة مراقب وحتى هذه المرحلة كبير والزخم الذي تم توليده هائل ويجب المحافظة عليه وعدم إضاعته. جوانب هذا الإنجاز عديدة لكن يمكن توصيفها وتوصيف خطوة الذهاب بالقضية إلى الأمم المتحدة بعملية. بل مغامرة. جريئة هدفها يجب أن لا يكون تكتيكيا محصورا بتغيير قواعد اللعبة. بل تغيير اللعبة كلها وتغيير الملعب. اللعبة المملة هي المفاوضات العبثية التي ضيعت عشرين عاما عبر قواعد مجحفة وضعها حكم منحاز ومتواطئ هو الولايات المتحدة. وتدور على أرضية وملعب حدد معالمهما العدو نفسه ومعه الحكم المتواطئ. من خلال تلك اللعبة تم نفي ملف القضية الفلسطينية عمليا وسياسيا عن أروقة الأمم المتحدة. وتحولت القضية إلى كرة تتقاذفها سياسات الخداع والكذب وإضاعة الوقت الإسرائيلية والأمريكية التي كرست الاحتلال والاستيطان والتهويد على مدار سنوات المفاوضات الطويلة. تشريد ملف القضية من حيزها الأممي والقانوني القوي المُدعم بقرارات دولية ومرجعيات حقوقية واضحة إلى حيز التفاوض الثنائي بهدف الوصول إلى حل سياسي كان معناه تجريد الفلسطينين من عناصر القوة الوحيدة المتوفرة في أيديهم. لم يكن هناك أية أوراق ضغط يملكها الفلسطينيون على طاولة المفاوضات التي ابتعدت بعيدا عن الأمم المتحدة وأقيمت في الملعب الإسرائيلي- الأمريكي. اللعبة والملعب والحكم فاسدون ولهذا فقد دفع الفلسطينيون ثمنا باهظا خارج حدود التصور. كيف يمكن أن تقود مفاوضات استمرت لمدة عقدين من الزمان بهدف نظري هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي إلى تكريس هذا الاحتلال ومضاعفة الاستيطان وعدد المستوطنين أكثر من ثلاث مرات وتهويد القدس برمتها؟ من هنا بالضبط تكمن أهمية وتاريخية الخطوة الفلسطينية: من إمكانية خلق مسار جديد والتوجه إلى ملعب جديد. معركة الأمم المتحدة وذروتها الخطاب الشجاع والمحكم الذي ألقاه الرئيس الفلسطيني أعادت الاعتبار لقضية فلسطين أمميا ووضعتها على رأس جدول الأعمال العالمي. أعادت التأكيد على أن قضية فلسطين ليست فحسب القضية المركزية في الشرق الأوسط وهي مفصل السلام والحرب فيه. بل وأيضا لا يمكن أن يستقر العالم من دون أن تتحقق الحقوق الفلسطينية. وقبل ذلك وخلاله أنجزت هذه الخطوة ثلاثة مكتسبات كبيرة يمكن اعتبارها إستراتيجية. الأول هو انتزاع زمام المبادرة والفعل من العدو والحكم معا. إسرائيل وأمريكا. وعكس مجرى التحكم في الأمور الذي بقي عند الطرف الآخر خلال السنوات العشرين الماضية. الفلسطينيون. والعرب من ورائهم. كانوا في موضع رد الفعل وكان المتحكم في المبادأة والسيطرة هو التحالف الإسرائيلي-الأمريكي. الخطوة الفلسطينية الأممية كسرت ذلك الاحتكار. الثاني. هو الانتفاضة على الضغوط الأمريكية التي بلغت مستويات هائلة وحاولت بالترغيب وبالوعيد ثني الفلسطينيين عن خطوتهم. يُسجل للقيادة الفلسطينية بكل موضوعية تشبثها بالموقف والإصرار على المضي خطوة تقديم طلب العضوية رغم السعار الأمريكي المُنحط أخلاقيا وسياسيا الذي شهدناه في واشنطن ونيويورك. كانت مندوبة الولايات المتحدة الجالسة في الصف الأول خلال خطاب أبو مازن تمثل المصالح الإسرائيلية وليس الأمريكية وهي ترفض حتى مجرد المشاركة في التصفيق منقطع النظير لكلمة فلسطين في المحفل الأممي. سوف يظل هذا المشهد عالقا في الذاكرة الجمعية الفلسطينية والعربية وكأن الولايات المتحدة تريد أن تؤكد بأنها عدوة للحقوق الفلسطينية عمليا رغم كل الرطانة والتصريحات الرسمية ووعود كلنتون. ورؤية بوش. وتفهم أوباما. وكل الأوهام التي سرعان ما تنقضي عن أول انتخابات محلية وضغوط للوبي اليهودي. الإنجاز الثالث للخطوة الفلسطينية الأممية تمثل في خلق زخم وطني وشعبي كان الشعب الفلسطيني في أمس الحاجة إليه. لقد تراكم في السنوات الماضية قدر هائل من الإحباط واليأس واللامبالاة في أوساط الفلسطينيين. وتبعثرت بوصلتهم الوطنية خاصة بعد الانقسام والشرخ الذي حصل بعد سيطرة حماس على غزة سنة 2007. أصبحت القضية الوطنية ومعالمها مثار تهكم شرائح عريضة. ولم يعد الفلسطيني مدركا إلى أين المسير. خطوة عضوية فلسطين وربما على رمزيتها في الجوهر تمكنت من لم الشعب الفلسطيني على هدف وطني واحد. وشحنت الناس بقضية تستحق الصراع من اجلها. لكن المهم الآن هو الحفاظ على ما تم إنجازه وعدم تبديده بالتراجع إلى الوراء. شعار الشهور القادمة يجب أن يكون: تغيير اللعبة والملعب. وليس تغيير قواعد اللعبة فقط. معنى ذلك أن يعود ملف القضية إلى الأمم المتحدة. وان تُصاغ الخطوات القادمة على أرضها ومن خلال مرجعياتها القانونية والحقوقية. أي عودة إلى المفاوضات الثنائية من دون مرجعيات الأمم المتحدة وإشرافها معنى ذلك تذرية الإنجاز والتخلي عنه والعودة إلى اللعبة القديمة والملعب القديم الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة. بإعادة الملف للأمم المتحدة يتم كسر الاحتكار الأمريكي وسيطرته الحصرية على مجريات المستقبل الفلسطيني. يجب رفض كل "الحلول الوسيطة" سواء التي طرحها ساركوزي أو اللجنة الرباعية أو غيرهم التي تريد إعادة الفلسطيني إلى الملعب القديم مع تحسين "قواعد اللعبة".
914
| 27 أكتوبر 2014
لم يكن ثمة "بابوية", بالمعنى المسيحي والكهنوتي المركزي, في تاريخ السلطة الدينية والسياسية في الإسلام: أي بابوية دينية تتمتع بقوة معنوية باذخة وتحتكر "القول الفصل" في المسائل الدينية. بعد الفترة النبوية والراشدية القصيرة سرعان ما تعددت المدارس الفقهية والفكرية وتنوعت الاجتهادات, ولم يمتلك أيا منها القدرة الدينية والرمزية على انتزاع حصرية النطق باسم الإسلام. وتاريخياً, لم يتم النظر إلى ذلك التنوع في الاجتهاد والتعدد في المدارس الفقهية والفكرية من منظور سلبي, إذ انتظم كله في منظور توكيد الأثر النبوي من أن "اختلاف أمتي رحمة". ولطالما تم النظر إلى تلك الحقيقة التاريخية, أي غياب السلطة الدينية المركزية الصارمة, وسيروراتها المتنوعة نظرة قوامها الاعتداد والتفاخر, تؤشر إلى غياب طبقة رجال دين, اكليريوس, تتحكم في مصائر الناس وتزعم قيادتهم نحو الخلاص النهائي في الحياة الآخرة. ما هو موجود, بحسب تلك النظرة, هم علماء دين لا يختلفون كثيرا عن الناس العاديين إلا بتفقههم في الدين وانكبابهم الطوعي على ذلك التفقه, بيد أنه تفقه لا يخولهم امتلاك سلطة دينية فارضة على الآخرين. يعود ذلك إلى طبيعة الدين التحررية لحظة تأسسه, ومن خلال نصوصه المقدسة, ثم عبر ترسيمه طبيعة العلاقة الرأسية المباشرة بين الأفراد والخالق. وتلك الطبيعة التي أزاحت الوسائط التي تعترض الطريق بين الفرد والسماء أتاحت مشاعية واسعة للفهم الديني والتطبيق والاجتهاد, مما أنتج مِللا ونِحلا تكاد لا تُعد ولا تحصى. لم تكن الأمور في مختلف العصور والحقب وردية وزاهية ومتسقة مع ذلك الفهم التأسيسي, حيث يتعايش التعدد الفقهي والفكري بسلام واحترام متبادل, فلقد تدخلت السياسة بكل بشاعاتها. ومع تدخلها تعاقبت فترات طويلة ومتناثرة هنا وهناك تمكنت فيها السلطة السياسية في هذه الخلافة أو تلك الإمارة من السيطرة على التعددية الفكرية والفقهية, وتخليق مركزية دينية تابعة للسلطة السياسية مباشرة. كان الهدف من إحكام القبضة السياسية على تعددية الفهم الديني ضمان المشروعية السياسية وضبط العلماء والفقهاء والمفكرين والكلاميين وفق رؤية وحكم فقهي واحد مناطه الإقرار بشرعية الحاكم. وإن قبلت مدرسة فقهية ما إكراهات الحاكم ومنحته في المقابل المشروعية الدينية لحكمه, تطورت إثرته لها على غيرها إلى قمع لهم, وتطهير للساحة من المخالفين للمدرسة الفقهية المتحالفة مع السياسة والنخبة الحاكمة. برغم وطأة السياسة على الدين في التاريخ الإسلامي وتوظيف الأولى للثاني, بقيت التعددية الدينية والفقهية والفكرية عصية على أي نوع من المركزية المطلقة للسلطة الدينية. الجوامع الفقهية الأكبر من الأزهر في المشرق إلى القرويين في المغرب كانت مشرعة على الأفكار والمقاربات المختلفة. وبالتوازي مع طيفها الفقهي تطور طيف "إسلام سياسي" يبدأ من إخضاع الرأي الفقهي للحكم السياسي القائم ومنحه المشروعية, وينتهي بآراء على الطرف النقيض تنزع المشروعية تماما من نفس الحكم وتشرعن الخروج عليه. وربما أمكن القول إن الفترات الأكثر رسوخاً في جانب السلطة الزمنية, السياسية, حيث تتمازج القوة العسكرية المعبر عنها بالفتوحات مع التقدم والازدهار الداخلي, شهدت أكثر المحاولات وأنجحها نسبيا لمركزة السلطة الدينية (مثلاً في عصر الازدهار العباسي في عهد المأمون, وفي عصور الازدهار العثماني (السليماني) والأندلسي), وربما تطورت معها "شبه مركزية دينية". وإذا كان غياب مركزية السلطة الدينية في التاريخ الإسلامي أبقى على فضاءات واسعة لإنتاج أفكار وفقه واجتهادات متنوعة ومتنافسة, فإن ذات الغياب أنتج دوماً جماعات وتيارات تقع على أقصى يمين التطرف والتعصب وتكفير بقية المسلمين. ذلك أن أي مجموعة مهما صغرت وترأسها أمير ما وقدم فهمه الخاص للدين ونصوصه كان بإمكانها أن تقدم نفسها للعامة بأنها "جماعة المسلمين". وهكذا, ظهرت "جماعات" كثيرة تزعم بأنها "الفرقة الناجية" وغيرها هالك. لكن سطوة الخلاقة أو الدول الإسلامية المتنوعة, والنجاحات المتفاوتة لتلك الدول, كان يحرم تلك الجماعات من المضي قُدما في الطريق الطويل والوعر لامتلاك حصرية النطق باسم المسلمين. ولأن تلك الجماعات وخطاباتها بقيت على هوامش الحركة العريضة للمجتمعات المسلمة ونخبها الحاكمة, فإنها لم تؤثر جوهريا في الوسط العام. ولأنها بقيت هامشية وضعيفة فإن الفكرة الأساسية حول تغلب الجوانب الايجابية على تلك السلبية لغياب السلطة الدينية المركزية بقيت هي الرائجة. في العصر الحديث, وتحديدا بعد انهيار الخلافة العثمانية التي بقيت على ضعفها تمثل السلطة الرمزية لكثير من المسلمين, تفتتت السلطة الدينية الملحقة بها والتي كانت تمنحها الشرعية من ناحية, وتضعف من ناحية أخرى أي نزعات جماعاتية هامشية تطرح نفسها كسلطة بديلة, أو كصوت حصري ناطق باسم الإسلام. ومع تفتت تلك السلطة, وهي آخر ما تبقى من سلطات شبه مركزية, انداح المجال واسعاً أمام جماعات وحركات وخطابات دينية متنوعة المنابع والإفهام, قفزت لملء الفراغ الناجم عن غياب السلطة الدينية العثمانية التي كانت أصلاً هشة وغير متحكمة بالفضاء الديني بشكل إجمالي. ترافق بروز هذه الجماعات, والتي صارت تعرف بحركات الإسلام السياسي وأولها "الإخوان المسلمون" في عشرينيات القرن الماضي, مع بروز شكل جديد للتسيس الاجتماعي والجغرافي والديموغرافي في "دار الإسلام" تمثل في "الدولة الوطنية". فهنا, وتبعا لإيقاع عالمي سريع وشامل انهارت فيه إمبراطوريات أوروبا, انهارت فكرة الخلافة, وورثتها دول أصغر حجما, غير معرفة دينياً, وترتكز على مفاهيم جديدة توافقت عليها أمم العالم, أهمها مفهومي "السيادة" و"المواطنة". وهما مفهومان تطورا بعيدا عن أي تقعيد ديني, سواء أكان مسيحياً أم مسلماً, وحددا جغرافيات شبه مقدسة, لا يجوز التدخل فيها, للشعوب التي تقاسمت الدول وفقا لأصولها اللغوية والاثنية والمكانية, وصهر أفرادها, نظرياً, وفق مفهوم المواطنة (وليس وفق المفهوم الإمبراطوري المندثر: مسيحيون وغير مسيحيين, أو مسلمين وغير مسلمين). فهنا وفي الدول الناشئة جديدا يتساوى الجميع أمام القانون والدستور. لم تكن هذه التغييرات الحادة الجذرية في بنية التكوين السياسي الإسلامي, القائم على مفهوم الخلافة, بالشيء السهل تقبله وهضمه وفي فترة زمنية وجيزة. وفي فترة الانتقال المتوتر هذه, من شكل سياسي قديم إلى آخر حديث, تفاقم أثر غياب سلطة مركزية دينية, مع غياب أي سلطة مركزية سياسية, ووفر ذلك كله ومازال يوفر أرضية خصبة لبروز كل أشكال الخطابات والجماعات التي تدعي النطق باسم الدين, وترى في نفسها حامية له. من الإخوان المسلمين في الربع الأول من القرن العشرين, إلى داعش في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين, شهدت بلدان وشعوب العالم العربي والإسلامي تاريخاً حافلا يمكن أن يُقرأ من زاوية غياب السلطة الدينية المركزية. وهو غياب يثير اليوم سؤالاً عميقاً: هل تحول ذلك الغياب الذي كان إيجابيا وضامنا للتنوع والتعددية, إلى مُسبب للفوضى الدينية والسياسية تلحق الدمار بالشعوب, أكثر من أي شيء آخر؟
1237
| 20 أكتوبر 2014
ثمة خطران يتغولان على الأرض والشعوب العربية في الوقت الراهن (أضيفا إلى تغول الخطر الإسرائيلي الجاثم في أرض فلسطين والجولان ودائم التهديد). هذان الخطران هما داعش ونفوذها التوسعي. وإيران ونفوذها التوسعي. هناك تشابه مذهل في المشروعين والخطرين: انطلاقهما من ايديولوجيا تصديرية "للثورة". والهوس بالتاريخ وإعادة إنتاجه. وعدم اعترافهما بالحدود الوطنية. ووجود جيوب وشرائح مؤيدة لها في البلدان العربية. الحرب على داعش وبحسب تقديرات "الأصدقاء الأمريكان" قد تأخذ ثلاثين سنة. والله أعلم بعدها ماذا ستكون النتيجة هزيمة أو نصر داعش! هناك غموض والغاز كثيرة مثيرة للريبة في هذه الحرب المُعلنة إعلامياً وغير القائمة على أرض الواقع بشكل حقيقي. ليس هناك أي جدية حقيقية في هذه الحرب عندما نقارنها ب "الصرامة" و"الجدية" التي أطلقت فيها الحروب الأميركية ضد العراق في حربي 1991 و2003. كل الأسئلة التي تحوم حول السؤال المركزي "ما الذي يحدث حقاً" هي شرعية ومبررة. لكن بعيدا عن الأجوبة فإن الاستجابة العربية يجب أن تنطلق مما هو قائم على أرض الواقع وعلى أساسه تقدر موقفها السياسي والاستراتيجي والمستقبلي. الواقع يقول إن الصراع الراهن وفي التجسيد الأكثر تركيزا منه هو بين داعش من جهة وإيران من جهة ثانية. ظافرية أي من الإثنين و"انتصاره" على الآخر لا يصب بالضرورة لصالح العرب. بل إن الأمر أسوأ من ذلك: أيا ما كانت نتيجة هذه الحرب. هزيمة داعش. أو هزيمة إيران. فإن العرب خاسرون. إنها معادلة مخيفة حقا وبشعة ولا بد من مواجهتها. هزيمة داعش تعني تمهيد الأرض وتسويتها لترسخ النفوذ الإيراني في سوريا والعراق. ما لم تحدث شبه معجزة ويتم إسقاط النظام في دمشق. وهذا لم يعد على رأس الأجندة الغربية والأمريكية. وهزيمة إيران وبقاء داعش مسيطرة في سوريا والعراق معناه تفاقم إخطار لا حصر لها على كل البلدان العربية المجاورة: دول الخليج. الأردن. مصر. وحتى تركيا. وهذه الأخيرة. تركيا. تقف مع العرب في نفس المربع المُختنق بنتيجة الصراع: أي أنها تخسر في الحالين كما العرب. كيف يمكن كسر هذه المعادلة اللئيمة التي وجد العرب (وتركيا) أنفسهم فيها؟من الصعب تقديم حل سحري. لكن من الممكن مقاربة طرح غير تقليدي يكسر طرائق التفكير والسياسات القائمة في العواصم العربية. خاصة الخليجية. وأنقرة. ويفتح أمامها خيارات جديدة. يقوم هذا الطرح على إقامة تحالف عربي ـ تركي فوري. قد يكون نواة نظام امن إقليمي مستقبلي. وتكون فكرته الأساسية وقف تمدد المشروعين الآخرين: الداعشي والإيراني. طبعا هناك تخوفات كثيرة وفي عواصم عربية وخليجية عديدة من الدور التركي نفسه. وبعضها محق. لكن في التحليل النهائي وفي مقارنة المخاطر هناك فرق كبير في ما تمثله المخاطر والتهديدات المفترضة القادمة من تركيا وتلك الأخطار والتهديدات الحقيقية والفعلية القادمة من داعش وإيران. فضلا عن ذلك فإن أي تقارب وتحالف يجب أن يقوم على فتح كافة الملفات وتطهير الشبهات والتخوفات. والاتفاق على مواجهة المخاطر المشتركة. وفي المقارنة بين "المخاطر التركية" وتلك الإيرانية والداعشية يصعب القول إن هناك "مشروع تركي توسعي" يشتغل على الأرض يمكن مقارنته بالمشروع الإيراني التوسعي الذي يتباهى اليوم بالسيطرة على أربع عواصم عربية. أو بالمشروع الداعشي الذي يريد أن تتوسع خلافته لتقضم وتلتهم ما تستطيع التهامه من بلدان عربية. صحيح أن تركيا الاردوغانية حليفة قوية لـ "الإخوان المسلمين" في المنطقة العربية وأنها تتضامن معهم وتدعمهم في هذه الدولة أو تلك. لكن هذا لا يرتقي إلى مستوى "المشروع" ويبقى في حدود "التدخل في الشؤون الداخلية" التي يمكن معالجتها ولجمها. لكن معالجة مسألة "الإخوان المسلمين" وتنظيماتهم في المنطقة تقع أيضاً في قلب أي تفكير خلاق غير تقليدي. وسوف تتعرض لها هذه السطور بعد حين.على مستوى الصورة الإقليمية العامة ثمة فراغ قيادي بالغ الخطورة وهو الفراغ الذي تقفز فيه القوى الإقليمية المتحفزة: إسرائيل. إيران. وتركيا. الحل الاستراتيجي بعيد المدى الذي يضبط نوازع وأطماع القوى الإقليمية هو قيام نظام امن إقليمي يرسم الخطوط الحمراء أمام كل الأطراف. وفي الوقت نفسه يطمئنها إزاء بعضها البعض. ويرتب الأولويات الأمنية لكل منها. لكن ذلك ما زال بعيدا عن التحقق في الوقت الراهن. وإلى أن يتم ذلك أو غيره من مأسسة للأمن الإقليمي ليس أمام العرب إلا مواجهة المخاطر والمصائر التي تنتظرهم. ويجب البدء بدول مجلس التعاون الخليجي. فدول الخليج ومن خلال مجلس التعاون بقيت هي المنظومة الإقليمية الوحيدة شبه المتماسكة في النظام العربي. ويجب منع تفككها. وإيلاء الحفاظ على مجلس التعاون أولوية قصوى. برغم عيوبه الكثيرة وعدم تحقيقه لآمال الكثيرين. والمعنى العملي والمباشر لذلك هو إنهاء الخلاف الداخلي مع دولة قطر وعودة سفراء الدول الثلاث إلى الدوحة أولا. ثم تعميق التنسيق السياسي والاستراتيجي والمواقفي إزاء الخطر الإيراني ثانياً. فسقوط صنعاء في دائرة النفوذ الإيراني يجب أن يقض مضاجع صناع القرار في الخليج وتدفعهم لإعادة ترتيب أولوياتهم وإرجاء خلافاتهم الداخلية الثانوية. ينبني على ذلك. ثالثاً. إنهاء الخلاف والتوتر المصري ـ القطري لأن كتلة مصر والخليج هي الآن القاعدة الأهم التي يمكن الارتكاز عليها في مواجهة أية أطماع إقليمية. وهنا تبرز مسألة "الإخوان المسلمين" وحركات الإسلام السياسي غير العنفية. فإعادة ترتيب البيت الخليجي والعربي مرتبط ب"المعركة الإقليمية" التي انخرطت فيها دول عربية عدة ضد الإخوان المسلمين وتنظيمات الإسلام السياسي وهي معركة في غير مكانها. زمانا. ومكاناً. وأطرافاً. فهي تستنزف هذه البلدان وتهلك البنية الداخلية فيها في الوقت الذي من المفترض فيه أن تعمل على تقويتها لمقاومة ومجابهة الخطر الأهم والأكبر وهو النفوذ الداعشي والإيراني. ليس المقصود هنا الدفاع عن الإخوان المسلمين وسياساتهم وتنظيماتهم. وكاتب هذه السطور يؤمن بشكل عميق بأن أي خلط للدين مع السياسة يدمر الإثنين معا. لكن المقصود هنا هو تقدير أولوية المخاطر الحقيقية الإقليمية وأين يجب صرف وتكريس الجهد الفعلي. تشكيلات الإسلام السياسي المشاركة في السياق السياسي والديمقراطي في عدد من البلدان العربية قد تشكل تهديدا على بعض الأنظمة والحكومات. لكنها لا تشكل تهديدا وجوديا على البلدان نفسها. بينما المشروع الإيراني يشكل تهديدا عارما على الدول والحكومات والشعوب. فضلا عن ذلك فإن حركات الإسلام السياسي لا تهزمها إلا الشعوب وصناديق الانتخابات التي جاءت بها. وعلى قاعدة فشلها المتراكم في تقديم نموذج ناجح في السياسة والحكم كما تدل معظم أن لم نقل كل التجارب المشهودة حتى الآن (من السودان. إلى مصر. إلى غزة. إلى أفغانستان..... إلخ). أي أن الحكم الحقيقي يأتي من الشعب نفسه وكانت كل المؤشرات والاستبيانات تشير. مثلا. إلى عدم إمكانية فوز الإخوان المسلمين في الانتخابات المصرية بعد سنة واحدة من حكم محمد مرسي. ولم يكن هناك حاجة لكل ما حدث في مصر. والتركيز على هذه النقطة هنا يأتي يأتي من كون مسألة العلاقة مع الإسلاميين وأحزابهم تشكل تحدياً كبيرا إزاء صوغ أية إستراتيجية عربية حقيقية وفعالة لوقف الخطر الإيراني والداعشي. ففي نهاية المطاف لا تقف تلك الأحزاب في معظمها. إن لم يكن كلها. في المربع الإيراني بل في الجانب الآخر. والحديث عن تحالف إيراني ـ إخواني لا علاقة له بالواقع بل هو جزء من الاتهامات والنكاية السياسية. على جانب الإسلاميين خاصة جماعة الإخوان المسلمين وحركاتها وتنظيماتها فإن هناك ضرورة ملحة وعاجلة للانخراط في مراجعات فكرية وسياسية عميقة. تقدم مصالح الأوطان على المصلحة الحزبية. وتقدم أولوية التوافق الوطني على الإنفراد بالرأي والحكم. وعلى رأس المراجعات المطلوبة مسألة البعد غير الوطني لهذه الأحزاب وعلاقاتها "ما فوق الدولتية". أي أن انتماءاتها للايديولوجيا وللجماعة الأم تتقدم على انتماءاتها لأوطانها بما يكرس مخاوف وشكوك الأطراف الوطنية بها. والحل الأمثل هنا هو إلغاء أي شكل من أشكال "التنظيم الدولي" بل وشطب وتغيير اسم "الإخوان المسلمين" لأنه صار مصدر استفزاز لقوى وطنية وحكومات. وعوضا عن ذلك إعادة تشكيل أحزاب وجمعيات وطنية بحتة تكون مرجعيتها وطنية وداخلية وليس خارجية.
1026
| 14 أكتوبر 2014
أي نظرة مجملة وتحليل متأن للفوضى والخراب السياسي والسيادي الذي يحدث في المنطقة العربية تقود إلى ذات النتيجة: المشروع الإيراني يزداد توسعا ورسوخاً، والمشروع الإسرائيلي يتعمق احتلالا واستيطاناً، وذلك كله على حساب العرب دولا، وشعوبا، وقضايا، وسيادات.اليوم تقود الولايات المتحدة حربا عريضة وقائمة على تحالف عالمي ربما كان الأوسع والأكبر منذ الحرب العالمية الثانية ضد عدو تافه اسمه داعش. وتنخرط في هذه الحرب معظم الدول العربية بعضها بحماس. وبعضها بتردد. وبعضها الآخر شبه مرغم إذ لا خيار آخر، المستفيد الأول والأكبر من هذه الحرب هو إيران، والتي يبدو وكأن العالم كله وبقيادة أوباما نفسه ينفذ لها أجندتها الإقليمية ويطهر لها مساحات النفوذ ويهيئ لها الأرض كي تتمدد بسهولة، كل انتصار على داعش تحققه أمريكا وحلفها سوف يفتح مدى جديدا للنفوذ الإيراني الذي يمتد هلاله فوق العراق وسوريا ولبنان، ويبتلعها كلها ويتوقف عند الحدود الإسرائيلية ويحترمها! داعش. واستباقاً لأي سوء فهم أو مظنة بأن هذه السطور تدافع عنه بأي شكل من الأشكال، جماعة ظلامية وإرهابية وتستحق أن تُدار ضدها كل الحروب، ما قامت وتقوم به من جرائم لم يدمر سوى العرب والمسلمين وبلدانهم، ولم يجر عليهم سوى المصائب والويلات، إنها الجماعة التي يلتقي فيها الفكر الماضوي المنغلق مع إخفاقات الحاضر واستبداداته وإفرازاته. وتسلط التفسيرات المتطرفة للنص والسياق التاريخي والسياسي معاً. داعش هي عمليا وتاريخيا إفراز تحالف الاستبداد الداخلي في البلدان العربية والإسلامية مع الاستغلال القاتل للنص الديني سواء من قبل الحكومات أو التنظيمات. وذلك كله تحت مظلة التدخلات الخارجية التي لم تتوقف في المنطقة وعمقت من تطرف جماعاتها المتطرفة ودفعت بها إلى مربعات قصوى من التعصب. معطوفاً على ذلك بهارات قادمة من الخارج هي النواتج لفشل عملية إدماج الجيل الثاني والثالث من المهاجرين المسلمين في الغرب. وليس هناك من لكن هنا بحق هذه الجماعة وتفاهاتها. اللاكن هي بحق التدخل الأمريكي والغربي الذي يفشل في التوقيت وفي التدخل ضد الطرف المناسب في الوقت المناسب، هذا التدخل بل وأقل منه بكثير كان سيحسم كل المعركة التي دارت في سوريا منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف. وكان سيوفر دماء وحياة مئات الألوف من الأبرياء. وكان سيقطع الطريق على بروز داعش وأخواتها وكل ما هو قريب منها. كانت ثورة السوريين السلمية والراقية والبطولية تتصلب في التمسك بسلميتها في حين تعاظم بطش النظام الأسدي بها لدفعها نحو الهاوية. وقفت الولايات المتحدة ودول عربية كثيرة تراقب تردي تلك الثورة. وفتك النظام بها. وتدخل إيران الفج والوقح لمناصرة النظام وقمع الثورة. واستمرت القصة المعروفة تفاصيلها إلى أن وصلت درجة بروز الجماعات المسلحة التي عسكرت الثورة وفتحت بوابات سوريا لكل من هب ودب من متطرفي العالم. المسؤول الأول عن تدهور تلك الثورة وعدم نجاحها هو الدول العربية المحيطة والغرب بمجمله. والطرفان هما المسؤولان عن نشوء داعش واستقوائها وتوسع سيطرتها. الأسئلة التي تزدحم بها عقول الملايين من عرب المنطقة لا تجد أجوبة عليها. والخشية كلها أنها ستواصل الضغط على عقول أصحابها حتى تصل إلى درجة الانفجار. وعلى رأس تلك الأسئلة: لماذا أعرض أوباما وأمريكا ومن ورائهم الغرب كله عن حرب إرهاب النظام الأسدي وإيقافه عند حده رغم كل المجازر التي قام بها. وترك الشعب السوري ضحية لآلة القتل اليومية. فيما نرى أوباما نفسه وأمريكته وغربه يتملكهم النشاط والقوة والإصرار على خوض حرب ضد داعش وفقط. ويُستثنى من الحرب إرهاب النظام الأسدي وكل الجماعات القادمة من إيران ولبنان والتي تؤيده في إجرامه ضد الشعب السوري؟ لماذا لم يتحرك العالم وعلى رأسه الولايات المتحدة عندما قصف النظام الأسدي شعبه بالأسلحة الكيماوية التي كان يزعم بأنه يدخرها لحربه الإستراتيجية مع إسرائيل. وهي الحرب التي لم تحدث ولن تحدث أبداً؟ الأجوبة الأسرع نفاذا إلى عقل كل مراقب تتمحور حول مصلحة إسرائيل وأمنها واستقرارها بكون ذلك هو المحرك الأهم في أي سياسة أمريكية وغربية في المنطقة العربية. عوض ضرب النظام الذي ارتكب جريمة حرب بحق الإنسانية بحسب كل الشرائع الدولية. استغلت الولايات المتحدة وإسرائيل خوف النظام من ردة الفعل الدولية وفرضوا عليه نزع سلاحه الكيماوي. وهو الأمر الذي خضع له النظام "الممانع" بكل سرعة واستجابة. مقابل أن يبقى في كرسي الحكم. إلى جانب إسرائيل تقف إيران اليوم في نفس الدرجة لجهة الاستفادة والحصاد الذي تجنيه من وراء السياسة الأمريكية التي تتحالف فيها العنجهية والعنصرية العميقة ضد العرب والفلسطينيين والدعم الأعمى لإسرائيل مع الغباء وقصر النظر الذي نشهده في كل حلقة من حلقات الحروب العمياء التي تشنها واشنطن في المنطقة. في كل دورة من هذه الدورات تقدم هدايا إضافية لإيران. إذا اقتربنا أكثر لنا أن نقول إن تطور الحالة الداعشية في المنطقة العربية كان وليد حرب غزو العراق سنة 2003. والتي أفرزت نواتج وعمليات سياسية وإستراتيجية لا تسير في ذات الاتجاه. فمن ناحية أولى أسقطت الحرب صدام حسين واستبداده. لكن جاءت بما هو أسوأ منه: استبداد جديد ومن نوع طائفي هذه المرة. ومن ناحية جيو إستراتيجية قدمت الولايات المتحدة التي قادت الحرب مفاجأة ذهبية وخارقة للتوقع إذ قدمت العراق كبلد وحكومة ومنطقة نفوذ هدية على طبق من فضة لإيران. من تلك اللحظة الزمنية الحالكة في التاريخ العربي الحديث والمنطقة تسير من انحدار لآخر. ومن حلقة تجزئة وتفتت إلى أخرى ـ وفوق ذلك كله من جولة توسيع لنفوذ وسيطرة إيران على الجوار الإقليمي إلى أخرى. إذا صدقت بعض التقارير الصحفية التي نسبت إلى أحد نواب العاصمة الإيرانية في خطبة عصماء قال فيها إن إيران تسيطر الآن على أربع عواصم عربية: بغداد، ودمشق، وسوريا، وصنعاء. فإن ما يحدث الآن من حرب لن ينتج إلا تكريسا للتوسع الإيراني الذي جوهره المشروع الفارسي الذي لا علاقة له بالدين ولا حتى بالشيعة والتشيع.
519
| 30 سبتمبر 2014
مساحة إعلانية
في عالم اليوم المتسارع، أصبحت المعرفة المالية ليست...
2289
| 22 سبتمبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو...
2247
| 25 سبتمبر 2025
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن...
2037
| 26 سبتمبر 2025
يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودا ويخططون لاغتيال...
1005
| 24 سبتمبر 2025
في قلب الدمار، حيث تختلط أصوات الأطفال بصفير...
888
| 23 سبتمبر 2025
صاحب السمو أمام الأمم المتحدةخطـــــاب الثبـــــات علــى الحــــــق.....
804
| 24 سبتمبر 2025
تعكس الأجندة الحافلة بالنشاط المكثف لوفد دولة قطر...
750
| 25 سبتمبر 2025
بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى،...
747
| 22 سبتمبر 2025
يُعدّ وعي المُستثمر بالقواعد والأحكام المنصوص عليها في...
729
| 21 سبتمبر 2025
• كلنا، مواطنين ومقيمين، والعالم يدرك مكانة قطر...
672
| 25 سبتمبر 2025
تواجه المجتمعات الخارجة من النزاعات المسلحة تحديات متعددة،...
537
| 26 سبتمبر 2025
يؤكد اهتمام جيل الشباب القطري بالخط العربي؛ تزايد...
501
| 21 سبتمبر 2025
مساحة إعلانية