رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
عند جذور جدران الحجارة في طول وعرض قرى وحواضر بلاد قداسة ما بين المائين هناك شهادة الكون الفائضة: تَخوْضُرُ الحجرِ واستنبات الزهر بين الشقوق يقول إن الناس هنا كانوا هنا قبل ضربة شق النهر وقبل صرخة وليد المهد. تغيّرُ لون الحجر وانحلاله مع بُنيّ الأرض وتماهيه فيه يقول إن نبع الماء سقى الشجر والحجر هنا، وظل يفور بالليمون، فيطلع فوق الأسطح وعلى الجباه. كلما اخضرت الحجارة وتلاحمت أساساتها مع البني كلما هزِئت أسقفها وأقواسها بالغزاة... وتعالت واستطالت على قرميدهم الغريب النازل على الأرض باستعلاء وفوقية. لطالما تحسر الغزاة على مشهد قرى فلسطينية بسيطة وفقيرة تطرز أفق البلاد، لكن غفوتها على ساعد سلاسل الحجر البني، تزدري مستوطنات متوحشة البناء، فولاذية الجدران وصلبة الأسطح، متوترة لا روح فيها، روح السارق في أسقف قرميد الغزاة جففت أرواح ساكنيها.
تحوم عدسة هذا الفلسطيني المبدع، أسامة السلوادي، رهيفة بلا كلل تلتقط الجمال المنثور في أرض طرية زاد جمالها كلما اصلب حجرها في وجه المحتلين.
تدور، وتدور، تقترب، وتقترب، ثم تحضن العين ما تختار بكل الدقة... والعناق.. تتجول في سماء الأرض وفوقها كأنها كيوبيد الأليف والمحبب يحمل سهامه ويقنص بها القلوب. هذه المرة ترضى عنه فينوس، إلهة الجمال، وتربت على شعره كلما قنص صورة بديعة وأودعها دفتي واحد من كتبه: "ملكات الحرير"، "كتاب القدس"، "كتاب الحصار"، "فلسطين... كيف الحال"، و... "ها نحن".. يصيبنا السلوادي بسهام عدسته فلما نتصفح ما تلتقطه وقد مستنا أقدار الصبابة والأصالة والغموض، لا ندري عندها إن صرنا نتنقل بين صفحات صور أم نشاركه هذا العناق الطويل الممتد بطول الأرض مما احتضنته الكاميرا اللعوب. تتحول عملية التصوير إلى عناق متواصل، إلى رحلة وئيدة الخطى في عوالم كنا نظن أننا نعرفها ونراها في عادي أيامنا. تجبرنا براعة عدسته على التأمل في ما كنا نراه دوما ونعبر عليه بلا انتباه. تضطرنا إلى التخلي عن السرعة التافهة التي تمتطينا عندما نمرُّ محاذين الجمال وغير آبهين به. أرتنا عدسته "ملكات الحرير"... حقولا وبساتين وصبايا وتطريزات أثواب لم نكن نراها حقا رغم أنها كلها كانت أمام عيوننا دوما. عندما تصفحنا "الملكات" اخترقتنا حاسة البصر واخترقنا بها عوالم جديدة... صرنا زرقاء يمامة في اكتشاف أقرب الأشياء إلينا.
اليوم تخترقنا حاسة السمع ونخترق بها عوالم جديدة. يجبرنا السلوادي، هذا الكيوبيد الموهوب، أن نُصخي السمع بهدوء شديد إلى "بوح الحجارة"، وعنوان كتابه الجديد عن حجر فلسطين وعمارتها، ندني برؤوسنا وآذاننا إليها لتهمس لنا بكل الأسرار: بتواريخ الميلاد، وأسماء المواليد الأُول. بلون جدران الغرف، ونوافذ شموس الآلهة التي كانت تطمئن منها عليهم. تهمس في آذاننا بهتاف "في البدء كان الحجر"... و"في الختام كان بقاء بناته وساكنيه". إن كنا تجولنا في صور "ملكات الحرير" رائين ومعانقين، ففي "بوح الحجارة" نواصل التجوال والعناق... منصتين وسامعين. تتوالى السردية الطويلة لهذه البلاد وأهلها بصرا وسمعا تجبلها الكاميرا والالتقاط المتمهل. بين دفتي هذا الكتاب المصور ثمة أكثر من مائتي لوحة بديعة تحوم حول حجارة فلسطين وعمارتها وسلاسلها القديمة وأسواقها العتيقة وجدران قراها المتكئة على كتف ماض عريق. تطوف الصور حول "الحجارة" كأنما كانت الشاهد اليقظ على بدء حراث أناس البلاد وزيتونهم. تحلق حولها وفوقها وتحتها فتستنطقها لتحكي وتستكمل الحكاية. إذن يمكن للحجارة أن تنطق في صور وأن تبوح لنا بروايتها هي لملحمة الوجود الفلسطيني واستعصائه على الإذابة والإبادة.
في البدء هناك بانوراما الصورة العريضة والكلية، الـ"زووم آوت"، تقول إن لهذا الحجر الذي شكّل وجه الأرض الطيبة وآوى ناسها مذاقا سحريا غريبا. وهو إذ يطلع من الأسفل صاعدا في جدار، أو منحيا في قوس، أو متعرجا في زقاق، أو مصلبا في شباك أو مصطبة، أو منتشرا بلا انتظام في كل مكان، فإنما ليكون امتدادا آخر للناس والأرض والتراب. يُصبحون جميعا خلطة غامضة ومعروفة معا كزعتر البراري. يصّاعد الحجر طبقة إثر أخرى في اجواز شجر التين والسنديان، منداحا على امتداد سماوات ثمان.
في اللقطات القريبة والحميمة، الـ"زووم إن"، نظل أيضاً أسرى طائعين للكيوبيد وعدسته. يقودنا أولا إلى "شبابيك"، الجزء الأول من سفره الحجري. وفيه تنفتح طاقات عتيقة في طول وعرض جدران الحجارة الطيبة. تنفتح للخارج، بثقة واطمئنان مُلّاك الزمن وأصحاب البيوت والكروم. ترحب بالمارين والغرباء: واسعة، عريضة، ولونها أخضر. تطل على بستان، أو حارة، أو فضاء منسدح، أو تلة تتمايل فيها شجرة كلمنتينا تثغو تحتها ماعز. في إحدى الصور المبدعة هناك حمامة بيضاء تطير فاردة جناحيها محاذية لشباك قديم.
وهذا زخرف عثماني ممهور باسم الدولة العلية وسلطانها. وهذه زخارف يتوسطها صليب يعانق السماء كأنما العدسة تجثو في مذبح الأرض وتلتقط ما اعتلى. نقلبُ صفحة فيحضننا باب مترع بالعتق بجانبه مفتاحان كبيران يسيل منهما عرق حماة المحاريث.
هنا "أبواب" محطة أخرى يتوقف عندها كيوبيد. أبواب تلاحق أبوابا في تصاوير وألوان كأنما لم تكن. أكل هذه الأبواب تتوسط جدران حجارتنا ونمر عليها ولا نراها؟
نترك الـ"أبواب" خلفنا لندخل إلى الـ"أقواس" فنرى كيوبيد وقد تعربش في أقصى نقاط تحدبها تاركاً سهام عدسته تلتقط زوايا التقاء الأقواس مع زرقة السماء وبياض غيومها. في عمقها البعيد نرى تلاحق بيوتات الحجر. هنا تتحول الأقواس كلها إلى أمهات من روح وحجارة لينة تحضن كل ما تحتها.
من جوانب طيات ثوبها نرى أفقا ثريا لا نهاية له.. نرى بيوتا ونوافذ وأبوابا وبرتقالا وأشواكا وخيولا وعصافير تتدفق من أسفل الأقواس.. أطياف لأمواج من الناس عطروها بالحكايا ورائحة التبغ، ودفعوها إلى أعلى بأكتافهم يوم عبروا من تحتها.
في مسيرة الحياة، تتسلل إلينا بعض الأرواح كأنها إشارات خفيّة من السماء، تحمل في حضورها سكينة تخفف عن... اقرأ المزيد
330
| 21 أكتوبر 2025
ما هذه الأخبار التي نقرأها كل يوم؟! أليس من المفترض أن يكون قرار وقف إطلاق النار ساريا منذ... اقرأ المزيد
135
| 21 أكتوبر 2025
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح توثيق كل كلمة وصورة سهلا وفي متناول اليد. وكل صواب وخطأ يمكن... اقرأ المزيد
159
| 21 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
2991
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
2937
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2856
| 16 أكتوبر 2025