رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

خالد الحروب

خالد الحروب

مساحة إعلانية

مقالات

877

خالد الحروب

صادق جلال العظم.. تكريم مُستحق

24 أغسطس 2015 , 02:25ص

يستحق صادق جلال العظم، الكاتب والمفكر السوري، أن نحتفي قبل ومع احتفاء الألمان به هذا الأسبوع في مدينة فيمار، ويُمنح بها في احتفال مهيب في قلعتها، ميدالية الشاعر الألماني الكبير "جوته"، ابن مدينة فيمار وأحد أهم مشاهيرها. ليس هذا غريبا على قلم العظم الذي اجترح الشجاعة وسار ضد التيار ولم ينجرف وراء الأدلجة الشعبوية طيلة سنوات طويلة من الكتابة والفكر.

لم يتوقف هذا العقل المفكر عن الإنتاج والسجال وخوض معارك التحديث والنقد طيلة نصف قرن، وفي اللحظات شديدة الاختبار التي يواجهها كل مثقف وكاتب، وتضغط عليه أصناف الإكراهات والمساومات العديدة، وقف العظم مع ضميره الفكري، وصرح عنه من دون مواربة. في نقده للهزيمة "النقد الذاتي للهزيمة"، نفض الكسل التحليلي التآمري الذي كان (وما زال) يلقي باللائمة على الغرب والآخرين ويعلق على مشجب الخارج كل الهزائم والتخلف الذي نرتع فيه. في نقده لسيطرة الدين على الفضاء العام وتفشي "ذهنية التحريم" كسر الخطوط الحمر وقدم نقدا من داخل منظومة العقل الديني. وفي نقده لنمط آخر من الكسل الفكري أنتجته مقولات "الاستشراق" الإدوارد سعيدية، قال إن شطب عمل الاستشراق والمستشرقين دفعة واحدة، وهو النتيجة التي لم يردها أو يدعو إليها سعيد أساسا، يعني تعزيز فكر المؤامرة، وتوفير عتاد رخيص وكسول للفكر الرجعي والظلامي كي يتمترس وراءه في نقد كل شيء له علاقة بالغرب. إنه "استشراق معكوس" بحسب عنوان مقاربته في نقد "الاستشراق" لسعيد. وعندما يتعلق الأمر بحرية الفكر والتفكير والنقد ينطلق العظم ليقف في النقطة القصوى من الحريات، وليكون ذات تاريخ واحدا من الأسماء العربية النادرة التي وقعت بياناً أدان فتوى الخميني الداعية لقتل الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي.

لم تتكلس ثقافة العظم عند القناعات اليسارية التي ظلت تشكل الدافعية الأخلاقية والإنسانوية في مقارباته، ولم يقع أسيرا لأيديولوجيا تتجمد عند مقولاتها أو حتمياتها ولا تعترف بحركة التاريخ. بل عن اليسار العربي نفسه يقول العظم إنه تفرع بعد عقود طويلة إلى ثلاث مجموعات، إحداها البقية الباقية من الأحزاب الماركسية العربية التي تفتت إلى درجة قريبة من الاختفاء، وثانية احتفظت ببرامج أحزاب ماركسية الحرب الباردة واقتربت في العقدين الأخيرين من الإسلام السياسي الجهادي، وثالثة وهي الأكثر عددا والأوسع حضورا تراجعت إلى خط الدفاع الثاني نحو إحياء المجتمعات المدنية وتبني خطابات ديمقراطية في مواجهة المد الأصولي والرجعي. وكذا يرى العظم الإسلاموية السياسية التي تتفرع بدورها إلى إسلام سياسي تستغله الدول وآخر تستغله التنظيمات، وأسهم ذلك كله في انبعاث الطائفية والتعصب.

فرح العظم بالربيع العربي واحتفى به فكريا ووجدانيا وسياسياً، حيث رأى فيه عودة السياسة إلى الناس وعودة الناس إلى السياسة بعد عقود طويلة من الجمود والاستبداد. رفض الاستقرار الظاهري الذي يتفاخر بإحلاله الاستبداد واسماه "استقرار القبور". رأى في لحظة "ميدان التحرير" عودة التاريخ إلى المنطقة، وظل متفائلا حتى اللحظة، ورغم كل السوداوية التي هبطت على الثورة الأقسى في بلاده سوريا. وعن سوريا نفسها كتب ونطق بأجرأ ما قد ينطق به مثقف في موقعه، وعبر عما كان يجول في عقول الكثيرين، لكن الخشية من الاتهام بالطائفية أسكتتهم. وعبر في محاضرة شهيرة له عما أسماه "العلوية السياسية" والتي تعني وقوع سوريا الطويل في قبضة نظام اشتغل على إعادة إنتاج البلد العريق وفق نظام اعتمد الطائفية العلوية وقوض بها الأكثرية السنية، واستأثر بالحكم، والاقتصاد، والمال، والأمن عبر فئة زبائنية أقلوية.

انتقد العظم التوجهات الغربية التي تصاعدت بعد الثورة السورية بزعم الدفاع عن الأقليات في سوريا، وقال إن سوريا وتاريخها لم يشهدا أي حروب أهلية إثنية أو طائفية تستدعي هذا النفير المزيف للدفاع عن الأقليات، وكأن الأكثرية السنية تنتظر اللحظة السانحة لتبطش بالجميع. على العكس من ذلك، قال إن الشريحة الأعرض التي واجهت ولا تزال تواجه الحد الأقصى من القتل والدم والتهجير والتدمير هي الأكثرية السنية. لأي كان أن يختلف مع العظم في تحليله وتقديمه لمفهوم "العلوية السياسية" وأن يوجه له النقد على ذلك ويناقشه، لكن تجاوز الاختلاف والنقد المقبول إلى الاتهام بالطائفية والشحن الطائفي، كما حملت بعض الردود على العظم بسبب فكرة "العلوية السياسية" يتحول إلى نكتة سمجة. يقف العظم في أرضية إنسانوية صلبة متجاوزة للإثنيات والطوائف والأديان، ومن يحشره في "الطائفة السنية السورية" يكشف ضحالة الوعي، تثير التساؤل حول مدى الفهم والإدراك العميق عند مُطلق الاتهام.

في سنوات الهزيع الأخير من القرن الماضي وبدايات القرن الحالي انخرط العظم في السجال العريض حول العولمة، وكان من المفكرين العرب القلائل الذين أثارتهم هواجسها، ومنحنياتها، وتهديمها للحدود القومية، وتسويتها الأرض لارتحال رأس المال بلا قيود، ومعه أنماط وقيم وحيوات جديدة. كان من أوائل من لاحظوا أن الجوهري في العولمة الحديثة وما يجعلها مفترقة عما سبقها من عولمات هو في ارتحال مراكز الإنتاج، وليس ارتحال رأس المال فحسب. رأس المال لم يتوقف عن التعولم منذ أن عرف البشر السفر: من طريق الحرير، إلى الممرات البحرية التي طافت حول القارة السمراء، ثم وصولا إلى العالم الجديد كانت التجارة هي المعولم (السلمي) الأساسي للعالم، إلى جانب الحرب معولمة العسكري. في العولمة الغربية التي تفاقمت بعد انهيار الحرب الباردة تعولمت مراكز الإنتاج رغم أن معظمها بقي غربي المركز والسيطرة. صارت الرساميل الغربية تنتج في آسيا وإفريقيا وغيرها، بينما مقراتها الأساسية في الغرب.

بين فيمار وبرلين تولدت اللحظة اللوثرية التقدمية في الغرب، والتي أرادت تحرير الفرد من هيمنة الكهنوت الكاثوليكي. ترافقت لحظة الصعود تلك مع لحظة ارتكاس حاد في العالم الإسلامي وفي فهم الدين. يمكن أن نقول إن اللحظتين اختطا اتجاهين متعاكسين تماماً، حيث تكرست في الفضاء الإسلامي كاثوليكية إسلاموية، هي الأب الروحي للسلفيات المعاصرة، عبر إكمال هيمنتها على الفرد. مارتن لوثر أراد أن يحرر الفرد في علاقته مع الله، في تحد كبير للمؤسسة الكنسية الدينية، في حين أن الفرد في العالم الإسلامي كان يزداد خضوعا لسيطرة المؤسسة الدينية التي كانت قد اختطفت المباشرة بين الفرد والله، وقطعت طرق التواصل المباشر معه. اللحظة اللوثرية كانت تنهي المسيحية السياسية، واللحظة المناظرة لها عندنا كانت تؤسس للإسلام السياسي اللاحق. العظم يرى في هذا الأخير كارثة على السياسة والدين، ويدعو إلى لحظة لوثرية تعلي من شأن التدين العفوي والشعبي الذي حفل بالتعايش والإبداع طيلة قرون مديدة.

مساحة إعلانية