رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

ثغرة محقرات الذنب

قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: "إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا"، فيه أن الإيمان لا يرفع عقوبة صغائر الذنوب فكيف بكبارها، يدل عليه قوله تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[1]"، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً؛ أي مكتوبا أي مثبتا في كتابهم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً؛ أي لا ينقص ثواب أحد عمل خيرا ولا يؤاخذ أحدا بجرم لم يعمله، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"[2]..في الصحيح عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،: «إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ المُوبِقَاتِ» «يَعْنِي بِذَلِكَ المُهْلِكَاتِ»[3] (أدق في أعينكم) كناية عن احتقارهم لها واستهانتهم بها. (المهلكات) الذنوب الكبيرة].قوله هذا لخير القرون، فماذا يقال فينا؟ رحماك ربنا.. يقول ابن بطال – رحمه الله - وَكَانَ الصَّحَابَة يعدون الصَّغَائِر من الموبقات لشدَّة خشيتهم لله وَإن لم تكن لَهُم كَبَائِر، ألا ترى أن إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) إذا سئل الشفاعة يوم القيامة يذكر أنه كذب ثلاث كذبات، اثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ، 1-قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ أى: سأسقم – لو خرجت معكم في باطلكم ولهوكم.. 2- وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، يعني الصنم – مع أنه هو الذي "فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ"[4]"، تنفيذا وبرا بيمينه "وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ"[5]" فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ"[6] .. 3- وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ وهي قوله في زوجته: هذه أختي.. وهي أخته في الدين[7]، فرأى ذلك (صلى الله عليه وسلم) من الذنوب، وإن كان لقوله وجه صحيح، فلم يقنع من نفسه إلا بظاهر يطابق الباطن، وهذا غاية الخوف. والمحقرات، إِذا كثرت صَارَت كَبَائِر للإصرار عَلَيْهَا والتمادي فيها"[8].يقول أبو أيوب: إن الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها ويغشى المحقرات، فيلقى الله يوم القيامة وقد أحاطت به خطيئته، وإن الرجل ليعمل السيئة، فما يزال منها مشفقًا حذرًا حتى يلقى الله يوم القيامة آمنًا[9].وقال أبو عبد الرحمن الحبلي: مثل الذي يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات، كرجل لقيه سبع فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحل إبل فاتقاه فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى، ثم أخرى حتى اجتمعن عليه فصرعنه، وكذلك الذي يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات.. قَالُ الصَّدِيقِ: إِنَّ اللهَ يَغْفَرُ الْكبائرَ فَلَا تَيْئَسُوا، وَيُعَذِّبُ عَلَى الصَّغَائِرِ فَلَا تَغْتَرُّوا "[10]... وفي الصحيح: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ تُعْبَدَ الْأَصْنَامُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ سَيَرْضَى مِنْكُمْ بِدُونِ ذَلِكَ، بَالْمَحَقَّرَاتِ وَهِيَ الْمُوبِقَاتُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَاتَّقُوا الْمَظَالِمَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَجِيءُ بِالْحَسَنَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُو يَرَى أَنْ سَتُنَجَّيهِ، فَمَا زَالَ عَبْدٌ يَقُومُ يَقُولُ: يَا رَبِّ ظَلَمَنِي عَبْدُكَ فُلَانٌ بِمَظْلِمَةٍ قَالَ: فَيَقُولُ: امْحُوا مِنْ حَسَنَاتِهِ، قَالَ: فَيَقُولُ: فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى لْا يَبْقَى مَعَهُ حَسَنَةٌ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَسَفْرٍ نَزَلُوا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، لَيْسَ مَعَهُمْ حَطَبٌ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ لِيَحْتَطِبُوا، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنِ احَتَطَبُوا وَأَنْضَجُوا مَا أَرَادُوا قَالَ: وَكَذَلِكَ الذُّنُوبُ "[11].«ولَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ حُنَيْنٍ نَزَلَ قَفْرًا مِنَ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، فَقَالَ: "اجْمَعُوا، مَنْ وَجَدَ شَيْئًا فَلْيَأْتِ بِهِ، وَمَنْ وَجَدَ عَظْمًا أَوْ سِنًّا فَلْيَأْتِ بِهِ"، قَالَ: فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَةٌ حَتَّى جَمعوا رُكَامًا بين يديه، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم)" أَتَرَوْنَ هَذَا؟ فَكَذَلِكَ تُجْمَعُ الذُّنُوبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْكُمْ كَمَا جَمَعْتُمْ هَذَا، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَجُلٌ، فَلَا يُذْنِبُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً، فَإِنَّهَا مُحْصَاةٌ عَلَيْهِ»[12].وفي الصحيحين { «إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ» فَقَالَ بِهِ هَكَذَا،.. بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ"[13] يُطَيِّرُه، فمن مداخل إبليس، وتلابيسه: تهوينه أمر الذنوب ولا سيما - صغائرها واحتقار شأن بعضها حيث يقول له: مَا عَلَيْكَ إِذَا اجْتَنَبْتَ الْكَبَائِرَ مَا غَشِيتَ مِنَ اللَّمَمِ، أَوَ مَا عَلِمْتَ بِأَنَّهَا تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَبِالْحَسَنَاتِ، وَلَا يَزَالُ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَهَا حَتَّى يُصِرَّ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ الْخَائِفُ الْوَجِلُ النَّادِمُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ أَقْبَحُ مِنْهُ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ.وفي الصحيح : "مَثَل مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى حَمَلُوا مَا أنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ وإنَّ مْحَقَّراتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخذْ بها صاحبها تهلكه"[14]، وَمعنى الحَدِيث رَاجع إِلَى قَوْله عز وَجل: {وتحسبونه هينا وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم}[15]، وفي الحديث "لا تَنْظُرُوا إِلَى صِغَرِ الذُّنُوبِ وَلَكِنِ انْظُرُوا عَلَى مَنِ اجْتَرَأْتُمْ"[16].وفي رواية "... وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ تَعْصِي"، وفي اعتصام الشاطبي – رحمه الله - إِنَّ الَّذِي قَطَعَ الْعِبَادَ عَنْ رَبِّهِمْ، وَقَطَعَهُمْ عَنْ أَنْ يَذُوقُوا حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، وَأَنْ يَبْلُغُوا حَقَائِقَ الصِّدْقِ، وَحَجَبَ قُلُوبَهُمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْآخِرَةِ، تَهَاوُنُهُمْ بِأَحْكَامِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَبُطُونِهِمْ وَفُرُوجِهِمْ.. وَلَوْ وَقَفُوا عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَحْكَمُوهَا لَأُدْخِلَ عَلَيْهِمُ الْبِرُّ إِدْخَالًا تَعْجَزُ أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما ورثهم اللَّهُ مِنْ حُسْنِ مَعُونَتِهِ، وَفَوَائِدِ كَرَامَتِهِ، وَلَكِنَّ أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب، وتهاونوا بِالْقَلِيلِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ، فَحُرِمُوا لذة ثواب الصَّادِقِينَ فِي الْعَاجِلِ)[17] ولهذا أحسن القائل:خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا ... وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَىوَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ ... ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَىلَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً ... إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى

2942

| 25 ديسمبر 2014

حب الأوطان مركوز فى طبائع النفوس

ذكر الله تعالى الدّيار فأخبر عن موقعها من قلوب عباده، فقال (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) فسوّى بين موقع قتل أنفسهم وخروج أرواحهم من أبدانهم وبين الخروج من ديارهم. وقال (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) فسوّى بين موقع الخروج من ديارهم وبين موقع هلاك أبنائهم.ومن حبِّ الناس للوطن، وقناعتهم بالعطن، أنّ إبراهيم لمّا أتى بهاجر أُمِّ إسماعيل مكّة فأسكنها، وليس بمكّة أنيسٌ ولا ماء، ظمئ إسماعيل فدعا إبراهيم ربَّه فقال (ربِّ إنِّي أسْكنْتُ منْ ذُرِّيَّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عنْد بيْتِكَ المُحرَّم) أجاب الله دعاءه إذ رضى به وطناً، وبعث جبريل عليه السلام فركض موضع زمزم برجله، فنبع منه زمزم.ومرّ بإسماعيل وأمِّه فرقةٌ من جُرهم، فقالوا: أتأْذنون لنا أن ننزل معكم؟ فقالت هاجر: نعمْ ولا حقَّ لكم في الماء. فصار إسماعيل وولده قُطَّان مكة، لدعوة إبراهيم عليهما السلام. نعم، وهي مع جدوبتها خير بقاع الأرض، إذ صارت حرماً، ولإسماعيل وولده مسكناً، وللأنبياء منسكاً ومجمعاً على غابر الدَّهر.ومن أصدق الشواهد في حبِّ الوطن أن يوسف عليه السلام، لمّا أدركته الوفاة أوصى أن تُحمل جثته إلى موضع مقابر أبيه وجدِّه يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام. ومنع أهل مصر أولياء يوسف من حمله، فلمَّا بعث الله موسى عليه السلام وأهلك على يديه فرعون وغيره من الأمم، أمره أن يحمل رمَّته إلى تربة يعقوب بالشَّام، وقبره علمٌ بأرض بيت المقدس بقرية تسمَّى حسامي. وكذلك يعقوب، مات بمصر فحُملت رمّته إلى إيلياء، قرية بيت المقدس، وهناك قبر إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. وممَّن تمسَّك من بني إسرائيل عليه السلام بحبِّ الأوطان خاصَّةً، ولد هارون، وآل داود؛ لم يمت منهم ميِّت في أيِّ البُلدان مات، إلاَّ نبشوا قبره بعد حول، وحملت رمَّته إلى موضع يدعى الحصاصة بالشَّام فيودعُ هناك حولاً، فإذا حال الحول نُقلت إلى بيت المقدس.والإسكندر الرُّومي رغم جولانه في البلدان لما أشفى أوصى إلى حكمائه ووزرائه أن تحمل رمَّته في تابوتٍ من ذهبٍ إلى بلده؛ حبّاً للوطن.وفى الصحيح أن وَرَقَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتُكَذّبَنّهْ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، ثُمّ قَالَ وَلَتُؤْذَيَنّهْ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا، ثُمّ قَالَ وَلَتُخْرَجَنّهْ فَقَالَ: "أَوَ مُخْرَجِيّ هُمْ؟ " فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبّ الْوَطَنِ وَشِدّةِ مُفَارَقَتِهِ عَلَى النّفْسِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ حَرَمُ اللهِ وَجِوَارُ بَيْتِهِ وَبَلْدَةُ أَبِيهِ إسْمَاعِيلَ فَلِذَلِكَ تَحَرّكَتْ نَفْسُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْخُرُوجِ مِنْهُ مَا لَمْ تَتَحَرّكْ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ "أَوَمُخْرَجِيّ هُمْ؟".ولما جُبِلَتْ عَلَيْهِ النّفُوسُ مِنْ حُبّ الْوَطَنِ وَالْحَنِينِ إلَيْهِ جَاءَ فِي حَدِيثِ أُصَيْلٍ الْغِفَارِيّ — الْهُدَلِيّ — أَنّهُ لما قَدِمَ المدينة مِنْ مَكّةَ، فَسَأَلْته عَائِشَةُ كَيْفَ تَرَكْت مَكّةَ يَا أُصَيْلُ؟ فَقَالَ تَرَكْتهَا حِينَ ابْيَضّتْ أَبَاطِحُهَا، وَأَحْجَن ثُمَامُهَا، وَأَغْدَقَ إذْخِرَهَا، وَأَمْشَرَ سَلَمُهَا، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ — صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ — وَقَالَ " لَا تُشَوّفْنَا يَا أُصَيْلُ "، وَيُرْوَى أَنّهُ قَالَ لَهُ "دَعْ الْقُلُوبَ تَقَرْ".وقال إبراهيم بن أدهم: ما عالجت شيئاً أشدّ من منازعة النفس للوطن. وقال عبد الملك بن قريب الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحببه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانهوسمع أبو دلف رجلا ينشد:ألقى بكلّ بلاد إن حللت بها... ناسا بناس وإخوانا بإخوانفقال: هذا ألأم بيت قالته العرب، لقلة حنينه إلى ألّافه. فقد قيل: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى أوطانها مشتاقة وإلى مولدها تواقة، وَفِطْرَةُ الرَّجُلِ مَعْجُونَةٌ بِحُبِّ الْوَطَنِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِبِلَ تَحِنُّ إِلَى أَوْطَانِهَا، وَالطَّيْرُ إِلَى أَوْكَارِهَا. وكلما كان المرء أطيب عنصراً وأنفس جوهراً كان أشد حنيناً إلى وطنه، ونزاعاً إلى تربته.وقيل لأعرابي: كيف تصبرون على جفاء البادية وضيق العيش؟ فقال: لولا أن الله تعالى أقنع بعض العباد بشر البلاد ما وسع خير البلاد جميع العباد، هكذا حبها وإن قست وضاق العيش بها..إذا ما أصبنا كل يومٍ مذيقةً... وخمس تميراتٍ صغارٍ كوانزفنحن ملوك الناس خصباً ونعمة... ونحن أسود الناس عند الهزاهزوكم متمنٍّ عيشنا لا يناله... ولو ناله أضحى به حقّ فائزوقيل لبعض الأعراب: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان. قيل: فما الذّلّة؟ قال: التنقُّل في البلدان، والتنحِّي عن الأوطان.وقالت امرأة لزوجها: والله ما يقيم الفأر في دارك إلا حبّ الوطن.قالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك، إذ كان غذاؤك منهما وغذاؤهما منه.قالت الفرس: تربة الصبا تغرس في القلب حرمة كما تغرس الولادة في القلب رقة.العرب تقول: حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك.فحب الوطن مَعْلُوم عِنْد الملأ، ومتعارف عليه بَين الفضلاء وَله يَقُول ابْن الرُّومِي شعرًا...وَمَا الشوق للأوطان من أجل طيبها... وَلَا شرف فِيهَا وَفضل مقَاموَلكنه فِي النَّفس طبع لأَجله... يُجَادِل فِي تفضيلها ويحاميوَمن ثمَّ يهوى الطِّفْل فِي النَّفس أمه... ويأبى سواهَا وَهِي ذَات وشاموَمن غربَة يبكي الْجَنِين إِذا بدا... وَقد كَانَ فِي ضيق وفرط ظلامومن قديم الدَّهر لا تؤثر الملوك على أوطانها شيئاً. مهما ارتحلوا ولم يفتقدوا في اغترابهم نعمة، ولا غادروا في أسفارهم شهوة، حنُّوا إلى أوطانهم، ولم يؤثروا على تُربهم ومساقط رؤوسهم شيئاً من الأقاليم المستفادة بالغزو والمدن المغتصبة من ملوك الأمم. كما قيل:نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى... ما الحب إلا للحبيب الأولكم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى... وحنينه أبداً لأول منزل..

4238

| 18 ديسمبر 2014

خوف العاقبة

في الكشاف: «أصل الدين خوف العاقبة، فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن» من حداء وحمد أهل الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) يقال ذلك الحزن حزن خوف العاقبة.. ويقال هو دوام المراعاة خشية أن يحصل سوء الأدب. ويقال هو سياسة النفس (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).. ويقول الأبرار (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا)..(أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ). قيل قديما: ابن آدم مبتلى في أربعة أشياء ضعف البشرية وتكليف العبودية وإخفاء السابقة وإبهام العاقبة. وإنما يبعث على خوف العاقبة رؤية التَّقْصِيرِ فِي الْأَعْمَالِ. وخَفَاء السَّابِقَةِ، حيث يَظْهَرُ فِي الْخَاتِمَةِ مَا سَبَقَ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْفَاتِحَةِ.. وقيل: لما ظهر على إبليس ما أظهر من المخالفة والطرد بعد القرب والعبادة، طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان فأوحى الله إليهما: ما لكما تبكيان هذا البكاء وإني لا أظلم أحداً. قالا: يا رب لا نأمن مكرك. أي: ما نأمن أن تقضي علينا بالبعد بعد القرب، وبالشقاوة بعد السعادة. فقال الله تعالى: هكذا كونا لا تأمنا مكري. وخرج عمر الفاروق إلى صلاة الجمعة فلقيه إبليس في صورة شيخ عابد فقال له: إلى أين يا عمر؟ فقال له: إلى الصلاة، فقال: قضينا الصلاة وفاتتك الجماعة والجمعة. فعرفه فمسكه بتلابيبه وخنقه وقال له: ويلك ألم تك رأس العابدين وقدوة الزاهدين، فأُمرت بسجدة واحدة فأبيتَ واستكبرتَ وكنتَ من الكافرين، وطُردت وأبعِدت إلى يوم القيامة، فقال: تأدب يا عمر، هل كانت الطاعة بيدي أم الشقاوة بمشيئتي، إني كنت أبسط سجادة عبادتي تحت قوائم العرش، ولم أترك في السماوات بقعة إلا فيها سجدة وركعة ومع هذا القرب قيل لي: أخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين.. فإن كنت يا عمر أمنت مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.. فقال له عمر: اذهب فلا طاقة لي بكلامك. وخرج سفيان الثوري إلى مكة حاجاً فكان يبكي من أول الليل إلى آخره في المحمل فقال له شيبان الراعي: يا سفيان، ما بكاؤك إن كان لأجل المعصية فلا تعصه. فقال: يا شيبان ليس بكائي، من أجل المعصية ولكن خوف العاقبة، لأني رأيت شيخاً كبيراً كتبنا عنه العلم، والعياذ بالله — وكان تُلْتمس بركته ويُستقى به الغيث، فلما مات تحول وجهه عن القبلة ومات على الشرك كافراً، فما أخاف إلا من سوء الخاتمة.. فقال له: إن ذلك من شؤم المعصية والإصرار على الذنوب، فلا تعص ربك طرفة عين.. قوله تعالى التقوى (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى). لقد علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة فلا تبرئوها من الآثام ولا تمدحوها بحسن الأعمال. فهو أعلم بكم أيها المؤمنون علم حالكم من أول خلقكم إلى آخر يومكم فلا تزكوا أنفسكم رياء وخيلاء، ولا تقولوا لمن لم تعرفوا حقيقته أنا خير منك أو أنا أزكى منك أو أتقى منك، فإن العلم عند الله فلا تنسبوا أنفسكم إلى الزكاة والطهارة من المعاصي ولا تثنوا عليها واهضموها، فقد علم الله الزكي منكم والتقي أولا وآخرا قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم، وفيه إشارة إلى وجوب خوف العاقبة فإن الله يعلم عاقبة من هو على ومع إنكاره تعالى على من يُزكى نفسه بين يديه عزَّ وجلَّ (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلا).. قال تعالى في وصف عباد خُلَّص له (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون . والذين هم بآيات ربهم يؤمنون . والذين هم بربهم لا يشركون . والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون . أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) سبق أن أشرنا إلى باعث الوجل في مسألة القبول، والإشفاق كمال الخشية من الله عـزَّ وجلَّ والخشية درجة أعلى من الخوف إذ لا تتأتي إلاَّ مع العلم ولذلك وصف الله تعالي العلماء بها فقال (إنما يخشى الله من عباده العلماء) أمَّا الشفقة فهي كمال الخشية من الله تعالي مع رقة وضعف.. وقد ذكر الله تعالى عن أهل الجنة تذكرهم ما كانوا عليه في الدنيا في سورة الطور (إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين . فمنَّ الله علينا ووقانا عذاب السموم . إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم) ولذا كانت الصديقة، عندما تقرأ هذه الآية تقول: اللهم مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم اللهم آمين. وَوَصْف الله تعالى للقلوب بالوجل على القبول بعد الأعمال الصالحة وختام الآية بـــ (أنهم إلى ربهم راجعون) يؤذن بخوفهم العاقبة إذ الأعمال بالخواتيم كما في صحيح البخاري، قال منصور بن عمار — رحمه الله: إذا دنا موت العبد قسم حاله على خمسة أقسام: المال للوارث، والروح لملك الموت، واللحم للدود، والعظم للتراب، والحسنات للخصوم. وربما — والعياذ بالله — لم تف الحسنات بحقوق الخصوم، فاقتصوا بإضافة مساوئهم إليه!! فماذا يبقي؟!!اللهم عافنا.

1952

| 11 ديسمبر 2014

نماذج في الدوام على الصالحات

إضافة إلى وصية الله عز وجل لخير خلقه بعبادته حتى يأتيه اليقين — الموت — كانت وصيته لسائر الأنبياء صلوات ربنا وسلامه عليهم: ومنهم عيسى عليه السلام { وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً) وأيقن عيسى عليه السلام ديمومة متابعته لقومه بدوام بقائه بين أظهرهم " وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"، ولما كانت النفس البشرية تميل إلى حب استمرار ودوام الخير، وكان فى عرف الناس دوام واستقرار واستمرار ارتفاع السماء وانبساط الأرض، كان ذلك مدخلا لحث الناس على عمل البر والتأهيل لنيل رضوان الله فى جنته، وبالمقابل فى تنفير الناس من المعاصي ونفور الناس من استمرار ودوام البؤس والشقاء أشعر العصاة — ولا سيما المردة الأشقياء — بدوام العذاب بدوام السماء والأرض " فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ"ولكن نعيم الجنة دائم لا نفاذ ولا زوال له، ولذا لما قَالَ لَبِيدٌ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ، قَالَ عُثْمَانُ: صَدَقْتَ. قَالَ (لَبِيدٌ) وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ قَالَ عُثْمَانُ: كَذَبْتَ، نَعِيمُ الْجَنَّةِ لَا يَزُولُ." وتصديق ذلك " مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا"وفى مشروعية استدامة أعمال البر وشعب الإيمان وأركان الإسلام قال تعالى: (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) الدين: الطاعة والإخلاص. و" واصِباً" معناه دائما، قال الْفَرَّاءُ، حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَصَبَ الشَّيْءُ يَصِبُ وُصُوبًا، أَيْ دَامَ. وَوَصَبَ الرَّجُلُ عَلَى الْأَمْرِ إِذَا وَاظَبَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: طَاعَةُ اللَّهِ وَاجِبَةٌ أَبَدًا. وَمِمَّنْ قَالَ وَاصِبًا دَائِمًا: الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ " أي دائم. وأوصب القومُ على الشئ، إذا ثابروا عليه.وقد استقر فى أفهام الأمة — ولا سيما فقهاؤها وعلماؤها — أن من أوجه التشريع: السنة وهي ما داوم وواظب عليه صفوة الخلق ؛وهي فوق الأدب جاء فى بدائع الشرائع: وَالْفَرْقُ بَيْنَ السُّنَّةِ، وَالْأَدَبِ أَنَّ السُّنَّةَ مَا، وَاظَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ — صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ — وَلَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي،، وَالْأَدَبُ مَا فَعَلَهُ مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ. وفى السيرة والدعوة الفردية أو الجمعية ؛ والمداومة عليها حتى بلوغ أهدافها وغايتها: وَاَللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ"ومن روائع سلفنا الصالح في المداومة على الصالحات بمختلف أنواعها: ؛ أن عائشة رضي الله عنها كانت تصلي ثماني ركعات من الضحى ثم تقول: لو نشر لي أبواي ما تركتها، وبلال رضي الله عنه كان يحافظ على ركعتي الوضوء، وسعيد بن المسيب رحمه الله ما فاتته تكبيرة الإحرام خمسين سنة.عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ، لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ" أخرجه البخاري في: 19 كتاب التهجد: باب صلاة الضحى في الحضرعَنْ نَافِعٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ، وَقَالَ: «مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ»قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «أَدِيمُوا النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ" وأصل مشروعية إدامة النظر فى المصحف التوجيه النبوي «تَعَاهَدُوا القُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا» (تعاهدوا القرآن) واظبوا عليه بالتلاوة والحفظ، وفى المداومة على مكارم الأخلاق، ودوام المباعدة لمساوئها، والحذر من معاودة مثالبها فى صحيح مسلم «إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ فُجُورٌ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا" وبشرى استمرار تقديم العبد العون المستطاع لخلق الله استدرار معية وعون الله "والله فِي عون العَبْد مَا دَامَ العَبْد فِي عون أَخِيه الْمُسلم"، كَانَ الصِّدِّيقُ يَحْلِبُ لِلْحَيِّ أَغْنَامَهُمْ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ، قَالَتْ جَارِيَةٌ مِنْهُمْ: الْآنَ لَا يَحْلِبُهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يُغَيِّرَنِي مَا دَخَلْتُ فِيهِ عَنْ شَيْءٍ كُنْتُ أَفْعَلُهُ، أَوْ كَمَا قَالَ. وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُومُونَ بِالْحِلَابِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَحْلِبُ النِّسَاءُ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ ذَلِكَ، فَكَانَ الرِّجَالُ إِذَا غَابُوا، احْتَاجَ النِّسَاءُ إِلَى مَنْ يَحْلِبُ لَهُنَّ. وَقَدْ رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمٍ: لَا تَسْقُونِي حَلْبَ امْرَأَةٍ».وَكَانَ عُمَرُ يَتَعَاهَدُ الْأَرَامِلَ يَسْتَقِي لَهُنَّ الْمَاءَ بِاللَّيْلِ، وَرَآهُ طَلْحَةُ بِاللَّيْلِ يَدْخُلُ بَيْتَ امْرَأَةٍ، فَدَخَلَ إِلَيْهَا طَلْحَةُ نَهَارًا، فَإِذَا هِيَ عَجُوزٌ عَمْيَاءُ مُقْعَدَةٌ، فَسَأَلَهَا: مَا يَصْنَعُ هَذَا الرَّجُلُ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: هَذَا مُذْ كَذَا وَكَذَا يَتَعَاهَدْنِي يَأْتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي، وَيُخْرِجُ عَنِّي الْأَذَى، فَقَالَ طَلْحَةُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ طَلْحَةُ، عَثَرَاتِ عُمَرَ تَتْبَعُ؟وهذان الزوجان المباركان عَلِيٌّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وفَاطِمَةٌ — رضي الله عنهما — سألا النبي صلوات الله وسلامه عليه خَادِمًا، فَقَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ؟ تُسَبِّحِينَ اللَّهَ عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَتَحْمَدِينَ اللَّهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَتُكَبِّرِينَ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ» ثُمَّ قَالَ سُفْيَانُ: إِحْدَاهُنَّ أَرْبَعٌ وَثَلاَثُونَ، فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ، قِيلَ: وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ"ومن مناقب الإمام أحمد رحمه الله، أن عاصم بن عصام البيهقي، يقول: بت ليلة عند أحمد بن حنبل، فجاء بماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء بحاله، فقال: سبحان الله! رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل. وفى سير أعلام النبلاء الكثير والكثير من هذه النماذج

1151

| 04 ديسمبر 2014

قليل دائم خير من كثير منقطع

المداومة على العمل الصالح،دون انقطاع حتى الموت، هي وصية الله — عز وجل — لرسوله محمد — صلى الله عليه وسلم —.: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } هذه الآية الكريمة جاءت في آخر سورة الحجر، خاتمة لمجموعة وصايا، أوصى بها الله تعالى نبيه — عليه الصلاة والسلام — واليقين هو الموت كما صح بذلك الحديث عن النبي — صلى الله عليه وسلم[1] ولهذه الوصية، "كان عمله — صلوات الله وسلامه عليه — ديمة "[2]. كما قالت عائشة — رضي الله عنها — والديمة في كلام العرب تطلق على المطر إذا استمر نزوله فترة طويلة[3]أسبوع، أو عدة أيام، أو حتى عدة ساعات متصلة، ولا شك أن الديم من المطر أنفع للعباد، وللشجر، وللأرض وللمياه الجوفية، وأن نفعه أكثر من المطر الذي ينهمر بغزارة لدقائق، ثم ينقطع، وفى بيان أهمية دوام العمل الصالح القليل عن الكثير المنقطع قال صاحب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى " مَثَلُ العمل الكثير الشاقّ المنقطع مثل المطر الغزير الذي ينزل بكثرة كأفواه القِرَب في يوم واحد، بحيث يهدم البيوت، ويُفسد الزروع، ويَقطع السُّبُل، ويموت كثير من الناس، والبهائم بسيوله، ثم ينقطع في اليوم الثاني، فإنه مضرّة، لا تنتفع منه البلاد، ولا يستفيد منه العباد. ومثل العمل القليل الدائم، كمثل المطر القليل الذي ينزل كل وقت بحسب الحاجة، فيُنبت الزرع، ويُدرّ الضرع، ويملأ الأودية بمياهه، فينتفع به الناس، والبهائم، فإنه نفع محض؛ لنفعه البلاد، وإغاثته العباد[4].وقال الْحَسَنَ البصري — رحمه الله —: «يَا قَوْمُ الْمُدَاوَمَةَ، الْمُدَاوَمَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ»[5] فلم يجعل الله في الآية الكريمة {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } حداً زمانياً، أو مكانياً، أو كمية من العمل، إذا وصل إليها العبد توقف عن العبادة وإنما جعل ذلك حتى الموت. وَقَالَ البصري أيضًا: «إِذَا نَظَرَ إِلَيْكَ الشَّيْطَانُ فَرَآكَ مُدَاوِمًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَبَغَاكَ وَبَغَاكَ، فَرَآكَ مُدَاوِمًا مَلَّكَ وَرَفَضَكَ، وَإِذَا كُنْتَ مَرَّةً هَكَذَا وَمَرَّةً هَكَذَا طَمِعَ فِيكَ»[6]نقل ابن حجر عن النَّوَوِيِّ — رحمهما الله — قوله " بِدَوَامِ الْقَلِيلِ تَسْتَمِرُّ الطَّاعَةُ بِالذِّكْرِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ الشَّاقِّ حَتَّى يَنْمُوَ الْقَلِيلُ الدَّائِمُ بِحَيْثُ يَزِيدُ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُنْقَطِعِ أضعافا كَثِيرَة، وَقَالَ ابن الْجَوْزِيِّ:إِنَّمَا أَحَبَّ — الله تعالى — الدَّائِمَ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّارِكَ لِلْعَمَلِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ كَالْمُعْرِضِ بَعْدَ الْوَصْلِ فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلذَّمِّ وَلِهَذَا وَرَدَ الْوَعِيدُ فِي حَقِّ مَنْ حَفِظَ آيَةً ثُمَّ نَسِيَهَا وَأَن كَانَ قبل حفظهَا لا يتعين عَلَيْهِ ثَانِيهُمَا أَنَّ مُدَاوِمَ الْخَيْرِ مُلَازِمٌ لِلْخِدْمَةِ وَلَيْسَ مَنْ لَازَمَ الْبَابَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَقْتًا مَا كَمَنْ لَازَمَ يَوْمًا كَامِلًا ثُمَّ انْقَطَعَ[7] وعلَّق ابن حجر على حديث كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قائلا: فيه أَنَّ مُدَاوَمَةَ التِّلَاوَةِ تُوجِبُ زِيَادَةَ الْخَيْرِ[8]، وجاء فى معنى حُداء الحجيج بــ" لبيْك " فى لسان العرب يُقَال: ألب فلَان على الْأَمر: إِذا لزمَه ودام عَلَيْهِ فَمَعْنَاه: مداومة على إجابتك، ومحافظة على حَقك فَإِذا قَالَ العَبْد لرَبه: لبيْك فَمَعْنَاه: مُلَازمَة لطاعتك، ومحافظة على أَمرك"[9]حديثنا عن النوافل — التي لا تشغل عن الفرائض — ولا يعني هذا أن النوافل أفضل، فالنوافل هي الزيادة على ما يجب، ولا يتم تصوُّر الزيادة على شيء هو غير حاصل في ذاته؛ ولهذا قيل: لا يستطع الوصول من ضيع الأصول فمن شغله الفرض عن الفضل فمعذور، ومن شغله الفضل عن الفرض فمغرور قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"[10]ففعل الخير هو الزيادة على العبادة [11]. والْمُرَادَ مِنَ المداومة والتَّقَرُّبِ بِالنَّوَافِلِ أَنْ تَقَعَ مِمَّنْ أَدَّى الْفَرَائِضَ لَا مَنْ أَخَلَّ بِهَا، فالنَّافِلَةُ لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْفَرِيضَةِ لِأَنَّ النَّافِلَةَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ نَافِلَةً لِأَنَّهَا تَأْتِي زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ فَمَا لَمْ تُؤَدَّ الْفَرِيضَةُ لَا تَحْصُلُ النَّافِلَةُ وَمَنْ أَدَّى الْفَرْضَ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ النَّفْلَ وَأَدَامَ ذَلِكَ تَحَقَّقَتْ مِنْهُ إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ، وَأَيْضًا قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ التَّقَرُّبَ يَكُونُ غَالِبًا بِغَيْرِ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَقَرِّبِ كَالْهَدِيَّةِ وَالتُّحْفَةِ بِخِلَافِ مَنْ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ. ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ كما قال الصديق[12] فالمداومة مطلوبة في الفرائض أولاً ويشهد لهذا الحديث القدسي الصحيح " مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّه..، "[13] ولعلك تلاحظ هذا الترتيب الفرائض قبل النوافل. والكمال البشري إنما يدركه أناس يتسمون بعدة صفات وسلوكيات فى مقدمتها أنَّ "..هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ"[14] وعلى رأس هرمها أنَّ "..هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ"[15] ولا دوام بلا محافظة، ولا محافظة بلا دوام والنتيجة النهائية " أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ"[16] وفيما بين هذين الوصفين جاءت أوصاف أخرى بجمل اسمية تُفيد الثبات والدوام"وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ *لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ *وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ*وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ[17]

11120

| 27 نوفمبر 2014

أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ

الفرائض مفروغ منها ولذا حديثنا عن النوافل من قيام ليل وتلاوة وتسبيح وتهليل وذكر واستغفار وصلوات الرسول — ألا إنها قربة لهم —، وغيرها في النصوص الآتية دليل على محبة الله للدوام علي هذه العبادات في مواسم الطاعات وفيما بينها قال تعالى: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً *وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً"[1]:" تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"[2]،:"أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ "[3]:" إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ"[4]:" وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ"[5].:" وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ"[6]، وفي هاتين الآتين الأخيرتين جاء الحديث عن صورة من صور قيام الليل ولا سيما الثلث الأخير وذلك بالاستغفار، وجاء التعبير مرة بالجملة الاسمية المفيدة للثبات والدوام، كما في آية آل عمران الأولى، ومرة بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد والحدوث كما في آية الذاريات الثانية، والشاهد أن الحديث عن هذه الطاعات جاء عاريا من قيد الزمان بموسم من مواسم الطاعات، بل جاء بأسلوب المضارع المفيد للتجدد والحدوث (يَبِيتُونَ، تَتَجَافَى يَدْعُونَ يُنفِقُونَ يَحْذَرُ، يَرْجُو، يَتْلُونَ، يَرْجُونَ) " مما يدل على الاستمرار والدوام،وعن قيام الليل والتهجد فيه وحض الأهل على القيام، في الصحيح عَن عَلّي رَضِيَ الله عَنْه، أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم طرقه وَفَاطِمَة لَيْلَة، فَقَالَ: " أَلا تصليان "[7]. طرقه: أَتَاهُ لَيْلًا، قال ابن بطال: فيه فضيلة صلاة الليل وإيقاظ النائمين من الأهل والقرابة لذلك. والاجتهاد والصبر على ذلك، قال علي — رضي الله عنه — " دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ وفاطمة من الليل فأيقظنا للصلاة، ثم رجع إلى بيته فصلى هُوياً من الليل فلم يسمع لنا حِسَّاً، فرجع إلينا فأيقظنا " قال الطبري: لولا ما علم النبي صلى الله عليه وسلم من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان يُزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلقه سكناً، لكنه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة على الدعة والسكون امتثالا لـ (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا[8]) الاصطبار على الأهل كما على النفس "..فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ "[9] وفي الصحيح " مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ — صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ — يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً،.."[10]. وفي الصحيح "أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى الله أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ". واقتدت به عَائِشَةُ — رضي الله عنها كما في الصحيح فكَانَتْ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ وجاء التوجيه النبوي بالحرص على ذلك ولو قليلا دفعا للملل والانقطاع في الصحيح "يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ[11]، فَإِنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى الله مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ[12]". فخير العمل ما دام وإن قل. لأنَّه إذا حمَّل المرء نفسه ما لا يُطيق تَرَكَه أو بعضه بعد ذَلِكَ، وصار في صورة ناقض العهد، والراجع عن عادة جميلة، واللائق بطالب الآخرة الترقي وإلا فالبقاء عَلَى حاله؛ ولأنه إِذَا اعتاد من الطاعة بما يمكنه الدوام عليه دخل فيها بانشراح واستلذاذ لها ونشاط، ولا يلحقه ملل ولا سآمة.وقد ذم الله تعالى من اعتاد عبادة ثمَّ فرط فيها بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}[13] ولم يكن هذا لعائشة فحسب بل كَانَ آلُ مُحَمَّدٍ — عموما — صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ — إِذَا عَمِلُوا عَمَلاً أَثْبَتُوه"[14].. والحكمة في ذلك أيضا: أن المديم للعمل يلازم الخدمة فيكثر التردد إلى باب الطاعة كل وقت ليجازي بالبر لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلا ثم انقطع. وأيضا فالعامل إذا ترك العمل صار كالمعرض بعد الوصل فيتعرض للذم والجفاء، ومن ثم ورد الوعيد في حق من حفظ القرآن ثم نسيه. والمراد بالعمل هنا النوافل من قيام وصيام وغيرهما من العبادات. وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ إِسْتَبْرَقٍ فَكَأَنِّي لَا أُرِيدُ مَكَانًا مِنْ الْجَنَّةِ إِلَّا طَارَتْ إِلَيْهِ وَرَأَيْتُ كَأَنَّ اثْنَيْنِ أَتَيَانِي أَرَادَا أَنْ يَذْهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَتَلَقَّاهُمَا مَلَكٌ فَقَالَ لَمْ تُرَعْ خَلِّيَا عَنْهُ فَقَصَّتْ حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى رُؤْيَايَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُاللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَكَانَ عَبْدُاللهِ رَضِيَ الله عَنْهُ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ" [15] وهذا فيه أسلوب حث وتشجيع وبث الحماسة للنهوض إلى الأعمال الصالحة بأسلوب المدح مع أنها نافلة في الصحيح قَالَ سَالم عن أبيه: فَكَانَ عبدالله بعد ذَلِك لَا ينَام من اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا."[16]وهاهم الصحابة — رضي الله عنهم — في الصحيح قال صلوات الله وسلامه عليه «يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ، عِنْدَكَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْفَعَةً، فَإِنِّي سَمِعْتُ اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ» قَالَ بِلَالٌ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا فِي الْإِسْلَامِ أَرْجَى عِنْدِي مَنْفَعَةً، مِنْ أَنِّي لَا أَتَطَهَّرُ طُهُورًا تَامّا، فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ، مَا كَتَبَ اللهُ لِي أَنْ أُصَلِّيَ"[17]وهذان الزوجان المباركان عَلِيٌّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وفَاطِمَة — رضي الله عنهما — سألا النبي صلوات الله وسلامه عليه خَادِما، فَقَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ؟ تُسَبِّحِينَ اللَه عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَتَحْمَدِينَ اللَهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَتُكَبِّرِينَ اللَهَ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ» ثُمَّ قَالَ سُفْيَانُ: إِحْدَاهُنَّ أَرْبَعٌ وَثَلاَثُونَ، فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ، قِيلَ: وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ"[18]والبشارة لمن داوم على عمل صالح، ثم انقطع عنه بسبب مرض أو سفر أو نوم كتب له أجر ذلك العمل بفضل نيَّته المداومة والمحافظة على هذا العمل في الصحيح: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)[19] وفي الصحيح "ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه)[20]. بل في الصحيح لو كان ذلك في ليلة واحدة "مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ حَتَّى يُصْبِحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ"[21].

7417

| 20 نوفمبر 2014

الاهتمام بقبول الله تعالى العمل الصالح

بنى الخليل وولده الكعبة وهما يتضرعان " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"[1] وكان يحدو " رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ"[2] وكانت امرأة عمران تبتهل " .. رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"[3] وصفوة الخلق ينادي "رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي .."[4] وأخبر تبارك وتعالى، بقبول التوبة من البعض وعدم قبولها من آخرين فقال " أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ .. "[5] " وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ .."[6] " غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ.. "[7] ولما كان القبول أو التقبُّل مشروطا بالإخلاص والمتابعة للقدوة المعصومة، فإذا اختل أحد هذين الشرطين امتنع القبول «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»[8] ولهذا ورد الخبر بعدم قبول التوبة عن نفر من الخلائق " ....لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ"[9] وكان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وهؤلاء الذين: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}[10] 1-روي عن علي رضي الله عنه قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[11] ،2- جَاءَ سَائِلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لِابْنِهِ أَعْطِهِ دِينَارًا فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْكَ يَا أَبَتَاهُ فَقَالَ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ مِنِّي سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوْ صَدَقَةَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ، أَتَدْرِي مِمَّنْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ"[12] 3-وعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها [13]لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[14] 4-قال ابن دينار: الخوف على العمل أن لا يُتقبل أشد من العمل وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهمُّ أيُقبل منهم أم لا.لعلك غضبان وقلبي غافل ... سلام على الدارين إن كنت راضيا كان ابن مسعود يقول: لئن أَكُونُ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ مِنِّي عَمَلًا أحب إليّ من أن يكون لي ملء الأرض ذهبا"[15] ، ويقول: " من هذا المقبول منا فنهنيه ومن هذا المحروم منا فنُعزيه أيها المقبول هنيئا لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك[16]. قَدْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ النَّافِلَةَ التَّطَوُّعَ وَلَا يَتَقَبَّلُ الْفَرِيضَةَ وَقَدْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ الْفَرِيضَةَ دُونَ التَّطَوُّعِ وَقَدْ يَتَقَبَّلُهُمَا بِفَضْلِهِ جَمِيعًا وَقَدْ لَا يَقْبَلُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَلَيْسَ كُلُّ صَلَاةٍ مَقْبُولَةً، وَكَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ يَقُولُ طُوبَى لِمَنْ تُقُبِّلَتْ مِنْهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ"[17] وبر الوالدين من أسباب قبول صالح الأعمال قال تعالى عمن برَّ والديه { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ..} [18] بل قد أخبر – جل مذكورا وعز مرادا – بأنه لا يقبل غير الإسلام دينا { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[19]وكان السلف الصالح – رضي الله عنهم –يتبادلون التهاني في الأعياد ومواسم الطاعات، بالدعاء بالقبول، لقي خالدُ بن معدان واثلةَ بن الأسقع في يوم عيد فقال له: "تقبل الله منا ومنك" فقال له مثل ذلك، وأسنده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو أشبه بالموقوف. وله شواهد عن كثير من الصحابة[20]، بيَّنها الحافظ ابن حجر في بعض الأجوبة، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعا: "من لقي أخاه عند الانصراف من الجمعة فليقل: تقبل الله منا ومنك"[21]. وفي الصحيحين قيام طلحة لكعب رضي الله عنهما وتهنئته بتوبة الله عليه يقول كعب: تَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونَنِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْكَ حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَقَامَ إِلِيَّ طَلْحَةُ بَنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، مَا قَامَ إِلِيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ"[22]، ولما حج آدم - عليه الصلاة والسلام - البيت الحرام قالت له الملائكة برَّ حجك قد حججنا قبلك، وألَّف السيوطي في ذلك رسالة سماها " وصول الأماني في حصول التهاني " أجاد فيها، ونتلو في تقبل الله لدعاء امرأة عمران لذريتها { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ... }[23]وأول جريمة وقعت على ظهر البسيطة بسبب قضية القبول والتقبل {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[24]وهناك فَرْقٌ بَيْنَ الْقَبُولِ وَالتَّقَبُّلِ فَالتَّقَبُّلُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّفَ الْإِنْسَانُ فِي قَبُولِهِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ نَاقِصًا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْبَلَ فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمَا – عليهما السلام - بِالتَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ، وَاعْتِرَافٌ بِالْعَجْزِ وَالِانْكِسَارِ، وعلى غرار هذا المعنى كان الدعاء في آخر رمضان بطلب العفو ليلة القدر.ولما سبق من النصوص والآثار كانت مشروعية التوجه إلى الله تعالى بطلب القبول بعد الفراغ من أداء الأعمال الصالحة بكافة أنواعها وإليه أشار النووي – رحمه الله في أذكاره[25]- هذا وبالله التوفيق

8104

| 13 نوفمبر 2014

شَرطَا تَكْفير صَغَائِرِ الذُّنُوبِ

الذنوب منها الكبار ومنها الصغار، ولا بد للمسلم من مجاهدة نفسه حتى يسلس له منها الانقياد، والمرء بجبلته يقع في المعصية، قَالَ الرَسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: «كُلّ بَنِي آدَمَ خَطّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطّائِينَ التّوّابُونَ»[1]، وقد ادخر الله -تعالى- عنده خيرا كثيرا، لقوم من أبرز صفاتهم ومحاسنهم اجتنابهم للكبائر:"وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ "[2] وفي النجم جاء في وصف من سيجزيهم الله بالحسنى أنهم "الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاَّ اللمم "[3]، واللمم صغائر الذنوب وعلى هذا فالمسلم مطالب بالمجاهدة لنفسه حتى لا يقع في الكبائر فيغفر الله -تعالى- له الصغائر قال -تعالى- 1-"إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نُكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً "[4]، هَذِهِ الْآيَةُ، نص في أن الذنوب منها ما هو صغائر ومنها ما هو كبائر - والكبائر بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ – وكذا الصغائر - ولَوْ كَانَتْ الذُّنُوبُ بِأَسْرِهَا كَبَائِرَ لَمْ يَصِحَّ الْفَصْلُ بَيْنَ مَا يُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَبَيْنَ الْكَبَائِرِ2-: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ"[5] 3-: لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها"[6] 4-"وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ"[7] 5-"وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا"[8] وفى آية أخرى لم يوصف الإثم بوصفْ عظيم؛ وإن نص على تحريمه كما في الأعراف "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ "[9]"الْفَاحِشَةُ اسْمٌ لِلْكَبِيرَةِ لِأَنَّهُ قَدْ تَفَاحَشَ قُبْحُهَا أَيْ تَزَايَدَ وَالْإِثْمُ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الذَّنْبِ سَوَاءٌ كَانَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا فَلَمَّا حَرَّمَ الْكَبِيرَةَ أَرْدَفَهَا بِتَحْرِيمِ مُطْلَقِ الذَّنْبِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُودٌ عَلَى الْكَبِيرَةِ، فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ حَرَّمَ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ 6-"إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ"[10] وفي هذه الآية دليل على أن الظلم منه ما هو عظيم ومنه ما هو دون ذلك، بدليل اعتراف أبوينا بالظلم " قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا.."[11] وإن لم يكن ظلمها ما نهى عنه لقمان ابنه، 7-: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ"[12] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ: أَوَّلُهَا: الْكُفْرُ، وَثَانِيهَا: الْفُسُوقُ، وَثَالِثُهَا: الْعِصْيَانُ، فَلَا بُدَّ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ الْفُسُوقِ وَبَيْنَ الْعِصْيَانِ لِيَصِحَّ العطف، وما ذلك إِلَّا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغَائِرِ وَبَيْنَ الْكَبَائِرِ، فَالْكَبَائِرُ هِيَ الْفُسُوقُ، وَالصَّغَائِرُ هِيَ الْعِصْيَانُ، وفى السنة ورد أَنَّ الرَسُولَ -صلى الله عليه وسلم-: نَصَّ عَلَى ذُنُوبٍ بِأَعْيَانِهَا أَنَّهَا كَبَائِرُ،كقوله: «الكبائر: الْإِشْرَاكُ باللَّه وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ مِنَ الْكَبَائِرِ، ومثل آية النساء في اجتناب الكبائر آية الأنفال8- :" إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"[13] فتقوى الله متمثلة في اجتناب الكبائر وأداء الفرائض حتى يُفهم تكفير السيئات ولِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، الوارد في الآيتين والمقصود بالسيئات هنا الصغائر فاجتناب الكبائر _ مع القيام بالأعمال الصالحة من مثل الصوم والصلاة والحج وغيرها من شعب الإيمان - يُكفِّر الصغائر لآيتيي النساء والأنفال وللحديث الصحيح «الصّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنّ، إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ»[14]، ولئن حُبس الشيطان في رمضان وتم دحره يوم عرفة فلا يُنجي من إغوائه إلا الإخلاص لله " لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين، إلاَّ عبادك منهم المخلصين "[15] والكبيرة: هي كل ما ورد فيه حد أو وعيد شديد وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا سَبْعَةٌ، ثُمَّ قَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ، وهذه فرصة ندعو فيها الإخوة والأخوات إلى قراءة كتابي: "الكبائر " للإمام الذهبي- رحمه الله- فقد جمع فيه قرابة السبعين كبيرة، لكنه عظيم النفع والفائدة وكتاب " الزواجر عن اقتراف الكبائر " للهيثمي فقد جمع فيه قرابة الثلاثمائة كبيرة مع أصولها من الكتاب والسنة وأقوال العلماء عن أخطارها وأضرارها فهما كتابان لا نظير لهما في بابهما، وذلك حتى يتأتَّى للمسلم اجتناب الكبيرة، فقد يقع فيها وهو لا يدرى ! ولهذا كان ابن مسعود -رضي الله عنه- يسأل الرَسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: عن أعظم الذنوب ؟! ليتركها ويتجنبها: «سألتُ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: أيّ الذْنبِ أعظمُ عندَ الله؟ قال: أن تجعلَ للّهِ ندّاً وهوَ خَلَقَكَ، قلتُ إنّ ذلك لعظيم، قلتُ: ثمّ أيّ؟ قال: وأن تَقْتُلَ وَلَدَكَ تخافُ أن يَطعمَ معك، قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تُزاني حَليلةَ جارِك»[16]، وكما قال عمر -رضي الله عنه- عرفت الشـرَّ لا للشر ولكن لتَوَقِّيه، وقال حُذَيْفَةُ صَاحِبُ السِرِّ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ الرَسُولُ --صلى الله عليه وسلم-: عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ أَقَعَ فِيهِ" ومع ذلك قَدْ خَفِيَ عَلَى حُذَيْفَةَ الَّذِي يُخْرِجُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَعَلِمَهُ غَيْرُهُ " وهو الذي قد أَخْبَرَهُ الرَسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَا مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ سَأَلْتُهُ عَنْهُ، إِلَّا أَنِّي لَمْ أَسْأَلْهُ مَا يُخْرِجُ أهْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ " ومن العيب على المرء أن يظل غفلا جاهلا، ولا تعرفون الشر حتى يُصيبكم** ولا تعرفون الأمر إلا تدبرا.هذا وبالله التوفيق، ومنه وحده العصمة من الزلل والخطأ والخلل في القول والعمل.

4565

| 06 نوفمبر 2014

حِكمة موافقة النبي صلى الله عليه وسلم

أولاً: حكمة الموافقة فى صيامه صلى الله عليه وسلم للعاشر من المحرم مراعاة لحقوق الأخوة بينه وبين موسى عليه السلام فى الصحيح: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَذَا اليَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ»، ومراعاته صلى الله عليه وسلم لحقوق الأخوة النبوية هنا لها أخوات، منها يوم أن أمكنه الله تعالى من عفريت ليلا وأراد أن يربطه بعمود من أعمدة المسجد فتذكر دعوة أخيه سليمان عليه السلام (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) فلهذا أطلق سراحه، ففى الصحيح أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَهُوَ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ، فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: "لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ، فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي، فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ — الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا — وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ، لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ" من هذين النموذجين يتعلم المسلم فى حياته مراعاة حقوق أخوة الإيمان — ومنها شكر الله على نعمه على أخيك وإن تباعد بينكما الزمان والمكان والفضل، ومراعاة الخصوصية وعدم تمنى ما فضل الله به بعضكم على بعض — فكم بين محمد وموسي وسليمان عليهم الصلاة والسلام من الزمان والمكان والدرجات، وهو درس بليغ، من معلم البشرية الأول الذي بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، ولهذا يشكر المسلم ربه صباح مساء على نعمه عليه وعلى إخوانه" فى الحديث: «مَنْ قال حين يُصبحُ: اللَّهمَّ ما أصبحَ بي من نعْمَةٍ، أو بأحدٍ من خَلْقِكَ، فَإِنَّها مِنْكَ وحدَكَ، لا شَريكَ لَكَ، لَكَ الحمدُ، ولك الشُّكْرُ، فقد أدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، وَمَنْ قال مِثلَ ذلك حين يُمسْي، فقد أدَّى شُكْرَ لَيلَتِهِ». ثانياً: صورة مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فى صيام عاشوراء بصيام اليومين قبله وبعده مع العاشر أو أحد اليومين معه ؛ قصد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود والمشركين وغيرهم قصداً ودليله: "خالفوا المشركين" لأسباب كثيرة، وحكم عظيمة منها: 1 — حتى لا تكون الموافقة الدائمة مدخلاً لإثارة اليهود — وغيرهم — الشبهات، فإنهم قد يقولون: إن المسلمين إنما فعلوا ذلك موافقة لنا، ومتابعة لنا، وليس عندهم شيء، وما جاءوا به إنما هو من آثار ديننا وكتابنا، بلبلةً للعقول والأفكار، وترويجا للشبهات، فذلك ديدنهم، كما حدث فى تحويل القبلة فقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، ثم تحول إلى الكعبة فاتخذ اليهود هذا التحوُّل ذريعة للتشويش على المسلمين، وإدخال البلبلة والاضطراب على معتقدهم، فأذاعوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك على حساب عقيدته، وأن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء جميعا، فكيف استباح لنفسه أن يخرج على شريعة الأنبياء وهو الذي يدعو إلى الإيمان بهم جميعا؟ فإذا كان دينه من عند الله، فهذا الذي فعله هو إبطال لهذا الدين، وأما إذا كان ما يدعو إليه من دين هو من عنده وعمله، فله أن يغيّر فيه ويبدّل كيف يشاء، لكن على ألا يتحكك بالأديان السماوية، وألا يعقد صلة بينه وبين الأنبياء.! بمثل هذه التخرصات قابل اليهود المسلمين وألقوا على ألسنة المنافقين ومن فى قلوبهم مرض حتى لقد وقع عند بعض المسلمين أن صلاتهم التي اتجهوا بها إلى بيت المقدس لم تكن قائمة على وجهها الصحيح، ولهذا أمرهم الله بالتحول إلى البيت الحرام! فتولى الله عز وجل الرد عليهم بأن ذلك كان عن أمره وحكمه، واختباره لصدق الأتباع فى الاتِّباع وجعل ذلك سبيلا للتميز والتفرد لأمة الإسلام. 2 — منها: منع تسرب الأثر السيئ للموافقة؛ لأن طبيعة النفوس إذا وافقت في أمر وآخر وثالث فإنها تميل بعد ذلك إلى موافقة عامة، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم دابر ذلك، فكانت الدعوة إلى المخالفة بصيام اليومين قبله وبعده — أو أحدهما — معه، ولهذه المخالفة نظائر كثيرة لمن تأمل وتدبر، ففى الصحيح: «خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ، وَلَا خِفَافِهِمْ".. وعند مسلم "خالفوا المجوس، أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى"، فقصد المخالفة لبيان التميز والتفرد، وفى الأذان:"كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَوَاتِ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ» ومن ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، لأن اليهود كانوا إذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: راعنا، يُورُّون بالرعونة، فيقولون: راعنا، ويقصدون الرعونة والطيش والخفة، يتنقصون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستهزئون به، ويُحرِّفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بذلك طعناً في الدين، فنهى الله عز وجل المسلمين عن ذلك، فلم تبدل كلمة مكان كلمة فقط. ومن أراد المزيد فليطالع كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. 3 — منها كذلك: بيان زيادة الفضل والمثوبة والأجر لأمة الإسلام بزيادة العمل الصالح، فهذا العمل الصالح تتحقق فيه أكثر من نية صالحة فضلا عن الاقتداء والتأسي بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، شكرا لله تعالى على إغراق عدو الله، فما يُصيب العدو من مضرَّة يُدخل على القلب المسرَّة، ونجاة نبيه موسى عليه السلام، وكفارة لذنوبنا، أضف إلى ذلك التباعد عن النار سبعين خريفا. أو مائة عام، أو كما بين السماء والأرض ودلائل ذلك فى الصحيح، وسائر فضائل ومنافع الصيام. هذا وبالله التوفيق ومنه وحده العصمة من الزلل والخطأ والخلل فى القول والعمل.

877

| 30 أكتوبر 2014

الرضا بمعصية الله كفر

قال ابن عطاء الله السكندري "إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر أين أقامك. في الصحيح «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ»[1] "وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ"[2] سجل القرآن الكريم نموذجين من الخلق جمع بينهما كراهة معصية الله، وأشد ما يكرهون من المعاصي الإفساد في الأرض والاعتداء على الدماء والأعراض: الأول : الملائكة : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ "[3] لم يقولوا ذلك اعتراضا ، فالْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ لَا يَفْتُرُونَ مُشْتَغِلُونَ بِعِبَادَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. رِطَابُ الْأَلْسُنِ بِذِكْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ يَتَسَابَقُونَ فِي ذَلِكَ مُذْ خَلَقَهُمْ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَلَا يَسْأَمُونَ، لَا يُحْصِي أَجْنَاسَهُمْ وَلَا مُدَّةَ أَعْمَارِهِمْ وَلَا كَيْفِيَّةَ عِبَادَتِهِمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ/ وَرُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ وَصَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ وَمُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَلَا سَهْوُ الْعُقُولِ وَلَا فَتْرَةُ الْأَبْدَانِ وَلَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ ودونك بعض ما قال الحق تبارك وتعالى فى أوصافهم "وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِه"[4] " بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ "[5] فَهَذَا صَرِيحٌ فِي بَرَاءَتِهِمْ عَنِ الْمَعَاصِي وَكَوْنِهِمْ مُتَوَقِّفِينَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ إِلَّا بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالْوَحْيِ : " يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ"[6] " وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ " وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ"[7] " يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ "[8] " وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ"[9] هذه كلها أوصاف للملائكة فهل مع هذه الأوصاف يقول قائل إنهم قالوا " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" اعْتِرَاضًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَ هذا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ ، وذلك بعيد تماما، فلم يبق إلى أنهم قالوا ذلك كراهة لمعصية الله الْعَبْدَ الْمُخْلِصَ لِشِدَّةِ حُبِّهِ لِمَوْلَاهُ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَبْدٌ يَعْصِيهِ. النموذج الثاني : مريم عليها السلام " فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا"[10] مريم عليها السلام ، جاءها روح الله، متمثلا فى صورة بشرية، فاستعاذت بالله منه لتقواه، فالمتقي هو الذي يُجير من استجار بالرحمن منه، لخشيته منه، فأخبرها بأنه رسول ربها إليها؛ لِيهَب لها غلاما زكيا، تقيا لا شقيا، فكان تعجبها من ذلك الخبر ولم يمسسها بشر،، والأصل في شعبة إِنْكَار المنكر بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَرَاهَةُ الْمَعْصِيَةِ ولو بِالْقَلْبِ وذلك فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَلَا يَسْقُطُ أَصْلًا , ويقوى إلى أن يكون باليد أو باللسان، وأدناه القلب، وينكره بقلبه بأن يكره ذلك ويعزم أن لو قدر عليه بقول أو فعل أزاله لأنه يجب كراهة المعصية فالراضي بها شريك لفاعلها - والرضا بالمعصية من أقبح المحرمات- وهذا القدر واجب على كل أحد[15] ومما يدل على وجوب كره المعصية وعدم الرضا بها حتى لا يكون شريكا لفاعلها ما ورد فى الحديث " «إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ شَهِدَهَا وأَنْكَرَهَا فَهُو كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا ورَضِيَهَا كَمَنْ شَهِدَهَا» وعدم كراهية المعصية والرضا بها يُخل بالإيمان فالمسلم بعد مواسم الطاعات يداوم على الطاعات المطلقة وغير المقيدة بزمن دون آخر، حبا للطاعات وسائر ما يحبه الله، وبغضا للمعصية لبغض الله تعالى لها، سواء كانت الطاعة منه أو من غيره، وسواء كانت المعصية منه أو من غيره ـ فيكون متجردا لله تعالى، وله في ذلك قدوة بالملائكة، وبالصالحين من السلف الصالح.

3082

| 23 أكتوبر 2014

ماذا على المسلم بعد الحج

1- الدعاءوسط آيات الصيام جاءت آية الدعاء، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" والمعنى اللطيف فيها أن العبد فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَه وَبَيْنَ الله تعالى لهذا لم يَقل " فقل إنى قريب " بل قال " فإنى قريب " ووسط آيات الحج جاء الدعاء الجامع "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" ومعنى الصلاة فى أصل لسان العرب الدعاء. قال العلامة القاري (( («الدعاء هو العبادة» )) الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة، لدلالته على الإقبال على الله * والإعراض عما سواه *؛ بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه * قائماً بوجوب العبودية * معترفاً بحق الربوبية * عالماً بنعمة الإيجاد * طالباً لمدد الإمداد * على وفق المراد * وتوفيق الإسعاد *، ((ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}وفى التنزيل أخبر تعالى أن الكفار أنهم إذا مسهم الضر في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، وأن الإنسان إذا مسه الضر دعاه لجنبه أو قاعداً أو قائماً. "قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ"والدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار وفى الصحيح "مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ غَضِبَ الله عليه "اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ... وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُقال ابن عقيل: قد ندب الله تعال إلى الدعاء، وفي ذلك معان: أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يدعى.الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يدعى.الثالث: السمع، فإن الأصم لا يدعى.الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يدعى.الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يدعى.السادس: القدرة، فإن العاجز لا يدعى.بهذا يتبين أن الدعاء مخ العبادة ولبها، وأنه من أهم أنواع العبادة، وأنه مما لا ينفك عنه مسلم فى أي طرفة عين أو تنفس نَفَس، فى موسم أو قبله أو بعده أو خلاله. حتى يأتيه اليقين2. التقرب الأسبوعيمن فاته التقرُّب أو تقرَّبَ — أيام النحر — فأمامه فرصة أسبوعيا ليتقرَّب إلى الله تعالى فى الصحيح: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً.." هذا تقرُّب دائم بلا مال ولا دماء، ولا ضيق فى الزمان، ألا ما أعظم فضل الله وفيضه لمن تعرَّض له.وعن فضل التقرب إلى الله تعالى فى الصحيح يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:، إِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً " } ويقول أيضًا "..وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ "3. السيئات يُذهبن الحسناتقال تعالى {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} نَبَّهَ سُبْحَانَهُ الْعُقُولَ عَلَى قُبْحِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي تُحْبِطُ ثَوَابَ الْحَسَنَاتِ، وَشَبَّهَهَا بِحَالِ شَيْخٍ كَبِيرٍ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ، بِحَيْثُ يَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ وَعَلَى نَفْسِهِ، وَلَهُ بُسْتَانٌ هُوَ مَادَّةُ عَيْشِهِ وَعَيْشِ ذُرِّيَّتِهِ، فِيهِ النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، فَأَرْجَى وَأَفْقَرَ مَا هُوَ لَهُ وَأَسَرَّ مَا كَانَ بِهِ إِذْ أَصَابَهُ نَارٌ شَدِيدَةٌ فَأَحْرَقَتْهُ، فَنَبَّهَ الْعُقُولَ عَلَى أَنَّ قُبْحَ الْمَعَاصِي بَعْدَ الطَّاعَةِ كَقُبْحِ هَذِهِ الْحَالِ، وَضَرَبَ لِقُبْحِهَا هَذَا الْمَثَلَ وَبِهَذَا فَسَّرَهَا عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْا لِرَجُلٍ غَنِيٍّ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ زَمَانًا، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ، فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.؟ وكما أن " الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ" فكذلك السيئات يُذهبن الحسنات لحديث المفلس فى الصحيح "..إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»4. الحذر من الانتكاسة:الطفل بعد أن تتم فترة رضاعته ويستوفي حقه منها تماما على النحو الذي فصَّل الله عـزَّ وجلَّ في كتابه " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ". أقول بعد هذه الفترة، لا يرجع الوالدان به إلى الرضاع من جديد ولا يسمحان له بالعود إلى ذلك لأن هذه انتكاسة لا يُسمح للطفل بها أبدا، تربيةً للعزيمة وتقوية لإرادته، وكما أن الأمر هكذا للطفل فهو هكذا للنفس فنحن — حُجَّاجًا أو صائمين — أخذنا أنفسنا بالعزيمة وفطمناها عن المعاصي خلال أداء هذه العبادات وأعاننا المولى على ذلك فحبس الشيطان أو دحرها خلالها، فينبغى الحذر من الانتكاسة بالعود إلى المعاصي من جديد لأنها انتكاسة ما بعدها انتكاسةوالنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمولنحذر نقض غزلنا بعدما أبرمناه قال تعالى:"وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ.."، شبَّه الله من يُبطل عمله الصالح بالسيئات بعد الصالحات بامرأة خرقاء حمقاء في الجاهلية كانت تغزل غزلها إلى أن تعمل منه ثوباً، ثُم تنقضه! أتكون مثلها كلما عقدت عقداً نقضته، وكلما عاهدت عهداً غدرت به؟! فبعد ما كنتم أقوياء بالإيمان فارقتم ذلك بالمعاصي ورجعتم القهقري! وللحديث بقية بحول الله وقوته فى الجزء الثالث والله وحده ولي التوفيق وأسأله العصمة من الزلل والخطأ والخلل فى القول والعمل.

792

| 16 أكتوبر 2014

ماذا على المسلم بعد الحج ـ حاجاً أو غيره / 1

1. الاستقامة والدعاء بالقبول عن سفيان بن عبدالله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: "قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك" قال: "قل: آمنت بالله ثم استقم" سؤالُ الله قبول العمل الصالح من صدق الإيمان؛ بنى إبراهيم ـ عليه السلام ـ الكعبةَ ودعا ربَّه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" والثباتُ على الدين من عزائمِ الأمور. "وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"، "وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستعيذ بالله من تغيُّر الحال، ومن التحوُّل عن طريق الاستقامة، فيقول "أعُوذُ بِكَ مِنَ الحَوْرِ بَعْدَ الكَوْرِ" أي من الطاعة إلى المعصية، والمعنى إجمالا: أعوذ بك أن تفسد أمورنا وتنتقض بعد صلاحها، وكان يكثر من الدعاء: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، والراسخون في العلم يقولون: "رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا" فكيف بمن دونهم؟؟!! 2. مصاحبة أهل الاستقامة والثبات قال تعالى: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" وقال: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ"، ذلك أن "الصاحب ساحب"!! وفي الصحيح: "مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً". 3. الحذر من العَود إلى المعاصي والإصرار عليها قال كعب: من صام رمضان وهو يحدث نفسه؛ إذا أفطر من رمضان لم يعص الله دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر عصى ربه فصيامه عليه مردود. وذلك للحديث الصحيح: "الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِامْرِئٍ مَا نَوَى...". ولأنه بات مصراً على معصية الله تعالى، وقد جاء فى وصف المتقين عدم الإصرار على المعصية، قال تعالى: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ". 4. الصيام الباقي على الصائمين والحجاج كما أن الشأن في رمضان من أفطر أياما بسبب مرض أو سفر إلى غير ذلك من الأعذار المؤقتة، فقد استقر في ذمته فَرْضٌ وَاجِبٌ، وحق مؤكد، وَدَيْنٌ ثَابِتٌ يُؤَدَّى أَبَدًا، وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ الْمُؤَجَّلُ لَهُمَا، وَمَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ لِلَّهِ أَوْ لِعِبَادِهِ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، وَقَدْ شَبَّهَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَقَالَ: "دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى" فعليه الوفاء به بعد رمضان، لقوله تعالى: "ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر". ولحديث الصحيحين: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ ـ أي الحيض ـ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلاَ نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ". كما الشأن هكذا في الصيام هو هكذا في الحج، فمن حج ـ متمتعا أو قارنا ـ ولم يجد ميسرة للهَديْ فليصم ثلاثة أيام في الحج، وقد استقر في ذمته صيام سبعة أيام بعد رجوعه إلى أهله: "فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ". وذلك وفاءً للدَّيْن، وإكْمالاً لِلعدَّة وإبراءً لِلذِّمة، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده فله الحمد وله النعمة وله المنة. 5. ثواب الحج والعمرة يومياً من غير سفر إلى الحجاز أعمالٌُ ثلاثة تَنال بكل واحد منهما ثواب الحج والعمرة، حيث أنت بلا سفر ولا نفقة ولا تأشيرة، ولا يُسقط الفريضة منهما: 1 — فى الصحيح: "مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ، وَمَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةِ تَطَوُّعٍ، وفي رواية: "وَمَنْ مَشَى إِلَى سُبْحَةِ الضُّحَى، لَا يَنْصِبُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ". 2 — فى الصحيح: "مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يُعَلِّمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ، تَامًّا حَجَّتُهُ". 3 — في الصحيح: "مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ الله حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تامة تامة"، وللحديث بقية بحول الله وقوته، فى الجزء الثاني، والله وحده ولي التوفيق وأسأله العصمة من الزلل، والخطأ، والخلل، فى القول والعمل.

715

| 10 أكتوبر 2014

alsharq
سابقة قضائية قطرية في الذكاء الاصطناعي

بات الذكاء الاصطناعي اليوم واقعاً لا يمكن تجاهله...

2430

| 30 نوفمبر 2025

alsharq
أهلاً بالجميع في دَوْحةِ الجميع

ساعات قليلة تفصلنا عن لحظة الانطلاق المنتظرة لبطولة...

1131

| 01 ديسمبر 2025

alsharq
عصا موسى التي معك

في كل يوم، ينظر الإنسان إلى ما ينقصه...

738

| 02 ديسمبر 2025

alsharq
الكلمة.. حين تصبح خطوة إلى الجنة أو دركاً إلى النار

في زمنٍ تتزاحم فيه الأصوات، وتُلقى فيه الكلمات...

645

| 28 نوفمبر 2025

alsharq
المجتمع بين التراحم والتعاقد

يحكي العالم الموسوعي عبد الوهاب المسيري في أحد...

567

| 30 نوفمبر 2025

alsharq
التوافد الجماهيري.. والمحافظة على السلوكيات

كل دولة تمتلك من العادات والقواعد الخاصة بها...

495

| 30 نوفمبر 2025

486

| 27 نوفمبر 2025

alsharq
بكم تعلو.. ومنكم تنتظر قطر

استشعار نعمة الأمن والأمان والاستقرار، والإحساس بحرية الحركة...

456

| 27 نوفمبر 2025

alsharq
أيُّ عقل يتسع لكل هذا القهر!؟

للمرة الأولى أقف حائرة أمام مساحتي البيضاء التي...

447

| 26 نوفمبر 2025

alsharq
المتقاعدون بين التسمية والواقع

يقول المثل الشعبي «يِبِي يكحّلها عماها» وهي عبارة...

438

| 30 نوفمبر 2025

alsharq
إعدامات في الظلام وصرخات خافتة!

أكدت اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949، في المادّة...

432

| 28 نوفمبر 2025

alsharq
الغائب في رؤية الشعر..

شاع منذ ربع قرن تقريبا مقولة زمن الرواية....

420

| 27 نوفمبر 2025

أخبار محلية