رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: القرآن أكد حق الأقارب وأوصى بالبر بهم

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة التاسعة والعشرون أدب المسلم مع أُولِي القُربَى مِن أدب المسلم الأساسي، الذي جاء به القرآن، وأكَّدتُه السُّنة، وأصَّله علماءُ الإسلام: صِلةُ الرَّحِم، أو إيتاء ذي القُربى، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]. وقال تعالى في آية الحقوق العشرة: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36]. وهو أمرٌ اتفقتْ عليه كلُّ الرسالات السماوية التي بعَثَ الله بها النبيين مُبشِّرين ومنذرِين، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]. ونلاحظ أنه قال في ميثاق بني إسرائيل: {وَذِي الْقُرْبَى} وفي آية الحقوق العشرة: {وَبِذِي الْقُرْبَى} بزيادة حرف الباء، وهي زيادة تدل على التأكيد، وهو ما نشعر به من قوَّة النصوص وكثرتها، وما فيها من أمر ونهي، ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، وجنة ونار. تأكيد القرآن لحقِّ القرابة: وأولُ ما نلحظ هنا تأكيدَ القرآن لحق القرابة: في كثرة النصوص القطعيَّة التي جاءتْ توصي بحقِّ الأقارب، أو الأقربين أو ذوي القُربى، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]. فجعل أوَّل مَن له حق النفقة في المال — وهو ما عبَّر عنه بالخير — هم الوالدان والأقربون. والمراد بالأقربين أو ذوي القربى هنا: القرب في النسب، لا في المكان والسكن. وكذلك جعل لهم الحقَّ في الوصية، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180]. وقوله سبحانه: {تَرَكَ خَيْرًا}، أي: مالًا فيه وفرةٌ، بحيث يمثِّل {خَيْرًا}، فالمال القليلُ لا يُعتبر في نظر الناس خيرًا، وإنما تعتبر الوصية في المال الكبير، وهنا تجب الوصيةُ للوالدين والأقربين الذين لا نصيب لهم في ميراث الميت، كأن تكون أمُّه كتابيَّةً، أو يكون له قريب كتابيٌّ، فهذه الوصية واجبة بالمعروف، حقًّا على المتقين. وفي ظاهر هذه الآية ما يدلِّل لِما اجتهدَ فيه فقهاءُ مصر المُحدَثون، ومَن وافقهم في البلاد العربية في أنْ يوصي الأجدادُ للأحفاد الذين مات أولادُهم — بنونَ أو بنات — في حياةِ آبائهم، فحجبَهم أعمامُهم عن الميراث؛ لأنَّهم أقربُ منهم إلى الأب، ولكنَّ هؤلاء يستحقون الوصية مِن أجدادهم بنصيب، حدَّده العلماء أن يكون مثل نصيب آبائِهم أو أمَّهاتِهم في حدود الثُّلث، الذي لا تتجاوزه الوصيةُ، كما قال الرسول الكريم: "الثلث، والثلث كثير". وقال تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]. وبهذا لا يجتمع لهؤلاء الأحفاد، الذين مات آباؤهم في حياة أجدادهم: اليتم والحرمان. ويقول تعالى في قِسْمة التَّرِكات التي خلَّفها الموتى لمَن وراءهم: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8]. وفي هذه الآية تأكيدٌ لحقِّ الأحفاد الذين ذكرْناهم في وصية الأجداد؛ لأنهم من أقرب أولي القربى. وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة:177]. فجعل إيتاءَ ذوي القربى حقَّهم أو حقوقَهم في المال، وهي غير الزكاة المذكورة في الآية الكريمة نفسها: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}. على أن على المسلمين أن يُعطوا أولي القربى حقَّهم، ولكن لا يجوز لهم أن يُعطوهم ما يجور على حق غيرهم، ولا ينبغي للمسلم أن يكون مع قريبه في العدل والظلم، والبر والفجور، بل يكون معه في العدل والخير، والحق والبر، لا يتعداها إلى ضدها، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]. {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [المائدة:106]. فالحقُّ والعدلُ فوق القَرَابة، وفوق كل عصبيَّة. وقال تعالى في وصف الفاسقين، الذين يستحقون أن يضلَّهم الله: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27]. وصَفَهم القرآن بثلاث رذائل من أسوأ الصفات: إحداها: نقض العهد، وهو ما ذكره الله تعالى بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 — 61]. والعهد الآخر، ما أخذه على بني إسرائيل: أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وينفِّذوا الأوامر الإلهية، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة:83]. والرذيلة الثانية: قطْع ما أمر الله به أن يوصل، مثل قطْعهم الأرحام، والتخلص من موالاة المؤمنين. والرذيلة الثالثة: الإفساد في الأرض، والله لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين، وقد جعل عمارة الأرض وإصلاحَها من مقاصده تعالى في خلْقه، كما قال على لسان صالح الذي قال لقومه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]. أي: طَلَبَ إليكم أن تعمروها، ولا تخرِّبوها، أو تسمحوا أن يتسرب إليها الخراب. وهو ما ذكره القرآن في سورة الرعد، حين قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الآية:25]. وممَّا ذكره القرآنُ حول صِلة الرحِم وتقطيعها: ما جاء في سورة محمد، في قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [الآيتان:22 — 23]. ما ذكره القرآن في صلة الإخْوة بعضهم ببعض: ومن أهم الأرحام وأقواها: ما بين الإخْوةِ بعضهم وبعض، فلا يجوز لأخٍ أن يظلم أخاه، أو يسْتعليَ عليه بقوةٍ أو مالٍ أو غير ذلك. وقد قصَّ علينا القرآنُ قصة ابنَيْ آدم من صلبه، حين اعتدى القويُّ الخبيث على الطيب المخلص، وهو ما نقرأه واضحًا في سورة المائدة، حيثُ يقول تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [الآيات:27 — 31]. ولم يُعجب الخبيثَ الفاجر كلامُ أخيه الطيبِ الجميلُ المؤثِّر: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، وطغى الشرُّ عليه حتى ارْتَكَبَ أولَ جريمة قَتْل في تاريخ البشر؛ ولذلك عليه كفْلٌ ممَّا يرتكبه البشرُ إلى يوم القيامة، وما أكثرَها وأشدَّها مِن تبعات. وذكر لنا القرآنُ مِن قصص الإخْوة بعضهم مع بعض ما ذكر في قصة يوسف وإخوته من أبناء يعقوب، وقد أشار يعقوب عليه السلام، إلى ما يمكن أن يفعل الإخْوة بأخيهم، حين قصَّ يوسف على أبيه ما رآه مِن رؤيا في منامه: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]. فماذا كان موقف الأب يعقوب؟ {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5]. وقد رأيتُ ما قصَّتْه سورةُ يوسف علينا، وما فعله به إخْوته، وكيف أوهموا أباهم حتى سمح لهم بأخذه معهم، وكيف ألقَوْه في الجُبِّ، وجاؤوا على قميصه بدم كذب، وكيف قال لهم أبوهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]. إلى أن انتهى بهم المطاف إلى أن وقفوا أمام يوسف وهو عزيز مصر، يسألونه الصدقة عليهم، والرفْق بهم، فإنَّ الله يجزي المتصدقين: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:89 — 90]. إلى آخر ما سجَّلته القصة. وفيها التقت الأسرة كلها: الأبوان والإخوة في ظل يوسف عزيز مصر، {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100]. أخت موسى وموسى عليه السلام: ونذكر فيما بين الإخْوة بعضِهم مع بعض ما فعلتْه أختُ موسى بأخيها حين ألقتْهُ أمُّه في التابوت، ثمَّ ألقتْه في اليمِّ، فألقاه اليمُّ بالساحل، فأخذه عدوٌّ لله وعدوٌّ لموسى، وهو فرعون، وهنا قالت أمُّ موسى لأخته: {قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص:11]. واستطاعت أن تصِل إلى قَصْر فرعون، وتقول لهم: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص:12 — 13]. موسى وأخوه هارون عليهما السلام: وعاش موسى في قصْر فرعون الذي سيزول مُلكُه على يد موسى، ثمَّ ذهب إلى مدْيَنَ وتزوَّج منها، وعاد بعد عشْر سنوات بأهله، وناداه ربُّه بالوادي المقدس طُوَى، وأرسله إلى فرعون إنَّه طغَى، فسأل ربَّه أن يجعل له وزيرًا مِن أهله، هارون أخاه، فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 — 32]. وأجابه الله إلى كل ما سأل، وسار الأَخَوَانِ، معًا على السَّراء والضرَّاء، حتى انتصرا على فرعون، ثمَّ لقِيَا مِن بني إسرائيل ما لَقِيَا، حتى ذهب موسى للقاء ربِّه أربعين يومًا، وفي هذه المُدَّة عَبَدَ بنو إسرائيل العِجْلَ الذي صنعه لهم السامري، وجاء موسى ورأى هذه الفتنة الهائلة التي سَقَطَ فيها قومُه، وغضِبَ موسى غضبًا شديدًا، وأَخَذَ موسى برأس أخيه يجرُّه إليه: {قَالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94]. وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151]. احتكام الأخوين إلى داود عليه السلام: وفي قصة داود احْتَكَمَ إليه أَخوانِ حينَ لجأ إلى عبادة الله في المحراب واعتزل الناس، وهو ما حكتْهُ لنا سورةُ (ص): {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [الآيات:21 — 26]. فهذان الأخوانِ احتكما إلى داود عليه السلام ليحكُمَ بينهما فيما حكاه أوَّلُهُما، فسارع داودُ إلى أنْ حَكَمَ على الشخص المدَّعَى عليه، دون أن يستمع إلى قوله، بل حكم عليه بمجرد أن قال الأول: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:23 — 24]. كان المفروض على داود عليه السلام أن يسأل الآخر عن موقفه: لم فعل ذلك، فلعل عنده سببًا، أو لديه عذرًا. وقد قال الشاعر: تأنَّ ولا تعجلْ بلومِك صاحبًا لعل له عذرًا وأنت تلوم وهذا استعجالٌ في الحُكْم، وقضاءٌ على طَرَفٍ لم يُدْلِ بحجته ووجهة نظره في القضية، والأصول القضائية المتعارف عليها بين الناس من قديم، تقتضي من القاضي الذي يتحرَّى العدْل، ويحكم بالقسْط، ولا ينحاز لأحدِ الخصمين: أن يسمع إلى كُلٍّ منهما. سواءٌ كان هذان الشخصان بشَرَيْن من أبناء آدم، كما هو ظاهر القضية، أمْ كانا مَلَكَين جاءا يمثِّلان أمام داود هذه القصة ليتنبَّه إلى ما هو واجب عليه باعتباره قاضيًا يحكم بشريعة السماء.

34997

| 26 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي :أدب الابن مع والديه قرنه القرآن بتوحيد الله

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة السابعة والعشرون أدبُ المسلم مع الأبُوَّة والبنوة برُّ الوالدين: مِن الأدب الذي يتميَّز به المسلم: أدبُ البنوة، الذي عُرِف بين المسلمين باسم: (برِّ الوالدَيْن)، الأب والأم، وهو الذي قَرَنَه القرآنُ بتوحيد الله تعالى؛ إذ جعل حقَّ الوالدين بعد حقِّ الله -عز وجل-، كما في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36]. آية الحقوق العشرة: وهذه الآية هي التي سمَّاها العلماء: (آيةَ الحقوق العشرة)، التي بدأتْ بحق الله العليِّ الكبير، فحقِّ الوالدين، فذي القُربى، وما بعده. وهكذا نجد الطلب من الله تعالى للولد أن يشكرَ لربِّه وللوالدين بهذه الصيغة، أي: بالعطف بالواو، التي تفيد مُطلَق الجمْع، ولم يقل: (أن اشكر لِي ثمَّ لوالديك)، و(ثمَّ): تفيد الترتيب والتراخي. أدب الأبوَّة والأُمُومة: ومع أدب البنوة نجدُ أدبَ الأبوَّة، ومثل الأبوة: الأمومة، وقد عبَّر العرب عنهما بلفظ (الأبوان)؛ تغليبًا لمعنى الأب، أو (الوالدين)؛ تغليبًا لمعنى الأم، فإن الأب لا يلد، ولكن الأبوَّة والأمومة مطلوب منهما أن يرْعيَا البنوة، وبعضُ العلماء قال: إن الإسلام أوصَى الأولاد بالوالدين؛ لِمَا يخشى مِن جفاء الأولاد أو عقوقهم، ولكنه لم يوصِ الوالدين بالأولاد؛ لِما في جانب الفطرة الوالدية مِن حبِّ الأولاد، وضرورة العناية بهم، فلا يحتاجون إلى وصيَّة. وهذا صحيح في الجملة، ولكن التنبيه مطلوبٌ، وخصوصًا عندما تنحرف بعض الأنفُس، وبعض الجماعات عن الفطرة، ويدخل الشيطان– أو الشياطين– بوسوساتهم في إفساد الضمائر، وتخريب البصائر، وذكر القرآنُ ضلالاتِ العرب في الجاهلية، ومآثمَهم مع أولادهم، فقال: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام:140]. وخصوصًا ما كان منهم في حقِّ الإناث؛ بحكم نظرة الجاهلية القاصرة للأنثى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9]. الإحسان بالوالدين والطاعة لهما: وقد أمر الله -عز وجل- الأولاد ذكورًا وإناثًا بالإحسان إلى الوالدين، وإن كانا- أو أحدهما- على دينٍ غير التوحيد، ولكن لا يجوز التطاول على الوالدين أو أحدهما، وإن كان مشركًا، بل يجب مصاحبتهما بالمعروف؛ اعترافًا بحق الوالدية، فلولاهما لَمَا كان، ولذلك يؤكِّد القرآن هذه الحقيقة، فيقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15]. وبهذا ظهر المنهج القرآني المتميز، الذي يجمع بين الحرص على توحيد الله -تعالى-، وعلى مصاحبة الأبوين بالمعروف.وما ذكره القرآن عن يحيى الذي آتاه اللهُ عبدَه زكريا، وقد آتاه الله الحُكْم صبيًّا: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:14]. والمسيح عيسى بن مريم، قال الله تعالى على لسانه حين نطق في المهد صبيًّا: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32]. ومِن أدب الأبوَّة: أن يفرح الأبُ- وكذلك الأم- بما يرزقه الله مِن أولاد، ذكورًا كانوا أو إناثًا، وألَّا يكون كما كان العرب الجاهليون يتبطَّرون ويتشاءَمُون من الإناث، حتى اعتبروا ولادة الأنثَى عارًا لهم، أو نكْبةً عليهم، كما حكى القرآن عنهم، وكما قيل لأحد الأعراب، وقد أُخبر بولادة امرأته، فسألهم: ماذا ولدتْ؟ قالوا: أنثى، قال: ما هي بنعم الوَلَد. نصرُها بكاءٌ، وبرُّها سرقةٌ! فهو يعتبر أن ما تعطيه بنتُه له من مالِ زوجِها يُعتبَر سرقةً مِن زوجها، ولا تنصرُه بركوبِ فرسٍ، أو حمْل سيفٍ، بل بالبكاء والصراخ، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58-59]. انظر إلى هذا الوصف القرآني الرائع، الذي يضع لنا هذه الصورة الكئيبة لهذا الأب بعد ما بشَّروه بولادة امرأته بأنثى، كيف تغيَّر وجهُه، وتغيرتْ نفسُه، وتغيَّر تفكيرُه، وتغيَّر سلوكه: اسودَّ وجهُه، وكظمتْ نفسُه، وكأنَّما ارتكب جريمةً حسِّيَّة يُستحيا منها، فهو يتوارى من الناس، ويختبئ مِن مقابلتهم، ويفكِّر في هذا المخلوق الجديد، ماذا يصنع به؟ أيمسكه – على ما هو عليه – بما معه من الذل والهوان، أنه أب لأنثى، أمْ يتخلَّص مِن هذه الفضيحة، ويدسُّ هذا المخلوق في التراب، ويدفنه كما يدفن كل الموتى؟ ألا ساء ما يحكمون. وكثيرًا ما يختار بعضُ الناس الخصلةَ السيِّئة الرديئة: الدسَّ في التراب، فيقتل نفسًا بشريَّة حيَّة، لم ترتكب خطيئة، ولم تستحق قتلًا، فيقتلها؛ لأنه يخاف أن تزحمه في طعامه وشرابه وخبزه، وهو الأبُ الذي يُفترَض أن يحميَها بنفْسه، ويجوعَ لتشبع، وليتَه يقتلها بضربة سيفٍ تُريحها، بل يدفنها وهي حيَّة في التراب، وبئس هذا النوع من الموت: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9]. البناتُ كالأبناء نعمةٌ مِن الله، ولذلك رأينا القرآن الحكيم يؤكد أن كلًّا مِن البنين والبنات، نعمةٌ من الله -تعالى-، كما قال -سبحانه-: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:49- 50]، ومن اللطائف اللفظية في الآية أنها بدأتْ بهِبَةِ اللهِ للإناث أوَّلًا، ولهذا قال نساء المسلمين: خيرُهن مَن بكَّرتْ بأنثى. وقد ذكَر اللهُ لنا في سورة آل عمران قصةَ امرأة عمران، وولادتها لمريم أُمِّ المسيح -عليهما السلام-: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:35-37]. فانظرْ إلى هذه القصة الجميلة لآل عمران، الذين اصطفاهم الله -تعالى-، كما اصطفى آل إبراهيم، وكما اصطفى آدمَ ونوحًا، وتبدأ القصة بامرأة عمران- الذي لا نعرف له غير اسمه، والذي تنسب إليه الأسرة- التي نذَرَتْ ما في بطنها ليخدُم المعبد أو المسجد، فهي ظنَّتْه ولدًا ذكرًا، ولكن قدَّر الله أن تكون أنثَى، فلمَّا وضعتْها سمَّتْها: مريم، وأعاذتها وذرِّيَتَها من الشيطان الرجيم، وهيَّأتْ لها التربية المثمرة في رعاية نبي الله زكريا -عليه السلام-. وكانت هذه المولودة المباركة مريم الصديقة أُمُّ المسيح، التي قال الله لها: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42-43]. حق الوالدين في سورة الإسراء: وقد بيَّن القرآن الحكيم في وصايا سورة الإسراء الحكيمة: حقَّ الوالدين على أولادهما، فقال -عز وجل-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:23-25]. فالبرُّ والإحسان المطلوب مِن الله -تعالى- للوالدَين في كل أعمارهما، سواء كانَا في حالة الكهولة أو الشيخوخة، وقد يكون بين الآباء والأبناء وقتٌ قصير، كما قالوا: كان بين عمرو بن العاص وابنه عبد الله: اثنتا عشْرة سنةً! أو ثلاث عشرة سنة. ويزداد حقُّ الوالدين على الأبناء عندما يبلغان أو أحدهما الكبرَ عند الأولاد، وكلمة (العنديَّة) تدلُّ على أنَّ أمرهما أصبح مَوْكولًا للأولاد، فهما عندهم كأنَّهما وديعة وأمانة يحفظونها؛ ولذا قال -عليه الصلاة والسلام-، فيما رواه أبو هريرة: "رغِم أنفُ، ثم رغِم أنفُ، ثم رغم أنفُ". قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك أبويه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة" ومعنى (رغِم أنف)، أي: لصق بالرَّغام، وهو التراب. وكما فرض الله الإحسان بالوالدين، حرَّم كذلك ما ينافيه، وهو الإساءة إليهما، وإيذاؤهما بقولٍ أو فعْل، ومن ذلك إظهار التأفّف: بأن يقول لهما: (أفٍّ)، وهو ما نهَى عنه القرآن. والأصل أن كل ما نهى عنه القرآن نهْيًا صريحًا فهو محرَّم، ولهذا قال العلماء: لو يعلم اللهُ في عقوق الوالدين شيئًا أدنى من (أفٍّ) لحرَّمه، لِمَا لهذا الحق من مكانةٍ وحُرْمة عند الله -تعالى-، قال -تعالى-: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]. فهو عز وجلَّ ينهى عن قول كلمة (أفٍّ)، التي تدل على الضجر، وينهى عن نهْرِهما، والنهْر منهيٌّ عنه في القرآن لكُلِّ مَن يشعر بأنَّه في حالة ضعْف، ويحتاج إلى مَن يُعينه ويرفعه، لا من يبخسه ويشعره بالهوان، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى:9-10]. أي: لا يصدر عنك قول أو فعل يقهر اليتيم، أي: يذله ويخضعه رغم أنفه، ولا قول أو فعْلٌ ينهر السائل، أي: يهينه ويجرح شعوره. ولما نهاه عن القول السيِّئ، والفعل السيِّئ، أمره بالقول الحسَن، والفعل الحسَن، فقال: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]. أي: ابدأ معاملتهما، وقل لهما كلامًا ليِّنًا، طيبًا حسَنًا، بتوقير وتعْظيم. والقرآن مدَحَ الذلَّ في موضعين: أحدهما: الذلُّ للوالدين، وهو ما جاء في هذه الآية: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]. والثاني: الذلُّ لإخوانه المؤمنين، كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة:54]. فالابن البارُّ بأبويه يسأل الله لهما أن يتفضَّلَ عليهما برحمته التي وسعتْ كلَّ شيء، ولا سيما المؤمنين، وخصوصًا الوالدين، اللذين ربيا ولدهما في صغره وضعفه، حين لم يكن له سنٌّ تقطع، ولا يدٌ تبطش، ولا رِجْل تمشي، ولم يزل أبواه يغذيانه وينمِّيانه، ويعملان على كسبه أفضل العادات، حتى استوى إنسانًا مكتملًا. الإسلام يطلب البرَّ للأبوين، ويؤكِّد حقَّ الأم: وممَّا لا شك فيه أن الإسلام في نصوصه كلِّها قرآنيَّة ونبويَّة، يطالب بفرضية البر والإحسان للوالدَين كليهما أمًّا وأبًا، ولكنه يؤكِّد ويعظِّم حقَّ الأمِّ أكثرَ من غيرها. كما ذكر القرآن الكريم: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]. فالآية الكريمة توصي بالوالدين إحسانًا، ولكنها تخصُّ الأمَّ بما تتحمله من الكرْب والأثقال في الحمْل والوضْع، وبعد ذلك في الإرضاع والتربية، وهو ما سمَّتْه الآية: (كُرْهًا)، أي: ثقلًا وشدة، وفي سورة لقمان، قال -تعالى-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]. ولذلك حين روى أبو هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، مَن أحقُّ الناس بحُسْن صحابتي؟ قال: "أمك". قال ثم من؟ قال: "أمك". قال ثم من؟ قال: "أمك". قال: ثم مَن؟ قال: "أبوك". وهو ما جعل بعضَ العلماء يقولون: إن الأمَّ لها ثلاثةُ أرْباع البرِّ؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصَّى بها ثلاثَ مرَّات، ووصَّى بالأب مرةً واحدة! ومما لا ريب فيه أن الأم هي التي تعِبتْ في حمْل وليدها أكثر ممَّا تعِب الأب، فقد حملتْه في بطنها تسعة أشهر، ولقِيَتْ مِن آلام الوَحَم والحمْل والثِّقل، ما لا يعرفه غيرُ الأمَّهات، وشهدتْ مِن أوجاع الطَّلْق ما شهدتْ، ثم لقِيَتْ مِن آلام الوضع- وربَّما الجراحة- ما لقيتْ، فلهذا لا يستطيع أبٌ أن يقول لها: إنِّي لقيتُ مثل ما لقيتِ! ثم إن الأمَّ أحْوج إلى المعونة والخدمة من الأب؛ لأنه أبسط جسمًا، وأقدر على التحمُّل وعلى ثِقَل العمل ومشاقِّه مِن الأم، ولأن الأبناء أجْرأ على الأمهات، وعلى عصيانهن مِن عصيان الآباء، الذين لهم هيْبة ورهْبة عند الأولاد.

9152

| 24 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: الملفات القرآنية المدمجة لاتأخذ حكم المصحف

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الخامسة والعشرون — الترقِّي في تلاوة القرآن: إذا كان القرآن الكريم يتعبد بتلاوته, فإنه يتعبَّد أيضًا بسماعه, وقد صحَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استمع إلى القرآن من الصحابة. استمَعَ إلى أبي موسى الأشعري, وهو يقرأ القرآن بصوته الجميل، فقال: "لقد أُوتِي هذا مزمارًا من مزامير آل داود". فبلغ ذلك أبا موسى, فقال: "لو علمتُ أنك تسمعُ لحبَّرتُه لك تحبيرًا"( ). واستمع ذاتَ ليلة إلى عبد الله بن مسعود, ومعه أبو بكر وعمر, فوقفوا طويلًا, ثم قال: "من أراد أن يقرأ القرآن غضًّا طريًّا كما أنزل, فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"( ). يعني ابن مسعود. بل نراه صلى الله عليه وسلم يطلب من ابن مسعود أن يقرأ عليه شيئًا من القرآن. قال: قلت: أقرأ عليك, وعليك أنزل؟ قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيري". قال: "فقرأت (النساء). حتى إذا بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]. قال: "كف" أو "أمسك". فرأيت عينيه تذرفان( ). وروت عائشة قالت: أبطأتُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بعد العشاء– تعني في المسجد- ثم جئتُ, فقال: "أين كنتِ؟". قلتُ: كنتُ أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع قبلُ قراءتَه وصوته من أحد! قالت: فقام وقمتُ معه, حتى استمع له. ثم التفتَ إليها فقال: "هذا سالم مولى أبي حذيفة, الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا". وفي عصرنا غدت فرص الاستماع إلى القرآن ميسَّرة وكثيرة من قرَّاء مجيدين خاشعين, يلمسون بقراءتهم أوتار القلوب, وقد انتشرت قراءاتهم عن طريق الأشرطة المسجَّلة, والتي تباع بأثمان زهيدة. ثم هناك الإذاعات الخاصة بالقرآن في أكثر من بلد إسلامي, وهذا من فضل الله على الناس. وهناك القرآن المسجَّل في (الكومبيوتر) والذي أصبح الهواتف المحمولة أو النقالة تحمله الآن، ويسمع فيها بيسر وسهولة. وفي السيارات أمكن لكل سائق يحب الاستماع إلى كتاب الله أن يسمعه. وهناك مصحف مكتوب للمكفوفين، بطريقتهم التي يعرفونها ويتداولونها، وهي التي تسمى طريقة (بريل)، وقد روجعت هذه الطبعة، وأُقِرَّت من الأزهر وغيره، فيمكن لإخواننا- أنار الله بصائرهم- أن يستفيدوا منها، ويُصحِّح بعضهم لبعض ما قد يخطئون فيه. هل لأشرطة القرآن والأسطوانات المدمجة حكم المصحف؟ وقد يسأل الناس اليومَ عن هذه الأشرطة التي سُجِّل فيها القرآن: هل لها حكم المصحف من حيث مسِّها وحملها؟ الظاهر أن قياسها على المصحف في كل شيء ليس مسلَّمًا, لوجود الفارق بينهما, فهذه صماء لا يعرف ماذا في جوفها، حتى توصَّل بآلة معينة, وتوصَّل الآلة بالكهرباء, حتى يُسمع ما فيها، بخلاف المصحف المقروء, فهو بمجرد النظرة إليه يعرف أنه قرآن كريم، ومع هذا يحسن أن تحترم هذه الأشرطة إذا علم أن ما بداخلها كتاب الله. آداب الاستماع إلى القرآن: وكما أن لتلاوة القرآن آدابًا تحدثنا عنها, فإن للاستماع إليه آدابًا أيضًا ينبغي مراعاتها. الإنصات والإصغاء: أول هذه الآداب هو: الإنصات والإصغاء عند ما يتلى القرآن. قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]. ومعنى الإنصات: السكوت مع الاستماع, ولهذا فُسِّر بـ(إحسان الاستماع). فالإنصات يساعد العقل على التدبر, والقلب على التأثر, وكلاهما يساعد الإرادة على التوجه. وهذا ما فعله الجن حينما سمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: تعالى: {إِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:29-31]. التدبر والتأثر والتجاوب: وكل ما ذكرناه في آداب التلاوة؛ من وجوب التدبر وما قبل التدبر من تعظيم الكلام والمتكلم, وما بعد التدبر من التأثر والتجاوب مع كلام الله, وتطبيقه على النفس- كل هذا يقال في الاستماع أيضًا. ولهذا وصف الله المؤمنين بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]. ووصف تعالى عباد الرحمن بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]. سماع المؤمنين المتأثرين بالقرآن: وقد ذكر لنا القرآن من السماع المحمود الذي أثنى عليه أصحابه بالتجاوب السريع مع كتاب الله؛ أنهم إذا تلي عليهم: خرُّوا سُجَّدًا وأذعنوا, وبكاء وخشوعًا, وتسبيحًا وثناء على الله تبارك وتعالى، وهذا ما وصف الله سبحانه الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب من قبل, ونطقت بذلك آيات كتابه العزيز تصفهم أبلغ الوصف, وتصور حالهم أصدق التصوير. ولقد مر بنا هذا الوصف والتصوير ونحن نتحدث عن آداب التلاوة, ولا بأس أن نعيده هنا ونحن نتحدث عن آداب الاستماع, فهؤلاء إنما سمعوا القرآن يتلى عليهم ولم يتلوه هم، فالاستشهاد بهذه الآيات هنا أحق وأولى. يقول تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:106-109]. ومثل هذا ما جاء في وصف جماعة ممَّن آمنوا من النصارى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:83-85] المعرضون عن القرآن: وهناك من لا يريد الاستماع إلى القرآن أصلًا, خشية أن يؤثر في عقله وقلبه, وكذلك لا يريد لغيره أن يسمع له, خوفًا من أن تنفذ أشعَّة القرآن إليه, فيستجيب له, ويغير ما بنفسه. وهذا ما حكاه القرآن عن المشركين, الذي كانوا يشوِّشون على النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلا القرآن, حتى لا يتأثر به شبابهم ونساؤهم, ومن بقي على الفطرة منهم. يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]. الذين سمعوا ولم يسمعوا: ومنهم من يستمع إلى القرآن, وقلبه مغلق, وأذنه صماء, فلا يفقه منه شيئًا, فإن الجحود والمكابرة والعناد قد أقامت سدًّا سميكًا بينه وبين كتاب الله, فلا يسمع ولا يعقل. وهؤلاء هم الذين وصفهم الله في آيات كثيرة من كتابه, مشيرًا إلى الأسباب التي جعلتهم يصمُّون الآذان, ويغلقون القلوب. يقول تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء:45-47]. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]. {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية:7-9]. ومن ثَم يعتبر القرآن هؤلاء المكابرين لم يسمعوا للقرآن؛ لأن أجهزة الاستقبال معطلة لديهم، فلا أذن تسمع, ولا فؤاد يفقه. يقول تعالى: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:1-5] فالمعرض لا يسمع, وإن سمع لا يعي؛ لأنه يحضر بجسمه لا بعقله, بل هو يحاول أن يعطل عقله حتى لا يفكر، وإذا عطَّل الإنسان عقله الذي ميزه الله به, غدا أحط من البهيمة العجماء, وأصبح من شر الدواب, كما عبر القرآن: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22-23]. وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16]. فهؤلاء حضروا بأبدانهم, وعقولهم غائبة, فهم يسمعون الأصوات فقط, دون أن يعوا مضمون القول، ولا عجب أن يقولوا لأهل العلم: ماذا قال آنفًا؟ وأن يعقِّب القرآن عليهم بما عقَّب، وهذا هو سماع المنافقين. هذا هو سماع الذين جعلوا بينهم وبين القرآن حجابًا, صنعه الكبر أو الحسد, أو اتِّباع الهوى, أو الجمود والتقليد, فهم يسمعونه بآذانهم أصواتًا, لكن لا تسمعه قلوبهم معانيَ. عطَّل الجحود واتِّباع الهوى أسماعهم, كما عطَّل أبصارهم وقلوبهم, كما قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179]. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:6-7]. هؤلاء الجاحدون سمعوا, ولم يسمعوا, سمعوا بالأذن, ولم يسمعوا بالعقل والقلب, وفيهم يقول القرآن: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:21-23]. سماع المحرفين للكلم: وذكر لنا القرآن نموذجًا آخر مذمومًا, من الذين يسمعون كلام الله ثم يحرِّفونه عمدًا, لهوى أنفسهم, وفسادٍ في قلوبهم. وهو ما حكاه القرآن عن اليهود, إذا قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:75-77]. وكل هذه أنواع مذمومة من السماع؛ أما السماع المطلوب, فهو سماع المؤمنين الذين يسمعون بآذانهم وعقولهم وقلوبهم، وهم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله, وأولئك هم أولو الألباب. %MCEPASTEBIN%

1398

| 23 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: تجاوب القلب والعقل مع القرآن من لوازم تدبر آياته

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الخامسة والعشرون — الترقِّي في تلاوة القرآن: وهنا درجة ذكرها الغزالي هي الترقِّي يقول: وأعني به أن يترقَّى إلى أن يسمع الكلام من الله عز وجل لا من نفسه. فدرجات القراءة ثلاث: أدناها: أن يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله عز وجل واقفًا بين يديه، وهو ناظر إليه ومستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير السؤالَ والتملُّقَ والتضرُّع والابتهال. الثانية: أن يشهد بقلبه كأن الله عز وجل يراه، ويخاطبه بألطافه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم، والإصغاء والفهم. الثالثة : أن يرى في الكلام المتكلِّمَ، وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه، ولا إلى قراءته، ولا إلى تعلُّق الإنعام به من حيث إنه منعم عليه، بل يكون مقصورَ الهَمِّ على المتكلم، موقوف الفكر عليه، كأنه مستغرِق بمشاهدة المتكلِّم عن غيره. وهذه درجة المقرَّبين، وما قبله درجة أصحاب اليمين، وما خرج عن هذا فهو درجات الغافلين. وعن الدرجة العليا أخبر جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه قال: والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون. وقال أيضًا: وقد سألوه عن حالةٍ لحقته في الصلاة حتى خرَّ مغشيًّا عليه، فلما سُرِّيَ عنه، قيل له في ذلك، فقال: ما زلتُ أردِّد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلِّم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته! ففي مثل هذه الدرجة تعظُمُ الحلاوة ولذة المناجاة. ولذلك قال بعض الحكماء: كنتُ أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة، حتى تلوته كأني أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على أصحابه، ثم رُفِعتُ إلى مقامٍ فوقه؛ كنتُ أتلوه كأني أسمعه من جبريل عليه السلام يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء اللهُ بمنزلة أخرى، فأنا الآن أسمعه من المتكلِّم به، فعندها وجدتُ له لذة ونعيمًا لا أصبر عنه. وقال عثمان وحذيفة رضي الله عنهما: لو طهُرتُ القلوبُ لم تشبع من قراءة القرآن. وإنما قالوا ذلك؛ لأنها بالطهارة تترقَّى إلى مشاهدة المتكلم في الكلام. ولذلك قال ثابتٌ البُنَاني: كابدتُ القرآنَ عشرين سنة، وتنعَّمْتُ به عشرين سنة. قال الغزالي: وبمشاهدة المتكلِّم دون ما سواه، يكون العبد ممتثلًا لقوله عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]. ولقوله: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الذاريات:51]. فمن لم يره — سبحانه — في كل شيء، فقد رأى غيره، وكل ما التفتَ إليه العبدُ سوى الله تعالى، تضمَّن التفاته شيئًا من الشرك الخفي، بل التوحيد الخالص، أن لا يرى في كل شيء إلا الله عز وجل. — التجاوب مع القرآن: ومن لوازم التدبُّر: أن يتجاوب القارئ مع القرآن الذي يتلوه، ويتفاعل بعقله وقلبه مع التلاوة، بأن يكون في حالة حضور ويقظة واستجابة، لا حالة غيبة وغفلة وإعراض، وصفة ذلك: أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان ممَّا قصَّر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مرَّ بآيةِ رحمةٍ استبشر وسأل، أو آيةِ عذابٍ أشفق وتعوَّذ، أو آية تنزيهٍ نزَّه وعظَّم، أو آية دعاءٍ تضرَّع وطلب. أخرج مسلم عن حذيفة، قال: صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلة، فافتتح البقرة، فقرأها، ثم النساء، فقرأها، ثم آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسِّلًا، إذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذَ. وروى أبو داود والنسائي وغيرهما، عن عوف بن مالك، قال: قمتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمرُّ بآية رحمةٍ إلا وقف وسأل، ولا يمرُّ بآية عذاب إلا وقف وتعوَّذ. وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: سبحان ربي الأعلى. وقال الإمام الزركشي في البرهان: اعلم أنه ينبغى لمحُ موقعِ النِّعَم على من علَّمه الله تعالى القرآن العظيم أو بعضه، بكونه أعظم المعجزات، لبقائه ببقاء دعوة الإسلام، ولكونه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، والحجة بالقرآن العظيم قائمة، على كل عصر وزمان؛ لأنه كلام رب العالمين، وأشرف كتبه جل وعلا، فليرَ مَن عنده القرآن أن الله أنعم عليه نعمة عظيمة، وليستحضر من أفعاله أن يكون القرآن حجة له لا عليه؛ لأن القرآن مشتمِل على طلب أمور، والكفِّ عن أمور، وذكر أخبار قوم قامت عليهم الحجة، فصاروا عبرة للمعتبرين، حين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، وأُهلكوا لما عصوا. وليحذَر من علم حالهم أن يعصي، فيصير مآله مآلهم. فإذا استحضر صاحب القرآن علو شأنه بكونه طريقًا لكتاب الله تعالى، وصدره مصحفًا له، انكفَّتْ نفسُه — عند التوفيق — عن الرذائل، وأقبلت على العمل الصالح الهائل. وأكبر معين على ذلك حسن ترتيله وتلاوته. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4]. وقال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء:106]. وينبغى أن يشتغل قلبه في التفكُّر في معنى ما يلفظ بلسانه، فيعرف من كل آية معناها، ولا يجاوزها إلى غيرها حتى يعرف معناها، فإذا مرَّ به آيةُ رحمةٍ وقف عندها، وفرح بما وعده الله تعالى منها، واستبشر إلى ذلك، وسأل الله برحمته الجنةَ. وإن قرأ آيةَ عذابٍ وقف عندها، وتأمل معناها، فإن كانت في الكافرين اعترف بالإيمان، فقال: آمنا بالله وحده. وعرف موضع التخويف، ثم سأل الله تعالى أن يعيذه من النار. وإن هو مرَّ بآيةٍ فيها نداءٌ للذين آمنوا فقال: {يأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا}. وقف عندها — وقد كان بعضهم يقول: لبيك ربى وسعديك — ويتأمل ما بعدها ممَّا أُمِر به ونُهِيَ عنه، فيعتقد قبول ذلك. فإن كان من الأمر الذى قد قصُر عنه فيما مضى؛ اعتذر عن فعله في ذلك الوقت، واستغفر ربه في تقصيره. وذلك مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]. إذا قرأ هذه الآية تذكَّر أفعاله في نفسه وذنوبه فيما بينه وبين غيره من الظُّلامات والغِيبة وغيرها، وردَّ ظُلامته، واستغفر من كل ذنب قصَّر في عمله، ونوى أن يقوم بذلك، ويستحلُّ كلَّ من بينه وبينه شيء من هذه الظُّلامات، من كان منهم حاضرًا، وأن يكتب إلى من كان غائبًا، وأن يرد ما كان يأخذه على من أخذه منه، فيعتقد هذا في وقت قراءة القرآن، حتى يعلم الله تعالى منه أنه قد سمع وأطاع. فإذا فعل الإنسان هذا كان قد قام بكمال ترتيل القرآن، فإذا وقف على آية لم يعرف معناها، يحفظها حتى يسأل عنها من يعرف معناها، ليكون متعلِّمًا لذلك طالبًا للعمل به، وإن كانت الآية قد اختُلِف فيها اعتقد من قولهم أقل ما يكون، وإن احتاط على نفسه بأن يعتقد أوكد ما في ذلك كان أفضل له، وأحوط لأمر دينه. وإن كان ما يقرؤه من الآي فيما قصص الله على الناس من خبر من مضى من الأمم فلينظر في ذلك، وإلى ما صرف الله عن هذه الأمة منه، فيجدِّد لله على ذلك شكرًا. وإن كان ما يقرؤه من الآي ممَّا أمر الله به أو نهى عنه أضمر قبول الأمر والائتمار، والانتهاء عن المنهيِّ، والاجتناب له. وإن كان ما يقرؤه من ذلك وعيدًا وعد الله به المؤمنين؛ فلينظر إلى قلبه، فإن جنح إلى الرجاء فزعه بالخوف، وإن جنح إلى الخوف فَسَح له في الرجاء، حتى يكون خوفه ورجاؤه معتدِلَيْن، فإن ذلك كمال الإيمان. وإن كان ما يقرؤه من الآي من المتشابه الذى تفرَّد الله بتأويله، فليعتقد الإيمان به كما أمر الله تعالى فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]. يعني: عاقبةَ الأمر منه. ثم قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]. وإن كان موعظة اتعظ بها؛ فإنه إذا فعل هذا فقد نال كمال الترتيل. — في كم نختم تلاوة القرآن؟: قال الحافظ السيوطي: يستحبُّ الإكثار من قراءة القرآن وتلاوته. قال تعالى مثنيًا على من كان ذلك دأبه: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113]. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار...". وقد كان للسلف في قدر القراءة عادات، فأكثر ما ورد في كثرة القراءة: من كان يختم في اليوم والليلة ثمانى ختمات: أربعًا في الليل، وأربعًا في النهار. قلتُ معقِبًّا على ما نقله السيوطي: وهل هذا معقول أو متصوَّر؟ إذا كان القرآن، قُسِّم إلى ثلاثين جزءا، والجزء إلى ثمانية أرباع، فأقل ما تستغرقه قراءة الربع بالسرعة والعجلة دقيقتان فيكون المجموع: 30×8×2=480 دقيقة للختمة الواحدة. فإذا ضربناها في ثمانية تكون النتيجة: 480×8=3840 دقيقة. فإذا حسبناها بالساعة تكون النتيجة: 384÷60=64 ساعة أي ما يقارب ثلاثة أيام وثلاث ليال معًا!! وهذا لو افترضنا أنه لا يشتغل بشيء آخر، فكيف والإنسان بطبيعته يلزمه أكل وشرب ونوم وقضاء حاجة، إلى غير ذلك مما تفرضه الحياة البشرية؟ فلا أحسب هذا النقل صحيحًا، ولو صحَّ فهو غير مقبول؛ لأنها قراءة لا تتيح لقارئها فرصة تدبُّر ولا تأمل، ورضي الله عن عائشة فقد أنكرت ذلك . وبعد أن ذكر السيوطي ذلك قال: ويليه: من كان يختم في اليوم والليلة أربعًا، ويليه ثلاثًا، ويليه ختمتَيْن، ويليه ختمة. قال: وقد ذمَّت عائشة ذلك. فأخرج ابن أبي داود عن مسلم بن مخراق، قال: قلتُ لعائشة: إن رجالًا يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثًا. فقالت: قرءوا ولم يقرءوا! كنتُ أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ التِّمَام، فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا ورغِب، ولا بآية فيها تجويف إلا دعا وأستعاذ. ويلي ذلك من كان يختم في ليلتين، ويليه من كان يختم في كل ثلاث، وهو حسن. وكره جماعات الختمَ في أقل من ذلك، لما روى أبو داود والترمذيُّ وصحَّحه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث". وأخرج ابن أبي داود وسعيد بن منصور، عن ابن مسعود موقوفًا، قال: لا تقرءوا القرآن في أقلَّ من ثلاث. وأخرج أبو عبيدٍ عن معاذ بن جبل: أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. وأخرج أحمد وأبو عبيد عن سعيد بن المنذر — وليس له غيره — قال: قلتُ يا رسول الله، اقرأُ القرآن في ثلاث؟ قال: "نعم إن استطعت". ويليه من ختم في أربع، ثم في خمس، ثم في ستٍّ، ثم في سبع، وهذا أوسط الأمور وأحسنها، وهو فعل الكثيرين من الصحابة وغيرهم. أخرج الشيخان عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْرأ القرآن في شهر". قلتُ: إني أجد قوة. قال: "اقرأه في عشر". قلتُ: إني أجد قوة. قال: "اقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك". ويلي ذلك: من ختم في ثمان، ثم في عشر، ثم في شهر، ثم في شهرين. أخرج ابن أبي داود عن مكحول، قال: كان أقوياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرءون القرآن في سبع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك. وقال أبو الليث في البستان: ينبغي للقارئ أن يختم في السَّنَة مرتين، إن لم يقدر على الزيادة. آداب الختم وما يتعلق به: قال الإمام النووي في التبيان: يستحب صيام يوم الختم إلا أن يصادف يومًا نهى الشرع عن صيامه. وقد روى ابن أبي داود باسناده الصحيح: أن طلحة بن مُطرِّف، وحبيب بن أبي ثابت، والمسيَّب بن رافع، التابعيِّين الكوفيِّين رضي الله عنهم أجمعين، كانوا يصبحون في اليوم الذي يختمون فيه القرآن صِيَامًا. ويستحب حضور مجلس ختم القرآن استحبابا متأكدًا، فقد ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الحيض بالخروج يوم العيد، ليشهدن الخير ودعوة المسلمين. يستحب الدعاء عَقِيب الختم استحبابًا متأكَّدًا، وروى الدارمي بإسناده عن حميد الأعرج قال: من قرأ القرآن ثم دعا أمَّن على دعائه أربعة آلافِ مَلَك. وينبغي أن يُلح في الدعاء، وأن يدعو بالأمور المهمة، وأن يُكثر في ذلك في صلاح المسلمين، وصلاح سلطانهم، وصلاح ولاة أمورهم. وقد روى الحاكم أبو عبد الله النيسابوري بإسناده: أن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه، كان إذا ختم القرآن كان أكثر دعائه للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات.

3560

| 22 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي : حضور القلب وترك حديث النفس وسائل تحقق التجرد

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الرابعة والعشرون — أعمال قلبية قبل التدبُّر: للإمام أبي حامد الغزالي في (الإحياء) كلام قوي فيما ينبغي مراعاته قبل (التدبر) من الأعمال الباطنة، وهي: (فهم أصل الكلام. ثم التعظيم. ثم حضور القلب. ثم التدبر. فالأول: فهم عظمة الكلام وعلوِّه، وفضل الله سبحانه وتعالى، ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله، إلى درجة إفهام خلقه. فلينظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه الذي هو صفة قديمة قائمة بذاته إلى أفهام خلقه؟ وكيف تجلَّت لهم تلك الصفة في طي حروف وأصوات، هي صفات البشر؛ إذ يعجز البشر عن الوصول إلى فهم صفات الله عز وجل إلا بوسيلة صفات نفسه، ولولا استتار كُنه جلالة كلامه بكسوة الحروف لما ثَبَت لسماعِ الكلام عرشٌ ولا ثرى، ولتلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه، وسَبُحات نورِه. ولولا تثبيت الله عز وجل لموسى عليه السلام لما أطاق لسماع كلامه، كما لم يطق الجبل مَبَادِي تجلِّيه حيث صار دكًّا. الثاني: التعظيم للمتكلم: فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يُحضر في قلبه عظمةَ المتكلم، ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر، وأن في تلاوة كلام الله عز وجل غاية الخطر، فإنه تعالى قال: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]. وكما أن ظاهرَ جِلد المصحف وورقَه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان متطهرًا، فباطن معناه أيضًا — بحكم عزِّه وجلاله — محجوب عن باطن القلب إلا إذا كان متطهرًا عن كل رجس، ومستنيرًا بنور التعظيم والتوقير، وكما لا يصلح للَمْس جلد المصحف كل يد، فلا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان، ولا لنيل معانيه كل قلب. ولمثل هذا التعظيم كان عكرمةُ بنُ أبي جهل إذا نشر المصحف غُشِيَ عليه ويقول: "هو كلام ربي، هو كلام ربي!" فتعظيم الكلام تعظيم المتكلم، ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكَّر في صفاته وجلاله وأفعاله، فإذا حضر بباله العرش والكرسي، والسماوات والأرض، وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار، وعلم أن الخالق لجميعها، والقادر عليها، والرازق لها واحد، وأن الكلَّ في قبضة قدرته، مترددون بين فضله ورحمته، وبين نقمته وسطوته، إن أنعم فبفضله، وإن عاقب فبِعدله. وهذا غاية العظمى، والتعالي: فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام. الثالث: حضور القلب وترك حديث النفس: قيل في تفسير {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]. أي بجد واجتهاد، وأخذه بالجد: أن يكون متجردًا له عند قراءته، منصرف الهمة إليه عن غيره. وقيل لبعضهم: إذا قرأتَ القرآن تُحدِّث نفسك بشيء؟ فقال: أوشيء أحبُّ إليَّ من القرآن حتى أحدِّث به نفسي؟! وكان بعض السلف إذا قرأ آية لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية. وهذه الصفة تتولَّد عما قبلها من التعظيم، فإن المعظِّم للكلام الذي يتلوه يستبشر به ويستأنس ولا يغفل عنه. ففي القرآن ما يستأنس به القلب إن كان التالي أهلًا له، فكيف يطلب الأنس بالفكر في غيره، وهو في متنزَّه ومتفرَّج؟ والذي يتفرج في المتنزهات لا يتفكر في غيرها)( ). — التخلي عن موانع الفهم: وينبغي لمن يريد أن يتدبَّر القرآن ويتفهَّمه بحقٍّ أمرٌ آخر، وهو ما سماه الغزالي: (التخلي عن موانع الفهم. فإن أكثر الناس مُنعوا عن فهم معاني القرآن؛ لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن. وحُجُب الفهم أربعة: أولها: أن يكون الهمُّ منصرِفًا إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها. وهذا يتولى حفظه شيطان، وُكِّل بالقرَّاء ليصرفهم عن فهم معاني كلام الله عز وجل، فلا يزال يحملهم على ترديد الحرف، يخيِّل إليهم أنه لم يخرج من مخرجه. فهذا يكون تأمله مقصورًا على مخارج الحروف، فأنَّى تنكشف له المعاني؟ وأعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعًا لمثل هذا التلبيس. ثانيها: أن يكون مقلِّدًا لمذهب سمعه بالتقليد، وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع، من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة. فهذا شخص قيَّده معتقده عن أن يجاوزه، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده، فصار نظره موقوفًا على مسموعه، فإن لمع برقٌ على بُعد، وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه، حمل عليه شيطان التقليد حملة، وقال: كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك؟! فيرى أن ذلك غرور من الشيطان، فيتباعد منه، ويحترز عن مثله. ولمثل هذا قالت الصوفية: إن العلم حجاب! وأرادوا بالعلم: العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد، أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون للمذاهب وألقوها إليهم، فأما العلم الحقيقي الذي هو الكشف والمشاهدة بنور البصيرة، فكيف يكون حجابًا وهو منتهى المطلب( ). وهذا التقليد قد يكون باطلا، فيكون مانعًا، كمن يعتقد في الاستواء على العرش التمكُّن والاستقرار (أي كتمكُّن البشر)، فإن خطر له مثلًا في القُّدُّوس أنه المقدَّس عن كل ما يجوز على خلقه، لم يمكنه تقليده من أن يستقر ذلك في نفسه، ولو استقرَّ في نفسه لانجرَّ إلى كشف ثان وثالث.. وتواصل. ولكن يتسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته تقليده بالباطل. وقد يكون حقًا، ويكون أيضًا مانعًا من الفهم والكشف؛ لأنَّ الحق الذي كُلِّف الخلق اعتقادُه له مراتب ودرجات، وله مبدأ ظاهر، وغور باطن، وجمود الطبع على الظاهر يمنع من الوصول إلى الغور الباطن. ثالثها: أن يكون مصرًّا على ذنب، أو متَّصفًا بكبر، أو مبتلًى في الجملة بهوى في الدنيا مطاع، فإن ذلك سبب ظُلمة القلب وصدئه، وهو كالخَبَث على المرآة، فيمنع جَلِيَّة الحقِ من أن تتجلَّى فيه، وهو أعظم حجاب للقلب، وبه حُجِب الأكثرون. وكلما كانت الشهوات أشد تراكمًا، كانت معاني الكلام أشد احتجابًا. وكلما خفَّ عن القلب أثقال الدنيا، قرب تجلِّي المعنى فيه. فالقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدإ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة. والرياضة للقلب — بإماطة الشهوات — مثل تصقيل الجَلاء للمرآة. وقد شرط الله عز وجل الإنابة في الفهم والتذكُّر، فقال تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8]. وقال عز وجل: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13]. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19]. فالذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة؛ فليس من ذوي الألباب، ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب. أقول: ومما يدلُّ لما ذكره الإمام الغزالي هنا: قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]. قال سفيان بن عيينة: سأنزع عنهم فهم القرآن. رابعها: أن يكون قد قرأ تفسيرًا ظاهرًا، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي، وأن من فسَّر القرآن برأيه فقد تبوَّأ مقعده من النار. فهذا أيضًا من الحجب العظيمة. وسنبيِّنُ معنى التفسير بالرأي في الباب الرابع، وأن ذلك لا يناقض قول علي رضي الله عنه: إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن. وأنه لو كان المعنى هو الظاهر المنقول لما اختلفت الناس فيه).

1510

| 21 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: تدبر معاني القرآن والخشوع من أعظم آداب التلاوة

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الثالثة والعشرون — ترتيل القرآن كما أمر الله قراءة القرآن ليست كقراءة غيره من أنواع الكلام، فهو كلام الله تعالى، الذي {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]. ولذا فإن قراءته وتلاوته لها آدابها الظاهرة والباطنة. ومن آدابها الظاهرة: الترتيل. ومعنى الترتيل في القراءة: التأني والتمهل فيها، وتبيين الحروف والحركات، تشبيهًا بالثغر المُرَتَّل، وهو المُنَضَّد المستوي الأسنان. قال السيوطي: (يُسَنُّ الترتيل في قراءة القرآن، قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4]). هذا ما قاله الحافظ السيوطي رحمه الله، ولو قال قائل بوجوب الترتيل لكان أقرب إلى ظاهر ما يدل عليه الأمر القرآني، فإن الأصل في الأوامر القرآنية: أنها تفيد الوجوب، والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم أصلًا، وللأمة تبعًا، ولذا قال الزَركَشي: (على كل مسلم قرأ القرآن أن يرتله). وهذه العبارة أوفق من عبارة السيوطي. وفي البخاري عن أنس، أنه سُئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كانت مدًّا. ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد (الله) ويمد (الرحمن) ويمد (الرحيم).. وفي الصحيحين عن ابن مسعود، أن رجلًا قال له: إنى أقرأ المفصَّل في ركعة واحدة، فقال: هذًّا كَهذِّ الشِّعْر، إن قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيَهم، ولكن إذا وقع في القلب، فيرسخ فيه، نفع. وأخرج الآجُرِّي في أخلاق حملة القرآن، عن ابن مسعود قال: لا تنثروه نثر الدَّقَل، ولا تهذُّوه هذَّ الشِّعْر، قِفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدِكم آخرَ السورة.. وأخرج من حديث ابن عمر مرفوعاً: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارقَ في الدرجات، ورتِّل كما كنتَ ترتِّل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية كنت تقرؤها".. وقال في شرح المهذب: (واتفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع).. قالوا: واستحباب الترتيل للتدبر؛ ولأنه أقرب إلى الإجلال والتوقير، وأشد تأثيرًا في القلب، ولهذا يستحب للأعجمي الذي لا يفهم معناه. وفي النَّشْر: (اختُلف: هل الأفضل الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرتها؟ وأحسن بعض أئمتنا، فقال: إن ثواب قراءة الترتيل أجلُّ قدرًا، وثواب الكثرة أكثر عددًا؛ لأن بكل حرف عشر حسنات). وفي البرهان للزركشي: (كمال الترتيل تفخيم ألفاظه، والإبانة عن حروفه، وألَّا يُدغِم حرفًا في حرف. وقيل: هذا أقلُّه، وأكمله أن يَقرأه على منازله، فإن قرأ تهديدًا لفظ به لفظ المتهدِّد، أو تعظيمًا لفظ به على التعظيم). قال الغزالي: (واعلم أن الترتيل مستحبٌّ لا لمجرد التدبر، فإن العجمي الذي لا يفهم معنى القرآن، يُستحب له أيضًا في القراءة الترتيل؛ لأن ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام، وأشد تأثيرًا في القلب من الهذرمة والاستعجال). — التغنِّي وتحسين الصوت بالقراءة ومن آداب التلاوة المتفق عليها: تحسين الصوت بالقراءة. فالقرآن — بلا ريب — حسن، بل هو في غاية الحسن في ذاته، ولكن الصوت الحسن يزيده حسنًا، فيأخذ بشغاف القلوب، ويهز المشاعر هزًّا. ولكنّ هناك خلافًا في المدى الذي يسوَّغ للقارئ الانتهاء إليه، فهناك من تشدَّد، وهناك من رخَّص، وهناك من توسَّط، وخير الأمور الوسط، ولا خير في الإفراط، ولا في التفريط. وقال السيوطي رحمه الله: (يُسَنُّ تحسينُ الصوت بالقراء وتزيينها، لحديث ابن حبان وغيره: "زَيِّنوا القرآنَ بأصواتكم". وفي لفظ عند الدارمي: "حَسِّنوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا".. وفيه أحاديث صحيحة كثيرة، فإن لم يكن حسن الصوت حسَّنه ما استطاع، بحيث لا يخرج إلى حدِّ التمطيط. وأما القراءة بالألحان، فنصَّ الشافعي في المختصر: أنه لا بأس بها. وعن رواية الربيع الجيزي: أنها مكروهة. قال الرافعي: الجمهور ليس على قولين، بل المكروه أن يفرط في المَدِّ، وفي إشباع الحركات، حتى يتولد من الفتحة ألِفٌ، ومن الضمة واوٌ، ومن الكسرة ياء، أو يُدغَمَ في غير موضع الإدغام، فإن لم ينتهِ إلى هذا الحدِّ فلا كراهة.. قال في زوائد الروضة: والصحيح أن الإفراط على الوجه المذكور حرام يفسُق به القارئُ، ويأثم المستمعُ؛ لأنه عدل به عن نهجه القويم. قال: وهذا مراد الشافعي بالكراهة.. قال النووي: ويستحب طلب القراءة من حسن الصوت والإصغاء إليها، للحديث الصحيح، ولا بأس باجتماع الجماعة في القراءة ولا بإدارتها، وهي أن يقرأ بعض الجماعة قطعة، ثم البعض قطعة بعده). — التلاوة بين الجهر والإسرار: وردت أحاديث تقتضي استحباب رفع الصوت بالقراءة، وأحاديث تقتضي الإسرار وخفض الصوت. فمن الأول حديث الصحيحين: "ما أَذِن الله لشيءٍ ما أَذِن لنبيٍّ حُسن الصوت، يتغنَّى بالقرآن يجهر به". ومن الثاني حديث أبي داود والترمذي والنسائي: "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرُّ بالقرآن كالمسرِّ بالصدقة". قال النووي: (والجمع بينهما أن الإخفاء أفضلُ، حيث خاف الرياء، أو تأذَّى مصلُّون أو نيام بجهره، والجهر أفضل في غير ذلك؛ لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همَّه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويَطرُد النوم، ويزيد في النشاط. ويدل لهذا الجمع حديث أبي داود بسند صحيح، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف السِّتْر، وقال: "ألا إن كلَّكم مناجٍ لربِّه، فلا يؤذينَّ بعضُكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعضكم في القراءة". وقال بعضهم: يستَحَبُّ الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها؛ لأن المُسِرَّ قد يمَلُّ فيَأنَس بالجهر، والجاهر قد يكِلُّ فيستريح بالإسرار). وروى أبو داود عن أبي هريرة أنه قال: كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل يرفع طورًا، ويخفض طورًا. — وجوب تدبر القرآن: ومن أعظم آداب التلاوة الباطنة: التدبر لمعاني القرآن. ومعنى التدبر: النظر في أدبار الأمور، أي في عواقبها، ومآلاتها، وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكر: تصرُّف القلب أو العقل بالنظر في الدليل، والتدبر: تصرفه بالنظر في العواقب.. وقد بيَّن لنا منزِّل القرآن سبحانه أنه لم ينزله إلا لتُتَدبَّر آياته، وتُتَفهَّم معانيه، يقول عز وجل يخاطب رسول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].. ويقول في معرِض الحضِّ والتحريض: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. وروى ابن عبد البر في (جامع بيان العلم) عن علي رضي الله عنه: ألا لا خيرَ في عبادة ليس فيها تفقُّه، ولا في علم ليس فيه تفهُّم، ولا في قراءة ليس فيها تدبُّر!. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لَأن أقرأَ (إذا زُلزت) و(القارعة) أتدبَّرُهما، أحبُّ إليَّ من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرًا. وعن زيد بن ثابت قال: لَأن أقرأَ القرآن في شهر أحبُّ إليّ من أن أقرأه في خمس عشرة، ولَأن أقرأَه في خمس عشرة أحبُّ إلي من أن أقرأَه في عشر، ولَأن أقرأَه في عشر أحبُّ إلي من أن أقرأه في سبع: أقف وأدعو. وذلك أن الأناة في القراءة تبيح الفرصة للتأمل والتدبر، وهو الغاية المنشودة من القراءة.

2434

| 20 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: تقديم الحفظ على الفهم خلل في الأولويات

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الثانية والعشرون روى البخاري في صحيحه، عن عثمان -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه".فالقرآن هو أفضل ما يتعلم، وأفضل ما يُعلَّم. قال الزركشي في (البرهان): (قال أصحابنا: تعليم القرآن فرض كفاية وكذلك حفظه واجب على الأمة، والمعنى فيه- كما قال الجوينى- ألا ينقطع عدد التواتر فيه، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف. فإن قام بذلك قومٌ سقط عن الباقين، وإلا فالكلُّ آثِمٌ، فإذا لم يكن في البلد أو القرية من يتلو القرآن أثموا بأسرهم، وإذا كان هناك جماعة يصلحون للتعليم، وطلب من بعضهم وامتنع لم يأثم في الأصح كما قاله النووي في (التبيان)، وصورة المسألة: فيما إذا كانت المصلحة لا تفوت بالتأخير، فإن كانت تفوت لم يجز الامتناع). ولكن ما المراد بتعلُّم القرآن وتعليمه؟ هل المراد بذلك: حفظُ كلمات القرآن وحروفه عن ظهر قلب، وهي المهمة التي كانت الكتاتيب تقوم بها قديمًا، وما زال بعضها إلى اليوم وتقوم بها مدارس التحفيظ حديثًا، قد يدخل ذلك في المراد بالتعلُّم والتعليم، وقد يرى بعض الناس أن هذا وحده هو المراد، ولا شيءَ غيره ولعل هذا هو سر الاهتمام البالغ بحفظ القرآن، وتكريم حفظته، ورصد الجوائز والمكافآت الضخمة من الأموال للحُفَّاظ، حتى إن بعض الحفاظ أخذ في مسابقة في دولة قطر خمسين ألف ريال وسيارة بأكثر من ذلك. وفي السنة التالية حصل على قريب من ذلك! وهذا ما جعلني أنتقد هذا التوجه في كتابي (في فقه الأولويات)، حيث غدا عندنا الحفظ أهم من الفهم والحافظ مقدَّمًا على الفقيه. ولقد جعل القرآن من مهام النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تعليم الكتاب والحكمة) وهذا في أربع آيات من القرآن. ولا ريب أن هذا التعليم ليس هو (التحفيظ) بدليل أنه معطوف على تلاوة الآيات عليهم: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164] فالتعليم أخص من التلاوة.إن هذا التعلم والتعليم هو الذي عبَّرَتْ عنه بعضُ الأحاديث بـ(التدارس). ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده". ومعنى تدارس القرآن: محاولة التعرُّف على ألفاظه ومبانيه، وعلى مفاهيمه ومعانيه، وما يرشد إليه من العِبَر، وما يدل عليه من الأحكام والأخلاق والآداب. و(التدارس): تفاعُلٌ من الدرس ومعناه: أن أحد الطرفين أو الأطراف يقوم بالسؤال والثاني يجيب والثالث يستدرك والآخر يصحح أو يستكمل، وهذا هو المراد من التدارس. وهذا التدارس هو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم به مع أمين الوحي جبريل عليه السلام في شهر رمضان من كل سنة، كما روى ذلك ابن عباس رضي الله عنهما عندما ينزل عليه جبريل في رمضان فيدارسه القرآن. وأنعِم بمدارسة طرفاها الأمينان العظيمان: أمين الله في السماء، وأمين الله في الأرض! جبريل ومحمد، عليهما الصلاة والسلام. فلا يكفي في تعلُّم القرآن، أن يحفظ الإنسان سطوره، ويستظهر آياته ثم لا يفهم لها معنى، وإن كان هو مُثابًا على مجرد الحفظ والاستظهار حسب نيته، وإنما عليه أن يفهم- ما استطاع- ماذا يريد الله منه بقدر ما يتسع له واديه من المعرفة: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17]. يدل على ذلك ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الصُّفَّة فقال: " أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بُطحانَ- أو إلى العقيق- فيأتي منه بناقتين كَوْمَاوَيْن، في غير إثم ولا قطع رحم؟". فقلنا: يا رسول الله، كلنا نحب ذلك. قال: "أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد، فيتعلم- أو فيقرأ- آيتين من كتاب الله -عز وجل- خير له من ناقتين وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاث، وأربعٌ خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل!". بُطحان: موضع بقرب المدينة والعقيق: وادٍ بالمدينة والكَوْماء: هي الناقة العظيمة السَّنام. وأحسب أن تعلُّم الآيتين أو الثلاث أو الأربع هنا: لا يعني حفظ حروفها فقط، وإنما يراد تعلُّم ما فيها من العلم والعمل جميعًا، ولهذا قلَّل الحديث أعدادَها، حتى يُتمكَّن من العلم والعمل معًا. وهذه كانت طريقة الصحابة -رضي الله عنهم- في تعليم القرآن- كما بينا ذلك من قبل- وبهذا تكون الآية التي يتعملها المسلم نورًا وبرهانًا له يوم القيامة، كما روى أبو أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلَّم آية من كتاب الله, استقبلته يوم القيامة تضحك في وجهه". - أخذ الأجر على تعليم القرآن: اختلف العلماء في جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن، فقال جماعة: يجوز أخذ الأجرة على التعليم، ففي صحيح البخاري: "إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله". وقيل: إن تعيَّن عليه لم يجُز، واختاره الحَلِيمي. وقال أبو الليث في كتاب (البستان)( ): التعليم على ثلاثة أوجه: أحدها: للحسبة، ولا يأخذ به عوضًا. والثانى: أن يعلِّم بالأُجرة. والثالث: أن يعلم بغير شرط، فإذا أهدى إليه قَبِل. فالأول: مأجور عليه وهو عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والثانى: مختلف فيه. قال أصحابنا المتقدمون: لا يجوز؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "بلغوا عنى ولو آية". وقال جماعة من المتأخرين: يجوز. قالوا: والأفضل للمعلم ألَّا يُشارط الأجرةَ للحفظ وتعليم الكتابة؛ فإن شارط لتعليم القرآن أرجو أنه لا بأس به؛ لأن المسلمين قد توارثوا ذلك واحتاجوا إليه. وأما الثالث: فيجوز في قولهم جميعًا؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان معلِّمًا للخلق، وكان يقبل الهدية، ولحديث اللَّدِيغ لمَّا رَقَوْه بالفاتحة، وجعلوا له جُعْلًان وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "واضربوا لى معكم فيها بسهم". وفي حديث آخر أجاز الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكون تعليم القرآن صداقًا لإحدى النساء، وذلك حين طلب النبي من الرجل أن يلتمس ولو خاتمًا من حديد, فلم يجده, ثم سأله عمَّا معه من القرآن، فوجد عنده عدة سورة يقرؤها عن ظهر قلب فقال للرجل: "اذهب فقد ملَّكتُكها بما معك من القرآن". أي على أن يعلمها تلك السُّوَر. وهذا كلُّه في تعليم القرآن، أما تلاوته فلا يجوز أخذ الأجر عليها؛ لأن الأصل في التلاوة أنها عبادة، والأصل في العابد أن يتعبد لنفسه، فكيف يأخذ على عبادته لربه أجرًا من غيره، وهو إنما يؤديها مبتغيًا بها وجهه عز وجل! وقد روى عبد الرحمن بن شبل، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اقرءوا القرآن واعملوا به، ولا تجفُوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به". وروى عمران بن حصين عنه -صلى الله عليه وسلم - قال: "اقرءوا القرآن وسلوا الله به قبل أن يأتي قوم يقرءون القرآن فيسألون به الناس". أما إذا أُعطي قارئ القرآن شيئًا على سبيل الصدقة أو الهِبة فلا حرج في ذلك إن شاء الله، وهذا ما يجرى عليه كثير من الناس في المدن والقرى، وخاصة عندما يموت الرجل أو المرأة من أهل البيت، فيدعون حفَّاظَ القرآن، ليقرؤوا ما يُطلب منهم على فلان الذي توفاه الله، ثم يُعطون له شيئًا من المال صدقة عليهم، ولا سيما أن كثيرًا منهم فقراء، فهم أهل للصدقات. - المداومة على تلاوة القرآن تلاوة حسنة: أنزل الله كتابه الخالد (القرآن) لتتلوه الألسنة وتستمع إليه الآذان، وتتدبره العقول وتطمئن به القلوب، حتى إن العلماء ليذكرون في تعريف القرآن: أنه المتعبد بتلاوته. وحتى تميز وحي القرآن عن وحي السنة بأن القرآن وحي متلوٌّ، والسنة وحي غير متلو. وقد قالت الموسوعة البريطانية (تحت عنوان محمد): إن القرآن هو أوسع الكتب تلاوة على وجه الأرض، ومن هنا جاءت آيات الكتاب العزيز, وأحاديث الرسول الكريم, تحثُّ عى التلاوة, وترغِّب فيها، وتعِد عليها بالثواب الجزيل, والأجر العظيم. يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29-30]. وقد مدح القرآن طائفة من أهل الكتاب بأنهم: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113]. فإذا كانوا ممدوحين مأجورين بتلاوة آيات الكتب التي أنزلها الله قبل القرآن، فما بالكم بتلاوة أعظم كتب الله, وهو القرآن؟! هذا إذا لم يكن المراد بآيات الله القرآن ذاته, وهو دليل على أنهم آمنوا به.وعن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السَّفَرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن يتتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجران". وإنما كان له أجران؛ لأنه يؤجر على القراءة ذاتها، ويؤجر على ما يعانيه من الشدة والتتعتع والمشقة، وفي هذا دليل على مزيد حرصه على القراءة، وقوة رغبته فيها، رغم مشقتها عليه، وكم من مسلم كانت قراءة القرآن ثقيلة على لسانه، فما زال يكابد ويقرأ، حتى لان لسانه بالقرآن. وعن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه". وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف". وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل علَّمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار،فسمِعَه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثلَ ما أوتي فلان، فعملتُ مثل ما يعمل! ورجل آتاه الله مالًا، فهو يُهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل". والمراد بالحسد في الحديث: الغبطة وهو أن يتمنى أن يكون له مثل ما للشخص المحسود من الخير والنعمة، وهذا محمود، بخلاف الحسد، بمعنى تمني زوال النعمة عن الغير، فهذا من كبائر معاصي القلوب. وقد بين الحديث الصحيح أن قراءة القرآن تؤثر حتى في المنافق والفاجر.فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "مَثَل المؤمن الذي يقرأ القرآن، مثل الأُترُجَّة: ريحها طيب، وطعمها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمَثَل التمرة: لا ريح لها وطعمُها حلو. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة: ريحها طيب، وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة: ليس لها ريح وطعمها مر". فبين أن القراءة لها نوع من التأثير أشبه بتأثير الرائحة الطيبة، لا تأثير الطعم الحلو، حتى إنها تؤثر في المنافق أو الفاجر. وقال أبو هريرة: إن البيت الذي يتلى فيه القرآن، يتسع بأهله، ويكثُر خيره، وتحضره الملائكة، وتخرج منه الشياطين، وإن البيت الذي لا يتلى فيه القرآن، يضيق بأهله، ويقل خيره وتخرج منه الملائكة، وتحضره الشياطين. وروى عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقال لصاحب القرآن (أي يوم القيامة): اقرأ وارقَ ورتِّل كما كنتَ ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها". وللقرآن تأثير عجيب في قلب الإنسان، شهد به كل من سمعه من مسلم وكافر، وهو ما جعل المشركين من أهل مكة يحاولون التشويش عليه عند تلاوته خوفًا على نسائهم وصبيانهم وضعفائهم من سماعه، فقد يتأثرون به، ويؤمنون برسالة من بعثه الله به. يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]. وقد كان بعض المشركين يستمعون للقرآن خِلْسة بعضهم من وراء بعض، حتى يضبط أحدُهم الآخرَ متلبِّسًا بسماع القرآن. وسمع الوليد بن المغيرة من النبي-صلى الله عليه وسلم- آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. فقال له: أعد عليَّ. فأعاد.. فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة،وإن أسفله لمُغدِق، وإن أعلاه لمُثمِر، وما يقول هذا بشر!. وقد سمعه الجن فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1-2]. ولقد أجرى د. أحمد القاضي ومعه بعض الأطباء المسلمين– في مستشفاهم الخاص بولاية (فلوريدا) بأمريكا؛ مستشفى أكبر- تجارب على عدد من المرضى يسمعونهم القرآن ويسجلون بالأجهزة الحساسة مدى تأثير القرآن عليهم، وفيهم المسلم وغير المسلم والعربي وغير العربي، والعجيب أنهم وجدوا تأثير القرآن عليهم –جميعًا- تأثيرًا إيجابيًّا بنسب متفاوتة. فالعربي المسلم غير العربي الذي ليس بمسلم، والمسلم الذي ليس بعربي، ولكن الكل تأثروا، حتى الذي ليس بمسلم وليس بعربي،وهذا يدل على أن في هذا الكلام سرًّا خاصًّا، لا يوجد في أي كلام آخر من كلام البشر، نثرًا أو شعرًا.

3093

| 19 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: إعداد القوة المستطاعة للدفاع عن الأمة فريضة

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة العشرون استكمالا للحلقة السابقة... لا يجوز لإمامنا الغزالي وأمثاله من المؤمنيين بفكرة العزلة: أن يقفوا في وجه الأمَّة إذا أرادت النهوض بواجباتها الكبرى، في حماية الأمة من أعدائها, وتقويتها من داخلها، بحسن الزراعة، والصناعة، والتنمية، والتربية، والتعليم، والتفنن، في مختلف جوانب الحياة, وسد كل أبواب الشرور، والمفاسد، والفتن، ما ظهر منها وما بطن. وإعداد القوة المستطاعة للدفاع عنها في الداخل والخارج، وإقامة العدل بين الناس، وإقامة الموازين بالقسط، وإرساء دعائم الحق في القضاء والتشريع والإعلام، والحكم والتنفيذ وأداء الأمانات إلى أهلها. ولذلك لا أوافق على ما قاله الغزالي في كتابه (منهاج العابدين): (ثم عليك– رفعك الله وإيانا لطاعته– بالتفرد عن الخلق, ولذلك لأمرين : أحدهما: أنهم يشغلونك عن عبادة الله عز وجل، على ما حُكِي عن بعضهم: أنه قال: مررت بجماعة يترامَوْن بالسهام (يتعلمون التهديف) وواحد جالس بعيدًا عنهم، فأردت أن أكلمه، فقال‏:‏ ذكر الله أشهى إليَّ من كلامك. فقال‏:‏ أنت وحدك! فقال‏:‏ معي ربي وملكاي. فقلت‏:‏ من سبق من هؤلاء؟ قال‏:‏ من غفر الله له. فقلت له‏:‏ أين الطريق؟ فأشار بيده نحو السماء، وقام وتركني، وقال: أكثر خلقك شاغل عنك!). قال الغزالي: (فالخلق إذن يشغلونك عن العباد، بل يمنعونك عنها، بل يوقعونك في الشر والهلاك، على ما قال حاتم الأصم رحمه الله: طلبتُ من هذا الخلق خمسة أشياء، فلم أجدها: طلبتُ منهم الطاعة والزهادة، فلم يفعلوا، فقلت‏:‏ أعينوني عليهما إن لم تفعلوا. فلم يفعلوا، فقلتُ‏:‏ ارضوا عني إن فعلتُ. فلم يفعلوا، فقلت‏:‏ لا تمنعوني عنهما إذن. فمنعوني، فقلت‏:‏ لا تدعُوني إلى ما لا يرضى الله العظيم، ولا تعادوني عليه إن لم أتابعكم، فلم يفعلوا، فتركتهم واشتغلت بخاصة نفسي)( ). وأرى أن هذه الأقوال لا توجب البُعد عن الناس، وإن هذا الرجل الذي جلس وحده، وترك مَن حوله من الرجال الذين يتسابقون في فن الرماية والتهديف، في هذا الوقت الذي يهدِّد المسلمون من جيرانهم من الروم أو من الصلبيين، يتعيَّن عليهم أن يتدرَّبوا، وأن يعدوا أنفسهم وشبابهم للأيام القادمة، التي يعد لها الرجال، وتنتظر الأبطال: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:5-6]. ولا نرى أنه حين تدخل الأمة في حروب مع أعدائها الذين يتربصون بها، مثل الصلبيين الذين ظهروا في أواخر أيام الغزالي، ومثل التتار الذين ظهروا بعده، ومثل أعداء الإسلام الذين ما زالوا يظهرون يومًا بعد يوم: أن الحل للصالحين والمتعبدين من أبناء الأمة أن يفرُّوا إلى الخلوات والفلوات، ويغيبوا عن أعين الناس. بل الواجب عليهم أن يكونوا كما كان الأولون من رجال السلف الصالحين من أمثال إبراهيم بن أدهم، وعبد الله بن المبارك، وأمثالهما في صفوف المجاهدين. ولا سيما في هذه الأيام، فالجهاد الآن والأمة يُغار عليها؛ أصبح فرض عين على الرجال القادرين على التأثير، لم يعد بإمكان الصالحين الفرار من الناس، فإن الأجهزة الإعلامية الحديثة تدخل عليهم مضاجعهم, وتسمعهم كل صوت, وتريهم كل صورة وكل واقعة. والأمة تحتاج إلى كل واحد منهم، ليسد فيها ثغرة، ويستر فيها عورة، ويبني فيها حجرًا، ويغرس فيها شجرة، ويتعاون مع الصالحين من أمثاله، كما قال الرسول الكريم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا". وشبَّك بين أصابعه( ). ثم على هؤلاء أن يكوِّنوا منهم ومن غيرهم جنودًا قادرين على الدفاع عن الأمة إذا غُزِيَت, وقادرين على أن يردُّوا الغزاة, بما لديهم من أسلحة تفوق أسلحتهم, كما قال تعالى في صلاة الخوف: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102]. لسنا مع الغزالي في أن العزلة واجبة الآن, بل الواجب الآن لإحياء الأمة الإسلامية، وبعثها من جديد: إيمانيًّا وفكريًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، ومن الإسهام معًا في سد ثغراتها، وتكميل ما نقص منها، ومقاومة النزعات العرفية والعصبية، واللادينية التي تريد أن تمزقها إلى أمم شتى، لا بد للأمة المسلمة الكبرى من العمل الجاد، والعمل الإسلامي، والعمل الجماعي, وأن يتحد أبناء الأمة فيما يجب عليهم, لأنفسهم, ولأسرهم, ولمجتمعهم الصغير, ولأمتهم الكبرى, ولدولتهم القريبة والمتظرة, وللإنسانية جمعاء. الأمة الإسلامية مدعوة لتبليغ رسالة الله إلى العالم, فهل بلغتها؟ هل عندها من الدعاة بلغات العالم من يستطيعون أن ينادوا كل أمة بلسانها إلى الإسلام؟ ليس عندنا– والله– عُشر المعشار، ولا أقل منه من المطلوب لنشر الإسلام في العالم, في حين أن رجال التنصير عندهم ملايين معدُّون للتنصير في كافة القارات, وبكل اللغات, وسائر الأساليب والآليات, ولتنصيرنا نحن المسلمين, فقد أصبحنا نحن من المهيَّئين لغزوهم, وعقدوا لذلك لذلك المؤتمرات, وأصدروا لذلك المنشورات,. وصرخنا في المسلمين أن يهيئوا قِوَامًا ليدافعوا عن الأمة, ويحموا المسلمين من هجمات التنصير. الأمة الإسلامية مدعوة من أقصاها إلى أقصاها: أن تخرج من دائرة العالم الثالث, المطوبة إليه كلها, وهو عالم التخلف والتدهور, والرضا بالدون, والقليل الهُون, والوقوف في طابور الانتظار, ليعطيك المعطون من فضول نِعَمهم, وفضلات أراذالهم, وما كانوا يلقون في صنايق القمامة, ونحوها, وأنت– للأسف– راض بما يلقى إليك؛ لأنك لا تعمل وهم يعملون, ولا تنتج وهم ينتجون, ولا تفكر وهم يفكرون. وكيف يستوي اثنان: أحدهما يقول: أنا لي عقل به أفكر, وعين بها أُبصر, وأذن بها أسمع, ويد بها آخذ وأعطي. وآخر يقول: ما لي عقل به أفكر, ولا عين بها أبصر, ولا أذن بها أسمع, ولا يد بها أبطش؟! كالذين جعلهم الله حطب جهنم حين قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. الأمة الإسلامية مدعوَّة أن تعود إلى العالم من جديد، أن تبني نفسها من جديد, تعمِّر بناءها كله، الذي فرَّطت فيه، ولم توجِّه همتها إليه: بناء الفرد بناية سليمة, كما أراده الله تعالى, واعي الفكر, طاهر القلب، خيِّر الوجدان, قوي الإرادة, صحيح الجسم, جيِّد التعلُّم, قادرًا على العمل, يعمل في الزارعة أو الصناعة, أو الإدارة, أو أي عمل يقدِّم خيرًا أو خدمة للأمة, تكبر أو تصغر, ولا يعيش عالة على الناس, يأكل من زرعهم, ولم يزرع أو يساهم في زرع, ويلبس ويداوي, ويستفيد مما صنعت أيديهم, وهو لم يشارك في صنعة, ولم يسهم في أي عمل يفيد الدنيا بشيء, أي شيء. فكيف يستحق الطعام الذي يأكله, أو الماء الذي يشربه؟ أو اللباس الذي يستره, أو المدرسة التي تعلمه, أو الجامعة التي تنضجه؟! لا بد للأمة من أن تبني الأفراد, وأن تبنى الأسر, وأن تبنى المجتمعات, ثم تبنى الأمة الكبرى، أمة الرسالة، أمة الهداية للعالم، تبنيها كلها بالعلم والأدب, والتربية والحرية؛ فهذه هي الحجارة الأساسية التي يلزم جمعها وصفها ورصها وإلصاق بعضها ببعض, لكي تبنيَ الأمم, وأهم ما تُبنى عليه الأمم الأخلاق، كما قال شوقي: فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُو ذهبت أخلاقهم ذهبوا وقال أيضًا: وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقـم عليهم مأتـمًا وعـويلَا لا بد بعد بناء الأمة أن يجتمع بعضنا مع بعض, وإلَّا لم يكن هناك معنى لكلمة (أُمَّة), فالأمة هي مجموع الشعوب الإسلامية، وإن اختلفت أوطانها, واختلفت أصولها, واختلفت لغاتها, واختلفت طبقاتها ومذاهبها, المهم أن يقوم البناء على التوحيد، وعلى عبادة الله وحده, وعلى أركان الإسلام العقدية والعملية, {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:136]. ولا بد أن تتوحد وتجتمع وتتلاقى وتتساند, وتتضامن وتتعاون, لتكون, كما وصفا رسولها, كالجسد الواحد, وكالبنيان الواحد, الذي يشد بعضه بعضا( ). ولا بد أن تهيئ نفسها للجهاد في سبيل الله, فهي أمة يُطمح في خيرها, ويُخاف من بأسها, فيلزمها أن تكون قوية قوة عسكرية مرهوبة, تحمي ولا تهدد, وتحفظ ولا تبدد, وتيسر ولا تشدد, كلُّ شدَّتِها على من يعتدي عليها, أو على حرماتها, أو على عقيدتها أو على أبنائها. ولذا قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]. هذا ما نريده من كل وارث لتفكير الإمام الغزالي أن يفكر فيه, فلا يقول أحد: إن المهم في الإسلام هو الفرد, بل المهم هو الفرد وهو الأسرة وهو المجتمع, وهو الأمة كلها. ولهذا خاطب الله في القرآن منذ نشأ المجتمع في المدينة بصيغة الجماعة دائمًا: {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آَمَنُوْا} ولم يقل: يا أيها المؤمن, بل ذكر الأمة, وذكرها بصيغة الجمع: (المؤمنون), و(المؤمنين). والإمام الغزالي الفقيه الشافعي الكبير في كتبه: (الكبير) و(الوسيط) و(الوجيز), وصاحب (المستصفى) في الأصول؛ لا يخفى عليه ما تتطلبه الأمة, وخصوصًا في عصور الصراع الحادِّ بين الأديان والفلسفات والأيديولوجيات, وتداعى الأمم المختلفة على أمتنا كما تتداعى الآكلة على قصعتها. هنا تظهر الأمة المسلمة بأبنائها وأسلحتهم، وعتادهم وتنظيمهم, ولا يجوز لجماعة أن يدعوهم داع في هذا الموقف إلى الخَلوة, والابتعاد عن الأمة؛ لأن الأمة إذا تخلى عنها أبناؤها الأقوياء, فمن لها؟ ومن يذود عن حياضها؟ ومن يدافع عن حرماتها وأعراضها؟ ولا مانع من أن نأخذ كل ما يذكره الغزالي هنا, مما قاله السلف عن أزمانهم, ونذكر ما يجب قوله عن أزماننا, لا لنعتزل، ولكن لتستعد له الأمة لتغيِّر ما بأنفسها, حتى يغيِّر الله ما بها؛ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]. وسأنقل لك هنا ما ذكره الغزالي وغيره عن سوء حال الزمان, منها ما ذكره ابن مسعود رضي الله عنه في خبرٍ للحارث بن عميرة أنه قال له: (إن يُدفَع عن عمرك, فسيأتي عليك زمان كثير خطباؤه, قليل علماؤه, كثير سؤَّاله, قليل معطوه, الهوى فيه قائد العلم. قال: ومتى ذلك؟ قال: إذا أميتَتِ الصلاة, وقُبلت الرِّشَا, ويُباع الدين بعرَضٍ يسيرٍ من الدنيا, فالنجاءَ النجاء, ويحَك ثم النجاء). والنجاء هنا في الالتحاق بركب الدعاة والصالحين. قال الغزالي: (وجميع ما ذكر في هذه الأخبار, تراه بعينك في زمانك وأهله, فانظر لنفسك، ثم إن السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعوا على التحذير من زمانهم وأهله, وآثروا العزلة, وأمروا بذلك, وتواصوا به, ولا شك أنهم كانوا أبصر وأنصح, وأن الزمان لم يصر بعدهم خيرًا مما كان, بل أشر منه وأمرُّ. وهذا ما ذكر عن يوسف بن أسباط أنه قال: سمعت الثوري يقول: والله الذي لا إله إلا هو, لقد حلَّت العزلة في هذا الزمان). قلتُ (القرضاوي): قد يقول أهل زماننا: لئن حلَّت في زمان الثوري ففي زماننا هذا وجبت وافتُرضت!! (وعن سفيان الثوري أيضًا: أنه كتب إلى عبَّاد الخوَّاص رحمه الله: أما بعد, فإنك في زمان كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتعوذون بالله من أن يدركوه فيما بلغنا, ولهم من العلم ما ليس لنا, فكيف بنا حين أدركناه على قلة علم, وقلة صبر, وقلة أعوان على الخير, وكدر من الدنيا, وفساد من الناس؟ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: في العزلة راحة من خلطاء السوء وعن داود الطائي رحمه الله: صُم عن الدينا, واجعل فطرك الآخرة, وفِرَّ من الناس فرارَك من الأسد. وعن أبي عبيدة: ما رأيتُ حكيمًا قطُّ إلا قال لي في عقب كلامه: إن أحببتَ إلا تُعرف, فأنت من الله على بال. والأخبار في هذا الباب أكثر من أن يحتملها هذا الكتاب. وقد صنفنا فيه كتابا مفردًا, وسميناه كتاب (أخلاق الأبرار والنجاة من الأشرار), فقف عليه ترى العجب العجاب, والعاقل يكفيه إشارة. والله ولي التوفيق والهداية بفضله)( ). هذا يمكن أن يؤخذ به عندما تكون الأمة في حال قوة وغلبة على أعدائها. وقد استكملت كل قوتها، وبنت نفسها من كل ناحية، وأما إذا بدأ غرور الدنيا وزخرفها يسيطران على الناس، ويغري كثيرًا منهم بالافتتان والضياع مع الضائعين؛ فأنا أرى أن الأَوْلى للمؤمن القوي أن يشتغل بدعوة الناس إلى الحق والخير، ويعظهم بالله والدار الآخرة، ويقيم مع الصالحين جمعيات ربانية الوجهة، محمدية الطريق، وإن جاز هنا أن يُفَضِّل بعض الناس العزلة. ولكن في عصرنا لم تعُد العزلة ممكنة، وأعداء الإسلام يجمعون الناس من كل حَدَب وصوب؛ ليبشروا أمة المسلمين، ويفتنوهم عن دينهم، ويفرقوهم بعضهم عن بعض. فالأولى لنا أن نفكر دائمًا بعقلية الجماعة، وعقلية الدعوة، وعقلية الأمة الواحدة، وبهذا يجب أن يصطفَّ الجميع، كما يصطف المصلون وراء إمامهم، داعين الله تعالى أن يتم عليهم النعمة، ويهديهم صراطًا مستقيمًا، وينصرهم نصرًا عزيزا. %MCEPASTEBIN%

2215

| 17 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي : أدب المرء عنوان سعادته وفَلاحِه

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الثامنة عشر استكمالا للحلقة السابقة... من الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم: ألَّا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرُّف، حتى يأمر هو، وينهى ويأذن، كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الحجرات:1]. وهذا باقٍ إلى يوم القيامة ولم يُنسخ، فالتقدُّم بين يدَيْ سُنَّتِه بعد وفاته، كالتقدُّم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم. قال مجاهد رحمه الله: لا تفتاتوا على رسول الله. وقال أبو عبيدة: تقول العرب: لا تُقَدِّم بين يدي الإمام وبين يدي الأب، أي: لا تَعْجَلوا بالأمر والنهي دونه. وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر، ولا تَنْهَوا حتى ينهى. لا تُرفع الأصواتُ فوقَ صوتِه ومن الأدب معه ألَّا تُرفع الأصواتُ فوق صوته، فإنه سببٌ لحُبوط الأعمال! فما الظنُّ برفع الآراء ونتائج الأفكار على سُنَّته، وما جاء به؟!! أترى ذلك موجبًا لقبول الأعمال، أم رفعُ الصوت فوق صوته موجبًا لحبوطها؟! ومن الأدب معه: ألَّا يجعل دعاءه كدعاء غيره، قال تعالى: "لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاًَ" (النور:63). وفيه قولان للمفسرين: أحدهما: أنكم لا تدعونه باسمه، كما يدعو بعضكم بعضًا، بل قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله. فعلى هذا: المصدر مضافٌ إلى المفعول، أي: (لا تجعلوا) دعاءَكم الرسولَ صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن المعنى لا تجعلوا دعاءَه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضاً؛ إن شاء أجاب وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بُدٌّ مِن إجابته، ولم يَسعْكم التخلفُ عنها البتة، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، أي: دعاؤه إياكم. ألَّا يُستشكل قولُه ومن الأدب معه: ألَّا يُستشكل قوله، بل تُستشكَل الآراءُ لقوله، ولا يعارَض نصُّه بقياس، بل تُهدر الأقيسة وتُلقى لنصوصه، ولا يحرَّف كلامُه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولًا!! نعم هو مجهول، وعن الصواب معزول، ولا يُوقَف قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم، وهو عين الجرأة. الأدب مع الخَلق وأما الأدب مع الخلق: فهو معاملتهم ـ على اختلاف مراتبهم ـ بما يليق بهم، فلكل مرتبةٍ أدبٌ، والمراتب فيها أدب خاصٌّ. فمع الوالدين: أدب خاص، وللأب منهما: أدب هو أخص به، ومع العالِم: أدب آخر، ومع السلطان أدب يليق به، وله مع الأقران أدب يليق بهم، ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أُنسه، ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته. ولكل حالٍِ أدب: فللأكل آداب، وللشرب آداب، وللركوب، والدخول، والخروج والسفر، والإقامة والنوم آداب، وللبول آداب، وللكلام آداب، وللسكوت والاستماع آداب. وأدب المرء عنوان سعادته وفَلاحِه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره. فما استُجْلِب خيرُ الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استُجلب حرمانها بمثل قلة الأدب.. فانظر إلى الأدب مع الوالدين: كيف نَجَّى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصخرة، والإخلالِ به مع الأمِّ تأويلاً، وإقبالاً على الصلاة؛ كيف امتُحِن صاحبُه بهدم صومعته، وضرب الناس له، ورميه بالفاحشة. وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومدبر: كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان؟ وانظر قلة أدب عوفٍ مع خالد: كيف حرمه السَّلَب بعد أن بَرَد بيديه. وانظر أدبَ الصدِّيق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، أن يتقدم بين يديه، فقال: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله. كيف أورثه مقامه، والإمامة بالأمة بعده؟ فكان ذلك التأخر إلى خلفه ـ وقد أومأ إليه أن: اثبت مكانك ـ جَمْزًا وسعيًا إلى قُدَّام بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قُدَّام تنقطع فيها أعناق المَطِيِّ. والله أعلم. أدب إبراهيم مع أبيه المشرك ومن الأدب الرفيع: أدب إبراهيم مع أبيه، برغم شركه وضلاله، فلم ينسَ أدب البُنُوَّة مع الأبوة، حين دعاه إلى التوحيد والإيمان، فقال: "يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا" "مريم:42 — 45". فهذا التصدير لكل فقرة بهذه الكلمة الندية "يَا أَبَتِ" وتكرارها في السياق الواحد عدة مرات، يكشف عن أدب عالٍ لدى الابن، وإن كان أبوه من الضالين. أدب الإخْوة بعضهم مع بعض ومن أدب الإخوة والأرحام بعضهم مع بعض: ما تلاه القرآن علينا من موقف ابن آدم الخيِّر الطيب مع أخيه الشرير الخبيث؛ إذ تقبل الله قربان ابن آدم الأول، ولم يتقبل من الآخر، فقال له مهددًا ومتوعِّدًا: "لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ" (المائدة:27 — 28). ومع هذا "طَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (المائدة:30).. ومن ذلك: موقف يوسف الصديق عليه السلام مع إخوته الذين كادوا له، وصنعوا به ما صنعوا، وكانوا السبب الأول في سلسلة مِحَنه الدامية الحلقات؛ من إلقائه في الجُب، إلى بيعه بثمن بخس، إلى التغرُّب عن الأهل والوطن، إلى التعامل معه على أنه رقيق، إلى فتنة امرأة العزيز به، وقولها له: هَيْت لك، واتهامِه بعد ذلك بالباطل زوراً بما هو منه براء، وإلقائه في السجن بضع سنين، بلا جريرة، ولكنه حين مكَّن الله له في أرض مصر يتبوأ منها حيث يشاء، كان كريماً مع إخوانه، ولم يتحول الدم إلى ماء، كما يقول المثل، بل أكرم وِفادتهم، ورد إليهم بضاعتهم، حتى كشف لهم أخيراً اللثام عن حقيقته، وعرّفهم بنفسه قائلا: "هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُوْنَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" (يوسف:89 — 90). من سوء أدب بني إسرائيل وفي مقابل هذه الصور المضيئة من أدب الأنبياء والصالحين، ذكر القرآن لنا صورة مُعتمة ومثيرة من سوء أدب بني إسرائيل؛ من ذلك سوء أدبهم مع نبيِّهم وزعيمهم الذي حرَّرهم، وأنقذهم الله على يديه: موسى عليه السلام، فهو يقول لهم: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً"، فماذا كان موقفهم إزاء هذا الأمر الإلهي؟ "قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا"، فيرد عليهم موسى: "قاَلَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (البقرة:67)؛ لأن الهزل في موضع الجد ـ وخصوصًا في الحديث عن الله تعالى ـ لا يكون إلا من جاهل لا يُمَيِّز بين المواقف، ولا يعرف مقام ربه. ومن ذلك أنهم أُمروا أن يدخلوا باب الأرض المقدسة سُجَّدًا، وأن يقولوا: حِطَّة، عسى أن تُغفر لهم خطاياهم، ولكنهم بدلوا قولاً غير الذي قيل لهم. بل إن سوء أدبهم لم يقتصر على التعامل مع أنبيائهم ورسلهم، بل تعدى إلى التعامل مع الله عز وجل؛ فحين دعاهم الله أن يقرضوه قرضاً حسناً ليضاعفه لهم أضعافاً كثيرة، قالوا بكل وقاحة: "إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ" (آل عمران:181). كما سجَّل عليهم ذلك القرآن؛ لأن المستقرض لا يكون إلا فقيرًا، والمُقرض هو الغني، مع أن الله سبحانه له السماوات والأرض وما عليها مِلكًا ومُلكًا.. ومن ذلك ما قصَّه القرآن عنهم لعنهم الله: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ" (المائدة:64). بيان تأديب الله حبيبه وصفيَّه محمدًا بالقرآن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الضراعة والابتهال، دائم السؤال من الله تعالى أن يُزيِّنه بمحاسن الآداب، ومكارم الأخلاق، فكان يقول في دعائه: "اللهم كما أحسنتَ خَلقي فحسِّن خُلقي". ويقول: "اللهم جنِّبني منكرات الأخلاق". فاستجاب الله تعالى دعاءه، وفاءً بقوله عز وجل: "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ"، فأنزل عليه القرآن وأدبه به، فكان خُلُقه القرآن. مقاومة قُطَّاع الطريق إلى الله ومن أدب المسلم مع الله، بعد الفوز بطاعته، والحذر من معصيته، والاعتصام بعبادته وتقواه، والتوكل عليه، والإنابة إليه: أن يقاوم قواطع وقطاع الطريق إلى الله، فلا شك أن كل طريق يهدي إلى الحق، ويوصل إلى الخير في الدنيا وفي الآخرة، لا بد له من قواطع أو قطاع للطريق يعرفهم، ويعرفهم أهل هذا الطريق، ويحذِّرون الناس منهم. وكذلك طريق الآخرة، وطريق الاستقامة، وطريق التقوى، والطريق الموصِّل إلى الفوز بجنات النعيم، والبعد من نار الجحيم، لا بد لنا أن نعرف قواطعه وقطاعه، حتى يتسلح السائرون في مراحل هذا الطريق بالإرشادات اللازمة، وبالتعليمات المهمة، وبالأسلحة القوية، التي يحتاج إليها من سلك هذه السبيل، ليفوز بسعادة الدارين، وخصوصاً سعادة الآخرة: "فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (آل عمران:185). وقد بين لنا العلماء الربانيون، بما عرفوه من كتاب ربهم، وسنة نبيهم، وخبرة أئمتهم: أن قواطع الطريق إلى الآخرة، تتركز في أربع: النفس، والشيطان، والدنيا، والناس أو الخلق. وهي التي شكا منها الشاعر الصالح حين قال: إني بُلِيـتُ بأربعٍ يـرمينني بالنَّبــْــــل عن قــوس لـــــه تـوتـيــــــر إبليس والدنيا ونفسي والورى يا رب أنت على الخلاص قدير وسنركز الحديث على كل واحد من هذه الأربع: 1 ـ النفس: فإن أول عدو للإنسان الذي يتعامل مع الله سبحانه هو: نفسه التي بين جنبيه، وهي التي سماها القرآن: الأمَّارة بالسوء، كما قالت امرأة العزيز: "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ" (يوسف:53". وكلمة (أمَّارة) من صيغ المبالغة، التي تدل على أن الأمر بالسوء دَيْدنها، الذي تهواه، وتتفنَّنُ فيه، والمراد من السالك إلى الله: أن يكون واعيًا تمام الوعي، متنبِهًا كل التنبُّه لهذه النفس، فإنها إذا تركت تسيطر وحدها، أوقعتك في الخبائث والمطَّبَّات، ولذلك نبَّهنا القرآن إلى ذلك بقوله: "إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ" (العاديات:6). و"إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (إبراهيم: 34). و"وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" (الكهف: 54). و"إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الأحزاب: 72). و"وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا" (الإسراء:11).. فهذه الآيات تشير إلى أن طبيعة الإنسان وحده، إذا لم يقيده الإيمان، والتربية على مقتضاه، يَضِل ضلالًا بعيدًا، ولذلك كان من الضروري الذي يحتاج إليه الإنسان، وتحتاج إليه نفسه: التزكية، التي تقوم بها النفس ذاتها، فلئن كان فيه الظلم والجهل والكنود والعجلة والجدل والكفر بالنعمة، فإن فيها استعداداً أصليّاً للتغلب على هذه النوازع. وقد قال تعالى: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" (الشمس: 7 — 10).. إذن بين القرآن أن في تزكية النفس الأصلية التي عبر عنها القرآن بالإلهام؛ استعدادها للتقوى، استعدادها للفجور "فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"، وأن جهد الإنسان لتزكيتها لن يضيع سدى، ولن يذهب عبثًا، بل قرَّر القرآن بصريح العبارة: أنَّ من زكَّى نفسه أفلح، ومن دسَّاها خاب: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا"، وكان من دور النبيِّين والمرسلين، والعلماء والدعاة الربانيين: أن يأخذوا بيد الإنسان، ويعلموه ويساعدوه، على تزكية نفسه، وقد استطاع مئات الملايين وآلاف الملايين من الناس أن يزكوا أنفسهم، كما قال الله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى" (الأعلى:15 — 14). والتزكية المطلوبة تتطلب أمرين في معناها: الطهارة والنماء. فعلى المسلم أن يطهر نفسه من أدران الشرك والنفاق، وأمراض القلوب وكل عوامل السوء، وبواعث الشر والفساد، ويطهرها من الأفكار الرديئة والمُزَيِّنة التي تزين للناس الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، وتزين لهم سوء أعمال، ومن الرذائل التي تهبط بالإنسان من قمة إنسانيته إلى أوحال الشهوات البهيمية، والافتراسات الوحشية، والإيذاءات الشيطانية، بحيث تصبح نفسه نظيفة تمامًا من جراثيم الشر والباطل.. والمعنى الثاني: هو النَّماء أو التنمية، فالإنسان كما هو مطالب بالتطهير لنفسه، مطالب بتنمية نفسه تنمية شاملة، وتزكيتها بالفضائل، وتحليتها بالمكارم، بعد تخليتها من الرذائل والسفاسف. وما جاء به الإسلام من عبادات كالصلاة والصيام والزكاة.. وإلخ، إنما هي ـ مع أهميتها في نفسها ـ أدوات لها أهميتها في التزكية والتربية. قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة:183). وقال تعالى: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا" (التوبة: 103). وقال تعالى: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ" (الحج:27 ـ 28).

1855

| 15 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: عبوديات اللسان خمس وواجبها نطق الشهادتين وذكر الله

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة السابعة عشر استكمالا للحلقة السابقة... حظُّ اللسان من العبودية لله: أما عبوديات اللسان الخمس؛ فواجبها: النطق بالشهادتين، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن، وهو ما تتوقف عليه صحة صلاته, وتلفُّظه بالأذكار الواجبة في الصلاة, التي أمر الله بها ورسوله, كما أُمر بالتسبيح في الركوع والسجود, وأُمر بقول: "ربنا ولك الحمد" بعد الاعتدال, وأُمر بالتشهد, وأُمر بالتكبير. ومن واجبه: رد السلام، وفي ابتدائه قولان. ومن واجبه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وأداء الشهادة المتعينة، وصدق الحديث. وأما مستحبُّه: فتلاوة القرآن، ودوام ذكر الله، والمذاكرة في العلم النافع، وتوابع ذلك. ويحرم عليه استماعُ الكفر والبدع، إلا حيث يكون في استماعِه مصلحة راجحة, من رَدِّه، أو الشهادة على قائله، أو زيادةِ قوة الإيمان والسنة، بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة.. ونحو ذلك، وكاستماع أسرار من يهرب عنك بسرِّه، ولا يحب أن يطلعك عليه، ما لم يكن متضمنًا لحق لله يجب القيام به، أو لأذى مسلم يتعيَّن نصحه، وتحذيره منه. وكذلك استماع أصوات النساء الأجانب التي تُخشى الفتنةُ بأصواتهنَّ، إذا لم تدع إليه حاجة: من شهادة، أو معاملة، أو استفتاء، أو محاكمة، أو مداواة ونحوها. وأمَّا السمع المستحبُّ: كاستماعِ المستحبِّ من العلم, وقراءة القرآن, وذكر الله, واستماع كل ما يحبه الله, وليس بفرض. والمكروه: عكسه, وهو استماع كل ما يكره ولا يعاقب عليه. والمباح ظاهر. حظ النظر: وأما النظر الواجب: فالنظر في المصحف, وكتب العلم عند تعيُّن تعلُّم الواجبِ منها، والنظر إذا تعيِّن لتمييزِ الحلال من الحرام في الأعيان التي يأكلها أو يُنفقها أو يستمتع بها، والأمانات التي يؤديها إلى أربابها ليميز بينها، ونحو ذلك. والنظر الحرام: النظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقًا، وبغيرها إلَّا لحاجة، كنظر الخاطب، والمُستام أي: المسام في بيع أو شراء والمعامِل، والشاهد، والحاكم، والطبيب، وذي المحرم. والمستحبُّ: النظرُ في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانًا وعلمًا، والنظر في المصحف، ووجوه العلماء الصالحين، والوالدَيْن، والنظرُ في آيات الله المشهودة, ليستدل بها على توحيده ومعرفته وحكمته. والمكروه: فضول النظر الذي لا مصلحة فيه، فإن له فضولًا كما للسان فضولًا، وكم قاد فضولها إلى فضولٍ عزَّ التخلص منها، وأعيا دواؤها. وقال بعض السلف: كانوا يكرهون فضول النظر، كما يكرهون فضول الكلام. والمباح: النظر الذي لا مضرَّة فيه في العاجل والآجل، ولا منفعة. ومن النظر الحرام: النظر إلى العورات، وهي قسمان: عورة وراء الثياب، وعورة وراء الأبواب. ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب، فرماه صاحب العورة، ففقأ عينه؛ لم يكن عليه شيء، وذهبت هَدَرًا, بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته ، وإن ضعفه بعض الفقهاء لكونه لم يبلغه النص، أو تأوَّله. وهذا إذا لم يكن للناظر سبب يباح النظر لأجله، كعورة له هناك ينظرها، أو رِيبَة هو مأمور أو مأذون له في الاطِّلَاع عليها. حاسة الذوق وحظُّها من العبودية لله: وأما الذوق الواجبُ: فتناوُل الطعام والشراب عند الاضطرار إليه وخوف الموت، فإن تركه حتى مات، مات عاصيًا قاتلًا لنفسه؛ قال الإمام أحمد وطاووس: من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات؛ دخل النار. ومن هذا: تناوُل الدواء إذا تيقَّن النجاة به من الهلاك، على أصح القولين. وإن ظن الشفاء به، فهل هو مستحب مباح، أو الأفضل تركه؟ فيه نزاع معروف بين السلف والخلف. والذوق الحرام: كذوق الخمر والسموم القاتلة، والذوقِ الممنوع منه للصوم الواجب. وأما المكروه: فكذوق المشتبِهات، والأكلِ فوق الحاجة، وذَوْق طعام الفجاءة، وهو الطعام الذي تفجأ آكلُه ولم يُرد أن يدعوك إليه، وكأكل أطعمة المرائين في الولائم والدعوات ونحوها، وفي السنن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المُتَبَارِينَ . وذوق طعام من يطعمك حياءً منك لا بطِيبة نفس. والذوق المستحبُّ: أكل ما يُعينُك على طاعة الله عز وجل، مما أذن الله فيه، والأكل مع الضيف ليَطِيب له الأكل، فينال منه غرضَه، والأكل من طعام صاحب الدعوة الواجب إجابتها أو المستحب. وقد أوجب بعض الفقهاء الأكل من الوليمة الواجب إجابتها, للأمر به من الشارع. والذوق المباح: ما لم يكن فيه إثم ولا رجحان. حاسة الشمِّ وأما تعلُّق العبوديات الخمس بحاسة الشم؛ فالشم الواجب: كل شمٍّ تعيَّنَ طريقًا للتمييز بين الحلال والحرام، كالشمِّ الذي تُعلَم به هذه العين هل هي خبيثة أو طيبة؟ وهل هي سمٌّ قاتل أو لا مضرة فيها؟ أو يميز به بين ما يملك الانتفاع به وما لا يملك؟ ومن هذا شمُّ المقوِّم وربُّ الخِبْرة عند الحكم بالتقويم.. ونحو ذلك. وأما الشمُّ الحرام: فالتعمُّد لشم الطيب في الإحرام، وشم الطيب المغصوب والمسروق، وتعمُّد شم الطيب من النساء الأجنبيات خشية الافتتان بما وراءه. وأما الشم المستحب: فشم ما يعينك على طاعة الله، ويقوي الحواس، ويبسط النفس للعلم والعمل، ومن هذا هدية الطيب والريحان إذا أهديت لك. ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من عُرض عليه ريحان فلا يردّه، فإنه طيّب الريح، خفيف المحمل" . والمكروه: كشمّ طِيب الظَّلَمة، وأصحاب الشبهات، ونحو ذلك. والمباح: ما لا منع فيه من الله ولا تبعة، ولا فيه مصلحة دينية، ولا تعلق له بالشرع. حاسة اللمس وأما تعلق هذه الخمس بحاسة اللمس, فاللمس الواجب: كلمس الزوجة حين يجب جماعها، والأَمة الواجب إعفافها. والحرام: لمس ما لا يحل من الأجنبيات. والمستحبُّ: إذا كان فيه غضُّ بصرِه، وكفُّ نفسه عن الحرام، وإعفاف أهله. والمكروه: لمس الزوجة في الإحرام للذة، وكذلك في الاعتكاف، وفي الصيام إذا لم يأمن على نفسه. ومن هذا لمس بدن الميت- لغير غاسله- لأن بدنه قد صار بمنزلة عورة الحي تكريما له، ولهذا يستحبُّ ستره عن العيون, وتغسيله في قميصه في أحد القولين. ولمس فخذ الرجل, إذا قلنا هي عورة. والمباح: ما لم يكن فيه مفسدة ولا مصلحة دينية. البطش باليد والرجل وهذه المراتب أيضًا مرتَّبة على البطش باليد، والمشي بالرجل. وأمثلتها لا تخفى. فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهله وعياله واجب. وفي وجوبه لقضاء دينه خلاف. والصحيح: وجوبه ليمكنه من أداء دينه، ولا يجب لإخراج الزكاة. وفي وجوبه لأداء فريضة الحج نظر، والأقوى في الدليل وجوبه لدخوله في الاستطاعة, وتمكنه بذلك من أداء النسك، والمشهور عدم وجوبه. ومن البطش الواجب: إعانة المضطر، ورمي الجمار، ومباشرة الوضوء والتيمم. والحرام: كقتل النفس التي حرم الله قتلها، ونهب المال المعصوم، وضرب من لا يحل ضربه.. ونحو ذلك، وكأنواع اللعب المحرَّم بالنص: كالنرد، أو ما هو أشد تحريمًا منه عند أهل المدينة كالشِّطْرَنج، أو مثله عند فقهاء الحديث كأحمد وغيره، أو دونه عند بعضهم ، ونحو كتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفًا أو نسخًا، إلا مقرونًا بردِّها ونقضها، وكتابةِ الزور والظلم، والحكم الجائر، والقذف، والتشبيب بالنساء الأجانب، وكتابة ما فيه مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم، ولا سيما إن كسبتَ عليه مالًا {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]. وكذلك كتابة المفتي على الفتوى ما يخالِف حكم الله ورسوله إلا أن يكون مجتهدًا مخطئًا، فالإثم موضوع عنه. وأما المكروه: فكالعبث واللعب الذي ليس بحرام، وكتابة ما لا فائدة في كتابته، ولا منفعة فيه في الدنيا والآخرة. والمستحب: كتابة كل ما فيه منفعة في الدين، أو مصلحة لمسلم، والإحسانُ بيده بأن يُعين صانعًا، أو يصنع لأخرق، أو يُفرغ من دلوِه في دلو المستسقي، أو يحمل له على دابته، أو يمسكها حتى يحمل عليها، أو يعاونه فيما يحتاج إليه.. ونحو ذلك. ومنه: لمس الركن بيده في الطواف، وفي تقبيلها بعد اللمس قولان. والمباح: ما لا مضرة فيه ولا ثواب. وأما المشي الواجب: فالمشي إلى الجُمُعات والجَمَاعات, في أصح القولين, لبضعة وعشرين دليلًا, مذكورة في غير هذا الموضع. والمشيُ حول البيت للطواف الواجب، والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه، والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دُعِي إليه، والمشي إلى صلة رحمه، وبر والديه، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه، والمشي إلى الحج إذا قرُبت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر. والحرام: المشي إلى معصية الله، وهو من رَجِل الشيطان، قال تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64]. قال مقاتل: استعن عليهم برُكْبان جندك ومُشَاتهم. فكل راكب وماش في معصية الله؛ فهو من جند إبليس. حتى الركوب على الدابة: وكذلك تتعلق هذه الأحكام الخمس بالركوب أيضًا. فواجبه: في الركوب في الغزو، والجهاد، والحج الواجب. ومستحبُّه: في الركوب المستحبِّ من ذلك، ولطلب العلم، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وفي الوقوف بعرفة نزاع: هل الركوب فيه أفضل، أم على الأرض؟ والتحقيق: أن الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة: من تعليم للمناسك، واقتداء به، وكان أعون على الدعاء، ولم يكن فيه ضرر على الدابة. وحرامه: الركوب في معصية الله عز وجل. ومكروهه: الركوب للَّهو واللعب، وكل ما تركُه خيرٌ من فعله. ومباحه: الركوب لما لم يتضمن فوتَ أجر، ولا تحصيل وِزر. فهذه خمسون مرتبة على عشرة أشياء: القلب، واللسان، والسمع، والبصر، والأنف، والفم، واليد، والرجل، والفرج، والاستواء على ظهر الدابة . انتهى تفصيل ابن القيم. وبهذا البيان المستوعِب يتضح لنا شمول العبادة في الإسلام للإنسان كله, من قرنه إلى قدمه, ظاهره وباطنه, وأن حياة المسلم ليست حياة سائبة, إنما هي في جوهرها تعبد والتزام. ومعظم ما ذكره ابن القيم مقبول، والقليل منه جدًّا قد ينازَع فيه، والموفَّق من هداه الله إلى أرجح الأقول. وأضيف إلى ذلك: الشمول الزماني, فعبادة الله تشمل حياة المسلم كل أزمنته وأوقاته: في مرحلة شبابه, وفي مرحلة كهوليته, وفي مرحلة شيخوخته. فهو فيها كلها عابد لله, قانت لله, مخلص لله؛ كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163]. وهذه العبادة, تشمل الفرد والأسرة والجماعة، والمجتمع الكبير، والأمة الإسلامية, فكلها مطالَبة ومأمورة من الله تعالى ورسوله أن تعبد الله وحده لا شريك له, وأن يستعين به كلُّ أبنائها ويتوكَّلَ عليه, وأن يقيم دينه في الأرض؛ كما قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]. {وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]. وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60-61]. وبهذا تتسع العبادة التي جاء بها الإسلام في طولها، لتشمل العمر كله شبابًا وكهولة وشيخوخة, وتمتد في عرضها لتشمل العالم كله بكل أجناسه وألوانه, ورجاله ونسائه, وشبابه وشيوخه, أغنياء وفقراء, ورؤساء ومرؤوسين, وحكامًا ومحكومين, بيضًا وسودًا وملوَّنين. وتمتد في عمقها, لتشمل العبادةُ الدينَ كلَّه, ما يخص الأقوال والأعمال, وما يخص الجوارح والقلوب, وما يشمل كيان الإنسان كله ظاهرًا وباطنًا, من الحواسِّ الخمس, ومن العقل والقلب, والإرادة والوجدان, وكل ما يتعلق بالإنسان. الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الإمام ابن القيم: وأما الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فالقرآن مملوء به. كمال التسليم له: فرأس الأدب معه: كمال التسليم له، والانقياد لأمره, وتلقي خبرِه بالقبول والتصديق، دون أن يُحمِّله معارضةَ خيالٍ باطل، يسميه معقولًا، أو يحمِّله شبهة أو شكًّا، أو يُقدِّم عليه آراءَ الرجال، وزُبَالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان, كما وحَّد المرسِل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذُّل، والإنابة والتوكل. فهما توحيدان, لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيدُ المرسِل, وتوحيد متابعة الرسول, فلا يُحاكِم إلى غيره, ولا يرضى بحكم غيره, ولا يقف تنفيذ أمره، وتصديق خبره؛ على عرضه على قول شيخه وإمامه، وذوي مذهبه وطائفته، ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفَّذه وقَبِل خبرَه، وإلا فإنْ طلبَ السلامةَ: أعرض عن أمْرِه وخبرِه, وفوَّضه إليهم، وإلا حرَّفه عن مواضعه، وسمَّى تحريفه: تأويلًا وحملًا. فقال: نؤوِّله ونحْمِله. فلأنْ يلقى العبدُ ربَّه بكل ذنب على الإطلاق- ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يلقاه بهذه الحال. ولقد خاطبتُ يومًا بعض أكابر هؤلاء, فقلت له: سألتك بالله, لو قُدِّر أن الرسول صلى الله عليه وسلم حيٌّ بين أظهرنا, وقد واجَهَنا بكلامه وبخطابه, أكان فرضًا علينا أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه، أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟ فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه. فقلتُ: فما الذي نسخ هذا الفرضَ عنَّا؟ وبأي شيء نُسِخ؟ فوضع إصبعه على فيه, وبقي باهتًا متحيرًا, وما نطق بكلمة. والله المستعان.

2950

| 14 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي : القرآن يخاطب المؤمنين بأوامر تكليفية وأحكام شرعية

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة السادسة عشر استكمالا للحلقة السابقة... عبادة الله تسع الحياة كلها: أود أن أقتبس هنا من ثاني كتاب ألفتُه في بداية توجهي إلى التأليف بعد كتاب (الحلال والحرام في الإسلام) الذي ألفته بتكليف من الدكتور محمد البهي المدير العام لإدارة الثقافة الإسلامية بالأزهر الشريف، وهو كتاب (العبادة في الإسلام) فقد قلت في أحد فصوله: (وإذا عرفنا أن الدين كله عبادة، كما قال الإمام ابن تيمية، وعرفنا أن الدين قد جاء يرسم للإنسان منهج حياته، الظاهرة والباطنة، ويحدد سلوكه وعلاقاته، وفقًا لما يهدي إليه هذا المنهج الإلهي، عرفنا أن عبادة الله تَسع الحياةَ كلها، وتنتظم أمورها قاطبة: من أدب الأكل والشرب، وقضاء الحاجة، إلى بناء الدولة، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وشئون المعاملات والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب. ولهذا نجد كتاب الله الكريم يخاطب عباده المؤمنين بأوامر تكليفية وأحكام شرعية، تتناول جوانب شتى من الحياة، وفي سورة واحدة هي سورة البقرة نجد مجموعة من التكاليف كلها جاءت بصيغة واحدة (كُتِبَ عليكم)، ولنقرأ هذه الآيات الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]. {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:180]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216]. فهذه الأمور كلها من القصاص، والوصية، والصيام، والقتال، مكتوبة من الله على عباده، أي مفروضة عليهم، فعليهم أن يعبدوا الله بالتزامها والانقياد لها. وبهذا البيان يتضح لنا حقيقة هامة ما زال يجهلها كثير من المسلمين، فبعض الناس لا يفهم من كلمة (العبادة) إذا ذكرت، إلا الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة، ونحو ذلك من الأدعية والأذكار، ولا يحسب أن لها علاقة بالأخلاق والآداب، أو النظم والقوانين، أو العادات والتقاليد. العبادة انقياد لمنهج الله وشرعه: إن مقتضى عبادة الإنسان لله وحده: أن يُخضع أموره كلها لما يحبه تعالى ويرضاه، من الاعتقادات والأقوال والأعمال، وأن يكيِّفَ حياته وسلوكه وَفقًا لهداية الله وشرعه، فإذا أمره الله تعالى أو نهاه، أو أحلَّ له أو حرَّم عليه؛ كان موقِفُه في ذلك كله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. ففرق ما بين المؤمن وغيره: أن المؤمن خرج من العبودية لنفسه وللمخلوقين إلى العبودية لربه، خرج من طاعة هواه إلى طاعة الله، ليس المؤمن "سائبًا" يفعل ما تهوى نفسه، أو يهوى له غيرُه من الخلق، إنما هو "ملتزم" بعهد يجب أن يفي به، وميثاق يجب أن يحترمه، ومنهج يجب أن يتبعه، وهذا التزام منطقي ناشئ من طبيعة عَقْد الإيمان ومقتضاه. مقتضى عقد الإيمان: أن يُسلم زمام حياته إلى الله، ليقودها رسوله الصادق، ويهديه الوحيُ المعصوم. مقتضى عقد الإيمان: أن يقول الرب: أمرتُ ونهيتُ. ويقول العبد: سمعتُ وأطعتُ. مقتضى عقد الإيمان: أن يخرج الإنسان من الخضوع لهواه إلى الخضوع لشرع مولاه. وفي هذا يقول القرآن الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]. ويقول: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]. ليس بعابد لله — إذن — من قال: أصلي وأصوم وأحج، ولكني حُرٌّ في أكل لحم الخنزير، أو شرب الخمر، أو أكل الربا، أو رفض ما لا يروقني من أحكام الشريعة، فأحكم فيه بغير ما أنزل الله! ليس بعابد لله من أدَّى الشعائر، ولكنه لم يخضع لآداب الإسلام وتقاليده في نفسه أو أهله، كالرجل الذي يلبس الحرير الخالص، ويتحلَّى بالذهب، ويتشبه بالنساء، والمرأة التي تلبس ما يبرز مفاتنها، ولا يغطي جسدها، ولا تضرب بخمارها على جيبها. ليس بعابد لله من ظن أن عبوديته لله لا تعدو جدرانَ المسجد، فإذا انطلق في ميادين الحياة المتشعبة، فهو عبد نفسه فقط، وبعبارة أخرى: هو حُرٌّ في اتباع هواها، أو اتباع أهواء عبيد أنفسهم من المخلوقين! من اتبع غير منهج الله فقد أشرك في عبادته: إن من العبادة التي يغفلها كثير من الناس: الخضوع لشرع الله، والانقياد لأحكامه التي أحل بها الحلال، وحرم الحرام، وفرض الفرائض، وحد الحدود. فمن أدى الشعائر، وصلَّى وصام، وحج واعتمر، ولكنه رضي أن يحتكم في شؤون حياته وأسرته الخاصة والعامة، أو في شؤون المجتمع والدولة، إلى غير شرع الله وحكمه؛ فقد عَبَد غير الله، وأعطى غيره ما هو خالصُ حقِّه سبحانه. إن الله وحده هو المشرع الحاكم لخلقه؛ لأن الكون كله مملكته، والناس جميعًا عباده، وهو وحده الذي له أن يأمر أو ينهى، وأن يقول: هذا حلال، وهذا حرام، بمقتضى ربوبيته وملكه وألوهيته للناس، فهو رب الناس، ملك الناس، إله الناس. فمن ادعى من الخلق أن له أن يشرع ما شاء، أمرًا ونهيًا وتحليلًا وتحريمًا، بدون إذن من الله؛ فقد تجاوز حده، وعدا طَوْره، وجعل نفسه ربًّا أو إلهًا من حيث يدري أو لا يدري! ومن أقر له بهذا الحق، وانقاد لتشريعه ونظامه، وخضع لمذهبه وقانونه، وأحل حلاله وحرم حرامه؛ فقد اتخذه ربًّا، وعبده مع الله، أو من دون الله، ودخل في زمرة المشركين من حيث يشعر أو لا يشعر! إن القرآن الكريم دمغ أهل الكتاب بالشرك، ورماهم بأنهم عبدوا أحبارهم ورهبانهم، واتخذوهم أربابًا من دون الله، وذلك حين أطاعوهم واتبعوهم فيما شرعوا لهم مما لم يأذن به الله. قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]. وقد فسّر هذه الآية أعلم الناس بمراد ربه — عز وجل — من كلامه، وهو الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، والذي أوحى الله إليه هذا القرآن ليبيَّنه للناس ولعلهم يتفكرون، فلنُصغ إلى التفسير النبوي الكريم لهذه الآية الكريمة. روى الترمذي وابن جرير — من طرق — عن عديِّ بن حاتم رضي الله عنه: أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصَّر في الجاهلية، فأُسِرت أخته وجماعة من قومه، ثم مَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، فرغَّبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عديٌّ إلى المدينة. وكان رئيسًا في قومه، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عديٍّ صليبٌ من فضة، وهو يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. قال: إنهم لم يعبدوهم! فقال: "بلى، إنهم حرَّموا عليهم الحلال، وأحلُّوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم"( ). قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: (وهكذا قال حذيفة بن اليمان( )، وعبد الله بن عباس( )، وغيرهما في تفسير {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}: إنهم اتبعوهم فيما حلَّلوا وحرَّموا. وقال السُّدِّيُّ: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. قال: ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} أي الذي إذا حرَّم الشيء فهو حرام، وما حلَّله فهو الحلال، وما شرعه اتُّبِع، وما حكم به نفذ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ})( ). شمول العبادة لكيان الإنسان كله: هذا هو المظهر الثاني لشمول العبادة في الإسلام. فكما شملت العبادة في الإسلام الحياة كلها، استوعبت كذلك كيان الإنسان كله. فالمسلم يعبد الله بالفكر، ويعبد الله بالقلب، ويعبد الله باللسان، ويعبد الله بالسمع والبصر وسائر الحواس، ويعبد الله ببدنه كله، ويعبد الله ببذل المال، ويعبده ببذل النفس، ويعبده بمفارقة الأهل والوطن. المسلم يتعبد الله بالفكر، عن طريق التأمل في النفس والآفاق، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، والتدبر لآيات الله المنزلة، وما فيها من هدى وحكمة، والنظر في مصاير الأمم، وأحداث التاريخ، وما فيها من عظة وعبرة، فهذا كله مما يتقرب به المسلم إلى الله، الذي أنزل كتابه إلى الناس: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]، ودعاهم في مُحكَم كتابه إلى إعمال العقل نظرًا وتفكرًا وتعلُّمًا {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20 — 21] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 — 191]. وقد ورد عن ابن عباس: تفكر ساعة خير من قيام ليلة( ). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة"( ). وقال الشافعي رضي الله عنه: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة( ). ونص على ذلك أبو حنيفة رضي الله عنه. وقال وهب: كنت بين يدي مالك رضي الله عنه فوضعت ألواحي، وقمت أصلي، فقال: ما الذي قمتَ إليه بأفضل من الذي قمت عنه( ). ويتعبد المسلم لله بالقلب، عن طريق العواطف الربانية، والمشاعر الروحية، مثل: حب الله وخشيته، والرجاء في رحمته والخوف من عقابه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر لنعمائه، والحياء منه، والتوكل عليه، والإخلاص له، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]. {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162 — 163]. ويتعبد المسلم لله باللسان عن طريق الذكر والتلاوة والدعاء والتسبيح والتهليل والتكبير، جاء في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 — 42]. {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]، وقال عليه الصلاة والسلام: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه"( ). وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ، فمرني بأمر أتشبَّث به. فقال: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله"( ). والذكر نوعان: ذكر ثناء مثل: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". وذكر دعاء مثل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. وقد جاء من النوعين عن النبي صلى الله عليه وسلم أدعية وأذكار كثيرة، في مختلف المناسبات والأوقات، تجعل المسلم موصولَ القلبِ بربِّه، ورطْب اللسان بذِكره تعالى: عند النوم واليقظة، وعند الإصباح والإمساء، وعند الأكل والشرب، وعند السفر والأَوْبة، وعند لبس الثوب، وركوب الدابة، وهبة الريح ونزول المطر.. وفي كل حال وكل حين، وقد ألَّف العلماء في ذلك كتبًا شتى. والذكر المحمود هو ما اجتمع فيه القلبُ واللسانُ، ولا خير في ذكر اللسان إذا كان القلب ناسيًا غافلًا. مراتب العبودية الخمسون موزعة على القلب والبدن: وقد قرأتُ لابن القيم رضي الله عنه تفصيلًا حسنًا في مراتب العبودية لله، وحظ القلب واللسان والجوارح والحواس كلها من هذه العبودية الشاملة، رأيت أن أنقله هنا — ببعض تصرف — من كتابه القيم النافع (مدارج السالكين، شرح منازل السائرين إلى مقامات: إياك نعبد وإياك نستعين)، قال: (ورحَى العبودية تدور على خمسة عشرة قاعدة، من كمَّلها كمَّل مراتب العبودية. وبيانها: أن العبودية منقسمة على: القلب، واللسان، والجوارح، وعلى كل منها عبودية تخصه. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح. وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح. حظ القلب من العبودية لله: فواجب القلب منه: متَّفَق على وجوبه، ومختلَف فيه؛ فالمتفق على وجوبه: كالإخلاص، والتوكل، والمحبة، والصبر، والإنابة، والرجاء، والخوف، والتصديق الجازم، والنية في العبادات. وهذه قدر زائد على الإخلاص، فإن الإخلاص هو: إفراد المعبود عن غيره. ونية العبادة لها مرتبتان: إحداهما: تمييز العبادة عن العادة. والثانية: تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض. والأقسام الثلاثة واجبة. وكذلك الصبر واجب باتفاق الأمة، قال الإمام أحمد: ذكر الله الصبر في تسعين موضعًا من القرآن، أو بضع وتسعين، وله طرفان أيضًا: واجب مستحَقٌّ، وكمال مستحَبٌّ. وأما المختلَف فيه: فكالرضا، فإن في وجوبه قولين للفقهاء والصوفية. ومن هذا أيضًا اختلافهم في الخشوع في الصلاة، وفيه قولان للفقهاء، وهما في مذهب أحمد وغيره. وعلى القولين اختلافهم في وجوب الإعادة على من غلب عليه الوسواس في صلاته، فأوجبها ابن حامد من أصحاب أحمد، وأبو حامد الغزالي في (إحيائه)( )، ولم يوجبها أكثر الفقهاء. والمقصود أن يكون مَلِك الأعضاء — وهو القلب — قائمًا بعبوديته لله سبحانه هو ورَعِيَّته. وأما المحرمات التي عليه: فالكبر، والرياء، والعُجب، والحسد، والغفلة، والنفاق. وهو نوعان: كفر ومعصية. فالكفر: كالشك، والنفاق، والشرك وتوابعها. والمعصية نوعان: كبائر، وصغائر. فالكبائر: كالرياء، والعُجب، والكبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمنى زوال ذلك عنهم، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنى، وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن. وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب، وترك القيام بها، فوظيفة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على القلب قبل الجوارح، فإذا جهِلها وترك القيام بها؛ امتلأ بأضدادها ولا بد، وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها. وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر في حقه، وقد تكون كبائر، بحسب قوتها وغلظها، وخفتها ودقتها. %MCEPASTEBIN%

2357

| 13 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي : المعراج من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الخامسة عشر أدب الرسل مع الله: يقول الإمام ابن القيم في تفسير الآيات الثلاث من أواخر المائدة من الكلام بين الله وعيسى يوم القيامة {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 116-118] وتأمل أحوالَ الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم- مع الله وخطابَهم وسؤالَهم، كيف تجدها كلَّها مشحونة بالأدب، قائمة به. قال المسيح -عليه السلام-: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة:116]. ولم يقل: (لم أقله)، وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب، ثم أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسِرِّه، فقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة:116]. ثم برَّأ نفسَه من علمه بغيب ربه وما يختص به سبحانه، فقال: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]. ثم أثنى على ربه، ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها، فقال: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]. ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربه به- وهو محض التوحيد– فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}. ثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم، وأنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم، وأن الله عز وجل وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم، فقال: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}، ثم وصفه بأن شهادته سبحانه فوق كل شهادة وأعم، فقال: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. ثم قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة:117]، وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام، أي: شأن السيد رحمةُ عبيده، والإحسان إليهم، وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدًا لغيرك؛ فإذا عذَّبْتهم- مع كونهم عبيدك- فلولا أنهم عبيد سوء من أبخس العبيد، وأعتاهم على سيدهم، وأعصاهم له؛ لم تعذبهم؛ لأن قُربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته، فلماذا يعذِّب أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، وأعظم المحسنين إحسانًا عبيدَه؟ لولا فرط عتوهم، وإباؤهم عن طاعته، وكمال استحقاقهم للعذاب. وقد تقدم قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:16]. أي هم عبادك، وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم، فإذا عذَّبتهم: عذَّبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه، فهم عبادك، وأنت أعلم بما جنَوْه واكتسبوه. فليس في هذا استعطاف لهم، كما يظنه الجُهَّال، ولا تفويض إلى محض المشيئة، والمُلك المجرد عن الحكمة، كما تظنه القدرية، وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه -سبحانه- بحكمته وعدله، وكمال علمه بحالهم، واستحقاقهم للعذاب. ثم قال: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]. ولم يقل: الغفور الرحيم، وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى، فإنه قاله في وقت غضب الرب عليهم، والأمر بهم إلى النار، فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة، بل مقام براءة منهم. فلو قال: (فإنك أنت الغفور الرحيم)؛ لأشعر باستعطافه ربَّه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم، فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على من غضب الرب عليهم؛ فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة، المتضمنتَيْن لكمال القدرة وكمال العلم. والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم، ليست عن عجز عن الانتقام منهم، ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم؛ وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه، ولجهله بمقدار إساءته إليه، والكمال: هو مغفرة القادر العالم، وهو العزيز الحكيم، وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب. وفي بعض الآثار: حَمَلة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على حِلمك بعد علمك. واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، ولهذا يقترن كل من هاتين الصفتين بالأخرى، كقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء:12] وقوله: {فَكَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:149]. وكذلك قول إبراهيم الخليل- صلى الله عليه وسلم-: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78-80] ولم يقل: (وإذا أمرضني)؛ حفظًا للأدب مع الله. وكذلك قول الخضر -عليه السلام- في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] ولم يقل: (فأراد ربك أن أعيبها)، وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82]. وكذلك قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الجن:10]، ولم يقولوا: (أراده بهم ربُّهم) ثم قالوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]. وألطف من هذا قول موسى -عليه السلام-: {رَبّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]. ولم يقل: أطعمني. وقول آدم -عليه السلام-: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، ولم يقل: رب قدَّرت عليَّ، وقضيت عليَّ. وقول أيوب -عليه السلام-: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] ولم يقل: فعافني واشفني. وقول يوسف لأبيه وإخوته: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100]. ولم يقل: أخرجني من الجُبِّ؛ حفظًا للأدب مع إخوته، وتَفَتِّيًا عليهم؛ ألا يُخجلهم بما جرى في الجُبِّ، وقال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]. ولم يقل: رفع عنكم جَهد الجوع والحاجة. أدبًا معهم، وأضاف ما جرى إلى السبب، ولم يُضفه إلى المباشر الذي هو أقرب إليه منه، فقال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100]. فأعطى الفُتُوَّة والكرمَ والأدب حقَّه، ولهذا لم يكن كمال هذا الخُلق إلا للرسل والأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، ومن هذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجلَ: أن يستر عورته، وإن كان خاليًا لا يراه أحد، أدبًا مع الله، على حَسب القُرب منه، وتعظيمه وإجلاله، وشدة الحياء منه، ومعرفة وقاره. وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهرًا وباطنًا، فما أساء أحدٌ الأدبَ في الظاهر إلا عوقب ظاهرًا، وما أساء أحد الأدب باطنًا إلا عوقب باطنًا. وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: من تهاون بالأدب، عُوْقِب بحرمان السُّنَن، ومن تهاون بالسُّنَن، عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض، عوقب بحرمان المعرفة. (المعرفة هنا: معرفة الله. ومعنى هذا: أنه خَدْشٌ في عقيدته). وقيل: الأدب في العمل علامة قبول العمل،وحقيقة (الأدب) استعمال الخُلُق الجميل، ولهذا كان الأدب: استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القوة إلى الفعل. فإن الله -سبحانه- هيَّأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد، التي جعلها فيه كامنة كالنار في الزِّناد. فألهمه، ومكَّنه، وعرَّفه وأرشده، وأرسل إليه رسله، وأنزل إليه كتبه؛ لاستخراج تلك القوة التي أهَّله بها لكماله إلى الفعل، قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10]. فعبَّر عن خلق النفس بالتسوية للدلالة على الاعتدال والتمام، ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى، وأن ذلك نالها منه امتحانًا واختبارًا، ثم خص بالفلاح: من زكَّاها، فنمَّاها، وعلَّاها، ورفعها بآدابه التي أدَّب بها رسله وأنبياءه وأولياءه، وهي التقوى، ثم حكم بالشقاء على من دسَّاها، فأخفاها، وحقَّرها، وصغَّرها، وقمعها بالفجور. والله سبحانه وتعالى أعلم. {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}: وجرت عادة القوم: أن يذكروا في هذا المقام قوله- تعالى-عن نبيه صلى الله عليه وسلم، حين أراه ما أراه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]. وأبو القاسم القُشَيْري صدَّر (باب الأدب) بهذه الآية، وكذلك غيره، وكأنهم نظروا إلى قول من قال من أهل التفسير: إن هذا وصف لأدبه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك المقام؛ إذ لم يلتفت جانبًا، ولا تجاوز ما رآه، وهذا كمال الأدب. والإخلال به: أن يلتفت الناظر عن يمينه وعن شماله، أو يتطلَّع أمام المنظور. فالالتفات: زيغ، والتطلع إلى ما أمام المنظور: طغيان ومجاوزة، فكمال إقبال الناظر على المنظور: ألَّا يصرف بصره عنه يَمنة ولا يَسرة، ولا يتجاوزه. هذا معنى ما حصَّلْتُه عن شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه. وفي هذه الآية أسرار عجيبة، وهي من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر -صلى الله عليه وسلم-: تواطأ هناك بصره وبصيرته، وتوافقا وتصادقا فيما شاهده بصره، فالبصيرة مواطِئة له، وما شاهدَتْه بصيرتُه فهو أيضًا حقٌّ مشهود بالبصر؛ فتواطأ في حقه مشهد البصر والبصيرة. ولهذا قال سبحانه وتعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:11-12]. أي: ما كَذَب الفؤادُ ما رآه ببصره. ولهذا قرأها أبو جعفر: {مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}- بتشديد الذال- أي لم يُكَذِّب الفؤاد البصر، بل صدقه وواطأه، لصحة الفؤاد والبصر، أو استقامة البصيرة والبصر، وكونِ المرئي المشاهد بالبصر والبصيرة حقًّا. وقرأ الجمهور: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} أي: بالتخفيف. وهو متعدٍّ، و(ما) {مَا رَأَى} مفعولُه: أي ما كذَّب قلبه ما رأته عيناه، بل واطأه ووافقه؛ فلِمُواطأة قلبه لقالَبه، وظاهرِه لباطنه، وبصرِه لبصيرته: لم يكذب الفؤادُ البصرَ، ولم يتجاوز البصر حدَّه فيطغى؛ ولم يمِلْ عن المرئي فيزيغ؛ بل اعتدل البصر نحو المرئي، ما جاوزه، ولا مال عنه، كما اعتدل القلب في الإقبال على الله، والإعراض عما سواه، فإنه أقبل على الله بكُلِّيته. وللقلب: زيغ وطغيان، وكلاهما منتفٍ عن قلبه وبصره، فلم يزِغ قلبه التفاتًا عن الله إلى غيره، ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذي أقيم فيه. وهذا غاية الكمال والأدب مع الله، الذي لا يلحقه فيه سواه، فإن عادة النفوس، إذا أقيمت في مقام عال رفيع: أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه. ألا ترى أن موسى -عليه السلام - لما أقيم في مقام التكليم والمناجاة: طلبت نفسُه الرؤية؟ ونبينا -صلى الله عليه وسلم- لما أقيم في ذلك المقام، وفَّاه حقه: فلم يلتفت بصرُه ولا قلبُه إلى غير ما أقيم فيه البتة، ولأجل هذا ما عاقه عائق، ولا وقف به مراد، حتى جاوز السماوات السبع، حتى عاتبَ موسى ربَّه فيه، وقال: "يقول بنو إسرائيل: إني كريم الخلق على الله. وهذا قد جاوزني وخلَّفني علوًّا، فلو أنه وحده، ولكن معه كل أمته". وفي رواية للبخاري: "فلما جاوزته بكى، قيل: ما يبكيك؟ قال: أبكي أن غلامًا بُعِث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي". ثم جاوزه علوًّا فلم تُعِقْه إرادة، ولم تقف به دون كمال العبودية هِمَّة. ولهذا كان مركوبه في مسراه يسبق خطوُه الطرفَ، فيضع قدمه عند منتهى طرفه، مشاكلًا لحال راكبه، وبُعْد شأوه، الذي سبق العالم أجمع في سيره، فكان قَدَمُ البُراق لا يختلف عن موضع نظره، كما كان قدمه صلى الله عليه وسلم لا يتأخر عن محل مَعْرِفَته (أي معرفة البُراق). فلم يزل صلى الله عليه وسلم في خِفارة كمال أدبه مع الله سبحانه، وتكميل مراتب عبوديته له، حتى خرق حجب السماوات، وجاوز السبع الطباق، وجاوز سدرة المنتهى، ووصل إلى مَحَل من القرب سبق به الأولين والآخرين. فانصبَّت إليه هناك أقسام القُرب انصبابًا، وانقشعت عنه سحائب الحُجُب ظاهرًا وباطنًا حجابًا حجابًا، وأقيم مقامًا غَبَطه به الأنبياء والمرسلون، فإذا كان في المعاد أقيم مقامًا من القرب ثانيًا، يغبطه به الأولون والآخرون، واستقام هناك على صراط مستقيم، من كمال أدبه مع الله، (ما زاغ البصر عنه وما طغى). فأقامه في هذا العالم على أقوم صراط من الحق والهدى، وأقسم بكلامه على ذلك في الذكر الحكيم، فقال تعالى: {يس *وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:1- 4]. فإذا كان يوم المعاد أقامه على الصراط، يسأله السلامة لأتباعه وأهل سُنَّته، حتى يَجُوزُوه إلى جنات النعيم، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]). ابن القيم يقول: الأدب هو الدين كله، ومما ينبغي أن ننوِّه به في هذا المقام ما ذكره الإمام ابن القيم في (المدارج) من كلام له أهمية بالغة، فقد قال في بيان منازل السائرين عن شرح (الأدب): (الأدب هو الدين كله. فإن ستر العورة من الأدب، والوضوء وغسل الجنابة من الأدب، والتطهر من الخبث من الأدب، حتى يقف بين يدي الله طاهرًا. ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته، للوقوف بين يدي ربه. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- يقول: أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة: وهو أخذ الزينة، فقال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]. فعلَّق الأمر بأخذ الزينة، لا بستر العورة، إيذانًا بأن العبد ينبغي له: أن يلبس أزين ثيابه، وأجملها في الصلاة. وكان لبعض السلف حُلَّة بمبلغ عظيم من المال، وكان يلبسها وقت الصلاة، ويقول: ربي أحقُّ من تجمَّلتُ له في صلاتي. ومعلوم: أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، لا سيما إذا وقف بين يديه، فأحسن ما وقف بين يديه: بملابسه ونعمته التي ألبسه إياها ظاهرًا وباطنًا. ومن الأدب: نهيُ النبي -صلى الله عليه وسلم- المصلي: أن يرفع بصره إلى السماء. فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا من كمال أدب الصلاة: أن يقف العبد بين يدي ربه مُطرقًا، خافضًا طَرْفَه إلى الأرض، ولا يرفع بصره إلى فوق. قال: والجهمية- لما لم يفقهوا هذا الأدب، ولا عرفوه- ظنوا أن هذا دليل أن الله ليس فوق سماواته على عرشه، كما أخبر به عن نفسه، واتفقت عليه رسله وجميع أهل السُّنَّة. قال: وهذا من جلهلهم، بل هذا دليل لمن عقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم على نقيض قولهم، إذ من الأدب مع الملوك: أن الواقف بين أيديهم يطرق إلى الأرض، ولا يرفع بصره إليهم، فما الظن بملك الملوك سبحانه؟ وسمعته يقول في نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: إن القرآن هو أشرف الكلام، وهو كلام الله، وحالتا الركوع والسجود حالتا ذلٍّ وانخفاض من العبد؛ فمن الأدب مع كلام الله: ألَّا يقرأ في هاتين الحالتين، ويكون حالُ القيام والانتصاب أولى به، ألَّا يستقبل بيت الله ولا يستدبره عند قضاء الحاجة، ومن الأدب مع الله: ألا يستقبل بيتَه ولا يستدبره عند قضاء الحاجة، كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة، وغيرهم- رضي الله عنهم-، والصحيح: أن هذا الأدب يعُمُّ الفضاء والبنيان. كما ذكرنا في غير هذا الموضع. وضعُ اليُمنى على اليسرى عند القراءة: ومن الأدب مع الله، في الوقوف بين يديه في الصلاة: وضع اليمنى على اليسرى، حال قيام القراءة، ففي الموطأ لمالك، عن سهل بن سعد: أنه من السنة، وكان الناس يُؤمرون به ، ولا ريب أنه من أدب الوقوف بين يدي الملوك والعظماء، فعظيم العظماء أحق به. عدم الالتفات في الصلاة: ومنها: السكون في الصلاة. وهو الدوام الذي قال الله -تعالى- فيه: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23]. قال عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة: حدثني يزيد بن أبي حبيب: أن أبا الخير أخبره، قال: سألنا عقبة بن عامر عن قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} أهم الذين يصلون دائمًا؟ قال: لا، ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه، ولا عن شماله ولا خلفه. قلتُ: هما أمران: الدوامُ عليها، والمداومة عليها فهذا الدوام، والمداومة في قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]. وفُسِّر الدوام بسكون الأطراف والطمأنينة.وأدبه في استماع القراءة: أن يُلقِي السمعَ وهو شهيد. أدب المصلي في ركوعه: وأدبه في الركوع: أن يستوي، ويعظم الله -تعالى-، حتى لا يكون في قلبه شيء أعظم منه، ويتضاءل ويتصاغر في نفسه، حتى يكون أقل من الهَباء، والمقصود: أن الأدب مع الله تبارك وتعالى: هو القيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهرًا وباطنًا. ولا يستقيم لأحد قط الأدبُ مع الله إلا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه، وما يحب وما يكره، ونفس مستعدة قابلة ليِّنة متهيِّئة لقبول الحق علمًا وعملًا وحالًا. والله المستعان.

677

| 12 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: لا تقبل العبادات الشعائرية إلا بعبادة قلبية

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الثالثة عشر بيَّن القرآنُ أن العبادات الشعائرية الكبرى من الصلاة والزكاة، والصيام والحج، لا تصل عند الله إلا إذا كانت معها عبادة قلبية تقدمها إلى الله تعالى، وهي الإخلاص لله، كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]. فأي عبادة من هذه العبادات خلت من الإخلاص، وأفسدها الرياء، فهي مرفوضة عند الله، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة:264]. ولهذا كانت هذه الذنوب الكبيرة من أشد ما يُبعد عن رضا الله سبحانه، مثل الرياء والعُجب، واليأس من روح الله، والأمن من مكرِه، ونحوها. قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25]. وقال: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]. وقال: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]. لا بد من تطهير الأنفس، وتصفية القلوب، وتنقية الضمائر من هذه الموبقات، "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صَلَحت صلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". ولذلك ما زلنا نؤكد على العبادات القلبية، التي لا يلتفت إليها كثير من الناس، لتيههم وغفلتهم عنها، وهي التي تعبر عن حقيقة إيمانهم، وتُعرِّف بقيمتهم الحقيقية عند الله. وقد سمعت أحاديث الثلاثة الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: أنهم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة: المنافق والقارئ (أو العالم) والمجاهد، الذين رُفِضَت عباداتهم عند الله؛ لأنهم زيَّفوها على الله، وغلَّفوها بغلافٍ ظاهرِ الحُسن، وهو زائف، فردَّها الله عليهم؛ لأنه تعالى لا يقبل الزيف، ولا يُخدعه أحد. من العبادات القلبية المهمة ولا بد أن نضع أمام المسلم الغيور على دينه، والحريص على نجاته، المقبل على آخرته، المعنيِّ برضا ربه، هذه العبادات المعروفة عند أهل التقوى والإخلاص بالعبادات: القلبية أو الروحية. عبادة الشكر لله عبادة الشكر لله تعالى على نعمائه، فلا يكفي في هذا أن يقول اللسان: الحمد لله، وقلبه محجوب عن رؤية فضل الله تعالى، ولا يرى إلا الناس، الذين ساعدوه، والذين أمدُّوه أو موَّلوه، فهذا ليس بالشكر له، ولكنه الكفر به. قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. وقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]. وقد بدا قبول شكر داود، ولذلك زاده الله نعمة وفضلًا. {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:10 — 11]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15 — 17]. والقرآن يأمر عبادَ الله بالشكر له، وعدم الكفر به، كما قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة:51 — 52]. والنعم التي يُسبغها الله على عباده متعددة الأنواع والألوان، منها نِعَمٌ مادية، كما في نعمة سبأ، وجنتيها عن يمين وشمال، ومنها نِعَم معنوية، كالنعمة التي آتاها الله لقمان، وهي الحكمة {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12]. ومن ذلك نعمة الله على الإنسان منذ ولادته، فقد غمره الله تعالى في نعمه المادية والمعنوية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]. وقد طلب الله من الولد أن يشكر لله الذي خلقه، وهيَّأ له ما يحفظه ويعينه من الأشياء، ويشكر لوالديه اللذين كانا سببًا في ميلاده وحياته وبقائه، مع فضل الله تعالى وإمداده. عبادة الصبر لله وكما يطالب الإنسان بشكر الله تعالى، يطالب بالصبر على بلائه، كما جاء في حديث صهيب الذي رواه مسلم: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمرَه كلَّه خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شَكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ، صبر فكان خيرًا له". 1 — الصبر على طاعة الله وللمؤمن أنواع ودرجات من الصبر، فهناك صبر على طاعة الله، كما قال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65]. وقوله أيضًا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]. وقد استخدم القرآن هنا صيغة الافتعال من الصبر "اصطبر"، مكانَ الصيغة المعتادة "اصبر"؛ لأن الافتعال يدل على المبالغة في الفعل، فزيادة المبنى تدل في العادة على زيادة المعنى، وما ذاك إلا لأن الطريق إلى طاعة الله مليئة بالمعوِّقات من داخل النفس ومن خارجها. وفيها يقول الشاعر: إنـــي ابتُليــــــــتُ بأربعٍ يرمينَني بالنَّبْل عـــــــن قـــــــــــوسٍ له توتيـــــرُ إبليسُ والدنيا ونفسي والوَرَى يا رب أنت على الخلاص قديرُ فإذن العبودية شاقَّة على النفس مطلقًا، ثم من العبادات ما يُكره بسبب الكسل؛ كالصلاة، ومنها ما يكره بسبب البخل؛ كالزكاة، ومنها ما يكره بسببهما جميعًا؛ كالحج والجهاد، فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد. ويحتاج المطيع إلى الصبر على طاعته في ثلاث أحوال: الأولى: قبل الطاعة، وذلك في تصحيح النية والإخلاص، والصبر عن شوائب الرياء ودواعي الآفات، وعقد العزم على الإخلاص والوفاء، وذلك من الصبر الشديد عند من يعرف حقيقة النية والإخلاص، وآفات الرياء، ومكايد النفس، وقد نبَّه عليه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]. ولهذا قدَّم الله تعالى الصبر على العمل، فقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود:11]. الحالة الثانية: حالة العمل، كي لا يغفل عن الله في أثناء عمله، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه، ويدوم على شرط الأدب إلى آخر العمل الأخير، فيلازم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ، وهذا أيضًا من شدائد الصبر، ولعله المراد بقوله تعالى: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا} [العنكبوت 58 — 59]. أي صبروا إلى تمام العمل. الحالة الثالثة: بعد الفراغ من العمل، إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه، والتظاهر به للسمعة والرياء، والصبر عن النظر إليه بعين العُجب، وعن كل ما يبطل عمله ويُحبط أثره، كما قال تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]. وكما قال تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264]. فمن لا يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى فقد أبطل عمله. والطاعات تنقسم إلى فرض ونفل، وهو محتاج إلى الصبر عليهما جميعًا، وقد جمعهما الله تعالى في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]. فالعدل هو الفرض، والإحسان هو النفل، وإيتاء ذي القربى هو المروءة وصلة الرحم، وكل ذلك يحتاج إلى صبر). 2 — الصبر عن معصية الله: وهناك صبر عن المعصية. مثل صبر يوسف عليه السلام، حيث فُتِنت به امرأة العزيز، وهي امرأة ذات منصب وجمال، وقد هيَّأت الأسباب، وغلَّقت الأبواب، وقالت: {هَيْتَ لَكَ} بصريح العبارة، فقال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]، فردعها بكل الروادع الربانية والأخلاقية والعملية، ومع هذا لم ترتدع، وقالت بصراحة أمام النسوة التي دعتهن إلى قصرها، فأرتهن يوسف، فلم يملكْن حين رأيْنَه فجأة، إلا أن قطَّعْن أيديَهُن بالسكاكين التي فيها، وقلن: {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف 31 — 32]. ولقد كان يوسف عليه السلام مخيَّرًا بين محنتين: محنة في دينه: أن يستجيب لها، وينجو من السجن، وينضم إلى أرباب العشق، وأخدان النساء، ويصبح من الفاسقين، أو يرفض، ويستقبل ما يأتي به القدر من نتائج، وهو ما صمَّم عليه. ولكنه ظل صابرًا عن المعصية، فانتصر في صبره، رَضِي بمحنة الدنيا على محنة الدين، ودخل في السجن، ولبث فيه بضع سنين. 3 — الصبر على البلاء ومحن الدعوة: وهناك الصبر على البلاء، كما صبر أيوب عليه السلام على مرضه الذي طال عليه، وفقد من فقد من أولاده، كما ذكر القرآن: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 — 84]. وقال الله تعالى عن أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]. ولقد صبر المسلمون في سبيل عقيدتهم على ما نزل بهم من بلاء في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وكل ما لهم، كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 — 3]. هذا في مكة. وفي العهد المدني: جاءت نوازل أخرى، ابتُلي بها المؤمنون وزُلزلوا زلزالًا شديدًا. كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [155 — 157]. وفي غزوة الأحزاب، كان بلاءٌ شديد، وصفه القرآن بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 — 11]. وهنا ظهر صبر المؤمنين الصادقين: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. 4 — الصبر على الدعوة ومشاقِّها ومتاعبها: وهناك الصبر على الدعوة ومشاقها، وما يحفُّ بها من متاعب وآلام، تنوءُ بها الظُّهور، وتضعف عن حملها الكواهل، إلا من رحم الله. فالصبر هنا — كما قال الإمام علي —: سيف لا ينبُو، ومطيَّة لا تكبو، وضياء لا يخبو. وكما جاء في الحديث الصحيح: "الصبر ضياء". وهذا هو السر في اقتران التواصي بالصبر بالتواصي بالحق في سورة العصر: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:2 — 3]. فلا بقاء للحق بغير صبر. وهو السرُّ فيما ذكره الله على لسان لقمان الحكيم، حيث وصَّى ابنَه بالصبر على ما يصيبه من بلاء وأذى، عقب وصيته له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تعالى على لسانه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان:17]. قيم تمثِّل مشاقَّ الدعوة إلى الله: ومشاقُّ الدعوة إلى الله تتمثَّل في صور شتى، وقد ذكر القرآن منها أنواعًا وأمثلة: أ — تتمثل في إعراض الخلق عن الداعية، فليس أشقُّ على نفس صاحب الدعوة أن يدعو بملء فيه، ويصيح بأعلى صوته، بشيرًا ونذيرًا، فلا يجد إلا آذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا! رأينا ذلك مع نوح عليه السلام، حيث قال مناجيًا ربه: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:5 — 7]. ورأينا ذلك مع هود عليه السلام حين قال له قومه: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود:53]. ورأينا ذلك مع خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، حيث وصف الله حال قومه معه فقال: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:1 — 5]. ولهذا قال الله لرسوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النحل:127]. وأوضح من يمثل هذا النوع من الصبر: نوح عليه السلام، حيث لقي من الإعراض والصدِّ ما لم يلْقَه نبي بعده. ب — وتتمثل متاعب الدعوة في أذى الناس بالقول أو الفعل، فليس أشد على نفس الرجل المخلص في دعوته، البريء من الهوى، المحبِّ لخير الناس، من أن يُمحِّض لهم النصح، فيتهموه بما ليس فيه، وأن يدعوهم إلى سبيل ربه بالحكمة، فيردوه بالقوة، ويعظهم بالحسنى، فيستقبلوه بالسوء، ويجادلهم بالتي هي أحسن، فيقاومونه بالتي هي أخشن، ويدلُّهم على الخير، فيقذفوه بالشر، ويصدع فيهم بكلمة الحق، فلا يسمع منهم إلا كلمة الباطل. وهذا ما أقسم القرآن على وقوعه للداعين إلى الله، حيث خاطب بذلك المؤمنين ليوطنوا أنفسهم على الصبر الطويل، فقال: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186]، ومن هنا أمر الله رسوله أن يصبر على إيذاء قومه بمثل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10]. والأنبياء جميعًا يمثلون هذا النوع من الصبر، ولهذا حكى الله على لسانهم هذا القول ردًّا على أقوامهم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12]. وعزَّى الله خاتم رسله بما حدث لإخوانه من قبله فقال: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام:34]. ومن أتباع الرسل ذكر لنا القرآن هنا مثلًا رائعًا، يتجلى في سحرة فرعون، حين وقع الحق، وبطَل ما كانوا يعملون، فأعلنوا إيمانهم برب موسى وهارون، وعندها قال لهم فرعون: {آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:123 — 124]. فماذا كان موقف السحرة إزاء هذا الوعيد الهادر من ملك جبَّار يقول للناس: أنا ربكم الأعلى؟ لقد وقفوا بإيمانهم الجديد كالجبال الشُمِّ، متحدِّينَ جبروت فرعون، مستعدين لكل ما يُرغِي به ويُزبد، سائلين الله تعالى أن يُفرِغ عليهم صبرًا يتحملون به العذاب راضين، ويستقبلون به المكاره مطمئنين.. ومن هنا قالوا لفرعون: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ* وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:125 — 126]. جـ — وتتمثل مشاقُّ الدعوة كذلك في صورة أخرى هي طول الطريق، واستبطاء النصر، فقد جعل الله العاقبة للمتقين، وكتب النصر لدعاة الحق من رسله وأتباعهم وورثتهم المؤمنين، ولكن هذا النصر لا يتحقق بين عشية وضحاها، ولا تشرق شمسه إلا بعد ليل طويل حالك، من الشدائد والمحن المتعاقبة، تزيغ لهَوْلها الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، ويظن الناس بالله الظنونَ، هناك يبتلي المؤمنون ويزلزلون زلزالًا شديدًا، كما صور القرآن الحالة النفسية للمسلمين في غزوة الأحزاب. وكم أكد القرآن هذه الحقيقة في أكثر من موضع، وبأكثر من أسلوب، فهو يخاطب المؤمنين في المدينة فيقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. يقولون: متى نصر الله؟ استبطاءً له، واستعجالًا لمجيئه، فيجيء معه الغوث للملهوف، والفرج للمكروب. ويقول جل شأنه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]. %MCEPASTEBIN%%MCEPASTEBIN%

2287

| 10 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي : الأدب مع الله يتحقق بتوحيده واتباع منهجه

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الثانية عشرة الأدب مع الله رب العالمين، يتمثل في عدة أمور.. فهناك توحيد الربوبية أو الخالقية، وهو ما تقر به الفطرة السليمة، وما ينطق به العقل الرشيد (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) [الطور:35 — 36]. وهذا ما اعترف به عرب الجاهلية، حين يسألون عنه: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف:9]. (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [يونس:31 — 32]. وكانوا يُقِرُّون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق، مدبِّر الأمر، ولكنهم مع هذا يأكلون خيره، ويعبدون غيره، أو يأكلون تمرَه، ويعصون أمرَه. ولذلك كان التوحيد الذي أكد عليه رسل الله وأنبياؤه، الذين بعثهم إلى الخلق مبشرين ومنذرين: هو الدعوة إلى توحيد العبادة أو توحيد الإلهية، وهو ما نتحدث عنه في الفقرة التالية. ثانيا: توحيد العبادة لله رب العالمين أو توحيد الإلهية: بمعنى أنه لا إله غيره، ولا يستحق أن يعبد في الأرض أو في السماء إلا هو، ولا أن تسجد له الجباهُ، وتنحني له الرؤوس راكعة ساجدة إلا الله، وهو ما دعا إليه كل رسول قومه، وما دعا إليه القرآن الكريم، وأنذر به المشركين، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25]. (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل:36]. والطاغوت مشتقٌّ من الطغيان، وهو كل ما يُعبد ويعظَّم ويُشرك به من دون الله سبحانه وتعالى، وهو من مصادر الطغيان والفساد، في حين أن التوحيد من مصادر العدل والصلاح، بل التوحيد هو العدل، والشرك هو الظلم؛ لأن من يشرك بالله الخالق المنعم، العظيم الأعلى، مخلوقً حقيرً فان لا يقدر على شيء؛ فقد ظلمَ التوحيد، وظلم نفسه، وظلم الربَّ الأعلى. ولذا قال تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) [الأعلى:1 — 3]. ولذا حكم القرآن على عرب الجاهلية بالشرك الأكبر، الذي يوجب دخول النار، كما قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة:72]. وقال عن أهل الكتاب (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة:31]. ثالثًا: توحيد الحاكمية: وهذا هو التوحيد الثالث، الذي أكمل القرآن به حقيقة التوحيد الذي يرضاه الله من خلقه. وهو أن يوحد الله تعالى في تشريعه الذي شرع لعبادته، فعليه أن يرضي به، ويتعبد بأحكامه، ويقبل جريانها عليه في دينه ونفسه، وعرضه ونسبه، ونسله وماله، وكل شؤون حياته. قال تعالى (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) [الأنعام:114]. وقال في هذه السورة نفسها (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام:164]، وهذا ما يسمونه توحيد الربوبية. وقال فيها أيضًا: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:14]. وهذه تشير إلى توحيد العبادة أو توحيد الألوهية. ولا بد للإنسان المسلم الذي يريد أن يلقى ربه عابدًا مخلصًا له، بريئًا من كل ما يعبد من دونه في الأرض أو في السماء؛ من هذه التوحيدات كلها. (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) [يونس:104 — 106]. طاعة الله فيما أمر به: ومن واجب كل مسلم رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، وبمحمد من الله نبيًّا ورسولًا: أن يطيع الله تعالى فيما أمره به في كتابه المبين، أو على لسان رسوله، الذي ثبتت رسالته باليقين والأدلة القطعية، فعليه أن يقول في الأمور الغيبية: آمنا وصدقنا، وفي العمليات: سمعنا وأطعنا. كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. وكل ما أمر الله تعالى به، وكل ما نهى الله تعالى عنه بصراحة وجزم، فهو ممَّا تجب طاعته، امتثالًا للأمر، واجتنابًا للنهي (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:71]. ومن ذلك: العبادات الرُّكْنية، التي أجمع علماء الأمة على أن كل واحدة منها ركن من أركان الإسلام الخمسة العملية، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله، وإقامة الصلوات الخمس، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان كل سنة، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا مرة واحدة في العمر. وهناك طاعة الله تعالى في امتثال كل ما أمر به، من إيفاء العقود، وإنجاز الوعود، وإبرام العهود، وإقامة الحدود، وتحليل الحلال، وتحريم الحرام، والانتهاء عن كل ما حرَّم الله، من أكل أموال الناس بالباطل، ومن إيذاء الناس، ومن سرقة أموالهم، أو اختلاسها أو الغش فيها. قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29]. (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:168]. ومن ذلك ما يتعلق بأحكام الأسرة، وضرورة رعايتها والمحافظة عليها، قال تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النور:32]. (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) [النساء:3]. وقال تعالى (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [النساء:4]. وقال تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة:228]. وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا * وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) [النساء:19 — 22]. اتباع المنهج الذي أمر الله به ومما يجب على المكلَّف نحوَ ربِّه الذى خلقه وهداه، ورزقه ودبَّر أمرَه: أن يتَّبِع المنهجَ الذي أمره الله باتِّباعه، وهو الشريعة التي دعا الله تعالى إليها عباده، ليقيموا بها أمره، ويتبعوا فيها طريقه المستقيم، الذي يتضمن العدل في الرعية، والقضاء بالسوية، والأمانة في القضية، كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) [النساء:58]. (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص:26]. (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:49 — 50]. فهذه ثلاث آيات في سورة واحدة في سياق واحد، تنذر كل من حكم بغير ما أنزل الله. ولو كان سهمًا واحدًا لاتَّقَيْتُهُ ولكنَّه سهمٌ وثَانٍ وثَالِثُ! قال تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [الجاثية:19]. (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153]. محبة الله تعالى وعبادته الباطنية: كما أن المطلوب من المسلم أن يحب الله عز وجل، حتى تكون عبادته عبادة خالصة له، وحقيقة العبادة أن يكون العبد بين غاية الحب لله تعالى، وغاية الخضوع والذل له. وقد قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة: 165]. ووصف الله تعالى جنده المؤمنين الأقوياء الذين ادخرهم لنصرة دينه إذا ارتد عنه المرتدون والمنافقون، ومرق عنه المارقون، فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة:54]. وحدد النبي صلى الله عليه وسلم العناصر الثلاثة التي تكوِّن الإيمان الحقيقي الذي يذوق المؤمن حلاوته، فقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان". وجعل أول هذه الثلاثة "أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما". ووضع القرآن المسلم في مفاصلة بين كل رغبات الحياة الدنيا ومشتهياتها، وبين حب الله ورسوله، ليختار أهلُ الإيمان أيَّ الجهتين يسلكون، فقال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24]. وهذه المحبة لله ورسوله هي عبادة من العبادات القلبية، التي جاء بها الإسلام وعُنِي بها، ودعا المسلمين إلى إتقانها، فليست العبادات هي الأربع الركنية فقط، فهناك العبادات التي يتنفَّل بها المسلم بعد فرائضه، وفي سائر أوقاته؛ من الذكر والتهليل، والتسبيح والتحميد والتكبير، وتلاوة القرآن، والدعاء والاستغفار، والصلاة على النبي. وكلها جاء بها القرآن العظيم، وفصَّلتها السُّنَّة النبوية، وألَّف فيها المسلمون الكتب، وأقاموا عليها أورادهم وتسابيحهم. وقد قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41 — 42]. (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال:45]. وقال تعالى (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60]. وقال عز وجل (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة:186]. وقال تعالى: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء:32]. وقال تعالى على لسان نوح (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح:10 — 12]. وقال سبحانه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]. وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُور) [فاطر:29 — 30]. وقال تعالى في الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر عن رسول الله عن ربه، فكان ممَّا فيه: "يا عبادي، إني حرمتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أهدِكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمتُه، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلُّكم عارٍ، إلا من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا". إلى آخر ما جاء به القرآن، وجاءت به السُّنَّة، من ترطيب اللسان بذكر الله تعالى من التسبيح والتحميد، والتهليل والتكبير، والحوقلة والدعاء، والرقية والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والاستغفار لله تعالى، والتلبية لندائه، وذكر اسمه كثيرًا. وقد ختم البخاري جامعه الصحيح بهذا الحديث: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده". ثم تأتي العبادات الباطنية، التي تملأ قلب المسلم وفكره وساحة حياته، وحياة أسرته، وحياة مجتمعه، والدنيا كلها من حوله، وهى عبادات مقرها القلوب، كما قال تعالى (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]. وكما قال تعالى عن الذبائح والأهاديِّ التي تُهدى إلى الكعبة (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) [الحج:37]. %MCEPASTEBIN%%MCEPASTEBIN%

2022

| 09 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: الإسلام يضمن للعلم بقاءه في حاضنة الإيمان

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الحادية عشرة التفوق في علوم الدنيا: أما علوم الدنيا, فأعدل ما قيل فيها ما قاله الإمام الغزالي, وهو أن فرض الكفاية منها: (كل علم لا يستغني عنه في قِوام أمور الدنيا: كالطب؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان, وكالحساب؛ فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما, وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمَّن يقوم بها حرج أهل البلد (يعني: دخل عليهم الحرج والمشقة) وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين). أقول: وقد يحتاج البلد إلى أكثر من واحد, فالمهم أن يوجد العدد الذي يكفي ويسدُّ الحاجة المطلوبة. قال: (ولا يُتعَجَّب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات؛ فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات, كالفلاحة والحياكة والسياسة, بل الحجامة والخياطة, فإنه لو خلا البلد من الحجَّام (الذي يقوم بجراحة الحجامة, وهو نوع من الجراحة الخفيفة) تسارع الهلاك إليهم, وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك, فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء, وأرشد إلى استعماله, وأعد الأسباب لتعاطيه, فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله. وأما ما يعد فضيلة لا فريضة, فالتعمق في دقائق الحساب, وحقائق الطب, وغير ذلك مما يستغنى عنه, ولكنه يفيد زيادة قوة القدر المحتاج إليه) . وما قاله الغزالي هنا قوي وموافق لمقاصد الشريعة, فإنها تقصد إلى إنشاء أمة قوية عزيزة مكتفية بذاتها, قادرة على التصدي لأعدائها, وهذا يوجب عليها– بالتضامن- أن تتفوق في كل العلوم الطبيعية والرياضية التي تحتاج إليها الأمم في عصرنا لتنمو وتتقدم, وليس الطب والحساب فقط, فإنما قال هذا باعتبار زمانه. كما تحتاج الأمة في زمننا إلى الصناعات التكنولوجية المتطورة, وليس أصول الصناعات القديمة وحدها, فكل ما يؤدي إليها, ويعين عليها, فهو فرض كفاية على الأمة, حتى تكون سيدة نفسها, ولا تكون عالة على غيرها. إن الغرب قد ساد العالم في عصرنا– ومنه العالم الإسلامي– بما ملك من علوم الدنيا, من الفيزياء والفلك والكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا وغيرها، وأنشأ ثورة، بل ثورات في العلوم، ولا سيما في مجال الإلكترونيات والفضائيات، والذرة والهندسة والوراثية وغيرها, وفي مجال الأسلحة والأدوية ونحوها. وقد أدى انفصال الإيمان عن العلم في الغرب: أن أصبح هذا العلم في الجانب العسكري خطرًا يهدد العالم بأسلحة الدمار الشامل: النووية والكيماوية والجرثومية. كما أصبح مجالًا لصناعة أدوية غير مأمونة, بل غير مشروعة, يروِّجها أناس لا يخشون خالقًا ولا يرحمون مخلوقًا. وكذلك أمسى الناس يخافون من تطوُّر علم (الجينات)، وتقدم الهندسة الوارثية, والقدرة على استنساخ الحيوان: أن يدخل ذلك عالم الإنسان. ولا علاج لذلك إلا أن يكون العلم في حَضانة الإيمان, وأن يدور في فلك القيم والأخلاق, وهذا ما يوفِّره الإسلام لأهله؛ حيث يوجب على المسلم أن يكون العلم نافعًا للناس لا ضارًّا بهم, وقد استعاذ النبي الكريم من علم لا ينفع. مناقشة للإمام الغزالي في اعتباره تعلُّمَ الدقائق فضيلةً لا فريضة: هذا ولا نوافق الإمام الغزالي على اعتباره التعمق في دقائق الحساب, وحقائق الطب: مجرد فضيلة لا فريضة, فلعل هذا كان بالنسبة إلى زمنه, أما زمننا فيُعتبر التعمق في هذه العلوم وما يشبهها من الرياضيات والفلك، والفيزياء والكيمياء، وعلوم الأرض (الجيولوجيا)، والأحياء (الحيوان والنبات)، وعلوم البحار والصحراء, والتشريح ووظائف الأعضاء وغيرها, بحيث يصل إلى دقائقها, ويرتقي إلى حقائقها: فريضةً لازمة, والأمم تتسابق في هذا تسابقًا خطيرًا, كلٌّ منها تحاول أن تحتل مكانًا يجعل لها قدرًا, وأن تهيئ الفرص للنوابغ من أبنائها ليتعمقوا ويتفوقوا. ولولا التعمق في هذه العلوم ما وصل عصرنا إلى تحطيم الذرة, وغزو الفضاء, وصناعة (الكمبيوتر) والإنترنت، والثورة التكنولوجية, وثورة البيولوجيا (هندسة الوراثة والجينات)، وثورة الاتصالات, وثورة المعلومات, وغيرها.. مما أمسى من خواص عصرنا. وقد لا يكفي واحد متخصص في جانب لإسقاط الحرج والإثم عن الأمة, إنما هذا بحسب الحاجة, والغالب أن الأمة تحتاج في كل مجال إلى فريق كامل من الخبراء, يسدُّون الثغرة, ويلبُّون الحاجة,, ويورثون الخبرة لمن بعدهم. إتقان العلوم الطبيعية والرياضية: ولعل أظهر ما يميِّز (العلم) بالمفهوم العصري أو الغربي: أنه لا يقوم على المنطق الشكلي أو الصوري أو القياسي الذي ينسب إلى أرسطو, وإنما يقوم على منطق الملاحظة والتجربة, ويخضع في نتائجه لما تأتيان به. ولهذا يسمى (العلم التجريبي) ويسمى منهجه (المنهج التجريبي). وهذا يشمل كل العلوم الطبيعية والرياضية التي هي أساس التقدم المادي اليوم, والقرآن والسنة يدعوان الأمة إلى الانتفاع بكل ما سخَّره الله للإنسان في هذا الكون {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]. والإسلام يحترم مبدأ التجربة, ويقرها في أمور الدنيا المتغيرة والمتطورة أبدًا. وهنا أيضًا نجد الرسول عليه الصلاة والسلام سبق إلى إقرار مبدأ التجربة في الأمور الدنيوية الفنية, مثل أمور الزراعة والصناعة والطب وما شاكلها, فما أثبتت التجربة نفعَه في هذا فهو مطلوب شرعًا, وما أثبتت ضرره فهو مرفوض شرعًا. وأوضح مثال لهذا المبدأ: موقفه عليه الصلاة والسلام من قضية تأبير النخل, حيث رأى أصحابه من الأنصار يفعلون ذلك, ولم يكن له بذلك عهد؛ حيث نشأ بمكة، وهي واد غير ذي زرع, فقال لهم كلمة من باب الظن والتخمين, يشير بها إلى أن هذا العمل لا ضرورة له. وفهم الأنصار منها أنها من أمر الوحي والدين الذي لا يجوز مخالفته. فتركوا التأبير في ذلك الموسم, فخرج الثمر رديئًا. فلما علم ذلك عليه الصلاة والسلام بين لهم أن كلمته لم تكن من باب الوحي الإلهي, بل من باب المشورة الدنيوية، حسب ظنه الناشئ عن خبراته البيئية المحدودة, ثم قال لهم في النهاية: "أنتم أعلم بأمور دنياكم". فهذه الشؤون الدنيوية الفنية المحضة, متروكة لعقولهم ومعارفهم, يدبرونها وفقًا لمصلحتهم، وليس من شأن الوحي أن يتدخل فيها, فهم بها أدرى وأعلم. والقصة في صحيح مسلم, ومسند أحمد وغيرهما, رواها عدد من الصحابة منهم: طلحة بن عبيد الله, ورافع بن خديج, وعائشة, وأنس رضي الله عنهم. ففي المسند عن طلحة رضي الله عنه قال: مررتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في نخل المدينة, فرأى أقوامًا في رؤوس النخل يلقحون النخل, فقال: "ما يصنع هؤلاء؟" قال: يأخذون من الذكر, فيحطُّون في الأنثى، يلقحون به. فقال: "ما أظن ذلك يُغني شيئًا". فبلغهم، فتركوه ونزلوا عنها, فلم تحمل تلك السنة شيئًا, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: "إنما هو ظنٌّ ظننتُه, إن كان يغني شيئًا فاصنعوا, فإنما أنا بشر مثلكم, والظن يخطئ ويصيب, ولكن ما قلتُ لكم: قال الله عز وجل. فلن أكذب على الله"( ). وفي صحيح مسلم من رواية رافع بن خديج أنه قال لهم: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به, وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر"( ). وفيه من رواية عائشة وأنس: أنه قال لهم بعد أن خرج التمر شِيصًا– أي: بسرًا رديئًا–: "ما لِنخلِكم؟!". قالوا: قلتَ كذا وكذا. قال: "أنتم أعلمُ بأمر دنياكم"( ). فالقانون الذي يجب الخضوع له هنا: هو القانون الذي تنتجه الخبرة والممارسة, أو المشاهدة والتجربة، ويكفي العقل الإنساني في هذه الأمور هاديًا ودليلًا. أما الوحي فحسْبه أن يضع للناس القيم والمبادئ العامة والضوابط، ثم يَدَع البشر يتصرفون تبعًا لما يعلمون، وحسبهم هذه الكلمة الجليلة: "أنتم أعلم بأمر دنياكم". تعلم اللغات عند الحاجة: ومن فروض الكفاية الواجبة على مجموع الأمة: تعلم لغات الآخرين عند الحاجة إليها, وخصوصًا إذا كان عندهم ما ليس عند المسلمين: من علم يؤخذ، أو حكمة تقتبس, فلا سبيل إلى الانتفاع بما عند غيرك إذا جهِلتَ لغته. ولم يمنع الإسلام من تعلم لغات الآخرين, بل دعا إليها باعتبارها وسيلة للتفاهم بين البشر, كما أنها وسيلة لنشر دعوته في العالم, فهي هنا فرض كفاية؛ وذلك أن رسالته صلى الله عليه وسلم رسالةٌ عالمية, فهو– وإن كان عربيًا, والكتاب المنزل عليه عربي, وقد أرسله الله بلسان قومه ليبين لهم– قد بُعث للناس كافة {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1], {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107], {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]. فلا بد من تراجِمة بينه وبين أرباب اللغات الأخرى, حتى يُمكِنه تبليغُ الدعوة إليهم, وتلقِّي الإجابة منهم, وقد كان عنده صلى الله عليه وسلم من أصحابه من يعرف الفارسية والرومية والحبشية, ويكفونه الترجمة منها وإليها, ولكن لم يكن عنده من يعرف اللغة السريانية التي يكتب بها اليهود, فأمر كاتب وحيه الأنصاري النابغة: زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتقنها قراءة وكتابة, ويستغني به عن الوسطاء من اليهود في ذلك, وبخاصة أنهم غير مأمونين. وقال زيد: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتعلمتُ له كتابَ يهود بالسِّريانية وقال: إنى والله ما آمَن يهود على كتابي, فما مر لي نصفُ شهر حتى تعلمتُه وحذقتُه, فكنتُ أكتب له إليهم, وأقرأ له كتبهم( ). ولعله كان على شيء من المعرفة بها من قبلُ، (لمجاورة الأنصار لليهود)، حتى أمكنه أن يحذقها في هذه المدة القصيرة. ومن هنا حرص كثير من المسلمين– في عصور ازدهار حضارتهم– على معرفة اللغات, فترجموا منها وإليها, وقال في ذلك الشاعر: بقـــــــدر لغــاتِ المــرءِ يكــثُر نفـعُه فتلك له عند المُلِمَّات أعــــوان فأقبِلْ على درسِ اللغاتِ وحفظها فكلُّ لسانٍ في الحـقيقة إنسـانُ! الأدب مع الله ورسوله أدب المسلم: أدب شامل وعميق ومتنوع. وقد تحدث عنه أهل الأدب من رجال الفقه والسلوك والتربية, فهم يقسمونه إلى أنواع: فهناك أدب مع الله عز وجل, وأدب مع رسوله الذي بلَّغ رسالته إلى الناس، وأدب مع الناس, كلُّ الناس, القريب والبعيد, والمسلم وغير المسلم, والصغير والكبير, والضعيف والقوي, وإن كان اهتمام الإسلام الأكبر والأقوى بالضعفاء من الناس, مثل اليتامى والمساكين، وابن السبيل وما ملكت الأيمان. وهو ما حفلت به آية (الحقوق العشرة) التي جاءت بها سورة النساء, وبدأتها بحق الله تبارك وتعالى, فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36]. لهذا سنبدأ بما بدأ الله تعالى به, وهو الأدب مع الله سبحانه, والأدب مع رسوله, فهو مضاف إليه عز وجل, ولهذا جعلناهما أدبًا واحدًا في فُسحة الأدب الديني، الذي يجب أن يكون طبيعة بيِّنة لحياة المسلم، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71], {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]. ذروة الأدب: الأدبُ مع الله: ونحن نتفق مع كبار علمائنا المربِّين: أن ذروة الأدب هى: الأدب مع الله تبارك وتعالى, فإن أحقَّ من نتأدب معه, في قولنا وعملنا, في عبادتنا ومعاملتنا, في عمل جوارحنا وعمل قلوبنا, في سرِّنا وعلانيتنا, أن نتأدب معه سبحانه أعلى أنواع الأدب وأصفاها، وأثبتها وأخلصها. وهو جل شأنه يستحق هذا الأدب الأكبر والأعمق منَّا؛ لأنه هو الذي خلقنا من العدم, وجعلنا شيئًا مذكورًا, وخلقنا في أحسن تقويم, وكرمنا أعظم تكريم, ورزقنا العقل الذي به نفكر, والإرادة التي بها نرجِّح, والقدرة التي بها ننفِّذ، ووهب لنا السمع والبصر والحواس التي تصلنا بالعالم من حولنا, وخلق ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه, وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة, فكل ما في الكون من حولنا, عن أيماننا وعن شمائلنا, ومن بين أيدينا ومن خلفنا, ومن فوقنا ومن تحتنا, جعله الله في خدمتنا ومنفعتنا, ويصب كله في مصلحتنا, كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:32-34] فانظر كيف خلق الله هذه الأجرام الكبيرة, وسخر ما فيها من نِعَم جليلة لفائدة الإنسان. ولذا كرّر في هذه الآيات كلمة {لَكُمْ} خمس مرات, لينبِّهنا على أنه خلق هذه النِّعَم، وسخرها لنا ولمصلحتنا, كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] وقد ذكَّر الله الناس عامة, والمؤمنين خاصة، بهذه النعم التي أنعم بها على عباده: نعمة الحياة, ونعمة الزرع, ونعمة الماء, ونعمة النار, في سورة الواقعة, فقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:58-73]. %MCEPASTEBIN%%MCEPASTEBIN%

1728

| 08 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي : المسلم مطالب بتعلم عقائده الأساسية من دينه

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة العاشرة العلم المفروض طلبه فرض عين من العلم ما يفترض طلبه، ومنه ما يستحب طلبه، ومنه ما يباح، ومنه ما يذم. والعلم المفروض طلبه، منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية. وفي الحديث المشهور على الألسنة، الذي رواه ابن ماجة وغيره: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". والمراد بالمسلم في الحديث: الإنسان المسلم، رجلاً كان أو امرأة. ولهذا أجمعوا على أن الحديث يشمل كل مسلم ومسلمة، وإن لم يرد لفظ: (ومسلمة) في رواية الحديث. وقد اختلف شرَّاح الحديث في تحديد (العلم) المفروض طلبه. فكل صاحب اختصاص في علم أوَّله على العلم الذي يشتغل به. فالمتكلم (المتخصص في علم الكلام والعقائد) قال: هو علم العقائد الذي يعرف به توحيد الله، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذا أساس الدين. والفقيه قال: هو علم الفقه الذي يعرف به الحلال والحرام، وتعرف به صحة العبادات، واستقامة المعاملات على منهج الشرع. والمفسِّر قال: هو علم تفسير كتاب الله، الذي هو أساس الملة، ومرجع الأمة. والمحدِّث قال: هو علم الحديث المبيِّن للقرآن، المجسِّد لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوالِه وأعماله وتقريراته. والمتصوف قال: هو علم طريق الآخرة، والسلوك إلى الله تعالى، وكيفية تزكية النفس، وعلاج مداخل الشيطان إليها.. إلخ. والأصولي قال: بل هو علم أصول الفقه، الذي به يعرف الاستدلال فيما فيه نص، والاستنباط فيما لا نص فيه. بل هناك من قال: علم العربية، من النحو والصرف والبلاغة، التي بها يفهم القرآن والحديث. بل هناك من قال: هو علم الطب الذي يعرف به الصحة والمرض. وقال: العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان، وعلم الأبدان مقدم على علم الأديان. ذكره بعضهم، وفيه نظر ـ كما قال الزبيدي في شرح (الإحياء) ـ وإيراده في فروض الكفايات. رأيُنا في العلم المفروض على كل مسلم: والذي أراه هنا: أن بعض هذه الأقوال خلطت بين العلم المفروض طلبه على كل مسلم ومسلمة، وهو ما يسمى: (فرض العين)، وبين العلم المفروض (فرضَ كفاية). فعلم التفسير والحديث وأصول الفقه وعلوم العربية، بل وعلم الطب: لا بد منها، على مستوى الأمة، لا على مستوى الأفراد. فهي من فروض الكفاية بلا ريب. وفروض الكفاية هي: ما لا تستغني عنها الأمة في مجموعها، ولا بد أن يقوم بها عددٌ كافٍ من أبناء الأمة يسد الثغرة، ويلبي الحاجة، وإلا أثمت الأمة كلها. تعلم أصول التوحيد والعقيدة: والذي نؤكِّده هنا: أن على المسلم أن يتعلَّم من دينه ما يعرف به ربَّه معرفة تصل إلى حد اليقين، ويعرف به نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم، ويستيقن بصدق نبوته، وصحة رسالته، وأن القرآن الكريم منزَّل عليه من عند الله تبارك وتعالى، بدلائل الإعجاز القرآني الكثيرة. ويعرف العقائد الأساسية في الإسلام: في الإلهيات، والنبوات، والغيبيات المتعلقة بالآخرة والعالم غير المنظور.. وأن يأخذ ذلك أساساً من كتاب الله تعالى بما فيه من بيِّنات تُقنع العقل، وتنير القلب، بعيداً عن التقليد الأعمى، وعن المماحكات الجدلية، التي شاعت في علم الكلام، والتي أفسدَتْ تفكيرَ الخواصِّ، واعتقادَ العوامِّ. وسرُّ ذلك: تأثُّرُها بفلسفة اليونان. ولهذا نادى المحقِّقُون والمجدِّدون المسلمون بوجوب (ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان). والمطلوب هنا: أن تكون دراسة العقيدة مبنية على أساسين: 1 ـ القرآن الكريم، لا على أنه يتضمن أخبارًا وأدلة نقلية فقط، بل بما يتضمنه وما ينبِّه عليه من براهين، ولإثبات التوحيد والنبوة، والجزاء الأخروي، وغيرها، فقد أنزله الله هدى للناس، وبيِّنات من الهدى والفرقان، وقد ناقش الطوائفَ المخالفةَ من الملاحدة والمشركين وأهل الكتاب، وردَّ عليهم بالأدلة العقلية، التي سمَّاها القرآن (البَيِّنات). والسُّنَّة النبوية مبيِّنة لكتاب الله، فيؤخذ من السنن الصحاح ما يبيِّن القرآنَ، وما يسير في ضوئه. 2 ـ العلوم الكونية الحديثة، بما تكشِفُ للناس من أدلة تعين الناس ـ وخصوصاً المرتابين والمتشكِّكين ـ على الوصول إلى اليقين في وجود الله تعالى وفي وحدانيته، وإبداعه في كونه، وإحسانه لخلقه، وتُقرِّب منهم الحقائق الدينية من النبوة وأمور الآخرة، بما يحمله الكون من براهين ناصعة، تحقق وعد الله تعالى في قوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]. تعلُّم ما لا بد منه من الفقه والأحكام: كما أن على المسلم أن يتعلم من أحكام الإسلام وشرائعه ما هو في حاجة إليه، من علم الطهارة، والصلاة اليومية، وهي الصلوات الخمس، والصلاة الأسبوعية، وهي صلاة الجمعة الواجبة على الرجال. والمراد : معرفة الأساسيات لا المسائل الغريبة والنادرة، ولا التفصيلات التي تُترك للعلماء المتخصِّصين . ومثل ذلك علم الصيام عندما يجيءُ رمضان، ومثله علم الزكاة عندما يملك نصابها، ويتعلم من أنواع الزكاة ما هو مفتقِر إليه، فإن كان تاجرًا تعلم زكاة التجارة، وليس مطالباً بمعرفة زكاة الأنعام أو الزروع والثمار، وإذا قدر على الحج وعزم عليه عرف أهم أحكامه. كما عليه أن يعرف أهم أحكام الحلال والحرام التي يتعرض لها المسلم في حياته: في المأكل والمشرب والملبس والزينة، والبيت، والعمل، وحياة الأسرة والمجتمع. وعلى كل مسلم أن يعرف ما يخصُّه من أحكام، فالوالي يعرف أحكام الولاية، والتاجر يعرف أحكام التجارة، والطبيب يعرف أحكام الطب، والزوج يعرف حقوق الزوجية وواجباتها، وكذلك الزوجة، والأب يعرف أحكام الأبوة والبنوة، وكذلك الأم.. وهكذا. وعلى كل مسلم أن يعرف من علم الأخلاق والآداب الشرعية: ما يضبط به سلوكه بضوابط الشرع، فلا يحيد عما أمر الله به، ولا يتجاسر على ما نهى الله عنه، متحلِّياً بالفضائل، متخلِّياً عن الرذائل. التمذهب ليس بلازم شرعاً: ولا يلزمه أن يتَّبع مذهباً معيَّناً من المذاهب الأربعة أو غيرها، لأن اللازم شرعاً: ما ألزم به اللهُ ورسوله في الكتاب والسنة، ولم يلزم الله ولا رسوله باتباع أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، أو جعفر أو زيد، أو غيرهم. فمن التزم بمذهب أحدهم فقد ألزم نفسه ما لا يلزم، وضيَّق على نفسه في أمر وسَّع الله فيه. وخصوصاً إذا كان من أهل العلم، ويمكنه أن يبحث عن الحكم بدليله. فلا ينبغي لمثله أن يرضى بالتقليد، فقد أجمع العلماء المتقدِّمون على أن (العلم) هو معرفة الحق بدليله، وأن التقليد المطلق ليس علماً! وإذا بحث العالم المستقل في أصول المذاهب، ووازن بينها، وارتضى أصول مذهب معين؛ لأنه رآها أصوب وأرجح، فلا حرج عليه في ذلك، ولا يكون مقلِّداً لإمام ذلك المذهب، بل وافق اجتهادُه اجتهادَ ذلك الإمام. وقد يدع مذهبه إلى غيره في بعض المسائل إذا أعوزه الدليل. والأصل: أن العامي لا مذهب له، إنما مذهبه مذهب من يفتيه من العلماء الذين يسألهم. فقد يسألُ في قضية زيداً، وفي أخرى عَمْراً، وفي ثالثة بكراً، وهذا ما كان عليه الناس في عهد الصحابة والتابعين وأتباعهم، يسألون فيما يعِنُّ لهم من أمور: مَن تيسَّر لهم من ثقاتِ العلماء، ولا يلتزمون بواحد فقط، يخصُّونه بالسؤال دون غيره. ولهذا لم يُعرف (التمذْهُب) في عصرهم رضي الله عنهم. وهم القوم الذين يُقتدى بهم فيُهتدى، فهم خير قرون الأمة على الإطلاق، كما صحَّت بذلك الأحاديث. وإنما كان العامِّيُّ لا مذهبَ له، لأن اختيار مذهب معين يقتضي معرفة أصوله، والموازنة بينها وبين أصول غيره، وترجيحها على سواها، وهذه المعرفة والموازنة والترجيح لا يملكها العامي، إنما يملكها العالم الذي بلغ قدرًا من النظر والاختيار، وعنده أهلية الترجيح. وقد يُقبل من الشخص العامي أن يتبع مذهباً من مذاهب الأئمة المعروفين، إذا لم يجد في بلده غيره، كأن ينشأ في بلد كل أهلِه حنفية أو مالكية، أو شافعية، أو حنبلية، فيتمذهب بمذهب علماء أهل بلده، على ألا يتعصب له بالحق والباطل. وإذا نصحه ناصح أمين من ثقات العلماء: أن مذهبه ضعيف في هذه المسألة، واطمأن إليه قلبه، فلا حرج عليه أن يدع مذهبه في هذه القضية، ويأخذ بالمذهب الراجح، وهذا ما يسُرُّ إمامُه الذي يدِّعي اتباعَه. ولا يجوز لمن قلَّد مذهباً معتَبرًا أن يذُمُّ المذاهب الأخرى أو يطعن في أئمتها، فكلهم مجتهدون في معرفة المُحقِّ، والوصول إلى الصواب بقدر الاستطاعة وبذل الجُهد، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وهذا من فضل الله. كما أنهم جميعاً أئمة في تقوى الله، وفي الغَيْرة على الإسلام، والشجاعة في الحق، وإيثار الآخرة على الأولى، كما تشهد بذلك سِيَرُهم ومواقفهم رضي الله عنهم. تعلُّم أصول السلوك لطريق الآخرة: وعلى كل مسلم أن يعرف من علم طريق الآخرة والسلوك إلى معرفة الله تعالى ومحبته وتقواه ما يساعده على السير في الطريق، ويعينه على معرفة أمراض الأنفس وسبل علاجها، ويعرف مداخل الشيطان إلى القلب، ويقوى البواعث الخيرة في نفسه، حتى يزكِّي نفسَه ويفلح. كما قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9]. ويترقَّى حتى يصلَ إلى درجة الإحسان الذي عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". ويجب الحذر ممَّا دخل هذا العلم من شوائب ومبتدعات، كدَّرت صفاءَه، وأخرجته عن وسطية الإسلام في الجمع بين الدنيا والآخرة، والمزج بين المادة والروح، والتوفيق بين العقل والقلب، والموازنة بين المثال والواقع. وينبغي الاعتماد هنا على أئمة السلوك المتقدِّمين، الذين يعتمدون في تربيتهم وتوجيههم على الكتاب والسنة، والحذر من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين. وهذه هي العلوم التي يجب على كل مسلم معرفتها، وهي ـ كما قلنا ـ موصولة بالكتاب والسنة، فمعرفة هذه العلوم تتضمن معرفة ما يلزم المسلم من التفسير والحديث. علوم مكمِّلة: وهناك علوم مكملة، ينبغي للمسلم أن يُلِمَّ بها، مثل معرفة (السيرة النبوية) من كتاب معتمد على الأقل، ودراسة شيء من (علوم القرآن) و(علوم الحديث) أو مصطلحه، في كتب ميسرة. وإذا تعمَّق في العلم قرأ شيئا من (أصول الفقه)، على أن تُدرس هذه كلها في كتب ميسرة بلغة سهلة معاصرة. والأولى بالمسلم أن يقرأ هذه العلوم على عالم متمكِّن ثقة، حتى لا يقع في أفهام خاطئة، وهو لا يدري، ولا يجد من يصحِّح خطأه، وهذا ما حذَّر منه سلفنا الصالح حين قالوا: لا تأخذ العلم من صُحُفي، ولا القرآن من مُصحفي. يعنون بالصُّحُفي: الذي تعلم من الصُّحُف ـ أي: الكتب وحدها ـ ولم يتلق العلم من أهله وشيوخه، بحيث يحضر ويسأل ويناقش ويفهم، ويعنون بالمُصْحفي: الذي يتعلم قراءة القرآن من المصحف وحده، دون أن يأخذها على يد القراء المتقنين، كما تعلمنا نحن القرآن في الكُتَّاب على أيدي القراء، لوحاً بلوح، نكتبه ونقرؤه قبل أن نحفظه، ثم نحفظُه ونسمُّعه، ثم نعيده ونثبِّته مرة بعد مرة. فمثل هذا (المصحفي) إن جاز له أن يقرأ لنفسه، لا يجوز له أن يكون مُقْرِئاً ومُعَلِّماً لغيره. ثمرة هذا التفقه في الدين: المهم أن يصل المسلم بمعارفه إلى حد يستطيع به: أن يزن أفكاره ومشاعره، وأقواله وأعماله، وعباداته ومعاملاته، وسائر أموره، بميزان الشرع، وأن يحكم على الأشخاص والجماعات، والمواقف والسياسات بحكم الإسلام، ومن منطلق الإسلام، بعيداً عن إفراط الغلاة، وتفريط المقصِّرين، فعلى أساس الإسلام يحمَد ويذُم، ومن منظور الإسلام يُحِب ويَكره، ويقترب ويبتعد، ومن أجله يَرضى ويَسخط، ويصل ويقطع، ويُسالم ويُحارب، فما رضيه الشرعُ رضيه، وما رفضه الشرع رفضه، غير عابئ به، ولا آسِفٍ عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وبذا يصبح هواه تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو تمام الإيمان. فرض الكفاية في العلم: وأما فرض الكفاية، فقد يكون في علوم الدين، وفي علوم الدنيا. التبحُّر في علوم الدين: فأما علوم الدين، فما ليس بفرضِ عينٍ فيها، فإن تعلُّمَه والتبحر فيه فرضُ كفاية، بحيث يظل في الأمة مَن إذا استُفتِي أفتى بعلم، وإذا استُقضِي قضى بحقٍّ، وإذا دعا إلى الله دعا على بصيرة. يدل على هذا قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. فلم يوجب على الجميع النفير لطلب العلم، إنما أوجبه على طائفة في كل فرقة، سواء أكانت هذه الطائفة اثنين أو أكثر أو أقل، ما دامت تكفي لوظيفة التفقيه والإنذار. ولا يجوز للأمة أن تهمل هذا الأمر، حتى لا يوجد فيها من يُفتي الناس ويعلِّمهم ويذكرهم، كما يدل عليه الحديث المتفق عليه "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جُهَّالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا". والواجب على الأمة ـ بالتضامن ـ أن تهيئ من أبنائها من يقوم بهذه المهمة في الإفتاء والتفقيه والتعليم والدعوة والإرشاد، في صورة التخصص العالي، والعلم الاستقلالي ، وأن يكون لديها العدد الكافي بحيث يلبي حاجتها في كل بلد من البلدان، ويجب أن تهيِّئ لذلك من الأسباب، وتنشئ من المعاهد والكليات ما يحقِّق الغرض المنشود.

6228

| 07 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: العلم يصلح الخلل في الأولويات لدى المسلمين

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة التاسعة العلم شرط لصحة العمل العلم شرط ضروري للعمل، لكي يصح ويستقيم على أمر الله، سواء كان هذا العمل عبادة لله، أم معاملة للناس. روى سفيان بن عيينة عن عمر بن عبد العزيز، قال: (من عمِل في غير علم، كان يُفسدُ أكثر مما يصلح). وفي حديث معاذ بن جبل السابق في فضل العلم قال: وهو إمام العمل، والعمل تابعه( ). لا تصح عبادة بلا علم: فلا تستقيم عبادة يجهل صاحبها ما يجب لها من شروط، وما تقوم عليه من أركان، وما يبطلها من أعمال. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أساء صلاته، ولم يؤدِّ لها حقَّها من الطمأنينة: "ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ"( ). وإنما قال له: "لم تصلِّ". مع أنه أدَّى الصلاة أمامه؛ لأن صلاةً منقوصة مبتورة كـ(لا صلاة). لا تصح معاملة بلا علم: وفي المعاملات وشؤون الحياة عامة: شخصية وأسرية واجتماعية، يجب أن يعرف فيها الصحيح من الفاسد، والحلال من الحرام، حتى لا يتورَّط في الحرام، وهو لا يدري، والجهلُ بالأحكام في دار الإسلام ليس عذرًا. فما كان من الحلال بيِّنًا؛ فلا جناح عليه في فعله أو تركه، وما كان من الحرام بيِّنًا فلا عذر له في ارتكابه، وما كان من المُشتبهات التي لا يعلمهن كثير من الناس فالجزم أن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، "فمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه"( ). وكان السلف يوصون التاجر الذي يدخل السوق أن يتفقَّه في أحكام البيوع والتعامل، أو يلزم فقيهًا يسدِّده ويرشدُه، كما كانوا يوصون من يؤهل نفسه للسيادة والقيادة، أن يتزوَّد من العلم بما يلزم لمنصبه، وما ينير له الطريق. ومن مأثور قولهم: تفقَّهُوا قبل أن تُسوَّدوا. العلم شرط لتولي المناصب القيادية: وقد قدَّم يوسفُ الصديق نفسَه لملك مصر، ليضعَه حيث يجب أن يوضع مثلُه، مشيرًا إلى مؤهلاته الشخصية، وعلى رأسها الحفظ (يعني الأمانة) والعلم قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]. وفي الأعمال القيادية العليا — مثل الإمامة العظمى والقضاء — اشترط الفقهاء فيمن يتولاها: العلم الاستقلالي الذي يبلغ بصاحبه درجة الاجتهاد، حتى إذا استُفْتِي أفتى بعلم، وإذا أمَر أمَر بحقٍّ، وإذا حكم حكم بعدل، وإذا دعا دعا على بصيرة. ولم يقبلوا (المقلِّد) في الإمامة والقضاء إلا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات، والنزول من المثل الأعلى إلى الواقع الأدنى. على أن من الواجب على الأمة أن تتدارك أمورها، وتصلح من شأنها، حتى لا يلي أمورها إلا أكْفاء الناس، وأصلحهم للقيادة علمًا وعملًا. ولم يُجزْ أحد من الفقهاء أن يلي أمور المسلمين في السياسة، والقضاء مَن يجهل شرع الله، الذي هو أساس الحكم بين المسلمين، فإنه سيحكم بالجهل أو الهوى، وكلاهما في النار. روى بريدة مرفوعًا: "القضاةُ ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به. ورجل عرف الحق وجارَ في الحكم؛ فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار". العلم هو المبين لمراتب الأعمال وأولوياتها: ثم إن العلم هو الذي يبيِّن راجح الأعمال من مرجوحها، وفاضلها من مفضولها، كما يبيِّن صحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، ومسنونها من مبتدعها، ويعطي كل عمل سعره وقيمته في نظر الشرع. وكثيرًا ما نجد الذين حُرِموا نور العلم يُذيبون الحدود بين الأعمال، فلا تتمايز، أو يحكمون عليها بغير ما حكم الشرع، فيُفْرِطون أو يفرِّطون، وهنا يضيع الدين بين الغالي فيه والجافي عنه. وكثيرًا ما رأينا مثل هؤلاء — مع إخلاصهم — يشتغلون بمرجوح العمل، ويدَعون راجحَه، وينهمكون في المفضول، ويغفلون الفاضل. وقد يكون العمل الواحد فاضلًا في وقت آخر؛ راجحًا في حال مرجوحًا في آخر، ولكنهم لقلة علمهم وفقههم، لا يفرقون بين الوقتين، ولا يميزون بين الحالين. العلم هو الذي يصلح الخلل في فقه الأولويات: ومن المهم جدًّا في حياتنا: أن نهتدي فيها إلى فقه الأولويات، الذي يُعرف به الخير من الشر، والمعروف من المنكر، وأن تعلم أن للمعروف مراتبَ، وأن للمنكرات مراتب، وأن لكلِّ فضيلة، ولكل رذيلة؛ موضعها ومكانها، لا يجوز لنا أن نؤخر ما حقُّه التقديم، وأن نقدِّم ما حقه التأخير، وأن نضع الشيء في غير درجته ومرتبته. رأيتُ من المسلمين الطيبين في أنفسهم من يتبرع ببناء مسجد في بلد حافل بالمساجد، قد يتكلف نصفَ مليون أو مليونًا أو أكثر من الجنيهات أو الدولارات، فإذا طالبته ببذل مثل هذا المبلغ أو نصفه أو نصف نصفه في نشر الدعوة إلى الإسلام، أو مقاومة الكفر والإلحاد، أو في تأييد العمل الإسلامي لإقامة الحكم بما أنزل الله، أو نحو ذلك من الأهداف الكبيرة التي قد تجد الرجال، ولا تجد المال؛ فهيهات أن تجد أذنًا صاغية، أو إجابة ملبية؛ لأنهم يؤمنون ببناء الأحجار، ولا يؤمنون ببناء الرجال! وفي موسم الحج من كل عام أرى أعدادًا غفيرة من المسلمين الموسرين يحرصون على شهود الموسم متطوعين، وكثيرًا ما يضيفون إليه العمرة في رمضان، وينفقون في ذلك بسخاء، وقد يصطحبون معهم أناسًا من الفقراء على نفقتهم، وما كلَّف الله بالحج هؤلاء، فإذا طالبتهم ببذل هذه النفقات السنوية ذاتها لمقاومة الغزو التنصيري في إندونيسيا، أو الغزو الشيوعي في أفغانستان؛ لوَّوا رؤوسهم، ورأيتهم يصدُّون وهم مستكبرون. هذا مع أن الثابت بوضوح في القرآن الكريم: أن جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج؛ كما قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة:19 — 21]. هذا مع أن حجهم واعتمارهم من باب التطوع والتنفُّل، أما جهاد الكفر والإلحاد والعلمانية والتحلل، وما يسندها من قوى داخلية وخارجية، فهو الآن فريضة العصر، وواجب اليوم. ولقد رأيت شبابًا مخلصين كانوا يدرسون في كليات جامعية الطب، أو الهندسة، أو الزراعة، أو الآداب، أو غيرها من الكليات النظرية، أو العلمية، وكانوا من الناجحين، بل المتفوِّقين فيها، فما لبثوا إلا أن أداروا ظهورَهم لكلياتهم، وودَّعوها غير آسفين، بحجة التفرغ للدعوة والإرشاد والتبليغ، مع أن عملهم في تخصصاتهم هو من فروض الكفاية التي تأثم الأمة جميعها إذا فرطت فيها، ويستطيعون أن يجعلوا من عملهم عبادة وجهادًا إذا صحت فيه النية، والتُزمت حدود الله تعالى. ولو ترك كل مسلم مهنته، فمن ذا يقوم بمصالح المسلمين؟ ولقد بُعِث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابُه يعملون في مهنٍ شتَّى، فلم يطلب من أحد منهم أن يدع مهنته ليتفرغ للدعوة، وبقي كل منهم في عمله وحرفته، سواء قبل الهجرة أم بعدها. فإذا دعا داعي الجهاد، واستُنفروا نفروا خفافًا وثقالًا مجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. ولقد أنكر الإمام الغزالي على أهل زمنه توجُّهَ جمهورِ متعلِّميهم إلى الفقه ونحوه، على حين لا يوجد في البلد من بلدان المسلمين إلا طبيبٌ يهودي أو نصراني، يُوكَل إليه علاجُ المسلمين والمسلمات، وتُوضع بين يديه الأرواح والعَوْرات . ورأيتُ آخرين يُقيمون معارك يومية من أجل مسائلَ جزئية أو خلافية، مهمِلين معركةَ الإسلام الكبرى مع أعدائه الحاقدين عليه، والطامعين فيه، والخائفين منه، والمتربصين به. حتى في قلب أمريكا وكندا وأوربا، وجدت من جعلوا أكبر همهم: الساعة أين تُلبس، أفي اليد اليمنى أم اليسرى؟! ولُبس الثوب الأبيض بدل (القميص والبنطلون) واجبٌ أم سُنَّة؟ ودخول المرأة في المسجد: حلال أم حرام؟ والأكل على منضدة، والجلوس على الكرسي للطعام، واستخدام الملعقة والشوكة: هل يدخل في التشبه بالكفار أم لا؟ وغيرها وغيرها من المسائل التي تأكل الأوقات، وتمزِّق الجماعات، وتخلق الحَزَازات، وتُضيِّع الجهود والجهاد؛ لأنها جهود في غير هدف، وجهاد مع غير عدو. ورأيت فتيانًا ملتزمين متعبدين، يعاملون آباءهم بقسوة، وأمهاتهم بغلظة، وأخواتهم بعنف، وحُجَّتُهم أنهم عصاة أو منحرفون عن الدين، ناسين أن الله تعالى أوصى بالوالدين حسنًا، وإن كانا مشركين يجاهِدان ولدهما على الشرك، ويحاولان بكل جهدهما فتنته عن إسلامه، يقول تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]. فرغم المحاولة المُصِرَّة من الأبوين، التي سماها القرآن: مجاهدة على الشرك؛ أمر بمصاحبتهما بالمعروف، لأن للوالدين حقًّا، لا يفوقه إلا حق الله عز وجل، ولهذا قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]. أما الطاعة لهما في الشرك فهي مرفوضة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأما المصاحبة بالمعروف؛ فلا مناص منها، ولا عذر في التخلي عنها. الابتداع في الدين سببه نقص العلم: ورأينا أناسًا مخلصين، يشرعون في الدين ما لم يأذن به الله، يحرمون ما لم يحرمه الله ورسوله، ويأمرون بما لم يأمر به الله ورسوله، ويتعبَّدون الله بغير ما شرع، بل بالأهواء والبدع. شفيعهم لذلك — فيما زعموا — حُسنُ نيَّتِهم، وصفاء طويَّتهم، وصدق رغبتهم في التقرب إلى الله تعالى. وهذا فهم خاطئ لمعنى العمل الصالح المقبول عند الله تبارك وتعالى، فلا يكفي في حسنِ العمل حسنُ النية، وحرارةُ الإخلاص، حتى يكون العمل مأذونًا به، ممهورًا بخاتَم الشرع. ولله در العالم الزاهد الورع — الفضيل بن عياض — الذي عبَّر عن هذا المعنى بعبارات جامعة ناصعة، حين سئل عن أحسن العمل، في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]. قال: أحسن العمل أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي: ما أخلصه؟ وما أصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا؛ لم يُقبل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا؛ لم يُقبل. ولا يقبل حتى يكون خالصا وصوابًا( ). التأدب مع المعلم: ومن آداب التعلم في الإسلام: توقير المعلِّم، والتأدُّب معه، حتى اشتهر بين المسلمين قولهم: من علَّمني حرفًا صرتُ له عبدًا! وقد جاء في الحديث النبوي: "ليس من أمتي من لم يُجِل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه"( ). أي يعرف له حقَّه. وقد ذكر لنا القرآن تلك الرحلة التاريخية التي قام بها نبي من أولي العزم من الرسل — وهو موسى الذي اصطفاه برسالاته وبكلامه، وأنزل عليه التوراة فيها هدى ونور — ليطلب العلم عند رجل لم يذكر القرآن لنا اسمه، واختلف العلماء في شأنه: أهو نبي أم ولي؟ وحتى إن كان نبيا — وهو الصحيح — فليس في منزلة موسى قطعًا. ويبدو أن موسى قطع هذه الرحلة، هو وفتاه وخادمه على أقدامها، فلم يذكر أنهما كانا يركبان دابة، ولذا قال فيها: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]. وفي هذه القصة التي قصها علينا القرآن يتجلى لنا بعض الآداب المهمة للتعلم. أول هذه الآداب: الحرص على العلم مهما يكن في طلبه من لَأْواء ومشقة وعناء. كما فعل موسى عليه السلام في رحلته إلى (مجمع البحرين) وقد لقي فيها ما لقي من النصب. والأدب الثاني: التلطف مع المعلم، وإظهار الاحترام والتوقير له، وهذا ما نلمسه بجلاء ووضوح في تعامل موسى عليه السلام مع هذا العبد الصالح، الذي عرف باسم (الخضر) عليه السلام، فقد قال له موسى بأدب التلميذ مع المعلم: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]. والأدب الثالث: الصبر على المعلِّم، وهذا ما فعله موسى مع معلِّمه، فحين عرض عليه أن يتبعه ليعلِّمه ممَّا علمه الله، قال المعلم: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:67 — 70]. والأدب الرابع: أن المومن لا يشبع من العلم، وأنه يطلب أبدًا الزيادة منه، كما قال الله لخاتم رسله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. وهذا ما حرص عليه موسى: أن يضيف إلى علمه علما آخر. تصحيح النية: وهناك أدب مهم نبهت عليه السنة النبوية، وهو تصحيح النية: أن يتعلم العلم يريد به وجه الله تعالى. وبذلك يغدو طلب العلم عبادة وجهادًا في سبيل الله. وفي الحديث الصحيح الشهير: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"( ). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلَّم علمًا مما يُبتَغَي به وجه الله تعالى، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عَرف الجنة يوم القيامة". يعني: ريحَها( ). وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعلَّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا تماروا به السفهاء، ولا تَخَيَّروا به المجالسَ. فمن فعل ذلك، فالنارَ النارِ!"

1089

| 06 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي : تاريخ الإسلام لم يعرف الصراع بين العلم والإيمان

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الثامنة فضيلة التعليم يقول الله عز وجل: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. والمراد هو التعليم والإرشاد. وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] وهو إيجاب للتعليم. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]. وقوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. وهو تحريم للكتمان، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. وقال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]. ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل لا ينتزع العلم انتزاعًا من الناس بعد أن يؤتيهم إياه، ولكن يذهب بذهاب العلماء، فكلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئلوا، فأفتَوْا بغير علم، فضَلُّوا وأضلُّوا"( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "من علم علمًا فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار". وقال صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونة( )، ملعون ما فيها إلا ذكر الله سبحانه وما والاه، أو معلمًا أو متعلمًا"( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله سبحانه وملائكته وأهل سماواته وأرضه، حتى النملة في جُحرها، حتى الحوت في البحر؛ ليصلُّون على معلِّمِ الناس الخير"( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضًا، فكانت منها بُقعة قبِلَتِ الماء، فأنبتَتِ الكلأَ والعشبَ الكثير، وكانت منها بقعة أمسكتِ الماءَ، فنفع الله عز وجل بها الناسَ، فشربوا منها، وسقوا، وزرعوا، وكانت منها طائفة قِيعانٌ، لا تمسك ماء، ولا تنبتُ كلأً"( ). فالأول ذكره مثلًا للمنتفع بعلمه، والثاني ذكره مثلًا للنافع، والثالث للمحروم منهما. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله عز وجل حكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالًا فسَلَّطه على هلكته في الخير"( ). فضل التعليم عند الصحابة ومن بعدهم: قال عمر رضي الله عنه: من حدَّث حديثًا فعُمِل به، فله مثل أجر من عمل ذلك العمل. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معلِّم الناس الخير يستغفرُ له كل شيء حتى الحوت في البحر( ). وقال بعض العلماء: العالم يدخل فيما بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل. ورُوي أن سفيان الثوري رحمه الله، قَدِم عسقلان، فمكث لا يسأله إنسان، فقال: اكْرُوا لي لأخرج من هذا البلد، هذا بلد يموت فيه العلم( ). وإنما قال ذلك حرصًا على فضيلة التعليم، واستبقاء العلم به. وقال عطاء رضي الله عنه: دخلتُ على سعيد بن المسيب وهو يبكي، فقلتُ: ما يبكيكَ؟ قال: ليس أحد يسألني عن شيء. وقال الحسن رحمه الله: لولا العلماء لصار الناس مثلَ البهائم: أي أنهم بالتعليم يُخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية. وقال عكرمة: إن لهذا العلم ثمنًا. قيل: وما هو؟ قال: أن تضعه فيمن يحسن حمله ولا يضيِّعُه( ). وقال يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، وهم يحفظونهم من نار الآخرة. وقيل: أول العلم الصمتُ، ثم الاستماعُ، ثم الحفظُ، ثم العملُ، ثم نشرُه. وقيل: علِّمْ علمَك من يجهل، وتعلم ممن يُعلِّم ما تجهل؛ فإنك إذا فعلت ذلك علمتَ ما جهلتَ، وحفظت ما علمتَ. العلم دليل الإيمان: والعلم في نظر الإسلام ليس مقابلًا للإيمان، فضلًا عن أن يكون معاديًا له، كما شاعت هذه الفكرة في أوربا في القرون الوسطى، حين وقفت الكنيسة في تلك العصور تؤيد الخرافة، وتحارب العلم، وتناصر الجمود والتقليد، وتقاوم التفكير الحر، والابتكار المبدع، وتدافع عن القُوى المتسلِّطة من حكَّام وإقطاعيِّين، وتقف في وجه الشعوب والفئات المسحوقة. الإسلام لم يعرف هذا الصراع بين العلم والإيمان في تاريخه؛ لأن هذه الفكرة لا مجال لها في تعاليمه، لا نصًّا ولا روحًا. أما النصرانية، فتقوم أساسًا على أن الإيمان قضية لا علاقة لها بالفكر، بل هي ضدُّه، فهي لا تدخل في دائرة العقل والعلم، بل في نطاق الوجدان والقلب، وليس من شرط العقائد- في النصرانية- أن تكون مقبولة عقلًا، بل يحسن بها أن تكون شيئًا فوق العقل، ولهذا كان من الشعارات المرفوعة عند النصارى (آمن ثم اعلم). أو (اعتقد وأنت أعمى)! وآخر يقول على لسان القسيس: (أغمِضْ عينيك ثم اتْبَعني)! وذلك؛ لأن العقيدة النصرانية مؤسسة على قضايا يرفضها العقل المجرد، مثل التثليث، والتخليص، والفداء، وما يتفرع عنها، وما يلحق بها، حتى قال بعض فلاسفة النصارى في بعض معتقداتهم (غير المعقولة)- وهو القديس (أوجستين)-: أومن بهذا، لأنه محال! وهذا على عكس الإسلام الذي يرفض في بناء العقيدة (التقليد) و(التبعية)؛ كقول من قالوا: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة:104]. أو: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب:67] أو (أنا مع الناس). ويرفض أيضا الظن، حيث لا يغني في شأن العقائد إلا العلم واليقين، ولهذا أنكر على النصارى عقيدتهم في الصلب بقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:157]. وقال في شأن المشركين وآلهتهم المزعومة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23]. ثم قال: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28]. ويأبى القرآن إلا أن تبنى العقائد على أساس البرهان القائم على النظر العميق، والتفكير الهادئ، ولأجل هذا صاح القرآن في أصحاب العقائد الباطلة: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. ولا عجب أن تكرَّرت في القرآن هذه العبارات المُوقِظة للفكر من غفلته، والمحرِّرة للإنسان من رِبقَة تقليده وجموده، مثل (أفلا تعقلون). (أفلا تتفكرون). (أفلا ينظرون). (أو لم ينظروا). (أو لم يتفكروا). (لقوم يعقلون). (لقوم يعلمون). (لقوم يتفكرون). وحسبُك أن تقرأ هذه الدعوة القوية الصريحة إلى التفكير: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46]. وهذا ما دعا الأستاذَ عباس العقاد– رحمه الله- أن يخرج كتابًا عنوانه: (التفكير فريضة إسلامية). وهذا تعبير صحيح، فالإسلام كما فرض على الناس أن يتعبدوا، فرض عليهم أن يتفكروا. فالعقيدة في الإسلام تقوم على العلم، لا على التسليم الأعمى، يقول القرآن: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]. {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98]. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة:235]. لم يخشَ القرآن عواقب الدعوة إلى النظر والتفكر والعلم أن تأتي بنتائج تناقض حقائق الدين ومسلماته؛ لأن فكرة الإسلام: أن الحقيقة الدينية لا يمكن أن تناقض الحقيقة العقلية، فالحقُّ لا يناقض الحق، واليقينُ لا يعارض اليقين، إنما يعارضُ اليقينُ الظنَّ، وتنافي الحقيقةُ الشكَّ أو الوهمَ أو الافتراض. فليست كل أفهام أهل الدين دينًا؛ كما أنه ليست كل نظريات أهل العلم علمًا. إن القرآن يعتبر العلم الحق داعية إلى الإيمان، ودليلًا إليه. قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54]. فهذه المعاني الثلاثة (العلم والإيمان والإخبات) مترتِّبٌ بعضها على بعض: كما يدل عليه العطف بحرف (الفاء) التي تفيد الترتيب والتعقيب بلا مهلة صلة. فالعلم يتبعه الإيمان تبعية ترتيب بلا إمهال ليعلموا فيؤمنوا. والإيمان تتبعه حركة القلوب من الإخبات والخشوع لله تعالى، وهكذا يثمر العلم الإيمان، ويثمر الإيمان الإخبات والتواضع لله رب العالمين. وفي آية أخرى يذكر العلم والإيمان متعاطفَيْن جنبًا إلى جنب؛ كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم:56]. فالعلم والإيمان في الآية الكريمة مقترنان متعاطفان، وليسا من الأضداد التي إذا ثبت أحدهما، انتفى الآخر. وإذا أردنا بالعلم: العلم بمفهومه الشائع اليوم، وهو المادي القائم على المشاهدة الحسية والتجربة؛ فلا ننكر أيضا قيمة هذا العلم، وحاجة الناس إليه؛ لأن العلم المادي مطلوب للإنسان، بلا شك، ولكنه مطلوبٌ طلبَ الوسائلِ لا طلبَ الغايات. وهو يعين الإنسان على الحياة، وييسر له سبلها، ويختصر له الزمان، ويطوي له المكان: فيقرب البعيد، ويُلِين الحديد، ولكنه وحده لا يستطيع إسعاد البشر، كما لا يمكنه وحده أن يضبط سير البشر، ويقاوم أنانية الإنسان، ونزعات نفسه الأمَّارة بالسوء. ولهذا كان الإنسان في حاجة ماسة إلى (العلم الديني) الذي يُنَمِّي الإيمان، ويُحيي الضمائر، ويغرسُ الفضائل، ويقي الإنسان شُحَّ نفسه، وطغيان غرائزه على عقله، وهواه على ضميره، وهذا هو الذي يعصم (العلمَ الماديَّ) من الانحراف، ويحول دون استخدامه في التدمير والعدوان. وقد ضرب لنا القرآن مثلًا بسليمان عليه السلام – الذي آتاه الله ملكا لم يُؤته أحدًا من بعده. فقد أُحضر إليه عرشُ بلقيسَ من سبأٍ باليمن إلى مقرِّه بالشام، قبل أن يرتد إليه طرفُه، بفضل ذلك الذي وصفه القرآن بأنه (عنده علم الكتاب)، وهنا تجلَّى الإيمان حين أرجع سليمان الفضل إلى الله لا إلى نفسه، فلم يركبْه الغرورُ، أو يستبد به الطغيان: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]. وكذلك كان موقف ذي القرنين الذي فتح الفتوح غربًا وشرقًا، وتوَّج حكمَه بإقامة سدِّه العظيم، مستخدمًا ما يَسَّرَهُ له علمُ عصره من وسائل وأدوات، فلما أتمَّ البناء، قال في تواضع المؤمنين: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]. ألا إن العلم الحق هو الذي يهدي إلى الإيمان، والإيمان الحق هو الذي يُفسح مجالًا للعلم، فهما- إذن- شريكان متفاهمان، بل أخوان متعاونان. وهذا هو العلم الذي يريده الإسلام أيًّا كان موضوعه، ومجال بحثه، يريده علمًا في ظل الإيمان، وفي خدمة مُثُله العليا، وإلى ذلك أشار القرآن حين قال في أول آية نزلت: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]. والقراءة عنوان العلم ومِفتاحه ومصباحه، فإذا كان أول أمر إلهي نزل به القرآن: (القراءة)، كان ذلك أوضح دليل على مكانة العلم في الإسلام. ولكن القرآن لم يطلب (مطلق قراءة)، وإنما طلب قراءة مقيَّدة بقيد خاص، وهو أن تكون (باسم الله)، أو كما قال القرآن: {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. وإذا كانت القراءة باسم الله، فقد وُجِّهت إلى الحق والخير والهداية؛ لأن الله تعالى هو مصدر هذا كله. ولا غرو أن نشأ العلمُ في الإسلام في أحضان الدين، وأن نشأت المدارس في صحون المساجد، وبدأت الجامعات الإسلامية العريقة تحت سقوف الجوامع، بل سُمِّي كل منها جامعًا: جامع الأزهر، جامع القرويين، جامع الزيتونة... وهكذا. وكانت هذه الجوامع أو الجامعات تدرس علوم الدين، وعلوم الدنيا معًا، وكان كثير من العلماء التجريبيِّين هم في الوقت نفسه علماء دين، مثل القاضي ابن رشيد الحفيد مؤلف (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه المقارن، ومؤلف (الكليات) في الطب. ومثل الخوارزمي الذي ألف كتابه الفريد، الذي أسس به علم الجبر، ليحل به مشكلات في الوصايا والمواريث من أبواب الفقه!. العلم دليل العمل: والعلم في نظر الإسلام دليل للعمل أيضًا، كما هو دليل للإيمان. ترجم الإمام البخاري في جامعه الصحيح: (باب العلم قبل القول والعمل)، وقال ابن المنير: (أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدِّم عليهما، مصحِّح للنية المصحِّحة للعمل، فنبَّه المصنِّف (يعني البخاري) على ذلك، حتى لا يسبق إلى الذهن، من قولهم: إن العلم لا ينفع إلا بالعمل. تهوينُ أمرِ العلم، والتساهل في طلبه)( ). واستدل البخاري لما ذكره بجملة من الآيات والأحاديث منها: قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]. فبدأ بالعلم، وثنَّى بالعمل، ورأسُ العلم معرفةُ الله تعالى وتوحيده، والخطاب، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، هو متناول لأمته. وقال جل ذكره: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. أي: إنما يخاف الله عز وجل ويقدُره حقَّ قدره، من عرفه، وعلم عظيمَ قُدرته، وسلطانه على خلقه، نتيجة التأمل في أسرار كونه وشرعه، وهم العلماء. وهذه الخشية هي التي تحفِّز على عمل الصالحات، واجتناب السيئات. القرضاوي : تاريخ الإسلام لم يعرف الصراع بين العلم والإيمان المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الثامنة فضيلة التعليم يقول الله عز وجل: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. والمراد هو التعليم والإرشاد. وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] وهو إيجاب للتعليم. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]. وقوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. وهو تحريم للكتمان، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. وقال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]. ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل لا ينتزع العلم انتزاعًا من الناس بعد أن يؤتيهم إياه، ولكن يذهب بذهاب العلماء، فكلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئلوا، فأفتَوْا بغير علم، فضَلُّوا وأضلُّوا"( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "من علم علمًا فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار". وقال صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونة( )، ملعون ما فيها إلا ذكر الله سبحانه وما والاه، أو معلمًا أو متعلمًا"( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله سبحانه وملائكته وأهل سماواته وأرضه، حتى النملة في جُحرها، حتى الحوت في البحر؛ ليصلُّون على معلِّمِ الناس الخير"( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضًا، فكانت منها بُقعة قبِلَتِ الماء، فأنبتَتِ الكلأَ والعشبَ الكثير، وكانت منها بقعة أمسكتِ الماءَ، فنفع الله عز وجل بها الناسَ، فشربوا منها، وسقوا، وزرعوا، وكانت منها طائفة قِيعانٌ، لا تمسك ماء، ولا تنبتُ كلأً"( ). فالأول ذكره مثلًا للمنتفع بعلمه، والثاني ذكره مثلًا للنافع، والثالث للمحروم منهما. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله عز وجل حكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالًا فسَلَّطه على هلكته في الخير"( ). فضل التعليم عند الصحابة ومن بعدهم: قال عمر رضي الله عنه: من حدَّث حديثًا فعُمِل به، فله مثل أجر من عمل ذلك العمل. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معلِّم الناس الخير يستغفرُ له كل شيء حتى الحوت في البحر( ). وقال بعض العلماء: العالم يدخل فيما بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل. ورُوي أن سفيان الثوري رحمه الله، قَدِم عسقلان، فمكث لا يسأله إنسان، فقال: اكْرُوا لي لأخرج من هذا البلد، هذا بلد يموت فيه العلم( ). وإنما قال ذلك حرصًا على فضيلة التعليم، واستبقاء العلم به. وقال عطاء رضي الله عنه: دخلتُ على سعيد بن المسيب وهو يبكي، فقلتُ: ما يبكيكَ؟ قال: ليس أحد يسألني عن شيء. وقال الحسن رحمه الله: لولا العلماء لصار الناس مثلَ البهائم: أي أنهم بالتعليم يُخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية. وقال عكرمة: إن لهذا العلم ثمنًا. قيل: وما هو؟ قال: أن تضعه فيمن يحسن حمله ولا يضيِّعُه( ). وقال يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، وهم يحفظونهم من نار الآخرة. وقيل: أول العلم الصمتُ، ثم الاستماعُ، ثم الحفظُ، ثم العملُ، ثم نشرُه. وقيل: علِّمْ علمَك من يجهل، وتعلم ممن يُعلِّم ما تجهل؛ فإنك إذا فعلت ذلك علمتَ ما جهلتَ، وحفظت ما علمتَ. العلم دليل الإيمان: والعلم في نظر الإسلام ليس مقابلًا للإيمان، فضلًا عن أن يكون معاديًا له، كما شاعت هذه الفكرة في أوربا في القرون الوسطى، حين وقفت الكنيسة في تلك العصور تؤيد الخرافة، وتحارب العلم، وتناصر الجمود والتقليد، وتقاوم التفكير الحر، والابتكار المبدع، وتدافع عن القُوى المتسلِّطة من حكَّام وإقطاعيِّين، وتقف في وجه الشعوب والفئات المسحوقة. الإسلام لم يعرف هذا الصراع بين العلم والإيمان في تاريخه؛ لأن هذه الفكرة لا مجال لها في تعاليمه، لا نصًّا ولا روحًا. أما النصرانية، فتقوم أساسًا على أن الإيمان قضية لا علاقة لها بالفكر، بل هي ضدُّه، فهي لا تدخل في دائرة العقل والعلم، بل في نطاق الوجدان والقلب، وليس من شرط العقائد- في النصرانية- أن تكون مقبولة عقلًا، بل يحسن بها أن تكون شيئًا فوق العقل، ولهذا كان من الشعارات المرفوعة عند النصارى (آمن ثم اعلم). أو (اعتقد وأنت أعمى)! وآخر يقول على لسان القسيس: (أغمِضْ عينيك ثم اتْبَعني)! وذلك؛ لأن العقيدة النصرانية مؤسسة على قضايا يرفضها العقل المجرد، مثل التثليث، والتخليص، والفداء، وما يتفرع عنها، وما يلحق بها، حتى قال بعض فلاسفة النصارى في بعض معتقداتهم (غير المعقولة)- وهو القديس (أوجستين)-: أومن بهذا، لأنه محال! وهذا على عكس الإسلام الذي يرفض في بناء العقيدة (التقليد) و(التبعية)؛ كقول من قالوا: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة:104]. أو: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب:67] أو (أنا مع الناس). ويرفض أيضا الظن، حيث لا يغني في شأن العقائد إلا العلم واليقين، ولهذا أنكر على النصارى عقيدتهم في الصلب بقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:157]. وقال في شأن المشركين وآلهتهم المزعومة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23]. ثم قال: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28]. ويأبى القرآن إلا أن تبنى العقائد على أساس البرهان القائم على النظر العميق، والتفكير الهادئ، ولأجل هذا صاح القرآن في أصحاب العقائد الباطلة: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. ولا عجب أن تكرَّرت في القرآن هذه العبارات المُوقِظة للفكر من غفلته، والمحرِّرة للإنسان من رِبقَة تقليده وجموده، مثل (أفلا تعقلون). (أفلا تتفكرون). (أفلا ينظرون). (أو لم ينظروا). (أو لم يتفكروا). (لقوم يعقلون). (لقوم يعلمون). (لقوم يتفكرون). وحسبُك أن تقرأ هذه الدعوة القوية الصريحة إلى التفكير: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46]. وهذا ما دعا الأستاذَ عباس العقاد– رحمه الله- أن يخرج كتابًا عنوانه: (التفكير فريضة إسلامية). وهذا تعبير صحيح، فالإسلام كما فرض على الناس أن يتعبدوا، فرض عليهم أن يتفكروا. فالعقيدة في الإسلام تقوم على العلم، لا على التسليم الأعمى، يقول القرآن: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]. {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98]. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة:235]. لم يخشَ القرآن عواقب الدعوة إلى النظر والتفكر والعلم أن تأتي بنتائج تناقض حقائق الدين ومسلماته؛ لأن فكرة الإسلام: أن الحقيقة الدينية لا يمكن أن تناقض الحقيقة العقلية، فالحقُّ لا يناقض الحق، واليقينُ لا يعارض اليقين، إنما يعارضُ اليقينُ الظنَّ، وتنافي الحقيقةُ الشكَّ أو الوهمَ أو الافتراض. فليست كل أفهام أهل الدين دينًا؛ كما أنه ليست كل نظريات أهل العلم علمًا. إن القرآن يعتبر العلم الحق داعية إلى الإيمان، ودليلًا إليه. قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54]. فهذه المعاني الثلاثة (العلم والإيمان والإخبات) مترتِّبٌ بعضها على بعض: كما يدل عليه العطف بحرف (الفاء) التي تفيد الترتيب والتعقيب بلا مهلة صلة. فالعلم يتبعه الإيمان تبعية ترتيب بلا إمهال ليعلموا فيؤمنوا. والإيمان تتبعه حركة القلوب من الإخبات والخشوع لله تعالى، وهكذا يثمر العلم الإيمان، ويثمر الإيمان الإخبات والتواضع لله رب العالمين. وفي آية أخرى يذكر العلم والإيمان متعاطفَيْن جنبًا إلى جنب؛ كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم:56]. فالعلم والإيمان في الآية الكريمة مقترنان متعاطفان، وليسا من الأضداد التي إذا ثبت أحدهما، انتفى الآخر. وإذا أردنا بالعلم: العلم بمفهومه الشائع اليوم، وهو المادي القائم على المشاهدة الحسية والتجربة؛ فلا ننكر أيضا قيمة هذا العلم، وحاجة الناس إليه؛ لأن العلم المادي مطلوب للإنسان، بلا شك، ولكنه مطلوبٌ طلبَ الوسائلِ لا طلبَ الغايات. وهو يعين الإنسان على الحياة، وييسر له سبلها، ويختصر له الزمان، ويطوي له المكان: فيقرب البعيد، ويُلِين الحديد، ولكنه وحده لا يستطيع إسعاد البشر، كما لا يمكنه وحده أن يضبط سير البشر، ويقاوم أنانية الإنسان، ونزعات نفسه الأمَّارة بالسوء. ولهذا كان الإنسان في حاجة ماسة إلى (العلم الديني) الذي يُنَمِّي الإيمان، ويُحيي الضمائر، ويغرسُ الفضائل، ويقي الإنسان شُحَّ نفسه، وطغيان غرائزه على عقله، وهواه على ضميره، وهذا هو الذي يعصم (العلمَ الماديَّ) من الانحراف، ويحول دون استخدامه في التدمير والعدوان. وقد ضرب لنا القرآن مثلًا بسليمان عليه السلام – الذي آتاه الله ملكا لم يُؤته أحدًا من بعده. فقد أُحضر إليه عرشُ بلقيسَ من سبأٍ باليمن إلى مقرِّه بالشام، قبل أن يرتد إليه طرفُه، بفضل ذلك الذي وصفه القرآن بأنه (عنده علم الكتاب)، وهنا تجلَّى الإيمان حين أرجع سليمان الفضل إلى الله لا إلى نفسه، فلم يركبْه الغرورُ، أو يستبد به الطغيان: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]. وكذلك كان موقف ذي القرنين الذي فتح الفتوح غربًا وشرقًا، وتوَّج حكمَه بإقامة سدِّه العظيم، مستخدمًا ما يَسَّرَهُ له علمُ عصره من وسائل وأدوات، فلما أتمَّ البناء، قال في تواضع المؤمنين: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]. ألا إن العلم الحق هو الذي يهدي إلى الإيمان، والإيمان الحق هو الذي يُفسح مجالًا للعلم، فهما- إذن- شريكان متفاهمان، بل أخوان متعاونان. وهذا هو العلم الذي يريده الإسلام أيًّا كان موضوعه، ومجال بحثه، يريده علمًا في ظل الإيمان، وفي خدمة مُثُله العليا، وإلى ذلك أشار القرآن حين قال في أول آية نزلت: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]. والقراءة عنوان العلم ومِفتاحه ومصباحه، فإذا كان أول أمر إلهي نزل به القرآن: (القراءة)، كان ذلك أوضح دليل على مكانة العلم في الإسلام. ولكن القرآن لم يطلب (مطلق قراءة)، وإنما طلب قراءة مقيَّدة بقيد خاص، وهو أن تكون (باسم الله)، أو كما قال القرآن: {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. وإذا كانت القراءة باسم الله، فقد وُجِّهت إلى الحق والخير والهداية؛ لأن الله تعالى هو مصدر هذا كله. ولا غرو أن نشأ العلمُ في الإسلام في أحضان الدين، وأن نشأت المدارس في صحون المساجد، وبدأت الجامعات الإسلامية العريقة تحت سقوف الجوامع، بل سُمِّي كل منها جامعًا: جامع الأزهر، جامع القرويين، جامع الزيتونة... وهكذا. وكانت هذه الجوامع أو الجامعات تدرس علوم الدين، وعلوم الدنيا معًا، وكان كثير من العلماء التجريبيِّين هم في الوقت نفسه علماء دين، مثل القاضي ابن رشيد الحفيد مؤلف (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه المقارن، ومؤلف (الكليات) في الطب. ومثل الخوارزمي الذي ألف كتابه الفريد، الذي أسس به علم الجبر، ليحل به مشكلات في الوصايا والمواريث من أبواب الفقه!. العلم دليل العمل: والعلم في نظر الإسلام دليل للعمل أيضًا، كما هو دليل للإيمان. ترجم الإمام البخاري في جامعه الصحيح: (باب العلم قبل القول والعمل)، وقال ابن المنير: (أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدِّم عليهما، مصحِّح للنية المصحِّحة للعمل، فنبَّه المصنِّف (يعني البخاري) على ذلك، حتى لا يسبق إلى الذهن، من قولهم: إن العلم لا ينفع إلا بالعمل. تهوينُ أمرِ العلم، والتساهل في طلبه)( ). واستدل البخاري لما ذكره بجملة من الآيات والأحاديث منها: قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]. فبدأ بالعلم، وثنَّى بالعمل، ورأسُ العلم معرفةُ الله تعالى وتوحيده، والخطاب، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، هو متناول لأمته. وقال جل ذكره: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. أي: إنما يخاف الله عز وجل ويقدُره حقَّ قدره، من عرفه، وعلم عظيمَ قُدرته، وسلطانه على خلقه، نتيجة التأمل في أسرار كونه وشرعه، وهم العلماء. وهذه الخشية هي التي تحفِّز على عمل الصالحات، واجتناب السيئات. %MCEPASTEBIN%%MCEPASTEBIN%

2667

| 05 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي: العبادة ثمرة العلم وفائدة العمر (6)

الحلقة السادسة الإمام الغزالي والعلم: والإمام الغزالي من أئمة الصوفية، الذين بيَّنوا فضل العلم، بل ضرورته لعلم السلوك وعلم طريق الآخرة، الذي يبتغي فيه سالكه مرضاة الله تعالى ودخول جنته، والحصول على ثواب الآخرة، التي قال الله فيها: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]. قالوا: الحسنى: الجنة. والزيادة: التنعم برؤية الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23 — 22] فقد أثبت الغزالي في كتابيه (إحياء علوم الدين)، وكتابه الذي ألفه في أواخر حياته (منهاج العابدين)، أهمية العلم وفرضيته وضروريته للمريدين والسالكين في الطريق إلى الله، وقال في ذلك قولًا حسنًا، يفتح العقول، ويحيي القلوب، ويوقظ الضمائر، ويفتح لمريدي الخير أبوابًا إلى اليقين والاستقامة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6]. قال في منهاج العابدين: (اعلموا - إخواني، أسعدكم الله وإياي بمرضاته -: أن العبادة ثمرة العلم، وفائدة العمر، وحاصل العبيد الأقوياء، وبضاعة الأولياء، وطريق الأتقياء، وقِسْمة الأعزَّة، ومقصد ذوي الهمَّة، وشعار الكرم، وحرفة الرجال، واختيار أولي الأبصار، وهي سبيل السعادة ومنهاج الجنة. فقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]. وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:22]. ثم إنا نظرنا فيها، وتأملنا طريقها، من مباديها إلى مقاصدها التي هي أمانيّ سالكيها، فإذا هي طريق وعْر، وسبيل صعْب، كثيرة العقبات، شديدة المشقَّات، عظيمة الآفات، بعيدة المسافات، كثيرة العوائق والموانع، حقيقة المهالك والمقاطع، غزيرة الأعداء والقُطَّاع، عزيزة الأشياع والأتباع. وهكذا يجب أن تكون؛ لأنها طريق الجنة، فيصير هذا تصديقًا لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الجنة حُفَّت بالمكاره، وإن النار حُفَّت بالشهوات"( ). ثم مع ذلك كله، فإن العبد ضعيف، والزمان صعب، وأمر الدين متراجِع، والفراغ قليل، والشُّغُل كثير، والعُمُر قصير، وفي العمل تقصير، والناقد بصير، والأجل قريب، والسفر بعيد، والطاعة هي الزاد، فلا بد منها، وهي فائتة فلا مرد لها، فمن ظفر بها فقد فاز، وسعِد أبد الآبدين، ودهْر الداهرين، ومن فاته ذلك خسر مع الخاسرين، وهلك مع الهالكين؛ فصار هذا الخطب إذن والله معضلًا، والخطر عظيمًا. فلذلك عَزَّ من يقصد هذا الطريق وقَلَّ، ثم عزَّ من القاصدين من يسلكه، ثم عز من يصل إلى المقصود، ويظفر بالمطلوب، وهم الأعِزَّة الذين اصطفاهم الله عز وجل لمعرفته ومحبته، وسدَّدهم بتوفيقه وعصمته، ثم أوصلهم بفضله إلى رضوانه وجنته، فنسأله جل ذكره أن يجعلكم وإيانا من أولئك الفائزين برحمته. نعم، ولما وجدنا هذا الطريق بهذه الصفة، نظرنا فأنعمنا النظر في كيفية قطعها، وما يحتاج إليه العبد من الأُهْبة والعُدَّة، والآلة والحيلة، من علم وعمل، عسى أن يقطعها بحسن توفيق الله تعالى في سلامة، ولا ينقطع في عقباتها المهلكة، فيهلك مع الهالكين، والعياذ بالله، فصنَّفنا فى قطع هذه الطريق وسلوكها: كتبًا كـ(إحياء علوم الدين) و(أسرار المعاملات) و(القربة إلى الله تعالى)، وغير ذلك. واحتوت هذه الكتب على دقائق من العلوم، اعتاصت على إفهام العامة، فقدحوا فيها، وخاضوا فيما لم يحسنوه منها. فأى كلام أفصح من كلام رب العالمين؛ وقد قالوا فيه: إنه أساطير الأولين! ألم تسمع إلى قول زين العابدين علي بن الحسين بن على بن أبى طالب رضوان الله عليهم أجمعين: إنى لأكـتم من علمى جـواهــــــره كيلا يرى الحق ذو جهل فيُـفْتَتنا وقد تـقـدم فى هذا أبو حســـــــــــن إلى الحسين، ووصَّى قبله الحسنا يا رب جوهر علم لو أبـوح به لـقـيل لي: أنـــت مـمن يـعـــبد الوثنا ولاستحلَّ رجال مسلمون دمى يـــــــــرون أقـبــح ما يأتونـــــه حـســــــــنًا وقد اقتضت الحال عند ذوى الدين الذين هم أشرف خلق الله تعالى: النظر إلى كافة خلق الله تعالى بعين الرحمة وترك المماراة، فابتهلتُ إلى من بيده الخلق والأمر: أن يوفقنى لتصنيف كتاب يقع عليه الإجماع، ويحصل بقراءته الإقناع، فأجابنى الذى يجيب المضطَّر إذا دعاه، وأطلعنى بفضله على أسرار ذلك، وألهمني فيه ترتيبًا عجيبًا لم أذكره في المصنفات التى تقدمت فى أسرار معاملات الدين، وهو الذى أنا له واصف فأقول وبالله التوفيق: إن أول ما ينتبه العبد للعبادة، ويتجرد لسلوك طريقها بخطوة سمائية من الله تعالى، وتوفيق خاص إلهي، وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22]. فإذا خطر بقلب العبد أوَّل كل شيء: إني أجدني منعَّمًا بضروب النعم عليَّ، كالحياة والقدرة والعقل والعلم والمنطق، وسائر المعانى الشريفة واللَّذات، وما ينصرف عني من ضروب المضارِّ والآفات، وإن لهذه مُنعمًا يطالبنى بشكره وخدمته، وإن أغفلتُ ذلك فيزيل عني نعمته، ويذيقنى بأسه ونقمته. وقد بعث إليَّ رسولًا أيَّده بالمعجزات الخارقة للعادات، الخارجة عن مقدور البشر، وأخبرني أن لي ربًّا جل ذكره قادرًا عالمًا، حيًّا متكلِّمًا، يأمر وينهى، قادرًا على أن يعاقبني إن عصيته، ويثيبني إن أطعته، عالمًا بأسراري، وما يختلج في أفكاري، وقد وعد وأوعد، وأمر بالتزام قوانين الشرع، فيقع فى قلبه أنه ممكن؛ إذ لا استحالة لذلك فى العقل بأول البديهة، فيخاف على نفسه عنده ويفزع. فهذا خاطر الفزع الذى يُنَبِّه العبد، ويُلزمه الحُجَّة، ويقطع عنه المعذرة، ويزعجه إلى النظر والاستدلال، فيحتاج العبد عند ذلك، ويقلق، وينظر فى طريق الخلاص، وحصول الأمان له مما وقع بقلبه، أو سمع بأذنه، فلم يجد فيه سبيلًا سوى النظر بعقله في الدلائل، والاستدلال بالصنعة على الصانع، ليحصل له العلم اليقين بما هو مَغِيب، ويعلم أن له ربًّا كلَّفه وأمره ونهاه. هذه أول عقبة استقبلته فى طريق العبادة، وهى (عقبة العلم والمعرفة)؛ ليكون من الأمر على بصيرة، فيأخذ فى قطعها من غير بُدٍّ، يحسن النظر فى الدلائل، ووفور التأمل والتعلم، والسؤال من علماء الآخرة، أدلَّاءِ الطريق، سُرُج الأمة، وقادة الأئمة، والاستفادة منهم، واستهداء الدعاء الصالح منهم بالتوفيق والإعانة إلى أن يقطعها بتوفيق الله سبحانه. فبعد حصول هذه المعرفة بالله سبحانه وتعالى جهد حتى يتعلم ما يلزمه من فرائض الشريعة ظاهرًا وباطنًا، فلما استكمل العلم والمعرفة بالفرائض، انبعث ليأخذ فى العبادة ويشتغل بها، فنظر فإذا هو صاحب جنايات وذنوب، وهذا حال الأكثر من الناس، فيقول: كيف أُقبل على العبادة وأنا مُصِرٌّ على المعصية، متلطِّخ بها؟ فيجب عليَّ أوَّلًا أن أتوب إليه ليغفر لي ذنوبي، ويخلصني من أسرها، ويطهرني من أقذارها؛ فأصلح للخدمة، وبِساط القُربة، فتستقبله هاهنا (عقبة التوبة)، فيحتاج لا محالة إلى قطعها، ليصل إلى ما هو المقصود منها، فيأخذ فى ذلك بإقامة التوبة بحقوقها وشرائطها، إلى أن يقطعها، فلما أن حصلت له التوبة الصادقة، وفرغ من هذه العقبة، حنَّ إلى العبادة ليأخذ فيها؛ فنظر فإذا حوله عوائق مُحدِقة به، كل واحدة منها تعوقه عما قصده من العبادة، بضرب من التعويق. فتأملَ، فإذا هى أربعة: الدنيا، والخَلْق، والشيطان، والنفس، فاحتاج لا محالة إلى دفع هذه العوائق وإزاحتها عنه، وإلا، فلا يتأنَّى له مراده من العبادة، فاستقبلته هاهنا (عقبة العوائق)، فيحتاج إلى قطعها بأربعة أمور: التجرد عن الدنيا، والتفرد عن الخَلْق، والمحاربة مع الشيطان، والقهر للنفس. فأما النفس فأشدُّها؛ إذ لا يمكنه التجرد عنها، ولا أن يقهرها بمرة ويقمعها، كالشيطان، إذ هي المطيَّة والآلة، ولا مطمع أيضًا في موافقتها على ما يقصده العبد من العبادة، والإقبال عليها، إذ هي مجبولة على ضد الخير كاللهو واتباعها له، فاحتاج إذن إلى أن يُلجمها بلجام التقوى، لتبقى له فلا تنقطع، وتنقاد له فلا تطغى. فيستعملها فى المصالح والمراشد، ويمنعها من المهالك والمفاسد، فيأخذ إذا في قطع هذه العقبة، ويستعين بالله جل ذكره على ذلك.. عوارض العبادة فلما فرغ من قطعها رجع إلى قصد العبادة، فإذا عوارض تعترضه، فتشغله عن الإقبال على مقصوده من العبادة، وتصدُّه عن التفرغ لذلك، كما ينبغى، فتأملَ فإذا هى أربعة: الأول: الرزق، تطالبه النفس به وتقول: لا بد لي من رزق وقِوام، وقد تجردتَ عن الدنيا، وتفردتَ أيضًا عن الخلق، فمن أين يكون قِوامي ورزقي؟ والثانى: الأخطار من كل شيء يخافه أو يرجوه، أو يريده أو يكرهه، ولا يدرى صلاحه في ذلك أو فساده، فإن عواقب الأمور مبهمة، فيشتغل قلبه بها، فإنه ربما يقع فى فساد أو مَهلكة. والثالث: الشدائد والمصائب تنصبُّ عليه من كل جانب، لا سيما وقد انتصب لمخالفة الخلق، ومحاربة الشيطان، ومضادَّة النفس، فكم من غُصَّة يتجرَّعها، وكم من شدة تستقبله، وكم من هم وحزن يعترضه؟ وكم من مصيبة تتلقاه. والرابع: أنواع القضاء من الله عز وجل بالحلو والمُرِّ، تَرِد عليه حالًا فحالًا، والنفس تسارع إلى السخط، وتبادر إلى الفتنة. فاستقبلته هاهنا (عقبة العوارض الأربعة)، فاحتاج إلى قطعها بأربعة أشياء: التوكل على الله سبحانه فى مواضع الرزق، والتفويض إليه في موضع الخطر، والصبر عند نزول الشدائد، والرضا عند نزول القضاء، فأخذ في قطع هذه العقبة بإذن الله، وحسن تأييده، فلما فرغ من قطعها، وعاد إلى قصد العبادة، نظر فإذا النفس فاترة ضعيفة، كَسْلى لا تنشط، ولا تنبعث لخير كما يحقُّ وينبغى، وإنما ميلها أبداً إلى غفلة ودَعَة، وراحة وبطالة، بل إلى شرٍّ وفضول، وبليَّة وجهالة، فاحتاج معها هاهنا إلى سائق يسوقها إلى الخير والطاعة، وينشطها لهما، وزاجِرًا يزجرها عن الشر والمعصية)( ). فضل العلم في القرآن: لا يوجد كتاب سماوي تحدث في فضل العلم، والثناء على أهله، وبيان ما لهم عند الله وعند خلقه من مكانة؛ غير القرآن الكريم. فانظر إلى شواهد القرآن المتكاثرة في ذلك، يقول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18]. فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه، وثنَّى بالملائكة وثلَّث بأهل العلم؛ وناهيك بهذا شرفًا وفضلًا، وجلالًا ونبلًا. وقال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة، ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام. وقال عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. فنفى التسوية بين العالم والجاهل، من غير نظر إلى نوع العلم. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [الفاطر:28] فقصَر خشيةَ الله على العلماء. وقال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد:43]. وقال تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40]، لما طلب سليمان من رعيته من يأتيه بعرش بلقيس من اليمن، وهو في فلسطين، قال عفريت من الجن: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39]. ولكن سليمان يريد ما هو أسرع من ذلك. فقال الذي عنده علم من الكتاب: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40]. وإذا كان السابق من الجن؛ فهذا ليس منهم، فهو من الإنس. وقال ما قال تنبيهًا على أنه اقتدر بقوة العلم. وقال عز وجل في قصة قارون حين خرج على قومه في زينته: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80]. بيَّن أن عِظَم قدر الآخرة يُعْلَم بالعلم. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. تُثبت الآية أنه لا يعقل الأمثال المضروبة للناس إلا أهل العم وحدهم. وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]. ردَّ حكمه في الوقائع إلى استنباطهم، وألحق رتبتهم برتبة الأنبياء في كشف حكم الله. فضل العلم في السنة: من ذلك: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء"( ). ومعلوم أنه لا رُتبة فوق النبوة، ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة. وقال صلى الله عليه وسلم: "يستغفر للعالم ما في السماوات والأرض"( ). وأي منصب يزيد على منصب من تشتغل ملائكة السماوات والأرض بالاستغفار له؟!

4257

| 03 يوليو 2014

رمضان 1435 alsharq
القرضاوي : العلم مطلوب لكل من آمن ليكمل إيمانه (5)

الحلقة الخامسة اعلم أن العقل المكتسَب لا ينفكُّ عن العقل الغريزي؛ لأنه نتيجة منه، وقد ينفك العقل الغريزي عن العقل المكتسب، فيكون صاحبه مسلوب الفضائل، موفور الرذائل، كالأنوك (الأبله) الذي لا تجد له فضيلة، والأحمق الذي قلَّما يخلو من رذيلة. وقال بعض الحكماء: الحاجة إلى العقل، أقبح من الحاجة إلى المال، وقال بعض البلغاء: دولة الجاهل عبرة العاقل. وقال أَنُوشِرْوَانُ لِبُزُرْجُمِهْرَ: أي الأشياء خيرُ للمرء؟ قال: عقل يعيش به، قال: فإن لم يكن؟ قال: فإخوان يسترون عيبه، قال: فإن لم يكن؟ قال: فمال يتحبب به إلى الناس، قال: فإن لم يكن؟ قال: فعِيٌّ صامتٌ، قال: فإن لم يكن؟ قال: فمَوْتٌ جارِف. وقال سابورُ بنُ أَرْدِشِير: العقل نوعان: أحدهما مطبوع، والآخر مسموع، ولا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه، بين العقل والهوى: وأما الهوى فهو عن الخير صادٌّ، وللعقل مضادٌّ، لأنه ينتج من الأخلاق قبائحَها، ويظهر من الأفعال فضائحَها، ويجعل سترَ المروءة مهتوكًا، ومدخل الشرِّ مسلوكًا. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: الهوى إله يعبد من دون الله، ثم تلا: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]. وقال عكرمة في قوله تعالى: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ}: يعني بالشهوات، {وَتَرَبَّصْتُمْ}: يعني بالتوبة، {وَارْتَبْتُمْ}: يعني في أمر الله، {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ}: يعني بالتسويف، {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ}: يعني الموت، {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14]: يعني الشيطان. العلم مطلوب لكل إنسان: وهذا العلم مطلوب لكل إنسان، يريد أن يعرف حقيقته، وحقيقة الكون من حوله، يسأل الإنسان نفسه: من أنا؟ نحن نرى الناس من حولنا ينشأون من آباء وأمهات، يبدأون صغارًا فيكبرون، وضعافًا فيقوون، وجهَّالًا فيتعلمون، ويجدون كونًا فسيحًا، يعملون فيه، ويتعلمون منه، ويتساءلون فيما بينهم أسئلة تحيرهم، ثم يجدون إجابتها الشافية عند أناس بأقوالهم: نحن رسل الله إليكم، جئناكم مبشرين منذرين، لتعلموا أن لكم ربًّا خلقكم ورزقكم، ولم يدعكم سُدًى، ولم يخلقكم عبثًا، فقد أعلمهم أنه خلقكم لتخلدوا في دار أخرى بعد هذه الدار الفانية، وتدخلوا جنات ربكم تعيشون فيها منعَّمين خالدين، لكم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، في جنة عرضها كعرض السماوات والأرض، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله، أما من يكفر بالله ورسله، ويقف ضد الرسل والمؤمنين فليس له إلا النار. والعلم مطلوب أيضًا لكل من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر، ليعرف ماذا يطلب الله منه، لكي يؤدي ما يحبه الله تعالى من معارف يستنير بها عقله، بحيث يعرف نفسه، ويعرف ربه، ويعرف الكون الذي يعيش فيه، وأنه كون كبير مملوك لله تعالى، ومدبَّر بأمره، وفيه ملائكة مسخَّرون لعبادة الله، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وفيه مخلوقون لا نراهم؛ هم الجن والشياطين، وأن من شأن الله تعالى أن يرسل لنا رسله ليعلمونا كيف نطيع الله تعالى ونحبه، بعبادته وحده لا شريك له، وبخلافته في أرضه بتنفيذ شرعه، وتحكيم أمره، وبعمارة أرضه وإحيائها وترتيبها، كما يريدها ربنا عز وجل، وهذا ما يطلبه عالمُ الفقه. والعلم مطلوب كذلك لكل مؤمن بالله ليُكمل إيمانَه ويزيده، ويتقرب إلى ربه، وهو ما يريد به السالك إلى طريق الله تعالى، وهو الصراط المستقيم، الذي نسأل الله تعالى في صلواتنا الخمس في كل يوم أن يهدينا إليه: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [الفاتحة:7-6]. و(العلم) هو الذي يشرح لكل طائفة من هؤلاء ما يطلبونه من الدين- وهناك الذين يطلبون علم العقيدة، أو يطلبون علم الفقه، أو علم السلوك- ما هو المطلوب منهم لأنفسهم، وما المطلوب منهم لغيرهم. وقد وُجِدَ من بعض أرباب السلوك من شكَّك في ضرورة العلم، ولكن العلماء الراسخين ردوا على هؤلاء، وبيَّنوا أن العلم فريضة شرعية وضرورة دينية، لا يستغني عنه إنسان لا في دين ولا في دنيا، فهناك علوم هي فروض كفاية على الناس، وعلوم هي فروض عينية. ابن القيم يشرح منزلة العلم في السلوك : ومن هنا جاء كلام الإمام ابن القيم وهو يشرح (منازل السائرين) لشيخ الإسلام الهروي، فيقول رحمه الله: (ومن منازل (إياك نعبد وإياك نستعين) منزلة (العلم)، وهذه المنزلة إن لم تصحب السالك من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه: فسلوكه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، مسدود عليه سبل الهدى والفلاح، مغلقة عنه أبوابها. وهذا إجماع من الشيوخ العارفين. ولم ينه عن العلم إلا قطاع الطريق منهم ونوابُ إبليس وشُرَطُه. قال سيد الطائفة وشيخهم الجُنَيْد بن محمد رحمه الله: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى آثار الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وقال: من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث، لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة. وقال: مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة. وقال أبو حفص رحمه الله: من لم يزِنْ أفعالَه وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره فلا يُعَد في ديوان الرجال. وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: ربما يقع في قلبي النكتة من نُكَت القوم أيامًا، فلا أقْبَل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة. وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء- طاعة كان أو معصية- فهو عَيْش النَّفْس، وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء: فهو عذاب على النفس. وقال السَّرِيُّ: التصوف اسم لثلاثة معان: لا يُطفِئ نورُ معرفته نورَ ورعه، ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله. وقال أبو يزيد: عملتُ في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئًا أشد عليَّ من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لتعبتُ- واختلاف العلماء رحمة - إلا في تجريد التوحيد. وقال مرة لخادمه: قم بنا إلى هذا الرجل الذي قد شَهَر نفسه بالصلاح لنَزُورَه، فلما دخلا عليه المسجد تنخَّع، ثم رمى بها نحو القبلة؛ فرجع ولم يسلِّم عليه وقال: هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله، فكيف يكون مأمونًا على ما يدعيه؟ وقال: لقد هممتُ أن أسأل الله تعالى أن يكفيني مؤنة النساء، ثم قلتُ: كيف يجوز لي أن أسأل الله هذا، ولم يسأله رسول الله؟ ولم أسأله، ثم إن الله كفاني مؤنة النساء، حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أو حائط، وقال: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات إلى أن يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود وأداء الشريعة؟ وقال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله: من عمل عملًا بلا اتباع سُنَّة فباطلٌ عملُه. وقال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله: الصحبة مع الله: بحسن الأدب، ودوام الهيبة والمراقبة. والصحبة مع الرسول: باتِّباع سُنَّته ولزوم ظاهر العلم، ومع أولياء الله بالاحترام والخدمة، ومع الأهل بحسن الخُلُق، ومع الإخوان بدوام البِشْر ما لم يكن إثمًا ومع الجُهَّال بالدعاء لهم والرحمة. زاد غيره: ومع الحافِظَيْن (الملكَيْن الكاتبين): بإكرامهما واحترامهما وإملائهما ما يحمدانِكَ عليه. ومع النفس بالمخالفة ومع الشيطان بالعداوة. وقال أبو عثمان أيضًا: من أمَّر السُّنَّة على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالبدعة؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيْعُوْهُ تَهْتَدُوْا} [النور:54]. وقال أبو الحسين النوري: من رأيتموه يدَّعي مع الله عز وجل حالةً تُخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربوا منه. وقال محمد بن الفضل البامجي- من مشايخ القوم الكبار-: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما يعملون، ويمنعون الناس من التعلم والتعليم. وقال عمرو بن عثمان المَكِّي: العلم قائد والخوف سائق والنفس حَرُونٌ بين ذلك، جَمُوح خَدَّاعة روَّاغة فاحذرها، ورَاعِها بسياسة العلم وسُقها بتهديد الخوف، يتم لك ما تريد. وقال أبو سعيد الخراز: كل باطن يخالفه الظاهر فهو باطل. وقال ابن عطاء: من ألزم نفسه آداب السنة، نوّر الله قلبه بنور المعرفة. ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه. وقال: كل ما سألتَ عنه فاطلبه في مفازة العلم، فإن لم تجدْه ففي مَيْدان الحكمة، فإن لم تجده فزِنْه بالتوحيد، فإن لم تجده في هذه المواضع الثلاثة، فاضرب به وجه الشيطان. وأُلقِيَ بُنَانُ الحمَّال بين يديِ السبُعِ فجعل السبع يَشَمُّه ولا يضرُّه، فلما أُخْرِج قيل له: ما الذي كان في قلبك حين شمَّك السبُع؟ قال: كنتُ أتفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع. وقال أبو حمزة البغدادي- من أكابر الشيوخ وكان أحمد بن حنبل يقول له في المسائل: ما تقول يا صوفي؟: من علم طريق الحق سهُل عليه سلوكُه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعةُ الرسول في أحواله وأقواله وأفعاله. ومرَّ الشيخ أبو بكر محمد بن موسى الواسطي يومَ الجمعة إلى الجامع، فانقطع شِسْع نعلِه، فأصلحه له رجل صيدلاني فقال: تدري لم انقطع شِسْع نعلي؟ فقلتُ: لا فقال: لأني ما اغتسلت للجمعة فقال: هاهنا حمَّام تدخله؟ فقال: نعم فدخل واغتسل. وقال أبو إسحاق الرقيُّ- من أقران الجنيد-: علامة محبة الله: إيثار طاعته ومتابعة رسوله- صلى الله عليه وسلم-. وقال أبو يعقوب النَّهَرْجُورِي: أفضل الأحوال: ما قارن العلم. وقال أبو القاسم النصراباذي- شيخ خراسان في وقته-: أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع، وتعظيم كرامات المشايخ، ورؤية أعذار الخلق، والمداومة على الأوراد، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات. وقال أبو بكر الطَّمَسْتَانِي- من كبار شيوخ الطائفة-: الطريق واضح والكتاب والسنة قائم بين أظهرنا، وفضل الصحابة معلوم لسبقهم إلى الهجرة ولصحبتهم، فمن صحب الكتاب والسنة، وتغرب عن نفسه وعن الخلق وهاجر بقلبه إلى الله: فهو الصادق المُصيب. وقال أبو عمرو بن نُجَيد: كل حالٍ لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه. وقال: التصوف: الصبر تحت الأوامر والنواهي. وكان بعض أكابر الشيوخ المتقدِّمين يقول: يا معشر الصوفية، لا تفارقوا السواد (أي سواد المِدَاد)، في البياض تهلكوا. ما يروى عن بعض الصوفية من التزهيد في العلم: ونحو هذا من الكلمات التي أحسن أحوال قائلها: أن يكون جاهلا يُعذر بجهله أو شاطحًا معترفًا بشطحه، وإلا فلولا عبد الرزاق وأمثاله، ولولا (أخبرنا) و(حدثنا)، لما وصل إلى هذا وأمثاله شيء من الإسلام. ومن أحالك على غير (أخبرنا) و(حدثنا) فقد أحالك: إما على خيال صوفي أو قياس فلسفي، أو رأي نفسي؛ فليس بعد القرآن و(أخبرنا) و(حدثنا) إلا شبهات المتكلمين وآراء المنحرفين، وخيالات المتصوفين وقياس المتفلسفين، ومن فارق الدليل ضل عن سواء السبيل. ولا دليل إلى الله والجنَّة سوى الكتاب والسُّنَّة، وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي من طرق الجحيم والشيطان الرجيم. ين العلم والحال: و (العلم) ما قام عليه الدليل، والنافع منه: ما جاء به الرسول، و(العلم) خير من (الحال): (العلم) حاكم و(الحال) محكوم عليه. و(العلم) هادٍ و(الحال) تابع. و(العلم) آمِرٌ ناهٍ و(الحال) منفِّذ قابِل. و(الحال) سَيف إن لم يصحبه العلم فهو مخراق في يد لاعب، و(الحال) مَرْكِب لا يجارى، فإن لم يصحبه (علم) ألقى صاحبَه في المهالك والمتالف، و(الحال) كالمال، يؤتاه البَرُّ والفاجر، فإن لم يصحبه نور العلم كان وبالا على صاحبه. الحال بلا علم كالسلطان الذي لا يزعه عن سطوته وازع. الحال بلا علم كالنار التي لا سائس لها ،نفعُ الحال لا يتعدى صاحبه ونفع العلم كالغيثِن يقع على الظِّراب والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر، دائرة العلم تسع الدنيا والآخرة، ودائرة الحال تضيق عن غير صاحبه، وربما ضاقت عنه، العلم هادٍ والحال الصحيح مهتَدٍ به، وهو تركة الأنبياء وتراثهم وأهله عصبتهم ووراثهم. وهو حياة القلوب ونور البصائر وشفاء الصدور، ورياض العقول ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين ودليل المتحيرين، وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال، وهو الحاكم المفرِّق بين الشك واليقين والغي والرشاد، والهدى والضلال به يُعرف الله ويعبد, ويذكر ويوحَّد, ويحمد ويمجَّد, وبه اهتدى إليه السالكون, ومن طريقه وصل إليه الواصلون, ومن بابه دخل عليه القاصدون. به تعرف الشرائع والأحكام, ويتميز الحلال من الحرام, وبه توصل الأرحام وبه تعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها، يوصل إليه من قريب. وهو إمام والعمل مأموم، وهو قائد والعمل تابع. وهو الصاحب في الغربة والمحدِّث في الخَلوة والأنيس في الوحشة، والكاشف عن الشبهة، والغِنَى الذي لا فقر على من ظفر بكنزه والكَنَف الذي لا ضَيْعة على من آوى إلى حِرْزه. مذاكرته تسبيح, والبحث عنه جهاد، وطلبُه قربة وبذلُه صدقة، ومدارستُه تُعدَل بالصيام والقيام، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام. قال الإمام أحمد رضي الله عنه: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه.

1619

| 02 يوليو 2014