رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

رمضان 1435

34937

القرضاوي: القرآن أكد حق الأقارب وأوصى بالبر بهم

26 يوليو 2014 , 02:07م
alsharq
الدوحة - بوابة الشرق

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي

الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة

الحلقة التاسعة والعشرون

أدب المسلم مع أُولِي القُربَى

مِن أدب المسلم الأساسي، الذي جاء به القرآن، وأكَّدتُه السُّنة، وأصَّله علماءُ الإسلام: صِلةُ الرَّحِم، أو إيتاء ذي القُربى، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]. وقال تعالى في آية الحقوق العشرة: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36].

وهو أمرٌ اتفقتْ عليه كلُّ الرسالات السماوية التي بعَثَ الله بها النبيين مُبشِّرين ومنذرِين، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83].

ونلاحظ أنه قال في ميثاق بني إسرائيل: {وَذِي الْقُرْبَى} وفي آية الحقوق العشرة: {وَبِذِي الْقُرْبَى} بزيادة حرف الباء، وهي زيادة تدل على التأكيد، وهو ما نشعر به من قوَّة النصوص وكثرتها، وما فيها من أمر ونهي، ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، وجنة ونار.

تأكيد القرآن لحقِّ القرابة:

وأولُ ما نلحظ هنا تأكيدَ القرآن لحق القرابة: في كثرة النصوص القطعيَّة التي جاءتْ توصي بحقِّ الأقارب، أو الأقربين أو ذوي القُربى، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]. فجعل أوَّل مَن له حق النفقة في المال — وهو ما عبَّر عنه بالخير — هم الوالدان والأقربون. والمراد بالأقربين أو ذوي القربى هنا: القرب في النسب، لا في المكان والسكن.

وكذلك جعل لهم الحقَّ في الوصية، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180]. وقوله سبحانه: {تَرَكَ خَيْرًا}، أي: مالًا فيه وفرةٌ، بحيث يمثِّل {خَيْرًا}، فالمال القليلُ لا يُعتبر في نظر الناس خيرًا، وإنما تعتبر الوصية في المال الكبير، وهنا تجب الوصيةُ للوالدين والأقربين الذين لا نصيب لهم في ميراث الميت، كأن تكون أمُّه كتابيَّةً، أو يكون له قريب كتابيٌّ، فهذه الوصية واجبة بالمعروف، حقًّا على المتقين.

وفي ظاهر هذه الآية ما يدلِّل لِما اجتهدَ فيه فقهاءُ مصر المُحدَثون، ومَن وافقهم في البلاد العربية في أنْ يوصي الأجدادُ للأحفاد الذين مات أولادُهم — بنونَ أو بنات — في حياةِ آبائهم، فحجبَهم أعمامُهم عن الميراث؛ لأنَّهم أقربُ منهم إلى الأب، ولكنَّ هؤلاء يستحقون الوصية مِن أجدادهم بنصيب، حدَّده العلماء أن يكون مثل نصيب آبائِهم أو أمَّهاتِهم في حدود الثُّلث، الذي لا تتجاوزه الوصيةُ، كما قال الرسول الكريم: "الثلث، والثلث كثير".

وقال تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]. وبهذا لا يجتمع لهؤلاء الأحفاد، الذين مات آباؤهم في حياة أجدادهم: اليتم والحرمان.

ويقول تعالى في قِسْمة التَّرِكات التي خلَّفها الموتى لمَن وراءهم: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8]. وفي هذه الآية تأكيدٌ لحقِّ الأحفاد الذين ذكرْناهم في وصية الأجداد؛ لأنهم من أقرب أولي القربى.

وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة:177]. فجعل إيتاءَ ذوي القربى حقَّهم أو حقوقَهم في المال، وهي غير الزكاة المذكورة في الآية الكريمة نفسها: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}.

على أن على المسلمين أن يُعطوا أولي القربى حقَّهم، ولكن لا يجوز لهم أن يُعطوهم ما يجور على حق غيرهم، ولا ينبغي للمسلم أن يكون مع قريبه في العدل والظلم، والبر والفجور، بل يكون معه في العدل والخير، والحق والبر، لا يتعداها إلى ضدها، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]. {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [المائدة:106]. فالحقُّ والعدلُ فوق القَرَابة، وفوق كل عصبيَّة.

وقال تعالى في وصف الفاسقين، الذين يستحقون أن يضلَّهم الله: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27]. وصَفَهم القرآن بثلاث رذائل من أسوأ الصفات:

إحداها: نقض العهد، وهو ما ذكره الله تعالى بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 — 61]. والعهد الآخر، ما أخذه على بني إسرائيل: أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وينفِّذوا الأوامر الإلهية، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة:83].

والرذيلة الثانية: قطْع ما أمر الله به أن يوصل، مثل قطْعهم الأرحام، والتخلص من موالاة المؤمنين.

والرذيلة الثالثة: الإفساد في الأرض، والله لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين، وقد جعل عمارة الأرض وإصلاحَها من مقاصده تعالى في خلْقه، كما قال على لسان صالح الذي قال لقومه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]. أي: طَلَبَ إليكم أن تعمروها، ولا تخرِّبوها، أو تسمحوا أن يتسرب إليها الخراب.

وهو ما ذكره القرآن في سورة الرعد، حين قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الآية:25].

وممَّا ذكره القرآنُ حول صِلة الرحِم وتقطيعها: ما جاء في سورة محمد، في قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [الآيتان:22 — 23].

ما ذكره القرآن في صلة الإخْوة بعضهم ببعض:

ومن أهم الأرحام وأقواها: ما بين الإخْوةِ بعضهم وبعض، فلا يجوز لأخٍ أن يظلم أخاه، أو يسْتعليَ عليه بقوةٍ أو مالٍ أو غير ذلك.

وقد قصَّ علينا القرآنُ قصة ابنَيْ آدم من صلبه، حين اعتدى القويُّ الخبيث على الطيب المخلص، وهو ما نقرأه واضحًا في سورة المائدة، حيثُ يقول تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [الآيات:27 — 31].

ولم يُعجب الخبيثَ الفاجر كلامُ أخيه الطيبِ الجميلُ المؤثِّر: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، وطغى الشرُّ عليه حتى ارْتَكَبَ أولَ جريمة قَتْل في تاريخ البشر؛ ولذلك عليه كفْلٌ ممَّا يرتكبه البشرُ إلى يوم القيامة، وما أكثرَها وأشدَّها مِن تبعات.

وذكر لنا القرآنُ مِن قصص الإخْوة بعضهم مع بعض ما ذكر في قصة يوسف وإخوته من أبناء يعقوب، وقد أشار يعقوب عليه السلام، إلى ما يمكن أن يفعل الإخْوة بأخيهم، حين قصَّ يوسف على أبيه ما رآه مِن رؤيا في منامه: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4].

فماذا كان موقف الأب يعقوب؟ {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5].

وقد رأيتُ ما قصَّتْه سورةُ يوسف علينا، وما فعله به إخْوته، وكيف أوهموا أباهم حتى سمح لهم بأخذه معهم، وكيف ألقَوْه في الجُبِّ، وجاؤوا على قميصه بدم كذب، وكيف قال لهم أبوهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18].

إلى أن انتهى بهم المطاف إلى أن وقفوا أمام يوسف وهو عزيز مصر، يسألونه الصدقة عليهم، والرفْق بهم، فإنَّ الله يجزي المتصدقين: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:89 — 90]. إلى آخر ما سجَّلته القصة. وفيها التقت الأسرة كلها: الأبوان والإخوة في ظل يوسف عزيز مصر، {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100].

أخت موسى وموسى عليه السلام:

ونذكر فيما بين الإخْوة بعضِهم مع بعض ما فعلتْه أختُ موسى بأخيها حين ألقتْهُ أمُّه في التابوت، ثمَّ ألقتْه في اليمِّ، فألقاه اليمُّ بالساحل، فأخذه عدوٌّ لله وعدوٌّ لموسى، وهو فرعون، وهنا قالت أمُّ موسى لأخته: {قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص:11]. واستطاعت أن تصِل إلى قَصْر فرعون، وتقول لهم: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص:12 — 13].

موسى وأخوه هارون عليهما السلام:

وعاش موسى في قصْر فرعون الذي سيزول مُلكُه على يد موسى، ثمَّ ذهب إلى مدْيَنَ وتزوَّج منها، وعاد بعد عشْر سنوات بأهله، وناداه ربُّه بالوادي المقدس طُوَى، وأرسله إلى فرعون إنَّه طغَى، فسأل ربَّه أن يجعل له وزيرًا مِن أهله، هارون أخاه، فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 — 32]. وأجابه الله إلى كل ما سأل، وسار الأَخَوَانِ، معًا على السَّراء والضرَّاء، حتى انتصرا على فرعون، ثمَّ لقِيَا مِن بني إسرائيل ما لَقِيَا، حتى ذهب موسى للقاء ربِّه أربعين يومًا، وفي هذه المُدَّة عَبَدَ بنو إسرائيل العِجْلَ الذي صنعه لهم السامري، وجاء موسى ورأى هذه الفتنة الهائلة التي سَقَطَ فيها قومُه، وغضِبَ موسى غضبًا شديدًا، وأَخَذَ موسى برأس أخيه يجرُّه إليه: {قَالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94]. وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151].

احتكام الأخوين إلى داود عليه السلام:

وفي قصة داود احْتَكَمَ إليه أَخوانِ حينَ لجأ إلى عبادة الله في المحراب واعتزل الناس، وهو ما حكتْهُ لنا سورةُ (ص): {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [الآيات:21 — 26].

فهذان الأخوانِ احتكما إلى داود عليه السلام ليحكُمَ بينهما فيما حكاه أوَّلُهُما، فسارع داودُ إلى أنْ حَكَمَ على الشخص المدَّعَى عليه، دون أن يستمع إلى قوله، بل حكم عليه بمجرد أن قال الأول: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:23 — 24]. كان المفروض على داود عليه السلام أن يسأل الآخر عن موقفه: لم فعل ذلك، فلعل عنده سببًا، أو لديه عذرًا. وقد قال الشاعر:

تأنَّ ولا تعجلْ بلومِك صاحبًا لعل له عذرًا وأنت تلوم

وهذا استعجالٌ في الحُكْم، وقضاءٌ على طَرَفٍ لم يُدْلِ بحجته ووجهة نظره في القضية، والأصول القضائية المتعارف عليها بين الناس من قديم، تقتضي من القاضي الذي يتحرَّى العدْل، ويحكم بالقسْط، ولا ينحاز لأحدِ الخصمين: أن يسمع إلى كُلٍّ منهما.

سواءٌ كان هذان الشخصان بشَرَيْن من أبناء آدم، كما هو ظاهر القضية، أمْ كانا مَلَكَين جاءا يمثِّلان أمام داود هذه القصة ليتنبَّه إلى ما هو واجب عليه باعتباره قاضيًا يحكم بشريعة السماء.

مساحة إعلانية