رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

رمضان 1435

2014

القرضاوي : الأدب مع الله يتحقق بتوحيده واتباع منهجه

09 يوليو 2014 , 03:30م
alsharq
الدوحة - بوابة الشرق

المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي

الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة

الحلقة الثانية عشرة

الأدب مع الله رب العالمين، يتمثل في عدة أمور..

فهناك توحيد الربوبية أو الخالقية، وهو ما تقر به الفطرة السليمة، وما ينطق به العقل الرشيد (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) [الطور:35 — 36].

وهذا ما اعترف به عرب الجاهلية، حين يسألون عنه: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف:9]. (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [يونس:31 — 32].

وكانوا يُقِرُّون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق، مدبِّر الأمر، ولكنهم مع هذا يأكلون خيره، ويعبدون غيره، أو يأكلون تمرَه، ويعصون أمرَه. ولذلك كان التوحيد الذي أكد عليه رسل الله وأنبياؤه، الذين بعثهم إلى الخلق مبشرين ومنذرين: هو الدعوة إلى توحيد العبادة أو توحيد الإلهية، وهو ما نتحدث عنه في الفقرة التالية.

ثانيا: توحيد العبادة لله رب العالمين أو توحيد الإلهية:

بمعنى أنه لا إله غيره، ولا يستحق أن يعبد في الأرض أو في السماء إلا هو، ولا أن تسجد له الجباهُ، وتنحني له الرؤوس راكعة ساجدة إلا الله، وهو ما دعا إليه كل رسول قومه، وما دعا إليه القرآن الكريم، وأنذر به المشركين، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25]. (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل:36]. والطاغوت مشتقٌّ من الطغيان، وهو كل ما يُعبد ويعظَّم ويُشرك به من دون الله سبحانه وتعالى، وهو من مصادر الطغيان والفساد، في حين أن التوحيد من مصادر العدل والصلاح، بل التوحيد هو العدل، والشرك هو الظلم؛ لأن من يشرك بالله الخالق المنعم، العظيم الأعلى، مخلوقً حقيرً فان لا يقدر على شيء؛ فقد ظلمَ التوحيد، وظلم نفسه، وظلم الربَّ الأعلى. ولذا قال تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) [الأعلى:1 — 3]. ولذا حكم القرآن على عرب الجاهلية بالشرك الأكبر، الذي يوجب دخول النار، كما قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة:72].

وقال عن أهل الكتاب (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة:31].

ثالثًا: توحيد الحاكمية:

وهذا هو التوحيد الثالث، الذي أكمل القرآن به حقيقة التوحيد الذي يرضاه الله من خلقه. وهو أن يوحد الله تعالى في تشريعه الذي شرع لعبادته، فعليه أن يرضي به، ويتعبد بأحكامه، ويقبل جريانها عليه في دينه ونفسه، وعرضه ونسبه، ونسله وماله، وكل شؤون حياته. قال تعالى (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) [الأنعام:114]. وقال في هذه السورة نفسها (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام:164]، وهذا ما يسمونه توحيد الربوبية. وقال فيها أيضًا: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:14]. وهذه تشير إلى توحيد العبادة أو توحيد الألوهية.

ولا بد للإنسان المسلم الذي يريد أن يلقى ربه عابدًا مخلصًا له، بريئًا من كل ما يعبد من دونه في الأرض أو في السماء؛ من هذه التوحيدات كلها. (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) [يونس:104 — 106].

طاعة الله فيما أمر به:

ومن واجب كل مسلم رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، وبمحمد من الله نبيًّا ورسولًا: أن يطيع الله تعالى فيما أمره به في كتابه المبين، أو على لسان رسوله، الذي ثبتت رسالته باليقين والأدلة القطعية، فعليه أن يقول في الأمور الغيبية: آمنا وصدقنا، وفي العمليات: سمعنا وأطعنا. كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].

وكل ما أمر الله تعالى به، وكل ما نهى الله تعالى عنه بصراحة وجزم، فهو ممَّا تجب طاعته، امتثالًا للأمر، واجتنابًا للنهي (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:71].

ومن ذلك: العبادات الرُّكْنية، التي أجمع علماء الأمة على أن كل واحدة منها ركن من أركان الإسلام الخمسة العملية، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله، وإقامة الصلوات الخمس، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان كل سنة، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا مرة واحدة في العمر.

وهناك طاعة الله تعالى في امتثال كل ما أمر به، من إيفاء العقود، وإنجاز الوعود، وإبرام العهود، وإقامة الحدود، وتحليل الحلال، وتحريم الحرام، والانتهاء عن كل ما حرَّم الله، من أكل أموال الناس بالباطل، ومن إيذاء الناس، ومن سرقة أموالهم، أو اختلاسها أو الغش فيها. قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29]. (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:168].

ومن ذلك ما يتعلق بأحكام الأسرة، وضرورة رعايتها والمحافظة عليها، قال تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النور:32]. (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) [النساء:3]. وقال تعالى (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [النساء:4]. وقال تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة:228].

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا * وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) [النساء:19 — 22].

اتباع المنهج الذي أمر الله به

ومما يجب على المكلَّف نحوَ ربِّه الذى خلقه وهداه، ورزقه ودبَّر أمرَه: أن يتَّبِع المنهجَ الذي أمره الله باتِّباعه، وهو الشريعة التي دعا الله تعالى إليها عباده، ليقيموا بها أمره، ويتبعوا فيها طريقه المستقيم، الذي يتضمن العدل في الرعية، والقضاء بالسوية، والأمانة في القضية، كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) [النساء:58]. (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص:26]. (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:49 — 50]. فهذه ثلاث آيات في سورة واحدة في سياق واحد، تنذر كل من حكم بغير ما أنزل الله.

ولو كان سهمًا واحدًا لاتَّقَيْتُهُ ولكنَّه سهمٌ وثَانٍ وثَالِثُ!

قال تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [الجاثية:19]. (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153].

محبة الله تعالى وعبادته الباطنية:

كما أن المطلوب من المسلم أن يحب الله عز وجل، حتى تكون عبادته عبادة خالصة له، وحقيقة العبادة أن يكون العبد بين غاية الحب لله تعالى، وغاية الخضوع والذل له. وقد قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة: 165].

ووصف الله تعالى جنده المؤمنين الأقوياء الذين ادخرهم لنصرة دينه إذا ارتد عنه المرتدون والمنافقون، ومرق عنه المارقون، فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة:54].

وحدد النبي صلى الله عليه وسلم العناصر الثلاثة التي تكوِّن الإيمان الحقيقي الذي يذوق المؤمن حلاوته، فقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان". وجعل أول هذه الثلاثة "أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما".

ووضع القرآن المسلم في مفاصلة بين كل رغبات الحياة الدنيا ومشتهياتها، وبين حب الله ورسوله، ليختار أهلُ الإيمان أيَّ الجهتين يسلكون، فقال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24].

وهذه المحبة لله ورسوله هي عبادة من العبادات القلبية، التي جاء بها الإسلام وعُنِي بها، ودعا المسلمين إلى إتقانها، فليست العبادات هي الأربع الركنية فقط، فهناك العبادات التي يتنفَّل بها المسلم بعد فرائضه، وفي سائر أوقاته؛ من الذكر والتهليل، والتسبيح والتحميد والتكبير، وتلاوة القرآن، والدعاء والاستغفار، والصلاة على النبي. وكلها جاء بها القرآن العظيم، وفصَّلتها السُّنَّة النبوية، وألَّف فيها المسلمون الكتب، وأقاموا عليها أورادهم وتسابيحهم. وقد قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41 — 42]. (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال:45]. وقال تعالى (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60]. وقال عز وجل (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة:186]. وقال تعالى: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء:32]. وقال تعالى على لسان نوح (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح:10 — 12]. وقال سبحانه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]. وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُور) [فاطر:29 — 30]. وقال تعالى في الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر عن رسول الله عن ربه، فكان ممَّا فيه: "يا عبادي، إني حرمتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أهدِكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمتُه، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلُّكم عارٍ، إلا من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا".

إلى آخر ما جاء به القرآن، وجاءت به السُّنَّة، من ترطيب اللسان بذكر الله تعالى من التسبيح والتحميد، والتهليل والتكبير، والحوقلة والدعاء، والرقية والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والاستغفار لله تعالى، والتلبية لندائه، وذكر اسمه كثيرًا. وقد ختم البخاري جامعه الصحيح بهذا الحديث: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده".

ثم تأتي العبادات الباطنية، التي تملأ قلب المسلم وفكره وساحة حياته، وحياة أسرته، وحياة مجتمعه، والدنيا كلها من حوله، وهى عبادات مقرها القلوب، كما قال تعالى (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]. وكما قال تعالى عن الذبائح والأهاديِّ التي تُهدى إلى الكعبة (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) [الحج:37].

%MCEPASTEBIN%%MCEPASTEBIN%

مساحة إعلانية