رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كتاب تتلاحق فيه كلمات مؤلفه من أجل الإجابة على سؤال وجهته إليه ابنته يوماً، ولم يكن يتجاوز الأربع كلمات حينها: "لماذا اخترت الإسلام يا أبي؟". إنه د. جيفري لانج، عالم الرياضيات. ولد عام 1954 لأسرة أمريكية متدينة تعتنق النصرانية، وتابع تحصيله الدراسي حتى حصل على درجة الدكتوراه، وانخرط في سلك التدريس بعدها، وكان قد هجر الكنيسة واختار الإلحاد! يُسهب البروفيسور وهو يتحدث عن رحلته من الكاثوليكية إلى الإلحاد انتهاءً بالإسلام، حين لم تجب الكاثوليكية على أسئلته وهو العالم الذي أسس عقله على بنيان من المنطق والبرهان، حتى أهدت إليه إحدى الأسر المسلمة القرآن الكريم، حيث بدأ (صراعه الحقيقي) ورحلة نحو الإيمان لم تكن هينة على الإطلاق! وفي لفتة راقية وبخط ديواني أنيق، يهدي البروفيسور إلى (بناته المؤمنات: جميلة وسارة وفاتن) كتابه (الصراع من أجل الإيمان: انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام)، والذي قسّم حديثه فيه بين (النطق بالشهادة، القرآن، رسول الله، الأمة، أهل الكتاب). ابتداءً، يسترجع البروفيسور حلماً تكرر معه حين كان يافعاً، وهو أداؤه للصلاة في مسجد يقبع أسفل درج، ويشع النور من كوة بداخله، ضمن مجموعة ينحنون فوق سجادها الأحمر، في وقت لم يكن قد عرف المسجد ولا الإسلام بعد، حتى أتت رؤياه كفلق الصبح بعد أمد، وبعد يومين فقط من إسلامه، لدرجة شعر فيها أنه نائم متلبس في حلمه من جديد، أعقبتها برودة سرت في جسده كله، فرجفة، ثم انتهت بدفء النور والدموع.. في أعجب ما يمكن تصوره عن مدارج الروح، وهي من أمر الله. وكمسلم مستجد، يبتكر طريقة عملية في التنبيه لصلاة الفجر، وقد وجد مشقة فيها رغم استشعاره أهمية فريضة الصلاة عموماً، وما تستجلب للمرء من عون وراحة، تمثلت في الاستعانة بثلاثة منبهات موزعة على أماكن متباعدة في مسكنه، ومضبوطة بمواقيت متسلسلة مع فارق قصير بينها. يقول عنها: "صلاة الفجر بالنسبة لي هي احد أجمل الشعائر الإسلامية وأكثرها إثارة. هناك شيء خفي في النهوض ليلاً -بينما الجميع نائم- لتسمع موسيقى القرآن تملأ سكون الليل. تشعر وكأنك تغادر هذا العالم وتسافر مع الملائكة لتمجد الله بالمديح عند الفجر". وفي حين حرص على صلوات العتمة في جماعة حيث (الجهرية)، فهو لم يكن قادراً على فهم ما يسمع، غير أن ما يسمع كان مريحاً، كالطفل يرتاح لصوت أمه وهو لا يفهم كلماتها. وكذلك كان "صوت" الصلاة الجهرية، وقد تمنى أن يعيش أبداً تحت حماية صوتها. وفي حديثه عن القرآن الكريم، يعتقد أن (اقرأ) كأمر إلهي، نعمة سماوية في تعلم القراءة، وعن طغيان الإنسان واستغنائه في منتصف السورة، يعتقد أن العلم الحديث صوّر للإنسان من عظيم الشأن ما أغناه عن الله، غير أن تلك العلوم وما حملته من فكر تأبى إلا أن تتفق مع ما ورد في القرآن، الأمر الذي دعا أصحاب تلك العلوم إلى اعتناق الدين الذي جاء به. ثم يتحدث عن الإعجاز القرآني في اختصاص أنثى النحل بإنتاج العسل (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)، وعن منهج (التجربة والخطأ) نحو العمل وارتكاب الخطأ وإدراكه والتسامي عليه والتقدم والاستمرار (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، ثم يبكي في (الضحى) بكاء الطفل المفقود بعد عودته لأمه استشعاراً لقرب الله الذي لا يتخلى عمّن بحث عنه (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى). ثم يتطرق إلى مناقشة بعض الآيات القرآنية المثيرة للجدل عند الغرب، وينظر بمفهوم آخر لبعض الأحاديث النبوية كحديث (فتنة النساء) بعيداً عن المعنى الحرفي وإيعازه إلى أمور حسية صرفة! فيرى أنها على الأرجح فتنة للرجال في ميلهم نحو ظلم المرأة واحتقارها لضعف يرونه فيها، ويضرب أمثلة لتلك الفتنة في مسألة الطلاق ومضرة الوالدة بولدها. وفي مناصرته للقضية الفلسطينية، يعود للتاريخ ليقول: "يتفق المؤرخون على أن الغالبية العظمى من العرب الفلسطينيين لم يقدموا إلى فلسطين مع الفتح الإسلامي، بل إن هؤلاء هم بشكل رئيسي أبناء الساميين الذين تعود ملكيتهم لفلسطين لثلاثة آلاف عام على الأقل قبل الميلاد، وقد تكون هذه هي أبسط فترة ملكية في العالم وأطولها. أما العبرانيون القدماء فقد جاءوا إلى فلسطين بعد ذلك بكثير، وذلك بحوالي ألف وأربعمائة عام قبل الميلاد". ثم يتساءل في مبحثه ويجيب: "هل لليهود حق أخلاقي-ديني في فلسطين؟". وأختم بما جاء على لسانه في لغة صوفية قلّما يسوقها الرياضيون: "ومع ذلك فإني مدرك دوماً أن لي نقاط ضعفي وتقصيري! إنني أعلم الآن أنني إذا ما فقدت الله ثانية فإنني بالتأكيد سوف أفقد كل شيء، وإني أدعو مع رابعة العدوية: (إلهي هل صحيح أنك سوف تُحرق قلباً يحبك كثيراً)، وإني أجد عزاءً في جوابها".
546
| 07 مارس 2025
هنا تبدو الصغيرة (بانة) ذات الثمانية أعوام تتحدث بما لا يطيق الكبار، عن أهوال الحرب الدائرة في وطنها الممزق بفعلها، ما كان لها أن تشهدها وما كان للكبار أن يحملوا فظائعها، في حين تبقى الروح المحبة للحياة بسلام، سمْتها، تحيط بها نفحات الأمل المتطلعة نحو مستقبل أكثر أماناً وحرية. إنها الطفلة السورية التي بعثت بنعومة أظفارها رسالة إلى العالم تناشده منحها السلام، من خلال تغريدة أسمعت الملايين وأشعلت تعاطفهم ولبّى بعدها من لبّى النداء، فانتقلت وعائلتها والكثير من جيرانهم وأهل المدينة المنكوبة إلى الأراضي التركية، وهي تحمل ذكريات مؤلمة عن مشاهد قصف وقتل ودمار ودخان، وموت لم ينفك يتربّص بهم مع كل زفرة نفس! فتقرر اطلاع العالم من خلال كتابها (عزيزي العالم: فتاة سورية تروي الحرب وتُطالب بالسلام) الصادر عن (نوفل/هاشيت أنطوان)، على تلك الذكريات بوقائعها المرعبة التي حصدت أكثر من نصف مليون سوري، وخلّفت أكثر بكثير من الجرحى، وما تخللها من لحظات سعيدة لم تبرح مخيلتها، والتي خففت من وطأة الحرب حينها، وقد ضمنتها ألبوماً يعرض تلك المساحة من الذكرى بصور تبعث على التبسّم تارة وعلى التقطيب تارات أُخر، على أمل أن تحفّز كل من استطاع، تقديم المساعدة لمن يحتاج إليها، وهي تهديها إلى «كل طفل عانى ويعاني من الحرب»، أو كما قالت لطمأنته: «لست وحدك». بانة إضافة إلى مهارتها في الكتابة كما صرحت في افتتاحية كتابها، ساعدتها والدتها في سرد يومياتها، ونشرتها باللغة الإنجليزية، فتجدها تنقل ابتداءً صفة السعادة الفطرية التي تلازمها، حيث تخبرها والدتها بولادتها والابتسامة تغطي وجهها الصغير، ثم تعبر عن حبها الكبير لوطنها الذي ودت أن تعيش فيه ولا تبرحه أبداً، ووالدها الذي غيبته عناصر المخابرات يوماً كاملاً فلم تقو على نسيانه، وما لبث أن عاد حتى اندلعت الحرب، والقصف الذي بدأ يتوالى حتى باتت وأهلها وأهل المدينة يتعرفون على أنواع القنابل وطرق التصرف حيالها لحظة إلقائها، غير أن عيد الفطر الذي حل عليهم في تلك الأجواء قد لطف أمزجتهم ودفعهم للتصرف بشكل طبيعي. أما عيد الأضحى، فقد شهد قصفاً متزايداً ما دعا جديها -آسفين - لمغادرة الوطن، فتقول بأنه لم يعد هناك مكان آمن، وقد كرهت الحرب من أعماق قلبها!. وفي تركيا تنجب والدتها لها ولأخيها أخاً - رغم أنها تمنت بصدق أختاً- يسمونه (نور)، أو كما تراه والدتها (شعلة نور في حياتهم) باتوا في أمس الحاجة إليها. ثم وبعد مدة يعودون إلى سوريا لا سيما مع أخبار تحسن الأوضاع، وتشعر بانة بأن العودة إلى المدرسة كانت أفضل ما خبرته فترة توقف القصف. المدرسة التي أنشأتها والدتها برفقة صديقاتها، لأطفال الحي، فرغم موت الكثيرين من ضمنهم صديقتها ياسمين، فقد كان على الباقي مواكبة التعليم من أجل نهضة بلادهم التي تنتظر عطاءهم حين يكبرون، وليتعلموا كذلك إيقاف الحرب. يحل رمضان من جديد، وتستمر المناورات بين الجيش السوري الحر وجيش النظام فائق السلاح والعتاد! وفي لحظة امتزجت بالضيق ذرعاً من الحصار، وتحت وابل مستمر من القصف والدمار، تستشعر بانة ضرورة أن يفعل أحدهم شئياً، فتقرر أن تفعل هي، وتغرد من حلب إلى العالم كافة قائلة: «أنا بحاجة إلى السلام»، فتُفاجأ الصغيرة وعائلتها بتجاوب العالم. ثم شيئاً فشيئاً، تطلق البطلة الصغيرة هاشتاغ تحرص على استخدامه باستمرار من أجل إبقاء العالم على اطلاع بما يجري في وطنها، ومن قلب الحدث. وبعد منشورات التحذير الساقطة عليهم والمهددة بإخلاء المنطقة والوعيد بالدمار الشامل الذي سيحل عليهم أجمعين ما لم ينتهوا، ومع توالي القصف ودمار منزلهم وانتقالهم لآخر متسخ تكرهه، وغياب والدها وعمها للبحث الدؤوب عن الماء، وحادثة تفجر قنبلة أمام سيارة والدها التي تصيبه بشظايا تدميه، تهرع بانة من جديد إلى العالم تترجاه لمد يد العون فوراً وقبل فوات الأوان، قائلة: «أرجوكم! أنقذونا الآن وفوراً»، فيأتي العون من تركيا، وفي ندية للنظام السوري الذي غضب من تلك المحادثات مع العالم ومطالبتها بالسلام، فتستقل أولاً هي وعائلتها والكثير من أهل المدينة الباصات، لتقلهم من مدينة لأخرى على الحدود التركية، ثم وعلى متن طائرة إلى تركيا. حيث الأمان، حتى هذه اللحظة. تتمنى بانة وهي تُطفئ شموع عيد ميلادها الثامن، بألا تسمع صوت قذيفة، وأن يتوقف البشر عن قتل بعضهم بعضاً ليعم العالم السلام، وأن تتعلم وتكبر وترتاد الجامعة وأن «أعود وأعيش في حلب ذات يوم» كما قالت حينها. وأن تحظى كذلك بـ (شقيقة). أما والدتها فتعدها أن تخبر أحفادها «بأن والدتهم بطلة» وتؤكد «وأنت حقاً كذلك يا بانة بطلة، وأنا فخورة جداً بأن أكون والدتك». أخيراً، يستحق هذا الكتاب أن يضمّن مناهج الأطفال التعليمية كنموذج في الكتابة الإبداعية المبكرة، ومن ناحية أخرى كنموذج لرفض الظلم ومقاومته والسعي نحو نيل الحقوق، في أي عمر كان، وبأي وسيلة كانت، ومهما كلف الثمن.
420
| 17 فبراير 2025
في هذا الكتاب العجائبي وصف لرحلة روحية خارج حدود المكان والزمان، أو عبر ما يُفسّر علمياً بظاهرة الاقتراب من الموت، لا يروي تفاصيلها الخارقة لقوانين الطبيعة، معلم روحي، أو متابع شغوف لسينما الخيال العلمي، إنما هي تجربة جرّاح أعصاب أمريكي خاضها في سبعة أيام وهو مستسلم في غيبوبة، لم يكن له أن يفيق منها كما تعلّم ومارس! توصف تجربة د. إيبن ألكسندر بـ (الأكثر دهشة) ضمن ما تم رصده طبياً بين حالات المرضى الذين تم إحياؤهم بعد موتهم سريرياً، والآلاف ممن مرّوا بتجربة الاقتراب من الموت، والتي اعتبرها العلماء (مستحيلة)، وقد كان د. ألكسندر -للمفارقة- أحد هؤلاء العلماء! لقد كان د. ألكسندر جراح أعصاب متميّزاً في الوقت الذي كان يحمل فيه اعتقاداً راسخاً بخيالية تجارب الاقتراب من الموت، على الرغم من الصورة الحقيقية التي تبدو عليها في الظاهر، إذ لم تكن في رأيه سوى تخيلات تنتجها العقول وهي تخضع لظروف ضغط شديدة. وهنا تكمن المفارقة في تعرّضه شخصياً لتجربة مماثلة، بعد إصابة دماغه إصابة بالغة أودت به في غيبوبة استمرت لمدة أسبوع كامل، قال عنها: «عقلي.. روحي.. أياً كان ما قد تختار تسميته بالجزء المركزي والإنساني مني، قد ذهب»، حتى أفاق منها بأعجوبة، وتحول من النقيض إلى النقيض، وكتب تجربته. يصف د. ألكسندر رحلته في خمس وثلاثين محطة من خلال كتابه (Proof of Heaven: A Neurosurgeon›s Journey into the Afterlife - By: Dr. Eben Alexander) والذي جاء في ترجمته العربية بعنوان (الدليل على وجود الجنة أو برهان الملكوت)، وهو يعتبر أن تجربته في الاقتراب من الموت فريدة من نوعها مقارنة بتجارب الآخرين! ففي حين انتقل أولئك إلى الحياة الأخروية وهم بكامل وعيهم عمّن هم وماذا كانوا عليه في حياتهم السابقة، وأقرباؤهم الذين التقوا بهم هناك، فقد غادر د. ألكسندر إلى هناك وهو فاقد لذلك الوعي! لذا، يستخلص د. ألكسندر الحكمة من تجربته تلك بالعودة إلى ما كان يعاني منه في حياته وقد دفنه في اللاوعي! فقد كان ابناً متبنى لعائلة محبة بعد أن تخلى عنه والداه البيولوجيان وهو رضيع لأسباب العوز، التخلي والرفض الذي واجهه مرة أخرى حين حاول الاتصال بهما فيما بعد، ما ترك لديه جرحا غائرا عن افتقاده لشعور الأهمية والرعاية والحب، حيث جاءت هذه الرحلة لتؤكد له على ثلاث حقائق يجب عليه تذكرها دائماً: أنه محبوب إلى الأبد، أن لا عليه أن يخاف شيئاً أبداً، أنه ما من شيء يتعرض له في الحياة ويكون خطأً! يقول د. ألكسندر في المقدمة: «هذه الآثار هائلة تفوق الوصف. لقد أظهرت لي تجربتي أن موت الجسد والدماغ ليسا نهاية الوعي، وأن التجربة الإنسانية تستمر إلى ما بعد القبر. والأهم من ذلك، أنها تستمر تحت أنظار الله الذي يحب ويهتم بكل واحد منا، والذي يهتم بالوجهة التي يتجّه نحوها الكون نفسه وكل الكائنات الموجودة فيه، في نهاية المطاف». يقول هذا وهو يسترجع اللحظات الأخيرة في غرفة الطوارئ ومحاولة إنقاذه، وقبل ولوجه في تلك الغيبوبة، حيث وبعد ساعتين متتاليتين من «العويل والأنين الحيواني» حسب وصفه، يصبح هادئاً، وفجأة، يصرخ بثلاث كلمات كانت واضحة تماماً، وسمعها كل من كان حاضراً من أطباء وممرضات، وزوجته التي كانت تقف على بعد خطوات قليلة من الجانب الآخر للستار، وهي: «ليساعدني الله». وفي المحطة التي وصفها بـ «اللحن المحبوك والبوابة»، يصف حديثه مع من رافقه هناك بأنه تم دون تبادل أي كلمات، حيث مرت الرسالة عبره مثل الريح، والتي أدرك بها على الفور أنها كانت حقيقية بنفس الطريقة التي عرف بها أن العالم من حولنا كان حقيقياً، فلم يكن ضرباً من الخيال، عابراً أو غير جوهري. يقول د ألكسندر: «كانت الرسالة مكونة من ثلاثة أجزاء، وإذا اضطررت إلى ترجمتها إلى لغة دنيوية، فسأقول إنها من هذا القبيل: (أنت محبوب وعزيز وغالٍ إلى الأبد، ليس لديك شيء لتخافه، لا يوجد شيء يمكنك القيام به خطأ)». تغمره الرسالة بالارتياح بعد أن غرست جوهرها المفاهيمي مباشرة في داخله.. «ولكن في النهاية، سوف تعود»، ليتساءل عندئذٍ: «العودة إلى أين؟». أخيراً أقول: يبدو أن هذه الحياة الدنيا في إيقاعها الروتيني، تحمل الكثير من الحقائق التي ليس للإنسان -وهو أثناء سعيه فيها- إدراكها في وقت واحد! إذ أن ذلك الوعي المفرط بالعوالم غير المنظورة المحيطة به من شأنها أن تُبطئ من وتيرة تقدمه، وهو وقد عرف الكثير عن العالم الروحي في هذه المرحلة من حياته اللامتناهية، يصبح سعيه في حياته الحالية بمثابة تحدٍ أكبر مما هو عليه بالفعل! لا يعني هذا صرفه عن الوعي بتلك العوالم، بل إن الأمر يتطلب شحذ الهمة لتحقيق ما هو موكّل به على هذه الأرض الآن، أو كما يعتقد د. ألكسندر بأن «الكون ليس شيئاً إن لم يكن هادفاً».
672
| 05 فبراير 2025
في هذه المذكرات التي صُنفت ممنوعة وكـ (وثيقة تُنشر لأول مرة)، تسجّل رحالة إنجليزية ما عاينته جهاراً أثناء رحلتها لأرض فلسطين أوائل القرن العشرين! وضد المحاولات الملتوية في تخصيص أرض بلا شعب أو شعب بلا أرض، كما في حال الهنود الحمر (السكان الأصليين للأمريكتين)، تتصدى هذه الرحالة لتؤكد - من حيث لا تدري - فلسطينية أرض فلسطين وأحقية الفلسطينيين في أرضهم التاريخية، حيث تنقل ملاحظاتها الدقيقة تفاصيل حياتهم اليومية، وتوثق الصور التي التقطتها تجذّرهم في البادية والريف والمدن العربية، ما تدحض به زيف الادعاءات القائلة بخواء أرض فلسطين قبل وصول العصابات الصهيونية إليها، أو كالصحراء الجرداء - حسب وصفهم - التي استقبلتهم، فزرعوها وعمروها واستوطنوها. ففي كتابها (اسمها فلسطين: المذكرات الممنوعة لرحالة إنجليزية في الأرض المقدسة)، الصادر عن (الرواق للنشر والتوزيع)، تبدو (آدا جودريتش فريير) على قدر من الشغف بأرض فلسطين، فقد توغلت في حياة الصحراء والقرية والمدينة، وأبهرها بريق الأرض المقدسة بعتباتها وأحوالها الدينية والاجتماعية، فتحدثت بتفصيل لطيف عن المستوصفات والمستشفيات والمدارس والمعاهد والمساجد والكنائس والأسواق والمنازل، التي اتخذت جميعها طابع المعمار العربي الأصيل والفريد في بنيانه وزخرفته، كما تحدثت عن سحر أهلها الذين شاركتهم تراثهم الشعبي وأطربت لأشعارهم، وأخذ بها جمالهم النادر وعقليتهم المحيّرة، والتفتت بإعجاب لأثوابهم الطريفة والغريبة متضمناً نقدهم كشرقيين قلة نظافة الأوروبيين، وهي لا تفتأ تطري لطفهم وكرمهم وحسن ضيافتهم والمثال الحسن في احترام النساء...، وقد أسهبت في الكثير مما يصف بشغف ذلك الماضي المفقود! والرحالة من الحيادية، لا تغفل عن وصف النسيج الاجتماعي والعرقي لسكان فلسطين، حيث - وقبل وصول تلك العصابات الصهيونية - كان اليهود العرب يجاورون المسلمين والمسيحيين معاً على حد سواء، ويمارسون بحرية طقوسهم واحتفالاتهم في منازلهم ومعابدهم، وقد كانت لفتة طيبة أن تضمّن الرحالة مشاهداتها بين المدن والمواقع والآثار آيات من الإنجيل والعهد القديم. لذا، «لا يخلو هذا الكتاب من تسليط الضوء على ما جمع بين الأديان الثلاثة من عادات، ليس لأنها عادات دينية، بل لأنها تقاليد عربية مشتركة اتسم بها أهل هذا البلد آنذاك». تقف الرحالة (عند عتبة يافا)، فترى أن رجل بيت لحم لا تخطئه العين لبنيته القوية «وهو يرفل في عباءته السوداء، مزخرفة الياقة بخطوط ذهبية أو فضية. أما زوجته فتتمتع بجسد مكتنز وتتميز بثوبها الطويل وقبعتها القرمزية المزينة بقطع نقدية يتدلى منها غطاء رأس طويل». وبعد تطوافها، تتساءل: «هل ثمة بقعة أخرى على الأرض تحمل هذا التأثير المغناطيسي في الجنس البشري؟». لم يأتِ تساؤلها من فراغ، إذ إن «مقدسات أورشليم عزيزة على المسيحيين واليهود والمسلمين»، وأن فلسطين تحديداً يسهل الوصول إليها من كل بقاع العالم! فعبر بوابة البحر الأحمر يلج القادمون من أفريقيا وأستراليا، ومن الهند والصين كذلك، «أما الأمريكي فيعرّج عليها في طريقه الدائري حول العالم». ومع توسع الدين الإسلامي، يولي المؤمنون وجوههم شطر القدس للحج، كعتبة مقدسة ثانية بعد مكة، وهم الذين يؤمنون بعودة يسوع المسيح في آخر الزمان «ليحاكم الأمم في الوادي الذي يقع بين شرق حائط المعبد وجبل الزيتون». أما اليهودي الذي كلما صلى، يمم وجهه صوب أورشليم، فيرجو أن يموت في «وادي يهوشافاط» حيث يُبعث عرق اليهود هناك حسب اعتقاده، حيث إن «فلسطين في نظر اليهودي لا تمثل سوى ماضيهم، وكذلك مستقبل عرقهم». تصف الرحالة روح التقبل والتعاطف الذي تبديه الحكومة التركية تجاه المختلفين عنها ديناً وعرقاً، والذي في رأيها، على الأمم الأكثر تطوراً محاكاتها! فقد سمحت بمكوث الإرساليات الفرنسيسكانية في فلسطين والمتواجدة أصلاً منذ قرون مضت، إضافة إلى الجمعيات الإنجليزية والأمريكية التبشيرية بموظفيها، فتقول: «الدستور الجديد الذي منح الحرية للرعايا الأتراك أضاف إليهم قليلاً مما يتمتع به بالفعل المهاجرون من الدول الأجنبية. حتى إنجلترا نفسها، ملجأ المنبوذين في العالم، لا تستطيع أن تظهر كرماً أو حرية أعظم. لذلك نرى ما تدين به المسيحية للمسلم، وما يمكن أن تتعلمه الحضارة من الأقل تحضراً، وما تدين به أوروبا لكرم التركي». ثم تختم الرحالة رحلتها إلى فلسطين عبر السكك الحديدية صوب دمشق، أقدم مدينة في العالم والتي باتت تسطع بنور المدنية، فتغيب في مخيلتها قليلاً، لتنتبه وتعود للواقع وتصف اللحظة لقارئها قائلة: «ولكن في لحظة ما تعود إلى «الشرق الذي لا يتغير»، وتفكر في ألعازر الدمشقي، وكيل إبراهيم، أو تفكر في نعمان السوري، أو في القديس بولس، أو أخيراً تفكر في العظيم والكريم صلاح الدين، الذي نسميه في فصولنا المدرسية صلادين، يغطي قبره تذكارات من جنود آخرين يعرفون شيئاً عن عظمة قلبه مثل السير والتر سكوت. كما وضع الإمبراطور ويليام الثاني إكليلاً من الزهور فوق قبره، وهو آخر التذكارات. هنا على أرض فلسطين تلتقي كُل الأجيال. في بلد مشرق الشمس ومغربها، نجد آثار أولئك من عرفوا الأرض، وأحبوا البحث في أسرارها، لتعرف أن الشمس قد غربت لتشرق مرة أخرى».
528
| 17 يناير 2025
وكأن هالة البتول أحاطت بالمكان والزمان عبر أسرار مُنحت لقلب، فلم يُسرّها! وإن من الفتوحات الربانية لا تحظى بها إلا المرأة حين يتكشّف لقلبها قبس من نور، فتُحدّث عن المرأة في أجلّ معنى للعفة والطُهر والزهد والانقطاع عما سوى الله. فتستلهم الروائية التركية (نورية تشالاغان) من قصة السيدة مريم ابنة عمران، أم المسيح عليهما السلام، معنى فناء القلب حباً في ملكوت الله، مقابل الألم الذي يتكبّده من اختصهم الله بنفحات من لدنه، في مواجهة قومهم الذين لا يعلمون. ففي رواية (عفة القلب: مريم العذراء) الصادرة عن (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع)، يأتي وصف (عفة القلب) في ثلاث كلمات رفيعة، تنطق الأولى أم مريم، وتنطق الثانية خالتها، وتنطق الثالثة مريم كمسك ختامها، ويتدفق عن كل كلمة سيل من درّ. هي: الفصل الأول: كلام حنة ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾. الفصل الثاني: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾. الفصل الثالث: كلام مريم ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾. فعندما كانت حنة تقضي وقتها في قراءة التوراة والزبور في بيت المقدس وفي معبد جدها سليمان، فكّرت في اسم الطفل الذي تحمله «كان يجب أن يحمل اسمه معنى العبادة. وقع اسمه في قلبي قبل ذاته. حملت هذا الاسم داخلي لسنوات. هديتي التي سوف أقدمها إليه: كثير العبادة.. مريم». لم يسلم الزوجان من الأقاويل، عن عمريهما وعن الأمر الغريب الذي يحوط بالحمل «وهل هذا ممكن؟ إنه سيدنا المسيح الذي سوف يأتي قريباً.. نعم هو! ممن يمكن أن يكون غير حنّة وعمران؟ سوف يولد المسيح من امرأة عذراء». ولدى مريم، يُصبح بيت المقدس كحضن أمها، وتملأ قلبها طمأنينة وحماسا كبيرا لأن تكون مع الله «العبادة تعني: (يا الله أنا أحبك) تعني أن أخبره بحبي إياه، ففي أي حال يعبد العبد خالقه بقدر حبه إياه». إن كل مخلوقات الله عباد له في تعاقب الليل والنهار، فعندما تنسحب الشمس، يترك العابدون نهاراً مكانهم للعابدين ليلاً.. أما القدس، فتختلف «حينما يقفل الليل بابه على النهار، تغدو القدس باباً مفتوحاً على العرش». وحين يحلّ المساء بأسراره على مريم العابدة، ويقفل عليها النبي زكريا الأبواب السبعة واحداً واحداً، تنعكس أسرارها في داخلها بشكل مختلف «أمرني ربي أن أسجد كثيراً. هذه الأعضاء السبعة هي: اليدان، القدمان، الركبتان، والجبهة. حينما تلتقي هذه الأعضاء في السجدة يستيقظ العضو الثامن، وهو القلب، بالخشوع والتذلل، ويصل إلى الذات الإلهية. كأن كل باب عضو مني. كنت أغلقها عن الدنيا واحداً تلو الآخر. كنت أقطع اتصالها بالدنيا كل مساء». أما عن (عفة القلب)، فإن القلب غير محلل لغير الله، وأي شيء يدخل القلب سوى الله يزيل عفته! تشرح مريم لخالتها هذا المعنى «يا خالتي تتشكّل عفة القلب عندما تصل عفة بقية المشاعر إلى نقطة الكمال. القلب هو ملك الله. حينما يبلغ القلب العفة، يسير نحو الله». ثم تذكر مريم النبي إبراهيم حين بشّره الله بطفل وهو وزوجه عجوزان، وقد كانت تأكل من الرطب، طعام الجنة «الحقيقة أن الجنة هي الإحساس بالله، والمكان الذي يوجد الإنسان فيه هو جنة بقدر إحساسه بالله». يحمل عيسى التواضع كصفة أسمى لانتفاء الطرف الأبوي فيه «كان عيسى متواضعاً جداً، قريباً من الله بقدر بعده عن التكبر. كان التواضع هو الصفة الأسمى في عيسى. كان سره في أمه. المرأة متواضعة، ولا سيما إذا كانت أماً، فإنّها تذلّ قلبها لأجل طفلها». ثم يُرسل الله عيسى نبياً لبني إسرائيل، هكذا ينبئه جبريل.. معلّم كل نبي «(علمني جبريل الحكمة والتوراة والإنجيل)، وفي لحظة واحدة، علمه جبريل علوماً قد يستغرق تعلمها عصوراً». إن الخوف يتأتى من التقوى، وليس الرجاء سوى العمل الصالح.. فيسوي عيسى الأرض للنبي الذي بشّر به «أضاء يحيى وعيسى هذه المرحلة المعقدة بالخوف والرجاء، وأحاطاها بالجلال والجمال. كأنهما فتحة أرضية لنبي المستقبل المحاط بالجلال والجمال». وبعد رفعه، تسترجع مريم ما كان بين عيسى وحواريه عندما كانوا يتحدثون، فيسألونه عن ثمة أمّة ستأتي بعدهم؟! فيبشرّهم بأحمد «لقد انتهت النبوة في بني إسرائيل، بعد ذلك سوف يأتي خاتم الأنبياء، العربي الأمي أحمد. هو ابن إبراهيم عليه السلام، من نسل إسماعيل» وتشهد مريم «عيساي هو بشرى آخر الأنبياء». وعن البشرى، تترقّب مريم قدوم من بشّر به ابنها «الوقت مساء، عمري يذوب في مسائه. أملي في بشرى عيساي. سيأتي ما بشّر به. لن تنصلح القدس أو يشرق حظها قبل وقوع أنفاسه عليها». إنه المساء، وكل الكائنات إلى السجود «وفي السجود الكون اجتمع» إنه المساء.. وقت خلق عيسى، وموت الروح الخائنة، وتحليق النور إلى السماء.. إنه المساء ومريم تنتظر سطوع نور المستقبل «إنه قادم.. الوقت مساء.. بشرى عيساي في أذني: لأذهب أنا وليأتي هو.. فارقليط قادم، أحيّد قادم».
804
| 02 يناير 2025
«لقد أطلقت أوروبا والولايات المتحدة العنان لإسرائيل كي تدمر غزة وتقتل سكّانها! نعم.. إنهم يهللون وربما كانوا يفضّلون (المشاركة)». هكذا تعبّر المؤلفة (هلغى باومغرتن) ابتداءً في كتابها (لا سلام لفلسطين: الحرب الطويلة ضد غزة) الصادر عن (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، وهي ترى العالم مقلوبٌ رأسه على عقبه، حيث المضطهِد ضحية والمضطهَدون هم العادون، متغافلاً عن معترك الاستيطان الاستعماري ونظام الفصل العنصري الذي تمارسه «إسرائيل» جهاراً نهاراً على الأراضي الفلسطينية ضد شعبها المحتل.. في نفاق سافر يتقولب به تحديداً أهل الشمال منه أو الغرب الاستعماري أو ما يُعرف بالدول المتقدمة، وهم لا يعتبرون أهل الجنوب -أو كما يعرّفونهم بالدول النامية- أناساً أمثالهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم تماماً، على قدم المساواة! تضع المؤلفة كتابها «في ذكرى ضحايا الحروب «الإسرائيلية» على غزة: إلى أطفال غزة من بيت حانون إلى رفح». وبينما يتقدمه كلمة تمهيدية جاءت بعنوان (نريد حريتنا ونريدها الآن)، فهي تستهل بحثها المتضمن فيه بـ (استعراض تاريخي) يتناول الفترة ما بين 1948 و 1967، حيث تسلط فيه الضوء على أبرز الأحداث التي جرت على الفلسطينيين، وما آلت إليها من نتائج متمثلة بشكل رئيسي في العنف الممارس ضدهم بقبضة الاحتلال الإسرائيلي، وإلى جانبه على الطرف العربي الرئيس المصري جمال عبدالناصر، بين استمالتهم واضطهادهم في قطاع غزة، والذي لم يختلف عن نظيره في المملكة الأردنية الهاشمية وما جرى على يده من ناحية أخرى في الضفة الغربية. ثم تنتقل إلى (الاحتلال «الإسرائيلي» بين حرب حزيران/تموز والانتفاضة الأولى 1967-2004) والذي تبحث فيه ما تعرضت له منظمة التحرير الفلسطينية من اضطرابات إلى جانب حركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية، وما كان من تركيز لعملها السياسي والتنظيمي مع المجتمع الفلسطيني بهدف تحقيق النضال المشترك. ثم تتناول (الانتفاضة الأولى وأوسلو 1978-2004)، كأول تمرد جماهيري يشنّه الفلسطينيون ضد الاحتلال الاسرائيلي، وما صاحب تلك الفترة من وقفة تضاد بين السلطة الفلسطينية المتمثلة في نظام أبوي قادم من الشتات يترأسه ياسر عرفات، ونظام ديمقراطي يتولاه نشطاء من القيادة الوطنية الموحدة، أمثال عبدالشافي في غزة والحسيني في القدس والبرغوثي في الضفة الغربية. بعد ذلك، تتطرق المؤلفة إلى (الانتخابات 2004-2006) التي شهدت أزمة نهشت بالحركتين فتح وحماس، وقد كانت في مجملها من أجل انتزاع الحرية وإقامة الدولة المستقلة.. حتى تختم بحديث طويل عن (حرب إسرائيل الطويلة على غزة 2006-2021) التي لا تزال دائرة حتى الساعة، وبها احتلت عنوان الكتاب! أما المؤلفة، فهي أستاذة جامعية ألمانية، درّست العلوم السياسية في جامعة بيرزيت في الضفة الغربية لأكثر من ربع قرن، ومن قبل في الجامعة الأمريكية في بيروت، وأصدرت العديد من المؤلفات تتناول القضية الفلسطينية، وهي لا تزال تتابع تطوراتها من محل إقامتها في القدس، ومن خلال رؤية محلية ودولية. وبما أنها عدّت بلادها متقدمة صفوف العالم المتقدم في النفاق العالمي المشترك -كما هو الحال دائماً- فإنها لم تتوانَ عن التصريح في مقابلة رسمية على التلفزيون الألماني عن العنف الممارس من قبل المحتل الإسرائيلي ضد الفلسطينيين لا سيما المسلمين منهم، إضافة إلى التطهير العرقي القائم في القدس الشرقية والإبادة الجماعية المماثلة لها في قطاع غزة.. الجرأة في النقد التي جاءت بردة فعل غير متوقعة من جانب المواطنين المسلمين الألمان، وقد قابلوها آنذاك بعدد لا حصر له من رسائل الشكر الإلكترونية. بعد الحرب التي دارت رحاها في مايو 2021، تعتقد المؤلفة بأن الوضع في غزة هو أسوأ مما كان عليه قبلها، «فالحصار «الإسرائيلي» لا يزال قائماً، وهناك بين الحين والآخر هجمات عسكرية جديدة على قطاع غزة، حيث لم يبق هناك شيء يمكن تدميره. فالحرب الطويلة إذاً لا تزال مستمرة حتى بعد حرب 2021». بل وبرغم التغطية الإعلامية العريضة في الغرب، إلى جانب الكثير من حملات التضامن الشعبية، لم تغير الحكومات الغربية موقفها الداعم تجاه إسرائيل وسياساتها، أياً كانت تجاه غزة ودرجة ما تمارسه من عنف.. أو كما تقول المؤلفة: «ولا تزال «إسرائيل» حتى اليوم تتمسك بحربها الطويلة ضد غزة والحصار الإنساني». ومع العنف المتصاعد كنتاج للعقلية الاستعمارية التي تعتمرها إسرائيل ومن ورائها شمال العالم، تدعو المؤلفة إسرائيل والشمال معاً للتعلم بأن وضع حد للعنف لا يتم بالعنف، حيث تقول: «لا تتوقف عملية تصعيد العنف! فيومياً نشهد عنفاً متزايداً، ومع ذلك لا يترك الفلسطينيون أنفسهم فريسة للتخويف والترهيب، فنضالهم من أجل الحرية لا يتوقف، ويرفع شعاراً مركزياً: نريد حريتنا ونريدها الآن».
1983
| 26 ديسمبر 2024
في الثامن عشر من ديسمبر كيوم تم اعتماده عالمياً للغة العربية، يطالعنا كتاب (اهتزازات الروح: عشرة بحوث في أدب العرب وفكرهم)، تهتز له الروح الذواقة وهي تسرح في أروقة اللغة العربية بين أدب وشعر وتجليات صوفية، تستمد السحر من حروفها ومعانيها وبيانها وعَروضها وبديعها وقوافيها وبلاغتها وتصاريفها، والتي شرفت بادئ ذي بدء بالوحي الذي خاطب به الله خلقه من خلالها. ينتقي مؤلف الكتاب (أ.د. عيسى العاكوب)، أستاذ البلاغة والنقد في جامعة حلب، وعضو مجمع اللغة العربية في دمشق، من تلك الأروقة ومن صميم فكر روّادها، عشرة بحوث، وجدها تحرص على تقديم معرفة جادة تقف على البيان الإبداعي الذي حظيت به أمة القرآن من خلال «الكلمة المجتهدة المخلصة»، وهو لذا، يجد تلك البحوث قد انبثقت من «مشكاة واحدة». يأتي العنوان الرهيف من روح الإبداعات الشعرية القديمة والحديثة التي جادت بها قريحة مبدعيها «فما كلمات الشاعر إلا بناته اللائي يشاء لهن أن يكنّ الأبهى والأجمل»، حسب تعبير المؤلف. لذا، فهو يدعو القارئ لأن يضبط اهتزازات روحه مع اهتزازات أرواح أولئك الشعراء المبدعين، وأن يختبر التحليق في فضاء التخليق، وهو يقرّ بأن مهمتي التخليق والإبداع التي تحدّها همة الشاعر الأرضي الترابي -مهما بلغت درجة تحليقه- لا تبلغ سماء الإبداع المترامية. يبدأ المؤلف كتابه الصادر عن (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع) بالبحث الأول (في آفاق المديح النبوي)، وبنبي الإسلام الذي حُق له أن يكون «المحبوب الخاص» لدى تابعيه، لينتقل إلى «المحب الخاص» الذي هو في هذا المقام ليس سوى (الشاعر العربي). ثم يتطرق إلى اللغة العربية التي استخدمها أهلها كأداة للتعبير عن المحبوب الخاص وعن حبه وفي مدحه، حتى ينتهي بموقفه ﷺ من المديح ومن الشعر ككل، الذي هو بالقطع الرأي الإسلامي. وبعد أن يروي المؤلف شغاف قلب كل مسلم بما جادت به الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً في مدح نبيها، كأسوة حسنة ينبغي أن تُحب وتُتّبع في كل ما أخذت به وفي كل ما ذرت، وكجزء خاص من الدين، وكشطر متمم للإيمان، يتناول ما جاء في مدحه على لسان أقوام لم يتبعوه لكنهم أحبوه حب مماثل لأتباعه. فهنالك الشاعر العربي المسيحي (جاك شمّاس) الذي قال: «أودعت طهرك في حدائق مقلتي، ووشمت مجدك في شغاف جنان، مهما مدحتك يا رسول فإن، فوق المديح وفوق كل بياني». وهناك الهندوسي (السير كيشان براساد شاد) رئيس وزراء ولاية حيدرأباد الهندية، الذي كتب بلغته الأوردية أبياتاً تولّى المؤلف ترجمتها من الترجمة الإنجليزية: «قد أكون كافراً أو صادق الإيمان، لكن ربي يدري من أكونه، وأنا أعلم أيضاً أنني الخادم، للمختار سلطان المدينة». أما البحث الثاني (كلثوم بن عمر العتابي)، فينقل فيه عن الشاعر الحلبي الذي أتقن الفارسية وترجم عنها، رؤيته العامة للشعر والأدب، حيث قال: «الألفاظ أجساد، والمعاني أرواح، وإنّما تراها بعيون القلوب، فإذا قدّمت مؤخّراً أو أخّرت منها مقدّماً أفسدت الصورة وغيّرت المعنى، كما لو حُوّل رأس إلى موضع يد، أو يد إلى موضع رجل، تحوّلت الخلقة، وتغيرت الحلية». ثم يتحدث في الثالث عن (المدرسة الشعرية الشامية في عصر سيف الدولة الحمداني)، ويتناول في الرابع (آفاق الأدب المؤدب) سيرة (أبو العلاء المعري) كعالم وكمعلم للغة العربية والحكمة الإيمانية، وكتابه (الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ) الذي خصّه لعلوم اللغة العربية، من ناحية المعجم والأساليب، والنحو والصرف، والعروض والقوافي، ليختم بالدروس الإيمانية المستخلصة منه. ثم يأتي البحث الخامس (الهداية النبوية وآفاق رؤيتها) على أفق الحضارة وأفق الرشاد وأفق العالم قبل الهدي النبوي وبعده، وأفق الإعراض عن نور هديه، ومن ثم السادس (هكذا فلنغن للحب) الذي يتناول عملية التخليق الشعري من خلال قصيدة لشاعر إماراتي، ومن بعده السابع (أهو الحب الذي يفجر ينابيع الفن) في نفس المضمون، حتى ينتقل للثامن (ضغط هاجس الإبداع في ديوان ذات البدع) فيخصّ به شاعر موريتاني ويكشف عن «الجد في تطلّب الإبداع والتخليق عند هذا الشاعر»، وللشعر كأداة في تجلية العالم الباطن. ثم يختتم المؤلف ببحث (الشكر: مفهوماً أخلاقياً في التصوف الإسلامي: الدلالة والمنظورات) حيث يخصّ التاسع منه بـ (فضاء ما قبل التصوف) والعاشر بـ (فضاء التصوف). فيعرض في التاسع المفهوم العام للجانب الصوفي والأخلاقي، وحقيقة الشكر، ومكانته في اللغة العربية، والمنظور العربي له قبل الإسلام، يليه المنظورين القرآني والحديثي، في حين يعرض في العاشر -مستعيناً بالمراجع العربية والفارسية والإنجليزية- قيمة الشكر من منظور صوفي عرفاني، لا سيما لدى الإمام أبو حامد الغزالي، ومكانته في جملة حكايات وأقوال عدد آخر من أعلام التصوف. ختاماً، ومع أن الكتاب جاء متخصصاً بشكل ما، فهو كفيل بأن يثير كل بواعث العز والإعجاب لدى كل من أنعم الله عليه بلسان ناطق للغة الضاد، وكما قال أمير شعراء العرب: «إن الذي ملأ اللغات محاسناً.. جعل الجمال وسره في الضاد».
321
| 18 ديسمبر 2024
إنه كتاب «شق توأم سيامي» كما عرّف به كاتبه ابتداءً، وهو وإن امتلك «شهوة الحكي» كغيره -على حد قوله - ليس «بحكّاء»، غير أنه استغرق من عمره ثلاثين عاماً يحكي مع شاشة حاسوبه، حتى تجمّع لديه كمحصلة «حكي كثير» وصار من الأجدر نشره لا سيما وهو آخذ بنصيحة صديقين، إضافة إلى أنه لا يضمّن نفسه زمرة الكتّاب الذين يكتبون لأنفسهم غير آبهين بالنشر، بل إنه كما يقول في مقدمته: «ما كتبت شيئاً إلا تمنيت أن يجد طريقه إلى الناس حتى لو جرّ عليَّ ندماً». ولضخامة ما كتب، فقد اتفق والناشر على إصدار كتابين: أحدهما بعنوان (هكذا أكتب) الذي تم نشر مراجعته الأسبوع الماضي، وقد خصّه بأحاديث عن اللغة والإعلام والتعليم، والآخر بعنوان (هكذا أفكر) زاد عن سابقه بآراء وأفكار في مجالات أخرى، وهو الذي بين أيدينا! ففي حديثه عن نفسه، يبدو الإعلامي (عارف حجاوي) متعدد الانتماءات وهو يعلن هويته كـ «إنسان عربي مسلم»، ففي حين يكون الإنسان في نظره «سوياً» حين يحمل بداخله عدة انتماءات، يكون البلد وحيد الدين والقومية واللسان «بلد غير طبيعي». أما حديثه في (أنا والناس) فيتطرق في أحد أجزائه إلى موهبة المرأة التي قد تُدفن في عقلها مقابل مهنتي الطهي والتكاثر بلا حساب، فبجانب (مدام كوري) التي نالت جائزة نوبل مرتان، الكثير من النساء العاكفات على أعقد التجارب في مختبرات حول العالم، فيصرّ مؤكداً: «المرأة تستطيع أكثر من الطبخ والرقص الشرقي». وفي (أفكار شتى) يفرّق الإعلامي بين المثقف والمفكر وهي ليست بعملية هيّنة! فبينما يكون المثقف ذلك الذي يحرص على جمع معلومات من ميادين جمة، أدبية وعلمية ودينية وسياسية، بآراء النقاد وتحليلات المحللين، ثم يخرج بين فينة وأخرى بجملة آراء تخصه، فإن المفكر - وهو كذلك يتصدى لمعلومات ولمختلف الآراء - فهو يهضمها لكن لا يعيد إنتاجها «بل يخلق من مجموعها ومن معايشته رؤية أصيلة».. إنه مستقل وذاك لا يزال تابعاً! ثم يجيب عن سؤال وُجه له حول شاعره المفضل وما لم يجربه في الأدب ومدى رضاه عن إنتاجه، فيقول: «أحسن الروايات عندي كتب التاريخ، وأحسن ما كتب عن تاريخنا كتبه غيرنا، لأننا نعيش حقبة الهزيمة ومنذ مئات السنين، فكتاباتنا لتاريخنا مليئة بالاعتذارية والتمجيد، أو بجلد الذات بلا رحمة! الآخرون يكتبون عنا بموضوعية أكثر». أما في (حديث الأدب) الذي عرض دواوين الشعر وهي تمد الإعلامي بأفكار جاهزة كلما فكّر في أمر ما، فيقول في (ماذا أتعلم من الشعر): «قد يمر ببالي صديق لي كان يحمد ربه أن ليست له أخوات، حتى لا يتعرض لهن أحد ولا يغازلهن أحد! ثم أتذكر الخنساء التي بكت أخويها صخراً ومعاوية بديوان شعرها كله فخلّدتهما». ثم يجول في أروقة غنّاء من الشعر العربي، فيتحسر على مآل بلاد العرب التي أصبح فيها الغني يرتحل، بينما كان الفقير يرتحل سابقاً لطلب الرزق، وقد كانت بلاد العرب آنذاك عزيزة غنية، فيورد بيتين في وجوب الارتحال من أجل تحسين الأحوال، هما: «إذا كنت في دار وضامك أهلها، وقلبك مشغوف بها فتغرب / فإن رسول الله لم يستقم له، بمكة أمر فاستقام بيثرب». لكنه يقول في (الله أصل وليس معه أصل) عن منطلقاته الفكرية التي تبدأ بإدراك الله، ثم الإسلام، فالقرآن: «كنت دائماً اسأل نفسي: (ماذا عندك من الإسلام؟) ومنذ بضع سنوات أخذت أجيب: (أنا من الناس الذين عندما يُنادى في يوم الحشر: (فليلحق كل بصاحبه)، أذهب إلى حوض محمد ﷺ وأقول: أنا معك)». ثم يظهر الإعلامي متثائباً في حديثه (شيء عن المستقبل) حين ناكفه أحد القراء في عدم امتداحه الرئيس الراحل ياسر عرفات، فذكّره بـ «طقوس عبادة الفرد» التي مارسها العرب ردحاً من الزمان ثم كفروا بها، وضرب له مثلاً في جمال عبدالناصر وصدام حسين ومعمر القذافي، كـ «فيلم» حضره عدة مرات! يستمر في حديث المستقبل ليتطرق إلى حديث يخص في أغلبه فلسطين والفلسطينيين والقضية الفلسطينية. فيقول في (فلسطين صورة المستقبل): «نظر الإسرائيليون، الذين يتعايشون مع السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقية، إلى الأمر كما يلي: لسنا مستعدين للتعامل مع قيادة تخرج من جيبها صائب عريقات يتحدث عن ضرورة العودة للتفاوض، ومن جيبها الآخر مروان البرغوثي يحث على استمرار الانتفاضة، ومن جيبها الثالث تحالفاً بين فتح وحماس تنكره السلطة وتغذيه في آن واحد. القيادة الفلسطينية في نظر إسرائيل غير مأمونة الجانب وليست صاحبة الكلمة الواحدة. الإسرائيليون يقارنون سلوكها دائما بسلوك الحكم في الأردن، مثلاً، ويدركون الفارق الشاسع». وخير ما أختم به، إجابته في مقابلة أجريت معه عمّا يشغله هذه الأيام: «وفي كل الأيام.. فلسطين»، وماذا تعني له: «تعني فلسطين لي ما تعنيه الساق العرجاء للأعرج! بعضهم يولد في بلد حر، وبعضهم في بلد يقع تحت الاحتلال.. فلسطين قدري». وبدوري أختم وأقول: ليت شعري! إنها قدر كل العرب.. الشرفاء منهم وحدهم.
228
| 13 ديسمبر 2024
كتاب عادي من وجهة نظر كاتبه، لكنه قطعاً ليس كذلك عند قارئه، وتحديداً القارئ الشغوف باللغة العربية وما يدور وما لا يدور في فلكها! ما برح الكاتب الذي استهوته اللغة وأطربه «معابثتها»، مسرفاً في الكتابة، ثائراً في التعبير، مستفيضاً في كلمات لم تسعها أعمدة الصحف ووسعها حاسوبه، حتى حان أمد سكبها على ورق فاض بدوره فتوزع على كتابين، جاء أحدهما بعنوان (هكذا أكتب) عني باللغة والإعلام والتعليم، وجاء الآخر بعنوان (هكذا أفكر) زاد عن سابقه بآراء وأفكار في مجالات أخرى. فمن هو؟ إنه ذلك الإعلامي الذي تسع طلته الشاشة ومخارج أحرفه الأسماع وموسوعيته العَجب والإعجاب! إنه (عارف حجاوي) كاتب ومدرب وإعلامي من فلسطين، تنقّل في مهنته بين هيئة الإذاعة البريطانية وقناة الجزيرة الإخبارية ومحطة التلفزيون العربي، كما عمل مدرباً في دورات إعلامية، إضافة إلى إصداراته التي تختص باللغة والشعر والنحو، وغيرها من إصدارات أدبية وروائية وفكرية. ففي كتابه الأول (هكذا أكتب)، وفي حديثه عن (الإعلام)، تنطح بقرة عمياء -أو تكاد- زميله البدوي الذي اجتمع ضمن وفد صحفي لسماع كلمة وزير إعلام في بلد عقد معاهدة مع إسرائيل، وقد سمح للبقرة بنطحه حين لم يفهم كلمة مما قال الوزير، والذي ألبس كلمته -بتبجح- محاسن المعاهدة وتأكيدات الحق الفلسطيني معاً! وعن الجزيرة التي تميزت في رأيه بالجرأة والتوازن والصدق والسعة، فقد تصالح مع انتمائها المزدوج عربياً وإسلامياً، الانتماء الذي يفتح بالضرورة بابه مشرعاً لاحتواء صاحب الدين وصاحب القومية سوية، كالكردي الذي هو في أصله عربي وإسلامي، والمسيحي العربي ذو الثقافة الإسلامية، ومن سبقهم بمئات السنين من «يهود وصابئة ومسيحيون عرب كثر». وقد عد نقاط قوة الجزيرة في: «الخبر الصحيح والسريع والاهتمام بالإنسان». يقول عن الصحافة في مقالة (إعلان مريض لشعوب مريضة): «الصحافة الورقية ليست وسيلة توعية. إن ماتت غداً فلن نذرف عليها دمعة. وفيها علة أخرى غير علة النقل الببغائي عن الوكالات، وعلة نشر المقالات السطحية: هي علة الثرثرة والعدول عما هو لباب إلى ما هو قشور. بعض صحف العالم حلقت في سماء الحرية، وبعضها سقط في مستنقع التفاهة، وصحفنا في بلاد العرب إذا خرجت من عباءة السلطان أحست البرد فتقفعت أصابعها، فالتمست فرجة في هذه العباءة كي تدخل من جديد وتستدفئ». أما في حديثه عن (التعليم)، فيحاول الإعلامي العثور في بلد عربي على معلم أسطوري، عاشق للعلم، محب للأطفال، يقرأ ويكتب ويرسم، ويتفنن في إيصال المعلومة! بيد أنه لا يعد العثور على هذا المعلم مستحيلاً طالما أن بلده ينعم بالحرية ونصب عينيه «النهوض بجيل المستقبل». إذاً «الحرية شرط» في نظره، وفي نظره «الحرية تعني أن المواطن يشمخ ويحس بأنه مهم». من ناحية أخرى، وهو إذ يؤمن بالشغف المعرفي كمحرك حقيقي للتعلم، إذ حيث لا يخبو الشغف لا ينتهي العلم، فهو يحث المجتمع العربي الأخذ بكلمة الإمام علي (كرم الله وجهه): «قيمة كل امرئ ما يحسنه»، الكلمة التي يستعيد بها ذكرى والده الذي عمل خياطاً ماهراً لكنه لم يورث صنعته لأبنائه، حيث آمن «أن أهم شيء في الدنيا الشهادة الجامعية»، وفيها صدق رحمه الله. ثم يتناول «الوحي» كإشارة إلى الرغبة الحقيقية في التعليم، فيقول في مقالة (تعيش الكرتونة): «بداية التعلم نحت في الصخر؛ يفرح المرء بالقليل الذي تعلمه، ويظن أنه أتقن العلم كله، ثم يتعلم أكثر فيعرف مقدار جهله بتلك المهارة، ثم أكثر، فيدرك أنه جويهل صغير. وما زال يتعلم ويزداد إدراكا لجهله. فالتعلم خير طريقة لتعرف مقدار جهلك». وفي خاتمة حديثه الذي جاء عن (اللغة)، يثير الإعلامي رأياً لم يزل يثير حوله النقد لاذعاً، ألا وهو التخفف من حمل النحو وتحويل الجهد نحو المفردات وإثراء اللغة «بكل ما يجعلها أقدر على التعبير». فاللغة العربية بما تفيض من حيوية، فهي -في رأيه- مصدر خوف للناطقين غير المختصين بها، ما يحجب خيراً كثيراً من علومهم إذا ما أجبروا على التعبير بها، أو إيثار السلامة والتحدث بالعامية. فيؤكد قائلاً: «بزوال الإعراب من لغتنا سيكتب الكاتبون أفكارهم بلا قيود، وسيتحدث المتحدثون بالفصحى بانطلاق». وبين العالم الأكبر والوجدان، تظهر اللغة الأم كأساس في استعذاب الشعر، وتذوق الطرفة، والضحك معها والبكاء، وعبادة الخالق ومناجاته، وصب حجر الأساس في صرح الإنسان اللغوي والعلمي والمعرفي. إنها لغة الغريزة ولغة القراءة الممزوجة بالفهم والمتعة، في حين تأتي فضيلة اللغة الثانية المكتسبة في فتح أبواب العالم على مصاريعها، وقد خص (اللغة الإنجليزية) في هذه الأفضلية دوناً عن غيرها، كلغة عالمية أولى. ختاماً، رغم «جنون الفكرة» و»شيطان العبث» و»شبق الحرف» الذي حمل الإعلامي على تطويع اللغة العربية بين يديه، تقديراً وافتناناً واعتزازاً، لا يجرمنه على تمجيدها الحب أو الحمية، إنما كما يؤكد في مقدمة كتابه: «أحب اللغة العربية وأعتز بكتابها العظيم (القرآن)، ولكنني لا أنسى أن للآخرين لغاتهم وكتبهم المقدسة».
429
| 04 ديسمبر 2024
قد يقع في الخاطر تساؤل عن الذوق الأدبي ما إذا كان له أن يجتمع والثورة في قلب رجل مناضل واحد؟! ففي عام 2004 ومن عتمة زنزانة تقبع في سجن بئر السبع، تظهر للنور رواية أسير، خطّها في جنح الظلام، ونسخها العشرات، وسربها آخرون بحيلة تلو حيلة عن أعين الجلادين وقبضاتهم الدنسة، والتي قال فيها ابتداءً: «هذه ليست قصتي الشخصية وليست قصة شخص بعينه رغم أن كل أحداثها حقيقية! كل حدث منها أو كل مجموعة أحداث تخص هذا الفلسطيني أو ذاك. الخيال في هذا العمل فقط في تحويله إلى رواية تدور حول أشخاص محددين ليتحقق لها شكل العمل الروائي وشروطه، وكل ما سوى ذلك حقيقي عشته، وكثير منه سمعته من أفواه من عاشوه هم وأهلوهم وجيرانهم على مدار عشرات السنوات على أرض فلسطين الحبيبة.. اهديه إلى من تعلقت أفئدتهم بأرض الإسراء والمعراج من المحيط إلى الخليج، بل من المحيط إلى المحيط». أما الأسير الذي أمضى اثنين وعشرين عاماً في سجون الاحتلال، فليس سوى (أبو إبراهيم)، يحيى إبراهيم حسن السنوار (1962-2024) الذي استهدفته قوات الاحتلال الإسرائيلية كعقل مدبر لعملية طوفان الأقصى، في 16 أكتوبر 2024 بقذيفة دبابة أطلقتها وهو وسط مبنى متهالك في حي تل السلطان بمدينة رفح، وحيث المسيّرة توثق نضاله الأخير بعصا ذهبت كمضرب مثل في النضال حتى آخر رمق! تأتي رواية (الشوك والقرنفل) لتعبّر عن ضميره الذي احتوى قضية وطنه وعدوه والعالم بأسره، وهو لم يزل أنموذجاً للجبروت الذي أبى إلا أن يقتلع شوك زرعه مغتصب الأرض فوق حقل قرنفل! تأخذ الرواية طابع العمل الوثائقي في تجسيد القضية الفلسطينية، من جوانبها التاريخية والسياسية وعمليات المقاومة الشعبية والمسلحة، وجوانبها الاجتماعية والنفسية المتمثلة في مشاعر الذل وضعف الحيلة، وألم الصراع والقتل والتهجير في منافي الشتات، والأمل بتحرير الأرض والاستقلال، وشعور عابر بالفرح عن لحظات نصر لم تكتمل! إنها رواية يسردها (أحمد) من بدايتها حتى نهايتها، والذي يظهر فيها ابتداءً كطفل يحيا وعائلته في مخيم الشاطئ للاجئين في غزة أثناء حرب النكسة عام1967، ثم في الخنادق التي يحفرونها والجيران للاختباء فيها، تحوطهم الدوريات الإسرائيلية معلنة حظر التجول، والجنود الذين لم يتورعوا عن اقتحام البيوت واستجواب أو اعتقال من فيها، وقد اشتعلت العمليات الفدائية ضد الكيان الغاصب. أما المرأة فهي حاضرة وبقوة، حيث الأمهات يكافحن في معاشهن ويحرصن على تعليم وتوجيه أبنائهن وإدارة بيوتهن على خير وجه في ظل غياب الآباء حتى تزويجهن، والجد في سعيه الشاق نحو مكاتب التموين لتأمين طعام عائلتي ابنيه الغائبين منذ بداية الحرب. لا تبدو الرواية وكأنها تجسد بطلاً بعينه ضمن عائلة في حدودها الضيقة، بل تمثّل شعباً بأكمله ارتبط بأرضه على اختلاف توجهاته الفكرية والسياسية والعقائدية. فلطالما ظهر الراوي حائراً بين أخيه الكبير (محمود) وابن عمه (إبراهيم).. الأول الذي تعلم في مصر وتخرّج مهندساً وعمل في (الأونروا) ثم التحق بحركة (فتح)، يعتنق شعاراتها المداهنة للعدو كاستراتيجية سلمية لنيل الحقوق، مستعيناً باتفاقية أوسلو، بينما الثاني والذي يصرّ على البقاء في غزة لا يبرحها فيدرس فيها العلوم ويعمل في البناء، يلتحق بحركة (حماس) ويدافع بشراسة قولاً وفعلاً عن توجهاتها الجهادية ضد العدو، مستشهداً بالآيات القرآنية.. ناهيك عن النقاش الذي لا ينفك حامي الوطيس بين تلك الفصائل، والذي كان يُدار عادة في غرفة الأم وطالما انتهى بصياح وتشابك بالأيدي في بعض الأحيان، والتي تأتي امتداداً لما يُدار بالمثل بين طلاب المدارس والجامعات، والسجناء الذين اتخذوا من زنازينهم مجالس للتدارس والنقاش والعهد على الكفاح حتى النصر. لم يخفَ على الراوي أن يضمّن أبطاله (حسن) كأخ لـ (إبراهيم) ووجه آخر للشعب الذي جاور العدو في تل أبيب وصافحه كفاً بكف كجاسوس على حساب قضيته وقضية بني جلدته، حتى تتم تصفيته في نهاية المطاف كخائن لا جزاء له سوى القتل. ثم يصور المشهد الختامي اندلاع انتفاضة الأقصى عام2000، و (أحمد) وهو يتلقى مكالمة وداعية من (إبراهيم) يحدثه عن رؤيا جاءت كفلق الصبح، واستشهد فيها بأحاديث نبوية عن الطائفة القاهرة لعدوها «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس»، والتي قال في آخرها: «ثم رأيتني يا أحمد صائماً ورأيت رسول الله ﷺ يقول لي: إفطارك عندنا اليوم يا إبراهيم، فأنا في انتظارك». ثم تظهر (مريم) وقد أنهت للتو مكالمة وداعية أخرى من زوجها (إبراهيم)، تسلّم أخويها (محمود) و(أحمد) كل واحد منهما بندقية كلاشينكوف، وهما يحملان طفليهما، فينطلقان مع الجماهير الغاضبة، يتقدمها أبطال كتائب الشهيد عزالدين القسام براياتهم الخضراء، وأبطال كتائب شهداء الأقصى براياتهم الصفراء، وأبطال كتائب سرايا القدس براياتهم السوداء، والتي كانت تهتف في صوت رجل واحد فيرتد الصدى مروّعاً: «خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود. بسم الله الله أكبر. بالروح بالدم نفديك يا شهيد.. بالروح بالدم نفديك يا فلسطين.. عالقدس رايحين.. شهداء بالملايين».
522
| 08 نوفمبر 2024
(السرقة من المسلمين (الساراسن): كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا) كتاب أشبه بسياحة موغلة في عمق التاريخ، يتلمس روح العمارة ويستنطق صمت الحجارة الذي أبى إلا أن يصدح بما كان! بيد أن عنوانه الرئيسي ينطوي على سخرية متبوعة بتحدٍ، حيث عمدت الباحثة إلى استخدام كلمة (الساراسن) المستعارة من كلمة (السارقين) أو (السراقين) في اللغة العربية، كإشارة ضمنية إلى نظرة الأوروبيين الاستعلائية نحو العرب والمسلمين خلال العصور الوسطى، والتي تثير بدورها تهكماً مضاعفاً تجاه السرقة التي ارتكبت من السارقين أنفسهم، في حين يكشف عنوانه الفرعي عن التحدي الذي أخذته الباحثة على عاتقها في إثبات أثر العمارة الإسلامية على الكاتدرائيات القوطية والعمارة الدينية ككل في كافة أرجاء أوروبا! ولأن (رُب ضارة نافعة)، فقد كان دافع الباحثة في وضع هذا الكتاب هو ردة الفعل العنيفة التي تلقتها بعد بثّها منشوراً إثر الحريق الذي طال كاتدرائية نوتردام في باريس عام 2019، وضحت فيه أصل العمارة القوطية القائم على عمارة شرق المتوسط والأندلس الإسلامية. تستغرق الباحثة حياة بأكملها لتتحرى عن أصل هذا التأثير التاريخي الذي تحيله إلى عدة روافد، كالتبادل الثقافي الذي زامن الحروب الصليبية، وحروب الاسترداد في صقلية وإسبانيا، والاحتكاك الحضاري والتجاري، وما نقل الأفراد والتجّار والمحاربون من مشاهدات لمبانٍ دينية ومدنية إلى أراضيهم. فالعمارة البيزنطية، وعمارة بلاد ما بين النهرين، والكنائس المسيحية الأولى في سوريا، وجامع قرطبة الأندلسي، وفنون العمارتين الأموية والعباسية، قد تم نقل عناصرها ابتداءً إلى العمارة الأوروبية في عصورها الوسطى، رافقها فيما بعد تطور يتدرج من نمط قوطي عتيق إلى حديث، حتى نمط الكاتدرائيات القوطية الفخمة، والتي تتصدر أشهرها في لندن، كمبنى البرلمان وبرج ساعة بيج بن، وفي باريس ككاتدرائية نوتردام وكاتدرائية القلب المقدس. يظهر ذلك النقل المدفوع بالإعجاب جلياً في القباب المضاعفة والأبراج العالية والأقواس المدببة والزجاج الملون المخترق بالضوء الطبيعي، والنوافذ ذات الزخرفة الحجرية، والسقوف ذات الأضلاع، والكثير من أنماط الزخرفة والأناقة والبراعة. أما عنها، فهي (ديانا دارك 1956) كاتبة ومؤرّخة ومستعرِبة بريطانية. درست اللغة الألمانية والفلسفة العربية في جامعة أكسفورد، وعكفت على البحث العلمي في آثار وعمارة الشرق الأوسط، وبالأخص في سوريا التي أحبتها واتخذت من بيت عتيق في أحد أحياء دمشق سكناً لها. أما مترجم كتابها، فهو (د. عامر شيخوني) أحد رواد جراحات القلب العرب، والذي تخرج في كلية الطب بمدينة حلب، واستكمل دراسة جراحة القلب في أمريكا. وهو إضافة إلى تخصصه المهني، فمترجم وكاتب، عني بترجمة وتأليف الكثير من الكتب باللغتين، إضافة إلى نشر المقالات العلمية والأدبية. وعودة على الكلمة المستخدمة التي اعتقد بها معماري القرن الثامن عشر الإنجليزي (كريستوفر رن)، واعترف بالأصل الإسلامي للعمارة القوطية -رغم ازدرائه نقائصه ورداءة زخرفاته المسرفة حسب رأيه- فهو لم يزل (سارقاً من الساراسن) في رأي الباحثة، حيث وإن لم يسرق أسلوبهم، فقد سرق تقنياتهم الهندسية الأكثر تطوراً! كما أن اعترافه بهذا الأصل لهو إقرار بالإلهام الذي قدمه المسلمون فيما يعتبره الأوروبيون المسيحيون أسلوبهم "المعماري الفريد"، وقد كانوا على ثقة تامة بتفوقهم المسيحي خلال ما اعتبروه حقبتهم الذهبية التي انتصروا فيها على أعدائهم المسلمين، "لدرجة أنه لم تخطر لهم أبداً فكرة أن اختياراتهم المعمارية تمثل في الحقيقة هوية دين آخر.. الدين ذاته الذي اعتبروه عدواً، واتخذوا هذه الأنماط المعمارية ببساطة على أنها أنماط مسيحية". وهي إذ تناكف المعماري المسيحي في مقارنته بالمعماري المسلم سنان، فالباحثة لا تستبعد "صرخات اعتراض عالية في بعض الأماكن" وهي تعقد تشابهاً معمارياً بين برج ساعة بيج بن الإنجليزي والمئذنة السلجوقية في حلب. فتقول في نبرة يشوبها الفخر: "لقد أُتيحت لي الفرصة مرات كثيرة منذ سبعينيات القرن العشرين لزيارة أبنية، مُوزّعة فيما هي الآن دول: سورية والأردن ولبنان وفلسطين وإسرائيل وتركيا، مثل الجامع الأموي الكبير بدمشق، وقبة الصخرة الأموية، وقصور الصحراء الأموية، ومدينة عنجَر الأموية. تمكنت من لمس حجارتها والتشبع برحيقها. وعندما أنظر الآن إلى الأقواس الثلاثية الفصوص والنوافذ المدببة في كثير من كنائسنا وكاتدرائياتنا، وسقف المروحة، ومواضع الجوقة ذات الخشب المحفور بإتقان، والغنية بأغصان الكرمة الملتفة والأوراق الرشيقة والفاكهة الناضجة، أنظر إليها بعيون جديدة، وأقدرها بشكل أكثر عمقاً، لأن معرفة أُصولها قد زادت إدراكي عمقاً. أرى الآن ما يكمن وراءها، وما الذي تمثّله". تنتهي الباحثة بالتأكيد على أن العمارة في حد ذاتها، تعبير حضاري إنساني بارز كالفكر والفلسفة والفن والأدب، وهي صورة ذاتية من ناحية وهوية قومية من ناحية أخرى، وهي لبنة في بناء الحضارات الإنسانية التي تتوالى كل منها على ما سبقها من إنجازات، حيث تستمر وتتطور وتتفاعل وتتلاحم وتتراكم بما يكفل خلق مجتمعات حضارية أكثر تماسكاً وتكاملاً وإنسانية، وما كان القصد من كتابها إثارة صراعات أو تنافس أو نعرات، "إنما هو دعوة للتعارف وللتلاقي بين الشعوب والثقافات والحضارات وأنماط العمارة".
495
| 02 نوفمبر 2024
هذا كتاب يعبق برائحتي الحبر والورق، خطّه أستاذ جامعي حين تقاعد مستعيناً بذاكرة بعيدة، يظهر فيها وهو طفل يترعرع في كنف عائلة حرصت على تزيين جدران منزلها المطل على بيت المقدس بأرفف تغص بالكتب، وحرصت على تثبيت خطاه فوق طريق العلم مثل «العديد من أبناء فلسطين منذ ما قبل وما بعد ضياع الوطن»، وهي الطفولة التي رسمت بدورها صورة الشيخوخة، وسمحت لتلك الكتب أن تحفر أخاديدها في وعيه وفكره ومشاعره، وجعلت من تلك الذاكرة البعيدة قريبة، لا تختلف عنها في الشغف والعزم والعطاء. إنه (د. طريف الخالدي 1938)، مؤرخ وكاتب وأستاذ أكاديمي فلسطيني. تحصّل تعليمه من جامعتي اكسفورد البريطانية وشيكاغو الأمريكية، وعمل في تدريس مادة التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت، وكأستاذ للغة العربية في جامعة كامبريدج، وأصدر عددا من الكتب باللغتين العربية والإنجليزية، كما نشر ترجمة حديثة للقرآن الكريم باللغة الإنجليزية. يتلبّس كتاب (أنا والكتب) طابع السيرة الذاتية الذي يصف فيه المؤرخ ابتداءً عزلته منذ سن مبكرة بين أرجاء الكتب، مستغنياً بها عن أقرانه، وقد عدّ عالم القراءة والكتابة عالمه الحقيقي، مؤكداً أن «الشك والامتناع عن الأحكام الجازمة والعلم بعواقب الأمور، كلها أمور تأتي في غالب الأحيان من التجارب التي يقع عليها المرء في الكتب. فلو لم تكن للكتب فائدة سوى هذين الأمرين لكانت الفائدة عميمة النفع». يتعرض حين كان في العاشرة، وعائلته والآلاف من الفلسطينيين، للتهجير إثر الاحتلال الصهيوني، وما تبعه من وهن أصاب الجميع كلاً وفق طاقته في تشرّب المأساة! وحينها «أصبح العلم والتعلم أمراً غاية في الأهمية، فتقلصت مساحة الطفولة وحريتها! هرم والدي بسرعة وتوفي بعد ضياع فلسطين بقليل، وازداد الإحساس بأن العلم أمر عظيم الشأن وبأنه أولوية الأولويات». أما حين يلتحق بمدرسة داخلية في إنجلترا بقرار حازم من أهله، فيقضي وقته في وحشة تحت وطأة نظام هرمي مخيف، مضافاً إليه صعوبة تعلم اللغتين اللاتينية واليونانية. ومما استحسن من الأدب اللاتيني، عبارة مؤرخ روما بعد أن دمر الرومان مدن بريطانيا: «يجعلون منها قاعاً صفصفاً ويسمونها سلاماً» ويعلق قائلاً: «فكأنه يصف ما فعلته وتفعله إسرائيل في فلسطين». ثم يلتحق ضمن طاقم التدريس (في الجامعة الأمريكية في بيروت)، التي يجدها قد رفعت شعاراً مستورداً مفاده (النشر أو الموت)، فيأخذ على عاتقه مهمة مواكبة البحث العلمي إضافة إلى مهمة التدريس. فيتحدث عن بعض أعلام المعرفة مستعرضاً مؤلفاتهم ومستلذاً بأفكارهم، فينقل عن الإمام الغزالي في كتابه (القسطاس المستقيم): «إن جميع العلوم غير موجودة في القرآن بالتصريح، ولكن موجودة فيه بالقوة، لما فيه من الموازين القسط التي بها تفتح أبواب الحكمة التي لا نهاية لها». فيتمنى على الكتّاب قائلاً: «ليتهم يتأملون هذا النص الذي يرى في القرآن مفتاح المعرفة وبدايتها وليس نهايتها، وأن النظريات العلمية أمور تتغير باستمرار، فالحكمة لا نهاية لها». وفي الثمانينيات يتجلى اهتمامه بالسيد المسيح وتراثه، فيتحرى مكانته ضمن مناظرات سياسية وأخلاقية جرت بين المسلمين الأوائل، مستعيناً بكتب الأدب والتاريخ والأخلاق والفقه والكلام والتصوف. وعلى الرغم انه لا يقع على مصادرها الحقيقية، «لكنها جميعها تشي بإعجاب وإجلال إسلامي عميق لمن يسميه الغزالي (نبي القلب)، وجميعها تليق بالمسيح وتُنسب إليه بفائق الاحترام والمحبة. وإذا كان لي أن أتمنى مجدداً، فأمنيتي أن تأخذ هذه الأقوال طريقها إلى الحوار الإسلامي المسيحي للتأكيد على ما يجمع هاتين الديانتين لا ما يفرقهما. ولربما من المجدي أن نقارن ما جاء في التراث اليهودي (التلمود تحديداً) حول السيد والتشويه الشنيع لسيرته، بما جاء عنه في تراث الإسلام». أما عن (صور النبي في التراث الإسلامي) الذي جاء كمسك ختام للكتاب، فيتحدث عن كتابه الذي عرض فيه تسلسلاً زمنياً لصورته ﷺ ابتداءً من القرآن الكريم إلى الحديث الشريف منتهياً بالسير المعاصرة. وحين يتعرّض للعصر الحديث وما شابه من حملات تبشيرية استهدفت السيرة النبوية، يغذّيها اليمين الأوروبي-الأمريكي المتطرف والاستشراق الاسرائيلي، فيعرض عددا من تلك الآراء مقابل من تصدى لهم من المسلمين. فينقل من كتاب (إحياء الفكر الديني في الإسلام) للمفكر الهندي (محمد إقبال): «أن النبوة قد وصلت إلى خواتيمها في سيرة محمد وفي الإسلام الذي مزج بين أفضل الحضارات القديمة والحديثة. فرسالة محمد هي الدواء الناجع لكافة أمراض العالم المعاصر وخصوصاً المادية منها». ختاماً، يرجو د. الخالدي من كتابه أن يشكّل حافزاً للباحثين العرب لتدوين ما اطلعوا عليه من كتب خلال حياتهم، متطلعاً بمرور الزمن الظفر بسجل يعكس التفاعل المستمر في ميادين التراث بين الماضي والحاضر، وليقف سداً منيعاً أمام سيل «الإهمال والجهل والنسيان والأمية الأدبية واللغوية». وعلى مستوى شخصي، فقد قصدت قراءة هذا الكتاب تحديداً الآن لأتوّجه بالرقم (100) ضمن قراءاتي خلال العام، كتعبير يصف شغف مماثل للقراءة.. ووجدته ثريا رغم قصره، ويتعذر الوصف في تصوير روعته.
429
| 11 أكتوبر 2024
مساحة إعلانية
يترقّب الشارع الرياضي العربي نهائي كأس العرب، الذي...
1122
| 18 ديسمبر 2025
لم يكن ما فعلته منصة (إكس) مؤخرًا مجرّد...
945
| 16 ديسمبر 2025
إنه احتفال الثامن عشر من ديسمبر من كل...
666
| 18 ديسمبر 2025
يُعد استشعار التقصير نقطة التحول الكبرى في حياة...
648
| 19 ديسمبر 2025
هنا.. يرفرف العلم «الأدعم» خفاقاً، فوق سطور مقالي،...
645
| 18 ديسمبر 2025
«فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف...
606
| 21 ديسمبر 2025
هنالك قادة ورموز عاشوا على الأرض لا يُمكن...
573
| 19 ديسمبر 2025
يأتي الاحتفال باليوم الوطني هذا العام مختلفاً عن...
555
| 16 ديسمبر 2025
لقد من الله على بلادنا العزيزة بقيادات حكيمة...
519
| 18 ديسمبر 2025
في هذا اليوم المجيد من أيام الوطن، الثامن...
486
| 22 ديسمبر 2025
في اليوم الوطني، كثيرًا ما نتوقف عند ما...
432
| 18 ديسمبر 2025
من الجميل أن يُدرك المرء أنه يمكن أن...
423
| 16 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تابع الأخبار المحلية والعالمية من خلال تطبيقات الجوال المتاحة على متجر جوجل ومتجر آبل