رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مجاهدة النفس سبيل المتقين إلى سعادة الدارين (2)

هناك قواعد عامة وأساليب خاصة تعين على مجاهدة أنفسنا ولا تغني إحداهما عن الأخرى.أ- القواعد العامة في مجاهدة النفس:1- إحياء حب الله تعالى في القلب حتى يكون حبه سبحانه أرقى من حب النفس والأهل والولد والمال وذلك بالإكثار من النظر في الكون المنظور والكتاب المقروء، ودوام الذكر، والتلذذ بالأوراد الإيمانية من صلاة في الليل وصيام في النهار.2- إحياء الخوف من الله تعالى بمطالعة مصارع الظالمين، ومهالك الفاسقين ومآلات المفسدين، ويقارن الإنسان حاله بحالهم، ويتهم نفسه، ويعظم عنده الخوف على نفسه لكثرة النعم الإلهية، وقلة الأعمال الخيرية، وكثرة الذنوب اليومية، ويتذكر الموت وسكراته والقبر وظلماته، والحشر وأنّاته، والصراط وسقطاته، والنار ولهيبها، وجهنم وسعيرها، والزقوم والحميم والمقامع الحديدية، والصرخات التي تخرج من العصاة وهم في النار يعذبون، وفي هذا يروي ابن أبي الدنيا في كتابه محاسبة النفس ص (34) أن إبراهيم التيمي قال: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفس، أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي. 3 - قوة الإرادة والعزيمة على مواجهة النفس بقوة الجناحين السابقين "الخوف والرجاء" "الرهبة والرغبة" واليقين أن العبد مهما كان ضعفه إذا لجأ إلى ربه واستعان به أعانه، وقد دعا سيدنا يوسف في الفتنة التي تعرض لها فقال "رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين" (يوسف:33) فصرف الله عنه كيدهن واحتمل بهمة عالية السجن مظلوماً بسبب عفته، وانشغل في سجنه بنشر دعوته حتى كتب الله له الخروج إلى التمكين بتقواه وحسن صبره، ولعل مما يعين في هذا حديث البخاري: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة. ب- الأساليب الخاصة في مجاهدة النفس: هذه الأساليب الخاصة تعتمد على صدق العبد مع ربه ومعرفته بمواضع ضعفه وقوته فلا يضع نفسه في موضع يعلم أن نفسه تميل مع الهوى وتخالف الرشاد والهدى، ولذا قال أحد الصالحين: إني لأستأمن على ملء الأرض ذهباً وفضة، ولكني لا آمن على نفسي أن أخلو إلى زنجية سوداء ساعة واحدة. وبناء عليه أحب أن أسوق هذه الأمثلة الخاصة في مجاهدة النفس: 1- من اعتاد على شراب متكرر من الشاي أو القهوة أو غيرهما يلزم ألا يجاهد نفسه كما ذكر الإمام الشهيد حسن البنا حتى لا يكون أسيراً لعادة، ولذلك يقال أفضل عادة ألا تكون لك عادة.2- أن تترك بين فترة وأخرى على المائدة نوعاً من الطعام وهو أحب الأنواع إليك فإنك بهذا تهذب في النفس سطوتها في التلذذ بالمطاعم الخاصة.3- إن كان من طبع الأخ أو الأخت الإسراف والتبذير حتى في أبواب الخير، فيجب أن يجاهد نفسه أو أن تجاهد نفسها في الإدخار والتوفير ولو بالقليل، وإن كان عكس ذلك شحيحاً بخيلاً فيجب أن يجاهد نفسه في البذل والإنفاق والتوسعة على الأهل والأقارب والمؤسسات الخيرية.4- إن كان الأخ من طبعه أنه سريع الغضب بطيء الفيء فيجب أن يلاحظ نفسه ويتذكر أن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، فإن انفلتت نفسه في غضبة لغير الله تعالى عالجها بالصيام والقيام وعاقبها بالحرمان مما تحب ومن عقوبته لنفسه سرعة الفيء، والمبادرة إلى خصمه" وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". 5- إن كان الأخ أو الأخت يميل إلى الصمت الطويل حتى إنه ليوغر صدر زوجته التي تنتظر منه كلمة طيبة أو لفتة كريمة بعد طعام، أو حسن لبس، أو جمال هيئة، فيجب أن يجاهد نفسه في الالتفات إلى أن الكلمة الطيبة صدقة وأن من أدخل السرور على أهل بيت من بيوت المسلمين لم يرض الله له جزاء إلا الجنة.أما كثير الكلام بطبعه فيجب أن تأتي عليه فترات يجاهد نفسه بحسن الاستماع وقلة الكلام، وضبط اللسان ويتذكر حديث الترمذي بسند حسن صحيح عن معاذ ابن جبل: ثكلتك أمك يامعاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، ولعله يعالج نفسه بطول الخلوة وقلة الجولة مع الآخرين، فإن الخلوة تعين على الصمت إلا من ذكر الله أو تفكر في آلائه.6- هناك إخوة وأخوات لا يحبون القراءة ويملون من قراءة فصل في كتاب وهؤلاء يجب أن يجاهدوا أنفسهم بالبدء في قراءة منهجية بدلاً من القراءات العشوائية لوريقات مبعثرة، فيتمون بعض الكتب الصغيرة، ثم يتجهون إلى الكتب الكبيرة ويتذكرون أن خير جليس في الأنام كتاب، وأن أصحاب العلم هم شركاء الملائكة الكرام في الشهادة لله بالوحدانية لقوله تعالى:" شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط " ( آل عمران : 18 ). وأن الدنيا رجلان عالم ومتعلم ولا خير فيما سواهما كما أخبرنا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. 7- إذا اعتاد الأخ أن يقود سيارته بسرعة زائدة فليجاهد نفسه بأن يقول هذا الأسبوع لن أتجاوز ولا مرة في السرعة، فإن حدث عاقب نفسه بمشي طويل أو حرمان من شراب جزيل، أو طعام شهي، أو يتصدق بشيء كأنه أخذ نصف مخالفة، لكنه يقدمها صدقة لباب من الخير، حتى يعود ضابطاً لنفسه في القيادة مجاهدا لنفسه في جوانب أخرى.

3296

| 03 أبريل 2015

بين السياسة والخساسة

السياسة هي أفضل استخدام للموارد البشرية والطبيعية لسعادة الإنسان وتنمية العمران، والخساسة هي أسوأ توظيف للموارد البشرية والطبيعية بإذلال الإنسان وتخريب العمران.السياسة أن يقود الإنسان غيره بالحب والإحسان، والخساسة أن يقود الإنسان غيره بالحديد والقضبان، السياسة تغذي حرية الصحافة بالأفكار الفريدة والاختراعات الجديدة والحلول السديدة لمشكلاتنا العتيدة، والخساسة هي حرية مفضوحة، وشهوات منفلتة، وصور عارية، ونفاق زائف، وتجريح لا تصحيح، وفضائح لا نصائح، وصفحات للأدب أكثرها "قلة أدب"، وتعلو أسماء يسمونهم "الكتَّاب".وفي عالم الخساسة ضاقت المسافة بين اللفظين "كتب" و"كذب"، أما الشاشات فصارت تمتلئ بالذين يلوون ألسنتهم بالكلمات، فيحسبه الناس علمًا وفكرًا وفنًا وهي ألوان من المهازل، يصدق فيها قول الشاعر:هذا زمانك يا مهازل فامرحي قد عُدَّ كلب الصيد في الفرسانالسياسة تعتمد نشر الحقائق مهما كانت مرة، والخساسة تعتمد الإثارة مهما كانت شاذة!، السياسة يُكرَّم فيها الفاضل ويُجرَّم فيها الظالم، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له".والخساسة يُكرَّم فيها المجرم ويهان فيها العادل، ويتهم فيها البريء و"يقتل القتيل ويمشي في جنازته"، وهي تشبه خساسة بني إسرائيل عندما قتلوا ابن عمهم ليرثوا عمه الغني، ثم اتهموا الجيران وطالبوهم بالدية، كما قال تعالى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة: 72)، ولا عجب في عالم "الخساسة" أن يكون أول البكائين هم القتلة والسفاحون. قال ابن خلدون: "يجب أن يحسن الحاكم إلى قومه، ديانة أو سياسة، طلبًا لرضا الله والجنة واستقرار وامتداد الملك في الدنيا"، أما ما يؤرق مضجعي، ويسيل مدمعي، ويضيق صدري وأضلعي أن أرى في كثير من ديار أمتي أفعالا لا تنتمي إلى الديانة أو السياسة وإنما ترمي في مستنقع الخساسة.ألا فليذكر كل من يعمل في السياسة، حاكما أو محكوما، رجلا أو امرأة، وزيرا أو "غفيرا"، قول الله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة: 281).

4409

| 02 أبريل 2015

بين التعمير والتدمير

التعمير من واجبات الإنسان كخليفة عن الله في هذه الأرض، كما قال تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود:61)، والتدمير هو تصرف هوجائي أرعن يهلك الحرث والنسل ممن تخلى عن إنسانيته، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة:204-205)، التعمير هو خُلق المسلم الذي يجب أن يتعامل مع الأرض عمارة، ومع الناس رعاية، والقانون طاعة، والسُلطة معاونة فيما لا يخالف قرآنًا أو سُنة، والتدمير هو التعامل مع الأرض هدمًا وتخريبًا، ومع الناس قتلاً وإرهابًا، ومع القانون خروجًا وانفلاتًا، ومع السُلطة نفاقا وتلفيقًا، التعمير أن تترك البلدان والمكان والزمان خيرًا مما كان، والتدمير أن تترك البلدان والمكان والزمان أسوأ مما كان، كنت صغيرًا أكره من الطلاب المشاغبين أن يكتبوا على جدران الفصول والطاولات وظهر الكراسي في الأتوبيسات عبارات فارغة تدل على فراغ وخراب نفوس أصحابها مثل: “للذكرى الهباب، وأيام العذاب” والتوقيع باسم حركي في التدمير والفساد، وغالبًا يكون له دلالة الشقاوة والعفرتة مثل: “خيشة، وحنش، والوحش و..”.، وبحكم أني فلاح كنت أسعد كثيرًا بأن نكدَّ في الأرض الجرداء حرثًا، وبذرًا، وريًا، وعناية بالزرع حتى نرى الخضرة تكسو الأرض بعد خوائها، كنا نتعب جدًا ونسعد بنفس القدر بهذه العمارة للأرض بالخضرة وهي أصل الخير ففيها الزرع يكسو الأرض جمالا، ويعطي الإنسان الأوكسجين مجانًا، ويستنفد ثاني أكسيد الكربون ليزداد الجو نقاء، أما المحصول فتأكل منه الناس والطيور والأنعام، وفي كل صدقة للحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (ما من مؤمن يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه إنسان، أو طير، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة)، ولازلتُ أضيق صدرًا بالمدن التي تقل فيها الخضرة ويكثر فيها عوادم السيارات والمصانع، أما أكبر تدمير يجري في العالم فهي هذه العوادم التي ينتجها الكبار في الدول الصناعية الكبرى وتحمل النفايات إلى البلاد الفقيرة عن طريق سماسرة الفساد والتدمير لكي تلوث الماء والغذاء والهواء وتنتشر أمراض السرطان والفقر، حيث يموت كل 5 ثوان إنسان بسبب التدمير بينما يجلس أدعياء التعمير يفركون أيديهم طربًا أنهم يحصدون الأموال، ويكسبون الانتخابات ويحركون السياسات للتدمير طول المدى وإن بدا أنه تعمير قصير المدى، وإلى الله المشتكى.التعمير في الإسلام يجمع بين محاور ثلاثة: العمران العقدي في أرقى علاقة مع الله، والعمران الأخلاقي في أحسن تعامل مع الإنسان وكل كائن حي، والعمران المادي بزيادة الأشجار والثمار والمخترعات والابتكارات التي ترطب الحياة، وهو عمران يمتد من هذه الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية لينقلب الإنسان من عمران الدنيا إلى نعيم الآخرة، وينتقل المسلم من عيش رغيد إلى قصر مشيد، (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ) (الواقعة: 30-33)، أما التدمير فهو إما تخريب وإفساد في الدنيا والآخرة أو تعمير الدنيا وإفساد الآخرة بأن يُعنى الإنسان بالعمران المادي مع التحلل الأخلاقي والفساد العقدي، مما يتبعه أن يكون الإنسان كما قال تعالى عن هؤلاء المترفين: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ* وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) (الواقعة: 41-46)، وشأن المسلم دائما أن يرى العمارة للدارين، كما نصح أهل العلم قارون فقالوا: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77)، لكنه اغتر بماله، واستغنى بعمرانه، فخسف الله به وبداره الأرض، وصار عبرة قرآنية على من يعمرون دنياهم ويُخربون آخرتهم، وهو النمط السائد في حياتنا وحضارتنا المادية المغرقة في الفساد الأخلاقي والانحراف العقدي.إن التعمير الحقيقي يبدأ من النفس بامتلاك ناصيتها، وحملها على إرضاء ربها، والإحسان إلى الكون كله حولها، فلنقف بحزم أمام تدمير النفوس بالزحف وراء الشهوات، وارتكاب المنكرات والإعراض عن رب الأرض والسماوات.يا قوم يجب أن نقاوم التدمير مهما كان سماسرته وسدنته، لأنهم يستحقون لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وهذا تخلية، أما التحلية فبالتعمير بأن نغرس الأشجار، ونكثر من الثمار والمخترعات كلٌّ في مجاله ومكانه وموقعه ليلقى الله راضيًا عنه، وهو غاية كل حصيف.

2857

| 31 مارس 2015

لا تكوني شكلا بلا مضمون

عندما يصبح الرجال عبيداً تصير النساء أسيادا، عندما تغيب الشمس يخرج البدر يبدد الظلام، وينشر النور والأمن في الربوع الخائفة والصدور الواجفة، ولعلي عندما أنظر حولي فأجد كثيراً من الرجال قد تحولوا إلى صورة شائهة أعود سريعا إلى محاضن الأطفال، وصانعات الأبطال ومؤازرات الرجال، فأهتف من أعماقي مناديا: أين دوركن؟ أين مكانكن في هذا الصراع الرهيب؟ لقد آتاك الله سحراً يجذب القلوب، لكن الأزمة زادت يوم انصرفت النساء إلى إلهاء الرجال بأجسادهن، وغفلن عن حقيقة جمالهن، جمال الروح (والجمال هو الكمال)، جمال نفس أبية تأبى الدنية، أو تعيش على هامش البرية، والقوم لا يزالون في حروب كلامية، هل تصلح النساء لهذه المهام العتيدة، والهموم الشديدة، والأمانات الثقيلة؟، وأنت تضربين في الأسواق لا تخطئ عينك شيئاً من الحلل الأنيقة، أو الحلي الرقيقة، أو الأصباغ الدقيقة، أو العطور العتيقة، كل ذلك لإخفاء جوهرك، وتلميع مظهرك، بصبغ الوجوه وتنميق الحواجب (وزججن الحواجب والعيونا) وتصفيف الشعر، وترقيق الصوت، عوضاً عن صبغ الحياة بصبغة الإيمان، لقوله تعالى: (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ) البقرة: 138، عوضاً عن ترطيب اللسان بأطايب الكلام، الذي تتعمق جذوره وتعلو سيقانه وتكثر ثماره كما قال سبحانه: (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) إبراهيم: 25، عوضاً عن حلم يأتي بالتحلم يحجبك عن مجاراة السفهاء، أو اندفاع إلى سب ولعن ثم حقد وغل وغيبة ونميمة، كما قال الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) الأعراف: 199، أو كما قال الشاعر: ولقد أمرُّ على اللئيم يسبني فمضيت ثم قلت لا يعنيني عوضاً عن علم يأتي بالتعلم يرفعك إلى مصاف كرام العلماء، وخير البلغاء مثل الحميراء أم المؤمنين، أو الخنساء أم الشهداء المقربين، حتى يروى عنك علمك وقديماً قالت العرب: قطعت جهيزة قول كل خطيب، وعند جهينة الخبر اليقين، وقال الشاعر: إذا قـالت حـذام فصـــدقوها فـإن القــول مــا قالـت حذام عوضا عن عفة تأتي بالتعفف لقوله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) النور: 33، بالحياء الذي لا يأتي إلا بخير، بالصوم الذي يهذب الشهوات، بالدعاء الذي يرفع الفتن ويخفف البلاء، لإحياء عفة العربية الأصيلة في قولها: تجوع الحُرّة ولا تأكل بثدييها، أو عفة المسلمة التي تؤمن من أعماقها بقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون عرضه فهو شهيد". عوضا عن الاهتمام بهموم المسجد الأقصى الذي يشق أوغاد اليهود الأنفاق تحته إلى عشرين مترا تمهيدا لتساقط جدرانه على أشلاء عزتنا، وأنقاض كرامتنا، متناسين قول الشاعر: يا ثالث الحرمين يا أرض الفدا آليت أجعل منك مقبرة العداذقت الردى إن لم أعد لك سيدا أنا لن أظل مدى الحياة مشردا أرأيت يا أختاه كيف نحّيْت معالي الأمور واستحوذت عليك سفاسفها؟ كيف أخفيت جمال الروح والقلب؟ وبالغت في إظهار شكل لم تخلقيه، لم تشتريه بدرهم ولا دينار، ولم تعتبري بيوم تذهب فيه نضارة الشباب، ساعتها لن تجدي إلا السراب، وتلتصق يداك بالتراب. إن التحدي الذي تواجهينه اليوم ألا يعلو صوتك بالنحيب أين حقنا؟ أين ميداننا في الدعوة إلى الله؟ تقدمي نحو غايتك الكبرى وهدفك الأسمى، آنئذ ستجدين حقك موفورا، وميدانك مفتوحا بغير جعجعة ولا طحنا، ولا ضجيج ولا تصدية، لأن القوم سيرون روحا جديدة ونفسا سوية وعزيمة فتية، سيُكبر القوم وَقارها ويقدرون رأيها ويذللون العقبات في طريقها. إننا معشر الرجال سنظل ننتظر ذلك الفجر الجديد والأمل السعيد الذي يجود براغبة الكمال وصانعة الأبطال، ليعيد إلى واقعنا الآن صورة حية من أمثال أسماء بنت الصديق ذات الدور البارز في الهجرة مع أبيها، ثم حُسن تبعل زوجها، ثم تربيتها لفلذة كبدها حتى حفزته للشهادة راضية موقنة أنها تُنزل ولدها أرفع المنازل في الدنيا والآخرة، ونريد صورة حية من نساء المهاجرين والأنصار عندما غضبن من المجاهدين العائدين من غزوة مؤتة بخطة تعد في الحروب نصراً، إذ لقي ثلاثة آلاف مسلم مائتي ألف من الروم، لأن نساءنا لم يقنعن بما دون النزال وانتزاع النصر ولو كثر الرجال، أو الشهادة في ميدان القتال، ورفعن المغازل في وجوه الآباء والأزواج معلنات: رجعتم يا فرار، دونكم المغازل فاغزلوا، وأعطونا السيوف ننازل الأبطال. والآن تنتظر الفتاة أو الزوجة أو الأم الرجال ينظرن في أيديهم لا وجوههم كم يحملون من ألوان الطعام وأصناف الحلوى؟ بل صارت تنتظر مع كل مناسبة مستحدثة أو مفتعلة هدية ذهبية أو عباءة حريرية، أو نزهة خلوية، أو رحلة جوية، وذلك لتواري عجزاً عن تقويم نفسها أو القيام بدورها لتضع أقدامها على عتبات جنة ربها، أرأيتن ذلك البون الشاسع بين نسائنا اليوم ونساء الأمس؟. إنني أدعوكِ ويحدوني فيك أمل ورجاء ألا تبالغي في إذكاء جمالك الجسدي الذي لا تملكين زيادته ولا تضمنين بقاءه ولا ينظر إليه ربنا، بل ينظر إليه شياطين الإنس بعين زائغة وقلوب مريضة ونفس مسعورة، مع ما يفوتك من إدراك ركب الصالحين، ودعاء القانتين، واستغفار الملائكة حملة العرش العظيم. أختنا تقدمي نحو الكمال في الروح والخلق والعقل، فلقد فتحت لك الطريق أمك خديجة وعائشة وأم سلمة وزينب وجويرية وأم حبيبة، وأختك فاطمة وأسماء وعاتكة وأم سليم وأم الفضل ورفيدة في سلفنا، فلا تغفلي عنه في خلوتك، أو جولتك، إنني أعيذك أن تكوني شكلا بلا مضمون، أو فؤاداً كله هواء، أو عقلا كله خواء، إن في أعماقك نفائس مدفونة، وقلائد مركوزة، ودرراً مكنونة، أخرجيها فأمتك الإسلامية أحوج إليها الآن قبل أي وقت مضى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

850

| 19 فبراير 2015

بين الإقدام والإحجام (2)

الإقدام همٌّ وعزم على المبادرة للمروءة والنجدة، كما قال الشاعر :لا يسألون أخاهم حين يندبهمفي النائبات على ما قال برهاناوقد بادر جمع من بني إسرائيل للإيمان بسيدنا موسى عليه السلام وتحدوا الفرعون لما هدَّدهم: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى([طه:71]، بادروه بقولهم: (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا([طه:72]، أما سبب القوة في إقدامهم فهو قوله تعالى: (إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء:51]، فصاروا أول المؤمنين وليسوا آخرهم. وقد كان الرعيل الأول من الصحابة ذوي الإقدام على الإسلام هم أصحاب العلم والبذل والجهاد والتضحية والفداء، أما الذين أحجموا عن الإيمان حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، ثم جاؤوا مسلمين فقد كان كبارهم يتطلعون إلى سهم المؤلفة قلوبهم، وارتد ضعفاؤهم عن الإسلام، وكان من إقدام الخليفة الرباني أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن قال: «لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة»، ولما سُئل أن يتمهل في إنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه كانت قوة شخصيته رضي الله عنه في الإقدام التي أخْفَتها أخلاق الألفة والرقة مع الأصحاب، لكن لما احتاج الأمر إلى الإقدام قال: «لأُنفِذن جيش أسامة أو تنفرد سالفتي»، أي تقطع رقبتي، وفي رواية «ولو تخطفتني الطير»، فهل نجد اليوم من الزعماء والعلماء من يكون من ذوي الإقدام مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟!. فالإقدام صفة الرجال الأقوياء، أما الإحجام فصفة الأقزام الجبناء، فعندما ينادي الأقصى بأعلى صوت: «أنقذوني من الأنفاق تحتي، والاقتحامات فوقي، والتهويد من حولي، والأوغاد الصهاينة يجتمعون للبكاء عند حائطي، أنقذوني فقد طال شوقي إلى ذوي الإقدام لا الإحجام، ذوي المروءة والإيمان»، لكن إحجام كثير من العلماء والأنظمة وعموم المسلمين، هو الذي يخذل الأقصى، ولعله يهتف معاتبًا هؤلاء الأقزام ذوي الإحجام: «لستم المؤمنين الذين عرفتُ عبر التاريخ، بل لستم العرب الذين عهدتُ مروءتهم ونجدتهم قبل الإسلام وبعده، كانوا من ذوي الإقدام نحو المروءات والنجدات، وليس الإحجام إلى المخازي والسفاهات!». إنني أشارك في نداء الإقدام أخي الشاعر المقدام الدكتور محمود داود إذ قال:خذ من دمي واكتب بأشلاء اليدأن التفاوض لا يرد المعتديواكتب بأن دماءنا وحياتنانفدي بها مسرى النبى «محمد»واعلم بأنا من سلالة خالدنأتي إلى الدنيا ودرعًا نرتدينتعلم الإقدام في أرحامنافإذا دعتنا الحرب لم نتردد

3758

| 12 فبراير 2015

بين الإقدام والإحجام

الإقدام همة، والإحجام خسة، الإقدام رجولة، والإحجام نذالة، الإقدام شجاعة، والإحجام جُبن، الإقدام فحولة، والإحجام طفولة، الإقدام قوة، والإحجام ضعف، الإقدام عزة، والإحجام ذلة، الإقدام مبادرة، والإحجام مناورة، الإقدام كرامة، والإحجام مهانة، الإقدام جولة، والإحجام عزلة، الإقدام من شيم الكرام، والإحجام من شيم اللئام، الإقدام نجدة، والإحجام بلادة . في الأمة أحداث جسام تستدعي الإقدام، في مصر وفلسطين والقدس والأقصى وتونس وليبيا واليمن والعراق و.....، بل جراح الأمة في كل مكان، مما تستنهض الوسنان ليكون "حيَّ بن يقظان"، وتستثير ذوي المروءات والإقدام لينزلوا إلى الميدان، صدًا لهجوم الانقلابيين والصهاينة وعُبَّاد الصلبان الذين استباحوا حمى الأوطان، واستذلوا وأسروا الأخوات والإخوان والولدان، وسخروا من نبينا خير الأنام، ووظفوا الخونة من عبيد الشيطان، وقد صدق الشاعر يستحث القوم على المروءة والإقدام تاركين الخزي والإحجام فقال: وإذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العجز أن تكون جبانًاإنني أتساءل بكل أسى: لقد كان السمع يكفي عند العربي الأصيل أن يسمع استغاثة فيثور ويفور، ويرغي ويزبد، ويصول ويجول، ويرعد ويرهب، ويرفع سيفه، ويمتطي صهوة جواده، ويهتف قائلاً: "إن الكريم إذا دُعي إلى طعنة أجاب"، أما اليوم فقد صار الحال: "إن اللئيم إذا دُعي إلى طُعمة أجاب"، والطُعمة قد تكون مالاً مدنسًا بالعمالة، أو منصبًا ملطخًا بالمظالم، أو علاقة ملوثة بالمآثم، ما بال الصهاينة والصليبين يعبثون بالمقدسات والثوابت والأموال والأنظمة والإعلام، بل دخلوا في عمق العلاقات بين الأزواج والزوجات، والبنين والبنات، يفسدونهم في الإنترنت والفضائيات، ونحن نسمع بلا وعي، ونقلد بلا عقل، ونبيع بلا ثمن، ونشتري بلا انتقاء، ونشيخ بلا ارتقاء، ونتفاوض بلا سقف، ونتنازل بلا حدود.إنني أجأر في وسط دوامة المظالم والمآتم والمغارم في أرض الإسلام بنداء الشاعر بحثا عن ذوي المروءة والإقدام قائلاً :قد رشحوك لأمر لو فطنت له فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمليا أهل الإقدام افعلوا شيئًا قبل أن يلعننا الله والملائكة والناس أجمعون!!. وارغبوا فيما عند الله من العزة والنصر المبين، والرضا وجنات النعيم، إذا انتقلنا من الإحجام إلى الإقدام نحو المكارم مهما كانت المغارم.

3508

| 30 يناير 2015

"الغيَّاثي" سفينتي إلى شيخي د.عبد العظيم الديب "رحمه الله"

في كل زمان يبعث الله رجالاً ليكونوا روادًا في العلم وقادة في التزكية ونموذجًا في الدعوة من أمثال شيخنا المحقق العلامة الرباني الغيور الصبور الدكتور عبد العظيم الديب، وإنني أكتب وأنا معلق بين السماء والأرض من "المنامة" إلى "جدة" في أول رحلة إلى "مكة" بعد وفاته بأيام كي أقوم بعمرة هدية إيمانية لشيخي، وجزء من الوفاء له بعد لقائه ربه تعالى، وأشهد ربي أن أحب شيخي حيًا وميتًا أكثر من حبي لنفسي. لقد بدأت العلاقة به على قول العرب "والأذن تعشق قبل العين أحيانا" من خلال كتاب "الغياثي .. غياث الأمم في التياث الظلم"، لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني ت(478هـ)، وقد وجدته بمكتبة كليتي دار العلوم - وهي كلية الأفذاذ من أمثال الإمامين حسن البنا وسيد قطب والشيخ علي حسب الله ود.مصطفى زيد ود.علي الجندي ود.إبراهيم أنيس ود.بدوي طبانة ود.عباس حسن ود.حسن الشافعي ود.أحمد هيكل ود.أحمد شلبي ود.عبد الصبور شاهين ود.محمد بلتاجي ود.عبد المتعال الجابري وأ.لاشين أبو شنب ود.عبد العظيم الديب و... - حيث وجدت في تحقيق شيخنا د.عبد العظيم للكتاب من الدقة والحبكة العلمية والتميز ما جعلني أهيم بالكتاب ومؤلفه ومحققه، فصار "الغياثي" - بحق- سفينتي إلى بحر علم شيخي وأستاذي د.الديب.فالمؤلف هو الأصولي الفقيه الشافعي الفيلسوف المنظر أبو المعالي الجويني، وفي كتابه يخاطب أمتنا المنكوبة في فقهٍ افتراضي في زمن القوة والعزة ليجيب على سؤال يصلح لزمن الضعف والذلة، وهو: لو افترضنا أنه قد جاء زمان خلا من خليفة أو إمام، ماذا يجب على آحاد وجماعات أمة الإسلام؟ وماذا لو تسلط على الحكم فيها من الحكام بالغلبة لا بالشورى أو الاختيار؟ ولم يدرِ الجويني أن سؤاله وافتراضه صار هو الحقيقة المُرة، والكتاب يضع واجبات عملية على الأفراد والعشائر والقبائل والجماعات، بما يحفظ للأمة قوامها واستمرار عزتها، ولولا فضل الله ومنته على أمته بأن يَصنع على عينه عالِمًا مثل الدكتور الديب يزهد في الأضواء، ويرغب عن الحركة، ويعكف بين المخطوطات لما خرج للأمة والعالَم كتب الجويني: "الغياثي والبرهان ونهاية المطلب"، ويوقف حياته لإخراج هذه الكنوز الثمينة. عشت مع أستاذي من خلال الغياثي أولاً، والبرهان ثانيًا، أدعو له وإن كنت لا أعلم من هو؟ وأقول كيف كان الشيخ مسددًا أن يُخرج كتب الجويني في وقت صارت الأمة عامة وعلماؤها خاصة أحوج ما تكون لفكر الجويني الذي تميز بالواقعية والجمع بين اللغة الأدبية والدقة الفقهية، إذ يفترض دائما أن تكون لغة الفقه دقيقة لا أدبية حتى لا تتسع أو تضيق عن الحقيقة الفقهية، لكن أبا المعالي الجويني كان بارعًا في الجمع بين الأمرين مما يجعل عملية التحقيق أشق وأصعب، وخاض المفازة الفارس العلمي والصبور الأصولي، وبلغ المقصد، ووفى بما لم يسبق، وأدى بما أرجو أن يكون به في سدرة المنتهى من الفردوس الأعلى.ظلت العلاقة تنمو مع الشيخ من بعيد من خلال الغياثي والبرهان حتى كان أول لقاء مع شيخي في موقف لن أنساه لأن الشيخ ارتقى من منزلة العالم المحقق إلى المربي المدقق حيث دُعيت لإلقاء محاضرة في كلية الشريعة - جامعة قطر، وتحدثُت عرضًا عن الجويني وكتابه الغياثي وأوردت بعض نصوصه شفويًا وأثنيت على المحقق د.الديب وأنا لا أدري أن العالم المتواضع جالس يستمع للمحاضرة، فوجدت شيخًا وقورًا يقف ويقول: "لقد عشت سنوات مع كتاب الغياثي وحققته لكني أشهد أن د.صلاح أحفظ له مني" وهنا شعرت بالخجل الشديد، وتركت مكبر الصوت والمنصة، وهرعت نحو شيخنا وقبَّلتُ يده احترامًا ورأسه إجلالاً، وأيقنت أن شيخنا تجرد من أهواء نفسه ليضع تلميذه في هذه المنزلة، وهو أمر ليس قليلا فقط بل نادرًا، وإن كنت على يقين أني لا أساوي غَرفة من بحر علمه، ثم تعمقت المودة بيننا أكثر عندما زرته في لندن أثناء مرضه وجراحته الكبيرة في القلب، ولما خرج من المستشفى كنت معه في حفل غداء فرحا بسلامته مع عدد من العلماء والناشطين في العمل الإسلامي ببريطانيا، ويومها اكتشفت في الشيخ الفقيه الأصولي بُعدًا جديدًا، وهو أنه المؤرخ الذي يروي أحداث التاريخ موثقة باليوم والسنة خاصة عن الغزو المغولي للعراق والشام سنة 656هـ وكيف عادت الأمة لرشدها واستعادت قوتها لتحرِّر الشام والعراق، وتقتل هولاكو قائد المغول في موقعة "عين جالوت" بعد عامين فقط على قدومه، بينما دخل آخرون في الإسلام من المغول وعادوا ينشرون الإسلام في شرق آسيا، وربط ذلك بغزو أمريكا للعراق، وأن الأمة ولود؛ وسوف يُخرج الله من رجال وعلماء الأمة من يَرُدَّ الأمريكان مهزومين مدحورين، وكان يجمع في حديثه بين دقة الرواية وعمق الدراية، وجودة الربط بالواقع وبعث الأمل، وكل هذا حوَّل الغداء المبارك إلى غذاء للقلب والعقل معا.زادت العلاقة بيني وبين شيخي - رغم تقصيري- عندما كنت أفاجأ به في حلقات خاصة يحضر بين الشباب كواحد منهم، وأتوقف عن المحاضرة التي دعيت لها لكنه كان يصرُّ بقوة وإباء، وكان أحب لقاء مطول في ملتقى "القرضاوي بين التلاميذ والأصحاب" وامتلأ حديثى مع شيخنا بالحمية والحميمية، الحماس والحب لقضايا الأمة، وكانت له استدراكات على مسيرتنا الإسلامية عامة، وفاض ببعضها في غداء عقد ببيت العلامة الشيخ الدكتور عبد الستار عبد المعز في آخر لقاء جمعني بشيخي الجليل د.الديب، وحضور صديقه الحميم علاَّمة العصر وفقيه الأمة شيخنا القرضاوي الذي لم أجده باكيًا على فقد أحد كما وجدته في اتصالي أقدم العزاء وإن كنت أحوج لتلقيه.ولم أجد كلمات أرق مما كتب الشيخ القرضاوي عن راحلنا إلى دار الخلود - بإذن الله - الدكتور عبد العظيم الديب حيث افتتحها بقوله:أفي كلِّ حين لي حبيب أودِّع؟ فلا أنا أقفوه ولا هو يرجع!رحم الله شيخنا الدكتور الديب، وبارك في أعمار علمائنا الربانيين، وجعلنا الله خير خلَف لخير سلف، كما قال الشاعر:إذا سيد منا خلا، قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول

3547

| 27 يناير 2015

التدين مخبراً ومظهراً

التدين مصطلح يذكره الكثير فيقال، فلان متدين أو فلانة متدينة، فماذا تعني هذه الكلمة التي قد يطلقها البعض عندما يرى تديناً ظاهراً في المظهر دون أن يدرك شيئاً عن المخبر، أو علم شيئاً عن المخبر دون أن يلتزم بالمظهر، ولذا أحببت أن أضع صورة للمتدين المتوازن في نفسه والمثالي مع زوجه وأهله، والمنتج المتعاون في عمله، وطبيب قلوب في علاج أمراض مجتمعه، لعلها تساهم في وضوح معنى التدين، فيكون مظهرنا ومخبرنا معاً ترجمة حقيقية لهذا المعنى الجميل "التديــــن".أولا: شخص متوازن في نفسه:أول صفة للشاب المتدين بحق هي التوازن، ففي الجانب الروحي تراه رقيق الروح، شفاف النفس، صافي القلب، دائم التطهير لنفسه من أمراض النفس، كالغل والحسد، مستعيناً بالعبادات لتحقيق ذلك، فهو ما بين صلاة ودعاء، واستغفار وقنوت وإنابة وتفكُّر في الآخرة. وفي الجانب العقلي تراه مثقفا يأخذ بجانب العلم، بمفهومه الشامل، وإن تخصص أدرك أن فرض الكفاية على المجتمع أصبح فرض عين عليه يعرف مبادئ العلوم، وإطار السياسة العامة التي يسير عليها مجتمعه، منفتح على تخريج ثقافات العالم يعرف غثها وسمينها، وما يأخذ منها وما يذر. وفي الجانب الجسدي يأكل من الطيبات كما أراد القرآن الكريم: "كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ" (البقرة: 57)، ويبادر إلى العلاج مع أول بوادر المرض ويتريض باستمرار، تطبيقاً للحديث الشريف الذي رواه مسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف". وفي الجانب الأخلاقي تراه متميزا في سلوكه بالأمانة والصدق، والتواضع والعزة والحياء، يقابل السيئة بالحسنة، يعدل في الرضا والغضب، مقتصدا غير مسرف، لا يعرف الكآبة وطول العبوس في وجوه الناس، ليس فظاً غليظا، ولا محباً للشذوذ والمخالفة، بل يحب الألفة والموافقة، وصدق رسول الله، الذي قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" (مجمع الزوائد للهيثمي، رقم: 8/191، رجاله رجال الصحيح). ومن التوازن أن يقدر الأمور حق قدرها، فيصغر عنده كل أمر صغير، ويعظم كل أمر عظيم، فلا يعطي للشكل اهتماماً فوق الجوهر، ولا يعطي للجلباب أو اللحية اهتماماً أكبر من فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والصومال وما يحدث في العالم، لا يهتم بهيئات الصلاة على حساب الخشوع والخضوع. ثانيا: زوج مثالي: والشاب المتدين في بيته، وسط أهله وأسرته، يعرف حق والديه ولو كانا مشركين، كما جاء في القرآن الكريم: "وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (لقمان: 15)، وهو مع زوجته، زوج مثالي، يستقطع من وقته لأسرته، وهو خير الناس لأهله، يحنو على زوجته، ويكرم نزلها، ويعفو عن أخطائها، يتجمل لها كما تتجمل له، ويتقي الله فيها، ولا ينسى فضلها، لا يظلمها إن أساءت ولا يدعها كالمعلقة لكراهية أو عبادة أو صوم، أو جلباً لمال من بلد آخر دون داع، ولا يترفع عن ممارسة بعض أعمال المنزل مع أسرته، إن أمكن ذلك فقد كان النبي، (في حاجة أهله، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه). والأب المتدين مع أولاده يلاعبهم صغاراً، ويؤدبهم أشبالاً، ويؤاخيهم شباباً، يمنحهم من عاطفته، كما يمنحهم من ماله، وينفق قدر سعته عليهم، وينأى عن النزاع مع زوجته أمامهم، ويحذر من سوء الحديث إليهم، ويربيهم على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، والاعتماد على النفس، والقدرة على مواجهة المواقف، والإيجابية تجاه الواقع، والحرص على أداء الحقوق والواجبات، مع البعد عن الابتذال والإسراف والخلاعة والميوعة، وتضييع الوقت فيما لا ينفع وهذا الزوج والأب المثالي ينطبق عليه حديث الرسول: "خيركم.. خيركم لأهله" (الجامع الصغير للسيوطي، رقم: 4102، صحيح). ثالثا: منتج ومتعاون في عمله: والمسلم المتدين يتهيأ لعمله، كما يتهيأ لصلاته، فيرى في عمله عبادة كصلاته وصومه، يبدأ عمله في موعده، حتى لو لم يتابعه أحد، لأن الله يراقبه، ويقوم بعمله بهمة ونشاط، ويبعد عن الروتين والبيروقراطية، فلا يقتصر على أداء ما يطلب، بل يقترح ويبتكر ويتفوق، وعلاقته مع زملائه أبعد ما تكون عن الوشاية، والحقد والحسد والغل والكذب، ولا يعرف الاحتكار أو الجشع، أو الغش والخداع، أو الرشوة إن كان تاجراً أو رجل أعمال، فالغاية عنده لا تبرر الوسيلة.أما إذا كان موظفاً، فيقوم على أداء حوائج الجمهور بطيب خاطر ولا يعطلهم، يبتسم في وجوههم، فقد أخبرنا الرسول الكريم أن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وهو لا ينافق المسؤول أو رئيسه، ولا يبارك أخطاءه، ولا يزكي سوء الخلق، بل ينصح في أدب جم، ويقاوم التسلط والتجبر على نفسه أو على زملائه. رابعاً: طبيب قلوب لأمراض مجتمعه: وعن سلوك الشاب المتدين في مجتمعه وأمته، أنه يعرف أولا أن لجيرانه حقا عليه، وجاء في الحديث الشريف الذي رواه البخاري: "ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه"، فالسلوك الطيب تجاه الجار أمر مطلوب، حتى ولو كان لا يصلي، أو يرتكب منكراً كشرب الخمر، بل إن هذا يوجب مزيداً من اهتمام المتدين بهذا الجار حتى ينقذه مما هو فيه، فالداعية "طبيب قلوب" عالج نفسه أولا، ثم أخذ في مداواة الناس، من كل ما يخالف تعليم الشرع، وهو يدعو غيره إلى الخير برفق ولين ورحمة وتودد: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النحل: 125)، ودون غلظة: "وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (آل عمران: 159). والمتدين الداعية، الذي يدعو غيرة إلى التمسك بتعاليم الدين، لابد أن يراعي سنة الله في التدرج، وهو يحترم الأعراف التي لا تخالف الشرع، مثل الملابس وغيرها، ويحرص على موافقة الناس فيما ليس بمعصية المتدين على طريق الإسلام الصحيح، يحرص على هندامه، والاعتناء بملابسه دون إسراف أو خيلاء أو تكبر، فالرسول (أخبرنا أن الله جميل يحب الجمال. والشاب المتدين يرى حق مجتمعه عليه، قبل أن يطالب بحقوقه، وينشر الخير، وينادي بالفضائل، ويحث على النظافة والعفة والطهر والنقاء، وهو دائما إيجابي تجاه مجتمعه، يتقدم بكل حل مفيد لمشاكل مجتمعه، وهو يسارع عند المغرم، ويعف عند المغنم، ويحترم كل الناس، فيوقر الكبير، ويحنو على الصغير، يحركه في كل ذلك إيمان عميق بالله، يصل إلى مرتبة الإحسان، فهو يتصرف في كل سلوكه بما يتطلبه دينه من أخلاقيات الإسلام، فمن الإساءة أن يعبد المسلم الله، ويخشع في صلاته، ثم يعامل الناس بأخلاقيات بعيدة عن تعاليم الدين. لو توافرت للدعاة إلى الله والمتدينين، هذه الفضائل، وكان دعاة الإسلام قدوة، لشقَّت الشريعة الإسلامية طريقها إلى التطبيق العملي بسرعة، وفي يسر ودون صعوبة، فشريعتنا الغراء نظام متكامل، وقبل أن تكون حدوداً تقام، فهي أولا طهارة قلب لمن تعلق بها، وأخلاق تنعكس على السلوك في المجتمع، وصدق الله العظيم وهو يخاطب رسوله: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء:107).

1700

| 16 يناير 2015

بين التخطيط والعشوائية

التخطيط أن تتدبر أمرك اليوم وغدًا، لقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) (البقرة: 219-220)، والعشوائية أن تقول: "نحن أولاد النهاردة"، أو كما ذكر الله تعالى عن الدهريين: (وقالوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)(الجاثية:24). التخطيط أن تحضِّر للقاء الله تعالى يوم القيامة لتجيب عن أربع: "العمر، الشباب، المال، العلم"، والعشوائية أن تعيش كالسوائم: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا)(النبأ:27).التخطيط أن تقرأ القرآن من أوله، آية آية وسورة سورة حتى تصل إلى آخره، والعشوائية أن تفتح المصحف كل مرة حيثما تعبث أصابعك، التخطيط أن تعيش مع القرآن بالعقل تدبرًا، وبالقلب تأثرًا، وبالنفس تغيرًا، فمرة تختم القرآن مع معرفة معنى كل كلمة صعبة (غريب القرآن)، وثانية مع أسباب النزول، وثالثة مع الأحكام الفقهية، ورابعة مع المعاني التربوية، وأخرى مع منهجيات إصلاح أوضاعنا الحالية، والعشوائية أن تقرأ القرآن بلسان كسول، وعقل مشغول، وقلب قاسٍ، ونفس تشبَّعت بالهوى والأعراف الفاسدة.التخطيط أن تجهِّز لكل لقاء عناصره الأساسية، وكيفية مواجهة العوارض المحتملة بعدد من الحلول المناسبة، والعشوائية أن تذهب خالي الوفاض، صفر الأفكار، تشارك في كل حوار بسطحية تحسب معها أنك أعلم أهل الأرض، أما العوارض "فوقتها يحلها ألف حلاَّل".التخطيط أن تحفر في الأرض، وتنحت في الصخر لتصنع مستقبلك دون الاعتماد على أحد سوى الله توكلاً لا تواكلاً:ما حك جلدك مثل ظفرك فتولَّ أنت جميع أمرك والعشوائية أن تنتظر من القريب والغريب أن يحل لنا الأزمات، وأن يكون وليّ أمرنا في النقير والقطمير، فنظل ننتظر كل انتخابات أمريكية أو إسرائيلية لعلها أن تجود بفارس الأحلام الذي يكون مثل الجن أو الشيطان: "شبيك لبيك محسوبك بين إيديك".ألا فلنسعَ إلى التخطيط على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة الذي ينقلنا من هزال الاستهلاك وذل الاستجداء، إلى قوة الإنتاج وعزة الاستغناء، ولندَعْ هذه العشوائية في الأفكار والأقوال والأفعال التي جعلتنا في ذيل الأمم، لو قبلت أن يكون لها ذيل مريض!.

1954

| 01 يناير 2015

بين الطيبات والخبيثات في الأقوال والأفعال

جوهر الإسلام هو صناعة الطيبات في الأقوال والأفعال، وقد وردت في القرآن مادة "طيب" ومشتقاتها 46 مرة، ومنهج الباطل هو تبني الخبيثات في الأقوال والأفعال وقد ورد ذم الخبيث بمشتقاته في القرآن 15 مرة، ونجد هذه الطيبات تتخلل كل مناهج الحياة في الإسلام سواء كان قولا أو فعلا، في الرضا والغضب، والعسر واليسر، والفقر والغنى، والصحة والمرض، والسفر والحضر، والصغر والكبر، فإذا تكلم المسلم فمنهاجه: (وهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) (الحج: من الآية24)، ويُتبع الكلمات الطيبات بالأفعال الصالحات كما قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: من الآية10)، وإذا تيمم المسلم عمد إلى الصعيد الطيب لقوله تعالى: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) (النساء: من الآية43)، وإذا أكل فلا يجوز أن يذهب إلى الخبيثات من المطعومات، بل يبحث عن أحسن الطيبات لقوله تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (الأعراف: من الآية 157)، حتى لو كان الإنسان في ظرف صعب مثل أصحاب الكهف حيث طلبوا أطيب الطعام كما قال تعالى على لسانه: (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) (الكهف: من الآية19)، فإذا أراد أن يتزوج بحث الرجل عن زوجة بين النساء الطيبات، وبحثت البنت عن الطيبين من الرجال، مبتعدين عن الخبيثين والخبيثات، لقوله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) (النور: من الآية26)، فإذا بحث عن مسكن لزوجته ثم لأولاده سيبحث عن مساكن طيبة، في بلدة طيبة، كما قال تعالى: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سبأ: من الآية15)، فإذا رفع يديه إلى السماء سائلا الله البنين والبنات فالأصل أن يكون ذلك مشفوعا بطلب الطيبين والطيبات، لقوله تعالى: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) (آل عمران: من الآية38)، ولا ينشد المسلم شيئا في حياته ويقلب وجهه في السماء داعيا ربه مثل أن يعيش حياة طيبة، كما قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97)، وإذا ألقى الإنسان السلام فإنما لنشر الطيب والخير والسلم في كل مكان لقوله تعالى: (فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) (النور: من الآية 61)، وإذا أنفق عمد إلى الطيب من المال، وتنحى عن الخبيث لقوله تعالى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)(البقرة: من الآية 267)، أما المناهج الأرضية فتعمد إلى الخبيث ويتجمع ويتزاوج كما أخبرنا الله تعالى عنهم: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ) (النور: من الآية26)، ثم يتكاثر فإذا أخذت الكثرة بقلوب الطيبين انتشلهم الله تبارك وتعالى من هذه الدهشة، كما قال سبحانه: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) (المائدة: من الآية 100)، وأن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يهلك الخبيثين والخبيثات جمعهم رغم شتات الأهواء والأفكار والأيديولوجيات ليكون مآلهم جميعا الهلاك والبوار، بل إنهم يبالغون في جمع المال بينهم ورصده في مواجهة الطيبين والطيبات، من الرجال والنساء، والأقوال والأفعال، كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال: 36-37)، ويستمر وعد الله للطيبين بالنجاة والنصر والتمكين من كيد الخبيثات والخبيثين، كما قال تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ) (الأنبياء: من الآية 74).وإنني هنا أرفع صوتي صارخا في قومي من المصريين والعرب والمسلمين والمسيحيين الذين يشاهدون إعلاما فاسدا لا يعمد إلا إلى الخبيث من الأقوال والأفعال فينثره وينشره، ويعيده ويزيده، ويجمع له كل حاذق من المذيعين والمذيعات، والصحفيين والصحفيات الذين جعلوا شعارهم إشاعة الخبث والسخرية والاستهزاء، وكلما زاد سخرية في برامج "التوك شو" أو "اليوتيوبز" أو على "التويتر" أو "الفيس بوك" واستعمل الغمز والهمز واللمز تضاعف المشاهدون وزاد المعلقون، وارتفعت تسعيرته في القنوات والصفحات، وكأنما يريدون أن يصنعوا مجتمعا تفوح فيه الخبيثات لا الطيبات، وتعلوا صورهم في الطرقات، وتتوسع برامجهم في الشاشات، وتتضاعف "الكومنتات واللايكات"، وفي المدرسة والجامعة صارت أحاديث كثير من الطلبة والطالبات سخرية من المدرسين والمدرسات أو على بعضهم البعض تقليدا أعمى لمدرسة المشاغبين، ومسؤولية الطيبين والطيبات ليس فقط أن يقولوا أو أن يترفعوا بل ألا يستمعوا أو يجلسوا إلى الخبيثين والخبيثات لقوله تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان: من الآية 72)، وقال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (الأنعام: من الآية 68)، ولله در عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: (لولا ثلاث ما أحببت المقام في هذه الدنيا: مكابدة الساعات – القيام والتهجد لله تعالى-، وصوم الهواجر – في الحر-، ومخالطة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي الآكل أطايب الثمر)، نريد أن نقول ونستمع فقط إلى الطيبات، وأن تصدر عنا الأعمال والأفعال الطيبات، وأن نقاوم بالحكمة الخبيثين والخبيثات من الأقوال والأفعال وذلك حتى نضمن أن نحتفظ بصفة الطيبين والطيبات في الحياة وحتى الممات، كما قال تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل: 32)، ونصيحتي هذه لأمتي عامة وللشباب والفتيات خاصة.

1843

| 25 ديسمبر 2014

الحق - الخلق - النفس

يقول ابن القيم الجوزية: إذا عاملتَ الحق فأخرج الخلق، وإذا عاملتَ الخلق فأخرج النفس. وهى كلمة جليلة تلخص الطريق إلى سعادة النفس في الدارين من خلال صدق العبادة والإتقان في عبادة الرحمن، والعدل والإحسان مع خلق الرحمن.إن من الظلم أن تحجُبَ أهواء النفس ونزغات الشيطان الإنسان عن الإحسان إلى الخلق، ولكن الظلم الأكبر أن تحجب النفس والخلق العبد أو الأمة عن الحق سبحانه وتعالى، فيصير (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ) (الأنعام: من الآية71) ولا يستجيب للدعاة إلى الله (لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا) (الأنعام: من الآية71) لأن هواه وشيطانه لم يمكناه من إدراك (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) (البقرة: من الآية 120) وأخشى على هؤلاء من الوعيد الشديد الوارد في الأثر الذي رواه الترمذي بسنده عن أبى الدرداء أن النبي صلى الله علية وسلم قال: إني لأجد نعت قوم يتعلمون لغير العمل، ويفقهون لغير العبادة، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون جلود الضأن، قلوبهم أَمَرُّ من الصبر، فبيَ يغترون، وإيايَ يخادعون، فبيَ حلفت لأتحين لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران.فإذا أراد العبد أو الأمة أن يَجدَّ السير إلى الله تعالى ويواجه هذه الفتن فإنه يجب أن يتسلح بقوة هائلة، مثل الطائرة العملاقة التي لا تُحَلّقُ إلا بعد تدقيق كثيف وتموين كثير، ويمكن أن نلخص هذه القوة في أمرين:- أولاً: اذا عاملتَ الحق فاخرج الخلق:نعم لأنه في بَدائه العقول لا يستويان (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (النحل:17) والخلق إما الإنسان أو الحيوان أو الطائر أو الجماد أو هي الأملاكُ بأنواعها البراقة، كل هذا قد يجعل لها قيمة أعلى مما وضعها الرحمن للإنسان فهي كٌلُها مسخرة للإنسان (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (الجاثـية: من الآية 13)، وبالتالي فالملك الذي خلق جعلنا خلفاء وسخر الخلق لنا، فكيف نتحول إلى أشقياء لخدمة هذا الخلق؟ والإنسان الذي نحاول أن نرضيه بسخط الله قلبه بيد الرحمن "القلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء". وعليه فلا نملك أن يحول أب أو أم قلب أولادهم إليهم وهم فلذات أكبادهم، ولا تملك زوجة أو يملك زوج أن يصرف قلب الآخر إليه وحده، ولا يملك شيئا من المخلوقات لم يقدره له ربه، وعليه فإن من الكياسة كل الكياسة والعقل كل العقل أن يُنَحِي الإنسان رضا الإنسان، أو النَهَمُ على الأشياء بما يصرفه عن رب الناس، وآنئذ يكون قد خسر مكانه عند الله ولا يأتيه من الدنيا إلا ما كتب له، ولا يملك أن يصرف قلوب الناس إليه، وهذا هو الخاسر فعلا الذي قال الله فيه (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ٬ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيد٬ُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (الحج:11-13) إن كان العبد صادقا في العبادة والإتقان فانه يحمل طاقة إيمانية عالية أن يتحدى أي شيء كما فعل سحرة فرعون حين قالوا: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طـه: من الآية72) رغم أنهم هم المتزلفون إليه، الطامعون فيما في يده قبل الإيمان كما قال تعالى: (أَئنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) (الشعراء: من الآية41)، يتحدى تعذيب القوم كما فعل عمار وياسر وسمية وبلال وأبو ذر وابن مسعود، بل يكون كما كان يقول ابن مسعود وهم يعذبونه: ما كان شأنهم أحقر عندي من هذا اليوم، وعندما جيء بخبيب ليقتل وقيل له أتحب أن محمدا مكانك، فقال ما أحب أن يشاك محمد شوكة واحدة وأنا آمن في أهلي ثم هددوه بالتعذيب والتقطيع لجسده بعد قتله فأنشد يقول منظومة رائعة صادقة في حب الله تعالى: ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أشلاء شلو ممزع هل ندرس هذا في القرآن والسنة والسيرة ولا نقدر على مخالفة عرف غالب مخالف لأوامر الحق سبحانه سواء في أفراحنا أو أتراحنا ، في فقرنا وغنانا، في عافيتنا وأمراضنا، في ليلنا ونهارنا؟!!!، فكم من مدع إرضاء الحق وهو يشتري الأشياء لا لِيُسَخِرَها في مرضاة الرحمن بل ليستطيل بها على عباد الله! وكم من محب لإنسان وترك لأجله الخشوع والإقبال على ذكر الله! وكم من متزلف لمسئول لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا! وكم من ساكت عن الحق خشية بطش الخلق!، وكم من راءٍ لفتن ومفاسد تستوجب إعلان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانخرس اللسان خشية من ردود فعل الآخرين!ثانياً: إذا عاملتَ الخلق فأخرج النفس:هناك معايير راقية في تقييم النفس والناس مثل: "خير الناس أنفعهم للناس"، "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" والمطلوب ليس الوصول إلى العدل والقسطاس المستقيم بل تجاوزه إلى البر والإحسان وهو يقتضي أن يكون لدى العبد أو الأمة مايجعله يبالغ في إكرام الخلق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله كتب الإحسان في كل شيء" ويتعامل بالرفق "ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما نُزِعَ منه إلا شانه"، وهذا يحتاج إلى مجاهدة للنفس وصراع مع الشيطان معا لاقتلاع كل بذور الكبر والخيلاء والغل والحسد، والهلع والفزع، والجشع والطمع، والغيبة والنميمة، والكذب والبهتان، والخيانة والنكران، والعجز والكسل، والجبن والبخل، والأنانية والأثرة.......وهذا لن يستقر خُلُقاً أصيلا وطبعا نبيلا إلا بعد تحديد صادق: أين نفسي من الحق والخلق؟ هل أراعي الخلق عند إرضاء الحق، أو أراعي نفسي عند التعامل مع الخلق؟ وهذا يقتضي أن ندرك أن النفس تمر عبر خطوات ثلاث:1. الغفلة، قال تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) (يوسف: من الآية53).2. الاستحضار، قال تعالى: (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة:2).3. الحضور، قال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (الفجر:27). ومن السنن الإلهية أنه لا قفز من الطفولة إلى الشباب إلا بعد مرحلة المراهقة، كذا الإنسان لا يمر من غفلة القلب، وهوى النفس إلى حضور القلب، وخضوع النفس إلا عبر طريق طويل شاق وهو مجاهدة النفس، لكن مع مشقته فيه سعادة الدنيا والآخرة، فيه رضا الله والجنة ، فيه صحبة الأخيار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فيه الخير والرضا كله، وهو أملنا فيكم إخواني وأخواتي في الله في أي مكان من أرض الله عز وجل، ورجاؤنا في ربنا أن يرزقنا الهداية كما وعدنا سبحانه (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).

1720

| 17 ديسمبر 2014

البكاء وسعادة الدارين

البكاء من خشية الله تعالى سمة الصالحين، لأنه يعبر عن صفاء القلب ونقاء النفس وطيب السريرة، ولين الجلود، وإذا أردنا أن نسعد في الدنيا والآخرة فلا بد أن نراجع أنفسنا مراجعة دقيقة ولنحاول أن نحصي بعض النعم الظاهرة، مع الإقرار بالنعم الباطنة يقول سبحانه: "وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة"، "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها"، "إن الإنسان لظلوم كفار".من هنا يبدأ الإنسان علاقته بالله تعالى، فإن وجد الخير إليه نازلا، والشر إلى السماء صاعدا، فهو جدير بالبكاء، وإن وجد النعم متلاحقة، والمعاصي متوالية فهو جدير بالإجهاش بالبكاء، وإن وجد الحق يدعوه إلى سعادته وهو يولي الأدبار، ويغرق في بحار الهوى واتخذ إلهه هواه، فهو جدير بالبكاء، وإن أطاع ربه، ولم يضمن قبول عمله، ولم يأمن غضبه سبحانه فهو جدير بالبكاء، ولله در عبد الله بن رواحة كان في ساحة الفداء مجاهدا ألد الأعداء في غزوة مؤتة وقد سبقه إلى الجنة لفيف من الشهداء، ويتقدم لقيادة الجيش في ثبات وفداء، ثم فجأة يجهش بالبكاء، فقيل أوتخاف الموت كما سبقك إليه زيد بن حارثة وجعفر أبو المساكين، فعجب من منطق هؤلاء، وقال: والذي نفسي بيده ما الموت أخاف فلقد جئت من أجله، ولكني الآن ذكرت قوله تعالى: "وإن منكم إلا واردها، كان على ربك حتما مقضيا، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًا" واشتد في البكاء حتى أبكى من حوله، ودخل في صفوف الأعداء، حتى لحق بموكب الشهداء. ترى ألسنا أحق من عبد الله بن رواحة بهذا البكاء؟!، هو يبكي وهو يمارس ذروة سنام الإسلام، ويضع قدميه على أقرب طريق إلى الجنة ونحن – وما أدراك ما نحن؟! نحن في الذنوب غارقون، في الغفلة سائرون، في الشهوات منغمسون، في النعم الإلهية متقلبون، هل قست منا القلوب، أم ماتت فهي عن مآلها غافلة، وعن عذاب الله تعالى نائمة، نحن الذين نرفل في نعيم الدنيا أليس من الكياسة أن نجد ونتعب، نصوم ونقوم، نجاهد أنفسنا وعدونا، ونجتهد في رفعة أمتنا وأوطاننا، حتى لا يكون بكاء لا نهاية له، وعويل لا مخفف له، "وهم يصطرخون فيها، ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل" هل جفت مدامعنا بعد أن ضمنا رضا الله والجنة، أم سالت مآقينا لفوات عرض من الدنيا، لموت صديق، أو خسارة مال، أو فوات لقاء حبيب أو سفر رفيق، نعم هذه مشاعر إنسانية لكن.. أليس البكاء من خشية الله تعالى وارتقاب يوم القيامة، وخوف الحشر والميزان والصراط والنار أولى بهذا البكاء؟! لقد بكى الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو الذي وُعد بالفردوس الأعلى من الجنة، وبكى المبشرون بالجنة حتى كان أبو بكر لا يسمع الناس قراءته من فرط البكاء، وسمي الرجل الآسف أو رجل بكاء، وكان في وجه عمر خطان من كثرة جريان دمعه على خده وكان عمر بن عبد العزيز يعلو نحيبه عندما يسمع قوله تعالى: "قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم". ألا ما أعظم البكاء إن كان في حب الرحمن، وخوف الجبار، والندم على ما فات، وإصلاح ما هو آت، فلنجرب أن نبكي وليعزم أحدنا على نفسه ألا يخرج من صلاته إلا أن يبكي فيطيل السجود المشفوع بانفطار القلب، وخشية الذنب "يخرون للأذقان يبكون، ويزيدهم خشوعا"، وفي الحديث "إذا قرأتم القرآن فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا" فالأمر يحتاج إلى تدريب النفس على البكاء، حتى يصير أحب شيء إليه أن يبكي بين يدي ربه، هنا فقط سيشعر أنه أسعد أهل الأرض، هنا سيشعر أن قلبه ينشرح وأن صدره يتفسح، سيرى في عينه جلاء، وفي نفسه نقاء، هنا يكون الصوم والقرآن والصلاة والذكر قد أزالوا كل الران عن القلوب، وأزاحوا القسوة عنها، إننا يا قومنا قد أثقلنا جسومنا وضيقنا صدورنا يوم رضينا بأن نطوف في أسواق الدنيا تاركين أشواق الآخرة، يوم أن فرحنا بمركب سريع، أو منصب رفيع أو حلة أنيقة أو امرأة وضيئة، ونسينا الموت والبلى، نسينا القبر وظلمته، واللحد ووحشته، والبعث وكربته، والحشر وشدته، والصراط ووقته، نسينا أن كل ما تحت أديم السماء إلى فناء، وأن الباقيات الصالحات خير، عند ربك ثوابًا وخير أملا، ألا فلنبك لنشعر بالعبودية حقا، وعندها سيتولى الله أمرنا، ويسدد على الخير خطواتنا، ولقد أذن الله ألا يجمع على عبد خوفين ولا أمنين، فمن خاف في الدنيا أمن في الآخرة، ومن أمن في الدنيا خاف في الآخرة، فهيا نبكي على ماضينا لإصلاح مستقبلنا، آنئذ نكون قد وضعنا أقدامنا على طريق السعادة في الدارين معًا.والله الموفق

1528

| 10 ديسمبر 2014

alsharq
الكرسي الفارغ

ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...

4842

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
النعش قبل الخبز

لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...

3576

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
معرفة عرجاء

المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....

2871

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
العنابي يصنع التاريخ

في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...

2736

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
نموذج قطر في مكافحة المنشطات

يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...

2649

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
غياب الروح القتالية

تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...

1641

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
أين ربات البيوت القطريات من القانون؟

واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...

1473

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
ملف إنساني على مكتب وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة

في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...

1407

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
وجبات الدايت تحت المجهر

لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...

1041

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
وجهان للحيرة والتردد

1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...

963

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
القيمة المضافة المحلية (ICV)

القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...

837

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
دور معلم الفنون في مدارس قطر

في قلب كل معلم مبدع، شعلة لا تهدأ،...

810

| 17 أكتوبر 2025

أخبار محلية